مقدمة في سفر زكريا – القمص تادرس يعقوب

  1. كلمة “زكريا” في العبرية تعنى “يهوه يذكر”[2]. كان هذا الاسم شائعًا عند اليهود، إذ ورد فى الكتاب المقدس حواليّ ثلاثين شخصًا يحملون هذا الاسم. وقد جاء هذا الاسم يُناسب السفر وظروفه، إذ يهدف إلى تشجيع النفس على الجهاد الروحي لبناء هيكل الله فيها، فالله نفسه يذكرها دومًا ليقيم بنفسه الهيكل ويقدسه. وكما يقول المرتل: “أما أنا فمسكين وبائس، الرب يهتم بيّ، عوني ومنقذي أنت، يا إلهي لا تبطئ” (مز 40: 17). إنه يهتم بنا ليقيم مملكته فينا، لا بالكلام بل بالعمل، بنزول الابن الوحيد على الصليب وإرسال الروح القدس فينا في استحقاقات الدم الكريم.
  2. يبدو أن زكريا ولد في أرض السبي البابلي، وجاء وهو طفل مع جده “عدو” في أول دفعة من الراجعين مع زربابل من السبي (نح 12: 1، 4، 7)، وكان جده رأسًا لعائلة كهنوتية معروفًا وسط الشعب. أما الأب فيبدو أنه مات شابًا ربما قبل العودة من السبي.
  3. بدأ زكريا نبوته في السنة الثانية لداريوس هيستاسيس عام 520 ق.م، أما آخر تاريخ يشار إليه في السفر فهو السنة الرابعة للملك داريوس (زك 7: 1) عام 518 ق.م. وإن كان كثير من الدارسين يروا أن الجزء الأخير من السفر (ص 9-14) كتب في شيخوخته بعد 30 أو 40 عامًا من كتابة الجزء الأول منه (ص 1-8). على أي الأحوال عاصر زكريا زربابل الوالي ويهوشع الكاهن العظيم وحجي النبي (زك 3: 1؛ 4: 6؛ 6: 11؛ عز 5: 1-2). وكان رفيقًا للأخير في الكفاح، يحمل ذات الرسالة، تربط بينهما علاقة وثيقة ومحبة عميقة، حتى جاء في التقليد اليهودي أن زكريا دُفن بجوار حجي الذي كان زميلاً ومحبًا له.

الظروف التاريخية:

أصدر كورش ملك فارس منشورًا عام 538 ق.م فيه سُمح للراغبين من اليهود أن يعودوا إلى مواطنهم لإعادة بناء الهيكل (2 أى 36: 22، 23؛ عز 1: 1-4). وإذ كانت الظروف المالية لغالبية اليهود المسببين حسنة استصعبوا العودة ليبدأوا حياتهم من جديد في بلدهم التي نهبها الأمم بالرغم من شعورهم بالمذلة كمسبيين وحرمانهم من هيكلهم وعبادتهم. وهكذا لم يرجع سوى خمسين ألفًا يُعتبرون النخبة الممتازة منهم نسبيًا، الذين إلتهبت حياتهم غيرة على إعادة بناء بيت الرب.

وفى الشهر الثاني من عام 536 ق.م وضعوا الأساسات (عز 3: 11-13) لكن السامريين قاوموا العمل (عز 4: 5) فتوقف حوالي 15 عامًا. وإذ إحتل داريوس المُلك عام 521 تشجع النبيان حجي وزكريا على حث الناس للبدء من جديد تحت قيادة زربابل الوالي ويهوشع الكاهن. حاول تتناى الحاكم الفارسي لغرب الفرات إعاقة العمل بإرسال استفسار للملك يحمل في طياته إيقاف العمل، لكن الملك أكد قيام المنشور السابق، إذ كان يعطف على قضية اليهود، لإعتقاده بعبادة الإله الواحد وغيرته على تقديم روائح سرور لله والصلاة من أجله هو وبنيه (عز 6: 6-12).

انتهت المقاومة الخارجية لتظهر مقاومة أمر وأقسى هي وجود اتجاه مضاد لدى الشعب وفتور شديد في العمل، إذ حسبوا توقف العمل هذه السنوات علامة عدم رضى الله عليه، وقد انهمك كل واحدٍ فى العمل لحساب مصلحته الخاصة، الأمر الذي وبخهم الله عليه في حجي: “هذا الشعب قال أن الوقت لم يبلغ، وقت بناء بيت الرب… هل الوقت لكم أن تسكنوا في بيوتكم المغشاة وهذا البيت خراب؟!” (حجي 1: 4).

وحدة السفر:

بالنسبة للأصحاحات الثمانية الأولى يوجد اتفاق عام بين الباحثين أن الكاتب هو زكريا النبي[3]. أما بقية السفر (ص 9-14) فجاءت آراء الناقدين متفاوتة للغاية. فمن مدعي أنها كٌتبت على فترات متقطعة بعضها قبل سبي إسرائيل وأخرى ما بين سبى إسرائيل وسبى يهوذا، وفريق آخر ادعى أنها كتبت في فترات متأخرة بعد العودة من السبي، ولكن لا ندخل في مناقشات جدلية نلخص الآراء في الآتي:

أولاً: اعتمد بعض النقاد على وجود اختلاف واضح في طابع الكتابة بين الجزء الأول من السفر (ص 1-8) والجزء الثاني منه (ص 9-14)، أهمه[4]:

  1. يحمل الجزء الأول تلميحات تاريخية واضحة، أما الجزء الثاني فتلميحاته التاريخية إن وجدت فغامضة.
  2. يركز الجزء الأول حديثه على إعادة بناء الهيكل تحت قيادة زربابل ويهوشع، بينما لا يحمل الجزء الثاني إشارة لهذا العمل.
  3. استخدام النثر بطريقة مطولة في الجزء الأول ويظهر تأثره بحزقيال النبي في أسلوبه، أما في الثاني فيستخدم الشعر بطريقة مبسطة متأثرا بهوشع وإشعياء وتثنية وإرميا وحزقيال وأيوب الخ…
  4. يُركز العصر المسيانى في الجزء الأول على أورشليم كمركز له وإحياء بيت داود، أما في الجزء الثاني فيهتم بيهوذا كمركز له وإن ذكر أورشليم وبيت داود فبطريقة عارضة.

ويُرد على أصحاب هذا الفكر بأن الاختلاف في الطابع لا يعنى اختلاف الكاتب، وإنما علته اختلاف هدف القسمين، الأول غايته تشجيع الشعب على بناء الهيكل، وأما الثاني فغايته تأكيد بركة الرب لهم خاصة في العصر الميسانى، مع التنبؤ عن عمل الله معهم عبر العصور بعد إعادة بناء الهيكل. هذا ويرجع اختلاف الأسلوب في نظر البعض إلى عامل أخر، فإن كاتب الجزء الأول هو زكريا الشاب، أما الجزء الثاني فكاتبه زكريا الشيخ.

ثانيًا: لخص Raven في كتابه “مقدمات العهد القديم” أراء النقاد الذين اعتمدوا على دلائل داخلية للسفر لتأكيد أن كاتب الجزء الأخير ليس بزكريا:

الرأي الأول: يرى بعض النقاد مثل Strack Bandissin, أن الأصحاحات (9-11) سابقة لسبيإسرائيل (ويُحتمل أيضًا 13: 7-9)، وأن الأصحاحات (12-14؛ عدا 13: 7-9) كُتبت في أيام يهوياقيم ويهوياكين وصدقيا أي قبل سبي يهوذا، وسنذكر مبرراتهم والرد عليها في صلب التفسير.

الرأي الثاني: يرى فريق من النقاد من بينهم Nowack Driver, أن هذا الجزء بكليته (9-14) كُتب بعد العودة من السبي، وأنه يُسجل لنا أحداث متأخرة بعد العودة، وجاءت براهينهم ردًا على أصحاب الرأي الأول بصورة قوية لا نود الدخول في تفاصيلها. أما كون هذه الأحداث التي سجلها السفر تصف عصور ما بعد زكريا فلا ينفي أن الكاتب هو زكريا إذ يكتب بروح النبوة عن المستقبل، وليس كمؤرخ لأحداث معاصرة. هذا ما يجعل الكثيرين يؤكدون وحدة السفر وقبول التقليد اليهودي والكنسي بأن السفر كاتبه زكريا وحده.

سماته:

  1. يُعتبر هذا السفر سندًا قويًا للنفس الخائرة، فجاء يحمل لغة الرجاء لشعبٍ عاش تحت نير السبي سبعين عامًا محرومًا من الهيكل والتقدمات وعند عودته لبناء الهيكل بقي حوالي 15 عامًا عاجزًا عن العمل. فجاء السفر ييقظ الهمم الخائرة الواهنة فلا نجد فيه نغمة الانتهار العنيف أو التهديد.
  2. 2. قدم لنا في الأصحاحات الستة الأولى تسع رؤى، كما استخدم الرمزية في بعض أجزائه.
  3. 3. ركز على العصر المسيانى، ففيما هو يسندهم على إعادة بناء الهيكل يكشف لهم عن هيكل المسيا المخلص في كنيسة العهد الجديد، مقدمًا نبوات واضحة عن شخص السيد المسيح مثل دخوله الملوكي إلى أورشليم (9: 9)، وتسليمه بثلاثين من الفضة (11-2)، وجراحاته (13: 6)، وطعنه (12: 10)، وكونه الراعي المتألم (13: 7)، وفتح ملكوته للجميع (9: 10). هذا بجانب ارتباط بعض الأفكار والعبارات التي للسفر بالعهد الجديد مثل الفرسان الأربعة (1: 7 الخ، رؤ 6: 1–8)، وقياس المدينة المقدسة (1: 16، رؤ 11: 1-2)، المنارة والزيتونتان (4: 1-3 ،11-14؛ رؤ 11: 4-10) وتشتيت الخراف (13: 7، مت 26: 31) الخ…

يتحدث ماكنزي Mckenzie عن العنصر المسياني كما جاء في سفر زكريا، قائلاً: [المسيانية هي النغمة السائدة في زكريا (ص 1-8)، إذ يعرض لنا كشفًا عن جماعة دينية قومية مسيانية جديدة تقوم في فلسطين ومركزها أورشليم. يرى النبي أن الوقت قد قرب لتحقيق الخلاص الذي يقدمه المسيا، وأن إعادة بناء الهيكل هو علامة بداية لمجيئه. في العصر الميسانى ينهزم الأمم (2: 1-4، 10: 13)، ويُعاد بناء الهيكل (1: 16)، وأورشليم (8: 3)، ويأتي يهوه ويسكن مع شعبه (2: 14، 8: 3)، ويجتمع المسبيون معًا، ويتعبد الأمم ليهوه (2: 15؛ 8: 20-23)، ويحل السلام والفرح (3: 10، 8: 12)، وتنتزع الخطية (3: 9، 5: 1، 11)… فالمسيانية حسب زكريا ليست مجرد قومية لكنها تضم تطهيرًا للجماعة المعينة باتحادها بيهوه[5]]. كما يقول: [والمسيانية أيضًا هي النغمة السائدة في زكريا (ص 9-14)، لكنها هنا تظهر رؤية بصورة أقوى، وأن الخلاص يتحقق مع نهاية الزمن… وأن أهم ملامح المسيانية هنا هو ظهور مسيا الفقراء (9: 9)[6]].

  1. إذ كان زكريا النبي كاهنًا كان قلبه ملتهبًا نحو الخدمة الكهنوتية التي حُرم منها هو وآباؤه زمانًا طويلاً، فجاءت نبوته مثالاً للنبي الطقسى، تعلن عن الله العامل في الطقس الروحي، مقدمًا لنا السيد المسيح ككاهن ينزع عنا ثوبنا القذر، ويهبنا الثوب المزخرف والعمامة الطاهرة (ص 3)، ويعطينا خلال عمله الكهنوتي شركة إكليله السماوي المجيد (ص6).

أقسامه:

أولاً:  الرؤى التسع                   [1-6].

ثانيًا: تساؤل حول الصوم             [7-8].

ثالثًا: إسرائيل والعصر المسيانى      [9-14].

فاصل

فاصل

فهرس تفسير سفر زكريا
القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير زكريا 1
تفسير العهد القديم

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى