تفسير سفر العدد ٢٦ للقمص تادرس يعقوب


الباب الرابع 

الاستعداد لدخول كنعان

 (ص 26- ص 36)


الأصحاح السادس والعشرون

التعداد الثاني

الأصحاحات الأحد عشر الأخيرة (26-36) لا تعرض أحداثًا مثيرة كما في الأصحاحات السابقة التي سجَّلت لمحات هامة من معاملات الله مع الإنسان في رحلته داخل البريّة، إنما قدَّمت لنا الاستعدادات الطويلة لتهيئة الشعب لأهم حدث تم في العهد القديم وهو دخول أرض الموعد وتقسيم الأرض على يدي موسى كرمز لدخولنا الميراث الأبدي على يدي ربنا يسوع. بدأت الاستعدادات بصدور أمر إلهي بإقامة تعداد جديد.

  1. الأمر الإلهي بعمل التعداد                       1-4.
  2. تسجيل التعداد                                  5-51.
  3. تعليمات خاصة بالتقسيم                        52-56.
  4. تعداد اللاويّين                                  57-62.
  5. ملاحظة على التعداد                            63-65.
  6. الأمر الإلهي بالتعداد:

للمرة الثانية يصدر الأمر الإلهي بالتعداد، المرة الأولى بعد الخروج بسنة وشهر للاستعداد للجهاد في البريّة، أما الآن فاللاستعداد لدخول أرض الموعد وتقسيم.. لهذا لم يصدر الأمر إلاَّ بعد توقف الوبأ (ع 1) وانتهت مرحلة التأديب وصار الشعب مهيأ للتمتع بأرض الموعد. وقد جاء التعداد يحمل ذات شروط التعداد الأول (أصحاح 1) مع اختلافات بسيطة ظهرت في تسجيل وقائعه ونتائجه.

  1. تسجيل التعداد:

قدَّم لنا السفر تسجيلاً لوقائع الإحصاء ونتائجه، خلاله يلاحظ في هذا الإحصاء الآتي:

أولاً: في التقسيم الأول لم يذكر اسماء العشائر مكتفيًا بأسماء الأسباط، أما هنا فقسم كل سبط إلى عشائره موضحًا أسماء العشائر. ويلاحظ أن سبط دان له عشيرة واحدة ومع ذلك فتعداده يأتي وراء يهوذا مباشرة. زبولون له ثلاث عشائر، وأفرايم ويَسَّاكَر ونفتالي ورأوبين لكل منهم أربعة عشائر، ويهوذا وشِمْعون وأشير لكل منهم خمسة عشائر، ولكل من جاد وبنيامين سبعة، ومَنَسَّى ثمانية. ومع أن يوسف قد أنجب عشرة أولاد في مصر (تك 46: 21) لكن يبدو أن ثلاثة منهم لم ينجبوا أو أن عشائرهم قد انقرضت تمامًا.

إن أخذنا بمبدأ رمزيّة الأرقام نجد الآتي:

أ. رقم (1) يشير إلى اللاهوت الذي لا يستطيع أحد أن يتمتع بعمله فيه ما لم يجد له موقعًا في سبط دان، أي يدين نفسه. إذ يدخل الإنسان في عضوية هذا السبط ينعم لا بالتعرف على الله الواحد فحسب وإنما التمتع بسماته خلال الاتحاد معه.

ب. رقم (3) يشير إلى الأقانيم الإلهيّة التي ينعم بها أعضاء سبط زبولون، أي (المسكن)،  بمعنى من ينعم بالاتحاد مع الله، أي الثبوت فيه والسكنى فيه إنما ينعم بعمل الثالوث القدوس في حياته، إذ يتحد مع الآب في ابنه بالروح القدس.

ج. رقم (4) وهو يشير إلى الأناجيل الأربعة أو عمل الخلاص (تجسد، صلب، قيامة، صعود) إنما يتمتع بها رجال أسباط أفرايم (ثمار كثيرة) ويَسَّاكَر (جزاء) ونفتالي (متسع) ورأوبين (ابن الرؤيا). ينعم بها من له من ثمر التوبة المتزايد، متقبلاً مكافأته أو جزائه من الله، حاملاً قلبًا متسعًا لله وأخيه وله بصيرة روحيّة (ابن الرؤيا).

د. رقم (5) يشير إلى ذبائح العهد القديم رمز ذبيحة الصليب من جوانبها المتعددة، يقبلها الله عن أسباط يهوذا (اعتراف أو إيمان) وشِمْعون (مستمعون) وأشير (سعيد). وكانت هذه الأمور الثلاثة إذ تلتحم معًا: الإيمان والطاعة مع الفرح الروحي يدخل بنا إلى أسرار الذبيحة المقدسة.

هـ. رقم (7) يشير إلى الكمال الذي ينسب لسبطي جاد وبنيامين، أي الرجال المجاهدين المملوئين جدية (جاد) والذين يقفون عن يمين الله (بنيامين)، فإذ تلتحم جدية الجهاد القانوني مع الثبوت عن يمين الله يبلغ الإنسان كمال غايته.

ز. أخيرًا رقم (8) وهو يشير إلى الحياة المقبلة، أي ما بعد أيام الأسبوع السبعة إنما يتمتع بها أبناء مَنَسَّى، الذين ينسون العالم من أجل الأبديّة، وينسون كل اضطراب وَهَمّ من أجل الفرح السماوي.

ثانيًا: يلاحظ أن جميع الأسباط التي كانت تحت لواء مَحَلَّة يهوذا الذي منه يخرج السيد المسيح حسب الجسد قد تزايد تعدادهم، وهم يهوذا ويَسَّاكَر وزبولون. وكأن من يحتمي في ظل السيد المسيح ينمو ويتزايد ولا يهلك!

ثالثًا: لم يتزايد سبط قط مثل مَنَسَّى الذي كان قبلاً أصغر الأسباط، عدده (32.200) فصار (64.400) أي تضاعف، فإن من تدرب أن ينسى أمور هذا الزمان فيحسب هنا كأقل لكنه يحمل بركة مضاعفة في التعداد الأخير.

رابعًا: لم ينقص سبط مثل شِمْعون فقد كان تعداده (59.300) وصار (22.000)، أي فقد حوالي الثلاثين من تعداده. ويعلِّل البعض سرّ ذلك أن الوبأ الأخير حلّ غالبيته على هذا السبط، فإن زمري الذي قتله فينحاس الكاهن كان رئيس بيت أب من هذا السبط (25-14). فإن كان زمري يعني (من يشبه بقر الوحش) فإنه عِوَض أن يلتزم بسمة السبط (شِمْعون يعني مستمعون) انجذب وراء شهوات الجسد وملذاته كبقر الوحش ففقد الكثير. صار هذا السبط يمثل الإنسان الذي بدأ بالروح في طاعة مستمعًا لصوت الله وللأسف انتهى بالجسد يسلك وراء اللذة الجسديّة!

خامسًا: أثناء التعداد ذُكرت أسماء لها علاقة بأسماء رؤساء الأسباط ماتوا تحت ظروف معينة تأكيدًا لحرمان الأشرار من التمتع بنصيب في أرض الموعد. فقد ذُكرت الأسماء التالية:

داثان وأبيرام اللذا ابتلعتهما الأرض مع قورح (ع 9-10) وقد اغتصبوا الكهنوت وتذمروا على موسى وهرون (أصحاح 16).

عير وأونان ابنا يهوذا (ع 19) كان الأول شريرًا في عيني الرب فأماته بلا نسل (تك 38: 7) وأما أخوه أونان فقد أفسد على الأرض لكي لا يعطي نسلاً لأخيه فحمل ذات الجزاء (تك 38: 9).

ناداب وأبيهو ابنا هرون رئيس الكهنة الذان قربا نارًا غريبة أمام الرب (ع 61) فقتلهما (لا 10: 1-7، عد 26: 61).

  1. تعليمات خاصة بالتقسيم:

كلَّم الرب موسى قائلاً: لهؤلاء تقسم الأرض، نصيبًا على عدد الأسماء. الكثير تكثر له نصيبه، والقليل تقلل له نصيبه” [52-53]. مع أن يشوع بن نون هو الذي يقسم الأرض لكن الله أصدر التعليمات الخاصة بالتقسيم لموسى قبل نياحته. إن دخول الموعد لن يتم إلاَّ بيشوع رمز “يسوع” المسيح ربنا، لكن موسى ممثل الناموس تقبل التعليمات حيث لا فصل بين الناموس والإنجيل.

يرى العلامة أوريجينوس أن هذا الأمر الإلهي أنه كلما كثر العدد تأخذ العشيرة مساحة أكبر إشارة إلى الذين يريدون يعيشون هنا في ترف، أما العشائر الأقل عددًا فتنال مساحة أصغر إشارة إلى الداخلين من الباب الضيق والطريق الكرب (لو 13: 23). إنهم يرثون القليل على الأرض لينعموا بالكثير في السماء. لهذا فإن اللاويّين لم يرثوا شيئًا قط على الأرض ليكون الرب وحده نصيبهم. وقد قدَّم فلك نوح مثلاً، فإن القسم الأسفل هو القسم المتسع جدًا احتلته الحيوانات أما العلوي وهو أقل الأقسام مساحة فاحتله نوح وعائلته حيث يكونون مع الرب في الأعالي. هكذا كلما ارتفع الإنسان المؤمن نحو السمويات تنازل عن الأرضيات ليكون الرب وحده نصيبه.

يقول العلامة أوريجينوس: [بما أن تقسيم الأرض وهذا الأرض هو رمز أرضي وظل الخيرات العتيدة (عب 10: 1)، ويقدم نموذجًا للميراث السماوي الذي يشتهيه المؤمنون والقدِّيسون، فإنني أبحث في هذا الميراث الذي نشتهيه هل نطلب الأكثر عددًا أم الأقل عددًا؟ إنني أجد أن الآخرين أكثر سعادة من الأولين. فإنه “واسع الباب ورحب الطريق الذي يؤدي إلى الهلاك وكثيرون هم الذين يدخلون منه” (مت 7: 13-14). لكن الذين يدخلون من الباب الضيق والطريق الكرب المؤدي إلى الحياة فقليلون. في موضع آخر قيل: “أقليل هم الذين يخلصون؟” (لو 13: 23). وأيضًا “لكثرة الإثم تبرد محبة الكثيرين” (مت 24: 12) وليس محبة قليلين. وفي بناء فلك نوح الذي أُعطيت مقاييسه من السماء هكذا يصنعه ثلاثمائة ذراع يكون طوله، وخمسين عرضه، وثلاثين ارتفاعه. لكنه كلما ارتفع البناء ضاق ونقص عدد الأذرع… السبب في هذا أن الأجزاء السفليّة التي تشمل مساحات واسعة وفسيحة يدخل فيها الحيوانات والقطعان، الجزء الأكثر ارتفاعًا تدخله الطيور، أما القمة فضيقة وصغيرة السعة فهي مكان الإنسان الناطق[255]].

أما التقسيم فيتم بالقرعة (ع 57): يلاحظ عند التقسيم أن كالب بن يفنة أخذ حبرون كامتياز له دون القرعة (يش 14: 6-15) لأنه مع يشوع شدَّد قلب الشعب منذ خمسة وأربعين عامًا قبل التقسيم، كذلك بعد المعركة كان المحاربون الممتازون يأخذون نصيبهم في الغنائم بدون قرعة كمكافأة لهم أم الآخرون فيأخذون بالقرعة. يقول العلامة أوريجينوس: [يبدو لي أن سيدي يسوع المسيح سيفعل هكذا، فإن البعض الذين يعرف أنهم قد تألموا أكثر من الآخرين ويعلم أعمالهم العظيمة وفضائلهم السامية يهديهم شرفًا وأمجادًا استثنائية عظيمة، إن استطعت القول أنها تشبه أمجاده. أما يبدو لك أنه يهب تلاميذه الحواريّين بعض تطويباته بقوله: “أيها الآب أريد أن هؤلاء يكونون معي حيث أكون أنا” (يو 17: 24)، “تجلسون أنتم أيضًا على اثني عشر كرسيًا تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر” (مت 19: 28)، “ليكون الجميع واحدًا كما أنك أنت أيها الآب فيَّ وأنا فيك” (يو 17: 21). هذه جميعها لا تُعطى بالقرعة لكنها تُمنح كامتياز مختار من الذي وحده فاحص القلوب وعارف ضمائر الناس. أما نحن فإن كنا لسنا ضمن المختارين الاستثنائيّين الذين هم فوق القرعة، فلتكن لنا كرامة التمتع بنصيب مع قرعة القدِّيسين[256]].

  1. تعداد اللاويّين:

إن كان اللاويّون لا يدخلون في التعداد العام لأنهم لا يرثون معهم في الأرض بل يكون الرب نفسه نصيبهم وهم أنفسهم نصيبه. لكنه أمر بتعدادهم على انفراد علامة رعايته بهم.

إن كان لكالب بن يفنة امتيازًا خاصًا به بسبب موقفه المملوء إيمانًا وشجاعة ورجاءً في مواعيد الرب، أما اللاويّون الذين كرَّسوا حياتهم لخدمة الرب والسهر في الحراسة فامتيازهم هو عدم تمتعهم بميراث زمني ليكون الرب نفسه نصيبهم وميراثهم كما رأينا في دراستنا للأصحاح الثامن عشر.

يقول العلامة أوريجينوس: [في الوقت الذي عمل فيه اقتراع وجد أناس لهم موضع خاص لا يخضعون للاقتراع. إنهم كل اللاويّين، بمعنى أن الذين يبقون في خدمة الرب ويسهرون الليل في الحراسة لا يكون نصيبهم على الأرض بل الرب نفسه هو نصيبهم وميراثهم. إنهم يمثلون الذين لم يفشلوا لسبب عوائق الطبيعة الجسديّة أن يجتازوا مجد كل الأمور المنظورة ويضعوا في الرب كل حياتهم مع تداريبها، فلا يطلبون شيئًا جسديًا، أي شيئًا غريبًا عن العقل. هؤلاء يطلبون الحكمة ومعرفة أسرار الله، “وحيث يكون كنزهم هناك يكون قلبهم أيضًا” (مت 6: 21). إذ ليس لهم ميراث على الأرض بل يرتفعون إلى فوق حيث السماء. هناك يكونون مع الرب إلى الأبد في كلمته وحكمته وذات معرفته، يشبعون بحلاوته، ويكون هو غذاءهم ومأواهم وغناهم ومملكتهم. هذا هو مصيرهم وهذه هي الممتلكات التي يعرفونها أن الله هو ميراثهم الوحيد[257]].

  1. ملاحظة على التعداد:

ختم التعداد بهذه الملاحظة: “وفي هؤلاء لم يكن إنسان من الذين عدهم موسى وهرون الكاهن حين عدّا بني إسرائيل في بريّة سيناء. لأن الرب قال لهم إنهم يموتون في البريّة فلم يبقَ منهم إنسان إلاَّ كالب بن يفنة ويشوع بن نون” [64-65]. بهذا يؤكد أنه لا مكان للشرّ في الميراث الأبدي!

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى