يا أبتاه أغفر لهم

 

يا أبتاه أغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون (لوقا 34:23)

      المسيح إلهنا الحنون – وهو فى عمق الآلام على الصليب – كان منشغلاً بغيره لا بنفسه. لم يذكر آلامه ولا تعبه ولا جراحاته. لم يأبه لآلم السياط على ظهره، ولا بارتكاز المسامير فى يديه وقدميه،يا أبتاه أغفر لهم ولا بوخز الشوك فى جبينه ورأسه، ولا بجسده المرضض المنهك … وانما ترك كل ذلك جانباً، وكان كل ما يشغله هو محبته للبشر وأول ما فكر، فكر فى إنقاذ كارهيه وصالبيه… وهكذا كانت أول كلمة قالها على الصليب ” يا أبتاه أغفر لهم لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون ” (لو24:23)…

     وقد أهتم الرب بأعدائه أولاً، قبل أحبائه وقبل نفسه… فغفر أولاً لصالبيه ثم غفر للص الذي عيَّره أولاً وآمن أخيراً. ثم أبدى اهتمامه بأمه. وبعد كل ذلك تكلم عن نفسه…

     ” يا أبتاه أغفر لهم ” قالها وهو في مُنتهى الألم الجسمانى… كان حقاً فى عمق المقاساة من هؤلاء الذين يطلب لهم الغفران !.. ولكن محبته لهم ، كانت أكثر من عداوتهم له، عداوتهم التى لا توصف ، من عمق بشاعتها…

     ومع ذلك لم يطلب لهم الغفران فقط ، وانما أيضاً إلتمس لهم عذراً!
هؤلاء الذين كانوا لا يجسرون أن يفكروا فى عذر لأنفسهم. والذين صاحوا فى جرأة مخبولة ” دمه علينا وعلى أولادنا” (متى 15:27) ، هؤلاء استطاع المصلوب المجروح منهم أن يُوجد لهم عذراً. فقال ” لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون ” … ما أعجب الرب فى محبته ” إنه لم يصب عليهم اللعنات ، ولم يطلب النقمة منهم. بل أيضا لم يصمت ويأخذ منهم موقفاً سلبياً… وإنما كان حبه إيجابياً من ناحيتهم ، فطلب لهم المغفرة ، وقدم عنهم عذراً، مدافعاً عنهم أمام الآب السماوى ، مُعلناً أن خطيئتهم هى مجرد خطية جهل…

     إننا نحن البشر نقول ان فعلتهم هى مجموعة من الخطايا البشعة … إنها خطايا حسد وغيرة وكراهية ودس ووقيعة من الرؤساء الدينيين ، وخطايا إندفاع ونكران جميل من الشعب الجاحد ، وخطايا قسوة واستهزاء وشتائم واعتداء واهانة من الجند وخدام الكهنة، وخطايا جبن وظلم ولا مبالاة من بيلاطس. وفوق كل ذلك هى خطية قتل ، وخطية تعذيب ، وخطايا كذب وتلفيق فى المحاكمة… أما المصلوب الحنون الطيب فلم يذكر سوى انها خطية جهل، لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون!. ما أعجب طيبة قلبك أيها المحبوب المصلوب. إن أعماق هذه الطيبة هى فوق إدركنا…

     ان السيد المسيح فى غفرانه لصالبية ، قد قدم مثالاً عملياً لتنفيذ وصاياه. لقد قال من قبل ” احبوا أعداءكم ،… أحسنوا إلي مبغضيكم ، وصلوا لأجل الذين يسيئون اليكم “. وها هو ذا ينفذ بنفسه ما سبق ان اوصى به الناس. ان الرب لا يعطى وصايا للآخرين ، دون أن ينفذها بنفسه ،. لقد نفذ هذه الوصية ” محبة الأعداء ” ، ونفذها عملياً، فى عمق وفى مثالية عجيبة … فغفر لصالبيه ومضطهديه وللمسيئين اليه….

     وانت ايها الأخ المبارك ، ما هو موقفك من هذه الآيه ” يا أبتاه اغفر لهم ” ؟ … ياليتك عندما تسمع هذه العبارة فى يوم الجمعة الكبيرة ، وعندما تتذكرها ف آي وقت ، تقول فى صدق ” وأنا ايضا يا رب ، سأفعل مثلك : كل الذين أبغضونى وأغضبونى ، كل الذين أتعبونى واضطهدونى ، كل الذين ضايقونى وأساءوا آلي ، اغفر لهم لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون ” … وهكذا يا أخى تشترك مع المسيح فى عمله وفى حبه…

     ماذا تستفيد أنت ان كان المسيح قد غفر لأعدائه وانت لم تغفر؟. ماذا تستفيد ان كان المسيح قد احب أعداءه بينما أنت لا تحب أعدائك ، ولا تسامحهم؟! ماذا تستفيد؟ … اذن فأنت لم تشترك مع المسيح فى عمله ، ولم تسلك فى صفاته…

     أعلم اذن ان المسيح قد غفر لنا ، لكى نغفر نحن ايضا لغيرنا ، ونتمتع ببركة المغفرة. التى تأتى الينا ، والتى تصدر منا…

     كلما تتذكر اساءات الناس إلينا ، فلنقل نحن أيضا من أعماق أعماقنا ” اغفر لهم ، لانهم لا يدرون ماذا يفعلون “. غير أننا عندما نقول هذا ، يختلف موقفنا عن موقف السيد المسيح انه يقول : يا أبتاه اغفر لهم ، لأنى دفعت ثمن خطيئتهم. من أجل هذا لم يبق عليهم دين. أنا قد وفيت العدل الإلهى ، وسددت كل ديونهم فاغفر لهم إذا. هودا أنا أموت عنهم. هودا أنا أموت عن الذين صلبونى ، وعن الذين يحبوننى… وعندما أقول ” اغفر لهم ” لست أقصد هؤلاء فقط ، وانما كل الذين يحتمون فى دمى.. كل الخطاة الذين تابوا من آدم آلي آخر الدهور… اغفر لهم ، لأنى لهذا جئت (يو27:12)…

     واحد من هؤلاء الذين انطبقت عليهم عبارة ” لا يدرون ماذا يفعلون ” ، هو القديس العظيم الأنبا لونجينوس الجندى الذي طعن المسيح بالحربة… هذا القديس تعيد له الكنيسة المقدسة فى يومين : فى اليوم الثالث والعشرون من شهر أبيب ، وفى اليوم الخامس من شهر هاتور… انه طعن المسيح بالحربة ، ولم يكن يدرى ماذا يفعل ، فغفر الرب له. ولم يكتف بهذا ، بل اقتاده إليه أيضا ، فآمن وبشر بالمسيحية فى بلاد كبادوكية ، ونال أكليل الشهادة على يد طيباريوس قيصر ، وأظهر الرب كرامته بمعجزات بعد موته…

مقدمة

  ابنه الوحيد “… أحب العالم كله ، وبذل الابن لأجل العالم كله. ولكن هل تمتع العالم كله بالخلاص ؟ كلا، فخلاص المسيح لم ينله إلا ” كل من يؤمن به” … لذلك قيل فى باقى الآية ” لكى لا يهلك كل من يؤمن به ، بل تكون له الحياة الأبدية ” (يو16:3). هذا هو شرط الايمان … أما عن شرط التوبة فيقول عنه الرب ” إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون “. (لو3:13).

     وهكذا فان عبارة اغفر لهم ” ، لاتعنى المغفرة ليهود اليوم … لانهم مايزالون باقين على يهوديتهم ، فى انكارهم للمسيح ، وفى انكارهم لبتولية العذراء ، وفى اعتقادهم ان يسوع الناصرى الذي ولد منذ 1979سنة كان ضالا ومضلا ، فاستحق ان يصلبه آباؤهم. وبهذا يشتركون فى خطية آبائهم بموافقتهم لهم على ما فعلوه… ويستحقون الدينونة.

     أما ان تابوا وآمنوا ، وصاروا مسيحيين ، فإن الرب يغفر لهم ، وعند ئذ لا يدعون يهودا بعد…

     ان السيد المسيح قد قدم خلاصا للعالم كله. ولكن لا يتمتع بهذا الخلاص سوى المؤمنين التائبين السائرين فى طرقه ، المتمتعين بعمل الروح القدس فى أسراره.

     هؤلاء المؤمنون التائبون ، اغفر لهم يا أبتاه … أما الباقون الذين أصروا على عنادهم ، فهؤلاء قال لهم المسيح ” حيث أكون أنا ، لا تقدرون أنتم أن تأتوا” (يو24:7). وقال لهم ايضا ستطلبوننى وتموتون فى خطيتكم… ان لم تؤمنوا انى انا هو ، تموتون فى خطاياكم … ثلاث مرات فى الاصحاح الثامن من الانجيل لمعلمنا يوحنا الرسول يقول لهم ” أن تؤمنوا بى ، تموتون فى خطاياكم (يو21:8،24).

     اما الذين فيهم بارقة أمل ، ولو من بعيد ، فهؤلاء مهما أخطأوا إليه ومهما اضطهدوه ، ومهما طردوه ، فانه يظل يردد فى سمع الآب ، تلك العبارة الجميلة ” يا أبتاه اغفر لهم ، لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون “.

     من بين هؤلاء الذين طردوه ورفضوا ان يدخل تخومهم ، أهل السامرة وتحمس تلميذاه يعقوب ويوحنا ، وطلبا اليه أن يأمر فتنزل نار من السماء فتفنى هؤلاء الذين طردوه ، أما هو فأجاب تلميذيه قائلا ” لستما تعلمان من آي روح أنتما. لأن ابن الانسان لم يأت ليهلك أنفس الناس بل ليخلص ” (لو52:9،56). هذا ما قاله لتلميذيه. أما للآب. فلا شك أنه قال نفس العبارة ” يا أبتاه اغفر لهم ، لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون ” … وهكذا صبر عليهم حتى عرفوه ، فأحبوه ،وآمنوا به (يو42:4).

     ان عبارة ” يا أبتاه اغفر لهم ” تحمل عمق الحب ، وعمق المغفرة. ولكى تسبر أعماقها ، تصورها بالنسبة إلى نفسك …

     قد تستطيع ان تغفر لانسان أتعبك … أما أن يلفق انسان حولك تهماً، ويحكم عليك ظلماً، ويثير عليك الشعب والحكام ، ويهزأ بك ، ويجلدك ، ويعلقك على الصليب ، ويدق المسامير فى يدك وقدميك… ثم بعد

ذلك – وأنت فى عمق الألم – تستطيع أن تغفر له ، وتصلى لأجله ، وتدافع عنه… فهذا يحتاج آلي حب فوق الطاقة ، وفوق العادة…

     كثيرون أمنوا بالمسيحية من أجل هذه العبارة وحدها…

     يا أبتاه اغفر لهم … لانى من أجل هذا جئت … هذا هو العزاء الذي يفرح قلبى وسط كل الام الصليب ، وسط كل آلام الهزء ، وكل آلام التخلى …

     إنهم مغلوبون من خطاياهم ، مغلوبون من عمل ابليس فيهم ، ومغلوبون ايضا من ضعف ارادتهم ومن جهلهم شعورى نحوهم هو شعوراشفاق.. لست أذكر ما يعلمونه فى ، فالمحبة لا تطلب ما لنفسها ، انما أذكر أمامك حاجتهم آلي المغفرة…

اغفر لهم لأنك بهذا تفرحنى ، اذ أكون قد تممت رسالتى وحققت هدفى…

     حقا ، لماذا تجسد المسيح ؟ اليس من أجل أن الآب يغفر لهؤلاء ؟. لماذا أخذ شكل العبد ، وصار فى الهيئة كإنسان ” فى7:2″؟ اليس لكى يغفر لهم ؟… لماذا حمل خطايانا؟ لماذا علق على خشبة ؟ كل هذا بلا شك لكى يغفر لهم …

     ان هذه العبارة هى بداية عهد الغفران ، ليس الغفران المدعو به ، وانما الغفران المدفوع ثمنه… انها إعلان بأن العدل الالهى قد استوفى حقه على الصليب… انها صك … وثيقة المشترى الذي دفع الثمن ويريد أن يستلم … أنه اشترانا بدمه ، وبقى أن يأخذ معه ، لكى ندخل الفردوس معه ، وتتمتع بالملكوت معه ، وحيث يكون هو نكون نحن ايضا … وكأنه بهذه العبارة يقول للآب : ماذا تريد من هؤلاء ؟ ما هو دينك عليهم ؟ اليس هو الموت ، أجرة الخطية ؟ هودا أنا أموت عنهم . هودا أنا أوفى دينك عليهم . أطلقهم اذن من حكم الموت. انك تأخذ ألان حقك بالتمام… وبعد قليل سأقول لك ” قد أكمل “. فأغفر لهم …

     ان السيد المسيح بهذه العبارة يعلن انتصاره على الشيطان. كل جهاد الشيطان كان فى ابعاد الناس عن الله ، وفى ابعادهم عن المغفرة ، وفى عرقلة طريق الخلاص ولكن هو ذا طريق الخلاص قد فتح للناس ، واستطاع الرب المجروح لأجل معاصينا أن يرش دمه على الخيمة فيقدسها …

     لقد انتصرت محبته على كراهية الناس ” وانتصر تواضعه على كبرياء الشيطان…

     كانوا يقولون له ان كنت ابن الله انزل من على الصليب. أما هو فأعلن أنه الابن بقوله ” يا أبتاه “. ولكنه وهو الابن سيبقى على الصليب ، لكى يغفر لهم. ولو نزل من على الصليب ما استطاع ان يقول ، اغفر لهم … ألان استطاعت ذبيحة الحب ان تؤدى عملها فى المغفرة…

     عبارة يا أبتاه اغفر لهم ، هى العبارة التى كان يشتاق لسماعها كل الراقدين على رجاء من بدء الخليقة كلها. ان كان هكذا قد أحب الرب صالبيه ومقاوميه وغفر لهم ، فكم تكون بالحرى محبته لأحبائه ومريديه ، وكم يكون عمق غفرانه وسمو مكافأته…

إنها عبارة أذهلت كل الجنود المحيطين بالصليب. واذهلت أيضاً اللص اليمين الذي توجه إليه الرب بكلمته الثانية ” اليوم تكون معي فى الفردوس ” … 

فاصل

من كتاب كلمات السيد المسيح على الصليب لقداسة البابا شنودة الثالث

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى