تفسير سفر الحكمة ١٦ للقس أنطونيوس فكري

الإصحاح السادس عشر

الآيات (1-4): “1 لذلك كانوا أحقاء بان يعاقبوا بأمثال هذه ويعذبوا بجم من الحشرات.2 أما شعبك فبدلا من ذلك العقاب أحسنت إليهم بإعداد السلوى مأكلا غريب الطعم أشبعت به شهوتهم. 3حتى انه بينما كان أولئك مع جوعهم فاقدي كل شهوة للطعام من كراهة ما بعثت عليهم كان هؤلاء بعد عوز يسير يتناولون مأكلا غريب الطعم. 4 فانه كان ينبغي لأولئك المقتسرين أن تنزل بهم فاقة لا مناص منها ولهؤلاء ان يروا كيف يعذب أعداؤهم لا غير.”

لذلك كانوا أحقاء= أي مستحقين. بأن يعاقبوا بأمثال هذه= أي بأمثال الحشرات التي كانوا يعبدونها والضفادع التي ألهوها= يعذبوا بجم من الحشرات= أي أعداد كبيرة منها. وفي تضاد لهذا، نرى الله يعطي شعبه السلوى= السمان. والمن= مأكلاً غريب الطعم= المقصود عجيب، يمكن أكله كما هو ومطبوخ.. الخ حسبما تشتهي كل نفس. وطعمه لذيذ. فمن يعبد الله ويتقيه يعوله الله. والمصريين وسط الضربات كانوا= فاقدي كل شهوة للطعام من شدة الضربات التي نزلت عليهم= من كراهة ما بعثت عليهم. فإنه كان ينبغي لأولئك المقتسرين= الذين يسخرون ويذلون الشعب أن تنزل بهم فاقة= أي فقر شديد وعوز. لا مناص منها= لا يمكنهم الهروب منها، فيرى شعب الله كيف يعذب الله أعداء شعبه. ولاحظ أن هذه الضربات كانت أيضاً تعليم للمصريين ليدركوا تفاهة آلهتهم الوثنية، فلم تنفعهم في ضيقتهم أثناء الضربات العشر. بل هم كرهوها إذ كرهوا أكوام الضفادع النتنة وكرهوا الجراد والناموس.. الخ. بينما في نفس الوقت يتعرف شعب الله عليه وعلى قدراته فيزدادوا حباً له وإيماناً به. ولكن قوله بعد عوز يسير=نفهم منه أن الشعب شعر بالجوع فترة في سيناء فلماذا؟ هم رأوا عياناً يد الله في الضربات العشر وفي شق البحر. والله الآن مثل المدرس الذي ينقل شعبه من مرحلة العيان إلى مرحلة الإيمان فيسمح للطالب ببعض المسائل لتتأكد له النظرية. والنظرية هي “هل يستحيل على الرب شئ “فكان الجوع فترة بسيطة أو العطش هو مسألة يمتحن بها الله شعبه، لا ليعرف إستجابتهم بل ليصلح إيمانهم فينمو.

 

الآيات (5-8): “5 ولما اقتحم هؤلاء حنق الوحوش الهائل وأهلكهم لدغ الحيات الخبيثة.6 لم يستمر غضبك إلى المنتهى بل إنما اقلقوا إلى حين إنذاراً لهم ونصبت لهم علامة للخلاص تذكرهم وصية شريعتك. 7 فكان الملتفت إليها يخلص لا بذلك المنظور بل بك يا مخلص الجميع. 8 وبذلك اثبت لأعدائنا انك أنت المنقذ من كل سوء.”

هنا نرى شعب الله أيضاً يعانون من ضربات إلهية، لدغ الحيات الخبيثة= ولكن يضع معها حية نحاسية يشفيهم النظر إليها= علامة للخلاص= رمز للخلاص بالصليب وأيضاً تذكرهم وصية شريعتك= أي تذكرهم بأن من يخالف الشريعة يهلك، ومن ينظر لله ويتقيه يخلص. إذاً الله حين يضرب شعبه فللتأديب. لا بذلك المنظور بل بك يا مخلص= الحية النحاسية في حد ذاتها لا تخلص بل الخلاص من الله وعندما عبدوا هذه الحية أزالها الملك حزقيا (2مل4:18). فالخلاص ليس في الحية بل من الله، ولكنها رمز للصليب (يو14:3). فالله أخرج من تذمر الشعب رمزاً للصليب بالإضافة لتأديب شعبه. ولما إقتحم هؤلاء (أي شعب الله) أقتحمتهم الحيات= حنق الوحوش الهائل. لم يستمر غضبك إلى المنتهى= الله لا يترك عصا الخطاة تستقر على نصيب الصديقين، لكي لا يمد الصديقون أيديهم إلى الإثم” (مز3:125) + “الله لا يدعكم تجربون فوق ما تستطيعون بل سيجعل مع التجربة المنفذ” (1كو13:10) ولاحظ أن الله أعطى لموسى فكرة الحية النحاسية حينما صرخ الشعب. فلنصرخ لله إذا كنا في تجربة.

 

الآيات (9-11): “9 لأن أولئك قتلهم لسع الجراد والذباب ولم يوجد لنفوسهم شفاء إذ هم أهل لأن يعاقبوا بمثل ذلك. 10 أما بنوك فلم تقو عليهم أنياب التنانين السامة لأن رحمتك أقبلت وشفتهم. 11 وإنما نخسوا ليتذكروا أقوالك ثم خلصوا سريعا لئلا يسقطوا في نسيان عميق فيحرموا إحسانك.”

هنا مقارنة بين أعداء شعب الله وبين شعب الله. فأعداء شعب الله عوقبوا بعقوبات بلا شفاء إذ هم أهل لأن يعاقبوا بمثل ذلك. أما شعب الله بنوك فكانت لهم الحية النحاسية حلاً وشفاءً من لدغات الحيات السامة. فبينما لم يشف الله المصريين، نجده يرحم شعبه ويشفيهم. فالشفاء هو لمن يؤمن ويتوب.

 

الآيات (12-15): “12 وما شفاهم نبت ولا مرهم بل كلمتك يا رب التي تشفي الجميع. 13لأن لك سلطان الحياة والموت فتحدر إلى أبواب الجحيم وتصعد. 14 أما الإنسان فيقتل بخبثه لكنه لا يعيد الروح الذي قد خرج ولا يسترجع النفس المقبوضة. 15 انه ليس أحد يستطيع أن يهرب من يدك.”

الشفاء ليس بطريقة بشرية نبت (نبات طبي) ولا مرهم. بل كلمتك. وشفاء طبيعتنا البشرية حينما أخطأنا ومتنا لم يكن في إستطاعة بشر، بل كان بفداء المسيح كلمة الله. وكان الشفاء للشعب في البرية بكلمة الله لموسى بأن يصنع حية نحاسية. وفي مقارنة بين الله والإنسان. لله سلطان الحياة والموت. ويحدر إلى أبواب الجحيم ويصعد= هو يميت ويحيي. أما الإنسان فهو قادر أن يقتل ولكنه لا يستطيع أن يحيي ولا سلطان له على الجحيم. ونلاحظ أن سلطان الإنسان محدود، فلم يكن للإنسان سلطان أن يقتل نفس إن لم يكن الله يشاء ذلك (يو11:19). ويصعد= من الجحيم للفردوس، وهذا ما عمله السيد المسيح.

 

الآيات (16-21): “16 فانك قد جلدت بقوة ذراعك المنافقين الذين جحدوا معرفتك وأطلقت في أثرهم سيولا وبردا وأمطاراً غريبة ونارا آكلة. 17 واغرب شيء ان النار كانت في الماء الذي يطفئ كل شيء تزداد حدة لأن عناصر العالم تقاتل عن الصديقين. 18 وكان اللهيب تارة يسكن لئلا يحرق ما أرسل على المنافقين من الحيوان ولكي يبصروا فيعلموا أن قضاء الله على أعقابهم. 19 وتارة يخرج عن طبع النار فيتأجج في الماء لكي يستأصل أنبتة الأرض الأثيمة.20 أما شعبك فبدلا من ذلك أطعمتهم طعام الملائكة وأرسلت لهم من السماء خبزا معدا لا تعب فيه يتضمن كل لذة ويلائم كل ذوق. 21 لأن جوهرك أبدَى عذوبتك لبنيك فكان يخدم شهوة المتناول ويتحول إلى ما شاء كل واحد.”

مازالت المقارنة بين عقاب الله لأعدائه وأعداء شعبه وبركاته لأولاده. والله في هذا يستخدم كل قوى الطبيعة حتى بقوانين ضد الطبيعة، فكل شئ خاضع لأمره وهو واضع كل القوانين. فالله ضرب المصريين بضربة عجيبة نار ومطر وبَرَدْ (خر22:9-24+33،34). والعجيب أن المطر لم يطفئ النار بل كانت تزداد حدة ويستأصل أنبتة الأرض ويسمى الأرض أثيمة لخطايا شعبها ووثنيتهم وظلم الشعب. وكانت النار لا تحرق الحشرات التي تضايق المصريين= لئلا يحرق ما أرسل على المنافقين من الحيوان ولكي يبصروا فيعلموا أن قضاء الله على أعقابهم= يفهموا أن ما يحدث هو عقوبة الله تلاحقهم. البَرَدْ= كرات ثلجية. وهذه الضربات هي كانت كجلدات قوية ضد المصريين.

والعكس فكان الله يطعم شعبه مناً= طعام الملائكة ويتشكل بأشكال كثيرة تناسب كل ذوق. ويسمى طعام الملائكة لأنه نازل من السماء، وهو طعام سبق إعداده. الله يعطيهم طعام بلا تعب فهو يعلم أن رحلة البرية شاقة عليهم.

لأن جوهرك أبدي= هذا هو طبع الله عبر الأجيال أنه يفيض على أولاده من بركاته (عب8:13). هي هي نفس المحبة ونفس الأبوة ونفس العطايا ونفس المغفرة ونفس التأديب للتنقية.

 

الآيات (22-25): “22 وكان الثلج والجليد يثبتان في النار ولا يذوبان لكي يعلم كيف أكلت ثمار الأعداء نار تلتهب في البرد وتبرق في المطر. 23 أما عند هؤلاء فقد تناست القوة التي لها لكي يغتذي القديسون. 24 إذ الخليقة الخادمة لك أنت صانعها تتشدد لتعاقب المجرمين وتتراخى لتحسن إلى المتوكلين عليك. 25 لذلك كانت حينئذ تتحول إلى كل شيء لتخدم نعمتك الغاذية الجميع على ما يشاء كل محتاج.”

هنا العجب أن الثلج والجليد (البَرَدْ) لم يذوبا في النار. بل لم تقترب من القديسون= أي شعب الله. النار أكلت ثمار الأعداء المصريين ونسيت قوتها في الإحراق مع ثمار شعب الرب ليتغذى شعب الرب ولا يجوع= نعمتك الغاذية الجميع= أي التي تغذي الجميع. لذلك كانت حينئذ= أي الخليقة تتحول إلى كل شئ= نار تحرق ما للأعداء وبركة تشبع شعب الرب.

 

الآيات (26-27): “26 لكي يعلم بنوك الذين أحببتهم أيها الرب أن ليس ما تخرج الأرض من الثمار هو يغذو الإنسان لكن كلمتك هي التي تحفظ المؤمنين بك. 27 إذ ما لم تكن النار تحله كانت شعاعة يسيرة من الشمس تحميه فيذوب.”

الله أظهر بعمله أنه هو الذي يعول شعبه ويهتم بهم، فهو أعطاهم مناً عجيباً لا ينحل في النار إذ يطبخونه، لكن أشعة الشمس تذيبه فيتسرب في الأرض. وفي هذا تأمل أنه إذا كان المن يشير للمسيح المن الحقيقي النازل من السماء (يو48:6-51). فعلينا حتى نجده ونشبع به أن نبكر في الذهاب إليه. وإذا تأخرنا لن نجده (أم17:8).

 

الآيات (28-29): “28 حتى يعلم انه يجب أن نسبق الشمس إلى شكرك ونحضر أمامك عند شروق النور. 29 لأن رجاء من لا شكر له يذوب كجليد شتوي ويذهب كماء لا منفعة فيه.”

الحكيم هنا يشرح المعنى الروحي لذوبان المن مع الشمس= حتى يعلم أنه يجب أن نسبق الشمس إلى شكرك. وكما يذوب المن هكذا رجاء من لا شكر له يذوب كجليد. كماء لا منفعة فيه وهكذا تصلي الكنيسة في صلاة باكر (منذ الليل روحي تبكر إليك يا إلهي. .بالغداة أقف أمامك وتراني”.

 

زر الذهاب إلى الأعلى