تفسير سفر القضاة ٨ للقس أنطونيوس فكري

الإصحاح الثامن

آية (1): “وقال له رجال افرايم ما هذا الأمر الذي فعلت بنا إذ لم تدعنا عند ذهابك لمحاربة المديانيين وخاصموه بشدة.”

كان سبط إفرايم له قوته بين الأسباط، وحين إنقسمت إسرائيل إلى مملكتين دعيت إحداهما (الشمالية وهى الكبرى 10 أسباط) إفرايم. وكان الإفرايميون يحتلون أفضل الأراضى. ومعنى كلامهم هنا هو عتاب لجدعون لماذا لم يستدعيهم لقتال مديان، وظاهر كلامهم الشجاعة والغيرة على مجد الله ولكن حقيقة مشاعرهم هى معركة على الزعامة فإفرايم خاف أن تصبح الزعامة لمنسى.

 

الآيات (2،3): “فقال لهم ماذا فعلت الان نظيركم أليس خصاصة افرايم خيرا من قطاف ابيعزر. ليدكم دفع الله اميري المديانيين غرابا وذئبا وماذا قدرت أن اعمل نظيركم حينئذ ارتخت روحهم عنه عندما تكلم بهذا الكلام.”

يظهر هنا حكمة جدعون وتواضعه فقد أجاب بلطف شديد أنه لم يفعل شئ بجانب ما فعله إفرايم = ماذا فعلت الأن نظيركم. اليست خصاصة إفرايم خيراً من قطاف أبيعزر = الخصاصة هى ما يبقى فى الكرم بعد قطفه وهو قليل جداً. وهو يقصد أبيعزر عائلته هو. أى فى تواضع أن أقل ما عند إفرايم أفضل من عائلة جدعون. وقد قدمهم أنهم أتوا برأس غراب وذئب. “الجواب اللين يصرف الغضب (أم 15 : 1)” لقد كان من الممكن لجدعون أن يوبخهم بشدة قائلاً “وأين كنتم طوال سبع سنوات الذل” لكنه لم يفعل فيخسرهم بل هو بحكمة اكتسبهم لجانبه. بل معنى كلامه أنه هو قام بعمل الإستعداد للمعركة وهم الذين حاربوا.

 

الآيات (4،9): “وجاء جدعون إلى الأردن وعبر هو والثلاث مئة الرجل الذين معه معيين ومطاردين. فقال لأهل سكوت أعطوا أرغفة خبز للقوم الذين معي لأنهم معيون وأنا ساع وراء زبح وصلمناع ملكي مديان. فقال رؤساء سكوت هل أيدي زبح وصلمناع بيدك الان حتى نعطي جندك خبزا. فقال جدعون لذلك عندما يدفع الرب زبح وصلمناع بيدي ادرس لحمكم مع أشواك البرية بالنوارج. وصعد من هناك إلى فنوئيل وكلمهم هكذا فأجابه أهل فنوئيل كما أجاب أهل سكوت. فكلم أيضا أهل فنوئيل قائلا عند رجوعي بسلام اهدم هذا البرج.”

تابع جيش جدعون ملكى مديان وأعيوا من الجوع فطلبوا طعاماً من أهل مدينتى سكوت ثم فنوئيل. فكان كل المطلوب من سكوت وفنوئيل رمزاً لإشتراكهم فى المعركة بعض الخبز لكنهم جبنوا عن ذلك. فهم تصوروا عدم إمكانية هزيمة المديانيين فخافوا أن يساعدوا جدعون لئلا ينتقم منهم مديان بعد ذلك على هذه المساعدة. وبينما جدعون ورجاله يحاربون مديان لحساب الجماعة يبخل سكوت وفنوئيل بالخبز عليهم عوضاً عن مساعدتهم فى تلك الحرب، هؤلاء يمثلون المستسلمون للعبودية والمثبطين لهمم الذين يعملون. بل هم سخروا من جدعون “هل أيدى زبح وصلمناع بيدك” هؤلاء إستهانوا بإله إسرائيل وبرجل الله لذلك هم غالباً من عابدى البعل. لذلك كان تهديد جدعون (الوديع أمام إفرايم) لهم مرعباً. فهو كقاض لإسرائيل عليه أن يؤدب هؤلاء حتى لا تحل اللعنة على الشعب كله. ولاحظ فى تهديد جدعون لأهل سكوت قوله أدرس لحمكم مع أشواك البرية =فالشوك هو رمز للخطية فهو من لعنات الخطية. فالخطية التى ننفذها بأجسادنا ستكون سبباً لهلاكنا. وكان تهديد جدعون لأهل فنوئيل هو هدم برجهم = فيبدو أنهم كان لهم برجاً حصيناً يحتمون فيه فلم يخافوا من تهديدات جدعون، هم صاروا كأهل بابل يبنون برجاً يحميهم وهذا البرج يمثل كبريائهم. وإذا فهمنا كلمة فنوئيل = رؤية وجه الله فيكون أهل فنوئيل ممثلين لمن حصل على قدر من الروحيات فتكبر وإنتفخ وظن نفسه محصناً فى برج بينما أهل سكوت يمثلون الجسدانيين. وكلاهما يهلك.

 

الآيات (10-12): “وكان زبح وصلمناع في قرقر وجيشهما معهما نحو خمسة عشر ألفا كل الباقين من جميع جيش بني المشرق والذين سقطوا مئة وعشرون آلف رجل مخترطي السيف. وصعد جدعون في طريق ساكني الخيام شرقي نوبح ويجبهة وضرب الجيش وكان الجيش مطمئنا. فهرب زبح وصلمناع فتبعهما وامسك ملكي مديان زبح وصلمناع وأزعج كل الجيش.”

طريق ساكنى الخيام = غالباً كان طريق غير معتاد ولم يتوقع المديانيون أن يسلكه جدعون، وفوجئوا به فحدث لهم تشويش مرة أخرى وإرتعدوا (ربما كان طريق الخيام هو طريق يسكنه العربان الذين ظنهم مديان حماية لهم ضد جدعون). كان العدو فى البداية ذو قوة 135,000. والأن هو عدو هارب مذعور. زبح = ذبيحة فهو يذبح للأصنام. صلمناع = الإله المظلم. قرقر = مسطح حتى الأرض.

المسيح جدعوننا الحقيقى هزم إبليس الإله المظلم وأتى به لمستوى الأرض (لو 10 : 19) لاحظ هزيمة ملكى مديان فى البرية. ويسوع صعد ليجرب من لإبليس فى البرية وليهزمه.

 

الآيات (13-17): “و رجع جدعون بن يواش من الحرب من عند عقبة حارس. و امسك غلاما من اهل سكوت و ساله فكتب له رؤساء سكوت و شيوخها سبعة و سبعين رجلا. و دخل الى اهل سكوت و قال هوذا زبح و صلمناع اللذان عيرتموني بهما قائلين هل ايدي زبح صلمناع بيدك الان حتى نعطي رجالك المعيين خبزا. و اخذ شيوخ المدينة و اشواك البرية و النوارج و علم بها هل سكوت. و هدم برج فنوئيل و قتل رجال المدينة.”

 

الآيات (18-21): “وقال لزبح وصلمناع كيف الرجال الذين قتلتماهم في تابور فقالا مثلهم مثلك كل واحد كصورة أولاد ملك.فقال هم اخوتي بنو أمي حي هو الرب لو استحييتماهم لما قتلتكما. وقال ليثر بكره قم اقتلهما فلم يخترط الغلام سيفه لأنه خاف بما انه فتى بعد. فقال زبح وصلمناع قم أنت وقع علينا لأنه مثل الرجل بطشه فقام جدعون وقتل زبح وصلمناع واخذ الأهلة التي في أعناق جمالهما.”

غالباً قتل المديانيون إخوة جدعون يوم إجتمعوا فى وادى يزرعيل (6 : 33) قبل المعركة مع جدعون. وهنا يحقق جدعون مع الملكين ويثبت عليهما تهمة القتل فهو غير متعطش للدماء ولا يحكم على أحد إلاّ بعد أن يفحص أمره. وجدعون طلب من إبنه الفتى أن ينفذ حكم الإعدام فيهما ليعلمه القتال ويعطيه ثقة ضد الأعداء. قم أنت وقع علينا = لأن القاتل يكون فوق المقتول.وهم طلبوا من جدعون أن يقتلهم هو فضربة جدعون القوى المحنك فى الحرب ستكون قاضية فى الحال، أمّا ضربة الفتى الصغير الخائف المتردد فستكون عذاباً لهم فهو سيضطر أن يضربهم عدة مرّات لتردده ممّا سيعذبهم كثيراً. ولقد أخذ جدعون الأهلة التى فى أعناق جمالهما = هؤلاء الملوك الوثنيين عابدى القمر كانوا يصنعون هذه الأهلة كأحجبة لتحفظهم وإستيلاء جدعون عليها رمز لأنه سيطر على ألهتهم وهزمها.

 

الآيات (22-23): “وقال رجال إسرائيل لجدعون تسلط علينا أنت وابنك وابن ابنك لأنك قد خلصتنا من يد مديان. فقال لهم جدعون لا أتسلط أنا عليكم ولا يتسلط ابني عليكم الرب يتسلط عليكم.”

نجد هنا أول محاولة لإقامة نظام ملكى أى الإبن يرث ملك أبيه. ولقد نجح جدعون أيضاً فى هذا الإختبار إذ طلب أن يكون الملك لله، لأن جدعون كان سالكاً بالروح فلم تغريه السلطة بل قبل أن يكون خادماً للشعب. ولاحظ أن شعب إسرائيل نسب الإنتصار لجدعون ” لأنك قد خلصتنا “. وجدعون رفض هذا ونسب الفضل لله فى الإنتصار وإذا كان الله هو الذى إنتصر فليتسلط الله على الشعب = الرب يتسلط عليكم. جدعون هنا يرفض الكرامة الزمنية وهى ضربة توجه دائماً لرجال الله. وبالرغم من رفض جدعون للملك حاول إبنه بعد ذلك أن يملك. ولنسأل أنفسنا “إن كان إسرائيل قد طلبوا من جدعون أن يملك عليهم إذ خلصهم من مديان فهل لا نملك المسيح علينا وهو خلَّصنا من عدو أشَّر.

 

الآيات (24-27): “ثم قال لهم جدعون اطلب منكم طلبة أن تعطوني كل واحد أقراط غنيمته لأنه كان لهم أقراط ذهب لأنهم اسماعيليون. فقالوا أننا نعطي وفرشوا رداء وطرحوا عليه كل واحد أقراط غنيمته. وكان وزن أقراط الذهب التي طلب ألفا وسبع مئة شاقل ذهبا ما عدا الأهلة والحلق وأثواب الأرجوان التي على ملوك مديان وما عدا القلائد التي في أعناق جمالهم. فصنع جدعون منها افودا وجعله في مدينته في عفره وزنى كل إسرائيل وراءه هناك فكان ذلك لجدعون وبيته فخا.”

نجح جدعون فى رفضه الملك ولكنه سقط هنا فى إختبار أخر:

فقد كان للمديانيين أقراطاً ذهبية كالإسمعيليين، وكانوا يتصورون أن الأقراط لها قوى خرافية لذلك يصنعون الألهه منها (خر 32 : 2) هكذا صنع هرون العجل الذهبى. وقد طلب جدعون أن يعطيه الشعب الأقراط ليصنع منها تماثيلاً وأفوداً كذكرى لإنتصاره. والأفود هو ملابس الكهنة. فربما أقام جدعون نوع من العبادة المحلية قريباً من بيته بدلاً من الذهاب لخيمة الإجتماع فى شيلوه (أفرايم) المنافسة لهُ. وبما هو إشتهى الكهنوت (بينما لم يشتهى الملك) فإرتدى الأفود فى تقديمه ذبائح أمام هذا التمثال بل جذب الشعب لهذه العبادة الوثنية = وزنى كل إسرائيل وراءهُ الزنا هنا هو زنا روحى بمعنى عبادة الأوثان. أو يكون الأفود هو نوع من الحلل التى تستخدم فى العرافة ولكن هذه ايضاً عادات وثنية. خلاصة الموضوع أن سقطة جدعون أنه أقام نوعاً من العبادة فى مقر إقامته كان سبباً لغواية الناس بعيداً عن الله فلم يذهبوا لخيمة الإجتماع. وياليت جدعون قد سأل الرب فى هذا ولو فعل لما سقط وأسقط معهُ الشعب. والأفضل ان نعبد الله كما يريد هو لا كما نريد نحن. أو كما نتصور نحن أو نشتهى. ولكن كثير من الدارسين يرون أن جدعون تاب عن سقطته بدليل إلى:

  1. بولس حسبه من رجال الإيمان (عب 11 : 32).
  2. قول الكتاب أنه مات بشيبة صالحة (8 : 32). ولكن هذه الأفود وهذه العبادة الوثنية ربما إستمر فيها أولاده وكانت سبباً فى نهايتهم المحزنة على يد أبيمالك (9 : 5).

 

آية (28): “وذل مديان أمام بني إسرائيل ولم يعودوا يرفعون رؤوسهم واستراحت الأرض أربعين سنة في أيام جدعون.”

لاحظ تكرار رقم 40 مع القضاة ومع صموئيل وشاول وداود وسليمان.

 

الآيات (29-31): “و ذهب يربعل بن يواش و اقام في بيته. و كان لجدعون سبعون ولدا خارجون من صلبه لانه كانت له نساء كثيرات. وسريته التي في شكيم ولدت له هي أيضا ابنا فسماه ابيمالك.”

سريته = تسمى هكذا فهو يتزوج بها سراً عن زوجته وأولادها لا يرثون. أبيمالك = معنى إسمه أبى يملك، وهكذا أسمته أمه لتحرضه أن يطلب شيئاً من ميراث أبيه وعظمته. وهذا اقام بدور شرير متفقاً مع أهل والدته من شكيم ضد إخوته السبعين ليتسلط هو على إسرائيل.

 

الآيات (32-35): “و مات جدعون بن يواش بشيبة صالحة و دفن في قبر يواش ابيه في عفرة ابيعزر. وكان بعد موت جدعون أن بني إسرائيل رجعوا وزنوا وراء البعليم وجعلوا لهم بعل بريث آلها. و لم يذكر بنو اسرائيل الرب الههم الذي انقذهم من يد جميع اعدائهم من حولهم. و لم يعملوا معروفا مع بيت يربعل جدعون نظير كل الخير الذي عمل مع اسرائيل.”

بعل بريث = سيد العهد. كأنهم عاهدوا البعل أن يعبدوه وكأن البعل يعدهم بأن يحميهم، أوهم تعاهدوا مع الكنعانيين على عبادة البعل إله الكنعانيين.

فاصل

سفر القضاة : 123456789101112131415161718192021

تفسير سفر القضاة: مقدمة123456789101112131415161718192021

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى