كتاب التقليد وأهميته في الإيمان المسيحي - القمص متى المسكين
المضمون العام للتقليد الكنسي
الـتـقـلـيـد بـكل صوره ومجالاته يختص بعملين أو فعلين كبيرين بالنسبة لكل نفس : الأول الإيمان بالله ، والثاني الإتحاد به.
أما الإيمان بالله فيحتاج إلى معرفة شخصه ، وأما الإتحاد به فيحتاج إلى عمل سري فائق، وهذان أمران مستحيلان لولا أن تجسد أبن الله فعرفناه فاستُعلن لنا وإتحـد هـو بـنـا أولاً . فالمسيح بصفته «كلمة الله» الذي تجسد وحل بيننا، صار كلُّ من سمعه يكون قد سمع الله الله كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في أبنه» (عب 1: 1 و2)؛ وبصفته صورة الله غير المنظور ورسم جوهره» صار من يراه يكون قد رأى الآب : « الذي رآني فقد رأى الآب» (يو 14: 9). فلما صعد المسيح بجسد بشر يتنا أرسل الروح القدس لينطق في الرسل حتى ينقلوا إلى الكنيسة بواسطة الروح القدس صورة حية ناطقة ووجوداً فعالاً بالإيمان بالمسيح كما سمعوه هم ورأوه والمسوه وعـرفـوه حتى نقبله نحن بالإيمان وشركة الروح في القلب، فيكون لنا شركة أيضاً معهم فيه: « الذي سمعناه ، الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه ولمسته أيدينا … نخبركم به لكي يكون لكم أيضاً شركة معنا… لكي يكون فرحكم كاملاً . » ( 1يو 1: 1-4).
فهنا توصيل المسيح لا بد أن يتم على مستويين:
الأول سماعي «سمعناه» ، وهذا هو الإيمان بالخبر.
الثاني روحي سري لقبول شركة الحياة معه وحلوله الشخصي، وهذا هو الإتحاد الذي يتم بالأسرار.
فطبيعة التقليد هي تسليم المسيح للمؤمنين أولاً بالكلمة أي بالتعليم النظري على مستوى الإيمان وثانياً بالشركة العملية الحية الروحية على مستوى الأسرار بتوسط عمل الروح القدس .
وهكذا فإن التقليد الكنسي (1) ينقسم إلى قسمين كبيرين:
(1) القسم النظري: ويختص بطريقة شرح وتوضيح الحق المعلن في الإنجيل، وتحديد معاني الألفاظ الإيمانية تحديداً قانونياً ملزماً لكل المؤمنين .
(2) القسم العملي : ويختص بالفرائض والطقوس والعوايد المستقرة، مع كافة الممارسات العملية المسلمة من الرسل مع أحكامها .
وهكذا نجد أن طبيعة التقليد تنقسم إلى قسمين كبيرين : قسم إيماني نظري تعليمي، وقسم إيماني عملي سرائري.
أولاً : التقليد التعليمي: ويختص بتسليم الإيمان بالله وتفسيره وشرحه وتحديد نصوصه، إنما على مستوى الروح ، كما تسلّمه الرسل من التعاليم الشفوية الخاصة التي تـقـبـلـوهـا مـن المسيح رأساً حينما كان يعرفهم بأسرار الملكوت، وكما أعطاهم الروح القدس حسب وعد المسيح أنه سيُعرفهم كل الحق » ، حتى أعماق الله.
ثانياً: التقليد السرائري: ويختص بتسليم الإيمان على صورة شركة عملية بالروح مع الله ، تتم في الأسرار بواسطة حلول الروح القدس.
إذ أن الخلاص الذي يعطيه المسيح لا يتم فقط بالإيمان القلبي به، بل يلزم أيضاً أن يكمل بالشركة السرية معه من آمن واعتمد خلص» (مر 16: 16). هنا الإيمان قبول، والإعتماد شركة.
وكذلك أيضاً قد عرفنا المسيح أن الثبوت فيه لا يتم بالإيمان القلبي فقط «أثبتوا في» (يو 15: 4)، بل يلزم أن يكمل بالشركة السرية معه أيضاً : «من يأكل جسدي و يشرب دمي يثبت في وأنـا فـيـه» (يـو 6: 56). هنا التناول أي الإفخارستيا هو توسط بالنعمة السرية الفائقة لإعطاء حالة شركة لثبوت دائمة.
وكذلك أيضاً قد عرَّفنا المسيح أن الغفران الكامل الذي وهبه المسيح للكنيسة كلها مجاناً بدمه لا يتم فقط بالإيمان القلبي بالدم المسفوك ، بل يلزم أيضاً قبول سر الغفران الفردي من الروح القدس من الخادم المرسل لتكميل سر الغفران « كما أرسلني الآب أرسلكم أنا، ولما قال هذا نفخ وقال أقبلوا الروح القدس. من غفرتم خطاياه غفرت له ومن أمسكتم خطاياه امسكت .» (یو 20: 21 و 22)
فهنا سر الإعتراف والغفران هو توسط بالنعمة لتكميل حالة شركة بلا لوم في المحبة ( وعلامتها قبلة الصفح).
وهذه الأسرار لم يذكرها الإنجيل بالتفصيل، ذلك لأنها تُمارس عملياً ، لذلك تحتاج إلى تسليم عملي من يد ليد ومن فم لفم ومن روح الروح وليس بالقراءة أو سماع الأذن: «لأنني تسلمت من الرب ما سلمتكم أيضاً» (1كو 11: 23). وحينما يضطر الرسول لذكر شيء عن هذه الأسرار لا يستطيع أن يخوض في التفاصيل لأنها حجزت عن العامة ولا تُكشف إلا للمسئولين عنها فقط : « وأما الأمور الباقية فعندما أجيء أرتبها.» ( 1كو 11: 34)
القسم العملي من التقليد الكنسي[1]: Δόγμα
1- + من يأكل جسدي و يشرب دمي فله حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير. » (لو 6: 54)
حينما جـلـس الرب مع تلاميذه وأجرى طقس العشاء الأخير أودعه السر الإلهي لجسده ودمه، كيف أجرى هذا الطقس وماذا قال أثناء الشكر وأثناء التقديس وأثناء البركة وأثناء الكسر؟
كيف بدأ سر العشاء وكيف انتهى ؟
2- + « إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله . » (يو 3: 5)
وحينما كان المسيح يعمد مع تلاميذه كيف كان يُجرى طقس العماد؟ وماذا كان يقول أثناء العماد؟ وبماذا كان يوصي المعمدين؟
3 – + «يا رب علمنا أن نصلي».
وحينما كان المسيح يصلي مع تلاميذه ويمضي أوقاتاً كثيرة في الصلاة بماذا كان يصلي؟ وكيف كان يسجد؟ وماذا كان يقول عندما يرفع يديه في الصلاة و ينظر إلى فوق؟
+ وسبحوا وخرجوا إلى جبل الزيتون».
وحينما اجتمع المسيح مع تلاميذه في العلية « وسبحوا وخرجوا » بما كانوا يسبحون ؟ وكيف كانوا يسبحون ويختمون التسابيح؟
كل هذا نقرأ عنه فقط في الإنجيل، ولكن لا نعرفه معرفة عملية يقينية حتى نباشره نحن أيضاً بنفس الطريقة، إلا من التقليد المسلم إلينا من الرسل حسب ما تـسـلـمـوه مـن المسيح نفسه لأنني تسلمت من الرب ما سلمتكم أيضاً أن الرب يسوع في الليلة التي أسلم فيها أخذ خبزاً وشكر وكسر وقال خذوا كلوا هذا هو جسدي… كذلك الكأس أيضاً بعدما تعشوا قائلاً هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي… وأما الأمور الباقية فعندما أجيء أرتبها . » ( 1كو 11: 23-34)
التقليد الرسولي هنا ينقل إلينا جزءاً هاماً جداً وخطيراً من حياة المسيح وتدبيره العملي لتكميل رسالة الخلاص. الإنجيل يصف لنا مجمل العمل نظرياً، ولكن يستحيل علينا ممارسته بنفس الطريقة إلا عن طريق التسليم العملي ، هذا التسليم العملي هو الجزء السري من إنجيل المسيح غير المكتوب الذي احتفظ به الرسل ليسلموه بأنفسهم وليس بالكتابة. لذلك يقول بولس الرسول في نهاية وصف الجزء الإيماني من هذا الطقس: « وأما الأمور الباقية فعندما أجيء أرتبها » . وكانت هذه تشمل كافة الأحكام المتعلقة بالسر حتى يتم إجراؤه بنفس الروح والطريقة في كافة الكنائس .
أمـا بـخـصـوص الـعـمـاد فالإنجيل يذكر القانون الخاص به: «عمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس» (متى 28: 19). ولكن طريقة الممارسة والوصايا الخاصة بالعماد والأحكام المتعلقة به ، فلا نجدها في الإنجيل وإنما نتسلمها من الكنيسة تعززها شهادات ووثائق دقيقة تثبت أنها تسليم رسولي .
وكذلك بخصوص الصلوات والتسابيح فهي لم تنقطع قط من الكنيسة منذ صلوات وتسابيح العلية بطرائقها ومعانيها كتسليم حي بالروح دائم الجريان كنهر لم ينقطع من منبعه الذي هو المسيح… وهذا سوف نثبته بالدليل القاطع عندما نتكلم عن الصلوات والتسابيح في مكانها.
- Δόγμα معنى هذه الكلمة كما جاءت في الإنجيل ( لو 2: 1 ، أع 16: 4 ، أع 17: 7 ، أف 2: 15، كو 2: 14) يتجه إلى ناحيتين الأولى : أحكام ومراسيم (قضايا)، والثانية : فرائض وطقوس . فإذا جمعنا المعنيين معاً نجد أنه كان يفيد في الماضي معنى الفرائض والطقوس مع أحكامها الخاصة بها. وهذا المعنى خاص بالتقليد الكنسي، وهو يخالف المعنى اللاهوتى الشائع الآن الذي ينحصر في مفهوم العقيدة والتعاليم النظرية الخاصة بالإيمان الفاصلة بين الحق والباطل، فتصبح كلمة دُجما dogma تعني «عقيدة». وقد انقسمت المدارس الفلسفية منذ القديم إلى ثلاثة أنواع بالنسبة للجما أي قوانين العقيدة المدرسة الأولى تخضع خضوعاً كلياً للعقيدة والمدرسة الثانية تضع الدجما موضع الشك وتسمى مدرسة الشكاكين والمدرسة الثالثة تضع الدجما موضع البحث والتحليل وتسمى مدرسة البحوث وهي الأكاديمية.
كتب القمص متى المسكين | |||
كتاب التقليد وأهميته في الإيمان المسيحي | |||
المكتبة المسيحية |