تفسير سفر القضاة ٦ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح السادس

ملاك الرب وجدعون

إذ سقط الشعب تحت المذلة للمديانيين أرسل الله جدعون قاضيًا ومخلصًا للشعب.

١. إذلال المديانيين للشعب           [١-٦].

٢. الحاجة إلى مخلص               [٧-١٠].

٣. ظهور ملاك الرب لجدعون        [١١-2٤].

٤ . هدم مذبح البعل                  [٢٥-٢٧].

٥. هياج المدينة عليه                [٢٨-٣٢].

٦. جدعون وجزّة الصوف            [٣٣-٤٠].

١. إذلال المديانيين للشعب:

إذ استراح بنو إسرائيل أربعين سنة (٥: ٣١)، نسوا الرب وصنعوا الشر في عينيه، فأسلمهم ليد مديان للتأديب سبع سنوات، وكأن دائرة الخطية فالتأديب ثم الخلاص تتكرر.

جاء بنو مديان من نسل قطورة سارية إبراهيم (تك ٢٥: ١-٢)، وهم جماعة من البدو سكنوا شرقي وجنوب شرقي البحر الأسود. وكانوا مملوئين عنفًا حتى اضطر الإسرائيليون إلى الهرب من جورهم إلى الكهوف في الجبال [٢]. وقد اتفقوا مع العمالقة وبني المشرق (قبائل من عرب البادية) على مضايقة الإسرائيلين، فكلما زرع الإسرائيليون قاموا بإتلاف الحقول مع سلب حيواناتهم، حتى لم يتركوا لهم القوت الضروري للحياة [٤]. كانوا ينزلون إليهم كغزوات مثل الجراد في الكثرة [٥] ليدمروا كل مالهم من مجيئك إلى غزة [٤]، أي من الأردن حتى يصلون الحد الأقصى لإسرائيل في غزة.

هذه هي الصورة المتكررة لا في عصر القضاة فقط وإنما في حياة الإنسان اليومية، عندما يستريح عوض أن يشكر الرب ويسبحه إذا به ينساه فيسقط تحت مذلة الخطية التي تتسلم سلطانًا عليه خلال تراخيه فتسطوا على حقوله الداخلية وتفقده حتى قوته الضروري. وكل خطية تسحب معها خطية أخرى حتى تصير الخطايا كحملة من الجراد تسطو على القلب والفكر والأحاسيس وتبتلع كل إمكانيات الإنسان وطاقاته وتجرده من كل حيوية.

٢. الحاجة إلى مخلص:

مضايقة المديانيين لإسرائيل إنما جذبته للصراخ لله من أجل الخلاص، فأرسل الله لهم نبيًا يكشف لهم جراحاتهم معلنًا لهم رحمة الله التي قوبلت بعصيانهم. وهكذا إذ لم يكرسوا قلوبهم للرب خلال الراحة سلمهم للضيق لأجل خلاصهم، وكأنه يلزمهم بالتوبة خلال مرارة التأديب. وكما يقول القديس بفنوتيوس: [بينما ننشغل بغنى هذه الحياة وأطاييبها إذ تحلق بنا تجربة فجأة فتهددنا بخسارة أو بموت أحد الأعزاء لنا… فما يدفعنا للاقتراب نحو الله استهنا بالسير معه أيام ترفنا. هذه الدعوة الإلزامية غالبًا ما نجد لها أمثلة في الكتاب المقدس عندما نقرأ أنه بسبب خطايا بني إسرائيل يسلمهم لأعدائهم. وبسبب طغيان الأعداء وعبوديتهم القاسية يرجعون ثانية ويصرخون إلى الرب… في هذا يقول المرتل: “إذ قتلهم طلبوه ورجعوا وبكروا إلى الله، وذكروا أن الله صخرتهم والله العلي مخلصهم” (مز ٧٨: ٣٤-٣٥). وأيضًا: “فصرخوا إلى الرب في ضيقهم فخلصهم من شدائدهم” (مز ١٠٧: ١٩)[69]].

هكذا أرسل الرب لهم الضيق ليسحبهم للخلاص، وبعث إليهم نبيًا يكشف لهم عن محبة الله الفائقة، يقول لليهود أنه فينحاس بن العازار بن هرون. يبدو أن النبي تحدث معهم أثناء احتفالهم بأحد الأعياد، وكما هي العادة يذكرهم بأعمال الله مع آبائهم ليبعث فيهم روح الرجاء واليقين… خاصة أحداث الخروج من أرض العبودية وطرد الأمم من أمامهم ليرثوا أرض الموعد؛ الخط الواضح في معاملات الله مع شعبه في أغلب كتابات الأنبياء.

٣. ظهور ملاك الرب لجدعون:

“وأتى ملاك الرب وجلس تحت البطمة التي في عُفرة التي ليوآش الأبيعزري، وإبنه جدعون كان يخبط حنطة في المعصرة لكي يهربها من المديانيين، فظهر له ملاك الرب، وقال له: الرب معك يا جبار البأس” [١١-١٢].

“ملاك الرب” هنا هو أحد ظهورات إبن الله، هذا واضح من قوله لجدعون: “أما أرسلتك؟!… إني أكون معك” [١٤-١٦]، فالملاك لا يرسل الأنبياء أو القضاة من عنده، ولا يقل “أنا أكون معك”، إنما هذه كلمات إبن الله الذي يعلن معيته مع رجال الله. وقد دُعي إبن الله “ملاك العهد” (مل ٣: ١)، و “ملاك الحضرة” (إش ٦٣: ٩).

ظهر إبن الله جالسًا تحت شجرة البطمة في قرية “عفرة” التي تعني (غزالة) أو (ترابي “عفار”)، تقع غربي الأردن، سكنها الأبيعازريون من سبط منسى، ربما كان بها مقدس (هيكل) قبل أيام الإسرائيليين، وهي قرية الطيبة التي تبعد حوالي ثمانية أميال شمالي بيسان[70]. ظهر إبن الله لجدعون، الذي يعني إسمه “مخطب بشدة” أو “مصارع”[71]، وكان يضرب سنابل الحنطة بالعصا لينتزع منها الحبوب، ربما لأنه ان قد فقد أدوات الدرس بسبب هجمات المديانيين. كان يخبط الحنطة خفية في معصرة، غالبًا ما كانت في كهف أو مغارة، حتى لا يراها المديانيون وينهبونها… هكذا كان حال الشعب في ذلك الحين.

يرى القديس أمبروسيوس في جدعون رمزًا للمخلص الحقيقي يسوع المسيح، فقد وُجد جدعون تحت البطمة وكأنه تحت ظلال حكمة الصليب الخشبة المحيية، وكان جدعون يخبط الحنطة بعصا وكأنه كان يتنبأ بما يفعله المخلص خلال التجسد العتيد أن يتم بطريقة سرية. فالعصا في رأي القديس أمبروسيوس هي الصليب الذي يعزل الحنطة عن التبن، فيظهر القديسون المختارون المختفون من الذين هم بلا نفع بل نفاية. بالصليب يعلن الحق المُختبر (الحنطة) مفرزًا من أعمال الإنسان العتيق. تظهر الحنطة بالصليب في الكنيسة كما في المعصرة، لأن [الكنيسة هي معصرة الينبوع الدائم الذي يفيض بثمر الكرمة السماوية[72]].

هكذا يعمل جدعون الحقيقي – السيد المسيح- داخل كنيسته كما في المعصرة، يضرب بصليبه سنابل الحنطة ليفرز الحبوب من التبن، ويهرب الحنطة من المديانيين [١١] خفية حتى يقدمها طعامًا! يفرز الرب القديسين ويخفيهم فيه حتى لا يسلبهم عدو الخير بأعماله الشريرة (المديانيين)، فيقدمهم للرب طعامًا سماويًا، أو ثمر حقله السماوي المفرح!

نعود إلى الحوار الذي تم بين ملاك الرب وجدعون، فقد بدأ ملاك الرب بالتحية: “الرب معك يا جبار البأس” [١٢]. لعل جدعون كان معروفًا بالشجاعة والقوة، إن كان كما يقول هو: “ها عشيرتي هي الذلى في منسى وأنا الأصغر في بيت أبي[١٥]. إختار الله جدعون الشجاع القوي لئلا يظن أحد أن الله لا يعمل إلاَّ بالضعفاء وقليلي المواهب… إنه بكثير أو قليل يخلص على كل حال قومًا. لكن فيما هو قوي وشجاع كان يدرك بالمذلة من جهة سبطه وعشيرته ومن جهة نفسه، فسبطه هو سبط منسى القليل العدد والكرامة فهو ليس بالسبط البكر جسديًا كرأوبين ولا من سبط اللاويين المقدس للرب… الخ، هو نفسه الأصغر بين إخوته في السن كما في الكرامة.

كان جدعون رمزًا للسيد المسيح “جبار البأس” إذ هو كلمة الله القدير الذي به كان كل شيء، القادر أن يقيم من الأموات ويخلق من العدم، وبالتجسد صار كمن هو أصغر الجميع، إذ صار عبدًا وخادمًا للبشرية، مرذولاً ومهانًا، يدخل حتى إلى موت الصليب!

كان جدعون أيضًا مملوءًا غيرة من جهة إخوته لهذا عندما قال ملاك الرب: “الرب معك يا جبار البأس“، أجاب: “أسألك يا سيدي إن كان الرب معنا فلماذا أصابتنا كل هذه؟ وأين كل عجائبه التي أخبرنا بها آباؤنا، قائلين: ألم يصعدنا الرب من مصر؟! والآن قد رفضنا الرب وجعلنا في كف مديان” [١٣]. لم يشك في كلمات الرب لكنه في دالة المحبة يعاتب إن كان الله معهم، ولم يقل “معي”، إذ لا يستطيع جدعون أن يتذوق معية الله الشخصية بينه وبين الله خارج الجماعة المقدسة، فكيف يُصاب الشعب بهذا كله بواسطة مديان؟! لا ينكر أعمال الله العجيبه مع آبائه، لكنه يستفسر إن كان الله معهم فلماذا لا يتمتع جيله بما تمتعت به الأجيال السابقة؟! حقًا ما أجمل قلب جدعون الحامل للغيرة المتقدة نحو إخوته في الرب، فيقف بقلب متسع وبدالة يعاتب الرب نفسه ليغتصب منه مراحمه!

فالتفت إليه الرب (يهوه) وقال: إذهب بقوتك هذه وخلص إسرائيل من كف مديان، أما أرسلتك؟![١٤]. هنا يتحدث عن ملاك الرب أنه يهوه، الذي التفت إلى جدعون، فإذ أعلن جدعون غيرته ودخل مع الرب في حوار مفتوح إستحق أن يكون موضوع التفاته، إذ يفرح الرب بقلب كهذا، فيلتفت ليستخدمه إناءً للبر. لقد سأله أن يذهب بقوته هذه، ربما يقصد بغيرته المقدسة، ولعله أراد توبيخه على إتكاله على قوته الشخصية… لكن الواضح من سياق الحديث أن الرب يدعوه للعمل، قائلاً: “أما أرسلتك؟!” وكأنه يقول: لا تخف مما أصابكم فإني أرسلك لأعمل بك كما عملت مع آبائك! وكما سبق فقال ليشوع: “أما أمرتك؟!” (يش ١: ١، ٩).

هنا يقف جدعون في إتضاع لا ليعتذر عن العمل وإنما ليغتصب العمل الإلهي بروح الإتضاع بقوله: “أسألك ياسيدي بماذا أخلص إسرائيل؟! ها عشيرتي هي الذلى في منسى وأنا الأصغر في بيت أبي [١٥]. هنا يدعوه “سيدي” وبالعبرية “دوناوي” وهو لقب خاص بالله وحده، يعترف جدعون بمذلة عشيرته وبصغره هو شخصيًا. هذا هو منهج كل العاملين بالحق في دائرة الرب، إذ يشعرون بضعفهم مع ثقتهم بالله العامل فيهم يتمتعون بالقوة. فنرى موسى يقول: “من أنا حتى أذهب إلى فرعون، وحتى أخرج بني إسرائيل من مصر؟!” (خر ٣: ١١)، فكانت إجابة الرب في الحال: “أنا أكون معك” (خر ٣: ١٢). بنفس الروح يعلن إشعياء في بدء عمله النبوي: “ويل ليّ إن هلكت، لأني إنسان نجس الشفتين وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين” (إش ٦: ٥)؛ وأيضًا يقول أرميا النبي: “آه يا سيد الرب، إني لا أعرف إن أتكلم لأني ولد” (أر ١: ٦).

إذ تمتع جدعون بالدعوة للعمل بالرغم من إعترافه بضعفه وعجزه، وجاء الصوت الإلهي يؤكد معية الرب له وتقديم النصرة له، طلب جدعون علامة من الرب الذي يكلمه، قائلاً: “إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك فاصنع ليّ علامة إنك أنت تكلمني [١٧]. لماذا طلب جدعون علامة ليتأكد إن الذي يحدثه هو الرب؟ لعله استكثر على نفسه أن يرى الرب نفسه فحسب ما يحدث حلمًا أو خيالاً، أو لأنه استكثر على نفسه أن يتسلم رسالة كهذه فأراد التأكد من شخصية من يحدثه. أما العلامة التي طلبها فهي ليست عملاً خارقًا مجردًا وإنما أراد تقديم (منحة) للضيف ليعلن الرب قبوله هذه التقدمة. سأله أن ينتظر حتى يقدم له لحمًا (جدي معزي) في سل ومرقًا في قدر وفطيرًا أي خبزًا غير مختمر. فسأله ملاك الرب أن يضع اللحم والفطير على صخرة ويسكب المرق عليهما، إذ مدّ ملاك الرب طرف العكاز الذي بيده صعدت نار من الصخرة وأكلت اللحم، عندئذ اختفى ملاك الرب.

كانت العلامة أن ملاك الرب إنتظر حتى يقدم جدعون التقدمة على الصخرة التي قامت بدور المذبح، فأرسل نارًا لتأكل التقدمة بعد سكب المرق عليها كماء يمنع من الاحتراق (١ مل ١٨: ٣٣– ٣٥)، معلنًا قبوله الإلهي للتقدمة (لا ٩: ٢٤؛ ١ مل ١٨: ٣٨).

يقدم لنا القديس أمبروسيوس تفسيرًا روحيًا لهذا اللقاء، إذ يقول: [الصخرة تُشير إلى جسد المسيح، إذ مكتوب: “لأنهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم والصخرة كانت المسيح” (١ كو ١٠: ٤)… هنا يعلن بشكل سري أنه عندما يصلب جسد الرب يسوع تُنزع خطايا العالم كله، ليس فقط الخطايا الفعلية وإنما حتى شهوات الذهن الشريرة. فلحم جدي المعزي يُشير إلى الخطايا الفعلية، والمرق يشير إلى إغراءات الشهوات؛ كما هو مكتوب أن الشعب كان يشتهي اللحم فناحوا قائلين: “من يطعمنا لحمًا؟!” (عد ١١: ٤). إذ مد الملاك العكاز ولمس الصخرة فصدرت منها نار، هذه الحقيقة تعلن أن جسد المسيح الممتلئ بالروح الإلهي يحرق كل خطايا الطبيعة البشرية، لذلك قال الرب: “جئت لألقي نارًا على الأرض” (لو ١٢: ٤٩)[73]]. مرة أخرى يقول: [الشجرة التي وقف تحتها الملاك والعكاز الذي أمسك به يشيران إلى الصليب. الصخرة التي قدم عليها جدعون المحرقة هي المسيح، إذ يقول الرسول “والصخرة كانت المسيح” (١ كو ١٠: ٤). جدي المعزي الذي ذُبح يُشير إلى الجنس البشري الذي إرتكب الخطية. كما نفهم حقيقة لمس الملاك للصخرة بالعكاز وانطلاق النار لتأكل جدي الماعز أنه الصليب الذي لمس الصخرة أي المسيح، فانطلقت نار المحبة لتبيد خطايا الجنس البشري. حقًا، المسيح – جدعون الحقيقي– يقول عن نفسه في الإنجيل: “جئت لألقي نارًا على الأرض، فماذا أريد لو اضطرمت؟!” (لو ١٢: ٤٩)[74]].

إذ أعلن الرب قبوله تقدمة جدعون، كاشفًا عن سرّ الصليب الذي فيه تغفر خطايانا الفعلية كما شهواتنا الخفية في إسحقاقات الدم، حيث تنطلق نار الحب الإلهي لتبيد كل ضعف فينا، “ذهب ملاك الرب عن عينيه” [٢١]. هذا الإنطلاق كان بطريقة فائقة لا نستطيع التنبؤ عنها، لكننا نعرف أنها هزت أعماق قلب جدعون حتى ظن أنه لا يقدر بعد أن يعيش إذ رأى الرب، فقال: “آه يا سيدي الرب، لأني رأيت ملاك الرب وجهًا لوجه[٢٢]، لكن الرب أجابه “السلام لك، لا تخف، لا تموت” [٢٣].

خلال اختفاء ملاك الرب علم جدعون يقينًا أنه الرب، وأنه رآه وجها لوجه، فحسب أنه لن يعيش، كقول الرب لموسى: “لا تقدر أن ترى وجهي، لأن الإنسان لا يراني ويعيش” (خر ٣٣: ٢). لكن الرب طمأنه، أنه وإن كان قد رآه إنما من قبيل تنازله الإلهي، كشف له ذاته في رؤيا قدر ما يحتمل حتى لا يموت. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم في مقاله “عدم إدراك طبيعة الله” على لسان الله: [لا أعلن جوهري ذاته، إنما أتنازل (في رؤي) بسبب ضعف هؤلاء الذي يرونني[75]].

أمام هذا الحب الإلهي أقام جدعون مذبحًا تذكاريًا للرب، دعاه “يهوه شلوم” أي “الله سلام”، لأن الرب وهبه السلام، إذ حسب كلماته الإلهية “سلام لك” ليست تحية مجردة وإنما عطية إلهية تملأ أعماقه في الداخل، وتمس حياته بل وحياة كل الجماعة المقدسة.

ليت قلبنا يكون كعفرة الأبيعزريين والتي تعني (أبي معين)، فيه نلتقي مع جدعون بخطايانا الفعلية وأفكارنا الخفية على الصخرة لكي بالصليب يحرقها كما بنار إلهية، ونسمع صوت الرب “سلامًا أترك لكم، سلامي أنا أعطيكم، ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا، لا تضطرب قلوبكم ولا ترهب” (يو ١٤: ٢٧). وليقم فيه مذبحًا إلهيًا يذكر أعماله الخلاصية على الدوام.

٤. هدم مذبح البعل:

إذ ظهر الله لجدعون، وتقدس الموضع بهذا الظهور لم يكن ممكنًا أن يبقى البعل مع الظهور الإلهي، ولا أن تقدم محرقات للرب مع ذبائح للبعل، لذلك سأل الرب جدعون أن يتصرف في الثور الذي كان أبوه يعبده للذبح قربانًا للبعل، وأن يهدم مذبح البعل (الشمس) الذي أقامه والده، ويقطع السارية التي عنده وهي عمود خشبي يقام في موضع مرتفع عنده تقدم العبادة للبعل والعشتاروت زوجته، كما أمره بتقديم ثور إبن سبع سنوات بإسم الرب بعد أن يبني مذبحًا للرب، وأن يستخدم خشب السارية وقودًا للمحرقة.

لم يكن هذا الأمر الإلهي تصريحًا لممارسة العمل الكهنوتي على مستوى الجماعة، فهو ليس من سبط لاوي الذي كانوا في الغالب هاربين من الضيق غير قادرين على ممارسة العبادة العامة بطقوسها السليمة. ولا قدم المحرقة عند خيمة الإجتماع في شيلوه… وإنما كان هذا الأمر يمثل عملاً فرديًا إستثنائيًا، غايته إذلال البعل والعشتاروت، خاصة أنه استخدم خشب السارية التي حطمها جدعون وقودًا للمحرقة عوض النار المقدسة.

ومن جهة أخرى فإن هذا العمل كما يقول القديس أمبروسيوس عمل نبوي وسرّ سماوي عتيدًا أن يتم، إذ يقول: [لاحظ الرجل الحكيم النبوي السرّ السماوي العتيد لذلك أطاع كلمات الوحي وقتل الثور الذي وضعه أبوه بجوار الوثن، مقدمًا ثورًا آخر إبن سبع سنوات ذبيحة للرب. بهذا العمل أظهر بوضوح شديد أنه بمجئ الرب تبطل كل الذبائح الوثنية وتبقى ذبيحة آلام الرب تُقدم الله كعمل تقوى للشعب. حقًا كان هذا الثور رمزًا للمسيح، لذلك كان إبن سبع سنوات، إذ في المسيح يحل ملء الفضائل السبع الروحية كقول إشعياء. لقد قُدم المسيح مرة في رمز جدي معزي، وأخرى كغنمة، وأيضًا كثور. كجدي معزي بكونه ذبيحة عن الخطايا، وكغنمة لأنه كان ذبيحًا باختياره (الوداعة)، وكثور بكونه تقدمة بلا عيب. هكذا سبق فرأى جدعون السرّ[76]].

٥. هياج المدينة عليه:

“فأخذ جدعون عشرة رجال من عبيده وعمل كما كلمه الرب، وإذ كان يخاف من بيت أبيه وأهل المدينة أن يعمل ذلك نهارًا فعمله ليلاً… فقال أهل المدينة ليوآش: أخرج إبنك لكي يموت، لأنه هدم مذبح البعل وقطع السارية التي عنده” [٢٧، ٣٠].

يبدو أن يوآش كان منخرطًا في عبادة البعل بينما كان إبنه مقاومًا لهذا العمل، وكان هذا سببًا في اعتزال الإبن عن أبيه، فكان له عبيده الخاصين به، إختار منهم عشرة رجال، ربما أكثرهم غيرة على عبادة الله الحيّ، فقام جدعون وعبيده بالعمل ليلاً خوفًا من بيت أبيه الأبيعزريين الذين تركوا عبادة الله وانحرفوا إلى عبادة الوثن، ومن أهل المدينة ربما يقصد الكنعانيين الذين كانوا يقطنونها قبلاً وبقوا مع الأبيعزريين.

من هم هؤلاء العبيد العشرة إلاّ الناموس بوصاياه العشرة، فقد أرسله الرب خادمًا للإنسان، يقوده إلى هدم مذبح الشر الداخلي والتمتع بذبيحة الصليب المحيية. أما بيت الأب وأهل المدينة فيمثلون ما أعلنه السيد المسيح أن أعداء الإنسان أهل بيته. أشد المقاومين للإنسان شهوات جسده وانحلال فكره وانحراف مشاعره، أما أخطر عدو فهو “الأنا ego” أو الذات البشرية، التي تربض داخل الإنسان لتقتل فيه كل فكر روحي حيّ.

لنتمسك إذن بالناموس الروحي في المسيح يسوع كعشرة رجال، ولنعمل بالرب بالرغم من كل مقاومة داخلية في الجسد أو الفكر أو الأحاسيس حتى تُصلب الذات ويتجلى الرب نفسه فينا كما في مذبحه أو هيكله السماوي.

نعود إلى جدعون لنجد أهل المدينة يبكرون، ربما ليعبدوا البعل عند شروق الشمس، بكونه إله الشمس وإذ رأوا ما حدث لإلههم ثاروا على جدعون، ربما لعلمهم أنه الرجل الغيور ضد الوثنية، ولما سألوا أباه أن يقتلوه، تأثر الأب بشجاعة إبنه فوقف مستهزئًا بهم، قائلاً: “أنتم تقاتلون للبعل أم تخلصونه… إن كان إلهًا فليقاتل لنفسه لأن مذبحه قد هُدم[٣١]. إذ أخذ جدعون خطوة أيجابية في دحض الشر، تشددت النفوس الضعيفة كنفس أبيه، وأدرك البعض بطلان العبادة الوثنية العاجزة. وقد دعا يوآش هذا اليوم “يربعل” التي تعنى (يحارب البعل) أو كما يقول القديس إيريناؤس: [لأن يربعل تعني كرسي الحكم على البعل[77]].

٦. جدعون وجزّة الصوف:

إجتمع المديانيون والعمالقة وبنو المشرق لمحاربة إسرائيل في وادي يزرعيل [٣3]، ويعتبر هذا الوادي في قلب فلسطين لهذا كثيرًا ما كان موقعًا للمعارك. يمتد هذا الوادي من جبل الكرمل إلى وادي الأردن، يعبر أحد فروعه بين جبل تابور وتل موره وآخر بين تل موره وجبل جلبوع. وقد حمل الوادي هذا الإسم عن مدينة كانت ذات شأن، حاليًا هي قرية زرعين، ويسمى الوادي حاليًا مرج إبن عامر.

إذ رأى جدعون إجتماع الأمم ونزولهم للحرب ضرب بالبوق بعد أن لبسه روح الرب، فاختفى جدعون في الرب كما يختفي الجسد في الثوب، وصار أداة لتحقيق غاية إلهية. والعجيب أن قومه الذين كان يخشاهم (أبيعزر) إجتمعوا وراءه للحرب، الأمر الذي حدث فجأة بقوة لا عن تأثير جدعون عليهم وإنما بلا شك هو عمل روح الرب الذي لبس جدعون، محولاً المقاومين إلى مجاهدين معه.

هذه صورة حية تقوية يختبرها المؤمن حين يسلك بروح الرب الذي تمتع به خلال سري المعمودية والميرون، فبقدر ما يتجاوب معه يحول الله الجسد الذي كان مقاومًا بشهواته إلى أداة مقدسة تعمل بكل طاقاتها وأحاسيسها لحساب مجد الله، متناغمة مع النفوس المقدسة ومتجاوبة مع عمل روح الله.

تشجع جدعون إذ رأى عشيرته تتحول هكذا سريعًا فدعا بقية السبط كله “جميع منسى” [٣٥]، كما أرسل رسلاً لإسباط أخرى كأشير وزبولون ونفتالي… والعجيب أن أشير الذي خذل دبورة ولم يشترك معها في مقاومة سيسرا (٥: ١٧) جاء مع جدعون يشترك مع جبابرة زبولون ونفتالي. وكأن ضعف الإنسان في المعركة الروحية لا يعني الاستمرار في الاستسلام، فمن كان خائرًا من قبل وغير نافع للخدمة قد يصير جبار بأس في الروح. لذا فالقائد الروحي الحق لا يعتمد على الناجحين في جهادهم الروحي وحدهم وإنما يسند حتى الذين سبقوا ففشلوا لعله بروح الرب يقيمهم ويكونون قادة روحيين لهم عملهم وفاعليتهم في ملكوت الله.

الآن يطلب جدعون من الرب علامة ليخرج للحرب؛ في اتضاع سأله أن يكون طلّ على جزة صوف يضعها في البيدر بينما تكون الأرض كلها جافة، فتحقق له ذلك حتى عصر الجزة فملأت قصعة ماء. وبتذلل سأله علامة أخرى أن تكون الجزة جافة تمامًا والأرض بها طلّ… وكان لهاتين العلامتين مفهومًا روحيًا عبّر عنه كثير من الآباء:

يقول القديس أمبروسيوس: [الندى الذي على الجزة هو الإيمان الذي كان في اليهودية، لأن كلمة الله تنزل كندى. يقول موسى: “ليهطل كمطر تعليمي ويقطر كالندى كلامي” (تث ٣٢: ٢). هكذا عندما كان العالم كله جافًا بسبب حرارة الخزعبلات التي للأمم غير المثمرة، كان ندى الافتقاد السماوي ينزل على الجزة، أي في اليهودية. ولكن بعد أن رفضت “خراف إسرائيل الضالة” (مت ١٥: ٢٤) – حتى كما أظن قد رُمز إليها بجزة الصوف – ينبوع المياه الحية جف ندى الإيمان في قلوب اليهود وتحول المجرى الإلهي إلى قلوب الأمم. لهذا السبب فإن العالم كله الآن مرطب بندى الإيمان أما اليهود فحطموا أنبيائهم ومرشديهم. لا عجب إن كانوا الآن يخضعون لجفاف عدم الإيمان، فقد حرمهم الرب الإله من مطر الأنبياء المستمر، قائلاً: “أوصي الغيم إن لا يمطر (على ذلك الكرم) مطرًا” (إش ٥: ٦). مكرّم هو مطر السحابة النبوية، وكما قال داود: “ينزل مثل المطر على الجزاز ومثل الغيوث الذارفة على الأرض” (مز ٧٢: ٦). لقد وعدتنا الكتب المقدسة بهذا المطر أن ينزل على العالم كله ويرويه عند مجئ ربنا ومخلصنا بندى الروح الإلهي. وقد جاء الندى بالفعل، وأيضًا المطر. جاء الرب ومعه الأمطار السماوية. لهذا من كان عطشانًا من قبل فليأتِ الآن ليشرب من الروح الإلهي الداخلي. هذا هو ما سبق فرآه جدعون، أن قبائل الأمم تشرب بالإيمان الثمين من الندى السماوي الحقيقي[78]]. مرة أخرى يقول: [أخيرًا على كل الأرض كما في البيدر ارتوت الكنيسة بندى النعمة الروحية بينما بقي المجمع يابسًا وجافًا من كل رطوبة كلمة الله ومطرها[79]].

يقول القديس أغسطينوس: [نزل المسيح نفسه كمطر على الجزة بينما كانت الأرض جافة، وذلك عندما قال: “لم أُرسل إلاّ إلى خراف بيت إسرائيل الضالة” (مت ١٥: ٢٤)[80]].

يقول القديس چيروم: [عندما كانت جزة اليهودية جافة بالرغم من أن كل العالم كان رطبًا بندى السماء، وعندما جاء كثيرون من المشارق والمغارب (لو ١٣: ٢٩) وجلسوا في حضن إبراهيم (لو ١٦: ٢٢)، عندئذ توقفت معرفة الله عن يهوذا وعن أن يكون إسمه عظيمًا في إسرائيل وحدها (مز ٧٦: ١) فقد بلغ صوت الرسل إلى كل الأمم وأقوالهم إلى أقاصي المسكونة (مز ١٩: ٤)[81]].

يقول القديس إيريناؤس: [هكذا أشار (جدعون) أنه لا يعود يكون لليهود الروح القدس من الله، كقول إشعياء: أوصى الغيم أن لا يمطر مطرًا” (إش ٥: ٦)، فالندى إنما هو روح الله… منتشرًا في كل الأرض[82]].

يعلق القديس أمبروسيوس على تحقيق هذه العلامة في البيدر (مكان جمع الحنطة) قائلاً: [لم يضع جدعون الجزة بغير مبالاة في حقل أو حديقة إنما وضعها في البيدر حيث يوجد محصول الحنطة، “فالحصاد كثير والفعلة قليلون” (لو ١٠: ٢)، لأنه خلال الإيمان بالرب يوجد حصاد مثمر للفضائل في الكنيسة العتيدة[83]]. وكما يعلق أيضًا على الماء الذي بالجزة، إذ ملأ قصعة لم يستخدمه جدعون في غسل الأرجل إنما تركه للسيد المسيح الذي وحده جاء لا لكي يُخدم بل لكي يخدم (مت ٢٠: ٢٨)[84].

فاصل

سفر القضاة : 123456789101112131415161718192021

تفسير سفر القضاة: مقدمة123456789101112131415161718192021

زر الذهاب إلى الأعلى