تفسير رسالة أفسس أصحاح ٢ للقديس يوحنا ذهبي الفم

تفسير أفسس – الأصحاح الثاني

 العظة الرابعة
( ص 2: 1-3)

“وَأَنْتُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَمْوَاتًا بِالذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا، الَّتِي سَلَكْتُمْ فِيهَا قَبْلاً حَسَبَ دَهْرِ هذَا الْعَالَمِ، حَسَبَ رَئِيسِ سُلْطَانِ الْهَوَاءِ، الرُّوحِ الَّذِي يَعْمَلُ الآنَ فِي أَبْنَاءِ الْمَعْصِيَةِ، الَّذِينَ نَحْنُ أَيْضًا جَمِيعًا تَصَرَّفْنَا قَبْلاً بَيْنَهُمْ فِي شَهَوَاتِ جَسَدِنَا، عَامِلِينَ مَشِيئَاتِ الْجَسَدِ وَالأَفْكَارِ، وَكُنَّا بِالطَّبِيعَةِ أَبْنَاءَ الْغَضَبِ كَالْبَاقِينَ أَيْضًا،”

نحن نعلم أن هنالك موتاً جسدياً، وهنالك موتاً روحیاً. أما عن الأول فانه لا توجد أية جريمة أن اشتركنا فيه ، ولا يوجد خطر فيه ، طالما لم يكن هنالك لوم لاصق به ، لأنه أمر طبیعی ، وليس لنا أي مجال لنختاره بارادتنا. ومصدره هو مخالفة الإنسان الأول ، ومن هناك انتقل الى الطبيعة . وفي كل الحالات ينتهي سريعاً.

أما الموت الروحي ، فانه يقترن بالجريمة ، وليست له نهاية ، لأنه يتم باختيارنا . لاحظ كيف أن بولس الرسول ، بعد أن بين شناعته ، وأظهر أن احياء نفس ميتة أشق من احياء شخص میت کشف هنا عن شناعته الحقيقية . 

ها هو يقول : ” وأنتم اذ كنتم أمواتاً بالذنوب والخطايا ، التي سلكتم فيها قبلا حسب دهر هذا العالم ، حسب رئيس سلطان الهواء ، الروح الذي يعمل الآن في أبناء المعصية”. أنتم تلاحظون رقة بولس ، وكيف كان في كل المناسبات يشجع المستمع ، ولا يقسو عليه ، فمع أنه قال لهم : “انکم قد وصلتم إلى أقصى درجات الشر ( وهذا هو معنى أنهم صاروا أمواتاً) ، فلكي لا يسبب لهم الحزن الشديد ( لأن الناس يخجلون عندما تفضح أعمالهم الشريرة السابقة ، حتى وان كانت قد غفرت ، ولم يعد من ورائها أي خطر ) قال لهم ان لهم شريكاً في الجريمة ، لكي يذكروا أن شرورهم لا تعزى لهم فقط ، بل لشريكهم في الجريمة ، وهذا الشريك قوي . ومن هو هذا الشريك ؟ هو ابليس.

وهذا ما فعله ايضا في الرسالة إلى أهل كورنثوس . فبعد أن قال : “ولا تضلوا ، لازناة ، ولا عبدة أو ثان ” (1کو9:6) ، وبعد أن عدد كل الرذائل الأخرى ، وقال في الختام “لا يرثون ملكوت الله” أضاف هذه الكلمات : “وهكذا كان أناس منكم” ، لم يقل بصفة جازمة : “كنتم كلكم” بل “کان أناس منكم” أي كنتم أنتم هكذا إلى حد ما.

وهنا يهاجمنا الهراطقة ، اذ يقولون لنا أن هذا التعبير “رئیس سلطان الهواء الخ ” يشير إلى الله ، ويطلقون العنان للسانهم المنفلت ، ويطبقون هذا الكلام على الله ، مع أنه لا يشير الا الى ابليس وحده.

و كيف يمكننا أن نخرسهم ؟ بنفس الكلمات التي يستخدمونها هم . لأنه إن كان الله باراً، كما يصرحون هم أنفسهم ، ومع ذلك أرتكب هذه القبائح ، فهذه لا تليق بكائن بار ، بل بکائن فاسد ، وحاشا لله أن يكون فاسداً.

وأيضا : لماذا قال عن ابليس انه “رئیس” العالم ؟ لأن كل الجنس البشری تقریباً سلموا أنفسهم له ، والكل صاروا عبيدا له باختيارهم ورغبتهم. أما المسيح فلم يصغ له أي واحد ، رغم أنه وعدهم ببرکات لا حصر لها ، بينما خضع الجميع للشيطان رغم أنه لم يعدهم بای شیء من هذا القبيل . اذن فمملكته من هذا العالم ، وله أتباع – باستثناءات قليلة . أكثر من أتباع الله ، وأكثر خضوعاً له ، وذلك بسبب كسلنا وبلادتنا وتراخينا.

وقال : “حسب رئيس سلطان الهواء ، الروح“.

هنا أيضا يقصد الشيطان الذي يحتل الهواء تحت السماء ، كما يقصد أن القوات غير الجسدية هي أرواح الهواء ، التي تحت سلطانه . فان مملکته هي من هذا الدهر ، أي ستبطل مع هذا الدهر . واصغ إلى ما قاله في نهاية الرسالة : “فان مصارعتنا ليست مع لحم ودم ، بل مع الرؤساء السلطات مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر” ( أف 12:6) ولئلا تقول – عندما تسمع عن ولاة العالم – ان ابليس غير مخلوق ، قال في موضع آخر ( غل 4:1) عن العصر الفاسد أنه “العالم الحاضر الشرير” وهذا ليس من المخلوقات . لأنه يبدو لي أنه – اذ كان له سلطان تحت السماء – لم يتحرر من سلطانه حتى بعد المعصية.

وقال أيضا : “الذي يعمل الآن في أبناء المعصية

وهنا نلاحظ أنه لا يجذبنا الى نفسه بالقوة ، أو بالأرغام ، بل بالاقناع . فالكلمة المستخدمة هنا “المعصية” ، أي عدم الطاعة . كأنه أراد أن يقول انه يجذب كل اتباعه لنفسه بالخداع والاقناع. وهو لم يعطهم فقط کلمة تشجيع بان يقول لهم ان لهم رفيقاً، بل بين لهم أنه هو نفسه يُحسب من زمرتهم ، اذ قال :

الذين نحن أيضا جميعاً تصرفنا قبلا

“جميعاً”، لأنه لم يكن ممكنا أن يقول أن أي واحد قد استثنی

في شهوات جسدنا عاملين مشيئات الجسد والأفكار ، وكنا بالطبيعة ابناء الغضب کالباقين أيضاً“۰

أي بدون عواطف روحية . ومع ذلك ، فلكي لا يفتري على الجسد ، او لكي لا يظن بان المعصية لم تكن شديدة فلاحظ كيف احتاط للأمر : فقال : “عاملين مشيئات الجسد والأفكار”.

أي الشهوات المبهجة . كأنه قد قال : اننا أغضبنا الله ، وكنا غضبا. لأنه كما ان المولود من الانسان يدعى بالطبيعة انساناً، هكذا كنا نحن أيضا أبناء الغضب ، . لم يبق أي واحد خالياً، لكننا جميعا ارتكبنا ما يستحق الغضب.

ع 4. “الله الذي هو غني في الرحمة “.

ليس الله رحيماً فقط ، بل هو غني في الرحمة . كما قيل في موضع أخر :”ككثرة مراحمك التفت إلى”( مز 69 : 16 ) . وقيل أيضا : “أرحمني يا الله حسب رحمتك ، حسب كثرة رأفتك امح معاصی” ( مز 1:51)

ع 4. “من أجل محبته الكثيرة التي أحبنا بها “۰

ولماذا أحبنا ؟ لأن هذه الأمور لم تكن مستحقة المحبة ، بل الغضب والقصاص القاسي . ولذلك كان يجب أن تظهر الرحمة الغنية .

ع 5.”ونحن أموات بالخطايا أحيانا مع المسيح”.

وهنا أيضا ذكر المسيح . وهذا موضوع يستحق منا الإيمان ، لأنه اذا كانت الباكورة حية فنحن أيضا أحياء . فالله قد أحيا المسيح واحيانا ألست ترى أن هذا كله قيل عن المسيح المتجسد ؟ ألست تری “عظمة قدرته الفائقة نحونا نحن المؤمنين ؟” ( اف 1: 19) . لقد أحيا الذين كانوا امواتا ، وأبناء الغضب . لاحظ “رجاء دعوته” ، ع 18.

ع6. “واقامنا معه ، وأجلسنا معه”

ألست تری مجد میراثه ؟ واضح انه “أقامنا معه”. لكن كيف يتفق هذا مع ما قاله انه “أجلسنا معه في السماويات في المسيح يسوع” ؟ هذا صحیح كما هو صحيح أنه أقامنا معه. لأنه إلى ذلك الوقت لم يكن أحد قد قام فعلاً سوى انه اذ قام الرأس فنحن أيضا قمنا ، كما حدث في التاريخ فانه عندما سجد يعقوب ليوسف قيل ان زوجته سجدت معه أيضا ( تك 37: 9، 10) . وبنفس الطريقة “أجلسنا معه نحن أيضا”. فالرأس اذا جلست جلس معها الجسد أيضاً. ولذاك أضاف هذه العبارة “في المسيح يسوع”.

وان لم يكن هذا هو المعنى المقصود فقد يكون المعنى انه بجرن المعمودية “أقامنا معه”. وفي هذه الحالة كيف يمكن القول أنه “أجلسنا معه ؟” لأنه ، كما قال : “ان كنا نتألم فسنملك أيضاً معه” ( 2تی 12:2) ، ان متنا معه فاننا نحيا أيضاً معه . یقینا اننا في حاجة إلى الروح القدس والى روح الاعلان لكي نفهم عمق هذه الأسرار ولكي لا يكون هنالك أي مجال للشك في الأمر لاحظ ما أفافه فيما بعد.

 ع 7. “ليظهر في الدهور الآتية غنى نعمته الفائق باللطف علينا في المسيح يسوع”.

لأنه إذ كان يتكلم عن الأمور المختصة بالمسيح ، وقد يظن بان هذه . لا تخصنا “فقد يقال انه اذ قام فان هذا لا يخصنا” لذلك بين أن هذه تتصل بنا لأنه صار واحداً معنا. لقد بين بصفة خاصة أن هذا الأمر يخصنا . لأنه قال : “نحن الذين كنا أمواتاً بالذنوب أقامنا معه وأجلسنا معه” .

لذلك . كما قلت – لا تكن غير مؤمن ، خذ الأدلة التي استقاها من الحقائق السابقة ، ومن رغبته في اظهار صلاحه . لأنه كيف يظهره لو لم يتم هذا ؟ وسوف يظهره ” في الدهور الآتية”. ما هذا ؟ سوف يظهر أن البرکات عظيمة ، وأكثر يقينية من أي عصر آخر : أن الأمور التي سبق التحدث عنها قد تبدو لغير المؤمنين جهالة . لكن الجميع سوف يعرفونها.

هل تريد أن تدرك أيضاً كيف أجلسنا معه ؟ استمع إلى ما قاله المسيح نفسه للتلاميذ : “تجلسون أنتم أيضا على اثنى عشر کرسیاً تدينون أسباط اسرائيل الاثني عشر” ( مت 19: 28) . وقال أيضا : “أما الجلوس عن يميني وعن يساري فليس لي أن أعطية الا للذين أعد لهم من أبي” ( مت 22:20) : اذن فان هذا قد أعد.

ولكي لا تدفعك عظمة البركة الممنوحة لك إلى الانتفاخ لاحظ كيف أذلك بقوله ” لانكم بالنعمة مخلصون” وقال أيضا:

“بالایمان”.

ومن الناحية الأخرى ، لكي لا يقل شأن حرية ارادتنا أضاف أيضا الواجب المفروض علينا في هذا العمل ، وفي نفس الوقت الغاه ، وأضاف قائلاً ” وذلك ليس منكم”.

وهو يعني أنه حتى الايمان ليس منا. لأنه لو لم يكن قد أتى ، ولو لم يكن قد دعانا ، فكيف كان ممكناً لنا أن نؤمن ؟ وقال : كيف يؤمنون أن لم يسمعوا ؟ ، ( رو 14:10) وهكذا نرى أن عمل الايمان نفسه ليس منا.
وقال : “هو عطية الله”، “ليس من أعمال” ع ۹.

ولعلك تقول : هل كان الايمان كافياً ليخلصنا ؟ كلا . فالله تطلب هذا لئلا يخلصنا ونحن بدون أعمال قط . وكلامه يعني أن الإيمان يخلص ، وذلك لان الله هكذا يريد أن الإيمان يخلص لكن كيف يمكن أن الایمان يخلص بدون أعمال ؟ هذا « هو عطية الله.

ع9. “کی لا يفتخر أحد”. ذلك لكي يثير فينا احساساً طيباً نحو عطية النعمة هذه. وقد يقول قائل : « وماذا اذن ؟ هل الله نفسه منع أن نتبرر بالاعمال ؟ كلا . فقد قال انه لن يتبرر أحد بالأعمال لكي يظهر الله نعمته ومحبته : أنه لم يرفضنا لأن لدينا أعمالاً ، لكنه خلصنا بالنعمة على أساس أنه ليس لنا أعمال ، لكي لا يكون للانسان ما يفتخر به. ولذلك ، فلکی لا تتكاسل عن الأعمال عندما تسمع أن الأمر كله لا يتم بالاعمال بل بالايمان ، لاحظ كيف استمر في حديثه :

ع 10. “لاننا نحن عمله مخلوقين في المسيح يسوع لاعمال صالحة قد سبق الله فأعدها لکی نسلك فيها”

لاحظ الكلمات التي استخدمها . فانه هنا يشير إلى التجديد ، الذي هو في الحقيقة خلقة جديدة . اننا قد أُوجدنا من العدم إلى الوجود . وفيما يختص بما كنا عليه سابقاً، أي الانسان العتيق ، فنحن أموات . وأما فيما يختص بما وصلنا اليه الآن ، فاننا لم نكن فيما قبل . فيقينا أن هذا العمل يعتبر خلقة، بل إنه أكثر نبلاً من قبل لاننا من الناحية الأولى نستمد وجودنا ، ومن الناحية الأخيرة نستمد خيرنا أول كل شي ، وفوق كل شيء .

“لاعمال صالحة قد سبق الله فأعدها لکی نسلك فيها”.
ليس فقط لكي نبدأ ، بل لكي نسلك فيها . لاننا نحتاج إلى قوة تبقى معنا إلى النهاية ، وتستمر معنا إلى يوم الممات . ان كان لا بد لنا أن نجتاز طريقاً يؤدي الى مدينة ملكية ، وبعد أن نكون قد اجتزنا الجزء الأكبر منه نتراخي ونتكاسل ، ونجلس قرب نهايته ، فان تعبنا الماضي كله لا يفيدنا. لان رجاء دعوتنا هو “الاعمال الصالحةط. والا فلا يفيدنا هذا الطريق شيئاً.

 مغزی أدبی

وهكذا نراه هنا لا يفرح لاننا اتممنا عملاً واحداً، بل كل الأعمال . فكما أن لنا خمس حواس، ويجب أن نستخدمها كلها في أوقاتها المناسبة ، كذلك يجب أن نستخدم أيضا كل مواهبنا. فاذا كان انسان عفيفاً لكنه غير رحيم، وان كان رحيماً لكنه بخيل ، وان كان لا يمس أموال غيره لكنه لا يعطى من ماله، فان ذلك كله لا فائدة منه. لان فضيلة واحدة لا تكفي لكي تجعلنا نقف بدالة أمام كرسي الدينونة الذي للمسيح . فنحن مطالبون ان تكون الفضيلة متعددة الجوانب ، و كاملة.

استمع إلى ما قاله المسيح للتلاميذ : “اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم ، وعلموهم جميع ما أوصيتكم به” ( مت 28: 19) . وقال أيضا : “فمن نقض احدى هذه الوصايا الصغرى وعلم الناس هكذا يدعي أصغر في ملكوت السماوات” ( مت 5: 19) أي في قيامة الأموات ، بل انه لا يدخل الملكوت ، لأنه اعتاد أن يقول عن وقت القيامة من الأموات انه هو الملكوت. “من نقض واحدة ۰۰۰ يدعی أصغر”، اذن فنحن في حاجة إلى كل الوصايا.

ولاحظ أننا لا يمكننا الدخول بدون أعمال الرحمة ، وان لم تتوفر هذه ذهبنا إلى النار الابدية . لأنه يقول : “اذهبوا عنی یا ملاعين إلى النار الأبدية المعدة لابليس وملائکته” : ولماذا ، ولأي سبب ؟ “لانی جعت فلم تطعموني ، عطشت فلم تسقوني ” ( مت 41:25، 42) .

لاحظ اذن كيف انهم هلكوا بسبب هذه التهمة الوحيدة دون غيرها . هذا السبب الوحيد أيضا حرم العذارى الجاهلات من الدخول إلى العرس رغم انهن کن متصفات بالعفة.

والرسول يقول : “والقداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب” ( عب 14:12).

لاحظ اذن انه بدون العفة لن يرى أحد الرب. ومع ذلك فلا يستنتج من هذا أنه من الممكن أن نراه لمجرد العفة ، لأنه قد يكون هنالك مانع في الطريق . وأيضاً ان فعلنا كل شيء باستقامة، لكننا امتنعنا عن أن نقدم خدمة لأخينا فاننا في هذه الحالة لن ندخل الملكوت.

ومن أين نتعلم هذا ؟ من مثل العبيد الذين اؤتمنوا على الوزنات ففضيلة هذا الانسان كانت بلا لوم من كل النواحي ، وكان لا ينقصه شئ. لكن لانه كان متكاسلاً في عمله فقد طرح خارجاً بعدل. نعم ، فالمرء قد يطرح في جهنم بسبب التعنيف فقط . قال المسيح : “من قال لأخيه يا أحمق يكون مستوجب نار جهنم” ( مت 22:5) : وان كان الانسان مستقیماً في كل شيء ، لكنه مؤذ ، فانه لن يدخل.

ولا ينسبن أحد القسوة لله اذ لا يدخل ملكوت السماوات من يسقطون في هذه الناحية . لانه – حتى بين البشر – اذا ارتكب أي انسان أمراً مخالفا للقوانين فانه يبعد من حضرة الملك. واذا تعدى أحد القوانين الرئيسية كأن يوجه تهمة كاذبة لغيره ، فانه يطرد من وظيفته : واذا ارتكب خطية الزنی ، واکتشف أمره فانه يهلك : حتى وان كان قد فعل عشرة آلاف عمل صالح : وان ارتكب خطية القتل ، وحكم بادانته ، فان هذا يكفي للحكم عليه بالهلاك.

وان كانت قوانين البشر تحترم هكذا بكل حرص فبالأولى جداً شرائع الله . قد يقول قائل : “لكنه صالح” والى متى نقول هذا الكلام الاحمق ؟ أقول “أحمق” ليس لأنه غير صالح ، بل لاننا نستمر في التفكير بان صلاح الله يفيدنا في هذه الأغراض ، رغم أنني استخدمت مراراً عشرات الألوف من الحجج في هذا الموضوع . استمع الى الكتاب المقدس اذ يقول : “لا تقل أنه يتجاوز عن كثرة ذنوبي لان رأفته كثيرة” ( حكمة يشوع بن سيراخ 5: 6).

انه لا يمنعنا من القول “ان رأفته كثيرة” ليس هذا هو ما يأمرنا به . لكنه بالحرى يريدنا أن نردد هذا بصفة مستمرة ، ولهذا الغرض أقام الرسول بولس كل أنواع الحجج ، لكن كان هذا هو هدفه. لا تعجب بمحبة الله وعطفه لكي تتخذ من هذا حجة لتخطى و تقول “ان رأفته تجعله يتجاوز عن كثرة ذنوبي” ولهذا الغرض أيضاً أنا أكثر التحدث عن صلاح الله ، ليس لكي نتعدى عليه ، ونفعل كل ما نريد ، ففي هذه الحالة يكون هذا الصلاح هادما لخلاصنا ، لكن لكي لا نيأس من خلاصنا ، بل لكي نتوب . فان ” صلاح الله انما يقتادك إلى التوبة” ( رو 4:2) ، وليس لکی تتوغل في الشر. وان فسدت أخلاقك بسبب صلاحه فانك تكذبه أمام الناس .

انني أرى أشخاصا كثيرين يفترون هكذا على امهال الله . ولذلك فانك إن أسأت التصرف بازائه تحملت القصاص.

وهل الله اله محب عطوف ؟ نعم ، لكنه أيضا دیان عادل . هل هو يصفع عن الخطايا ؟ نعم ، لكنه يعطي كل واحد حسب أعماله : هل هو يتجاوز عن الاثم ، ويمحو تعدياتنا ؟ نعم ، لكنه أيضا يستجوبنا . اذن فكيف تكون هذه المتناقضات ؟ اذا بحثنا الأمور بحسب أوقاتها وجدنا أنه لا توجد متناقضات. فهو يغفر الأثم هنا بجرن المعمودية ، و بالتوبة . أما هناك فانه يستجوبنا عما فعلنا ، وذلك بالنار والتعذيب وقد يقول قائل : “اذن ان کنت سوف أخرج خارجا ، وأحرم من الملكوت ، سواء ارتكبت عشرة آلاف شر ، أو شراً واحداً فلماذا لا أرتكب كل أنواع الأعمال الشريرة ؟” ، هذا هو تعليل العبد غير الشاکر ، ومع ذلك فسوف نتقدم لحل هذه المشكلة أيضاً: لا ترتكب شراً قط وأنت تريد أن تفعل لنفسك خيراً . لاننا كلنا سوف نحرم من الملكوت ، وأن كنا كلنا سوف نحرم من الملكوت ، الا أننا في جهنم سوف لا نلقي كلنا نفس القصاص ، بل البعض يلقون القصاص الاشد ، ويلقى غيرهم قصاصاً أخف . وان كنت قد استهنت بلطف الله أنت وغيرك ( رو 4:2) الواحد مرات كثيرة ، والثانى مرات قليلة ، فانکما تحرمان من الملكوت بالتساوی. أما إن كان قد استهان بدرجة شنيعة ، والآخر بدرجة أخف ، فأنكما ستحسان بالفرق في جهنم .

وقد يقول قائل : لماذا اذن يهدد من لم يعملوا أعمال الرحمة بالطرح في النار ، وليس ذلك فحسب بل النار “المعدة لابليس وملائكته ؟” ( مت 41:25) . لماذا هذا ؟ ولای سبب ؟ لانه لا يغضب الله مثل هذا فأنه جعل هذا في مقدمة كل الخطايا الشنيعة . لانه ان كان الواجب يقضي علينا أن نحب أعداءنا فای قصاص لا يستحقه من يتحول عمن يحبه ، وعلى هذا الأساس يكون أشر من الوثنيين ؟ في هذه الحالة تكون شناعة الخطية سبباً في ابعاد شخص كهذا مع ابليس.

قيل : ويل لمن لا يقدم صدقة . وان كان هذا هو الحال في العهد القديم فكم يكون الحال في العهد الجديد؟ وان كان قد سمح باقتناء الثروة ، والتمتع بها ، والعناية بها ، وفي نفس الوقت اشترط بالعناية بالفقراء فبالأولى جداً صدر الأمر لنا في العهد الجديد أن نسلم الله كل ما نملك . وما الذي لم يعمله البشر في العهد القديم ؟ لقد كانوا يقدمون العشور ، وفوق العشور ، للايتام ، والأرامل ، والغرباء.

قال لي أحدهم ۔ مندهشاً من تصرف شخص آخر . ” لماذا يقدم هذا الشخص العشور ؟” ، يا للعار الذي ينطوي تحت هذا السؤال ؟ فان ما كان لا يدعو للدهشة عند اليهود أصبح هكذا عند المسيحيين . ان كان هنالك خطر في عدم تقديم العشور في العهد القديم فما أشد هذا الخطر الان . 

وأيضا : السكيرون لا يرثون الملكوت . وما هو منطق أغلب الشعب الآن ؟ وان كنت ألقى نفس المصير مع السكير فاية راحة أجدها ؟ . وماذا بعد ؟ أول كل شيء لكي لا تحصد أنت وهو نفس القصاص والا فلن يجد أحدكما راحة : الشركة في الآلام فيها شيء من الراحة ، عندما يكون القصاص يتناسب مع الخطية . لكنه ان تعدى كل نسبة ، وحمل كل واحد وراء حدوده ، فلن يجد أي واحد فينا أية راحة قط . أما أن قلت للمتألم الذي يجتاز لهب النيران أنه يلقى نفس القصاص ، فانه لن يحس بالراحة . ألم يهلك كل الاسرائيليين معاً؟ أية راحة وجدوها في هذا ؟ ألم يجدوا ضيقاَ شديداَ؟ وهذا هو الذي جعلهم يقولون دواما : لقد تلفنا ، لقد هلكنا ، لقد فنينا : أي نوع من الراحة في هذا ؟ عبثا نعزى أنفسنا بای رجاء . هنالك راحة واحدة ، هي تجنب السقوط في تلك النار التي لا تطفأ . أما من سقط فيها فلا يمكن أن يجد راحة ، بل فيها صرير الأسنان ، حيث البكاء ، وحيث الدود الذي لا يموت ، والنار التي لا تطفأ . قل لي : هل تجد أية راحة عندما تكون في ضيقة شديدة وحزن مرير ؟ هل يمكنك أن تتمالك نفسك ؟

أتوسل اليك أن لا يخدع أحد منا نفسه باطلاً، أو يعزي نفسه بحجج كهذه ، بل لنمارس تلك الفضائل التي تعيننا على خلاص نفوسنا . ان الموضوع الذي أمامنا الآن هو أن تجلس مع المسيح : فهل أنت تستهين بهذه الأمور ؟ إن لم تكن هنالك خطية أخرى قط فای قصاص شديد يجب أن نتوقعه من أجل هذا الكلام نفسه لاننا اذ نتكلم هكذا صرنا عدیمی الإحساس ، وبؤساء ، وبلداء ، حتى ونحن نجد امتیازاً عظيماً كهذا ؟ وأي بكاء شديد يجب أن تبكيه عندما تفكر في الذين صنعوا الخير ؟ عندما تنظر العبيد والمرذولين الذين لم يتعبوا هنا الا قليلاً قد صاروا هناك شركاء في العرش الملوکی ، ألا تجد في هذا عذاباً شديداَ لنفسك ؟

لانك عندما ترى الآن شخصاً ذا سمعة طيبة ، وأنت لم ترتكب شراً فانك ترى هذا أشر من أي قصاص ، وهذا يدفعك إلى البكاء والعويل ، و تعتبره موتاً مضاعفاً عشرة آلاف مرة وأية آلام تحتملها وقتئذ ؟ وحتى لو لم تكن هنالك جهنم مطلقاً ألا يعتبر مجرد التفكير في الملكوت كافياً لابادتك وهلاكك ؟ وفي هذه الحالة يكون لنا ما يكفي لتعليمنا من اختبارنا للأمور.

فعلينا أذن أن لا نملق أنفسنا باطلا بكلام كهذا . بل لنتنبه ، ولنحرص على خلاصنا ، لنهتم بالفضيلة ، لنحث أنفسنا على ممارسة الأعمال الصالحة لکی نحسب مستحقين لننال هذا المجد الفائق في يسوع المسيح ربنا الذي يليق له وللآب والروح القدس المجد ، والقوة ، والكرامة من الان والی دهر الدهور ، آمین 

 

العظة الخامسة
( ص 12،11:2)

” لذلك اذكروا أنكم أنتم الأمم قبلاً في الجسد المدعوين غرلة من المدعو ختاناً مصنوعاً باليد في الجسد ، أنكم كنتم في ذلك الوقت بدون مسيح ، أجنبيين عن رعوية اسرائيل وغرباء عن عهود الموعد ، لا رجاء لكم ، وبلا اله في العالم”

هنالك أشياء كثيرة تبين محبة الله وعطفه . أولاً أنه بنفسه خلصنا ، وبنفسه خلصنا بطريقة كهذه . و ثانیاً انه خلصنا رغم الحالة التي كنا فيها . وثالثاً أنه رفعنا إلى المركز الذي وصلنا اليه الان. وهذه كلها تتضمن في نفسها أعظم مظاهر محبته وعطفه ، وهي نفس المواضيع التي أثارها الرسول الآن في هذه الرسالة. لقد سبق أن قال اننا اذ كنا أمواتاً بالذنوب ، أبناء الغضب ، خلصنا . والآن يستمر في الكلام ويحدثنا عن الذين سوانا بهم.

لقد قال : “لذلك اذكروا”. لأنه جرت العادة معنا كلنا ، عندما نرفع من حالة وضيعة إلى كرامة أعظم فاننا لا نعود نذكر حالتنا السابقة ، لأن مجدنا الجديد يطغى عليها. لهذا السبب قال “لذلك اذکروا”.

“لذلك” أو”لماذا ؟” لاننا خلقنا لاعمال صالحة ، وهذا يكفي ليحثنا على التحلي بالفضيلة.

“اذكروا”، وهذا التذكر يكفي ليجعلنا شاكرين للمحسن الينا . , أنكم كنتم سابقاً الأمم ، أو وثنيين . لاحظ كيف انه حط من شأن امتیازات اليهود السامية ، ورفع من شأن مساويء الأمم . انها في الواقع لم تكن مساوی . لكنه ناقش كل طرف بما يتناسب مع أخلاقه وصفاته وطريقته في الحياة.

“المدعوين غرلة”  اذن فقد كانت كرامة اليهود في مجرد أسماء، كان امتیازهم في اللحم : لأن الغرلة لا شيء ، والختان لا شيء .

وقال  “المدعو ختاناً، مصنوعاً باليد في الجسد ، انكم كنتم في ذلك أجنبيين عن رعوية اسرائيل ، وغرباء عن عهود الموعد لا رجاء لكم ، وبلا اله في العالم”.

 أي أنتم الذين دعاكم اليهود. ولما كان موشكاً أن يبين أن البركة التي مُنحت لهم كانت تتضمن في هذا ، أي في أن لهم علاقة باسرائیل ، فلماذا حقر من شأن الامتيازات الاسرائيلية ؟ أنه لم يحقر من شأنها . انه عظَّم من شأنها في نواح رئيسية . لكنه حقر من شأنها في هذه النواحی : انهم لم تكن لهم شركة . لأنه قال فيما بعد” انکم رعية مع القديسين وأهل بيت الله “ع19.

لاحظ كيف كان الرسول أبعد من أن يحقر من شأنهم . لقد قال ان هذه النواحي قليلة الأهمية. لا تظنوا قط أنكم إذ كنتم غير مختونين فانکم محتقرون . کلا ، فالسبب الرئيسي هو انكم “بدون مسیح أجنبيين عن رعوية اسرائيل”. أما هذا الختان فانه ليس الرعوية.

وأيضا کونكم ” غرباء عن عهود الموعد، ولا رجاء لكم ، وبلا اله في العالم” – هذه كلها كانت نواحی من حياتكم . لقد كان يتحدث عن السماويات ، وتحدث أيضا عن الأرضيات ، طالما كان اليهود کثیری التفكير فيها . هكذا المسيح أيضا ، بعد أن عزی تلاميذه قائلا : « طوبى للمطرودين من أجل البر ، لأن لهم ملكوت السماوات ، أضاف ناحية من التعزية أقل أهمية ، وقال : ” فانهم هكذا طردوا الانبياء الذين قبلكم ” ( مت 5 : 10-12) . هذه التعزية ، بالمقارنة مع تلك ، أقل بكثير ، لكنها لا زالت عظيمة وجوهرية ولها قوتها الكثيرة. اذن فهذا هو الاشتراك في الرعوية.

والرسول لم يقل انهم معزولون ، بل و أجنبيون عن رعوية اسرائيل ، أي ليس لكم أي نصيب في هذه الرعوية ، والتعبير قوى جداً يدل على أن الفرز لمسافة بعيدة جداً . فالاسرائيليون أنفسهم كانوا خارج هذه الرعوية ، لا كغرباء ، بل لأنهم لم يبالوا بها ، فسقطوا عن العهود ، لا کاجنبيين ، بل غير مستحقين لها.

ولكن ما هي “عهود الموعد” هذه ؟ قال الله : « وأعطىلك ولنسلك هذه الأرض”( تك 17: 8) ، وهنالك مواعيد أخری وعدهم بها.

واذ قال “لا رجاء لكم” أضاف قائلا : “وبلا اله” ، ومع انهم عبدوا آلهة كثيرة الا أن هذه لم تكن آلهة ، لان الوثن لا شيء ، (1 کو 19:10) .

ع 13-15. “ولكن الآن في المسيح يسوع أنتم الذين كنتم قبلاً بعیدین صرتم قريبين بدم المسيح. لأنه هو سلامنا الذي جعل الاثنين واحداً ونقض حائط السياج المتوسط اذ أبطل العداوة بجسده”.

وقد يقول قائل : اذن هل هذا هو الامتياز العظيم اننا قبلنا في رعوية اليهود؟ ماذا نقول ؟ لقد أحصى كل ما في السماء و كل ما على الأرض ، وتحدثنا أنت الآن عن الاسرائيليين ؟ قد يجيب قائلا “نعم”. يجب أن تدرك هذه الامتيازات السامية بالايمان.

ثم يقول “ولكن الان ، في المسيح يسوع ، أنتم الذين كنتم قبلاً بعیدین صرتم قريبين”، بالنسبة للرعوية : لأن البعد والقرب يتمان بالرغبة والاختيار فقط .

“لأنه هو سلامنا ، الذي جعل الأثنين واحداً”

ما هذا ؟ جعلهما واحداً ؟ لم يقصد أن يقول بانه أقامنا إلى مرکزهم الوضيع ، بل أقامنا واياهم إلى مركز أسمى : لكن البركة لنا أعظم ، لأن الوعد كان لاولئك ، وهم كانوا أقرب منا . أما نحن فلم يعط لنا أي وعد ، و نحن كنا أبعد منهم جداً. لهذا قال : “وأما الأمم فمجدوا الله من أجل الرحمة ” ( رو 9:15) . لقد أعطى الوعد فعلاً للاسرائيليين ، لكنهم لم يكونوا يستحقونه . اما نحن فلم يعط لنا وعد ، بل كنا غرباء ، هنالك شئ اشتركنا فيه معا . ذلك جعلنا واحدا ، ليس باتحادنا معهم ، بل باتحادنا واياهم معا لنصير واحدا .

وساقدم لكم مثالاً، هب أن هنالك تمثالان ، الواحد من فضة ، والآخر من رصاص : وأذيب الاثنان معا ، فصار الاثنان من ذهب، هكذا جعل المسيح الاثنين واحداً. 

خذ مثلاً آخر : هب أن هنالك شخصين ، واحد عبد ، والآخر ابن بالتبني : وهب أن الاثنين اذنبا لله . فصار الواحد ابناً محروماً من الميراث ، والآخر شريداً، لا يعرف له أباً قط . وهب أن الاثنين صارا وراثين ، ابنين حقيقيين : تأمل ، لقد رفع الاثنان إلى نفس الكرامة ، وصار الاثنان واحداً، الواحد أتی من مسافة أطول ، والآخر من مسافة أقرب ، والعبد صار أكثر نبلاً مما كان قبل أن يذنب.

ثم أكمل كلامه قائلا : “و نقض حائط السياج المتوسط”

وفسر المعنى المقصود بحائط السياج المتوسط بقوله : “أي العداوة التي أبطلها بجسده ، ناموس الوصايا في فرائض” يؤكد البعض أن الرسول يعني الحائط ، الذي كان بين اليهود واليونانيين ، لانه لم يكن يسمح لليهود بالاختلاط مع اليونانيين.

ويبدو لي أن هذا لم يكن هو المعنى المقصود ، لكنه بالاحرى دعاها .”العداوة في الجسد” حائط متوسط ، وهو حاجز مشترك يفصلنا كلنا بالتساوي عن الله. ويقول النبي : “آثامكم صارت فاصلة بينكم وبینی” ( اش 2:59) وتلك العداوة التي كانت قائمة بين الله وبين اليهود والأمم كانت حائطاً متوسطاً. وطالما كان الناموس قائماً فلم يقتصر الأمر على أن هذا الحائط لم ينقض ، بل بالحرى تدعم ، فالرسول يقول ( لأن الناموس ينشئ غضباً” ( رو 4 :15) .

وكما أنه – بنفس الطريقة – عندما قال في تلك الفقرة ان « الناموس ينشیء غضباً، لم ينسب كل هذا التأثير للناموس نفسه ، بل يجب أن يكون مفهوماً أن السبب هو اننا تعديناه ، هكذا أيضا – في هذا المجال – دعاه “حائط السياج المتوسط ” لأنه أنشأ عداوة بسبب عدم طاعته.

كان الناموس سیاجاً، لكن ذلك كان للضمان والحماية ، لذلك دعی  سياجاً، لكي يحيط بما يراد سلامته . استمع أيضا إلى النبي اذ يقول : “واقمت خندقا حوله” ( اش 5:2) . وأيضا “لقد هدمت سياجها ( جدرانها ) فيقطفها كل عابري الطريق ” ( مز 80: 12) ۰ اذن فهي تعنی هنا الامان والحماية , “أهدم جدرانه فيصير للدوس” ( اش 5:5) . وأيضا : “أعطاهم الناموس ليحميهم” ( اش 8: 20) . وأيضا : “الرب يجرى العدل ويعرف اسرائیل طرقه” ( مز 103: 6، 7) .

وعلى أي حال فقد صار الناموس حائطاً متوسطاً، ولم يعد يحميهم ، بل فصلهم عن الله . وهكذا من هذا السياج تكون الحائط المتوسط الفاصل. ولكي يبين ما هو هذا الحائط المتوسط أضاف قائلا : إنه “أبطل العداوة بجسده ، أي ناموس الوصايا”.

و کیف تم هذا ؟ بذبحه ، وبهذا قضى على العداوة . وليس بهذه الطريقة فقط ، بل أيضا بحفظ الناموس . لكن ان كنا قد تخلصنا من المعصية الأولى ، فلماذا نلزم ثانية بحفظ الناموس ؟ اذن فقد تكررت الحالة ثانية لأنه قد أبطل الناموس نفسه ، فهو يقول : “مبطلا ناموس الوصايا المتضمن في فرائض”. یا لمحبة الله وعطفه . لقد أعطانا ناموساً لكي نحفظه . واذ لم نحفظه و كنا نستحق القصاص ، فان الله نقض الناموس نفسه.

كأن انسانا سلم ولده لمعلم المدرسة ، فاذا ما صار ولداً عاصياً، حرره حتى من معلم المدرسة ، وابعده بعيداً. هذه محبة عظيمة وعطف زائد. وما هو المقصود بهذه العبارة :

“أبطله بالفرائض ؟”

لقد جعل فارقاً شديداً بين الوصايا والفرائض : أما أن يكون قد قصد “الإيمان” ودعاه “فرائض” ( لأنه بالايمان وحده خلصنا ) ، أو قصد وصية ، كالتي قدمها المسيح عندما قال : “أما أنا فاقول لكم : لا تغضبوا قط ” ( مت 22:5) . أي “ن آمنت أن الله أقامه من الأموات خلصت” ( رو 6:10- 9) . وأيضا : “الكلمة قريبة منك في فمك وفي قلبك فلا تقل في قلبك من يصعد إلى السماء ، أو ينزل إلى الهاوية “. أو “من هو الذي أقامه من الاموات”.  بدلاً من نوع معين من الحياة قدم الله لنا الايمان ولكي لا يخلصنا الله بلا هدف تحمل هو نفسه القصاص ، وأيضا طلب من البشر الايمان الذي بفرائض.

“لكي يخلق الاثنين في نفسه انساناً واحداً جديداً”

لاحظ بان الاممي لم يصبح یهودیاً: بل أن هذا وذاك دخلا حالة جديدة . هذا لا يعني أنه غير حياة الأخير فصار غير ما كان ، بل انه خلق الاثنين خلقة جديدة. وحسناً استخدم كلمة “خلق” في كل المناسبات ، ولم يقل غيَّر ، وذلك لكي يبين القوة التي استخدمها فيما فعل ، ويبين أنه رغماً عن أن عملية الخلق غير منظورة ، فانها لا زالت خلقة ، وأننا يجب منذ الآن ، أن لا نتنازل عن هذا التعبير.

“لكي يخلق الاثنين في نفسه أى بنفسه “.

لم يعهد بهذه المهمة لآخر ، بل قام بها بنفسه . أذاب هذا وذاك ، وأخرج شخصية واحدة مجيدة ، أخرج خلقة أفضل من الحلقة الأولى. وهذا هو معنى “في نفسه”، هو نفسه أعطى أولاً الرمز والمثال . امسك اليهودي باليد الواحدة ، وأمسك الأممي باليد الأخرى ، و كان هو في الوسط ، فمزجهما معا ، وقضى على الخلافات التي كانت بينهما ، وصورهما تصويراً جديداً من فوق بالنار والماء . لم يعد يستخدم الماء والتراب ، بل الماء والنار . صار المسیح یهودیاً بالختان ، وصار لعنة ، وصار أممياً بدون الناموس ، وصار فوق الأمم واليهود .

“انساناً واحداً جديداً ، صانعاً سلاماً”

سلاماً لهما نحو الله ، ونحو بعضهما بعضا لأنهما طالما بقيا يهوداً وأمميين لم يكن ممكنا أن يصطلحا معا ولو لم يكونوا قد تخلصوا من صفاتهم الأولى لما كان ممكنا أن يصلوا إلى حالة أسمى : لان اليهودي لا يمكن أن يتحد بالأممي الا عندما يصير مؤمنا . هذا يشبه ناساً عانشین في بیت واحد ، به غرفتان في الطابق السفلى ، وغرفة فسيحة في الطابق أعلوی . فلا يمكن أن يرى الواحد الآخر الا اذا اجتمعوا في الطابق العلوي .

“صانعا سلاماً”، سيما نحو الله ، وهذا ما تبينه القرينة . لأنه ماذا قال ؟

ع 16. “ويصالح الاثنين في جسد واحد معالله بالصليب”

لم يقل يصالح فقط ، بل يصالح صلحاً کاملاً، كما تبين من الأصل اليونانی ، مبينا أن الطبيعة البشرية منذ ذلك الوقت قد صولحت بسهولة ، كما هو الحال مثلاً في أمر القديسين ، قبل عصر الناموس.

و في جسد واحد” ، أي في جسده ، “مع الله” أو “لله”، وكيف يتم هذا ؟ يعني بنفسه اذ تحمل العقوبة المستحقة.

بالصليب ، قاتلاً العداوة به

لا توجد كلمات حاسمة وقوية أكثر من هذه . فالرسول يقول ان موت المسيح قتل العداوة . لقد جرحها ، وقتلها ، ليس بتكليف أحد آخر للقيام بذلك ، وليس بما عمله فقط ، بل بما تألم به ، وهو لم يقل “أذاب ” بل “أبطل” وقال ما هو أقوى : « قتل » ، لكي لا تقوم ثانية . وكيف يمكن أن تقوم ثانية ؟ أي بسبب فسادنا المتزاید لأننا طالما كنا ثابتين في جسد المسيح ، ومتحدين به ، فان العداوة لا تقوم ثانية ، بل تبقى ميتة . تلك العداوة القديمة لن تقوم ثانية قط . أما اذا خلقنا عداوة أخرى ، فانها لن تكون من الله الذي أباد العداوة السابقة وقتلها. وتكون أنت بكل تأكيد هو الذي انشأت عداوة جديدة : لأنه يقول : “ان اهتمام الجسد هو عداوة الله “( رو 7:8) . ان كنا لا نهتم اهتماماً جسدياً في أية ناحية فلا تنشأ عداوة جديدة ، بل يظل السلام قائماً.

مغزی أدبی

وان كنا هكذا معرضين للسقوط ثانية في العداوة فتأمل في مقدار شناعة الشر لدرجة أن الله استخدم طرقاً كثيرة ليصالحناً. وهذه العداوة لا تتطلب معمودية جديدة ، بل تنتظرها جهنم نفسها، لا تتطلب مغفرة جديدة ، بل تمحیصا فاحصاً.

ان اهتمام الجسد ترف و کسل وبلادة ، اهتمام الجسد طمع وكل أنواع الخطية . ولماذا قيل عنه أنه اهتمام الجسد ؟ مع ان الجسد لا يقدر أن يفعل شيئاً بدون النفس : أنه لم يقل هذا تحقيراً للجسد . وبالأولى عندما يقول “الإنسان الطبيعی” ( 1کو 14:2) فأنه لم يستخدم هذا التعبير تحقيراً للنفس . لأنه إن كان الجسد ، أو النفس ذاتها لا بيتقبلان قوة من فوق ، فانهما لا يستطيعان اتمام أي شيء عظيم أو نبيل. ولذلك دعا التصرفات التي تتممها النفس من تلقاء ذاتها “تصرفات طبيعية”، والتي يتممها الجسد من تلقاء ذاته “تصرفات جسدية “. ليس لأن هذه طبيعية ، بل لأنها تهلك ، اذ أنها لا تتقبل الارشاد من السماء . هكذا الحال أيضا مع العين ، فانها صالحة ، لكنها بدون انور ترتكب أخطاء لا حصر لها . وهذا على أي حال ، يعزي لضعفها ، لا للطبيعة.

لو كانت الاخطاء طبيعية لما استعطنا قط أن نستخدمها استخداماً مستقیماً. لأن ما هو طبيعي لا يمكن أن يكون شريراً.

ولماذا اذن دعا العواطف الجسدية خطايا؟ لأن الجسد إذا تعاظم وارتفع وأفلت منه الزمام أنشأ ربوات من المساوىء . أن فضيلة الجسد هي خضوعه للنفس ، ورذيلته هي تسلطة على النفس : الحصان يمكن أن يكون نافعاً ورشيقاً وخفيف الحركة ، لكن هذه الصفات لا تتوفر الا بوجود من يرکبه ، هكذا أيضا الجسد لا يظهر صلاحه الا أن قطعت عنه ميوله الى الزهو والعظمة . وان كان الراكب خالياً من الذكاء فلن يظهر له وجود : بل انه يفعل الأذى بكيفية اشنع .

وفي كل الأحوال يجب أن يفسح المجال للروح لكى تعمل . واذا ما أعطى لها المجال فانها تمنح الراكب قوة جديدة . وهذا يهب جمالاً للجسد والنفس. لأنه كما أن النفس لما تكون مقيمة في الجسد تكسبه جمالاً، لكن أن تخلت عنه تر کته خالياً من كل نواحي نشاطه . وهذا يشبه النقاش الذي اذا خلط الالوان معا نتج عن ذلك أسوأ تشوه ، وأسرع كل لون إلى الفساد والانحلال . وهذا ما يحدث اذا ما تركت الروح الجسد والنفس ، صار التشوه الذي يحدث أشد قبحاً. 

وان كان الجسد أقل مرتبة من النفس فلا تحتقره ، لأنني لا أجسر على احتقار النفس لأنها لا قدرة لها بدون الروح . وان أراد أحد أن يقول ای شيء فان النفس تحتاج إلى انتقاد أشد من الجسد ، لأن الجسد يعجز عن أن يتمم أي أذى جسيم بدون النفس بينما تستطيع النفس أن تفعل الكثير بدون الجسد . ونحن نعلم انه عندما يكون الجسد في دور الانحلال ، ولا تكون له قدرة على ارتكاب أي نوع من النجاسة ، فان النفس تستخدم بشدة. فالسحرة والمنجمون والمشعوذون يسببون للجسد الذبول. 

وعلاوة على هذا أن الانغماس في الملذات ليس ناشئاً من مطالب الجسد ، بل من تراخي النفس . فالطعام ، لا الصوم ، هو موضوع مطالب الجسد،  فانني ان فكرت في وضع لجام قوي في فم الحصان تمكنت من أن اوقفه . لكن الجسد يعجز عن أن يصعد النفس عن متابعة سيرها الشرير .اذن لماذا دعاها اهتمامات الجسد ؟ لأنها ناشئة بكليتها من الجسد ، واذا ما تسلطت انحرفت ، اذ حرمت نفسها من استخدام العقل ، ومن تسلط النفس.

اذن ففضيلة الجسد تعزی لخضوعه للنفس ، لأن الجسد من تلقاء ذاته ليس حسناً وليس شريراً. فماذا يستطيع الجسد أن يفعله من تلقاء ذاته ؟ اذن فالجسد صالح بسبب علاقته بالنفس ، وبسبب خضوعه لها . أما من تلقاء ذاته فإنه ليس صالحاً ولا شريراً ، ومع ذلك فله المقدرة على أن يكون صالح أو شريراً ، وله الميل أيضا على أن يكون في احدى الناحيتين .

الجسد له شهوة طبيعية لا للزني ولا للنجاسة ، بل للذة . له شهوة لا للولائم بل للطعام ، لا لشرب المسكرات بل لشرب المياه . وللبرهان على أن شهوة الجسد الطبيعية ليست لشرب المسكرات لاحظ انك اذا تجاوزت الحد المعقول فان الجسد لا يطيق هذا التطرف.

الى هنا ينصب الحديث عن الجسد ، أما سائر أنواع التطرف ، مثلاً عندما يندفع مسرعا نحو التوغل في الملذات الجسدية ، عندما يفقد الوعي ، فان هذه ناشئة من النفس . فمع أن الجسد صالح إلا أنه أقل قدراً جداً من النفس ، كما أن الرصاص أقل قدراً من الذهب ، لكن الذهب يحتاج إلى الرصاص عند لحامه . هكذا الحال مع النفس فانها تحتاج إلى الجسد.

وبنفس المقياس نقول كما أن الطفل النبيل يحتاج إلى مرشد ، هكذا تحتاج النفس إلى الجسد . وكما اننا ان تحدثنا عن الاشياء الصبيانية فاننا لا نحقر الطفولة ، بل نحقر تلك التصرفات التي تتم وقت الطفولة . هكذا نحن الآن نتحدث عن الجسد.

ومع ذلك ففي استطاعتنا – أن أردنا – أن لا نبقى بعد في الجسد ، ولا على الأرض ، بل في السماء وفي الروح . لأن بقاءنا هنا أو هنالك ، لا يحدده مركزنا ، بل تحدده ميولنا.

ليتنا نبقى في سلام الله ونعمته لكي نتحرر من كل ما هو للجسد و نتمكن من الوصول إلى الصالحات التي وعدنا بها يسوع المسيح ربنا ، الذي يليق له مع الآب والروح القدس ، المجد والقوة والكرامة ، الآن وإلى الدهور : آمين

العظة السادسة
(ص2: 17-22)

“فَجَاءَ وَبَشَّرَكُمْ بِسَلاَمٍ، أَنْتُمُ الْبَعِيدِينَ وَالْقَرِيبِينَ. لأَنَّ بِهِ لَنَا كِلَيْنَا قُدُومًا فِي رُوحٍ وَاحِدٍ إِلَى الآبِ. فَلَسْتُمْ إِذًا بَعْدُ غُرَبَاءَ وَنُزُلاً، بَلْ رَعِيَّةٌ مَعَ الْقِدِّيسِينَ وَأَهْلِ بَيْتِ اللهِ، مَبْنِيِّينَ عَلَى أَسَاسِ الرُّسُلِ وَالأَنْبِيَاءِ، وَيَسُوعُ الْمَسِيحُ نَفْسُهُ حَجَرُ الزَّاوِيَةِ، الَّذِي فِيهِ كُلُّ الْبِنَاءِ مُرَكَّبًا مَعًا، يَنْمُو هَيْكَلاً مُقَدَّسًا فِي الرَّبِّ. الَّذِي فِيهِ أَنْتُمْ أَيْضًا مَبْنِيُّونَ مَعًا، مَسْكَنًا ِللهِ فِي الرُّوحِ.”

قال الرسول ان المسيح لم يرسل الينا هذه الأنباء على يد شخص آخر ، ولم يعلنها لنا بواسطة شخص آخر، بل بنفسه ، وفي شخصه. لم يرسل ملاكاً أو رئيس ملائكة لهذه المهمة ، لان اصلاح تلك المفاسد الكثيرة جداً، واعلان ما قد تم ، لم يكن ممكناً أن يقوم به شخص آخر بل كان يتطلب مجيئه الينا . لذلك أخذ الرب صورة عبد ، بل صورة خادم .. “فجاء و بشرکم بسلام أنتم البعيدين والقريبين”. أي لليهود ، الذين كانوا – بالنسبة الينا – قريبين . “لأن به لنا كلينا قدوماً في روح واحد إلى الآب”

وقال “بسلام” ذلك السلام مع الله : لقد صالحنا . لأن الرب نفسه قال : “سلاما أترك لكم ، سلامي أعطيكم ” ( يو 14: 27). وقال أيضاً: “ثقوا أنا قد غلبت العالم” ( یو 16: 33) . وقال أيضا : “مهما سألتم باسمي فأنا أفعله”( يو 14 : 14 ) . وأيضا : “لأن الآب نفسه يحبكم” ( يو 16: 27). هذه كلها دلائل كثيرة على السلام.

وماذا فيما يختص بالأمم؟ « لأن به لنا كلينا قدوماً في روح واحد إلى الآب » هذا لا يعني أنكم أنتم أقل ، وانهم هم اكثر ، فالنعمة معطاة لكل واحد بالتساوی . لقد سكن الغضب بموته ، وجعلنا أهلاً لمحبة الاب بالروح. لاحظ أيضا قوله « أن به لنا كلينا قدوماً في روح واحد” أي بالروح . فانه به وبالروح القدس قربنا إلى الآب “فلستم اذن بعد غرباء و نزلا بل رعية مع القديسين”

الا تلاحظون أن هذا الوعد لم يعط لليهود فقط ، بل للقديسين والعظماء ، أمثال ابراهيم وموسى وايليا ، لقد أدرج اسمنا في نفس المدينة مع أولئك. “فان الذين يقولون مثل هذا يظهرون أنهم يطلبون وطناً ” ( عب 11: 14 ) . لسنا بعد غرباء أو أجنبيين عن القديسين . لأن الذین لا ينالون البركات السماوية هم غرباء . فالمسيح قال ان ” الابن يبقى الى الأبد ” ( یو 8: 35).

ثم يكمل الكلام قائلا : “وأهل بیت الله“.

ان نفس الشيء الذي نالوه باتعاب كثيرة قد منح لكم بنعمة الله فانظروا رجاء دعوتكم.

مبنيين على أساس الرسل والانبیاء

لاحظ كيف جمع الكل معاً: الأمم ، واليهود ، والرسل ، والانبياء ، والمسيح ، ووضع الاتحاد ، أحياناً من الجسد ، وأحيانا أخرى من البناء . فقد قال “مبنيين على أساس الرسل والانبياء” أي أن الرسل والانبياء أساس. وقد ذكر الرسل أولاً مع أنهم بحسب الترتيب الزمني آخرين ولا شك في أنه أراد بهذا أن يبين أن هؤلاء واولئك اساس واحد ، وان الجميع بناء واحد ، وأن هنالك أصلاً واحداً. لاحظ أن الأمم لهم الآباء البطاركة الأولون كأساس. وهو هنا يتكلم عن هذه النقطة بقوة أشد مما فعل عندما تحدث عن تطعيم الأمم في الزيتونة ( رو۱۱). حيث صورهم بانهم ألصقوا بها. وبعد ذلك أضاف قائلاً أن الذي يجمع الكل معاً هو المسيح “ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية” لأن حجر الزاوية الرئيسي يجمع معاً الجدران والأساسات.

“الذي فيه كل البناء مركبا معا”.

لاحظ كيف انه يتحد الكل معاً، ويصور المسيح مرة بانه يدعم كل . البناء من فوق ، ومرة أخرى بانه يدعمه من أسفل ، على اساس انه هو الأصل ، وهو الأساس.

ونظراً لأنه استخدم هذا التعبير “لكي يخلق الأثنين في نفسه انساناً واحداً جديداً”، ( اف 2: 15) ، فانه بهذا يبين بوضوح أن المسيح بنفسه يتحد الحائطين معا ، كما يبين أيضا أن البناء خلق به . وقال كذلك انه هو “بكر كل خليقة” ( كو 15:1) ، أي أنه هو نفسه يدعم كل شيء .

“الذي فيه كل البناء مركبا معاً”

سواء تحدثت عن السقف ، أو الجدران ، أو عن اي جزء آخر ، فان المسيح هو الذي يدعم الكل. وهكذا تحدث الرسول عنه في مكان آخر بانه هو الأساس .”فانه لا يستطيع أحد أن يضع أساساً غير الذي وضع ، الذي هو يسوع المسيح” ( 1کو 11:3).

وقال : “الذي فيه كل البناء مركباً معا”، هنا يبين أن البناء كامل ، وأنه لا يستطيع أحد أن يجد فيه مكاناً الا اذا عاش بمنتهى الدقة .. ينمو هیکلاً مقدساً في الرب : الذي فيه أنتم أيضا مبنیون معاً، وبصفة مستمرة كان يقول : “هيكلاً مقدساً مسكناً لله في الروح”.

اذن فما هو الهدف من هذا البناء ؟ هو لكي يسكن الله في هذا الهيكل كل واحد منكم بمفرده هیکل ، وكلكم معا هیکل : والله يسكن فيكم على أساس انکم جسد المسيح ، وعلى أساس أنكم هیکل روحی : وهو لم يستخدم الكلمة التي تعنى مجيئنا إلى الله ، بل تلك التي تعني أن الله هو الذي يحضرنا إلى نفسه ، لأننا لم نأت من تلقاء أنفسنا ، بل ان الله هو الذي قربنا اليه . قال المسيح : “ليس أحد يأتي إلى الآب الا بي” : ثم قال أيضا : “أنا هو الطريق والحق والحياة” ( يو 6:14 ) .

لقد جمعهم مع القديسين ، وعاد ثانية إلى صورته السابقة ، وهي ان الله لا يسمح قط بان يفصلوا من المسيح . اذن فلا شك في أن هذا البناء سوف يبقى الى مجيئه ، ولا شك أيضا في أنه لأجل هذا قال الرسول بولس : “كبناء حکیم قد وضعت أساساً” ( 1کو 10:3، 11) . وقال أيضا أن المسيح هو الأساس وماذا يعني كل هذا ؟ أنتم تلاحظون أن التقارنات تشير كلها إلى مواضيع البحث ، ولذا يجب أن لا نفسرها تفسيراً حرفياً، لقد تحدث الرسول من باب التشبيه كما فعل المسيح حينما قال  الآب انه هو : “الكرام” ( يو 15: 1) ، وقال عن نفسه انه هو الأصل ( رؤ 22: 16) .

( ص 1:3) ” بسبب هذا أنا بولس أسير المسيح يسوع لأجلكم ايها الأمم”

لقد سبق أن ذكر الرسول عناية المسيح العظيمة المملوءة محبة . والآن بدأ يذكر عنایته هو. وهذه ، وان كانت لا تذكر بجانب عناية الله ، الا انها كانت كافية لكي تقربهم إلى شخصه. بسبب هذا قال : أنا أيضا ملتزم، لأنه إن كان ربی قد صلب لاجلكم فبالأولى جداً أكون أنا نفسي ملتزماً. لم يكن المسيح نفسه فقط ملتزما ، لكنه يسمح لخدامة بأن يكونوا هم أيضا ملتزمين ، “لأجلكم أيها الأمم ”

هذه كلمات مليئة بالتأكيد والتشديد فالأمر لا يقتصر على أننا لم نعد نبغضكم ، لكننا ملتزمون لأجلكم . وأننی شريك في هذه النعمة الجزيلة.

ع 2. « ان کنتم قد سمعتم بتدبير نعمة الله المعطاة لى لأجلكم”

هنا يشير إلى النبوة التي أعطيت لحنانيا في دمشق عن بولس عندما قال له الرب : ” اذهب لأن هذا لي اناء مختار ليحمل اسمي أمام أمم وملوك” ( أع 9: 15).

ويقصد بتدبير النعمة الرؤيا التي أعلنت له : كأنه قد قال “لأني لم اقبلها من عند انسان” ( غل 12:1) : لقد تنازل بان يعلنها على لأجلكم ، أنني مجرد شخص واحد، وهو نفسه قال لي : “اذهب فانی سارسلك إلى الأمم بعيداً” ( أع 22: 21).

ان کنتم قد سمعتم” ، لأنه كان تدبيراً عظيماً أن يدعو شخصاً واحداًرلم يتأثر من أي مصدر آخر ، بل جاء التأثير من فوق مباشرة ، وقال لي “شاول شاول لماذا تضطهدني”، فضرب بالعمى بسبب ذلك النور الذي لا يوصف .

وقال : « ان کنتم قد سمعتم بتدبير نعمة الله المعطاة لى لأجلكم”

ع 3. « انه باعلان عرفني بالسر، كما سبقت فكتبت بالايجاز”.

لعله سبق أن أبلغهم هذا عن يد بعض أشخاص ، او لعله كان قد انقطع عن الكتابة لهم منذ مدة طويلة ، وهو هنا يبين أنه تلقى الأمر كله من الله ، وأننا لم نرسل شيئا من أنفسنا. ولماذا ؟ ألم يخلص بولس نفسه بالنعمة ، و هو ذلك الشخص العجيب ، الخبير بالناموس ، الذي تعلم على يدي غمالائيل تعلیماً کاملاً؟ لهذا كان له كل الحق أن يدعو هذا سراً. وهو أن يرفع الأمم في لحظة إلى مركز أسمى من اليهود . “كما سبقت فكتبت بالايجاز”.

ع 4. “الذى بحسبه حينما تقرأونه تقدرون أن تفهموا درایتی بسر المسيح”.

ياله من أمر مذهل، اذن فهو لم يكتب كل شيء ، ولم يكتب بقدر ما كان يجب أن يكتب. وقد منعته عن هذا طبيعة الموضوع الذي كان يكتب فيه . أما في مواضع أخرى فكان الذي منعه هو عدم قدرة السامعين ، كما كان الحال مع العبرانيين ( عب 5: 11) وأهل كورنثوس (1کو 2:3) “الذى بحسبه حينما تقرأونه تقدرون أن تفهموا درایتی بسر المسيح” ای كيف عرفت ، و کیف فهمت هذه الأشياء كما نطق بها الله ، أو كيف أن المسيح جالس عن يمين الله ، أو فهمت مقدار العظمة التي أغدقها الله على الأمم، فانه “لم يصنع هكذا باحدى الأمم ” ( مز 147: 20) : ولكي يبين ما هي الأمة التي صنع معها الله هكذا أضاف قائلاً :

ع 5 . « الذي في أجيال أخر لم يعرف به بنو البشر كما قد اعلن الآن لرسله القديسين وأنبيائه بالروح”.

اذن ما هو هذا الذي لم يعرفه الانبياء ؟ وكيف قال المسیح اذن ان موسی والانبياء ” كتبوا هذه عني ؟” ثم قال أيضا : “لو كنتم تصدقون موسی لكنتم تصدقوننی” ( يو 5: 46). وقال أيضا : “فتشوا الكتب لانكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية ، وهي التي تشهد لي” ( يو 5: 39) وهو يعني هذا :
1. أما أن هذه لم تعلن لكل البشر ، لأنه أضاف هذه العبارة : “الذي في أجيال أخر لم يعرف به بنو البشر كما قد أعلن الآن “.
2. أو أنها لم تكن تعرف بكل تفاصيلها كما قد أعلن الان لرسله القديسين وأنبيائه بالروح . فتأمل : لو لم يكن بطرس قد أعلن له بالروح لما كان قد ذهب الى الأمم. أسمع ماذا قال : “هؤلاء الذين قبلوا الروح القدس كما نحن أيضاً” ( أع 47:10) أي أنه بالروح القدس اختار الله انهم يقبلون هذه النعمة . والانبياء تكلموا ، لكن لم يعرفوها معرفة كاملة . وحتى الرسل لم يعرفوها بعد أن سمعوها. أنها قد فاقت كل تقدیر البشر ، و کل انتظارهم

ع 6: “أن الأمم شركاء في الميراث والجسد ونوال موعده”.

ما هذا ؟ شركاء في الميراث : وشركاء في الموعد ، وشركاء في الجسد ؟ وهذه الأخيرة هي الحقيقة الجوهرية : أي أن يكونوا جسداً واحداً، وإن تكون لهم علاقة قوية به . وكونهم دعوا ، وعرفوا ، فقد كان هذا أمرا عظيما . ولهذا قال انه سر . الموعد : كان الاسرائيليون شركاء في موعد الله ، وهكذا كان الأمم أيضا . 

في المسيح بالانجيل” ، أي بكونه أُرسل اليهم ، و بايمانهم. لم يذكر فقط بانهم شركاء في الميراث ، بل قبل “بالانجيل”. وعلى أي حال فان هذا ليس أمراً عظيماً جداً ، بل هو في الواقع أمر صغير ، وهو یکشف لنا أمرا آخر أعظم ، هو أن البشر ليسوا هم الوحيدين الذين لم يعرفوا هذا ، بل لم يعرفه أيضاً الملائكة ، ولا رؤساء الملائكة ، ولا أيه سلطة أخرى. لأنه كان سرا ، ولم يكن قد أعلن.

وقال : “تقدرون أن تفهموا درایتی” ، لعل هذا يشير إلى ما قاله لهم في سفر أعمال الرسل بانه كانت له بعض المعرفة أن الأمم أيضا دعوا . كانت هذه هي درايته بالسر ، الأمر الذي سبق أن ذكره ، أي أن المسيح “يخلق الاثنين في نفسه انساناً واحداً جديداً” . لأنه هو وبطرس تعلما أن لا يزدريا بالأمم ، وقد ذكر هذا في دفاعه .

ع ۷ : “الذي صرت أنا خادماً له حسب موهبة نعمة الله المعطاة لى حسب فعل قوته”.

سبق أن قال ” أنا أسير” اما الان فقد كرر الكلام قائلا ان الكل من الله ،” حسب موهبة نعمة الله”، لان رفعة هذا الامتياز هي حسب قدرة الموهبة . لكن الموهبة لم يكن ممكناً أن تكون كافية لو لم تكن قد غرست فيه القوة.

مغزی أدبی

كان العمل قوياً جداً ، ولم يكن ممكنا الحصول عليه بای مجهود بشری . لانه جعل الكرازة بالكلمة مقترنة بثلاث مميزات : غيرة متاججة مع اقدام ، و نفوس مستعدة لتحمل كل مشقة ممكنة ، ومعرفة ممتزجة بالحكمة . الأن محبة الرسول للجهاد ، وحياته التي بلا لوم ، لم يكن ممكنا لهما النجاح ، لو لم يكن قد نال قوة الروح القدس . ثم تطلع اليها كما كانت ترى أولاً في شخصه ، أو بالحرى اسمع كلماته : “لئلا تلام الخدمة” ( 2 کو 3:6 ) . وأيضا : “لان وعظنا ليس عن ضلال ، ولا عن دنس ، ولا بمكر ، ولا في علة طمع” ( 1 تس 3:2و 5 ) . وهكذا رأيت أنه كان بلا لوم. وأيضاً: “معتنين بامور حسنة ليس قدام الرب فقط ، بل قدام الناس أيضاً”( 2 کو 21:8) : والى هذه أضاف أيضا : “أنی بافتخارکم الذي لي في يسوع المسيح ربنا أموت كل يوم” ( 1کو 15: 31) . وأيضا : “من سيفصلنا عن محبة المسيح ؟ أشدة أم ضيق أم اضطهاد ؟ “( رو 8: 35) ۰ وأيضا : “في صبر كثير ، في شدائد ، في ضرورات ، في ضيقات ، في ضربات ، في سجون ، في أتعاب ، في أسهار” ( 2 کو 4:6 و 5 ) ثم أنظر أيضاً حذقه وادارته للأمور “صرت لليهود کیهودی للذین بلا ناموس کانی بلا ناموس ، للذين تحت الناموس كاني تحت الناموس” ( 1 کو 9: 20) . وقد حلق رأسه أيضا ( أع 21: 24- 26) . وتمم أيضا أعمالا مشابهة لا حصر لها.

لكن تاج الكل كان في قوة الروح القدس ، لأنه قال :”لاني لم أجسر أن أتكلم عن شيء مما لم يفعله المسيح بواسطتی” ( رو 15: 18) ۰ ايضاً : ” لأنه ما هو الذي نقصتم عن سائر الكنائس” ( 2کو 12: 13) “لم أنقص شيئاً عن فائقى الرسل” (2 کو 12: 11) ، بدون هده كان مستحيلاً أن يتمم شيئا.

اذن فالناس لم يصيروا مؤمنين بمعجزاته، کلا ، فلم تكن المعجزات هي التي فعلت هذا. كذلك لم يطالب بمطالبه السامية على أساس هذه أمور ، بل على أساسات أخرى : لان المرء يجب ان يكون طاهر الذيل في سلوکه ، حكيماً حصيفا في معاملاته مع الآخرين ، لا يبالي بای خطر ، صالحاً للتعليم : لقد تم الجزء الأكبر من نجاحه عن طريق هذه الصفات ، واذ توفرت هذه لم يكن هنالك ما يدعو للمعجزات . وعلى الأقل نحن نرى أنه كان ناجحا في عدد لا يحصى من مثل هذه الحالات ، قبل أن يستخدم المعجزات. أما الآن اننا بدون أي شيء من هذه نشتهي أن نتسلط على كل شيء ، ومع ذلك اذا فصلت أية صفة من هذه عن غيرها أصبحت لا فائدة منها . فأية قيمة للمرء ان كان لا يخشى أي خطر لكن حياته فيها الكثير من اللوم.

قال المسيح : “إن كان النور الذي فيك ظلاماً، فالظلام کم یکون ؟” (مت 23:6). وأيضا ما هي فائدة المرء أن كانت حياته بلا لوم لكنه بلید و کسول ؟ فقد قال المسيح : “من لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقني” ( مت 10: 38) . وهكذا أيضا “الراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف” ( يو 10: 11) ، وأيضا ما هي فائدة هذه كلها الا اذا كان المرء في نفس الوقت حکیماً وحصيفاً، “ويعرف كيف يجب أن يجاوب كل واحد ؟ ( کو 6:4) .

وحتى ان لم يكن في استطاعتنا عمل المعجزات ففي استطاعتنا أن نتصف بهذه الصفات. وبالرغم من هذا فان كان بولس قد اتصف بهذه الا أنه نسب الكل للنعمة . هذا ما يعمله الخادم الأمين. وما لم تلجئه الضرورة للاعلان عن أعماله الصالحة لما كنا قد سمعنا عنها قط.

وهل نستحق نحن حتى مجرد ذكر اسم بولس ؟ فذاك الذي كانت له – علاوة على هذا – نعمة لتعضده ، لم يكتف بها ، بل أضاف إلى عمله عشرة آلاف من الأخطار . أما نحن الخالون من مصدر الثقة فكيف نتوقع أن نبقي على من اؤتمنا عليهم ، أو نربح من لم يأتوا بعد إلى الحظيرة ، نحن الذين نسعى وراء الانغماس في شهواتنا ، الذين نطلب الراحة من العالم ، ولا نقدر أن نحتمل ، أو بالأحرى لا نريد أن نحتمل حتى ظل الخطر ، ونحن بعيدون كل البعد عن الحكمة ، كبعد السماء عن الأرض ؟ أما الذين تحت سلطاننا فانهم يتخلفون جدا عن رجال تلك الأيام ، لان تلاميذ تلك الأيام أفضل من معلمی هذه الأيام الحاضرة. واذ كان رجال تلك الأيام معزولين وسط عامة الشعب ، ووسط الطغاة الظالمين ، وكان كل من هم حولهم أعداء لهم ، مع ذلك لم يخضعوا لهم باي حال من الأحوال.

استمع على الأقل إلى ما قاله لاهل فيلبي : “لانه قد وهب لكم لأجل المسيح لا أن تؤمنوا به فقط ، بل أيضا أن تتألموا لاجله” ( في 1: 29) . وأيضا لاهل تسالونیکی : “فانكم أيها الأخوة صرتم متمثلين بكنائس الله التي هي في اليهودية ، ( 1تس 2: 14). وقال أيضا عندما كتب الى العبرانيين : لانكم قبلتم سلب أموالكم بفرح ، ( عب 10: 34 ) . وشهد لأهل كولوسي أيضاً قائلا : “لانكم قد متم ، وحياتكم مستترة مع المسيح في الله” ( کو 3: 3) ، بل شهد لأهل أفسس أنفسهم هؤلاء بانهم قد احتملوا أخطاراً كثيرة ومتاعب متعددة ، وقال أيضا عندما كتب لأهل غلاطية : « أهذا المقدار احتملتم عبثا أن كان عبثا ؟ ، ( غل 4:3 ) .

وأنتم ترونهم كلهم أيضا منشغلين في عمل الخير . وترون ايضا ان النعمة عملت بقوة في تلك الأيام ، كما ترون أنهم عاشوا في أعمال صالحة . استمع أيضا إلى ما كتبه لأهل كورنثوس ، الذين وجه اليهم تهماً لا حصر لها ، ومع ذلك لم يشأ أن يدونها . وهذا ما قاله : “هوذا حزنكم قد أنشأ فيكم من الغيرة بل من الشوق” ( 2کو 11:7) ثم انه شهد لهم في نواح كثيرة في هذا الموضوع . هذه الأمور لا يراها المرء هذه الايام حتى في المعلمين ، فقد تلاشت وعفا عليها الزمن . والسبب في هذا أن المحبة قد فترت ، والخطاة لا يلقون القصاص . فاسمع ما قاله عندما كتب الى تيموثاوس :” الذين يخطئون وبخهم أمام الجميع ” ( 1 تي5: 20) ، فالقادة اعتراهم المرض ، وان كانت الرأس سقيمة فكيف يحتفظ باقی الجسد بصحته وقوته ؟.

ثم لاحظ الأوضاع المعكوسة في الوقت الحاضر . فالذين كانوا يعيشون في الفضيلة ، واحتفظوا بثقتهم في كل الظروف لجأوا إلى قمم الجبال، وخرجوا من العالم ، واعتزلوا ، كما لو كانوا قد اعتزلوا عن عدو أو عن شخص غريب ، لا عن هيئة يتبعونها. وحلت بالكنائس أيضا الاوبئة بما اقترنت به من النكبات التي لا توصف . وأصبحت المناصب الرئيسية تباع وتشترى . ومن هنا نشأت شرور لا عدد لها ، دون أن يوجد من يوبخهم أو ينتهرهم : بل ان اضطراب الأمور اتخذ نوعاً من التنظيم والاستقرار. واذا ما ارتكب أي انسان خطأ ما فانه لا يسعى لتبرئة نفسه ، بل لايجاد شركاء معه في جرائمه أن أمكن .

وماذا يكون مصيرنا طالما كنا نهدد بان تكون جهنم هي نصيبنا ؟ وصدقني : لو لم يكن الله قد أعد لنا قصاصاً هناك لرأيتم كل يوم مآسي أبشع من مآسي اليهود. وماذا اذن ؟ على أي حال يجب أن لا يعثر أي واحد ، لانني لم أذكر أسماء اشخاص. هب أن شخصاً ما دخل هذه الكنيسة ليقدم اليكم – أنتم الحاضرين معي في هذه اللحظة – أولئك الذين هم معي الان ، وأراد أن يتقصي الحقيقة عنهم . او هب أنه في يوم عيد القيامة جاء واحد له مثل هذه الروح ، بحيث يعرف معرفة كاملة كل ما كانوا يعملون ، وفحص كل من جاءوا للتناول من جسد الرب ودمه ، واغتسلوا بالمعمودية بعد اتمام الاسرار، لاكتشفت أمور كثيرة أشنع من فظائع اليهود. فانه يجد أشخاصاً يمارسون العرافة والشعوذة والسحر والتعزيم ، ومن ارتكبوا خطايا الزنا والنجاسة والفجور والسكر والشتيمة والطمع. ولست أريد أن أذكر اكثر من هذا ، لئلا اسيء إلى احساسات أي واحد من الواقفين هنا.

وهل هناك من مزيد ؟ هب أن شخصاً أراد أن يفحص جميع المتناولين من الأسرار المقدسة في كل العالم. أي نوع من التعديات لا يكتشفها ؟ وماذا يكون الحال لو أنه فحص أصحاب المراكز الرئيسية ؟ إلا يجدهم منهمكين بشغف في الأرباح المادية ، ويتاجرون بالمناصب الرفيعة ، حسودین ، خبثاء ، معجبين بنواتهم ، شرهين ، مستعبدين للمال؟

وحيثما وجدت مثل هذه الشرور أية نكبات لا نتوقعها ؟ ولكي تتأكد من شناعة الانتقام ممن يرتكبون مثل هذه الخطايا تأمل في الأمثلة التي نجدها في القديم. فان جندياً واحداً سرق من الأملاك المقدسة فحلت النكبة على الجميع . أنت لا شك تعرف من هو الذي أقصده . هو عخان بن کرمی ، الذي سرق من الغنيمة المقدسة ( يش7: 1-26) . وفي الوقت الذي تكلم فيه النبي كانت كل البلاد مليئة بالعيافة ، كما كان الفلسطينيون ( اش 6:2) . أما الان فتوجد شرور لا حصر لها ، وليس من يخاف الله.

آه ، ليتنا نتحذر من الآن . فالعادة أن الله يعاقب الأبرار أيضا مع الاشرار . هكذا كان الحال مع دانيال ، ومع الفتية الثلاثة المباركين. وهكذا حدث مع عشرات الألوف الاخرين ، وهكذا هو الحال في حالة الحروب الحادثة في الوقت الحاضر .

وازاء كل هذه الأحداث لنحترس لانفسنا . ألستم ترون هذه الحروب؟ ألستم تسمعون عن هذه النكبات ؟ ألستم تأخذون لانفسکم درساً من هذه الأشياء ؟ لقد ابتلعت أمم ومدن باكملها ، وخربت ، واستعبد عشرات الالوف للبرابرة.

وان كانت جهنم لا تعيدنا إلى وعينا فلتعدنا هذه الاشياء. ما هذه التهديدات ؟ أليست هي حقائق حدثت فعلاً؟ عظيم هو القصاص الذي احتملوه. وأشد هولاً هو ذلك القصاص الذي سوف نتحمله ان كانت الاحداث التي حلت بهم لا تعيدنا إلى صوابنا. هل حدیثى هذا متعب، اننى واثق من أني أنا المتعب . لكن اذا تأملنا في الحديث وجدنا أن له امتیازاته ، لانه ليس حديثا يرضي الناس والاكثر من هذا أن المواضيع التي يتضمنها تذل النفس وتؤدبها . لان هذه سوف تكون أساس تلك البرکات العتيدة أن تكون فيما بعد ، التي نبتهل إلى الله أن يمنحنا اياها في يسوع المسيح ربنا ، الذي يليق له مع الآب والروح القدس المجد والقوة والكرامة الآن والى الابد . آمين.

فاصل

فاصل

تفسير أفسس 1 تفسير رسالة أفسس تفسير العهد الجديد
تفسير أفسس 3
القديس يوحنا ذهبي الفم
تفاسير رسالة أفسس تفاسير العهد الجديد

 

زر الذهاب إلى الأعلى