بدعة بلاجيوس


 مقدمة

بدأت هذة الهرطقة بعد عام 400م بفترة قصيرة عن طريق راهب إنجليزي يدعى بيلاجيوس.

علَّم بيلاجيوس بأن إرادة الإنسان الحرة وصلاحه الطبيعي هما القوة المؤثرة في روحيات الإنسان، وأنكر الاحتياج إلى النعمة التي تحرك هذة الإرادة وهذا الصلاح.

 ترفض تعاليم هذه الهرطقة عقيدة الخطية الأصلية، وتؤكد على ماهو طبيعي أكثر مما هو فوق الطبيعي supernatural، إلى الدرجة التي معها يمكن في رأيهم اقتناء الخلاص بدون النعمة، وهذا هو خطأهم الأول: التأكيد على قدرة الإنسان في الحصول على الخلاص بنفسه وحده وبدون النعمة. 

 أعلن بيلاجيوس، الأخلاقي (التزمتي) العنيف الذي أنكر الخطية الأصلية، أن النفس التي خلقها الله لا يمكن أن تتلوث بخطية لم تقترفها. ولذلك ففي رأيه تكون المعمودية للبالغين فقط الذين اقترفوا آثام وليس للأطفال. 

و كان الجدل فيما يخص البيلاجية يتركز في التضاد القوي بين الخطية والنعمة. وهو يضم نواحي كثيرة في العقيدة فيما يتعلق بالعلاقة الأخلاقية والدينية بين الإنسان والله، ولذلك فهو يشمل عقائد: الحرية الإنسانية، الحالة الأولى، السقوط، التجديد والتغيير، الغرض الأيدي من الفداء، وطبيعة وعمل نعمة الله

نأتي في النهاية إلى السؤال هل الفداء أساساً هو عمل الله أم الإنسان، هل يحتاج الإنسان أن يولد میلاداً جديداً أو مجرد أن تتحسن حالته. أساس النظام البيلاجي هو الحرية الإنسانية أما أساس النظام الأغسطيني فهو النعمة الإلهية.

 

بلاجيوس

كان بيلاجيوس راهباً بسيطاً، ولد حوالي منتصف القرن الرابع في بريطانيا. درس اللاهوت اليوناني وبالأخص ذاك الذي لمدرسة أنطاكية. وأظهر غيرة مبكرة من جهة رغبته في تحسين حالتة وحالة العالم.

 لكن لم يكن غنياً في روحياتة ولا عميقاً في حياة الإيمان إلى هذة الدرجة، مثلما كان في ضبط النفس النسكي والبر الذاتي والتقيد الحرفي أو المفرط  خارجياً بالقوانين.

و من المعروف أنه حتى قبل اندلاع الجدل الخاص بالبيلاجية، أظهر بيلاجيوس استيائه بمقولة القديس أغسطينوس مخاطباً الله “أعط ما تأمر به ومُر بما تريد”. لم يستطع أن يفهم أن القدرة على طاعة الوصية لابد أن تأتي من نفس المصدر الذي أعطى الوصية. بالنسبة له كان الإيمان أكثر كثيراً من مجرد عقيدة نظرية، والشيء الأساسي في الدين هو العمل الأخلاقي، وحفظ وصايا الله عنده يتوقف على قدرة الإنسان الخاصة.

و في 409م كان بيلاجيوس في روما وحول المحامي كيليستيوس إلى حياته الرهبانيه وجذبه إلى اعتناق ارائه أيضا. وكان من هذا الرجل، الأصغر سناً والأكثر مهارة في النقاش والأكثر استعدادا للمجادلة والأكثر صرامة في  ثباته على مبدأه من معلمه نفسه، أن تصاعد الجدل بخصوص هذه الهرطقة. 

كان بيلاجيوس هو المؤلف الأخلاقي، وكيليستيوس المؤلف العقلاني للنظام الذي تبنوه.

كان كيليستيوس هو الأول في الصدام علانية مع الشمال أفريقيين.

 رُفض طلبه أن يُرسم وقد أدينت ستة من اقتراحات ذكرها بين كتاباته وذلك في مجمع في قرطاجنة 11م وهي:

  1.  خُلق آدم قابلا للموت وكان سيموت حتى ولو لم يخطيء.
  2. أثرت خطية آدم عليه وحده، وليس على كل الجنس البشري.
  3. يولد الأطفال في نفس الحالة التي كان عليها آدم قبل أن يخطيء. 
  4. لم يمت الجنس البشري نتيجة لما فعله أدم ولن يقوم نتيجة لما فعله المسيح.
  5.  كل من الناموس والإنجيل يقدمان الدخول لملكوت السموات.
  6. حتى قبل مجيء المسيح كان هناك أشخاص بلا خطية.

 احتكم كيليستيوس في إدانته إلى روما. ولكنه غادر أفريقيا متخذاً طريقه إلى أفسس حيث رسم هناك في 415م.

وللإيجاز نقول:

• اتخذت البيلاجية موقفاً مضاداًٍ لنعمة الله ودافعت عن الحرية الإنسانية. 

. أما الأغسطينية فهي ضد الحرية الإنسانية ودافعت عن نعمة الله.

• النصف بيلاجية هي تعاون كل من النعمة الإلهية وحرية الإرادة الإنسانية (وقد تبنى هذا الرأي يوحنا كاسيان ومعلمو جنوب فرنسا).

• تؤكد النصف أغسطينية على أولية النعمة في الخلاص ولكن لاتقبل كل آراء القديس أغسطينوس بخصوص الجبرية (التحتيم بالقضاء والقدر).

و يعتقد بعض الدارسين أن الدوناتية لم تستمر خلال التاريخ المسيحي ولكن البيلاجية كاستمرار لها ظهرت في التاريخ بين الحين والآخر.

 

تطور الموقف

 تنقسم عقيدة البيلاجيين في تطورها إلى ثلاث فترات:

1- قبل 411م.

۲- في السنوات من 411 -418م.

3- بعد 418 م تطورت إلى ما يعرف بالنصف بيلاجية 

هرب بيلاجيوس من روما أثناء غزوها في 410م وزار سیسیلی وشمال أفريقيا لفترة قصيرة قبل ذهابه إلى فلسطين. وكتب وهو في فلسطين – من بين ما كتب عن أمور أخرى – مقالته عن De natura في الطبيعة والتي رد عليها القديس أغسطينوس بكتابه في الطبيعة والنعمة.

كان بيلاجيوس قد اكتسب عداوة القديس جيروم من قبل، وقد زادت هذه العداوة في 415م، عندما أخبر القديس أغسطينوس القديس جيروم عن خلافاته مع بيلاجيوس.

فكتب القديس جيروم بدوره كتابه “الحوارات” Dialogues ضد البيلاجيين شارحاً تعاليمهم الخاطئة في إمكانية أن يكون الإنسان بلا خطية وهو ما يشبه apatheia “عدم الألم” الذي عند الرواقيين.

كان موضوع إمكانية أن يكون الإنسان بلا خطية هو محور مجمع عُقد في 415م في ديوسبوليس في فلسطين لكي يقضي بالاتهامات ضد بيلاجيوس وكيليستيوس. ولكن أقنع بيلاجيوس المجمع “بأرثوذكسيته عندما أعطی – مخادعاً – تفسيرات أرثوذكسية لمقولاته، فأدان ماسبق ونادى به ودافع عنه من تعاليم خاطئة. وعلى أثر ذلك أُعلنت شركة كل من بيلاجيوس وكيليستيوس مع الكنيسة وبرأهما المجمع.

قدم القديس أغسطينوس والأساقفة الأفريقيون احتكاما مضاداً ناجحاً إلى روما نتج عنه أن حكم إينوسنت الأول بفصل كل من بيلاجيوس وكيليستيوس من الشركة (في يناير 417م).

مات إينوسنت في مارس 417 م، واستلم أسقف روما الجديد زوسيموس رسائل بيلاجيوس وكيليستيوس المتهمان اللذان يدافعان فيهم عن نفسيهما.

 كان زوسيموس أقل تعاطفاً مع الدعوى الأفريقية فأعاد  بيلاجيوس وكيليستيوس إلى الشركة موبخاً أولئك الذين أدانوهما. ولكن قبل أن يصل قراره إلى شمال أفريقيا، كانت هناك ضغوط على البلاط الإمبراطوري في رافينا Ravenna وتغير الحال مرة أخرى.

 ففي أبريل 418م أصدر الإمبراطوران الرومانيان هونوریوس وثيئودوسيوس مرسوم إدانة، تبعته بعد شهرين رسالة أرسلها زوسيموس بابا روما إلى جميع أساقفته، وفي هذه الرسالة لا يدين بيلاجيوس وكيليستيوس فقط بل يطلب أيضا أن يصادق الأساقفة الإيطاليون مع كل الأساقفة الذين تحت سلطة بابا روما على قرار الإدانة، ويثبت ويؤكد صحة قرارات كنيسة شمال أفريقيا.

أبعدت وثيقة مدنية ثانية كل من بيلاجيوس وكيليستيوس من شبه الجزيرة الإيطالية، هرب بيلاجيوس إلى حياة ترحال في الشرق، ويظن أنه مات في مصر في تاريخ غير معروف. أما كيليستيوس فتورط في الجدل النسطوري واختفى من التاريخ حوالي 431م.

 

الإدانة:

قام القديس اغسطينوس بدحض بدعة بيلاجيوس

 أدينت هذه البدعة هي وكيليستيوس أولاً في مجمع قرطاجنة 411م. : في مجمع قرطاجنة 416م. و في مجمع في ميليوم في نوميديا 416م. وفي 417 م حكم اينوسنت الأول بابا روما بفصلهما من الشركة. : في مجمع قرطاجنة بجميع أعضاؤه حوالي 214 أسقف (وقيل 224) 418 م. رسالة البابا زوسيموس في 418م.

 وقد قضي عليها نهائيا بعد أن أدينت في مجمع أفسس 431م.

• في أول مايو 418م كتب مجمع قرطاجنة بكامل أعضائه عدة حرومات في تسعة قوانين ضد البيلاجية نقتطف منها

 1- إذا قال أي إنسان إن أدم الإنسان الأول خُلق قابلاً للموت لذلك سواء أخطأ أم لم يخطيء كان سيموت ليس كأجرة للخطية ولكن للضرورة أو حسب الطبيعة، فليكن محروماً.

۷- إذا فهم أي إنسان كلمات الرسول “إن قلنا أننا لم نخطيء فإننا تضل أنفسنا وليس الحق فينا على أنها تعني أننا لابد أن نعترف أننا خطاة فقط من باب الإتضاع وليس لأننا خطاة فعلا، فليكن محروماً.

فاصل

النصف بلاجية

 رفضت الكنيسة بدعة بيلاجيوس وأدانتها كهرطقة. ولكن في نفس الوقت لم تقبل بعض عقائد أغسطينوس، بل قاوم الكثيرون عقيدته في تجاهله حرية الإرادة الإنسانية والإختيار المطلق للنعمة (القدرية)، وطلبوا وضعاً معتدلاً بين تأكيد النعمة والحرية الإنسانية دعاه البعض بالنصف بيلاجية.

عرفها شاف’ Shaff كما يلي: “هي محاولة غير واضحة و غير محددة للمصالحة، وطريق وسطی متذبذبة، بين مباديء بيلاجيوس من جهة وأغسطينوس من الجهة الأخرى، لإزالة تطرف كل منهما، فتميل حينا نحو الواحدة، وحينا نحو الأخرى”.( لربما يقصد شاف من حيث البداية؛ أحيانا يميلون أن البداية تكون من النعمة، وأحيانا يميلون أن تكون البداية من الإرادة الإنسانية الحرة)

 

مكان وزمان ظهورها

  1.  انتشرت مبادئها في جنوب فرنسا في القرن الخامس، في السنوات الأخيرة لحياة أغسطينوس (ت. 430م) والفترة التي تلت نياحته مباشرة. ومركزها الأساسي جزيرة ليرينس بين الأوساط الرهبانية هناك.
    أخذت صورة مدرسة لاهوتية منظمة تسمت “Marseillesians” أي “المارسيلليين” نسبة إلى مركزهم في مارسيليا وفي جزيرة ليرينس. ثم دعيت بعد ذلك بالنصف بيلاجية.
    کتب بروسبير الأكويتاني الذي كان النصير الأول للأغسطينية، هو وهيلاري، إلي أغسطينوس يخبرانه بمقاومة الرهبان في مارسيليا لعقيدته في القدرية (الجبرية أو التحتيم بالقضاء والقدر) وفي النعمة. فكتب كتابين ردا عليهم:
    –  “قضاء الله في اختيار القديسين” De praedestinatione Sanctorum
    –  “في موهبة المثابرة” De Dono Perseverantiae وكانا آخر ما كتبه في حياته.
    – لماذا رفض رهبان جنوب فرنسا عقيدة أغسطينوس في القدرية؟
    لأنه بعقيدته هذه يرفض أي احتمال للتغيير في حياة الإنسان، وتعد نظرته تشاؤمية من جهة مجهودات الإنسان. وهو بهذا يرفض ضمناً ضرورة الممارسات النسكية التي تعد من أساسيات الحياة الرهبانية.
  2.  انتشرت أيضاً في شمال أفريقيا بين رهبان دير Adrumetum في 426 /427 م.
     حذر رهبان شمال أفريقيا من أن رسالة أغسطينوس رقم 194 في تحتيم القضاء والقدر، تقوض بوضوح حرية الإرادة الإنسانية ومن ثم الجهاد الرهباني و أيضا عمل الإرساليات.
     أكد فيتاليس vitalis الراهب القرطاجني في 427 م أن الإرادة وحدها (بدون النعمة) هي بداية عمل الإيمان. فرد أغسطينوس في رسالته ۲۱۷ مؤكدا ضرورة تجهيز الإرادة “بالنعمة السابقة.
    و عندما رفض رهبان دير Adrumetum في شمال أفريقيا عقيدة أغسطينوس فيما يخص مبدأ القدرية، وأعلنوا تأكيدهم على حرية إرادة الإنسان و مسئوليته، كتب لهم أغسطينوس كتابين: “النعمة وحرية الإرادة ” و “الفساد والنعمة”.

فالنصف بيلاجية إذن حركة رهبانية قامت كرد فعل ضد ما نادى به أغسطينوس. وهي تعد أيضا “ضد بيلاجية” متطورة أو بالأحرى بتعبير أدق يمكن أن تدعى بالنصف أغسطينية” من نواحي معينة.

واستمر الجدال في هذا الموضوع بعد أغسطينوس خاصة في فرنسا، لانشغال شمال أفريقيا بالغزو الناجح للوندال الذين أغلقوا عليهم بعيداً عن الدوائر اللاهوتية والأنشطة الكنسية.

 

أهم قادتها ومن دافعوا عن مبادئها

  •  يوحنا کاسیان (كتب “المناظرات” في 429/428 م -ت. 435م)،
  •  فينسنت راهب وكاهن ليرينس (ت. قبل 450 م)، • فوستوس أسقف ریز (ت. حوالي490/ 495 م)، 
  • جناديوس أسقف مارسيليا (ت. 496م).

 

خطأ هذه التسمية

و بدأ استخدام تعبير “النصف بيلاجية في القرن ۱۷.

و يذكر ” H.Bettenson أن اصطلاح “النصف بيلاجيين” بمفهوم النصف هرطقة، يعتبر غير دقيق، ويقترح تعبير “النصف أغسطينيين”، ويعتبره أكثر دقة ولا يثير تساؤلات.

ويذكر Ferguson أيضا أن “النصف بيلاجية” هي خطأ في التسمية، لأن الأشخاص الذين شملتهم كانوا على اتفاق مع أغسطينوس ضد بيلاجيوس بخصوص ضرورة النعمة وما يخص المواهب الطبيعية والخلاص. وإن كانوا قد اختلفوا معه في فهمهم لتوزيع النعمة ولدور الجهاد الإنساني.

 يذكر A Di Berardino أنه لا يمكن أن يطلق رسمياً على كاسيان وفوستوس والنصف بيلاجيين الذين كانوا في القرن الخامس إنهم هراطقة. لأنه حتى في مجمع البرتقال 529 م، عندما أدينت النصف بيلاجية لم يدانوا كهراطقة، بل ولم تذكر أسماؤهم، وفي هذا المجمع لم تقبل كل تعاليم أغسطينوس بصورة مطلقة، ولكن رفض المجمع تعاليمه الخاصة بمبدأ الجبرية و التحتيم بالقضاء والقدر.

 لم يتعرض الشرق لهذه المشكلة. وللإيضاح نقول إنه يمكن أن توجد “نقاط مشتركة” فيما ينادي به أصحاب هذه الآراء وما تنادي به البيلاجية، ولكن هذا لا يعني وجود “عقيدة مشتركة”. ولكي نشرح هذا نورد المثال التالي: الكريستولوجية التي نادى بها أبوليناريوس تسمى LogosSarx أي “الكلمة الجسد” وكان يقصد هو أن الكلمة اللوغوس اتخذ جسداً ولكن بدون النفس الإنسانية العاقلة، واعتبر أن اللاهوت حل محلها في المسيح. أما إيمان آبائنا مثل القديس كيرلس عمود الدين فينادي بکریستولوجية LogosSarx أيضا، ولكن يقصد بهذا أن الكلمة اللوغوس اتخذ طبيعة بشرية كاملة بنفس إنسانية عاقلة كإحدى خصائص هذه الطبيعة، وذلك مقابل ما تنادي به هرطقة نسطور وهو کریستولوجية LogosAnthropos أي “الكلمة-الإنسان”. إذ ينادي نسطور بأن الكلمة اتخذ إنسانا كاملاً بشخص آخر غير شخص اللوغوس، فيرى في المسيح شخصين (لقراءة المزيد عن بدعة نسطور هنا في موقع أوتار السماء أنظر بدعة نسطور). وهكذا نجد أنه من الممكن أن تكون هناك نقاط مشتركة”، ولكن ليس “عقيدة مشتركة”. لذلك فنحن لا نفضل هذه التسمية ( النصف بلاجية) فيما يخص ما يندرج تحتها من مباديء. وعلى الرغم من ذلك، فنحن مضطرون أن نستخدمها في شرح الموضوع مع ملاحظة ما أوضحناه.

 

مباديء ما يسمى بالنصف بيلاجية

قاوم النصف بيلاجيون بيلاجيوس كما قاومه أغسطينوس نفسه. فهم يعترفون بالخطية الأصلية وضرورة المعمودية والنعمة للخلاص.

يختلفون مع أغسطينوس في :

  1. توزيع النعمة
  2. بداية عمل الخلاص.

 ينادون بالآتي:

  •  مات السيد المسيح عن الكل، ويحتاج الجميع إلى فدائه، وهم مدعوون إلى الخلاص.
  •  خلق الله الإنسان وأعطاه حرية الإرادة والميل إلى الخير والصلاح. وهذه العطايا طبيعية، لأنها أعطيت مع الطبيعة الإنسانية نفسها.
  • على الرغم من فساد الطبيعة الإنسانية نتيجة الخطية الأصلية يوجد في كل إنسان عنصر الصلاح، يعمل من أجل الخلاص. ويستطيع الإنسان بمواهبه الطبيعية هذه أن يدخل إلى بداية الحياة و السعادة، وبنعمة المسيح اللاحقة يتقدم في الحياة المقدسة نفسها. وبفضل مبادرة الإرادة الصالحة هذه يقتني الإنسان إيمانا أولياً ويستطيع أن ينعطف إلى الله في الصلاة.
  •  أما أغسطينوس فيقول إن هذه العطايا ليست طبيعية (ليست من الطبيعة الإنسانية)، لذلك فقد فقدت كلية كنتيجة للخطية الأصلية. وإن كل ما ينبغي أن نفعله من أجل اقتناء الحياة الأبدية مصدره ليس الطبيعة التي فسدت لكن النعمة التي تجدد الطبيعة. فكل من الإرادة الصالحة والإيمان في بدايتهما وفي نموهما وأيضا القدرة على الصلاة… الخ. هذه كلها – في رأيه – هي من عمل الله. فالخلاص في بداياته، عند أغسطينوس، هو عمل النعمة.
  • ينادي النصف بيلاجيون أيضا بالمحافظة على الخواص الأساسية للنعمة وهي: ضرورتها، مجانيتها، ويضيفون أحيانا خاصية مبادرة النعمة إلى خدمة الإنسان قبل إبداء رغبته في ذلك. وهذا يعني أن النعمة تتقدم إرادة الإنسان. ولكن بدون أن تجبر إرادة الإنسان على قبولها، بل يظل الإنسان حراً أن يقبل أو يرفض عمل النعمة.
  •  ينادي أغسطينوس بعجز الإرادة الإنسانية أن تحب الخير والصلاح وذلك نتيجة لسقوط آدم، وأن هناك قدراً أبديا للبعض أن يتلقوا نعمة وتتحول إرادتهم إلى محبة الصلاح.
  •  وينادي بيلاجيوس بمبدأ الكمال الأخلاقي للإنسان وأن النعمة مجرد مساعدة خارجية، وأن الإنسان يستطيع بجهاده فقط أن ينال الخلاص بفضل المواهب الطبيعية فيه بدون النعمة.
  •  كتب فوستوس أسقف ریز عن “النعمة” متخذاً موقفا متوسطاً بين القدرية التي ينادي بها أغسطينوس وما ينادي به بيلاجيوس. إذ نادي فوستوس بأن الله يريد أن الجميع يخلصون، وأكد دور النعمة في مساعدة الإرادة التي في حريتها اختارت الصلاح، وظل رأيه هو السائد حتی 520 م.
  •  ترفض النصف بيلاجية عقيدة أغسطينوس في الفساد الكلي وتجاهله لحرية الإنسان الطبيعي، وتستبدلها بفكرة الحالة المرضية أو الشلل (العرج) الذي يصيب قوة الإرادة. إذ أن أغسطينوس في مقاومته لبيلاجيوس استكر أية قوة لهذه المواهب الطبيعية في تحقيق الفضيلة، مفترضا نوعاً من الجبرية مما يجعل كل جهادات الإنسان لإقتناء الفضيلة بلا قيمة.
  •  أكدت النصف بيلاجية أن النعمة الإلهية والإرادة الإنسانية ما يقومان بتغيير الإنسان وتقديسه. وعادة يجب على الإنسان أن يأخذ الخطوة الأولى. فحرية الإرادة الإنسانية هي أخطر عنصر وضعه الله في الإنسان، لأنه بناء على حرية إرادته هذه ستكون الدينونة. لأنه لولا حرية إرادة الإنسان ما كانت هناك دينونة أبدية. فالله العادل كيف سيدين إنسانا مصيراً ليس له حرية إرادة؟
  •  وكما أكدت النصف بيلاجية على ضرورة النعمة وعملها الداخلي مع وخلال عمل الإنسان، أكدت أيضا على أن الكفارة عامة خلال دم المسيح، وعلى أن جبرية الخلاص مشروطة بالمعرفة السابقة بالإيمان.

 

يوحنا كاسيان والنصف بيلاجية

 على رأس من تبنوا آراء ما أطلق عليه بالنصف بيلاجية وقف يوحنا کاسیان مؤسس ورئيس دير القديس فيكتور في مارسيليا، وهو رجل ذو ثقافة عالية وخبرة غنية وأرثوذكسي العقيدة.

 رأي كاسیان وهيلاديوس أسقف آرل وغيرهم أن بداية الإرادة الحسنة هي من عمل الإنسان، ولكن النعمة تسارع بعد ذلك مباشرة لتسند الإرادة.

و يرى البعض أن كاسيان في كتابه “المناظرات ال 24” وفي المناظرة رقم ۱۳ تحديداً، يرفض أخطاء بيلاجيوس، ويؤكد أن الجميع قد فسدوا منذ سقوط آدم، وأن النعمة الإلهية ضرورية لأجل خلاص الإنسان.

و أشار ضمنياً إلى أغسطينوس بدون أن يذكر اسمه، مقاوماً عقائده الخاصة بالاختيار والقدرية والعمل الخاص للنعمة، وهذه كلها في رأيه ضد تقليد الكنيسة وخاصة اللاهوت الشرقي، وضد ما يتمسك به هو من القوانين النسكية.

 في مقاومته لكل من بيلاجيوس وأغسطينوس نادی کاسيان بأن الصورة الإلهية والحرية الإنسانية لم تفن أو تنته، ولكنها مرضت وتشوهت وضعفت وأصابها الوهن بسقوط آدم الأول. لذلك فالإنسان كمريض، ولكنه لم يمت، هو فعلاً لا يستطيع مساعدة نفسه، لكن يمكنه أن يرغب في مساعدة الطبيب الإلهي، وله أن يقبلها أو يرفضها عندما تقدم له. وينبغي له أن يتعاون مع نعمة الله من أجل خلاصه.

  • ولكن السؤال الهام، أي من العاملين له المبادرة: نعمة الله أم إرادة الإنسان؟ يجيب كاسيان أنه بالتجربة والاختبار نجدهما معاً ضروريان للخلاص، وأحيانا تتقدم الإرادة الإنسانية كما في حالة الابن الضال، زكا، اللص التائب، كورنيليوس. وأحيانا أخرى تتقدم النعمة الإرادة كما في حالة متى العشار وبولس، حيث تجذب النعمة إلى الله تلك الإرادة المقاومة له، وإن كان حتى في هذه الحالة يتم ذلك بدون إجبار أو إكراه (المناظرة ۲،۱:۱۱:۱۳ ). هذا ويصعب على الإنسان أن يدرك ما في قلب التائب ومتى بدأت النعمة تعمل فيه.
     ولا ننسى أنه في الحالات التي تتقدم فيها النعمة على إرادة الإنسان، يكون ذلك بناء على سبق معرفة الله لاشتياقها وقبولها للخلاص، وليس قسراً لأن الله يريد أن الجميع يخلصون. ومن ناحية أخرى في حالات الابن الضال وزکا واللص التائب وكورنيليوس قد لمست النعمة قلوبهم و أوحت لهم بمبادرة الإرادة التي قاموا بها، ولهم أن يقبلوا إيحاءات النعمة أو يرفضوها، فبدون إرادة الإنسان لن تعمل النعمة فيهم. إذن عنصر الإرادة هام في خلاصنا.

 ويشير كاسيان في المناظرة الثالثة عشرة إلى الأشخاص (يقصد ضمنياً بيلاجيوس من ناحية وأغسطينوس من الأخرى) الذين ينادون بإصرار شديد ويؤكدون على أسبقية أو تفوق أي من النعمة أو الإرادة الحرة قائلا:

•”لأن كثيرا من الذين يتمسكون بأحد هذين الرأيين ويؤكدون عليه أكثر مما ينبغي يسقطون في أخطاء متضارية مختلفة ( ۱:۱۱:۱۳ ).

•هذان الشيئان: نعمة الله والإرادة الحرة، بالتأكيد يبدوان وكأنهما يشتركان في أن يضاد أحدهما الآخر، ولكنهما في الحقيقة في توافق، ونحن نفهم أنه ينبغي أن نقبلهما كليهما بطريقة متساوية بسبب عقيدتنا، خشية إننا إن استبعدنا إحداهما من الإنسان نبدو وكأننا نهاجم (أو ننافي) قانون إيمان الكنيسة ( 4:۱۱:۱۳ ).

• تبقى هناك دائما في الإنسان إرادة حرة تستطيع أن تهمل أو تحب نعمة الله. وإلا لماذا قال الرسول: تمموا خلاصكم بخوف ورعدة”، إلا لأنه يعلم أنه يمكننا أن نريده أو نهمله.(۸:۱۲:۱۳)

• وهكذا تعمل نعمة الله دائما مع إرادتنا لأجل الخير مساعدة إياها في كل شيء وتحميها وتدافع عنها، حتى أنه في بعض الأحيان تطلب النعمة وتتوقع من الإرادة الصالحة بعض المجهودات، لكي لا تبدو وكأنها (أي النعمة) تمنح عطاياها لشخص نائم أو مرتخي في كسل… ولكن تظل نعمة الله مع ذلك حرة. حيث أنها بكرمها الفائق تمنح عن طريق مجهودات قليلة وضئيلة مثل هذا المجد الغير زائل وهذه العطايا والبركات الأبدية ( ۱:۱۳:۱۳ ).

 

بعض المجامع التي لها علاقة بالنصف بيلاجية

 انتصرت النصف بيلاجية بقيادة فوستوس أسقف ريز في مجمعين مكانيين: آرل 473 م وليون 475م، حيث أدينت عقيدة أغسطينوس في القدرية بدون ذكر اسمه.

 ولكنها أدينت في مجمع البرتقال 529 م بقيادة كايساريوس أسقف آرل وبدون ذكر أسماء أيضا.

قرارات مجمع آرل 473 م:

(إدانة البيلاجية وتأييد النصف بيلاجية)

 محروم كل من يقول الآتي:

  1. عمل طاعة الإنسان ليس له صلة بنعمة الله
  2. بعد سقوط الإنسان الأول، بطلت تماما حرية اختيار الإنسان. 
  3. المسيح لم يمت لخلاص كل البشر. 
  4. سبق معرفة الله يدفع الإنسان بعنف نحو الموت، أو أن أولئك الذين يهلكون، يهلكون وفقا لإرادة الله
  5. أي إنسان يخطيء بعد المعمودية الشرعية يموت في آدم (خلال الخطية الأصلية). 
  6. لا يوجد بين الأمم منذ آدم وإلى المسيح من خلص نتيجة لمجيء المسيح، ولكن بواسطة النعمة السابقة (الأولى) الله (أي خلال ناموس الطبيعة). وأنهم فقدوا حريتهم في الاختيار في أبويهم الأولين. 
  7. عاش الآباء الأولون والأنبياء أو كل القديسين العظام في الفردوس حتى قبل زمان الفداء.

 ثم أكد ما يلي:

• يتحد جهاد الإنسان ومحاولاته، مع نعمة الله، وإن حرية إرادة الإنسان لم تفن أو تُبيد، ولكنها ضعفت ووهنت، ولذلك فالذي يخلص هو مازال عرضه للخطر، وذاك الذي على وشك أن يهلك من الممكن أن يخلص.

 

قرارات مجمع البرتقال ۲۹ هم Council of Orange:

أدان البيلاجية، والنصف بيلاجية القائلة بإن البداية تكون من إرادة الإنسان لا من النعمة، وتبني أغسطينية معتدلة

محروم كل من يقول الآتي:

  1.  بواسطة الأذى الذي سيبه عصیان آدم، لم يتغير الإنسان بكليته إلى الأسوأ (من جهة الجسد والنفس)، لكن ظلت حرية نفسه غير فاسدة، وتعرض جسده فقط للفساد… (حزقيال ۲۰:۱۸، رو6: 16، 2 بط2: 19)
  2.  تأذي آدم وحده نتيجة عصيانه ولم يتأذ  نسله أيضا، أو أن موت الجسد فقط – الذي هو أجرة الخطية – قد انتقل من إنسان واحد إلى كل الجنس البشري، وليس الخطية أيضا، التي هي موت النفس. (رو 5 :12).
  3.  تمنح نعمة الله نتيجة لطلبنا إياها وليس أن النعمة هي التي تدعونا أن نطلبها. (رو ۲۰:۱۰ ، إش 1:65).
  4.  لكي نتطهر من الخطية لابد أن تسبق إرادتنا عمل الله، وأنه ليس عن طريق إلهام الروح القدس وعمله فينا إننا نرغب في التطهير. الإرادة تجهز بواسطة الرب، كما في فيلبي ۱۳:۲ “لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل المسرة“.
  5.  بداية الإيمان وإزدياده والرغبة المطلقة في الإيمان، ليست بواسطة النعمة أو العطية… ولكنها فينا بالطبيعة… (أف ۸:۲)
  6. بالنسبة لنا الذي – بدون نعمة الله – يؤمن، يريد، يرغب، يحاول، يجاهد، يسهر، يطلب، يقرع… سيهبه الله الرحمة، وإننا ليس عن طريق عمل الروح القدس ، نؤمن و… الخ، كما ينبغي (اكو 1:4).
  7.  يمكننا أن نفكر تفكيراً سليماً أو نختار أي شيء صالح… بدون إستنارة الروح القدس (يو 5:15 ، اکو 5:۳).
  8.  من الممكن أن يأتي البعض إلى نعمة المعمودية بواسطة الرحمة، ولكن يأتي آخرون خلال الاختيار الحر (الذي فسد بالتأكيد في كل الذين ولدوا منذ سقوط الإنسان الأول يو6: 4 ، مت  17:16 ، اکو ۱۳:۱۲ ).
  9.  ليست كل الأفكار والأعمال الصالحة هي عطية من الله.
  10. المتجددون و القديسون لا يحتاجون إلى المعونة الإلهية بإستمرار.

 وأيضا نورد ما انطوت عليه بعض البنود الأخرى:

12- إن الله يحبنا لأجل ما سوف نكون عليه في طريقنا بواسطة عطيته، وليس لما نحن عليه باستحقاقنا. وبطريقة أخرى، محروم من يقول إن: ما يحبه الله فينا هو استحقاقنا وليس عطيته الخاصة.

13- إن الإرادة الحرة التي ضعفت في آدم يمكن شفاؤها فقط بنعمة المعمودية.

16- إن كل ما نمتلكه من صلاح هو عطية الله، لذلك لا يجب أن يفتخر أحد.

18- إن النعمة التي لا نستحقها تتقدم الأعمال التي تستحق التقدير.

19- حتى لو لم يسقط الإنسان كان سيحتاج إلى النعمة الإلهية للخلاص.

23- أنه عندما يخطيء الإنسان، هو يعمل إرادته الخاصة، وعندما يفعل الصلاح فهو ينفذ إرادة الله، وإن كان ذلك بإرادته.

25- أن تحب الله فهذا نفسه هو عطية من الله. أعطاها لكي يُحب، ذاك الذي يُحب عندما لا يُحب.

و أضاف المجمع أيضا هذه التأكيدات:

  1.  خلال خطية الإنسان الأول والسقوط ضعفت حرية الاختيار جداً حتى أصبح بدون نعمة رحمة الله لا يستطيع أحد أن يحب الله أو يؤمن به أو يعمل أي شيء صالح لأجله كما ينبغي (هذا يتضمن أنه ممكن أن يفعله ولكن في قياس معين). (في 1: 29،6 – أفسس ۸:۲- اکو ۷:4، ۲۵:۷ – يع۱۷:۱ – يو ۲۷:3 ).
  2.  نؤمن أن بعد نوال النعمة في المعمودية ينال كل المعتمدين، بمساعدة المسيح والتعاون معه، القوة لممارسة كل الأمور التي تؤول لخلاص نفوسهم، إذا عملوا بإخلاص.
  3. ونحن لسنا فقط لا نؤمن أنه قُدَّر للبعض من قبل الله أن يكونوا أشراراً، ولكننا نقول أيضا أنه لو كان هناك من يؤمن بمثل هذا الشيء الشرير فنحن نقول له بكل مقت إنه محروم.
  4.  في كل عمل صالح البداية ليست منَّا بل من الله الذي يلهمنا الإيمان والحب له بدون استحقاق سابق من جانبنا، لذلك نحن نرغب في المعمودية، وبعد المعمودية نستطيع بمعونته أن نحقق إرادته.

و حمل کايساريوس أسقف آرل قرارات هذا المجمع إلى بونيفيس أسقف روما، وقد صدق عليها مؤكدا أن حتى بداية العمل الصالح والإيمان هو عطية من النعمة الإلهية (السابقة) Prevenient Grace

 رُفضت تعاليم “النصف بيلاجية” في الغرب ولم يُرفض معلموها، وكُرَّم أغسطينوس، وقنن كقديس ومعلم عام رغم رفض تعاليمه في النعمة الجبرية. وأعتبر کاسیان وفوستوس أيضا كقديسين لهم ذكري مستحبة في فرنسا.

_____

من كتاب نظرة شاملة لعلم الباترولوجي  للعلامة القمص تادرس يعقوب ملطي

زر الذهاب إلى الأعلى