تفسير سفر هوشع ٨ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الثامن
إذ استسلم الشعب للمرض ورفضوا الله كطبيب، اِلتزم بمحاصرتهم بالضيق حتى يشعروا بمرارة حالهم فيطلبونه ليخلصهم.
1. تأديبهم بهجوم الأعداء عليهم 1
“إلى فمك بالبوق، كالنسر على بيت الرب” [ع1].
إذ فتح الله عن بصيرة النبي أدرك ما سيحل بالشعب من مرارة بسبب رفضه العلاج من يد طبيبه الحقيقي، فأنَّت نفسه فيه ولم يدري ماذا يفعل، لكن الله أمره أن يمسك بالبوق ويضعه في فمه فقد حان وقت الإنذار. طالبه أن يضرب بالبوق ليجتمع الشعب كله ويرى العدو مهاجمًا كنسر سريع ينقضّ على الفريسة ويحلق في الجو.
لئلا يظن الشعب أن الله لن يسمح لهم بالسبي، لأنه شعب مختار من قبل الله، أكدّ الله نفسه “كالنسر على بيت الرب”، وكأنه يقول: إني أعرف أنكم بيت الله (عب 3: 6) لكنني سمحت للعدو أن ينقضّ عليكم كالنسر لأنكم أفسدتم مقدسي ودنستموه. إنني أحب بيتي وأسكن فيه واحفظه بملائكتي، لكنني أرسل عليه العدو كنسر ينقضّ ليخطف ويحلق، إن تجاسرتم عليَّ واِزدريتم بمقادسي.
2. تحطيمهم لأنفسهم 1-6
ما يحل عليهم وإن كان بسماح من الله لكنهم هم الذين يحطمون أنفسهم بأنفسهم، هذا ما يعلنه لهم الرب موضحًا أسباب تأديبهم:
أولًا: يقول: “لأنهم قد تجاوزوا عهدي وتعدوا على شريعتي” [ع1]. كأنه يقول اخترتكم عروسًا لي وأقمت معكم عهد الزوجية، لكنكم خنتم العهد وكسرتموه. واخترتكم كأبناء وقدمتُ لكم شريعتي كوصية أبوية فعصيتم وصيتي واحتقرتم أبوتي.
ثانيًا: في الوقت الذي فيه خانوا العهد وعصوا الوصية غفلوا أنفسهم بمظهر العبادة الخارجي بلا روح، إذ يقول: “إليَّ يصرخون يا إلهي نعرفك نحن إسرائيل” [ع2]. يرفضونه بأعمالهم وقلوبهم ويطلبونه بشفاههم. يعطونه القفا في حياتهم اليومية، لكنهم إذ يجتمعون للعبادة يصرخون إليه قائلين: “يا إلهي نعرفك نحن إسرائيل”، وكأنهم يريدون أن يذكروه بأنهم الشعب المختار الذي لن يسمح له الله بأذية!
ثالثًا: خيانتهم للعهد الزوجي أو عصيانهم للوصية الأبوية لا يتم عن ضعف كأمر عارض، إنما ينبع عن قلب دنس وإرادة شريرة وعن كراهية داخلية للحياة المقدسة، إذ يقول: “قد كره إسرائيل الصلاح فيتبعه العدو” [ع3]. إذ كره إسرائيل الحياة المقدسة لذلك سلم الله بيته – أيّ شعبه – الذي كان يليق به أن يكون مقدسًا للرب لملك آشور الذي سبى مملكة الشمال، ولما كره يهوذا الرب سلم الله مملكة يهوذابما احتوته من مدينة أورشليم وهيكله في يدي نبوخذ نصر. على أيّ الأحوال، إن كان الله قد عرفنا كشعبه الخاص، فإننا إذ نرفض معرفته عمليًا يسلمنا للتأديب، قائلًا لنا: “إياكم فقط عرفتُ من جميع قبائل الأرض، لذلك أعاقبكم على جميع ذنوبكم” (عا 3: 2).
رابعًا: يضيف إلى كراهيتهم للصلاح، الخطأ التالي: “هم أقاموا ملوكًا وليس مني، أقاموا رؤساء وأنا لم أعرف” [ع4]. في دراستنا للأصحاح السابع رأينا الملك يشير إلى الإرادة الإنسانية التي تملك على الإنسان كله وتسيطر عليه، والرؤساء يشيرون إلى طاقات الإنسان ومواهبه خاصة القيادية. فإقامتهم للملوك من ذواتهم وليس من قبل الله يشير إلى سلوكهم حسب إرادتهم الذاتيّة، وتدبيرهم لأمور حياتهم دون الالتجاء إلى الله أو طلب مشورته؛ أما قوله: “أقاموا رؤساء وأنا لم أعرف” فتعني أن مواهبهم وطاقاتهم تعمل ليس لحساب مملكة الله، فصاروا غرباء عنه لا يعرفون الله ولا يستحقون معرفة الله لهم.
الله في محبته لنا يريدنا أن نرجع إليه في كل شيء، فلا نقيم في داخلنا ملوكًا أو رؤساء بدون مشورته، إنما نفعل كيفتاح الذي “تكلم بجميع كلامه أمام الرب في المصفاة” (قض 11: 11)، فلا يُقال عنا “لا ينظرون إلى قدوس إسرائيل” (إش 31: 1). وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إنه مشتاق إلينا جدًا أن نحتمي دائمًا فيه، ومنه نطلب كل شيء، وبدونه لا نفعل شيئًا ولا ننطق بكلمة… فإن هذه هي عادة المحبين إذ يطلبون من محبوبيهم أن يرتبطوا بهم فلا يفعلون شيئًا ولا ينطقون بكلمة بدونهم[53].]
ما نقوله بخصوص الملوك والرؤساء في داخل النفس أيّ الإرادة الإنسانية والطاقات والمواهب نكرره بخصوص الكنيسة كجماعة المؤمنين، فإنه لا يليق إقامة أسقف أو كاهن دون مشورة الرب. كتب القديس كبريانوس في إحدى رسائله عن الهراطقة: [يوجد بلا شك أساقفة أُقيموا ليس حسب إرادة الله، بل هم كمن خارج الكنيسة. هؤلاء أُقيموا على خلاف نظام الإنجيل وتقليده، كما قال الرب بالأنبياء: “ويل للبنين المتمردين يقول الرب حتى إنهم يجرون رأيًا وليس مني، ويقيمون عهدًا وليس بروحي ليزيدوا خطية على خطية” (إش 30: 1 الترجمة السبعينية)[54]]. كما كتب في رسالة أخرى: [أحيانًا يُسام أساقفة غير مستحقين، هؤلاء يسامون لا حسب إرادة الله وإنما حسب التدبير البشري، فتتم السيامة بطريقة غير شرعية ولا تقوية، الأمر الذي يحزن الله كما أُعلن في هوشع النبي[55].]
يكمل الرب عتابه مع شعبه، قائلًا: “صنعوا لأنفسهم من فضتهم وذهبهم أصنامًا لكي ينقرضوا”[ع4]. لقد صنعوا تماثيل للآلهة الوثنية، فخسروا ما يملكونه من فضة وذهب ليقتنوا غضب الله وهلاكهم، وكأنهم يشترون بفضتهم وذهبهم ما يقرضهم ويفنيهم.
إن كانت الفضة تشير إلى كلمة الله المُصفاة سبع مرات، والذهب يشير إلى الحياة الروحيّة، فإنه كثيرًا ما يسيء البعض استخدام كلمة الله والحياة الروحيّة لتكون لهلاكهم عوض بنيانهم الروحي، كأن يقيمون كلمة الوعظ أو يمارسون الحياة النسكية لا بروح الاتضاع أمام الله، وإنما بروح الاعتداد بالذات لحساب كرامتهم الخاصة[56].
يقول أيضًا: “قد زنخ عجلكِ يا سامرة” [ع5]. إنه يشير إلى بداية الثورة ضد مملكة داود حين انشق يربعام عن المملكة وإذ خشى أن يرجع الشعب بقلبه إلى أورشليم فيقتلوه ويتبعوا رحبعام ملك يهوذا صنع عجلي ذهب (1 مل 12: 28)، أقام واحدًا في بيت إيل والآخر في دان، وقال للشعب: “كثير عليكم أن تصعدوا إلى أورشليم، هوذا آلهتك يا إسرائيل الذين أصعدوك من أرض مصر” (1 مل 12: 28) . ويبدو أن إقامة العجول في البداية لم يكن القصد بها التعبد للأوثان وإنما كانوا يظنون أن يهوه حالّ عليها[57]، لكن تدريجيًا تحولت إلى عبادة وثنية[58]. ويبدو أن العجل الذي في دان قد انتقل إلى السامرة حين صارت عاصمة لمملكة الشمال. على أيّ الأحوال إن كان الله قد سمح ليربعام أن يتمم مشورته ضد رحبعام بن سليمان كتأديب على خطايا سليمان، لكن يربعام يُدان على صنعه هذا، خاصة من أجل إقامته مقدسات خارج أورشليم صارت مراكز خطيرة لنشر العبادة الوثنية ورجاساتها.
لقد زنخ عجل السامرة أو سبح، إذ فقد بهاءه حتى في أعين عابديه، لأنه لم يستطيع أن ينقذ نفسه ولا خلصهم من يد ملك آشور. “إن عجل السامرة يصير كسرًا” [ع6]، أيّ يتحطم كإناء فخاري ترابي إلى كسر لا يمكن معالجتها. لقد أقاموا لأنفسهم إلهًا هو من عمل أيديهم فتحطم وحطمهم معه. إنها صورة مرة لكثيرين يقيمون لأنفسهم من ذهبهم عجلًا في سامرتهم، أيّ يقيمون ذواتهم آلهة في قلوبهم الفاسدة، هذه الذات وقد صارت إلهًا احتلت مركز الله الحيّ في أورشليم الداخلية، لذا تهوى وتتحطم من علو تشامخها.
لقد حمى غضب الله عليهم [ع5]، إذ أخذوا ذهبه الذي وهبهم إياه ليكون ذهبهم، وعوض أن يستخدموه لحساب مجد الله أقاموا به عجلًا في سامرتهم، بلا جمال، يتحطم إلى كسر بلا علاج… إنهم يرفضون الله القدوس ولا يطيقون النقاوة…“إلى متى لا يستطيعون النقاوة؟!”[ع5].
3. فقدانهم الشبع والسرور 7-10
بعد أن أعلن عن تأديبهم بعدوّ يهاجم أرضهم ويسلبهم كل شيء، كاشفًا لهم أسباب التأديب ختم حديثه بإعلان أن الشر لا يشبع الإنسان ولا يهبه سرورًا، إذ يقول: “إنهم يزرعون الريح ويحصدون الزوبعة” [ع7]. لقد تكبدوا المشقات في تهيئة كل شيء للزراعة، وإذا بهم يزرعون ريحًا، وإذ أرادوا الحصد جمعوا قلاقل وهموم وكآبة (زوبعة). حقًا “إنهم يتعبون بطلًا” (أِش 65: 23)، “يتعبون للريح” (جا 5: 16)، “وللباطل يعيون” (حب 2: 13). وكما يقول الرسول أن الذين يزرعون للجسد يحصدون فسادًا (غل 6: 8).
“زرع ليس له غلة لا يصنع دقيقًا” (ع 7)… بذلوا كل الجهد في البذر والزرع لكنهم لم يجنوا غلة تقدم دقيقًا للأكل. زرعهم كالسنابل التي رآها فرعون في الحلم هزيلة للغاية، لفحتها الريح الشرقية.
“وإن صنع فالغرباء تبتلعه” [ع7]، حتى أن قدمت غلة، فلا يستطيعون استخدامها، إذ يسلبهم الغرباء كل حصادهم. لقد سلموا أنفسهم للآلهة الغريبة، هذه التي لا تعطي بل تبتلع، ولا تبارك بل تدنس.
ليتهم فقدوا تعبهم في الزرع والحصادفحسب، حتى ما استطاعوا أن يجنوه ابتلعه الغرباء، وإنما خسروا أيضًا كرامتهم، فصاروا محتقرين ومرذولين من نفس الأمم الذين امتثلوا بهم وعبدوا آلهتهم وسلكوا بروحهم الشرير. “الآن صاروا بين الأمم كإناء لا مسرة فيه، لأنهم صعدوا مثل حمار وحشي معتزل بنفسه” [ع8-9] إذ هم يجارون الأمم في شرهم إذا بالأمم يزدرون بهم، وفيما هم يلتجئون إلى آشور إذا به يتطلع إليهم كحمار وحشي معتزل بنفسه. صاروا كحمار وحشي فقدوا لطفهم ومحبتهم ورقتهم باِعتزالهم إلههم واهب الحياة المقدسة الفاضلة. حملوا روح الانعزالية عوض روح الحب الذي يملح الأرض حتى لا تفسد، فسدوا فصاروا لا يصلحون إلاَّ لأن يُداسوا من الناس (مت 5: 13).
الخطية تنزع عن النفس بهاءها الروحي حتى في أعين الأشرار، وتخلق فيه روح العزلة الداخلية والأنانية عوض الحب الحقيقي الباذل.
“استأجر إفرايم محبين” [ع9]، أيّ قدّم إفرايم الكثير للأمم ليكسب صداقتهم، لكن شره أفقده مهابته وجماله الروحي حتى في أعين هؤلاء المأجورين. لهذا ففي الوقت المناسب لم يسندوا إفرايم أو إسرائيل بل ابتلعوه [ع8]، وصارت الحاجة لا إلى مجاملات بشريّة بل يد الله القوية القادرة وحدها أن تخلصهم من العبودية القاسية: “الآن اجمعهم فينفكون قليلًا من ثقل ملك الرؤساء” [ع10].
4. دعوتهم للعبودية الأولى 11-14
إذ أرادوا مراضاة الأمم وكسب صداقتهم وودهم صنعوا لأنفسهم مذابح وثنية يمارسون فيها الرجاسات جنبًا إلى جنب مع عبادتهم لله، لذلك رفض الله عبادتهم وتقدماتهم وحسب ذبائحهم لحمًا وأكلًا… “أما ذبائح تقدماتي فيذبحون لحمًا ويأكلون، الرب لا يرتضيها” [ع13]. هم تركوا الله مخلصهم واتكأوا على الأمم، لهذا يتركهم الله فيرتدون إلى عبوديتهم الأولى التي سبق فخلصهم منها… “وقد نسى إسرائيل صانعه وبنى قصورًا وأكثر يهوذا مدنًا حصينة، لكني أرسل على مدنه نارًا فتأكل قصوره”[ع14].
تفسير هوشع 7 | تفسير سفر هوشع القمص تادرس يعقوب ملطي |
تفسير هوشع 9 |
تفسير العهد القديم |