تفسير سفر اللاويين ١٢ للقمص تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح الثاني عشر
تطهير الوالدة
إذ دخل الله مع شعبه في عهد اعطاهم بيته المقدس – خيمة الإجتماع أو الهيكل– مكانًا مقدسًا فيه يجتمع الشعب في الأعياد يعلنون فرحهم بالله القدوس الساكن وسطهم، وإليه يلجأ كل من سقط في خطية أو نجاسة ليجد فيه ينبوع تطهير له.
بعد الحديث عن الأطعمة المحللة والأطعمة المحرمة قدم شرائع التطهير مبتدأ بتطهير السيدة لتي ولدت. مع أن الأبناء عطية إلهية لكن حياة الإنسان فسدت بالخطية خلال العصيان الأول لذا صارت هناك حاجة لتطهير المرأة التي تلد، كما توجد ضرورة لتطهير من يمس ميتًا، وكأن الإنسان قد ارتبط بالدنس في ميلاده كما في موته، محتاجًا إلى الميلاد الجديد والموت مع الرب المصلوب ليحيا مقدسًا له.
1. نجاسة الوالدة [1-5].
كانت المرأة – حسب الشريعة الموسوية – تحسب نجسة سبعة أيام إن ولدت ذكرًا حتى يختتن الطفل في اليوم الثامن، وتكون هكذا لمدة أسبوعين إن أنجبت أنثى، تكون “كما في أيام طمث علتها“[2]، أي تحسب كمن هي في مرضها الشهري. وقد قيل “طمث علتها” أي كمن هي بسبب ما يصاحب الولادة من أتعاب وآلام. كما تقيم ثلاثة وثلاثين يومًا في دم تطهيرها إن كان المولود ذكرًا، وستة وستين يومًا إن كان المولود أنثى، لتقديم ذبيحة محرقة مع ذبيحة خطية بعد أربعين يومًا إن كان المولود ذكرًا أو ثمانين يومًا إن كان المولود أنثى، وذلك للتكفير عن الوالدة.
لماذا كانت الوالدة حديثًا تحسب نجسة حسب الشريعة الموسوية:
أولاً: لأنها تخرج دمًا بعد الإنجاب، والشريعة تحسب كل جسم يخرج سيلاً سواء كان رجلاً أو أنثى أنه نجس (لا 15)، ليس لأن الدم في ذاته نجاسة، وإنما لكي يتوقف الإنسان عن كل عمل ويهتم بصحته حتى يشفى تمامًا، يرى العلامة أوريجانوس في هذه الشريعة كما في شريعة تطهير الأبرص أن الله يظهر لشعبه كطبيب يهتم بشفائهم، مقدمًا لنا دواءً لا من عصير الأعشاب كما كان يفعل الأطباء في ذلك الحين وإنما يقدم لنا فهمًا روحيًا عميقًا لكلماته الإلهية لشفاء نفوسنا، إذ يقول: [يدخل يسوع الطبيب السماوي إلى هذه الجماعة التي هي الكنيسة لينظر جماعة المرضى مطروحين. يرى هنا سيدة صارة دنسة خلال الإنجاب، ويرى هناك أبرصًا موضوعًا خارج المحلة بسبب دنس برصه يطلب الشفاء والتطهير. ولما كان يسوع هو الطبيب إذ هو كلمة الله يقدم علاجًا للمرضى ليس مستخرجًا من الأعشاب، إنما يقدم المعنى السري لكلماته. حقًا إننا نتطلع إلى العلاج الموجود في الكتب المقدسة والحقول بإهمال، غير مدركين فاعلية هذه النصوص، فنستهين بها كما لو كانت بلا قيمة وبلا نفع. لكن قليلين يعرفون المسيح كطبيب للنفوس، فيجمع كل واحد منهم من هذه الكتب التي تُقرأ في الكنيسة كما من السهول والجبال، أعشاب الخلاص، ويتعرفون على معنى الكلمات، حتى متى كانت النفس مصابة بفتور تُشفى بقوة هذه الأعشاب العظيمة بعصارتها الداخلية[162]].
ثانيًا: إن كان الله قد خلق الإنسان وباركه ووهبه أن يتكاثر وينمو ويملأ الأرض (تك 1: 28)، لكن الإنسان بعصاينه سقط تحت العقوبة، فصارت الولادة تصحبها آلام وأتعاب بالرغم من كونها بركة من عند الرب. ولعل هذه الشريعة التي جاءت تعلن عن نجاسة المرأة التي تلد تجتذب الأنظار وسط الفرح بالمولود الجديد إلى الخطية التي تسللت إلينا أبًا عن جد. لهذا يصرخ المرتل: “هأنذا بالآثام حُبل بيّ وبالخطايا ولدتني أمي” (مز 51: 5). وكما قال أليفاز التيماني لأيوب البار: “من هو الإنسان حتى يزكو أو مولود المرأة حتى يتبرر؟!” (أي 15: 14). وفي وضوح يقول الرسول بولس: “من أجل ذلك كأنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع” (رو 5: 12)، كما يقول: “بالطبيعة كنا أبناء الغضب” (أف 2: 3).
ثالثًا: لعله أرد بهذه الشريعة أن يؤكد أن الأم لا تحسب طاهرة حتى تقدم ذبيحة دموية… رمزًا إلى الحاجة إلى دم السيد المسيح الذي يطهر من كل خطية (1 يو 1: 7) حتى ينعم كل مولود جديد بالإنتساب إلى الجماعة المقدسة في الرب، إسرائيل الجديد.
رابعًا: أراد الله أن يعلن قدسية شعبه فأمرهم بالإبتعاد عن كل ما يخدش طهارة النفس أو الجسد حتى تكون الطهارة الخارجية مرآة صادقة تعكس طهارة الداخل.
نعود إلى المرأة التي تحبل وتلد إبنًا ذكرًا فإنها تبقى أربعين يومًا لتتم أيام تطهيرها، سبعة أيام تُحسب نجسة حيث يختتن الطفل في اليوم الثامن، وتبقى الثلاثة وثلاثين يومًا في دم تطهيرها.
من جهة ختان الذكر في اليوم الثامن، سبق لنا الحديث عنه أثناء دراستنا لسفر التكوين (أصحاح 17). وقد عرف الختان في بعض الشعوب كعمل تطهيري، لذا يسمى في العربية “طهورًا“.
ويرى العلامة أوريجانوس أن النص اليوناني في الترجمعة السبعينية هو “إذا حصلت في بطنها على زرع وولدت” ليميز بين النساء اللواتي يلدن خلال زرع بشر وبين العذراء التي حبلت دون زرع بشر. فلنساء يحملن ثقل الناموس، أما العذراء فجاءت كاستثناء تلد دون أن تحبل بزرع بشر، ولدت ذاك الذي قبل أن ينحني تحت الناموس ليفتدي الذين هم تحت الناموس، كقول الرسل: “لما جاء ملء الزمان أرسل الله إبنه مولودًا من إمرأة مولودًا تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني” (غلا 4: 4-5).
تسمية العذراء مريم “إمرأة” ليس بعجيب، فإن كل ذكر متى بلغ النضوج دعى رجلاً حتى ولو لم يكن متزوجًا، وكل أنثى تُحسب إمرأة متى بلغت النضوج حتى ولو لم تكن متزوجة، وذلك كما قال العبد لإبراهيم: “ربما لا تشاء المرأة أن تتبعني إلى هذه الأرض، هل أرجع بإبنك إلى الأرض التي خرجت منها؟” (تك 24: 5)، قاصدًا بالمرأة فتاة عذراء.
يقدم لنا العلامة أوريجانوس تعليقًا متطرفًا في أمر هذه الشريعة، فهو يرى في الشعور بدنس المرأة التي تلد إعلانًا عن نجاسة المولود ذكرًا كان أم أنثى، وأنه لا يليق بالقديسين أن يبتهجوا بتذكار يوم ميلادهم بل يسبونه. [لا نجد أحدًا من القديسين يحتفل بعيد ميلاده أو يقيم فيه وليمة عظيمة ولا يفرح أحد بعيد ميلاده إبنه أو إبنته، إنما يفرح الخطاه بهذا. ففي العهد القديم إحتفل فرعون ملك مصر بعيد ميلاده (تك 40: 20)، وفي العهد الجديد إحتفل هيرودس أيضًا (مر 6: 21)، وفي الحالتين سال الدم علامة تكريمهما لعيد ميلادهما، فقطعت رأس رئيس الخبازين (تك 40: 22)، وأيضًا رأس القديس النبي يوحنا في السجن (مر 6: 27). أما القديسيون فليس فقط لا يحتفلون بأعياد ميلادهم وإنما هم مملؤون من الروح القدس يسبون هذا اليوم. فإن نبيًا عظيمًا، أقصد إرميا، الذي تقدس في بطن أمه وتكرس كنبي للشعوب (إر 1: 5)، يعلن: “ملعون اليوم الذي وُلدت فيه، اليوم الذي ولدتني فيه أمي لا يكون مباركًا، ملعون الإنسان الذي بشر أمي، قائلاً: “قد وُلد لك إبن مفرحًا إباه فرحًا، وليكن ذلك الإنسان كالمدن التي قلبها الرب ولن بندم” (إر 20: 14-16) [163]…]. واسترسل العلامة أوريجانوس في حديثه… ولعل مغالاته في الأمر يكشف عن نظرته التي شابها شيء من المرارة من نحو الجسد، الأمر الذي لا يقبله بعدما حمل السيد جسدنا، وبارك طبيعتنا فيه. أما استشهاده بالمسيحيين في عصره إنهم لا يحتفلن بأعياد ميلادهم، فهذا على ما أظن يرجع إلى فرحة المسيحيين بالعماد كميلاد روحي جديد، لذلك استبدلوا الإحتفال بيوم الميلاد بتذكار يوم عمادهم.
نرجع إلى شريعة تطهير المرأة التي تلد، فإن الفترة الأولى (7 أيام 14 يومًا) تحسب فيها المرأة نجسة، أما الفترة التالية (33 يومًا أو 66 يومًا) فتحسب سائرة في طريقها تطهيرها فمن يلمسها أو يخدمها لا يحسب قد تنجس، إنما لا يجوز لها الذهاب إلى بيت الرب.
يعلق العلامة أوريجانوس على السبعة أيام الأولى التي تحسب فيها المرأة التي تلد نجسة، قائلاً: [أثناء السبعة أيام تبقى منفصلة عن كل ما هو طاهر حتى تمر الأيام السبعة “في دم دنسها” والثلاثة والثلاثون يومًا في دم تطهيرها… في اليوم الثامن يختتن الولد فتصير طاهرة… إننا نرى في هذا الأسبوع رمزًا للحياة الحاضرة، ففي أسبوع واحد إنتهى خلق العالم، وكأننا مادمنا في الجسد لا نستطيع أن نكون طاهرين طهارة كاملة، حتى يأتي اليوم الثامن أي مجئ الدهر الآتي[164]].
يمكننا أن قول أن النفس تكون كإمرأة والدة في أسبوعها الأول مادامت مرتبطة بالعالم، فهي نجسة، لكنها إذ تنطلق إلى اليوم الثامن أي إلى الفكر الإنقضائي وتنعم بالحياة السماوية تحسب طاهرة وهي بعد في العالم. وكأن اليوم الثامن ليس زمانًا ننتظره إنما هو حياة نعيشها أو حال سماوي نكون فيه.
ربما يتساءل البعض: لماذ ضوعفت المدة بالنسبة لولادة البنت؟
أولاً: في دراستنا السابقة كثيرًا ما رأينا الذكر يُشير إلى النفس والأنثى إلى الجسد[165]، فإن كانت النفس تحتاج إى تطهير روحي (في مياه المعمودية) فالجسد وهو ينعم بالطهارة مع النفس في مياه المعمودية لكنه يحتاج إى مجهود مضاعف بعد العماد، إذ يحمل ثقلاً يلزم ضبطه وقمعه.
ثانيًا: لم يكن هذا التمييز يعني تمييزًا بين الجنسين، فإن الذبيحة المقدمة عن الولد هي بعينها التي تقدم عن البنت، وكما يقول الرسول: “إن الرجل المرأة هما واحد في المسيح يسوع ربنا” (غلا 3: 28، كو 3: 11)، إنما اختلاف المدة ربما يحمل إستنكارًا لغواية إبليس لأمنا حواء.
2. طقس التطهير [6-8].
إذا تكمل أيام التطهير، أي بعد الأربعين يومًا أو الثمانين، تأتي المرأة الوالدة بنوعين من الذبائح: خروف حوالي (عمره سنة) كمحرقة، وفرخ حمامه أو يمامة كذبيحة خطية. وإن لم يكن في مقدروها ذلك تقدم يمامتين أو فرخي حمام، الواحدة محرقة والأخرى ذبيحة.
ويلاحظ في هذه التقدمة الآتي:
أولاً: لا يكفي أن تتم أيام تطهيرها لتحسب طاهرة، فلزمن عاجز عن مسح الخطية أو إزالة الدنس، إنما الحاجة دومًا إلى الدم القادر أن يطهر من كل خطية.
ثانيًا: تمتزج الذبيحتان معًا: ذبيحة المحرقة التي هي موضع سرور للرب مع ذبيحة الخطية… وكأنه في تطهيرنا بالدم الثمين يمتزج الفرح والبهجة بالغفران من الخطية.
ثالثًا: المحرقة التي للفرح يقدمها كل إنسان حسب إمكانيته فقد تكون خروفًا حوليًا أو طيرًا، أما ذبيحة الخطية فواحدة للجميع للفقراء كما للأغنياء، لكي يكون في قدرة الجميع تقديمها بلا تمييز بين غني وفقير.
والعجيب أن القديسة مريم بحبلها بالسيد المسيح الغني الذي افتقر لكي يغنينا (2 كو 8: 9) قدمت التقدمة الخاصة بالفقراء. هذا وبممارستها للطقس أعلنت خضوعها للناموس مع أنها لم تحمل دنسًا بل حملت القدوس في أحشائها… حملت ذاك الذي خضع بإرادته تحت الناموس ليفتدي الذين هم تحت الناموس، لذلك لم تتعالى هي أيضًا عن طقس الناموس بل تممته (لو 2: 24).
سفر اللاويين – أصحاح 12
تفاسير أخرى لسفر اللاويين أصحاح 12
تفسير لاويين 11 | تفسير سفر اللاويين القمص تادرس يعقوب ملطي |
تفسير لاويين 13 |
تفسير العهد القديم |