تفسير مراثي إرميا – المقدمة للقمص أنطونيوس فكري
مقدمة
قال الجامعة “سليمان الحكيم” الذهاب إلى بيت النوح خير من الذهاب إلى بيت الوليمة لأن ذاك نهاية كل إنسان والحى يضعه فى قلبه. الحزن خير من الضحك لأنه بكأبة الوجه يُصلح القلب. قلب الحكماء فى بيت النوح وقلب الجُهال فى بيت الفرح (جا2:7-4) وهذا الكلام هو عكس ما يؤمن به العالم، فرأى أهل العالم لنأكل ونشرب، لنفرح ونضحك لأننا غداً نموت. ولنقرأ ثانية ما قاله سليمان الحكيم ثم نأتى لقراءة هذا السفر فى حزن مقدس على خطايانا التى هى سبب ألامنا وألام الكنيسة.
1- يجب ان تكون لنا تراتيل فيها حزن مقدس على خطايانا، فيها نبكى على خطايانا وأثارها فهذا يحرك مشاعرنا وقلوبنا فنصبح مستعدين لتلقى الحقائق الإلهية. فالتوبة تصهر القلب فيكون كالشمع مستعد لأن تطبع عليه الحقائق الإلهية كالختم. أما الإنسان اللاهى الضاحك، الإنسان غير النادم الذى لا يبكى على خطاياه يكون قلبه صلباً غير مستعد لهذا.
2- فى ملخص سريع لأحداث سفر أرمياء. فقد أخطأت أورشليم خطايا بشعة كثيرة فأسلمها الله لجيش بابل بقيادة نبوخذ نصر الذى حاصرها ثم بعد أحداث أليمة من مجاعات وأوبئة سقطت فى يد ملك بابل فدمرها وأحرقها ونقض أسوارها ودمَر هيكل الرب وبيت الملك وقتل من قتل وسبا من سبا ولم يترك سوى المساكين فى الأرض. فمن يقارن بين حال أورشليم قبل سقوطها أيام مجدها وبين حالها بعد خرابها لابد وسيرثيها كما فعل النبى، ورثاء النبى على ما حدث لأورشليم يثبت صدق نبواته، ويثبت صدق مشاعره نحو بلده وأهله وأنه كان غير راغب فى تحقيق نبواته بل توبة شعبه. وحين رأى بروح النبوة ما سيحدث قال “يا ليت عينى ينبوع ماء لأبكى”. والأن بعد أن حدث ما تنبأ به ها هو يبكى بمشاعر صادقة وهذا يثبت كذب الإتهامات التى وجهوها لهُ بالخيانة وأنه فى صف ملك بابل. وهو لم يفرح بأن صدقت نبواته ولا بالإنتقام ممن إضطهدوه. بل أن قلبه المملوء حباً وحناناً بكى لآلام من عذبوه فكان خيراً من يونان النبى الذى غضب حين سامح الله نينوى إذ قدَموا توبة.
3- إن بنية هذه القصيدة الرثائية جديرة بالملاحظة. فالإصحاحات 4،2،1 فى لغتها الأصلية وهى العبرية مرتبة ترتيباً أبجدياً. وكل إصحاح منها مؤلَفْ من 22 أية شعرية، تبدأ كل منها بأحد أحرف الأبجدية العبرية على التوالى أما الإصحاح الثالث، حيث نجد أوفى إعتراف بخطيتهم وحزنهم، فقوامه 66 أية، ثلاث لكل حرف أبجدى، أى أن كل واحدة من الأيات الثلاث الأولى تبتدىء بحرف الألف- وكلاً من الأيات الثلاث التوانى تبتدىء بحرف الباء…. وهكذا أما الإصحاح الخامس فهو غير ملتزم بالأبجدية ولكنه مكون من 22 آية أيضاً وكل أية نصفين مترادفين وفى الجزء الثانى إجابة أو مرادف للجزء الأول. وذلك حتى يسهل حفظها غيباً وتستعمل فى صلواتهم. وهناك ملحوظتان:
أ. هناك إستثناء فالأبجدية متبعة تماماً فى الإصحاح الأول ولكن فى الإصحاح الثانى والثالث والرابع سبق حرفPE حرفAJIN بينما هو يتبعه فى الأبجدية فلماذا؟ حرف الـPE هو الذى يستخدم للتعبير عن رقم (70) فكأن النبى يريد أن يحفر فى أذهانهم أن عودتهم من السبى ستحدث بعد 70 سنة.
ب. فى المزمور 119 نجد 22 قسماً كل منها مكون من 8 أيات شعرية وهى تستخدم كل حروف الأبجدية العبرية. وهذا المزمور كله يمتدح ناموس الرب الكامل وإذا فهنا أن إستخدام الحروف الأبجدية كلها فى المزمور 119 يشير أننا نستخدم كل اللغة البشرية بإمكاناتها لنمدح ناموس الرب حتى نسلك فيه فيكون لنا كل الخير، فإن المراثى تستخدم كل الحروف أيضاً لتعبر عن الأحزان المترتبة على إهمال ذلك الناموس وكسره.
4- كاتب سفر المراثى “أرمياء النبى” يرثى أورشليم ويُصور الفظائع التى إرتكبت بواسطة البابليين والآلام التى عانى منها الشعب أثناء الحصار. وبعد أن كانت المدينة كاملة الجمال بهجة كل الأرض أصبحت محروقة ومشوهة. وهى كانت كاملة الجمال لوجود الله فى وسطها أما وقد غادرها الله وفارقها بسبب الخطية فقد فقدت من يحميها فسقطت وأذلها البابليون. وملكها سقط وهكذا كهنتها وتوقفت إحتفالاتها وأعيادها وأفراحها وتسبيحها وعبادتها وأصبحت بلا أنبياء ولا رؤى وأرض يهوذا تحولت للغرباء والناس ماتوا أو أخذوا سبايا وعبيداً بل حتى من بقى فى الأرض كان عبداً لملك بابل. كل هذا بسبب الخطية. خطية الشعب والقادة ولكن هناك معنى روحى لهذا. فأورشليم هذه تشير لأدم الذى كان كامل الجمال فهو قد خُلق على صورة الله ومثاله. وكان بهجة كل الأرض وكان يرى الله ويكلمه ولكن بسقوطه فقد كل شىء ومات وسقط مسبياً للشيطان ولم يَعُد يرى الرب ولم يَعُد يسبح الرب وفقد أفراحه. فصورة أورشليم بعد خرابها هى صورة الإنسان بعد سقوطه، وهذه المراثى ترثى خراب أورشليم وترثى أيضاً خراب الإنسان وحزن الله عليه
5- يبدأ الإصحاح الثالث بـ “أنا هو الرجل الذى رأى مذلة” وقد تحيَر علماء الكتاب المقدس فى الغرب فى من هو هذا الرجل فمن قائل أنه أرمياء، ومن قال أنه شخصية إعتبارية تتكلم عن أورشليم ومن قال أنه ملك أورشليم صدقيا. ولكن كنيستنا المرتشدة بالروح القدس وجدت ان هذا الرجل هو المسيح ولذلك تقرأ الكنيسة هذا الإصحاح فى نبوات الساعة الثانية عشر من يوم الجمعة العظيمة فى أسبوع الألام. فالكنيسة رأت أن المتألم الحقيقى ليس أورشليم وليس الإنسان بل المسيح الذى حمل أحزاننا وأوجاعنا تحملها (أش4:53) وكأس غضب الله التى كانت فى يد الإنسان أخذها المسيح (أش22:51) وهو قد سبق وقال ليت على الشوك (أش4:27). بل هو الذى كمله الأب بالآلاام (عب10:2) وأرمياء هنا هو لسان الله وهكذا قال لهُ الله “فمثل فمى تكون” (أر19:15) فالنبى هنا فى إحساسه الصادق بالألم، ألام الهوان والإضطهاد ثم ألام الحزن على أورشليم كان لساناً للمسيح الذى كان حزيناً على هلاك البشر وعلى إضطهاد البشر لهُ. وكما أحب المسيح العالم هكذا أحب أرمياء شعبه فإستحق أن يكون لساناً لله. ولنلاحظ أن المسيح لم يضحك أبداً بل كان يبكى.
6- فى العبرية يسمى كل سفر بأول كلمة فيه ولذلك يسمى هذا السفر كيف. أما فى الترجمة اليونانية فتم تسميته بالمراثى. ولكن تسميته كيف معبرة جداً. والسؤال مازال للأن كيف تتحول صورة الله أى الإنسان لهذا الخراب؟ والإجابة… إنها الخطية.
7- كيف يكون النبى لساناً لله “وما معنى فمثل فمى تكون”
حتى يكون النبى لساناً لله يشعر بمشاعره يسمح الله للنبى بأن تمر به ظروف شبيهة ولنأخذ مثال لذلك. حين أراد الله أن يشرح لأبينا إبراهيم فكرة فداء المسيح طلب منهُ أن يُقدم إبنه ذبيحة وهو الإبن الوحيد المحبوب وأحس إبراهيم كأب بمشاعر رهيبة من الألم وهو يصنع هذا ولكن مشاعره هذه كانت مشاعر الآب وإبنه معلق على الصليب ورأى إبراهيم طريقة الفداء لذلك قال السيد المسيح ” أبوكم إبراهيم رأى يومى وفرح” ومثال آخر ليشرح الله لهوشع كيف أنه وهو الإله القدوس يقبل أن يرتبط بشعبه وهو خاطىء طلب من هوشع أن يتزوج من إمرأة زانية. فشعر هوشع المتألم المجروح بمشاعر الله.
ولنأتى لأرمياء النبى الباكى المحب لشعبه الذى يصلى ويشفع فى شعبه والذى لم يكف عن إنذار شعبه بالألام القادمة إذا إستمروا فى خطاياهم، حتى يدفعهم للتوبة فلا تأتى هذه الألام. فماذا كان موقف هذا الشعب منهُ؟ لقد ضربوه ووضعوه فى المقطرة مربوط اليدين والرجلين والرقبة وكان هذا أمام المارة الذين يسخرون منهُ وتآمروا على قتله ووضعوه فى جب طين عميق ليموت جوعاً. بل أن أهله تآمروا عليه ليقتلوه وأثاروا ضده إشاعات رديئة وكان هذا بأوامر من رؤساء الكهنة ورؤساء الشعب والملوك والشعب، ومع كل هذا حين خربت أورشليم فمشاعر النبى الرقيقة لم تحتمل وبكى ورثى أورشليم والشعب، لقد صار أرمياء بإحتماله لألامه شريكاً فى صليب المسيح. ألم يكن أرمياء بهذا لساناً لحال المسيح الذى أحبَ شعبه حتى المنتهى وتقدم بصليبه كشفيع لشعبه بدمه فأثاروا ضده شائعات رديئة وحاولوا مرات عديدة أن يقتلوه إلى أن تمت مؤامرة الكهنة ورؤسائهم وصلبوه، وعلى صليبه ووسط ألامه سخروا منهُ. ولكنه ظلَ يشفع فيهم حتى على الصليب وقال ” يا أبتاه إغفر لهم ” كان المسيح باكياً دائماً ولم يشاهده أحد ضاحكاً أبداً. كان يبكى على قبر لعازر وعلى أورشليم كان رجل أحزان فكان أرمياء بخبراته فى ألامه شاعراً بنفس مشاعر المسيح فكان نطقه ومراثيه هى ما يريد الله أن يقوله. إذاً كانت هذه المراثى هى مشاعر حزن الله على شعبه وفيها نبوة عن ألام المسيح.
فهرس | تفسير مراثي إرميا القمص أنطونيوس فكري |
تفسير مراثي إرميا 1 |
تفسير العهد القديم |