تفسير رسالة أفسس أصحاح ٣ للقديس يوحنا ذهبي الفم

تفسير أفسس الأصحاح الثالث

العظة السادسة (ص2: 17-22، ص3: 1-7)

 

العظة السابعة
( ص 8:3-11)

“لي أنا الأصغر من أصغر جميع القديسين اعطیت هذه النعمة إن أبشر بين الأمم بغنى المسيح الذي لا يستقصی، وأنير الجميع في ما هو شركة السر المكتوم منذ الدهور في الله خالق الجميع بيسوع المسيح. لكي يعرف الان عند الرؤساء والسلاطين في السماويات بواسطة الكنيسة بحكمة الله المتنوعة ، حسب قصد الدهور ، الذي صنعه في المسيح يسوع ربنا”.

ان من يريدون الذهاب إلى الطبيب لطلب العلاج ليس عليهم فقط أن يذهبوا اليه دون أن يعملوا شيئاً آخر ، بل يجب عليهم أن يتعلموا كيف يعالجون أنفسهم ، ويستعملون الدواء ، وهكذا الحال معنا نحن الذين نأتی الى هنا ، فيجب علينا أن لا نكتفي بالمجيء إلى هنا دون أن نفعل شيئاً آخر ، بل أن نتعلم درسنا، وهو تواضع الرسول بولس الذي أظهره بكيفية عجيبة. وما هو ؟ عندما كان على وشك أن يتحدث عن عظمة نعمة الله قال : “لي أنا الأصغر من أصغر جميع القديسين اعطيت هذه النعمة”. كان تواضعاً حقا حتى أن يبكي على خطاياه السابقة ، رغم أنها كانت قد غُفرت له ، وأن يذكرها ، وأن يقيس نفسه بالمقياس الحقيقي ، لدرجة أنه دعا نفسه “مجدفاً ومضطهداً ومفترياً”( 1 تي 1: 13). ومع ذلك لم يكن هنالك ما يماثل هذا ، إذ قال: “أنا كنت قبلاً” ، هكذا . ومرة أخرى قال عن نفسه أنه “السقط” ( 1کو 15: 8) : أما أن يتضع وقتئذ – بعد أن أتم اعمالاً مجيدة كثيرة كهذه- ويقول عن نفسه انه « اصغر الجميع” ، فان هذا الواقع تواضع يفوق التصور .. “أنا أصغر جميع القديسين” ولم يقل “أصغر الرسل”، وهذا التعبير أخف من التعبير الذي أمامنا الآن .

هنالك قال : “أنا لست أهلاً أن ادعی رسولاً”(1کو 9:15) ، وهنا يقول انه ” الأصغر من أصغر جميع القديسين” . لقد قال « لى انا الأصغر من أصغر جميع القديسين اعطيت هذه النعمة”. وأية نعمة ؟ “أن أبشر بين الأمم بغنى المسيح الذي لا يستقصی ، وانير الجميع في ما هو شركة السر المكتوم منذ الدهور في الله خالق الجميع بيسوع المسيح، لکی يعرف الآن عند الرؤساء والسلاطين في السماويات بواسطة الكنيسة ، بحكمة الله المتنوعة”.

صحيح أن هذا السر لم يعلن لانسان. وهل أنت تنير الملائكة ورؤساء الملائكة والرؤساء والسلاطين ؟ فقال : أنا كذلك. فقد قيل انه “السر المكتوم في الله” ، بل ” في الله خالق الجميع” وهل تتجاسر على النطق بهذا ؟ فقال : نعم أتجاسر : وكيف أعلن للملائكة ؟”بواسطة الكنيسة”.

ولم يقل فقط . “حكمة الله المتنوعة ( الكثيرة )” ، وما هذا ؟ ألم تكن الملائكة تعرفه ؟ نعم ، لم تكن تعرفه ، فان كان الرؤساء لم يعرفوه فبالاولى لم تكن الملائكة تعرفه. وماذا ؟ ألم يعرفه حتى رؤساء الملائكة ؟ حتى هؤلاء لم يعرفوه ، وكيف كان ممكناً أن يعرفوه ؟ ومن هو الذي كان سوف يعلنه عندما عرفناه نحن الذين أعلمناه لهم. فاسمع ما قاله الملاك ليوسف : “وتدعو اسمه يسوع ، لأنه يخلص شعبه من خطاياهم” ( مت 21:1).

لقد أرسل بولس نفسه إلى الأمم ، وأرسل الرسل الآخرون إلى الختان . ولذلك فإن الرسالة المذهلة العجيبة جداً أُعطيت لى “أنا الاصغر من اصغر جميع القديسين” وهذا أيضاً كان بالنعمة أن أصغر الجميع أعطيت له أعظم الأشياء ، أن يكون هو الرسول حامل هذه الأنباء. لان حامل أعظم الأنباء يكون بهذه الطريقة عظيماً.

أن أبشر بين الأمم بغنى المسيح الذي لا يستقصی“.

وإن كان غناه لا يستقصی ، وذلك حتى بعد ظهوره ، فبالأولى جوهره . ان كان لا يزال سراً، فبالأولى كان هكذا قبل أن يعلن. ولقد دعاه سراً لهذا السبب : لان الملائكة لم يكونوا يعرفونه ، ولا كان قد أعلن لأحد آخر.

وقال :”وأنير الجميع في ما هو شركة السر المكتوم منذ الدهور في الله خالق الجميع”.

لقد عرف الملائكة هذا فقط “أن قسم الرب هو شعبه” ( تث 8:32و 9) . وقيل أيضاً ” رئیس مملكة فارس وقف مقابلي” ( دا 10: 13). فلا غرابة إذن أنهم كانوا يجهلون هذا. لانهم ان كانوا قد جهلوا ظروف العودة من السبي فبالأولي كانوا يجهلون هذه الأمور . وهذا هو ما قاله الانجيل : “انه هو الذي يخلص شعبه” ( مت 21:1). ولم تذكر كلمة واحدة عن الأمم . أما فيما يختص بالامم فقد أعلنه الروح القدس. صحيح أن الملائكة عرفوا أن الأمم قد دعوا فعلاً. أما أن يدعوا للتمتع بنفس امتیازات اسرائیل ، بل ليجلسوا على عرش الله ، فمن ذا الذي كان يتوقع هذا؟ من ذا الذي كان يصدق هذا ؟

وقال : “المكتوم في الله“.

في الرسالة إلى أهل رومية فسر الرسول بولس هذا التدبير . وأكمل الكلام قائلا ” في الله خالق الجميع بيسوع المسيح”. وحسناً قال :”بيسوع المسيح”. فالذي خلق الكل بيسوع المسيح يعلن هذا أيضاً به . لانه “بغيره لم يكن شيء مما كان ، ( یو 3:1).

واذ تحدث عن “الرؤساء والسلاطين” تحدث عن الذين هم فوق ، والذين هم تحت.

“حسب قصد الدهور”، يعني أنه أعلن الآن ، لكنه قد سبق تدبيره منذ الأزل : “الذي صنعه في المسيح يسوع ربنا”۰أي حسب سابق علمه منذ الأزل ، لقد عرف مقدما ما سوف يكون فأمر به ۰

ع 12. وقال : “الذي به لنا جراءة وقدوم بايمانه عن ثقة“.

لنا قدوم ” لا كمسجونين ، ولا كأشخاص يطلبون الغفران ، ولا كخطاة . لانه يقول : “لنا جراءة عن ثقة ” ای جراءة مقترنة بثقة متهللة . ومن أي شيء نشأت ؟ من ايماننا به .

ع 13.” لذلك أطلب أن لا تكلوا في شدائدي لاجلكم التي هي مجدكم

كيف كانت لاجلهم، وکیف کانت  مجدهم ؟ ذلك لان الله هكذا أحبهم حتى بذل ابنه لاجلهم ، وسمح بالآلام لخدامة من أجلهم. فبولس زج به في السجن لكي ينالوا بركات وفيرة . يقينا أن هذا كان بسبب محبة الله الفائقة لهم ، وهذا ما قاله الله أيضا عن الانبياء : : “قتلتهم باقوال فمي ” ( هو 5 6). لكن كيف خارت قواهم في شدائد شخص آخر ؟ يقصد أنهم تضايقوا وانزعجوا. هذا أيضاً ما قاله عندما كتب لاهل تسالونیکی : “کی لا يتزعزع أحد في هذه الضيقات” ( 1تس 3:3) . لانه ليس مطلوبا منا فقط أن لا نحزن ، بل يجب أن نفرح. أن کنتم تجدون تعزية في التحذير مسبقاً، فاننا نسبق ونخبركم أننا متضايقون ، ولماذا نصلى ؟ لان الرب هكذا أمرنا.

ع 14 و 15. “بسبب هذا أحني ركبتي لدى أبي ربنا يسوع المسيح . الذي منه تسمى كل عشيرة في السماوات وعلى الأرض“.

هنا يبين روح صلاته من أجلهم . فانه لم يقل فقط “أصلي”، بل أظهر تضرعاته بكيفية يحس بها القلب و باحناء الركب.

“الذي منه تسمى كل عشيرة”.

أي أنه لم يعد يحسبها ضمن عدد الملائكة ، بل كما يحسبها ذاك الذي خلق العشائر في السماء من فوق ، وعلى الأرض من تحت ، لا كما بحسب اليهود.

ع 16 و17. ” لكي يعطيكم بحسب غنی مجده أن تتأيدوا بالقوة بروحه في الانسان الباطن. ليحل المسيح بالايمان في قلوبكم

لاحظ الغيرة المتأججة التي بها استمطر هذه البرکات عليهم لکی لا يتزعزعوا : وكيف يتم هذا ؟ بالروح القدس في انسانکم الباطن. ليحل المسيح بالايمان في قلوبكم ، وأيضا كيف يتم هذا ؟

ع 18و 19.”وأنتم متأصلون ومتأسسون في المحبة ، حتى تستطيعوا أن تدركوا مع جميع القديسين ما هو العرض والطول والعمق والعلو ، وتعرفوا محبة المسيح الفائقة المعرفة”.

هذه هي صلاته الآن ثانية ، وهي نفس الصلاة التي بدأ بها رسالته : ” کی يعطيكم اله ربنا يسوع المسيح أبو المجد روح الحكمة والاعلان في معرفته ، مستنيرة عيون أذهانكم لتعلموا ما هو رجاء دعوته ، وما هو غنی مجد ميراثه في القديسين ، وما هي عظمة قدرته الفائقة نحونا نحن المؤمنين” ( ص 1: 17- 19).

والآن نراه يكرر نفس الكلام : حتى تستطيعوا أن تدركوا على جميع القديسين ما هو العرض والطول والعلو والعمق، أي تعرفوا – معرفة کاملة – السر الذي رتبته العناية الإلهية لاجلكم . “العرض والطول والعلو والعمق” أي غزارة محبة الله ، وكيف أنها تمتد إلى كل اتجاه . وهو يحددها بالمقاييس المنظورة للاجسام ، كأنه يشير بها للانسان . لقد شمل ما هو فوق ، وما هو تحت ، وما هو في كل جانب . كأنه قد قال : لقد تكلمت هكذا ، ليس بكلمات من عندي ، لكي اعرفكم هذه الأشياء ، فهذا يجب أن يكون من عمل الروح القدس . لكى تشتدوا ازاء التجارب انتی تنتظركم ، ولكي تبقوا غير مزعزعين . ولذلك فليس هنالك طريقة أخرى لتشدیدکم الا بالروح القدس ، سواء بازاء التجارب ، أو الافكار الجسديه.

وكيف يحل المسيح في القلوب ؟ استمع إلى ما قاله المسيح نفسه : “اليه نأتي ( أنا وأبي ) وعنده نصنع منزلنا” ( یو 14: 23) . هو يحل في القلوب المخلصة الامينة ، في المتأصلين في محبته ، الذين يبقون ثابتين وغير متزعزعين .

لكي تنالوا القوة الكاملة . ولذلك فالأمر يتطلب قوة عظيمة.
“لكي تمتلئوا الى كل ملء الله”.

وماذا يعني الرسول بهذا التعبير؟ مع أن محبة المسيح تسمو فوق کل معرفة بشرية ، الا انكم سوف تعرفونها ان كان المسيح حالاً في قلوبكم ، ولا تعرفون ذلك منه فقط ، بل أيضاً “تمتلئون إلى كل ملء الله” والمقصود بملء الله ، أما أن نعرف كيف يعبد الله في الآب والابن والروح القدس ، أو حثهم على استخدام كل جهد ليمتلئوا بكل فضيلة يمتليء بها الله .

ع 20. “والقادر أن يفعل فوق كل شيء أكثر جداً مما نطلب او تفتكر ، بحسب القوة التي تعمل فيناً.

واضح مما قاله الرسول نفسه أن الله فعل “فوق كل شيء أكثر جداً مما نطلب أو نفتكر” لقد قال : “انني فعلا أصلى ، بل هو نفسه يعمل أكثر جداً مما نطلب ، حتى دون أن أصلي. وليس ذلك فقط ، بل فوق كل شيء ، وهذا واضح من “القوة التي تعمل فينا” فاننا لم نطلب هذه الأشياء ، ولا توقعناها . 

ع 21 . “ له المجد في الكنيسة في المسيح يسوع الى جميع أجيال دهر الدهور آمين” ، وبهذا يختم حديثه هنا في هذا الإصحاح.

وحسنا ختم حديثه بصلاة و تسبيحة شكر . فخليق بمن وهبنا كل هذه الهبات الجليلة أن يقدم له المجد والتسبيح ، ولان هذا هو جزء من اعجابنا بمراحمه ، وأن نعطيه المجد من أجل ما منحنا الله اياه بیسوع المسيح .

المجد في الكنيسة“. وحسنا قال هذا لان الكنيسة هي وحدها القائمة الى الابد.

ويبدو أنه من الضروري أن نبين المقصود ب “كل عشيرة ” ع15. توجد هنا على الأرض عشائر ، أي أجناس نشأت من اب واحد . اما في السماء فكيف يمكن أن يكون هذا ، حيث لم يولد انسان من آخر ؟ فيقينا اذن إما أن يكون المقصود بالعشائر جماعات ورتب السمائيين ، كما نجده مکتوبا في الكتاب المقدس : “عشيرة مطري” ( 1 صم 10: 21: أنظر الترجمة السبعينية ) . أو قد يكون المقصود أن العشائر مستمدة من ذاك الذي استمد منه الآباء الأرضيون لقب الأب الذي يستخدمونه.

وعلى أي حال فانه لم يسأل كل شيء من الله ، بل طلب منهم أيضاً, الايمان والمحبة ، وليس مجرد المحبة ، بل المحبة المتأصلة المؤسسة ، وأنتم متأصلون ومتأسسون في المحبة ، لكي لا يزحزحها أي مؤثر خارجی . ولقد سبق أن قال ان الشدائد مجد ع ۱۳. و كأنه قد قال : إن كانت شدائدی هي مجد لكم ، فبالأولى تكون شدائدكم أنتم . ولذلك فان حلت الشدائد بالناس فليس هذا دليلاً على أن الله تركهم ، لان الله الذي عمل معنا عظائم كهذه لن يتخلى عنا قط.

وأيضا ان كان ضروريا لبولس – لكي يعرف محبة الله – أن يصلى ، وان كان الأمر يستدعي حلول الروح القدس فينا ، فمن ذا الذي يستطيع أن يدرك طبيعة المسيح بمجرد استخدام عقله ؟ ولماذا يكون أمراً شاقاً أن نعرف بان الله يحبنا ؟ أيها الأحباء ، أن هذا أمر شاق جداً. فالبعض لا يعرفون حتى هذا ، بل انهم يقولون ان شروراً لا يحصى عددها تأتي الى العالم ، وآخرون لا يعرفون مدى هذه المحبة . وبولس نفسه لم يحاول معرفة مداها ، أو يقيسها. لأنه كيف كان ممكناً له أن يفعل هذا ؟ لكنه أدرك فقط أنها سامية وعظيمة . وقد قال انه يقدر أن يبين هذا من المعرفة التي منحت لنا.

وعلى أي حال : أي شيء أعظم من ان نكون “متقوین بكل قوة ” ( کو 11:1) لكي يحل فينا المسيح ؟ لقد قال ان الاشياء التي نطلبها كثيرة جداً ، لكن الله قادر أن يفعل أكثر منها ، ولذلك فانه لا يحبنا فقط ، بل يحبنا محبة عميقة جداً. فلنحرص أيها الأحباء على أن ندرك محبة الله . هذا شيء عظيم فعلاً. لا يوجد شيء أكثر لنا من هذا . ولا يوجد شيء يمسنا مثل هذا. هذا يقدر أن يقنع نفوسنا أكثر من الخوف من جهنم نفسها.

وكيف إذن نقدر أن نفهم هذا ؟ يمكن أن نفهمه من المصادر السابق ذكرها ، ومن الأمور التي تحدث لنا كل يوم، وما هي البواعث التي من أجلها تمت كل هذه لنا ؟ وما هي الضرورة التي ألجأته ليفعل هذا لنا ؟ لا شيء مطلقا : أنه يكرر مراراً بان المحبة هي الباعث. لكن أسمى درجات المحبة هي الباعث : لكن أسمى درجات المحبة هي أن ينال البشر برکات الله دون أن يكونوا قد فعلوا أية خدمة تستدعيها.

مغزی ادبی

إذن فلنتبعه . لنفعل الخير لاعدائنا ، ولمبغضينا . لنقترب ممن يتباعدون عنا : هذا يجعلنا متمثلين بالله . “لأنه إن أحببتم الذين يحبونكم فأي أجر لكم ؟ أليس العشارون ايضا يفعلون ذلك ؟” ( مت5: 46). وما هو الدليل القوى للمحبة ؟ هو أن تحب من يبغضك . اسمحوا لي أن أقدم لكم أحد الأمثلة . وطالما كنت لا اقدر ان اجده بين الروحانيين ، فساقتبس مثلا ممن هم في الخارج : ألستم ترون أولئك المحبين ؟ كم من الاهانات تلحق بهم من سيداتهم ، کم خدعة عملت معهم ، كم من القصاصات حلت بهم ، ومع ذلك فانهم يتمسكون بهن ، ويتحرقون لاجلهن ، ويحبونهن أفضل من أنفسهم ، ويقضون ليالي كاملة أمام عتبة منزلهن.

فلنتخذ مثلنا منهم. لست أقصد أن نحب اولئك الزوانی . کلا ، بل لنحب أعداءنا . لان أولئك الزواني يعاملن محبيهن بوقاحة أشنع من كل الاعداء في العالم ، ويبددن ثروتهن ، ويقذفن الإهانة في وجوههم ، ويفرضن عليهم أعمالاً أحقر مما يفرضنها على احقر خدمهن . ومع ذلك لا يكفون عن محبتهن رغم أنه لا يجد أحد أي عدو في اي انسان كما يجد المحب في سيدته. بل أن هذه المحبوبة تزدري بمن يحبها ، وتهينه ، وفي كثير من الأحيان تسيء معاملته ، وكلما ازدادت محبته لها ازدادت إهانتها له . وهل توجد روح وحشية أشنع من هذه ؟ ورغم هذا فانه يستمر في أن يحبها.

ولعلنا نجد مثل هذه المحبة أيضا في الأشخاص الروحانيين ، لكن ليس في أيامنا ، لان المحبة بردت ( مت 12:24) ، بل في عظماء العهود الغابرة . فان موسی ، ذلك الرجل الطوباوی ، فاقت محبته محبة من كانوا يحبون بعواطفهم البشرية . وكيف كان ذلك ؟ أولاً أنه هجر القصر الملکی بما يكتنفه من تنعم وخدم وأمجاد ، وفضل أن يكون مع الاسرائيليين . وهذا أمر لا يمكن أن يفكر فيه أحد ، والأكثر من هذا أن كل واحد يستنكف آن ينتمي لجماعة من العبيد ، بل المنبوذين. ولم يقتصر الأمر على أنه لم يخجل من شعبة ، بل بكل قوته دافع عنهم ، وعرض نفسه للاخطار من أجلهم : ( أع 7: 24)

و كيف كان ذلك ؟ قيل انه اذ رای شخصاً ما يسيء إلى واحد منهم دافع عن المساء اليه وقتل المسيء . لكن ليست هذه محبة للاعداء : صحيح أن هذا عمل عظيم ، لكنه ليس في عظمة ما سوف نراه فيما بعد . ففي اليوم التالي رأى نفس المنظر يحدث . فانه عندما رأى الذى دافع عنه في اليوم السابق[1] يسيء إلى أخيه نصحه بان يكف عن الإساءة اليه . أما هو فقال له بجحود شدید : « من أقامك رئيساً وقاضياً علينا ؟ ، ( أع ۷ : ۲۷ ) ومن لا تهيجه هذه الكلمات ؟ لو كان التصرف السابق قد تم بسبب العواطف الثائرة لكان قد قتل هذا الانسان أيضاً، لان الشخص الذي أنصف لم يكن ممكنا قط أن يبلغ عنه الجهات المسئولة . لكنه قال هذا لانهما كانا أخوان ، عندما أسيء إلى العبراني لم ينطق بكلمة كهذه : من أقامك رئيسا وفاضيا علينا ؟ .. لماذا لم تقل كهذا أمس ؟ ولو كان قد قال هكذا لاجابه موسی : “أن ظلمك وشرك وقساوتك هي التي جعلتني رئيساً وقاضياً.

والان لاحظ : كم من أشخاص يوجهون في الواقع مثل هذا الكلام لله نفسه . فانهم كلما أسيء اليهم فعلا يتمنون أن يكون هو اله نقمة ، ويشكون من طول أناته وصبره، أما إن اساءوا هم الى غيرهم فانهم لا يفكرون في هذا لحظة واحدة . 

وعلى أي حال : هل توجد كلمات مريرة كهذه ؟ ورغم هذا فانه عندما أرسله الله فيما بعد إلى ذلك الشعب الناكر الجميل ذهب دون تردد بل انه بعد تلك المعجزات ، وبعد تلك العجائب التي تمت على يديه ، سعی ذلك الشعب مرارا أن يرجموه ليقتلوه ، أما هو فنجا من أيديهم : لقد ظلوا يتمردون عليه بدون انقطاع ، ومع ذلك أحبهم محبة شديدة ، لدرجة أنه قال لله عندما ارتكبوا تلك الخطية الشنيعة : “والآن أن غفرت خطيتهم ، والا فامحني من كتابك الذي كتبت” ( خر ۳۲ : ۳۲ ) . انني أفضل أن أهلك معهم عن أن اعيش بدونهم.

هنا في الواقع نجد المحبة الشديدة جداً، التي ليست لها حدود. ماذا تقول یا موسی ؟ ألا تبالي بالسماء ؟ نعم أبالي ، لانني أحب من اساءو إلى. أتطلب بان يمحي اسمك من كتاب الله ؟ نعم ، فالمحبة هي التي تدفعني لهذا . استمع إلى ما يقوله الكتاب في مكان آخر :”حتى تأذي موسى بسببهم” ( مز 106: 32) . كم مرة تهوروا عليه ؟ كم مرة رفضوه ورفضوا أخاه ؟ كم مرة طلبوا أن يرجعوا إلى مصر ؟ وبالرغم من كل هذا كانت محبته لهم مشتعلة ، وكان مستعداً أن يتألم من أجلهم .

هكذا ينبغي أن يحب كل امرىء أعداءه ، وان يسعى لخلاصهم ؛ بالبكاء ، والاحتمال الذي لا يكل ، وبعمل كل شيء ، وباظهار كل عطف .

وماذا فعل أيضا بولس الرسول ؟ ألم يطلب بان يكون محروماً من المسيح لأجل أخوته ؟ ( رو ۳:۹) . لكن المثل الأعلى نستمده من ربنا ، لأنه هو نفسه قال : “فانه يشرق شمسه على الاشرار والصالحين” ( مت 5 : 45 ) متخذا المثل من الآب ، ونحن نتخذه من المسيح نفسه . فانه لأجلهم جاء بتجسده ، واتخذ صورة عبد لأجلهم : “لكنه اتضع وأخلى نفسه ، آخذا صورة عبد” ( في 7:2و 8) . وعندما جاء اليهم لم يمض إلى طريق أمم ( مت 5:10) ، وأعطى نفس هذه الوصية لتلاميذه ، وليس ذلك فقط ، لكنه “كان يطوف كل الجليل يشفي كل مرض وكل ضعف في الشعب” ( مت 4 : 23).

ثم ماذا ؟ لقد ذهل كل الباقين وتعجبوا وقالوا : “من أين لهذا هذه كلها”( مت 13: 56 ) . لكن أولئك الذين أحسن اليهم قالوا : ط به شيطان” ( یو 10: 20) ، وهو” يجدف” ، ( يو 10: 36) ،”ويضل الشعب” ( يو 12:7) ، وهو “المضل” ( مت 27: 63).

أما هو فهل نبذهم لأجل هذا ؟ كلا ، لكنه لما سمع هذه الأقوال ازداد سخاء في توزيع هباته عليهم ، وذهب مباشرة إلى من كانوا مزمعين أن يصلبوه طالباً أن يخلصهم : وماذا كانت كلماته بعد أن صلب ؟ “يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون” ( لو 23: 34). والذین عاملوه بقسوة قبل هذا ، وبعد هذا ، عمل كل شيء لخيرهم ، وصلى لأجلهم . وما الذي لم يعمله من أجلهم بعد الصليب نفسه ؟ ألم يرسل لهم الرسل ؟ ألم يصنع المعجزات من أجلهم ؟ الم يهز العالم كله ؟

هكذا يجب أن نحب أعداءنا ، متمثلين بالمسيح . هكذا فعل بولس الرسول فانه اذ رجم ، وتحمل أنواعاً من القسوة لا حصر لها ، عمل كل شيء لخيرهم : استمع إلى كلماته : “أن مسرة قلبي وطلبتي إلى الله لاجل اسرائيل هي للخلاص” وقال أيضا “لاني أشهد لهم أن لهم غيرة الله” ( رو 1:10و2) . وقال أيضا : “لأنه إن كنت قد قطعت من الزيتونة البرية حسب الطبيعة وطعمت بخلاف الطبيعة في زيتونة جيدة فكم بالحری يطعم هؤلاء الذين هم حسب الطبيعة في زينونتهم الخاصة”( رو 11: 24) كم كانت رقيقة جدا تلك العواطف التي صدرت عنها هذه التعابير ، و كم كانت غنية هذه المحبة ؟ من المستحيل الوصول إلى عمقها.

هكذا ينبغي أن نحب أعداءنا . هذا يعني اننا نحب الله ، الذي أوصانا بالمحبة ، واعطاها لنا كشريعة جديدة ونحن اذ نقتدي به فاننا نحب أعداءنا. ولاحظ بانك اذ تحب عدوك فانك لا تحسن اليه ، بل تحسن إلى نفسك ، وانك لا تحبه بل تطیع الله.

واذ عرفنا هذا ليتنا ندعم محبتنا بعضنا للبعض ، لكي نؤدي هذا الواجب کاملاً، و ننال تلك الخيرات التي وعدنا بها المسيح يسوع ربنا ، الذي يليق له مع الآب والروح القدس المجد والقوة والكرامة ، الآن والى الأبد . آمين ؟

فاصل

  1. غير واضح مما ورد في ( خر 2: 11 الخ ) أو في ( اع 7: 24 الخ ) أن العبراني الذي أساء إلى أخيه هو نفس الشخص الذي سبق أن دافع عنه موسى في اليوم السابق.

فاصل

 

فاصل

تفسير أفسس 2 تفسير رسالة أفسس تفسير العهد الجديد
تفسير أفسس 4
القديس يوحنا ذهبي الفم
تفاسير رسالة أفسس تفاسير العهد الجديد

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى