تفسير انجيل لوقا أصحاح 8 للقديس كيرلس الكبير

الأصحاح الثامن

عظة (41) مثل الزارع 4-8

(لو 8: 4ـ 8) ” فلما اجتمع جمع كثير أيضا من الذين جاءوا إليه من كل مدينة، قال بمثل: خرج الزارع ليزرع زرعه. وفيما هو يزرع سقط بعض على الطريق، فانداس وأكلته طيـور السماء. وسقط آخر على الصخر، فلما ثبت جف لأنه لم تكن له رطوبة. وسقط آخر فـي وسط الشوك، فنبت معه الشوك وخنقه. وسقط آخر في الأرض الصالحة، فلما نبت صـنع ثمراً مئة ضعف. قال هذا ونادى: من له أذنان للسمع فليسمع”.

قد تكلم الأنبياء المباركون إلينا بطرق متنوعة عن المسيح مخلصنا جميعا. لأن البعض بشروا به كالنور الذي كان مزمعا أن يأتي، وآخرون بشروا بملوكيته وعظمته، لأن واحد منهم يقول: ” طوبى لمن له زرع في صهيون وأقرباء في أورشليم، لأن ها ملكها البار سوف يملك وأمراؤها سوف يسودون بالحكم” (إش 31: 9 س). ” وذلك الإنسان سيكون إنسانا كلماته خفية” (إش 32: 2). لأن كلمة المخلص كما لو كانت خفية. هكذا أيضا المرنم المبارك قد أظهره أمامنا قائلاً: سافتح فمي بأمثال” (مز 78: 2). لذلك انظروا أن ما تكلم به في القديم قد حدث, لأن جمعا كثيرا من الناس من كل اليهود قد اجتمع حوله، فتكلم إليهم بأمثال. ولكن لأنهم لم يكونوا مستحقين أن يعرفوا أسرار ملكوت السموات، فإن الكلمة كانت بالنسبة لهم مغلفة بالظلام، فهم قد قتلوا الأنبياء القديسين وهم مذنبون بدم كثير من الأبرار، ولذلك قيل لهم بوضوح: ” أي الأنبياء لم يقتله آباؤكم” (أع 7: 52). وأيضا ” يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها. كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا، هوذا بيتكم يترك لكم خرابا” (لو 13: 34 – 35). ولكن أعمالهم الشريرة لم تمتد فقط إلى الأنبياء القديسين، بل تصاعدت حتى إلى ذلك الذي هو رب الأنبياء، أي المسيح. ولكن إذ هم متغطرسون، وكما لو كانوا يرفعون في وجهه رقابهم المتكبرة، فإنهم لم يعطوا أي اهتمام لواجب قبول الإيمان به، بل قاوموا بخبث تعليمه الجهاري، ووبخوا أولئك الذين أرادوا أن يكونوا معه دائما، والذين كانوا يعطشون لتعليمه، قائلين بعدم تقوى: ” إن به شیطان وهو يهذي، فلماذا تسمعون له” (يو 10: 20)، لذلك لم يعط لهم أن يعرفوا أسرار ملكوت السموات، بل بالحري أعطى لنا نحن الذين لنا استعداد أكثر لقبول الإيمان، بل بالحري قد أعطى لنا ـ كحكمة كاملة ـ القدرة على فهم ” الأمثال والأقوال واللغز, أقوال الحكماء وغوامضهم” (أم 1: 6). لأن الأمثال يمكن أن تقول عنها إنها صور لا لأمور منظورة، بل بالحري لأمور روحية وتدرك بالعقل. لأن ذلك الذي لا يمكن أن يرى بعيون الجسد تشير إليه الأمثال بعيون العقل، وهي تشكل الأمور العقلية بصورة جميلة بواسطة الصور الحسية، وبواسطة ما يمكن أن يلمس. لذلك دعونا نرى ما هي المنفعة التي تنسجها لنا كلمة المخلص. 

يقول إن الزارع خرج ليزرع زرعه إلى آخره… فعن من يتكلم هكذا؟ من الواضح أنه يتكلم عن نفسه، لأنه هو بالحقيقة زارع كل ما هو صالح، ونحن حقله، ومنه وبواسطته يأتي كل حصاد الثمار الروحية. وهذا هو ما علمنا إياه حينما قال ” بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئا ” (يو10: 5).

لذلك فبالتصورات العقلية أرجو أن تنظروا زارعا يمشي، وحينما يمشي يلقي بذارا في الحقول، البعض منها يسقط على الطرقات، والبعض على الصخور، والبعض على أماكن بها أشواك، والبعض الآخر على أرض جيدة أي على أرض خصبة. فذلك الذي على الطرقات اختطفته طيور السماء، والذي على الصخور بمجرد أن نبت جف بسرعة، وذلك الذي وسط الأشواك اختنق، وأما الذي سقط على الأرض الصالحة فإنه نما وأعطى ثمرا مئة ضعف كما يقول.

والآن ما هو الهدف من الحديث، وما هو التعليم العميق للمثل؟ هذا سوف نتعلمه منه هو، الذي شرحه. وحتى التلاميذ المباركين قبلنا وجدوا هذه الأشياء صعبة الفهم، واقتربوا من معلن الأسرار وسألوه قائلين “ما هو المثل؟” فماذا كان جواب المسيح؟ ” الزرع هو كلام الله، والذين على الطريق هم الذين يسمعون ثم يأتي إبليس وينزع الكلمة من قلوبهم لكي لا يؤمنوا فيخلصوا” (لو 8: 11 ، 12).

الذين على الطريق:

ونرى أن السبب في أن الزرع الذي على الطريق يختطف هو جفاف الأرض. فأي طريق هو دائما جاف وغير محروث وتدوسه الأقدام، لذلك فلا تدخل فيه أي بذار، بل تظل على السطح فتلتقطها الطيور وتأكلها. لذلك فكل أولئك الذين عقلهم جاف وعنيد، وكما لو كان مضغوطا على نفسه، لا يقبلون الزرع الإلهي، لأن الكلام الإلهي المقدس لا يجد مدخلاً إليهم، ولا هم يقبلون الكلمات التي تنتج فيهم مخافة الله، والتي بواسطتها كانوا يستطيعون أن يأتوا بثمار أمجاد الفضيلة. لقد جعلوا أنفسهم طريقا مداستا للأرواح النجسة، نعم للشيطان نفسه. فهؤلاء لا يستطيعون أن يأتوا بثمر مقدس. لذلك فأولئك الذين قلبهم عقيم وغير مثمر فليستيقظوا ويفتحوا عقلهم ويقبلوا الزرع المقدس، ويكونوا مثل الأرض المحروثة جيدا والمثمرة، ويأتوا بثمار الله ترفعهم إلى حياة غير فانية وتحرس عقلهم وتغلق الباب أمام اللص، وتطرد من قلوبهم أسراب الطيور، وذلك لكي يبقى الزرع ويمكث داخلهم ويكونوا مخصبين جدا وأغنياء بوفرة في إنتاج الثمر.

الذين على الصخر:

وبعد ذلك دعونا نتحدث عن أولئك الآخرين الذين قال عنهم المسيح: “والذين على الصخر هم الذين متى سمعوا يقبلون الكلمة بفرح، وهؤلاء ليس لهم أصل فيؤمنوا إلى حين وفي وقت التجربة يرتدون” (لو 8: 13). هؤلاء بالحقيقة هم أناس إيمانهم لم يكن قد ثبت، بل هو يعتمد على مجرد كلمات، ولا يركزون عقلهم في إدراك السر، مثل هؤلاء تقواهم جافة وبلا أصل.

لأنهم حينما يدخلون الكنائس فإنهم يشعرون بسرور في أن يروا كثيرين مجتمعين ويقبلون التعليم بفرح من فم الذي يعلمهم ويمدحونه كثيرا. ولكنهم يفعلون هذا بدون تمييز، بل بإرادة غير طاهرة، وحينما يخرجون من الكنائس فإنهم في الحال ينسون التعاليم المقدسة ويسيرون في سيرتهم التي تعودوا عليها، ولا يكونون قد اختزنوا داخلهم أي شيء لمنفعتهم المستقبلة. لأنه لو كانت أمور المسيحيين تمضي في هدوء ولا تزعجهم أي تجارب فحينئذ بالكاد يثبت فيهم الإيمان، وعندئذ يكونون في حالة مشوشة متداعية. وإذا وقع عليهم إضطهاد وهاجم أعداء الحق كنائس المخلص، فإن قلبهم لا يحب الجهاد وعقلهم يلقي عنه الستر الواقي ويهرب، إذ أنهم خالون من كل غيرة، ومقفرون من المحبة الله ومستعدون للفرار. ولكن يا أيها الخائفون والضعفاء أقول لكم، لماذا تهربون مما سوف يكون هو مجدكم؟ وتهربون من النضالات التي قد تدربتم عليها؟ فإنه بهذا النضال يربح الراغبون جائزة النصر لأنفسهم. فصارعوا واجدلوا إكليل الشجاعة، واعطشوا إلى مكافآت المثابرة، وإلى كرامات الصبر.

وأظن أيضا أنه من الصواب أن أقدم الحديث الآتي:
أولئك الذين يلمعون فوق العروش العالية، ويحكمون الأمور الأرضية، متى ينظرون الجندي الثابت الذي يرغب في النصر الأكيد؟ هل يرونه في أوقات السلام وحينما يصمت ضجيج الأسلحة؟ أم هل يرونه بالحرى حينما يذهب بشجاعة ضد أولئك الذين يرتبون صفوفهم للهجوم؟ كما أتصور أنه يصدق هذا عن الحالة الأخيرة وأكثر من الأولى لذلك كما قال إرميا النبي “أعدوا المجن والترس”(إر 46: 3)، وخاصة أن يمين الله مخلصنا لا تغلب في المعركة، وكما قال بولس الحكيم ” إنه لا يدع الناس يجربون فوق ما يستطيعون بل سيجعل مع التجربة أيضا المنفذ، ليستطيعوا أن
يحتملوا” (انظر 1کو 10: 13).

ولكن حتى إن كان نصيبنا أن نتألم حينما نناضل لأجل التقوى في المسيح، وحينئذ نكون من كل جهة موضع حسد الآخرين، ونكون ممجدين وتكون لنا أمال عظيمة باهرة، وأكثر من ذلك فإن موتا ممدوحا هو أفضل بما لا يقاس من حياة شائنة. لأجل هذا أيضا قال المخلص للرسل القديسين ” لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكنهم لا يستطيعون أن يقتلوا النفس. بل بالحرى خافوا من الذي يستطيع أن يهلك النفس والجسد في جهنم” (انظر لو 12: 4 ، 5). لذلك فهل هو يأمرنا ألا نبالي بهذه الأخطار الشديدة، بينما هو نفسه ظل بعيدا عن مثل هذه التجارب؟ ولكن عجبا إنه قد وضع حياته من أجلنا، وافتدى العالم بدمه. لذلك فنحن لسنا ملكا لأنفسنا، بل له هو الذي اشترانا وافتدانا ونحن مدينون له بحياتنا. لأنه كما قال بولس الإلهي ” لأنه لهذا مات المسيح وقام وعاش لكي يكون ربا على الأحياء والأموات” (رو 14: 9)، لذلك ينبغي أن يكون لنا عقل لا يقبل التزعزع حتى حينما تأتي التجربة فأننا نظهر أنفسنا مقبولين ونكون منتصرين بقوة الصبر، ونكون مستعدين أن نجوز الصراع بفرح وننتهز فرصة الآلام لأجل التقوى في المسيح.

الذي سقط وسط الشوك:

وبعد هذا الشرح الكثير، فلنأت إلى موضوع الأشواك التي تخنق الزرع الإلهي. فماذا يقول المخلص أيضا؟ والذي سقط وسط الشوك هم الذين يسمعون ثم يذهبون فيختنقون من هموم الحياة وغناها ولذاتها، ولا ينضجون ثمرا” (لو 8: 14). لأن المخلص يلقي البذار، التي إذ تضرب بجذورها في النفوس التي تقبلها وتبتدئ أن تبرز إلى فوق وتصير منظورة فأنها تختنق بالهموم العالمية وتجف وتغطي عليها الانشغالات الفارغة كما قال للنبي “زرع ليس له غلة لا يصنع دقيقا ” (هو 8: 7). لذلك فإننا في هذه الأمور ينبغي أن نكون مثل الزراع المهرة الذين ينقون الأرض من الأشواك بمثابرة ويرفعون من الأرض كل ما هو مؤذي، ثم يلقون البذار في حقول نقية، ولذلك يستطيع الواحد أن يقول بثقة أنهم بلا شك ” يعودون بالفرح حاملين حزمهم” (مز 126: 6). ولكن إن كان الإنسان يلقي بذاره في أرض مملوءة بالأشواك وكثيرة الحشائش ومغطاة، بنفايات الحصاد فإنه يتعرض لخسارة مزدوجة، إذ يخسر بذاره أولاً، كما أنه يعاني تعبا كثيرا. لذلك فلكي تزدهر البذرة الإلهية جيدا فينا فلننزع أولاً من قلوبنا الاهتمامات العالمية والقلق غير النافع الذي يجعلنا نسعى أن نكون أغنياء، ” لأننا لم ندخل العالم بشئ، ولا نقدر أن نخرج منه بشئ” (1تي 6: 7). لأنه أية منفعة من امتلاك الأشياء الزائدة؟ ” كنوز الشر لا تنفع، أما البر فينجي من الموت” (أم 10: 2). فإنه حالما يتم امتلاك أشياء وفيرة وبزيادة فإنه تجري فينا ـ وكما لو كانت تطوقنا ـ أحط الشرور: “ولائم بتبذير وإسراف، وتلذذات البطن وأطعمة جيدة الأعداد بالتوابل، وموسيقى، وسكر، ومهاوي الدعارة، واللذات الشهوانية، والكبرياء المكروه من الله”. وقد قال تلميذ المخلص ” كل ما في العالم هو شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة… والعالم يمضي وشهوته، أما الذي يصنع مشيئة الله فيثبت إلى الأبد” (1يو 2: 16 ، 17)

في الأرض الجيدة:

هذا هو الزرع الجيد، والجدير بالإعجاب الأرض غنية ومثمرة جيدا وتأتي بثمار مئة. لأن الناس يقولون إن أحسن أنواع التربة تعطي أحيانا عند زراعتها مئة ضعف، حتى أن هذه هي علامة لكل بقعة خصبة منتجة، وعن هذا قال الله بحق بواسطة أحد الأنبياء القديسين ” ويطوبكم كل الأمم لأنكم تكونون أرض مسرة” (ملا 3: 12). فحينما تقع الكلمة الإلهية على عقل نقي وماهر في تطهير نفسه من الأشياء المؤذية، فإنها حينئذ تثبت جذورها في الأعماق وترتفع مثل سنابل القمح. وإذ تكون أوراقها قوية ومزهرة حسنا فإنها تأتي بثمرها كاملاً.

ولكني أظن أنه نافع أن أذكر هذا لكم أيضا أنتم الذين ترغبون أن تتعلموا ما هو صالح. لأن الإنجيلي متى حينما قص هذا الفصل علينا، قال إن الأرض الجيدة أعطت ثمارا في ثلاث درجات. إذ يقول “فيصنع بعض مئة، وآخر ستين، وآخر ثلاثين ” (مت 13: 8). لذلك لاحظوا أنه كما ذكر المسيح ثلاث درجات من الخسارة هكذا بالمثل درجات النجاح هي مساوية في العدد. لأن تلك البذار التي تسقط على الطريق تخطفها الطيور، وتلك التي على الصخور بمجرد أن تبرز في خلال فترة صغيرة فأنها تجف، وتلك التي بين الأشواك تختنق. أما الأرض الجيدة فتعطي ثمرا في ثلاث درجات، كما قلت مئة، وستين، وثلاثين. لأنه كما كتب بولس الحكيم جدا ” كل واحد له موهبته الخاصة من الله الواحد هكذا والآخر هكذا” (1 کو 7: 7). لأننا لا نجد أن نجاحات القديسين هي بمقياس متساوي، أما نحن فيلزمنا أن نتمثل بالأمور التي هي أفضل وأعلى من تلك الأمور التي من نوع وضيع. فإنه هكذا سيسكب المسيح علينا السعادة بسخاء، وهو الذي به ومعه الله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور، آمين.

عظة (42) أمي وإخوتي 19-21

(لو 8: 19 – 21) ” وجاء إليه أمه وإخوته، ولم يقدروا أن يصلوا إليـه لـسبب الجمـع فأخبروه قائلين: أمك وإخوتك واقفون خارجا، يريدون أن يروك. فأجاب وقال لهم: «أمـي وإخوتي هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها “.

دعونا مرة أخرى نقتبس كلمات التسبيح من كتاب المزامير: ” ماذا أرد للرب من أجل كل حسناته لي ” (مز12: 116). فما هو الذي نستطيع أن نقدمه له معادلاً لحبه لنا؟ هل سوف نختار لإرشادنا أوامر الناموس ونكرمه بذبائح دموية؟ هل هو يشعر بالسرور في ذبح الثيران والغنم؟ بالتأكيد لا، لأنها ممقوتة عنده، لأنه يعلن بوضوح بواسطة أحد الأنبياء القديسين لأولئك الذين كانوا يقدمون له الخدمة الناموسية بغضت كرهت أعيادكم ولست التذ باعتكافاتكم. إني إذا قدمتم لي محرقاتكم وتقدماتكم لا أقبلها، وذبائح السلامة من مسمناتكم لا التفت إليها” (عا 5: 21 ، 22). لذلك ما هي الذبيحة الروحية التي ينبغي أن نقدمها له؟ إن المرنم الحكيم يعلمنا هنا أيضا قائلاً ” قلت للرب، أنت ربي ولا تحتاج إلى صلاحي” (مز 15: 2 س). لذلك فحينما نقترب منه فسوف يقبلنا، إن كانت هذه التقدمة التي نقدمها إليه فسوف تكون غالية ومناسبة، هذه هي الذبيحة الروحية كما هو مكتوب ” هل مسرة الرب بالمحرقات والذبائح كما باستماع صوت الرب؟ هوذا الاستماع أفضل من الذبائح والإصغاء أفضل من شحم الكباش” (1صم 15: 22). لأن الطاعة والاستماع الله هما السبب في كل بركة، هذا ما يعلمنا إياه هذا الفصل. لأن البعض دخلوا وأخبروا المسيح بخصوص أمه القديسة وأخوته، ويقول الإنجيل أنه أجاب بهذه الكلمات “أمي وأخوتي هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها.

والآن فلا يتخيل أحد أن المسيح يزدري بالكرامة الواجبة نحو أمه، أو أنه يتجاهل باحتقار المحبة اللازمة أو المحبة اللائقة لأخوته. فإنه هو الذي نطق بالناموس بواسطة موسى وقال بوضوح ” اكرم أباك وأمك لكي يكون لك خير على الأرض” (تث 5: 16). وكيف يستطيع أن يرفض المحبة الواجبة. لأخوته وهو الذي أوصانا أن نحب ليس مجرد أخوتنا، بل أولئك الذين يقفون منا موقف الأعداء؟ لأنه يقول ” احبوا أعدائكم” (مت 5: 44)، لذلك فما الذي يرغب المسيح أن يعلمه؟ أنه يقصد أن يرفع محبته جدا من نحو أولئك الذين هم على استعداد أن يحنوا أعناقهم لوصاياه وسأشرح كيف ذلك. إن أعظم الكرامات وأكمل العواطف هي تلك التي ندين بها جميعا لأمهاتنا وأخوتنا. لذلك فإن كان يقول إن الذين يسمعون كلمته ويعملون بها هم أمه وأخوته أفلا يكون واضحا لكل واحد أنه يمنح لأولئك الذين يتبعونه حبا شاملاً وجديرا بدعوتهم؟ لأنه بهذا سوف يجعلهم يعتنقون باستعداد الرغبة في تسليم أنفسهم لكلماته، والرغبة في إخضاع عقلهم لنيره، بواسطة طاعة كاملة. ولكن الله يؤكد بواسطة أحد أنبيائه القديسين أنه يفرح فرحا عظيما جدا بأولئك الذين تخضع عقولهم له بالطاعة الكاملة. إذ يقول “وإلى هذا انظر إلى المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامي” (إش 66: 2). لأنه كما أن آباءنا حسب الجسد يسرون بأولئك الأبناء الذين يختارون أن يعملوا الأشياء التي هي جيدة ومناسبة بالنسبة لهم (للآباء)، والذين يرغبون أن يتفقوا معهم في “الفكر، هكذا أيضا إله الكل فإنه يحب المطيعين ويتعطف برحمته على ذلك الذي يسمع إليه بإنصات، والعكس أيضا. صحيح، إنه يرفض الذي هو غير مطيع وغير خاضع. لأنه وبخ اليهود الذين سقطوا في الشر قائلاً ” الابن يكرم أباه والعبد يكرم سيده، فإن كنت أنا أبا فأين كرامتي وأن كنت سيدا فأين هيبتي قال رب الجنود” (ملا 1: 6). لأنه إما أنه يجب أن نخاف رب الكل كسيد، أو على الأقل نكرمه كأب، وهذا الأمر الأخير هو أعظم بكثير وأفضل من الأمر الأول لأن المحبة تطرد الخوف.
لأنه لا توجد طاعة بدون مكافأة، ومن الجهة الأخرى لا يوجد عصيان هو عدم الفساد 1 – بدون عقاب، وهذا يتضح مما قاله الله بواسطة نبيه المقدس لأولئك الذين يتجاهلونه: هوذا الذين يخدمونني يأكلون وأنتم تجوعون. هوذا الذين يخدمونني يشربون وأنتم تعطشون. هوذا الذين يطيعونني يترنمون من طيبة القلب وأنتم تصرخون وتولولون من كآبة القلب ” (إش 65: 13، 14). فدعونا أن نرى حتى من كتابات موسى، الحزن الذي أتى لنا به العصيان. لقد طردنا من فردوس الأفراح وسقطنا أيضا تحت حكم الموت، وبينما كان الهدف من خلقتنا فإنه هكذا خلق الله العالم فإننا قد صرنا ملعونين ومستعبدين لنير الخطية. وكيف نجونا من ذلك الذي حل بنا، أو من هو ذاك الذي أعاننا حينما غرقنا في هذا البؤس العظيم؟ أنه كلمة الله الوحيد، بإخضاع نفسه لحالتنا وبوجوده في الهيئة كإنسان، وبطاعته للأب حتى الموت (انظر في 2: 8). هكذا قد محا ذنب العصيان الذي بواسطة آدم، هكذا أبطلت قوة اللعنة وأبيدت سيادة الموت. وهذا ما يعلمه بولس أيضا قائلاً ” لأنه كما بمعصية الإنسان الواحد جعل الكثيرون خطاة، هكذا أيضا بإطاعة الواحد سيجعل الكثيرين أبرارا” (رو 5: 19). لأن طبيعة الإنسان كلها صارت خاطئة في شخص الذي خلق أولاً، ولكنها الآن قد تبررت كلية من جديد في المسيح. لأنه صار لنا بداية ثانية لجنسنا بعد تلك البداية الأولى، ولذلك فكل الأشياء قد صارت جديدة فيه. وبولس يؤكد هذا قائلاً، “لذلك إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة، الأشياء العتيقة قد مضت، هوذا الكل قد صار جديدا” (2 کو 5: 17). إذا فلكي يربحنا المسيح جميعا إلى الطاعة فهو يعدنا بكرامات فائقة، ويمنحنا أعظم حب قائلاً ” أمي وأخوتي هم أولئك الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها”. لأن من من الناس يكون هكذا فظا وغير لطيف حتى أنه يرفض أن يكرم، ويعطي أكمل محبة لأمه وأخوته؟ لأن ناموس الطبيعة أقوى جدا، فهو يضطرنا حتى بدون إرادتنا إلى هذا. لذلك فحينما نحني رقابنا لوصايا المخلص، فنحن نصير تابعيه وهكذا نكون في علاقة أم وأخوة بالنسبة له. فكيف إذا يعتبرنا أمام كرسي دينونة الله؟ أليس بلطف ومحبة، أي شك يمكن أن يوجد في هذا، وأي شئ يمكن أن يقارن بهذه الكرامة وهذا الصلاح. وما هو الذي يكون جديرا أن يقارن بمثل هذه الموهبة الرائعة والمشتهاة؟ لأنه يأخذنا إليه، حتى حيث يكون هو نكون نحن أيضا معه. لأنه منحنا هذا الوعد قائلاً ” أنا أمضى لأعد لكم مكانا، وأتي أيضا وأخذكم إلي حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضا معي” (يو 14: 3).

لذلك فالطاعة والخضوع هما أمران جديران بأن نقتنيهما، وهما عربون كرامة عظيمة. ونقول إن هذا يتحقق ليس بمجرد سماعنا لكلمات الله، بل بسعينا أن نمارس ما يوصى به، وهذا أنت تتعلمه مما يعلنه أحد الرسل القديسين بقوله ” ولكن كونوا عاملين بالكلمة لا سامعين فقط… لأنه أن كان أحد سامعا للكلمة وليس عاملا، فذاك يشبه رجلا ناظرا وجه خلقته في مرأة فإنه نظر ذاته ومضى، وللوقت نسى ما هو، ولكن من إطلع على الناموس الكامل، ناموس الحرية وثبت وصار ليس سامغا ناسيا بل عاملاً بالكلمة فهذا يكون مغبوطا في عمله” (يع 1: 20-22).

والآن رغم أن المناقشة التي قدمت كافية لإقناع الناس الذين يفكرون باستقامة، مع ذلك سأضيف من أجل فائدتهم ما قيل بصواب بكلمات بولس المبارك: ” لأن أرضا قد شربت المطر الآتي عليها مرارا كثيرة وأنتجت عشبا صالحا للذين فلحت من أجلهم، تنال بركة من الله، ولكن إن أخرجت شوكا وحسكا، فهي مرفوضة وقريبة من اللعنة التي نهايتها للحريق” (عب 6: 7، 8). لأن المخلص يسكب مثل مطر كلمات التعزية الروحية على قلوب الذين يسمعون، أعني تعليم الخلاص المقدس. فالإنسان الذي يملك الفهم سوف ينتج ثمار حصاد روحي وفير، ولكن إن كان مهملاً وغير مكترث فهو طبعا ليس له أن ينتظر تمجيد الفضيلة، وبدلاً من العنب سوف ينتج أشواكا. وماذا تكون  نهايته؟ هذه نعلمه من كلمات إشعياء الذي يقول: ” إن كرم رب الجنود هو رجال يهوذا، زرع جديد ومحبوب، وانتظرت أن يصنع عنبا ولكنه أنتج شرا ولیس برا، بل صراخ” (انظر إش 5: 7). ونحن نعلم من كلمات إشعياء أن إسرائيل عوقب بسبب إهماله للإثمار الذي كان مناسبا لنفسه ومرضيا الله وهو لم يطع وصاياه ولا رضي أن يعملها. فيقول إشعياء: ” فالآن أعرفكم ماذا أصنع بكرمي. أنزع سياجه فيصير للرعي. أهدم جدرانه فيصير للدوس وأجعله خرابا لا يغضب ولا ينقب فيطلع شوك وحسك. وأوصى الغيم أن لا يمطر عليه مطرا ” (إش 5 :5 ، 6). لذلك فهو واضح لكل إنسان أن الله لا يعتبر النفس الشريرة التي تنتج أشواكا لأنها تترك بدون حماية، وبدون جدران ومعرضة لسلب كل من يريد، وتكون مكانا للصوص، والحيوانات. ولا تنال أي تعزية روحية. وهذا ما أعتبره هو معنى قوله إنه لا يمطر عليها مطرا. حينما حدثت هذه الأشياء من إسرائيل فإن المرنم كما لو كان يولول عليه وقال لإله الكل ” الكرمة التي نقلتها من مصر طردت أمما وغرستها ” وأيضا يكمل قائلاً: ” غطى الجبال ظلها وأغصانها أرز الله، مدت قضبانها إلى البحر وإلى النهر فروعها” (مز 80: 8 ، 10). ويتضرع لأجل ما عانوا منه قائلاً ” فلماذا هدمت جدرانها فيقطفها كل عابري الطريق؟ يفسدها الخنزير من الوعر ويرعاها وحش البرية” (مز 80: 12، 13). لأن النفس التي هي غير محروسة وتحسب غير مستحقة للحماية من فوق تصير أرض مرعي للوحوش الشريرة لأن الشيطان وملائكته ينهبونها.

لذلك فلكي لا نسقط في مثل هذه البلايا الصعبة دعونا نحني أعناق قلوبنا للمسيح مخلص الكل. دعونا نقبل كلمة الله ونعمل بها، لأننا إن اخترنا أن نفعل هذا، فهو سوف يكللنا بكرامات سامية، لأنه موزع الأكاليل؛ الذي به ومعه الله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور آمين.

عظة (43) انتهار الريح 22-25

(لو 8: 22-25) ” وفي أحد الأيام دخل سفينة هو وتلاميذه، فقال لهم: لنعبر إلـى عـبـر البحيرة. فأقلعوا. وفيما هم سائرون نام. فنزل نوء ريح في البحيرة، وكانوا يمتلـون مـاء وصاروا في خطر. فتقدموا وأيقظوة قائلين: يا معلم، يا معلم، إننا نهلك!. فقام وانتهر الـريـح وتموج الماء، فانتهيا وصار هدو. ثم قال لهم: أين إيمانكم؟ فخافوا وتعجبـوا قائلين فيمـا بينهم: من هو هذا؟ فإنه يأمر الرياح أيضا والماء فتطيعة “.

تعالوا بنا مرة أخرى لكن ببوق المرنم نصرخ عاليا: “نبارك الرب في كل وقت. في كل حين تسبحته في فمي” (مز 34: 1). لأنه دائما يصنع أمورا عجيبة. فرصا كثيرة متقاربة تلي الواحدة الأخرى لأجل تسبيحة وكل كلام يقصر عن أن يبلغ إلى قوته، وإلى جلاله المرتفع جدا فوق الكل. فبالحقيقة أن “مجد الرب يغطي على الكلام” (أم 25: 2).

ولكن لا ينبغي أن ننسى المجد الواجب له واللائق به. بل بالحرى ينبغي أن نسرع بفرح ونقدم مثل تلك الثمار كما يتناسب مع قوتها، لأنه بالتأكيد ليس هناك شئ يستطيع إنسان أن يؤكد أنه أفضل من التسبيح، حتى لو كان الذي نستطيع أن نقدمه قليلاً. لذلك تعالوا فدعونا نسبح المسيح مخلص الكل، دعونا ننظر علو قدرته، وجلال سيادته الإلهية.

لأنه كان يبحر مع الرسل القديسين عبر البحر أو بالحري بحيرة طبرية، فصارت عاصفة قوية غير متوقعة على السفينة، وارتفعت الأمواج عاليا بتأثير الرياح، وامتلأ التلاميذ من خوف الموت، لأنهم خافوا خوفا ليس بقليل رغم معرفتهم بالسباحة وقيادة السفن، ولم تكن تنقصهم الدراية باضطرابات الأمواج ولكنه بسبب عظمة الخطر فإن خوفهم الآن صار غير محتمل، ولم يعد لهم رجاء آخر للأمان سوى ذاك الذي هو رب القوات، المسيح. فأيقظوه قائلين يا معلم یا معلم خلصنا فإننا نهلك، لأن الإنجيلي يقول إنه كان نائما. وأظهر أن هذا كما يبدو قد حدث بهدف حكيم. لأنه ربما كما أتصور، يقول واحد لماذا ينام؟

وهذا نجيب عليه أن الحدث كان مرتبا ليكون جيدا ومفيدا، فربما كانوا لا يطلبون منه المساعدة في الحال حينما بدأت العاصفة تهز السفينة، بل كما لو كان حينما وصل الخطر إلى قمته ومخاوف الموت صارت تزعج التلاميذ لكي تظهر قدرة سيادته الإلهية أكثر في تهدئه البحر الهائج وانتهار ثورات الريح وتغيير العاصفة إلى هدوء. ولكي تصير الحادثة هكذا وسيلة لتقدم التلاميذ الذين كانوا يبحرون معه، لذلك قصد أن ينام. ولكنهم كما قلت أيقظوه قائلين خلصنا فإننا نهلك، انظروا هنا أرجوكم ايمان قلیل متحد بإيمان، لأنهم يؤمنون أنه يستطيع أن يخلص وينقذ من كل شر أولئك الذين يدعونه، لأنه لو لم يكن لهم إيمان راسخ به فإنهم بالتأكيد لما سألوا منه هذا. ومع ذلك إذ لهم إيمان قليل فإنهم يقولون خلصنا فإننا نهلك لأنه لم يكن أمرا ممكنا أو أمر يمكن أن يحدث لهم أن يهلكوا حينما يكونون مع ذلك الذي هو قادر على كل شئ. ثم كانت السفينة تهتز بشدة من عنف العاصفة وتكسر الأمواج وكان إيمان التلاميذ أيضا يهتز مع السفينة كما لو كان بارتجاجات مماثلة.

ولكن المسيح الذي يمتد سلطانه على كل شئ قام حالاً، ومرة واحدة هـدأ العاصفة ولجم ثورات الريح، وهدا خوف التلاميذ وبـذلك بـالحرى بـرهن بأعماله أنه الله، الذي ترتعد وترتجف أمامه كل المخلوقات والذي تخـضع طبيعة العناصر نفسها لإيماءاته، لأنه انتهر الريح. ويقول معلمنا مرقس إن الطريقة التي تم بها الانتهار كانت بسلطان إلهي. لأنه يخبرنا أن ربنـا قـال للبحر “أسكت أبكم” (مر 4: 39). فماذا يمكن أن يكون أعظـم مـن ذلـك فـي الجلال؟ أو ما الذي يمكن أن يساوي سموه؟ فالكلام جدير بالله وكـذلك قـوة الأمر الذي أصدره، حتى أننا يمكن أن ننطق التسبيح المكتوب في المزاميـر ” أنت متسلط على كبرياء البحر، عند ارتفاع لججه أنت تسكتها” (مز 89: 9). وهو نفسه أيضا يقول في موضع ما بواسطة أحد الأنبياء القديسين “لمـاذا لا تخشون يقول الرب؟ أو لا ترتعدون من وجهي؟ أنا الذي وضعت الرمل تخوما للبحر، فريضة أبدية لا يتعداها” (إر 5: 22). لأن البحر خاضع لإرادة ذلك الذي خلق كل الخليقة، وهو كما لو كان موضوعا تحت قدمي الخـالق، ويغيـر تحركاته في كل الأوقات حسب مسرته الصالحة، مقدما الخضوع لإرادتـه الربانية.

لذلك حينما هدأ المسيح العاصفة فهو أيضا حول إيمان التلاميذ القديسين إلى الثقة ـ هذا الإيمان الذي كان قد أهتز مع السفينة، لم يعد المسيح يسوع يسمح له أن يكون فيه شك. وأعطى في داخلهم كما لو كان هدوءا مـسكتا أمـواج إيمانهم الضعيف. لأنه قال “أين إيمانكم”. ويؤكد إنجيل آخر عنه أنه قال “ما بالكم خائفين يا قليلي الإيمان” (مت 8: 26). لأنه حينما يحل الخوف من المـوت بدون توقع، فإنه يزعج أحيانا حتى العقل المؤسس جيدا ويعرضه إلى لوم قلة الإيمان. ويحدث مثل هذا التأثير أيضا من أي اضطراب آخر يفوق احتمـال أولئك الذين يجربون به. لأجل هذا السبب اقترب البعض مرة من المسيح وقالوا زد ايماننا ” (لو 17: 5). لأن الإنسان الذي لا يزال معرضا للـوم لأجـل قلـة الإيمان هو ناقص جدا عن ذاك الذي هو كامل في الإيمان. لأنه كما أن الذهب يمتحن في النار هكذا أيضا يمتحن الإيمان بالتجارب، ولكـن عـقـل الإنـسـان . ضعيف وهو يحتاج إلى القوة والمعرفة من فوق لكي يكون في حالة حـسنة، ولكي يستطيع أن يتخذ موقفا راسخا، ويكون قويا، ويحتمل برجولة كـل مـا يحل به.

وهذا ما علمنا إياه المخلص قائلاً ” بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئا ” (يو 15: 5). ويعترف بولس الحكيم بنفس الأمر حيث يكتب “أستطيع كـل شـي فـي المسيح الذي يقويني” (في 4: 14).

 لذلك فالمخلص أجرى معجزات محولاً بسلطانه الكامل العاصفة إلى هدوء، ومهدئا الريح الثائرة إلى سلام مستقر. ولكن التلاميذ إذ اندهشوا من الآيـة الإلهية تهامسوا الواحد مع الآخر قائلين: ” من هو هذا فإنه يأمر حتى الـريح والماء فتطيعه؟” فهل التلاميذ المباركين إذا يقولون الواحد للآخر، “مـن هـو هذا”، بسبب أنهم لا يعرفونه، ولكن ألا يكون هذا أمرا غير معقـول بـالمرة؟ لأنهم عرفوا أن يسوع هو الله، وهو ابن الله لأن نثنائيل أيضا اعترف بوضوح ” يا معلم أنت ابن الله، أنت ملك إسرائيل” (يو 1: 49). وبطـرس أيضا، ذلـك المزكي من بين كل الرسل حينما كانوا في قيصرية فيلبس وسـألهم المسيح جميعا قائلاً من يقول الناس أني أنا ابن الإنسان؟” (مت 16: 13). فالبعض أجابوا “قوم يقولون ايليا وآخرون إرميا أو واحد من الأنبياء”. حينئذ قـدم بطـرس اعترافا بالإيمان صحيحا وبلا لوم قائلاً “أنت هو المسيح ابـن الله الح (مت 16: 16). والمسيح مدحه لأنه تكلم هكذا، وكرمه بأكاليل، وحسب التلميذ مستحقا لكرامات فائقة، فقد قال له ” طوبى لك يا سمعان بن يونا، لأن لحمـا ودما لم يعلن لك لكن أبي الذي في السموات” (مـت 16: 17). فكيـف يستطيع بطرس وهو قد تعلم من الله ألا يعرف ذلك الذي قال عنه بوضوح أنه ابن الله الحي؟ فلم يكن التلاميذ إذا بسبب جهلهم بمجده قد قالوا “من هـو هـذا ؟” بـل بالحرى من اندهاشهم من عظمة قوته، ومن سمو عظمة سيادته التي لا تقارن. لأن اليهود التعساء أما بسبب جهلهم التام بسر المسيح، وأما بسبب عدم إعطائه أي اعتبار لشرهم العظيم، وبخوه وألقوا عليه حجارة حينما قال إن الله أبـاه. لأنهم تجاسروا حتى أن يقولوا “لماذا وأنت إنسان تجعل نفسك الـهـا؟” (يو١٠: 33). لأنهم لم يدركوا في ذهنهم عمق السر أن الله كان في شكل منظور مثلنا، ورب الكل أخذ شكل العبد، والذي هو. مرتفع جدا كان في حالـة التواضـع ، والذي يفوق كل إدراك عقلي ويعلو على كل المخلوقات كان مثلنا نحن البشر. وإذ عرف التلاميذ هذا، اندهشوا من مجد لاهوته وإذ أدركوا اللاهوت حاضرا في المسيح، ومع ذلك رأوا أنه كان مثلنا، ومنظورا في الجسد، فإنهم يقولـون هذا “؟ بدلاً من أن يقولوا ما أعظمه! وما هي طبيعتـه! وبـأي قـوة عظيمة وسلطان، وجلال، يأمر حتى المياه والريح فتطيعه؟ ويوجد أيضا كثير يستدعي الإعجاب لأولئك الذين يسمعونه، لأن الخليقة تطيع كل ما يـأمر بـه المسيح، وأي عذر يمكن أن ينفعنا، إذا لم نخضع نحن أيضا لنفعل نفس الأمر؟ أو من يستطيع أن ينقذ من النار أو الدينونة ذلك الذي يعصى ويتقسى واضعا كما لو كان عنق عقله المتعالي ضد أوامر المسيح، والذي قلبـه مـن غيـر الممكن أن يلين؟ لذلك فمن واجبنا ونحن نفهم أن كل تلك الأشياء التي أوجدها الله تتوافق تماما مع مشيئته، أن نصير نحن مثـل بقية الخليقـة ونتحاشـى العصيان كأمر يقود إلى الهلاك. إذا فلنخضع بالحرى لـذلك الـذي يـدعونا للخلاص، وللرغبة في الحياة باستقامة ولياقة أي أن نحيا إنجيليا، فإنـه بهـذا سوف يملؤنا المسيح بالمواهب التي تأتي من فوق ومن ذاته، والذي به ومعـه لله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور آمين.

عظة (44) إخراج لجئون من إنسان مجنون 26-36

(لو 8: 26 – 36) ” وساروا إلى كورة الجدريين التي هي مقابل الجليل. ولما خرج إلـى الأرض استقبله رجل من المدينة كان فيه شياطين منذ زمان طويل، وكان لا يلبس ثوبـا، ولا يقيم في بيت، بل في القبور. فلما رأى يسوع صرخ وخر له، وقال بصوت عظيم: مالي ولك يا يسوع ابن الله العلي؟ أطلب منك أن لا تعذبني!. لأنه أمر الروح النجس أن يخـرج من الإنسان. لأنه منذ زمان كثير كان يخطفه، وقد ربط بسلاسل وقيود محروسـا، وكـان يقطع الربط ويساق من الشيطان إلى البراري. فسأله يسوع قائلا: ما اسمك؟ فقال: لجئون. لأن شياطين كثيرة دخلت فيه. وطلب إليه أن لا يأمرهم بالذهاب إلى الهاوية. وكان هنـاك قطيع خنازير كثيرة ترعى في الجبل، فطلبوا إليه أن يأذن لهم بالدخول فيها. فـأذن لهـم فخرجت الشياطين من الإنسان ودخلت في الخنازير، فاندفع القطيع من على الجرف إلـى البحيرة واختنق. فلما رأى الرعاة ما كان هربوا وذهبوا وأخبروا في المدينة وفي الضياع، فخرجوا ليروا ما جرى. وجاءوا إلى يسوع فوجدوا الإنسان الذي كانـت الـشياطين قـد خرجت منه لابسا وعاقلا، جالسا عند قدمي يسوع، فخافوا. فأخبرهم أيضا الذين رأوا كيف خلص المجنون”

حبقوق النبي سبق فرأي مجد المخلص وإذ انغلب من أعماله العجيبـة، قـدم لـه تسابيح قائلاً ” يارب قد سمعت خبرك فجزعت، قد رأيت أعمالك فاندهشت” (حـب: اس). لأنه أي عمل من الأعمال التي أجراها مخلصنا جميعا المسيح، يستطيع أي واحـد أن يقول إنها ليست جديرة بكل إعجاب؟ فأي منها ليس عظيما وعاليا جدا ويستحق المديح بل هو برهان على سلطانه الإلهي؟ وهذا يمكن أن نراه بوضوح شديد فيما قد قرئ علينا الآن من الإنجيل. فلنلاحظ إذا كيف أن طغيان العدو قد هزه المسيح، والأرض تحـررت من شر الشياطين، فلننظر رؤوس الحية وقد جرحها الرب، وسرب الزحافـات الـسـامة مطرودة ومغلوبة في فزع، وأولئك الذين في الزمن القديم كانوا مملـوئين مـن المـكـر والتهور، الذين اخضعوا لسلطانهم كل الذين تحت السماء وتسلطوا على هياكلهم الغاليـة الثمن وعلى مذابحهم المزينة والذين كانوا يكرمون بالذبائح ويتوجون بمدائح شاملة، قـد سقطوا الآن من مجدهم السابق، وإذ لم يعد لهم سلطان ولا على إنـسـان واحـد، فـإنهم يتوسلون لأجل قطيع الخنازير! أنه برهان واضح جدا على البؤس غير المتوقع الذي حل بهم وبرهان على أنهم قد كسروا تماما.

ولكني ألاحظ أنني قد قفزت في حديثي مما بدأنا به، وأسرعنا إلى آخـر الـدرس مباشرة، لذلك تعالوا لكي نعود إلى البداية، لأن المخلص جاء بصحبة تلاميذه إلـى كورة الجدريين وفي الحال قابلهم إنسان تسكنه أرواح نجسة كثيرة، وكان خاليا مـن العقل والفهم، ولا يختلف في أي شئ عن أولئك الذين ماتوا ودفنوا فـي الأرض. أو بالحرى ربما كان في حالة أكثر بؤسا. لأن الموتى يلفون بعناية بالأكفان ويوضعون في الأرض مثل من يوضع في حضن أمه، أما ذلك الإنسان ففي بؤس عظيم وعرى كان يجول بين الموتى. وكان في تعاسة كاملة يعيش حياة مهينة حقيرة، وهـذا كـان برهانا على قساوة الشياطين ودليلاً واضحا على نجاستهم. وإلى جانب ذلك فإن هـذا كان تهمة ضدهم على كراهيتهم للجنس البشري، لأنهم لا يريدون لأي إنـسـان علـى الأرض أن يكون متزنا بل يرغبون أن يكون الجميـع كـسكارى ومجانين، وأن لا يعرفوا شيئا لفائدتهم، بل أن يتركوا في جهل حتى لذاك الذي هو صانع للكل. لأن أي إنسان يمتلكونه ويخضعونه لسلطانهم، فإنهم في الحال يجعلونه مثالاً لبـوس عظـيم محروما من كل بركة ومقفرا من كل تعقل ومعدما كلية حتى من العقل نفسه. ويسأل البعض قائلين لماذا تملك الشياطين على الناس؟ ولشرح هذا الأمر أجيب أن سبب هذه الأمور عميق جدا. ففي مكان ما يخاطب أحد القديسين الله قائلاً “أحكامـك لجة عظيمة” (مر36: 6). ولكن طالما أننا نضع هذا في أذهاننا فإننا سوف لا نحيد بعيدا عن العلامة الصحيحة. إذا فإله الكل يسمح للبعض أن يسقطوا تحت قـوة الـشيطان، ليس بقصد أن يعانوا، بل لكي ما نتعلم بمثالهم بأي طريقة تعاملنا الشياطين. وهكـذا نتحاشى أي رغبة في أن نكون خاضعين لهم، لأنه بآلام واحد يبنى كثيرون.

ولكن إنسان الجدريين، أو بالحرى سرب الشياطين المختفي داخله خر أمام قـدمي المسيح قائلاً: “مالي ولك يا يسوع ابن الله العلي؟ أتوسل إليك أن لا تعذبني” هنا أرجو أن تلاحظوا مزيجا من الخوف مع الوقاحة العظيمة والكبرياء المفرط. والكلمات التي يجبر على أن ينطق بها هي ممتزجة بتعالي وانتفاخ. لأن هذا هو برهان على كبرياء العدو، أنه يتجاسر ويقول “مالي ولك يا يسوع ابن الله العلي؟” فأنت تعلم بالتأكيد أنـه ابن الله العلي، لذلك فأنت تعترف أنه أيضا الله رب السماء والأرض وكل الأشياء التي فيها. فكيف إذا تغتصب ما ليس لك أو بالحرى ما هو له، وتنسب لنفسك مجدا لـيـس هو من حقك؟ لأنك تطلب أن تكون معبودا، قائلاً “مالي ولك”؟ وهو الذي تحاول أنت أن تطرده من تلك الكرامة التي تليق به وحده. إن كل الناس على الأرض هم ملك له وأنت بشر فظيع تفسدهم، وتبعدهم بعيدا عن معرفت ، هو بالحقيقة الرب وخالق الكـل، وتغرقهم في وحل الخطية جاعلاً إياهم عابدين لك ـ وبعد ذلك تقول مالي ولـك؟ أي ملك أرضي يحتمل أن الذين تحت حكمه يداسون بواسطة البرابرة؟ أو أي راع هو بلا شعور وعدم مبالاة حتى حينما تهجم الوحوش الضارية على قطعانه لا يهتم بالكارثـة ويحاول أن يساعد خرافه؟ اعترف إذا حتى رغم إرادتك من أنت ولمن أنـت تـتكلم وانطق بكلمات تناسبك مثل “أرجوك ألا تعذبني”، لأنه أمر ـ أي يسوع ـ الـروح النجس أن يخرج من الإنسان.

وأرجو أن تلاحظوا أيضا الجلال الذي لا يقارن في ذلك الذي يفـوق الكـل، أي المسيح. فبقدرة لا تقاوم وسلطان ليس له مثيل يسحق الشيطان بمجـرد أن يريـد أن يكون الأمر كذلك. وهو لا يسمح له أن يحاول أن يعطي نظرة معارضة لأوامره. إن إرادة المسيح كانت نارا ولهبا بالنسبة له، حتى أنه يصدق قول المرنم المبـارك ” إن الجبال تذوب مثل الشمع أمام وجه الرب” (مز 97: 5). وأيضا في مكـان آخـر يـقـول “يمس الجبال فتدخن” (مز 104: 32). لأنه يقارن قوات الشر العالية والمنتفخة بالجبال. وهذه القوات رغم اتصالها بالنار تذوب مثل الشمع أمام قدرة وسيدة مخلصنا. وإلـى جانب ذلك يدخنون، والدخان يشير إلى نار على وشك أن تنفجر إلى لهيب، وهذا هو النصيب الذي تعانيه الأرواح النجسة.

ولكن المسيح سأله وأمره أن يقول ما هو اسمه؟ فقال لجئون لأن شياطين كثيـرة دخلت فيه. فهل سأله لأنه لم يكن يعرف، ومثل واحد منام رغب أن يعلم اسمه كـشئ يجهله؟ ولكن كيف لا يكون هذا هراء كاملاً أن نقول أو نتخيل أي ش من هذا النوع؟ لأنه إذ هو الله “هو يعرف كل الأشياء، ويفحص القلوب والكلى” (انظر مز 5: 9). لـذلك فهو قد سأل لأجل خطة الخلاص لكي نعلم أن عددا كبيرا من الشياطين تملكت علـى نفس ذلك الإنسان، وولدت فيه جنونا رهيبا ونجسا. لأنه كان هو مجال عملهم، وهـم حقا كما يقول الكتاب ” حكماء في عمل الشر ولعمل الصالح ما يفهمون” (إر 4: 22). لذلك كما يقول المرنم “فلنعيد بالزهور” (مز 117: 27 س)، وأيضا ” يا جميـع الأمـم صفقوا بالأيادي” (مز 47: 1) فلنضع في ذهننا ما هي صفة أعدائنا؟ ومن هـم أولئـك الرؤساء على كل الذين تحت السماء قبل مجئ مخلصنا، أنهم كانوا مملوئين مـرارة ونجسين، وقتلة ومملوئين من كل شر. ولكن المسيح يحررنا من كراهية هذه الكائنات المؤذية. لذلك هيا نصيح بتهليل وفرح وبابتهاج عظيم “لنقطع قيودهم ولنطرح عنـا نيرهم” (مز 2: 3) لأننا قد أطلقنا أحرارا بقدرة المسيح وأنقذنا من تلك الكائنـات المـرة الأثيمة الذين في الزمن القديم كان لهم سلطان علينا.

إذا فسرب الأرواح النجسة طلبوا سربا من الخنازير جدير بـهـم ومماثـل لهـم! والمسيح أعطاهم الإذن رغم أنه عرف جيدا ماذا سيفعلون. وأستطيع أن أتخيل واحدا يسأل: لماذا منحهم ما طلبوه؟ فنجيبه، أنه أعطاهم القوة لكي مثل كل أعماله الأخـرى يكون ذلك واسطة لمنفعتنا ويلهمنا برجاء الأمان. ولكن ربما ستقول كيـف وبـاي طريقة؟ أنصت إذا إنهم يسألون أن ينالوا قوة على الخنازير وهذا يوضح أنه لم تكـن لهم هذه القوة. لا يوجد شك أنه لو كانت لهم هذه القوة لما طلبوها إن كان في سلطانهم أن يأخذوها بدون مانع. ولكن أولئك الذين ليس لهم قوة على الأشياء التافهة والتي لا قيمة لها، كيف يستطيعون أن يؤذوا أي واحد من الـذين خــتمهم المسيح، والـذين يضعون رجاءهم فيه؟ لذلك فليتعزى قلبك ويستريح لأنك ربما فزعت عندما سمعت أن جمعا من الأرواح الشريرة سكن في إنسان واحد وجعله يتجول بين قبور الأموات في خزي وعري ومحروما من العقل والفهم وإذ أنك إنسان معرض للتجارب فإنك تخشى تعاسة مرة هكذا وغير محتملة لو هاجمك الشيطان، لذلك أنهض قلبك إلى الثقـة، ولا تفترض أن أي شئ من هذا يمكن أن يحدث بينما المسيح يحوطنا بالحماية والحـب. بالتأكيد أنهم لا يملكون قوة حتى على الخنازير. عظيمة جدا هي العناية التي ينعم بها على جنس البشر، المعتني القدير بأمورنا، لأنه قال للرسل القديسين “أليس عصفوران يباعان بفلس وواحد منهما لا يسقط على الأرض بدون أبيكم وأما أنتم فحتى شـعور رؤوسكم جميعا محصاة، فلا تخافوا أنتم أفضل من عصافير كثيرة” (مت 10: 29 و30).

لأنه إن كان يمنح حمايته للأشياء التافهة والتي بلا قيمة فكيف لا يحسبنا مستحقين لكل اعتبار نحن الذين من أجلنا تأنس ذلك الذي هو بالطبيعة الله، واحتمل الازدراء مـن اليهود؟ لذلك اطردوا كل خوف، لأن الله يساعد، ويحيط بسلاح مسرته الصالحة أولئـك الذين يرغبون أن يعيشوا له، والذين يسعون أن يمارسوا تلك الأشياء المرضية في نظره. وهذا أيضا نتعلمه مما حل بقطيع الخنازير، أن الشياطين الأشـرار هـم قـسـاة ومسببون للأذى ومؤلمون وغادرون بأولئك الذين يقعون تحت سلطانهم. وهذا ما يثبته الواقع بوضوح، أنهم دفعوا الخنازير من على الجرف وأغرقوهم في الميـاه. لـذلك فالمسيح أعطاهم ما طلبوا، لكي ما نتعلم مما حدث أن اتجاههم قاسي ووحشي وأنهـم غير قابلين لأن يلينوا، ويقصدون فقط أن يفعلوا الشر بأولئك الـذي يستطيعون أن يأخذوا قوة عليهم.

لذلك فإن كان واحد بيننا شهواني وخنزيري ومحب للقذارة ونجس، وملوث بإرادته بالخطية الكريهة، مثل هذا الإنسان يسقط بإذن من الله تحت سلطانهم ويغرق في هاوية الهلاك. ولكن لا يمكن أن يحدث لأولئك الذين يحبون المسيح أن يصيروا خاضعين لهم. ولا يمكن أن يحدث لنا طالما أننا نسير في أثر خطواته ونتحاشى الإهمال فـي ممارسة ما هو مستقيم ونرغب في تلك الأشياء التي هي كريمة والتي تختص بالسيرة الفاضلة الجديرة بالثناء، التي علمنا إياها المسيح بتعاليم الإنجيل، الذي به ومعـه، الله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور آمين.

عظة (45) ابنه يايرس، وشفاء نازفة الدم 40-48

(لو 8: 40-48) ” ولما رجع يسوع قبلة الجمع لأنهم كانوا جميعهم ينتظرونـه. وإذا رجل اسمه يايرس قد جاء، وكان رئيس المجمع، فوقع عند قدمي يسوع وطلـب إليـه أن يدخل بيته، لأنه كان له بنت وحيدة لها نحو اثنتي عشرة سنة، وكانت في حـال المـوت. ففيما هو منطلق زحمته الجموع، وامرأة بنزف دم منذ اثنتي عشرة سنة، وقد أنفقـت كـلّ معيشتها للأطباء، ولم تقدر أن تشفى من أحد، جاءت من ورائه ولمست هدب ثوبه. ففـي الحال وقف نزف دمها. فقال يسوع: من الذي لمسني؟ وإذ كان الجميع ينكرون، قـال بطرس والذين معه: يا معلم، الجموع يضيقون عليك ويزحمونك، وتقول: من الذي لمسني؟ فقال يسوع: قد لمسني واحد، لأني علمت أن قوة قد خرجت مني. فلما رأت المرأة أنها لم تختف، جاءت مرتعدة وخرت له، وأخبرته قدام جميع الشعب لأي سبب لمسته، وكيـف برئت في الحال. فقال لها: ثقي يا ابنة، إيمانك قد شفاك، اذهبي بسلام “.

أولئك الذين هم ماهرون في شرح سر تدبير الابن الوحيد في الجسد، وأولئك الذين استنارت عقولهم بالنور الإلهي، يوصيهم الروح قائلاً ” حدثوا بين الأمم بمجده، وبين جميع الشعوب بعجائبه ” (مز 96: 3). فهل يأمر الروح إذا أن يعلنوا مجد مخلصنا جميعا المسيح بين جماهير الأمم، وإلى سكان العالم كله، لأنه ليس بأي سبب آخر غير ذلك يمكن أن يكون موضع الإعجاب أو لكي ما يؤمن به أيضا جميع الناس. أنـي أؤكـد حقيقة أنه لكي ما يكون هو موضع الإعجاب وأيضا لكي ما نؤمن أن كلمـة الله الأب هو الله نفسه، حتى رغم أنه كما يقول يوحنا “قد صار جسدا” (يو1: 14)، لأنه أيضا في موضع آخر يعلن لليهود ” إن كنت لست أعمل أعمال أبي فلا تؤمنوا بي، ولكـن ان كنت أعمل فإن لم تؤمنوا بي فآمنوا بالأعمال” (يو 10: 37، 38). 

هيا بنا مرة أخرى نراه وهو يفيد الجموع بالمعجزات التي صنعها لأجل خيـرهم. لأنه كان هناك رئيس ومعلم لمجمع اليهود اسمه يايرس كما يعلن لنا الإنجيل هنا. هذا وقع عند قدمي المسيح مخلصنا جميعا ليسأل لأجل إبطال الموت وملاشاة الفساد. لأن ابنته كانت على أبواب القبر. فتعالوا ودعونا نسأل يايرس ليخبرنا في أي ضوء هـو ينظر إلى ذاك الذي يقدم إليه توسله؟ لأنك إن اقتربت منه معتبرا إياه مجرد إنسان، أو مثل واحد منا أي كواحد لا يملك أي قوة أعلى من ذواتنا، فإنك تخطئ، وتكـون قـد ضللت عن الطريق الصحيح بطلبك من إنسان ما يستلزم قوة الله. إن الطبيعة العاليـة وحدها تستطيع أن تعطي حياة للموتى. هي وحدها لها عدم الموت. لأن كل شئ يأتي إلى الوجود يأخذ حياته وحركته منها. لذلك أطلب من الناس الأشياء التي تخص الناس وأطلب من الله الأشياء التي تخص الله.

وبالإضافة إلى ذلك أنت تعبده كالإله القدير، وأنت تفعل ذلك عارفا بالتأكيد وشاهدا أنه يستطيع أن يعطيك إجابة طلباتك. لذلك فأي كلام يكفي للدفاع عنك أيها الذي ترجم المسيح مخلص الكل وتضطهده أنت والباقين؟ وبغباوة شديدة وعدم تقـوى تقولـون: “لسنا نرجمك لأجل عمل حسن، بل لأجل تجديف لأنك وأنت إنسان تجعل نفسك إلها ” (یو 10: 33).

ولا يجب أن نتعجب من هذه المعجزة فقط، بل من الآتية أيضا. لأن لعـازر قـام بالحقيقة من الموت بدعوة المسيح له، الذي جعله يخرج من القبر حينما قد كـان لـه أربعة أيام فيه. والفساد كان قد بدأ في جسده. وأولئك الذين كانوا مشاهدين للمعجـزة اندهشوا من جلال الفعل. أما رؤساء مجمع اليهود فقد جعلوا من نفس المعجزة طعاما للحسد. وهذا العمل العظيم الرائع اختزنوه في ذاكرتهم كبذرة تنمو منها معصية القتل. لأنهم حينما اجتمعوا تشاوروا مع بعضهم ليس لأجل عمل مشروع، بل بالحرى لأجل عمل قد أتي عليهم بالهلاك النهائي، لأنهم قالوا ماذا نصنع؟ فإن هذا الإنسان يعمـل آيات كثيرة، إن تركناه هكذا يؤمن الجميع به فيأتي الرومانيون ويأخـذون موضعنا وأمتنا ” (يو11: 47، 48). فماذا تقول إذا لهذا؟ أنت رأيت الموت يتلاشى في حالة لعازر، الموت الذي كان دائما ولكل واحد سابقا، كان قاسيا وغير خاضع. أنت رأيت الهلاك يفقد سلطانه، الذي لم يهرب منه أي واحد على الأرض. فكيف إذا تتخيل أنك تستطيع أن تجعله خاضعا للموت، ذلك الذي هو فوق الموت، وهو الذي يطرح الهلاك، وهـو معطي الحياة؟ كيف يستطيع ذلك الذي أنقذ آخرين من مخالب الموت أن يعاني هـو نفسه منه إن لم يرد هو ذلك لكي يتمم خطة الخلاص. لذلك فالقول المختص بهم هـو حقيقي ” أنهم بنون جاهلون وهم غير فاهمين” (إر 4: 22).

ولكن مصير الصبية لم يكن بدون نفع لأبيها لأنه كما يحدث أحيانا أن شدة الأعنة ترجع الجواد المسرع الذي خرج عن الطريق وتعيده إلى الطريق الصحيح، هكـذا أيضا فإن الاضطراب كثيرا ما يضطر نفس الإنسان أن تخضع لتلك الأشياء التي هي لخيرها. ونجد داود المبارك يخاطب الله عن هذا أيضا فيما يخص أولئك الناس الذين لا يريدون بعد أن يسلكوا باستقامة، بل وكانوا منقادين بانفعالات عقولهم المضطربة إلى هوة الهلاك فيقول: ” بلجام وزمام أنت تضبط فك أولئك البعيدين عنـك” (مز 31: 9 س). لأن قوة الظروف تأتي بالناس كما قلت، حتى ضد إرادتهم إلى ضرورة إحنـاء عنقهم الله كما يمكن أن نرى واضحا بطريق غير مباشر فـي أمثـال الإنجيـل. لأن المسيح قال في موضع ما أنه حينما كانت الوليمة مستعدة أرسل عبدا ليدعو المدعوين إلى العشاء ويجمع أولئك الذين دعوا، ولكنهم بواسطة أعذار زائفة متنوعة لم يـأتوا. حينئذ يقول الإنجيل إن الرب تكلم إلى العبد قائلاً “أخرج إلى الطرق والسياجات والزمهم بالدخول حتى يمتلئ بيتي” (لو 14: 23). فما هو إذا معنى دعوة النـاس مـن السياجات وذلك كما لو كان بالقوة، إن لم يكن هو المعنى المـشـار إليـه هنـا؟ (أي بواسطة الضيقات) فإن الكوارث التي تفوق الاحتمال تؤدي بالناس أحيانا إلى بـؤوس شديد. وعندما يلقون عناية ومساعدة من أولئك الذين يتقون المسيح، فـإنهم بـذلك يرشدونهم إلى الإيمان به ومحبته. وإذ يفطمون من ضلالهم السابق الذي تسلموه مـن آبائهم، فإنهم يقبلون كلمة الإنجيل المخلصة. ونحن نؤكد أن مثل أولئـك هـم الـذين يدعون من السياجات. فإنهم بالحقيقة أكثر عظمة وجـدارة بالمـديح حينمـا يـكـون الانسحاب من الضلال السابق والإسراع إلى الحق هو ثمرة الإرادة الحـرة. ومثـل هؤلاء التائبين إذ يجمعون تأكيدات إيمانهم من الكتب المقدسة ويتمتعون بالتعليم مـن  الرجال المهرة في إدخال الناس إلى الأسرار، سوف يتقدمون إلى الأمام إلـى إيمـان صحيح وبلا لوم. أما أولئك الآخرون الذين يشتعلون ـ إذا استعملنا هذا التعبيـر بالأخبار والاضطرابات التي تقابلهم، لكي يعترفوا بالحق، هم ليسوا متساوين مـع السابقين، ولكن حينما يدخلون ينبغي أن يكونوا حريصين أن يدوموا ثابتين، ويهربون من تقلب البطش، لأنه من واجبهم أن يحتفظوا بإيمان غير متزعـزع لـئـلا يوجـدوا عمالاً مرفوضين وضعفاء ومرتدين بعد الختم ، ويكونوا جبناء وخائفين بعد أن حملوا السلاح. فدعهم لا يرجعون مسرعين إلى أعمالهم السابقة لئلا يقال عنهم ما تحدث به أحد الرسل للقديسين “لأنه كان خيرا لهم لو لم يعرفوا طريق البر من أنهـم بـعـدما عرفوه يرتدون عن الوصية المقدسة المسلمة لهم. قد أصابهم ما في المثـل الـصادق كلب قد عاد إلى قيئه وخنزيرة مغتسلة إلى مراغة الحماة” (2بط 2: 21، 22).

ولكي لا يطول بنا هذا الحديث دعونا نعود إلى موضوعنا الأصلي. فيايرس يقترب حينئذ، ولكننا ننكر أن مجيئه كان ثمرة إرادة حرة، بل بالحرى فإن الخوف من الموت هو الذي جعله يتصرف ضد إرادته. فإن الموت بدأ يهاجم ابنته فعـلا وكانـت ابنـة وحيدة له، فقد جعل شهوة كلماته الرديئة وأفكاره كلا شئ. فهو الذي كثيرا ما حـاول أن يتهجم على المسيح لأقامته الميت من القبر والآن يسأل منه أن يبطل الموت. ولكي يظهر إذا أن أخلاقه خشنة ورديئة ولكي يتوبخ عن ذلك بالأعمال نفسها، فإن المسيح يصحبه ويلبي طلبه.

ولكن كان هناك نوع من التصرف الحكيم فيما حدث. فلو أن المسيح لم يلب طلبه للنعمة فإنه هو وكل من يعاني تحت نفس الجهل مثله أو بالحرى يعاني من نقص الفهم الحسن، كان يقول إن المسيح لم يكن قادرا أن يقيم الفتاة، ولا أن يطرد الموت منهـا حتى لو كان قد ذهب إلى المنزل، وأنه كان إذا بـدون قـوة ولا يستطيع أن يـتمم المعجزة الإلهية، وأنه جعل عدم رضاه عن يايرس حجة للابتعاد بعيدا. ولذلك لكـي يوقف أفكار اليهود النجسة والجامحة ويلجم ألسنة أشخاص عديدين هم على اسـتعداد لاصطياد الأخطاء، فإنه يوافق في الحال وبعد أن يقيم الفتاة التي كانت في خطر، وقد اتبع الوعود بالتتميم لكي لا يكون لهم عذر في عدم الإيمان من جهتهم، ولكي تكـون هذه المعجزة مثل غيرها لدينونتهم، لأن المسيح أيضا قال عنهم “لو لم أكن قد عملت بينهم أعمالا لم يعملها أحد غيري لم تكن لهم خطية، وأما الآن فقد رأوا وأبغضوني أنا وأبي” (يو 15: 24). حينئذ ذهب المخلص ليقيم الصبية، ولكي يغرس في سكان الأرض الرجاء الأكيد بالقيامة من الموت.

شفاء نازفة الدم

ولكن بينما كان في منتصف الطريق فإن معجزة أخرى شبيهة بالسابقة حـدثت بطريقة عجيبة، فقد كانت هناك امرأة مصابة بنزف دم وهو مرض شديد وردئ. لـم يخضع لمهارة الأطباء وفشلت فيه كل العلاجات البشرية. لأنها لم تقدر أن تشفى من أحد، رغم أنها انفقت كل معيشتها على أولئك الذين وعدوا أن ينقذوها من مرضـها. لذلك حينما فقدت المراة البائسة كل رجاء في البشر، وتعيش الآن في بؤس تام فإنهـا فكرت في خطة حكيمة. لأنها لجأت إلى الطبيب الذي من فوق من السماء باعتبـاره هو الذي يستطيع بسهولة وبدون جهد أن يحقق تلك الأشياء التي تفوق قوتنا. وأي شئ يقرره مهما كان فهو يتممه ولا يوجد ما يستطيع مقاومته.

إن إيمانها بهذا ربما جاء بمناسبة رؤيتها ليايرس وهو يأخذ يسوع معه إلى بيتـه ليتبرهن أنه أقوى من الموت، بإنقاذ ابنته من رباطات الموت التي لا فكاك منها. لأنها ربما فكرت داخل نفسها، أنه إن كان هو أقوى من الموت، وهو محطم الفـسـاد فـكـم بالأكثر يستطيع أيضا أن يشفيها من المرض الذي أصابها ويغلق بقوته الفائقة ينابيع نزف دمها! لذلك اقتربت منه ولمست هدب ثوبه، ولكن سرا وليس علانية، لأنها كانت تأمل ألا يلاحظها أحد، وكما لو كانت، تريد أن تسرق الشفاء من واحد دون أن يعلـم ذلك. ولكن أخبروني لماذا كانت المرأة حريصة ألا يلاحظها أحد؟ لماذا لم تقترب من المسيح بجرأة أكثر من ذلك الأبرص وتسأل الشفاء من مرضها غير القابل للـشفاء؟ لأن الأبرص قال “يا سيد أن أردت تقدر أن تطهرني” (لو 5: 12). ولماذا لم تفعل مثل الأعميان اللذان حينما عبر بهما المسيح صرخا قائلین “ارحمنا يا سيد يا ابـن داود ؟”(مت 20: 30). فما الذي جعل تلك المريضة ترغب أن تظل مختفية؟ ذلـك أن ناموس موسى الحكيم ينسب النجاسة لأي امرأة تعاني من نزف الدم، ويدعوها نجسة والتي تكون نجسة لا ينبغي أن تلمس أي شئ طاهر، ولا تقترب من أي إنسان مقدس. لهذا السبب كانت المرأة حريصة أن تظل مختفية، لئلا بتعـديها الناموس تتعـرض للعقاب الذي يفرضه. وحينما لمست المرأة هدب ثوبه فإنها شفيت فـي الحـال ودون تأخير.

ولكن المعجزة لم تظل خافية، لأن المخلص رغم أنه يعرف كل الأشياء سأل كمـا لو كان لا يعرف قائلاً ” من لمسني؟” وحينما قال له الرسـل القديسون ” الجمـوع مضيقون عليك ويزحمونك”. فإنه يضع أمامهم ما قد حدث قائلاً: ” من لمسني لأنـي علمت أن قوة قد خرجت مني”، فهل إذا لأجل محبة المجد لـم يـسمـح الـرب لهـذه المعجزة الإلهية التي حدثت للمرأة أن تظل مختفية؟ حاشا أن نقول هذا بل بالحرى لأنه دائما يضع في اعتباره منفعة أولئك الذين يدعون إلى النعمة بواسطة الإيمان. إن إخفاء المعجزة كان سيكون ضارا لكثيرين، ولكن بإعلانها قد أفادتهم بدرجـة غيـر قليلة، وخصوصا رئيس المجمع نفسه، لأنها أعطت ضمانا للرجاء الذي كان يتطلـع إليه، وجعلته يثق بيقين أن المسيح سينقذ ابنته من رباطات الموت.

ولكن هذه المعجزة هي موضوع مناسب لإعجابنا، لأن تلك المرأة أنقذت، إذ قـد تحررت من حالة من المعاناة مرة جدا وغير قابلة للشفاء، وبذلك فنحن نحصل علـى يقين أكيد أن عمانوئيل هو الله نفسه، كيف وبأي طريقة؟ من الحادثة المعجزة نفسها، ومن الكلمات التي تكلم بها بكرامة إلهية، لأنه قال “لأني علمت أن قوة قد خرجـت مني” ولكن هذا يعلو على مستوانا البشري ربما حتى مستوى الملائكة أن نرسل أيـة قوة من طبيعتها الخاصة بشئ من ذاتها. أن مثل هذا الفعل هو صـفة مناسبة فقـط للطبيعة التي هي فوق الكل. والأعلى من الكل لأن كل كائن مخلوق مهما كان يمـنـح قوة سواء للشفاء أو ما يماثل ذلك ولا يملك هذه الثمرة من ذاته، بل کشی معطى لـه من الله. لأن المخلوق كل الأشياء هي معطاة له وتتم فيه. ولكن من ذاته لا يستطيع أن يفعل شيئا. لذلك، كإله قال ” علمت أن قوة قد خرجت مني “. والآن قدمت المرأة اعترافا بما حدث وقد تركت مع المرض الـذي شـفيت منـه الخوف أيضا، وهو الذي جعلها ترغب في أن تظل مختفية، أمـا الآن فقـد أعلنـت المعجزة الإلهية، ولذلك حسبت أهلاً لكلماته المطمئنة، ونالت تأكيدا لها بأنها لن تعان من مرضها بعد ذلك، لأن مخلصنا المسيح قال لها “يا ابنة ايمانك قد شفاك. اذهبي بسلام “.

وهذا أيضا كان لمنفعة يايرس رغم أنه كان في الحقيقة درسا قاسيا. لأنه تعلم أنه لا العبادة الناموسية، ولا سفك الدم، ولا ذبح الماعز والثيران، ولا ختان الجـسد، ولا راحة السبوت ولا أي شئ آخر من هذه الأمور المؤقتة والرمزية يستطيع أن يخلص سكان الأرض. الإيمان بالمسيح فقط يستطيع أن يعمل هذا. الذي بواسطته تبرر حتى إبراهيم المبارك، ودعى خليل الله، وحسب اهلا لكرامات خاصة. وقد أعطيت بركـة الله أيضا لأولئك الذين بحسب الموعد سيكونون أبناءه، أي لنا نحن، “لأن ليس جميع الذين من إسرائيل هم إسرائيليون، ولا لأنهم من نسل إبراهيم هم جميعا أولاد. بـل أولاد الموعد يحسبون نسلاً” (رو9: 6-8). إذا هذه النعمة تختص بنا، لأننا قد نلنا التبني كأبناء لإبراهيم ” متبررين ليس باعمال الناموس بل بالإيمان بالمسيح” (انظر غل٢: ١٦)، الذي به، ومعه. الله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس. إلى دهر الدهور آمين.

عظة (46) إقامة ابنة يايرس 49-56

(لو 8: 49- 56) ” وبينما هو يتكلم، جاء واحد من دار رئيس المجمع قائلا له: قد ماتت ابنتك. لا تتعب المعلم. فسمع يسوع، وأجابه قائلا: لاتخف! آمن فقط، فهي تشفى. فلمـا جاء إلى البيت لم يدع أحدا يدخل إلا بطرس ويعقوب ويوحنا، وأبا الصبية وأمهـا. وكـان الجميع يبكون عليها ويلطمون. فقال: لا تبكوا. لم تمت لكنها نائمة. فضحكوا عليه، عارفين آنها ماتت. فأخرج الجميع خارجا، وأمسك بيدها ونادي قائلا: يا صبية، قومي!. فرجعت روحها وقامت في الحال. فأمر أن تعطى لتأكل. فبهت والداها. فأوصاهما أن لا يقولا لأحد عما كان “.

هلم يا جميع محبي مجد المخلص، هلم وانسجوا أكاليل لرؤوسكم، تعـالوا أيضا، لكي ما نبتهج به، وبينما نحن نمجده بتسابيح لا تنتهي، دعونـا نقـول بكلمات النبي إشعياء “يارب أنت إلهي أعظمك. أحمد اسمك لأنـك صـنعت أعمالا عجيبة. مقاصدك منذ القديم أمانة وصدق” (إش 25: 1)، ما إذا مشورة الله الآب وقصده الذي كان منذ القديم. وكان صدقا؟ واضح أن الأمر يخـصنا نحن لأن المسيح سبق فعرف سره حتى قبل تأسيس العالم. ولكن في الأزمنة الأخيرة للعالم نهض لأجل سكان الأرض، وإذ قد حمل خطيـة العـالم فإنـه يبطلها ويبطل الموت أيضا الذي نتج عنها، والذي جلبناه على أنفسنا بواسـطة الخطية. لأنه هكذا قال هو نفسه بوضوح ” أنا هو القيامة والحياة، من يـؤمن فله حياة أبدية ولا يأتي إلى دينونة بل قد انتقل من المـوت إلـى الحيـاة” (يو 11: 25، 5: 24). وهذا هو ما نراه يتحقق بالوقائع الفعلية لأن رئيس مجمـع اليهود اقترب منه واحتضن قدمي المخلص، وطلب منه أن ينقـذ ابنتـه مـن رباطات الموت. لأنها كادت أن تصل إلى حالة الموت وكانـت فـي خـطـر عظيم، ووافق المخلص وانطلق معه، بل إنه كان يسرع إلى بيت ذلـك الـذي طلب منه هذا الإحسان. وكان يعرف أن ما يحدث سوف ينفع كثيـريـن مـن أولئك الذين يتبعونه، وسوف يكون أيضا سببا لمجده. وفي الطريـق شـفيت المرأة التي كانت فريسة لمرض غير قابل للشفاء (نازفة الدم)، لأنهـا كـانـت تعاني من نزف دم لم يستطيع أحد أن يوقفه حتى أن مهارة الأطباء كانت بـلا فائدة، ولكنها بمجرد أن لمست هدب ثوبه بإيمان، فإنها شـفيـت فـي الحـال. وهكذا حدثت معجزة مجيدة وظاهرة نتيجة مجرد سير المسيح في الطريق. وهو رب وبعد ذلك جاء واحد من بيت رئيس المجمع قائلاً له ” ابنتك قـد مـاتـت لا تتعب المعلم”. فماذا إذا كان جواب المسيح إذ هو يملك سلطانا كاملاً الحياة والموت، وبقرار إرادته الكلية القدرة يتمم كل ما يريد؟

لقد رأى الرجل مضغوطا بأثقال الحزن، ويكاد يغمى عليه، وهو مذهول ويكاد ييأس من إمكانية إنقاذ ابنته من الموت. لأن الكوارث تستطيع أن تسبب اضطرابا حتى للعقل الذي يبدو متماسكا، وأن تبعده عن أفكاره المستقرة. لذلك فلكي يساعده، أعطاه كلمة رحمة مخلصة، يمكن أن تسنده في حالته الحـائرة، وتخلق فيه إيمانا غير متذبذب، إذ قال له “لا تخف، أمن فقط، وهي ستحيا “.

ولما جاء إلى البيت، بدأ يهدئ نواحهم، ويسكت المزمرين، ويكفكف دموع الباكين قائلاً “الصبية لم تمت لكنها نائمة”. ويقول الإنجيـل إنهـم ” ضـحكوا عليه”، وأرجو أن تلاحظوا هنا المهارة العظيمة في التعامل فرغم أنه عـرف جيدا أن الصبية كانت ميتة لكنه قال “أنها لم تمت، ولكنها نائمة”. ولماذا قـال هذا؟ فإنهم بضحكهم عليه أعطوا اعترافا واضحا أن الصبية قد ماتت، لأنه من المحتمل أن يكون هناك بعض من تلك الفئة التي كانت دائما تقـاوم مجـده، أولئك الذين يرفضون المعجزة الإلهية ويقولون إن الصبية لم تكن قـد مـاتـت بعد، وأنه بإنقاذها من المرض لم يكن هناك شئ فوق العادي فعلـه المسيح. لذلك فلكي ينتزع اعتراف كثيرين أن الصبية قد ماتت قال “إنها نائمـة”، ولا يستطيع إنسان أن يقرر أن المسيح تكلم بغير الحق. فإنه بالنسبة إليـه إذ هـو نفسه الحياة بالطبيعة، ليس هناك شئ ميت، وهذا هو السبب الذي يجعلنا نحن الذين لنا رجاء ثابت في قيامة الموتى، أن نسميهم “الراقدين” لأنهم سيقومون في المسيح، وكما يقول بولس المبارك ” هم يحيون معـه ” (رو6: 8). ويعنـي أنهم سيحيون.

ولكن لاحظوا هذا أيضا. فكما لو أنه يريد أن يعلمنـا أن نتجنـب المجـد الباطل، رغم أننا لن نستطيع بالتأكيد أن نجري مثل هذه الأعمـال العجيبـة، حينما جاء إلى البيت الذي كانت ترقد فيه الصبية ميتة، فإنه أخذ معه ثلاثة من الرسل القديسين وأبا الصبية وأمها.

والطريقة التي أجرى بها المعجزة طريقة جديرة بالله. فكما يقول الإنجيـل، أمسك بيد الفتاة وقال، يا صبية قومي، فقامت في الحال. يالقوة هـذه الكلمـة، وقدرة الأوامر التي لا يستطيع شئ أن يقاومها! ويا لهـذه اللمـسة المعطيـة للحياة، من يده، تلك اللمسة التي تبيد الموت، والفساد! هذه هي ثمار الإيمـان، الذي لأجله أعطى الناموس أيضا للقدماء بواسطة موسى.

ولكن ربما يقول أحد هنا: ولكن أي إنسان يستطيع أن يرى أن الفرائض التي أمر بها الناموس ليست مثل الإيمان بالمسيح، بل هي مختلفة عنـه، لأن الناموس يأمرنا أن نقدم ذبائح دموية، والإيمان يرفض كل شئ من هذا النوع، وقد أتي للبشرية بعبادة تقدم بالروح وبالحق. لأن المسيح نفـسـه يـتكلم فـي اسطة قيثارة المرنم موجها الحديث الله الآب في السماء “نبيحـة وقربانا لم ترد، بمحرقات وذبائح للخطية لم تسر، ولكن هيأت لي جسدا. ثـم قلت هأنذا أجئ في درج مكتوب عني، لأفعل مشيئتك بـالله” (مز 39: 6، 7س). لذلك فالتقدمات الدموية لا تنفع، ولكن الرائحة الطيبة للعبادة الروحيـة هـي مقبولة تماما عند الله. وهذه العبادة لا يستطيع أحد أن يقدمها له إن لم يكن لـه أولاً ذلك الإيمان الذي هو بالمسيح. ويشهد بولس المبارك لهذا الإيمان، حيث موضع ما بو يكتب “بدون ايمان لا يمكن إرضاؤه” (عب 11: 6).

لذلك فمن الضروري لنا أن نشرح بأي معنى نحن نقول إن الناموس قـد أعطى بسبب الإيمان. فإبراهيم المبارك تبرر بالطاعة والإيمان لأنه مكتوب أن ” إبراهيم آمن بالله ودعى خليل الله وحسب له الإيمان برا” (يع 2: 23). ووعـده الله أنه سيكون أبا لأمم كثيرة، وأن كل الأمم ستتبارك فيه، أي بالتمثل بإيمانه. لذلك يمكن أن نرى أن النعمة التي بواسطة الإيمان سابقة على الفرائض التي أمر بها الناموس، إذ أن إبراهيم وصل إلى هذه النعمة بينما كان لا يزال غير مختون. وفيما بعد، بعد فترة من الزمن دخل الناموس على يد موسى. فهل هو يطرح بعيدا التبرير الذي بواسطة الإيمان، أعني الذي وعد بـه الله لأولئـك الذين يتبعون خطوات إيمان أبينا إبراهيم، الذي كان له وهو لا يزال غيـر مختتن؟ ولكن كيف يكون هذا صحيحا؟ لذلك يكتب بولس المبارك ” وإنما أقول هذا أن الناموس الذي صار بعد أربعمائة وثلاثين سنة لا ينسخ عهدا قد سبق فتمكن من الله نحو المسيح، حتى يجعل الموعد الذي أعطـى للأبـاء باطلاً (غل 3: 17). وأيضا يقول ” هل الناموس ضد مواعيـد الله؟ حاشـا” (غـل 3: 21) وبولس الإلهي نفسه يعلمنا الأسباب التي لأجلها دخل الناموس بواسطة خدمـة ملائكة، والطريقة التي بها يدعم الإيمان بالمسيح، إذ أن الناموس قـد أعطـي قبل زمن تجسد الابن الوحيد، وهو يقول مرة أن ” الناموس دخل لكــي تكثـر الخطية” (رو 5: 20). وفي مرة أخرى ” إن الكتاب أغلـق علـى الكـل تحـت الخطية” (غـل 3: 22)، ويقول أيضا: “لذلك، فالناموس قد زيد بسبب التعـديات ” (غلا 3: 19).

هل تريدون أن تعرفوا كيف أغلق الكتاب على الكل تحت الخطيـة؟ إنـي سأشرح هذا الأمر بأقصى ما هو في استطاعتي. فالأمم، الذين كانوا حينئذ بدون إله، ولا رجاء لهم، كانوا في هذا العالم كأناس مسجونين فـي شـراك الدناءة، ومعلقين في حبال الخطية بلا رجاء في النجاة. ومن الجهة الأخـرى كان الإسرائيليون حاصلين على الناموس كمؤدب حقا، ولكن لـم يـستطع أي إنسان أن يتبرر بواسطته. فلم تكن أي منفعة من تقديمهم ذبائح دمويـة عـن خطاياهم. وهذا ما يشهد له بولس أيضا قائلاً ” لأنـه لا يمكـن أن دم ثيـران وتيوس يرفع خطايا” (عب 10: 4). إن الناموس هو برهان على ضـعف جميـع البشر، ولذلك فإن بولس المبارك يسميه ” خدمة الدينونة” (2كو 3: 7). وقد كثرت الخطية بواسطة الناموس. وذلك ليس كأنه يجعل الإنسان يخطئ، بل بـالحرى لأنه يعلن دينونة كل من هو تحت التعدي. لذلك فقد أعطى الناموس بـسبب التعديات، حتى أنه ليس هناك إنسان يستطيع أن يصل إلى حياة بلا لوم، فـإن مجئ التبرير الذي بواسطة المسيح يصير أمرا ضروريا تماما. فلم يكن هناك طريق آخر يستطيع سكان الأرض أن يهربوا بواسطته من طغيان الخطية. إذا فالناموس دخل أولاً لأجل الإيمان، لكي يكشف خطية أولئـك الـذيـن كـانوا معرضين للضعفات. ويثبت أنهم خطاة. لذلك فالناموس كما لو كـان يرسـل الناس إلى التطهير الذي في المسيح بواسطة الإيمان. ولهذا السبب كتب بولس المبارك أيضا: ” إذن قد كان الناموس مؤدبنا إلى المسيح… ولكن بعدما جـاء الإيمان لسنا بعد تحت مؤدب” (غلا 2: 24 ، 25)، لأننا جميعا أبناء الله بالإيمـان بالمسيح يسوع.

إذا فالإيمان من كل جهة، هو سبب الحياة، وهو الذي يميت الخطية التـي أم الموت ومربيته. لذلك كم هو رائع ما قاله المسيح لرئيس مجمع اليهود عندما ماتت ابنته “لا تخف أمن فقط وهي ستحيا” لأنه كما قلـت، فالمـسيح يحيي أولئك الذين يقتربون إليه بإيمان أنه هو الحياة “لأننا به نحيا ونتحـرك ونوجد” (أع 17: 28). “وهو سيقيم الموتى في لحظة في طرفة عين عند البـوق الأخير” كما هو مكتوب (1كو 15: 52). وإذ لنا هذا الرجاء فيه فإننا سوف نصل إلى المدينة التي هي فوق، وسنملك كملوك معهم، الذي بـه ومعـه، الله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور آمين.

زر الذهاب إلى الأعلى