تفسير رسالة أفسس أصحاح ٤ للقديس يوحنا ذهبي الفم
تفسير أفسس – الأصحاح الرابع
العظة الثامنة ( ص 4: 2،1)
“فاطلب اليكم ، أنا الاسير في الرب ، أن تسلكوا كما يحق للدعوة التي دعيتم بها ، بكل تواتضع ووداعة”.
لیست مهمة المعلمين أن يهدفوا إلى مدح مرؤوسيهم لهم ، أو إجلالهم لهم ، بل الى خلاصهم ، وأن يفعلوا كل شيء مدفوعين بهذا الباعث. الان من يسعى نحو الهدف الأول لا يعتبر معلماً، بل طاغية. ويقينا ان الله لم يقمك رئيساً لهم من أجل هذه الغاية لكي تنال سطوة أعظم ، بل لكي تتغاضى عن مصالحك الشخصية وتهتم بمصالحهم، هذه هي مهمة المعلم. وهذه كانت هي مهمة المغبوط بولس الرسول ، الذي تحرر من كل مظاهر الغرور ، وقنع بان يكون واحداً من شعب المسيح الكثيرين ، بل أن يكون أصغر واحد فيهم. لهذا كان يدعو نفسه خادمهم ، واذا تحدث معهم كانت تتبين في كلامه نغمة المتوسل. تأمله وهو يكتب الان ، لا بروح الاستبداد والغطرسة ، بل بروح الخضوع.
“فاطلب (أتوسل) اليكم ، أنا الأسير في الرب ، أن تسلكوا كما يحق للدعوة التي دعيتم بها” وما هو هذا الذي تتوسل من أجله ؟ هل لكي تنال أي ربح مادي من أجل نفسك ؟ كلا . هو لکی اخلص آخرین . ويقينا ان من يتوسلون يفعلون هذا من أجل أمور جوهرية تخصهم : وقد قال هو : هذا صحيح ، وهذا أمر جوهرى لي ، وفقا لما قاله في مكان آخر في رسائله : “لاننا الآن نعيش آن ثبتم أنتم في الرب” ( ۱ تس ۸:۳) اذ كان يشتاق دواما إلى خلاص من كان يعلمهم .
“أنا الاسير في الرب“. يا لها من كرامة عظيمة، أعظم من كرامة الملوك أو السفراء أو ای انسان آخر. ومن أجل هذا استخدم نفس اللقب عندما كتب الى فليمون : “اذ أنا انسان هكذا نظير بولس الشيخ ، والآن أسير يسوع المسيح” ( فل ۹ ) . فلا شيء أمجد لأسير المسيح من تلك السلاسل التي ربطت بها اليدان المبارکتان، كان أمجد له أن يكون اسيراً من أجل المسيح من أن يكون رسولاً، أو معلما ، أو کارزاً.
ان من يحب المسيح يدرك ماذا أقول، ومن تعمق في روح الولاء للرب يعرف قوة هذه السلاسل. مثل هذا يُفضَّل أن يكون أسيراً من اجل المسيح عن أن تكون له السماء مسكناً. كانت اليدان اللتان أراهم اياها امجد من أية زينة ذهبية ، او من اي تاج ملکی . اية عصابة للرأس مرصعة بالجواهر لیست أمجد من السلسلة الحديدية التي تكبل اليدين من أجل المسيح. اذن لقد كان السجن أمجد من القصور ، بل أمجد من السماء نفسها . ولماذا أقول أمجد من القصور ؟ لأنه كان يضم سجيناً – سجن من أجل المسيح. أن كل من يحب المسيح يعرف شرف هذا اللقب ، ويدرك قيمته ، ويعرف مقدار هذه البركة التي أعطيت للبشرية . أن يكون المرء موثقا من أجل المسيح . ان السجن من أجله أمجد من الجلوس عن يمينه ( مت ۲۱:۲۰ ) ، بل الجلوس “على اثنی عشر کرسیاً ( عرشاً) » ( مت ۱۹ : ۲۸ ).
ولماذا أتحدث عن الأمجاد البشرية ؟ انني أخجل من مقارنة الأمجاد الأرضية والزينات الذهبية بهذه السلاسل . ولكن الامتناع عن التحدث عن تلك الأمجاد السماوية العظيمة ، وحتى لو لم يكن الأمر مقترناً بای أجر مطلقاَ، فهذا وحده أجر عظيم ، واحتمال هذه المتاعب من أجل الحبيب تعویض جمیل. أن من يحبون – حتى وان كانت المحبة للبشر لا لله – يعرفون كلامي ، طالما كانوا يتلذذون بالآلام من أجل من يحبون ، أكثر مما يتلذذون بالأمجاد التي ينالونها منهم.
لكن معرفة هذه الأمور معرفة كاملة – ترجع إلى الجماعة المقدسة ، أي إلى الرسل وحدهم. استمع إلى ما قاله المغبوط لوقا : ” وأما هم فذهبوا فرحين من أمام المجمع لأنهم حسبوا مستأهلين أن يهانوا من اجل اسمه” ( أع 5 : 41 ) . قد يبدو في نظر كل الاخرين جهالة أن نحسب مستأهلين للاهانة ، وأن نفرح بالاهانة . أما في نظر من يدركون محبة المسيح فان هذا يحسب أعظم بركة، لو خيرت أنا شخصياً بين السماء وتلك السلسلة لفضلت السلسلة. ولو خيرت بين الجلوس في الاعالي مع الملائكة ، أو مع بولس في السجن ، لفضلت السجن. ولو خيرت بين التحول الى واحد من تلك السلطات التي في السماء ، الواقفة حول العرش ، أو إلى سجين كهذا ، لفضلت أن أكون سجيناً. ليس هنالك شيء أمجد من تلك السلسلة.
ليتني أوجد في هذه اللحظة في نفس ذلك المكان ( اذ يقال أن السلاسل لا تزال موجودة) لانظر واعجب باولئك الاشخاص من أجل محبتهم للمسيح : ليتني استطيع النظر إلى تلك السلاسل، التي يرهبها الشياطين ويرتعبون منها ، لكن الملائكة يمجدونها . ليس هنالك أشرف وأنبل من احتمال الشر من أجل المسيح . اعتقد بان الرسول بولس لم يسعد عندما اختطف الى الفردوس ( 2کو 4:12) بقدر ما سعد عندما زج به في السجن. إعتقد بأنه لم يسعد عندما سمع كلمات لا ينطق بها بقدر ما سعد عندما أوثقت يداه : أعتقد بانه لم يفرح عندما اختطف إلى السماء الثالثة ، ( ۲ کو 2:12) بقدر ما فرح بتلك السلاسل. ولكي تدرك أن هذه أعظم من تلك انظر كيف عرف هذا هو نفسه ، لانه لا يقول : ” أنا الذي سمعت هذه الكلمات التي لا ينطق بها أطلب اليكم » ( ألتمس منكم ) ، بل “أنا الاسير في الرب”، ونحن لا نعجب من هذا ، حتى وان كان لا يذكر هذا في كل رسائله ، لأنه لم يكن في السجن دواماً، بل في أوقات معينة.
انني أحسب أن احتمال الآلام من اجل المسيح افضل من قبول المجد من يدى المسيح. هذا مجد فائق ، هذا مجد يفوق كل مجد . وان كان ذاك الذي أخذ صورة عبد ، وأخلى نفسه من مجده ( في۷:۲) ، لم يعتبر أنه كان في حالة أمجد مما كان عندما صلب ، فلماذا لا احتمل أنا كل شيء ؟ استمع إلى كلماته :”أيها الآب مجدني” ( يو ۱:۱۷ ) . ما هذا الذي تقوله ؟ أنت تؤخذ إلى الصليب لتصلب مع اللصوص وسارقی القبور ، أنت تحتمل موت اللعنة . سوف يبصق عليك ، وسوف تلطم ، وتدعو هذا مجداً؟ نعم : فانني أحتمل كل هذا من أجل احبائي ، واعتبره مجداً، وإن كان ذاك الذي أحب البؤساء والمرذولين قد حسب هذا مجداً، لا أن يكون على عرش أبيه ، ولا في مجد ابيه ، بل في الهوان ، إن كان هذا هو مجده ، وان كان قد فضل هذا على ذاك ، فالاحری بی أن أحسب كل هذه مجداً.
آه ، ما أمجد هذه السلسلة. آه ، ما أمجد هاتين اليدين اللتين زینتهما هذه السلسلة. لما رفع بولس ذلك الاعرج في أسترا وشفاه لم تكن يداه مجيدتين بقدر ما كانتا عندما أوثقتا بالسلسلة. لو كنت عائشاً في تلك الأيام لقبلتهما ، ووضعتهما في حدقة عيني ، ولما كنت أكف عن تقبيل هاتين اليدين اللتين حسبتا مستحقتين أن توثقا من اجل ربی.
هل تتعجب من بولس عندما نشبت الافعى في يده دون أن تضره ؟ ( أع 3:28- 5 ) . لا تنذهل، فهذه الافعى احترمت السلسلة . بل لقد وقرها البحر كله، لأنه كان موثقاً بالسلسلة أيضا عندما نجا اذ تحطمت السفينة. لو كانت قد عرضت على في تلك اللحظة قوة لاقامة الموتی لفضلت عليها تلك السلسلة – لو كنت خالياً من الاهتمام بالكنيسة ، ولو كان جسدي قوياً ومتشدداً، لما ترددت عن القيام برحلة طويلة لكي أرى فقط تلك السلاسل ، وذلك السجن الذى سجن فيه .ان آثار معجزات عديدة فعلاً في كل أرجاء العالم ، لكنها ليست غالية مثل سمات الرب يسوع التي حملها في جسده ( غل 17:6 ) ۰ ولست أتلذذ بقراءة أنباء معجزاته في الكتاب المقدس كما اتلذذ بالقراءة عن تحمله للنكبات ، وجلده ، وسحبه ، أو عن أخذ عصائب ومناديل من على جسده لوضعها على المرضى لكي يبرأوا . عجيبة جدا هذه الأشياء لكنها ليست عجيبة مثل تلك .” فوضعوا عليه ضربات كثيرة ، وألقوه في السجن ،” ( أع 23:16).
وأيضاً عندما سجن بولس وسيلا ” كانا يصليان ويسبحان الله ” ( أع 16: 25) . واسمع أيضا : انهم “رجموا بولس ، وجروه ، ظانين أنه قد مات” ( اع 14 : 19) ۰ اتريد ان تدرك عظمة السلسلة الحديدية من أجل المسيح اذ ربطت حول جسد خادمه الأمين ؟ أصغ إلى ما قاله المسيح نفسه : “طوبى لكم ” ( مت 11:5) : لماذا ؟ هل لانكم أقمتم الموتی ؟ کلا . فلماذا ؟ هل لانكم شفيتم العمى ؟ كلا وألف کلا. ولماذا اذن ؟ “اذا عيرو كم ، وطردوكم ، وقالوا عليكم كل كلمة شريرة من أجلي کاذبین” ( مت 11:5).
وان كان مجرد كلام الناس عن غيرهم ردياً يكسبهم بركة كهذه ، فما الذي يكسبونه عندما يعاملون معاملة ردية ؟ استمع إلى ما قاله هذا المغبوط نفسه في مكان آخر : “وأخيرا وضع لى اكليل البر ” ( 2 تی 4 : 8 ) . ومع ذلك فالسلسلة أمجد من هذا الأكليل. وقد جعلني الرب مستحقا لهذه السلسلة ( أع 5 : 41 ) ، وأنا لا ابالی بالاکلیل ، ان كنت أحتمل الآلام من أجل المسيح فيكفيني هذا تعويضاً. ليته يعينني على أن أقول بانني “أكمل نقائص شدائد المسيح ” ( کو24:1 ) ، فلست اطلب شيئا أكثر.
وقد حسب بطرس أيضا مستحقاً لهذه السلسلة. لأننا نقرأ أنه ربط بسلسلتين ، وسلم للعسكر و نام ( أع 6:12) . لكنه فرح ولم يتحول عن قصده ، و نام نوماً عميقاً، الأمر الذي لم يكن ممكنا أن يحدث لو كان مرتبكاً. واذ كان نائما بين عسكريين جاءه ملاك ، وضرب جنبه ، وأيقظه.
والآن ، هل يسألني أي واحد : أيهما تفضل ؟ اتفضل ان تكون هو الملاك الذي ضرب بطرس ، أم بطرس الذي نجا؟ انني أفضل ان اكون بطرس الذي من أجله جاء الملاك نفسه ، أني افضل ان اتمتع بتلك السلسلة . وقد تسالني كيف صلى اذ أنقذ من شرور كثرة ؟ لا تتعجب ، فقد صلى لأنه خاف أن يموت ، و كان خائفاً من الموت ، اذ كان يتمنى أن يستمر على قيد الحياة لكي يواجه شدائد أخرى. استمع إلى ما قاله المغبوط بولس الرسول نفسه: “لى اشتهاء أن أنطلق واكون مع المسيح ، ذاك افضل جدا . ولكن أن أبقى في الجسد الزم من اجلكم ” ( في 1: 23 و 24) ۰ وقد حسب هذا هبة حيث قال : “لأنه قد وهب لكم لأجل المسيح لا أن تؤمنوا به فقط ، بل أيضا أن تتألموا لأجله” ( في 1: 29).
لقد حسب الآلام هبة أعظم ، لان الله يهبها بنعمته المجانية ، هي هبة فعلاً، هبة سامية جداً، أسمى من أن يجعل الشمس والقمر يتوقفان عن حركتهما ، أسمى من أن يعطي القوة التي تزحزح العالم ، اسمى من أن يعطي السلطان على الشياطين ، أو اخراجها . الشياطين لا تحزن بسبب اخراجنا لها بالايمان بقدر ما تحزن عندما ترانا نتألم من أجل المسيح ونسجن. لان هذه تزيدنا جرأة.
ليست السلاسل التي نحتملها من أجل المسيح أمراً نبيلاً لانها تعد لنا الملكوت ، بل لاننا نحتملها من أجل المسيح . وانني لا أرحب بها لأنها تقودنا إلى السماء، بل لأننا نحتملها من أجل رب السماء . كان له أن يفخر جدا إذ يعلم أنه أوثق من اجل المسيح . يا لها من سعادة جزيلة وشرف رفیع ، وامتیاز مجید . انني أتمنى أن أتأمل دواما في هذه المواضيع ، وأتمنى أن أتشبث بهذه السلسلة . واتمنى ان الف هذه لسلسلة حول نفسی، ولو أن هذا في الواقع أمر غیر میسور.
عندما كان بولس مربوطاً بسلسلة قيل انه قد “تزعزعت أساسات السجن ، وانفکت قيود الجميع ” ( أع 16: 29) . ألست تری اذن انه كانت في القيود طبيعة تذيب القيود نفسها ؟ فكما أن موت الرب امات الموت نفسه ، هكذا استطاعت قیود بولس ان تحل قيود المحبوسين ، وتزعزع أساسات السجن ، وتفتح الأبواب. ليس هذا هو التأثير الطبيعي للقيود ، بل هو العكس . فهي تحفظ المقيد من أن يهرب ، لا أن تفتح له الأبواب . ليست هذه هي طبيعة القيود بصفة عامة ، بل هي طبيعة القيود التي تحتمل من أجل المسيح . فاننا نقرأ ان حافظ السجن “خر لبولس وسيلا وهو مرتعد ، ( اع 16: 29).
كذلك ليست طبيعة القيود بصفة عامة أن تجعل من يربط غیره بالقيود يخر ساجداً أمام من يقيده ، بل العكس انها تجعل المقيد يخر ساجداً أمام من يربطه بالقيود . فهنا نجد الحر الطليق يخر ساجداً عند قدمی المقيد. كما نجد أن من يربط غيره بالقيود يلتمس من المقيد بان يحله من قيود الخوف.
قل لي ، ألم تكن أنت الذي قيدته ؟ الم تكن أنت الذي القيته في السجن الداخلي ؟ ( أع 16 : 24) : ألم تكن أنت الذي ضبطت رجليه في المقطرة ؟ فلماذا ترتعد ؟ لماذا تضطرب ؟ لماذا تبكي ؟ لماذا تستل سيفك ؟ فاجاب : انني لم أقيد قط شخصاً كهذا . لم أكن أدري أن المسجونين من أجل المسيح لهم قوة مقتدرة كهذه . ماذا تقول ؟ لقد نالوا قوة تفتح السماء ، أفلا يستطيعون أن يفتحوا سجناً؟ لقد حرروا من ربطتهم الأرواح الشريرة ، فهل تقف في وجههم قطعة من حديد ؟ أنت لا تعرف هؤلاء الناس ، ولذلك غفرت لك خطاياك.
هذا السجين هو بولس الرسول الذي توقره كل الملائكة . هو بولس الذي كانت مناديله ومآزره تشفى الأمراض وتخرج الأرواح الشريرة ( أع 12:19) : ويقينا أن السلاسل التي من الشيطان شديدة الصلابة ، بل أشد صلابة من الحديد ، لأن سلاسل الشيطان تقيد النفس ، أما السلاسل الاخرى فتقيد الجسد . ولذلك فان من حرر النفوس ألا تتوفر لديه القوة ليحرر الجسد ؟ والذي استطاع أن يحطم سلاسل الأرواح الشريرة هل يعجز عن أن يحطم السلاسل الحديدية ؟ والذي حرر أولئك المسجونين بملابسه ومناديله ، وخلصهم من قبضة الشياطين ، يعجز عن تحرير نفسه بنفسه ؟ لأن بولس كان أولاً مقيدا ً، ثم حرر المسجونين ، لكي تدرك أن خدام المسيح المقيدين لديهم قوة أعظم من قوة الاحرار. لو أن واحداً من الأحرار فعل هذا لما اعتبر عمله غريبا. اذن فلم تكن السلسلة علامة على الضعف ، بل بالحرى كانت أعظم قوة . وهكذا ظهرت قوة القديس بكيفية بارزة ، اذ رغم أنه كان مقيداً صار أعظم قوة من الأحرار ، ولم يحرر نفسه فقط ، بل حرر أيضا من كانوا مقيدين.
وماذا كانت فائدة الأسوار ؟ وماذا كان نفع الزج به في السجن الداخلي ان كان قد فتح الخارجي أيضاً ؟ ولماذا تم هذا ليلاً، ولماذا كان مقترنا بزلزلة ؟
صبرا قليلاً، واسمح لي بان أغض النظر عن كلمات الرسول ، وأبسط لك أعماله ، واتأمل في سلاسله . اسمح لي بفرصة اطول لزيادة التأمل فيها. لقد تشبثت بتلك السلسلة ، ولن يفصلني احد منها انني في هذه اللحظة مقيد بمحبتي أكثر مما كان هو مضبوطا في المقطرة. لا يقدر أحد أن يحطم هذه السلسلة ، لأنها مصنوعة من محبة المسيح . ليست لدى الملائكة ، ولا ملكوت السماء قوة لفكها. فلنستمع إلى كلمات الرسول : “لاملائكة ، ولا رؤساء ، ولا قوات ، ولا أمور حاضرة ، ولا مستقبلة ، ولا علو ، ولا عمق ، تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا ” ( رو ۸ : ۳۸ و ۳۹ ) .
ولماذا حدث هذا في نصف الليل ؟ ولماذا اقترن بزلزلة ؟ اسمع ، و تعجب من ترتيب العناية الإلهية . لقد “انفکت قيود الجميع وانفتحت في الحال الأبواب كلها” ، وحدث هذا من أجل حافظ السجن فقط ، لا بقصد التفاخر ، بل بقصد خلاصه. لأنه واضح من كلام بولس أن المسجونين لم يدركوا أن قيودهم قد انفكت ، فقد قال : “لا تفعل بنفسك شيئاً ردیاً ، لان جميعنا ههنا ” ( أع 16: 28). ولو كانوا قد رأوا الأبواب مفتوحة ، وأدركوا أنهم قد تحرروا من قيودهم ، لما كانوا قد بقوا في السجن لحظة واحدة . فالذين تعودوا اقتحام الأسوار ، وتسلق المتاريس ، وتذليل كل أنواع الصعوبات وهم مقيدون ، لم يكن ممكنا أن يتحملوا البقاء لحظة داخل السجن بعد فك القيود من أيديهم وفتح الأبواب ، سيما وقد كان حافظ السجن نائما، بل كانت قيود النوم لهم عوض القيود الحديدية.
هكذا تم الأمر دون أن يحدث أي أذى – بسبب المعجزة – للسجان الذي كان ينبغي أن يخلص . وعلاوة على هذا فان المسجونين قيدوا في الليل ، لا في النهار ، ولذلك تم التقييد بكل حرص اذ كانوا نائمين لكن لو كانوا قد قيدوا بالنهار لكانوا قد تهيجوا كثيرا وقاوموا .
وأيضا لماذا تزعزعت أساسات السجن ؟ لا يقاظ السجان ، فیری ما حدث ، لأنه كان هو الوحيد المستحق للخلاص. ورجائي لك أن تتأمل في عظمة نعمة المسيح . ففي وسط الحديث عن سلاسل بولس ذكرت أيضا نعمة الله : نعم ، فالسلاسل نفسها هي هبة الله و نعمته .
هنالك من يشتكون قائلين : ” ولماذا خلص السجان ؟ ” وهكذا يجدون عيباً في نفس تلك الظروف التي كان يجب أن يستغلوها للاعجاب بمحبة الله ورحمته . ليس في هذا ما يدعو للعجب . هذه هي حالة أولئك السقماء الذين يجدون عيباً حتى في الغذاء الذي يقوتهم ، والذي كان ينبغی أن يدركوا قيمته ، والذين يؤكدون أن العسل مر ، وأولئك الذين عميت بصائرهم بسبب الأشياء التي كان يجب أن تنيرها. ليس لان هذه النتائج تحدث من طبيعة الأشياء نفسها ، بل من ضعف الاشخاص الذين يعجزون عن استخدامها استخداماً حسناً.
ما هذا الذي أقوله ؟ لقد كان يجب أن يعجبوا بمحبة الله وعطفه ، لأنه أنقذ شخصاً من حالته الميئسة القاتلة. لكنهم عابوا هذا العمل وقالوا : “لقد كان العمل كله نتيجة أعمال السحر والشعوذة”.
كانت هنالك اعتبارات كثيرة تدحض هذه السفسطة. أولا كان السجان يسمع بولس وسيلا يسبحان الله. والسحرة لا يمكن أن يرنموا ترانيم كهذه . وثانياً ، لأنهما لم يهربا ، بل منعا السجان من أن يقتل نفسه ( ع ۲۸ ). ولو كانا قد فعلا المعجزة من أجل نفسهما لما بقيا في السجن ، بل كانا أول من يهرب.
كان عطفهما أيضاً عظيماً لأنهما منعا ذلك الانسان – الذي قيدهما – من أن يقتل نفسه ، وكان لسان حالهما يقول : “أنت قيدتنا بكل حرص ، وبكل قسوة ، لكننا نحلك من أقسى أنواع السلاسل”، فكل انسان يقيد بسلاسل خطاياه . وهذه السلاسل ملعونة ، أما التي تحتمل من أجل المسيح فهي مباركة : وتستحق منا كل شکر.
ولقد بين لنا الرسول بادلة محسوسة أن القيود الحديدية يمكنها أن تحل قيود الخطية . أرأيت كيف أن أولئك المقيدين بقيود حديدية قد حلوا من قيودهم ؟ سوف ترى نفسك أيضاً محلولا من القيود المريرة : وتلك القيود – قيود المسجونين الاخرين ، لا قيود بولس – کانت نتيجة القيود الأخرى ، أي قيود الخطية . كان المحبوسون محبوسي الجسد ومحبوسی الروح . وكان السجان نفسه أيضا مسجوناً. كانوا هم مقیدین بالخطية ومقيدين بالحديد ، أما هو فكان مقيداً بالخطية فقط . وعندما حلهم بولس كان ذلك لكي يثبت ایمان السجان ، لأن القيود التي حلها كانت منظورة.
هكذا فعل المسيح أيضاً، لكن بترتيب معکوس : ففي الحالة التي قدمت اليه كان هنالك شلل مزدوج : وما هو ؟ كان هنالك شلل النفس بسبب الخطايا ، و كان هنالك شلل الجسد أيضا : وماذا فعل المسيح ؟ لقد قال : “ثق يا بني ، مغفورة لك خطاياك” ( مت 3:9- 6 ) .
لقد حل أولاً قيود الشلل الحقيقي ، وبعد ذلك شفى الشكل الاخر . لأنه حينما “قال قوم من الكتبة في أنفسهم هذا يجدف ، علم يسوع أفكارهم ، فقال لماذا تفكرون بالشر في قلوبكم ؟ أيما أيسر أن يقال مغفورة لك خطاياك ، أم أن يقال قم وامش ؟ ولكن لكي تعلموا ان لابن الانسان سلطاناً على الأرض أن يغفر الخطايا ، حينئذ قال للمفلوج : قم احمل فراشك واذهب الى بيتك”.
اذ أجرى المعجزة غير المنظورة أيدها بالمنظورة ، اید الشفاء الروحي بالشفاء الجسدي . ولماذا فعل هكذا ؟ لكي يتم ما قیل :”من فمك أدينك أيها العبد الشرير”.، فماذا قالوا ؟ “ومن يقدر أن يغفر خطايا الا الله وحده” ( مر ۷:۲) : اذن لا يقدر ملاك ، أو رئیس ملائكة او أية خليقة اخرى ان يغفر خطايا .. هذا ما اعترفتم أنتم به . وماذا كان يجب أن يقال اذن ؟ اذا ما تبين بانی قد غفرت الخطايا كان هذا دليلاً كاملاً باني أنا الله . وعلى أي حال فانه لم يقل هكذا . وما الذي قاله : لکی تعلموا أن لابن الانسان سلطانا على الأرض أن يغفر الخطايا ، حينئذ قال للمفلوج : قم أحمل فراشك واذهب الى بيتك ، ( مت 9: 6).
وعندما استطاع أن يقول انني أتممت المهمة الأكثر صعوبة فواضح أنه لم يوجد لديهم أي اعتراض على اتمام المهمة الاسهل : لهذا عمل المعجزة غير المنظورة أولاً ، لأنه كان هنالك مقاومون كثيرون . فنقلهم من غير المنظور الى المنظور .
اذن فیقینا ان ایمان السجان لم یکن ایمانا تافهاً أو متعجلاً. فقد رأي المسجونين . ولم ير شيئاً خطأ ، ولم يسمع شيئا خطأ . ورأى انه لم يتم شیء بالسحر ، اذ كان بولس وسيلا يسبحان الله. لقد رأى أن كل ما تم كان منبعثة من الرحمة الفياضة ، لانهما لم ينتقما منه ، مع أن هذا كان في وسعهما ، اذ كان في وسعهما ، أن ينجيا نفسيهما وينجيا المسجونين ، ثم يهربان. وان لم ينجيا المسجونين فقد كان في امكانهما أن ينجا نفسيهما : لكنهما لم يفعلا هذا ، وهكذا الزماه بتوقيرهما ، ليس فقط بالعجزة ، بل بتصرفهما أيضاً: لأنه ماذا قال بولس عندما صاح بصوت عظیم : « لا تفعل بنفسك شيئاً ردياً لأن جميعنا ههنا ، ( ع ۲۸ ) وها أنت ترى لأول وهلة خلوه من الفخر الباطل ، والكبرياء ، وروح التحزب . لم يقل : ان هذه العجائب تمت من أجلنا ، بل قال “لأن جميعنا ههنا ” كأنه كان مجرد واحد من المسجونين.
ورغم أنهما لم يحلا قيود نفسيهما بنفسيهما قبل ذلك ، ولم يفعلا هذا بقوة المعجزة ، الا انهما كان ممكناً لهما أن يلتزما الصمت ، ويحلا ويحررا كل ما كانوا مربوطين لقد التزما الصمت ، ولو لم يكونا قد منعاه بصراخهما عن قتل نفسه ، لكان قد قتل نفسه.
لقد صرخ الرسول بولس لأنه كان محبوسا في السجن الداخلى ، كأنه قد قال : انك قد فعلت هذا لضررك ، لأنك قد أدخلت هذين اللذين كان ممكنا لهما أن ينجياك من الخطر.
وعلى أي حال فانهما لم يقتديا بالمعاملة التي عوملا بها على يديه. مع أنه لو كان قد مات لكان الجميع قد نجوا . وأنت ترى انهما فضلا أن يبقيا في القيود عن أن يرياه يهلك ، ولذلك كان ممكناً له أيضا أن يناجي نفسه قائلا : “لو كانا منجمين لكانا بلا شك قد أطلقا الآخرين أحراراً، ونجيا نفسيهما من قيودهما”. ( اذ يحتمل أن يكون قد سجن الكثيرون من أمثالهما ) وقد ازدادت دهشته لأنه إذا كان قد سلم اليه منجمون كثيرون ليكونوا في عهدته فقد شهد بانه لم ير شيئاً كهذا . فالمنجم لن يزعزع أساسات السجن لكي يوقظ السجان من نومه ، وبهذا تتعطل نجاته.
والآن لنتقدم لكي نتأمل في ایمان السجان. قال الكتاب : انه “طلب ضوءا ، واندفع إلى داخل ، وخر لبوس وسيلا وهو مرتعد ، ثم أخرجهما وقال يا سيدى ماذا ينبغي أن أفعل لکی اخلص؟ “، لقد ارتبك وصرخ قائلاً “یا سیدی ، ماذا ينبغي أن أفعل لكي أخلص ؟ فقالا آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص أنت وأهل بيتك” ( أع 16: 29- 31) كان لسان حاله يقول : “أن تقديم تعاليم كهذه ليس من عمل المنجمين . فلم يرد في أقوالهما أي ذكر للارواح الشريرة”.
وهكذا ترى أنه كان مستحقاً أن يخلص . لأنه عندما رأى المعجزة ، و تخلص من رعبة ، فانه لم ينس أهم أمر يخصه ، بل حتى عندما كان وسط خطر شديد أظهر اهتماماً شديداً بخلاص نفسه وتقدم اليهما كأنه متقدم أمام المعلمين، اذ انه خر عند أقدامهما. وبعد ذلك “كلماه وجميع من في بيته بكلمة الرب . فاخذها في تلك الساعة ، وغسلهما من الجراحات ، واعتمد في الحال هو والذين له أجمعون”( أع 16: 32و 33).
لاحظ غيرة هذا الرجل الملتهبة ، فانه لم يتأخر ، ولم يقل : عندما يحل الصباح ننظر في الأمر ، لكنه بحماس شدید “اعتمد في الحال هو والذين له أجمعون”. نعم ، انه يختلف عن الكثيرين في هذه الأيام ، الذين يتغافلون عن تعمید الخدم ، والزوجات ، والاولاد.
انني ألتمس منك أن تتمثل بالسجان. لا أقول هذا كمن له سلطان ، بل بقصد صالح ، لأنه أية فائدة من السلطان أن كان القصد ضعيفاً؟ فان الرجل الهمجي ، المتوحش الذي عاش ممارساً تصرفات وحشية ، واساءات لا حصر لها ، عاد إلى صوابه في الحال ، وأصبح حنوناً رقیق القلب . فقد قيل انه “غسلهما من الجراحات” ع33.
ولاحظ من الناحية الأخرى غيرة بولس المتقدة أيضا ، فانه اذ أوثق وضرب كثيراً استمر یکرز بالانجیل. آه ، یا لهذه السلسلة المباركة . لقد توجعت طول الليل ، وفي الصباح ولدت بنين كثيرين . نعم لقد قال عن أحدهم :”الذي ولدته في قيودی ” .
لاحظ كيف افتخر ، وكيف أن البنين ، الذين ولدوا بهذه الكيفية، كان يجب ان يكونوا بارزين جداً. ثم لاحظ مقدار عظمة مجد تلك القيود . ليس فقط لأنها أكسبت لابسها مجداً، بل أيضا الذين ولدهم بهذه المناسبة. فالذين ولدهم بولس في قيوده نالوا بعض الامتيازات ، لا أقول هذا من جهة النعمة ( لأن النعمة ثابتة لا تتغير ) ، ولا من جهة غفران الخطايا ( لأن الغفران واحد للجميع ) ، بل لأنهم تعلموا منذ البداية أن يفرحوا ويفتخروا بهذه الأمور : فقد قيل : “أنه أخذهما في تلك الساعه من الليل وغسلهما من الجراحات ، واعتمد في الحال”.
والآن تأمل في الثمار . فقد كافأهما السجان في الحال بعطاياه المادية . لقد أصعدهما إلى بيته ، وقدم لهما مائدة ، وتهلل مع جميع بیته ، إذ كان قد آمن بالله ، لأنه ماذا كان يعجز عن أن يعمله بعد أن أنفتحت له السماء نفسها وبعد أن انفتحت أبواب السجن ؟ لقد غسل جراحات معلمة ، وقدم له طعاماً، وفرح . لقد دخلت سلسلة بولس الى السجن ، وحولت كل شيء فيه إلى كنيسة ، ونقلت اليه جسد المسيح ، واعدت وليمة روحية ، وجددت نفوسا عديدة ، الأمر الذي لأجله فرحت الملائكة.
ألم يكن صادقاً ما سبق أن قلته من أن السجن كان اكثر مجداً من السماء ؟ لأنه كان مصدر فرح هناك .. هكذا يكون فرح في السماء بخاطی واحد يتوب ، ( لو 7:15) . “لأنه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم ” ( مت 18: 20). وكان بالأولى لابد أن يتم هذا حيث اجتمع بولس وسيلا والسجان وجميع بيته ، وحيث كان ایمانهم ملتهباً . لاحظ حرارة ايمانهم.
وهذا السجن ذكرني بسجن آخر . وما هو هذا السجن الآخر ؟ هو ذاك الذي كان فيه بطرس . ليس لأن شيئاً مثل هذا حدث فيه . نعم ، فانه قد سلم إلى أربعة أرابع من العسكر لحراسته . وهو لم يرنم ، ولم يسهر ، بل نام : وهو أيضا لم يجلد . ومع ذلك فقد كان الخطر أشد. الان الغرض من سجن فیلبی تحقق ، ولقي بولس وسيلا قصاصهما. أما قصاص بطرس فكان ينتظره . ومع أنه لم يكن هنالك اي تفكير في ضربه بالجلدات ، فقد كانت أمامه أهوال مرعبة.
ثم لاحظ أيضا المعجزة التي حدثت : “واذا ملاك الرب أقبل ونور أضاء في البيت ، فضرب جنب بطرس وأيقظه ، قائلاً: قم عاجلاً، فسقطت السلسلتان من يديه”( أع 12: 7). ولكي لا يظن بطرس أن ما جرى يعزى للنور فقط ضرب الملاك جنبه أيضاً. لم ير أحد النور سوی بطرس ، الذي كان “يظن أنه ينظر رؤيا”. أن من ينام لا يحس بمراحم الله.
“وقال له الملاك : تمنطق والبس نعليك : ففعل هكذا . فقال له البس رداءك واتبعني . فخرج يتبعه . و كان لا يعلم أن الذي جرى بواسطة الملاك هو حقیقی : بل يظن أنه ينظر رؤيا . فجازا المحرس الأول والثاني ، وأتيا إلى باب الحديد الذي يؤدي إلى المدينة فانفتح لهما من ذاته فخرجا و تقدما زقاقاً واحدا ، وللوقت فارقة الملاك” ( أع 12: 8- 10) .
ولماذا لم يحدث هنا ما حدث لبولس وسيلا ؟ لان النية كانت متجهة لا طلاق سراحهما . ولم يشأ الله أن يطلق سراحهما بهذه الكيفية . أما في حالة بطرس فقد كانت النية مبيتة على قتله . ثم ماذا ؟
قد يقول قائل : ألم يكن الأمر مذهلاً أكثر جداً لو كان قد اقتيد وسلم لیدی الملك، ثم اختطف من وسط الخطر الشديد ، دون أن يلحقه أي أذى ؟ وعلاوة على هذا فان العسكر أيضاً لم يصبهم أي ضرر وقد كثر الحديث عن هذا الموضوع، فالبعض يقولون : ما هذا ؟ هل أنقذ الله عبده بقصاص الآخرين ، وهلاك غيرهم وأول ما نقوله هو أن هذا لم يتم بهلاك الآخرين ، لأن العناية الإلهية لم ترتب هذا ، لكنه نشأ من قسوة الوالى . وكيف كان ذلك ؟ فالله بعنايته الالهية لم يرتب فقط أن ينجو هؤلاء من الهلاك ، بل أن يخلص الوالى ، كما حدث في أمر السجان ، لكنه لم يحسن استخدام : فقد قيل : « فلما صار النهار حصل اضطراب ليس بقليل بين العسكر ترى ماذا جرى لبطرس » ( ع ۱۸ ).
وماذا حدث بعد هذا ؟ لقد فحص هيرودس الأمر فحصاً دقيقاً، وقيل انه “فحص الحراس وأمر أن ينقادوا إلى القتل ” ( اع 12: 18و19) . والواقع أنه لو لم يكن قد فحصهم فربما كان يلتمس له العذر لقتلهم لكنه استدعاهم ، وفحصهم ، وأدرك أن بطرس كان قد اوثق ، وان السجن كان قد أحكم اغلاقه ، وأن الحراس كانوا إمام الأبواب . لم تنقب حائط واحدة ، ولم يفتح باب واحد ، ولم يوجد دليل واحد على ارتكاب أي غش أو تدليس، وكان يجب أمام هذا كله أن يخاف من سلطان الله الذي اختطف بطرس من وسط الأخطار الشديدة، وأن يعبد ذاك الذي استطاع ان يقوم بتلك الأعمال المجيدة. بل بالعكس أمر يقتل أولئك الرجال.
فكيف يمكن أن يقال ان الله هو السبب ؟ هل كان هو الذي نقب الحائط لينجو بطرس . ألا يجب أن يكون السبب هو أهمالهم ؟ لكن ان كان الله قد رتب كل شيء باعمال عنايته، بحيث يتضح أن العمل لم يكن يعزی لشر الانسان ، بل لعمل الله المعجزی ، فلماذا تصرف هيرودس هكذا ؟ لانه لو كان بطرس قد قصد أن يهرب لهرب والقيود في يديه. لو كان قد قصد أن يهرب لما كان قد خطر بباله أن يلبس نعليه ، بل لكان قد تركهما . أما وقد أمره الملاك بان يلبس نعليه ، فقد كان ذلك لكي يعلموا أن تصرف بطرس لم یکن تصرف شخص هارب ، بل تصرف شخص كان له الوقت الكافي ليفعل كل شيء في تؤدة. لأنه اذ كان “مربوطاً بسلسلتين بين عسكريين” فانه لم يكن ممكنا أن يجد الوقت الكافي ليحل السلسلتين أيضا سيما وقد كان في السجن الداخلى مثل بولس. اذن فقد كان قصاص حراس السجن يعزى لشر الوالى : لأنه لماذا لم يتصرف اليهود بنفس الكيفية ؟
والآن أتذكر سجنا آخر . كان السجن الأول في روما ، والثاني في قيصرية ، والان نأتي الى السجن في أورشليم. فان رؤساء الكهنة والفريسيين عندما أرسلوا إلى السجن لاخراج بطرس لم يجدوا أحدا في الداخل، لكن “الحبس كان مغلقاً بكل حرص والحراس واقفین خارجاً لكنهم لم يكتفوا بان لا يقتلوا الحراس ، بل ” ارتابوا من جهتهم ما عسى أن يصير هذا” ( أع 5 : 21- 24).
وان كان اليهود ، مع ميلهم إلى القتل من جهة هؤلاء ، لم يفكروا في شيء من هذا القبيل ، فكان الاحرى بك أن لا تفعل شيئا ، مع أنك كنت تفعل كل شيء لارضاء أولئك اليهود. لأن هذا الحكم الظالم بالانتقام تغلب على هيرودس سريعاً.
واذا ما اشتكى احد من هذا فليته يشتكي أيضاً بسبب أولئك الذين قتلوا في الطريق العام ، والعشرة آلاف الآخرين الذين قتلوا ظلماً، و بالاكثر بسبب الأطفال الذين قتلوا وقت ولادة المسيح. لأن المسيح أيضاً- حسب منطقك – كان هو السبب في قتلهم . لكن المسيح لم یکن هو السبب ، بل بالحری جنون وظلم أبي هيرودس.
ولعلك تسأل : لماذا لم يخاف الله المسيح من يدي هيرودس ؟ صحيح انه كان يقدر أن يفعل هذا . لكن لم تكن هنالك جدوى من هذا الفعل فكم مرة – على الأقل – أفلت المسيح من أيديهم ؟ ومع ذلك ای خیر صنعه هذا للشعب عديم الاحساس ؟ بينما تم نفع جزيل للمؤمنين مما تم : لأنه اذ دونت الاحداث ( والاعداء أنفسهم شهدوا لما حدث ) فقد كانت الشهادة لا يرقى اليها الشك قط . وكما حدث وقتئذ اذ استدت أفواه الاعداء بسبب الاشخاص الذين شهدوا بما حدث ، هكذا كان الحال هنا أيضاً. فلماذا لم يفعل السجان شيئاً مما فعله هيرودس ؟ بل ان ما شهده هيرودس كان لا يقل دهشة عما شهده هذا الانسان. كان خروج سجين والأبواب مغلقة أقل دهشة من خروج بعض المسجونين والابواب مفتوحة. والواقع ان هذا الأمر الأخير قد يعتبر أمراً خیالیاً، أما الآخر فلم يكن ممكناً ان يعتبر هكذا عندما يروى بكل تفصيل ووضوح. ولذلك فلو كان هذا الرجل شریرا کهيرودس لكان قد قتل بولس كما قتل هيرودس العسكر لكنه لم يكن هكذا.
ولو سأل أي امريء : لماذا سمح الله بقتل الأطفال أيضاً؟ لاضطررت للدخول في مناقشة أطول مما قصدت أن أحدثك به .
وعلى أي حال فلنختم حديثنا بتقديم الشكر الجزيل لسلسلة بولس ، لأنها صارت لنا مصدر برکات جزيلة ، وأتاحت لنا الفرصة لتقديم النصيحة لكم – اذا ما تألمتم من أجل المسيح – لا أن تتذمروا ، بل ان تفرحوا كما فعل الرسل ، بل أن تفتخروا ، كما قال الرسول بولس : “فبكل سرور أفتخر بالحرى في ضعفاتی”(2کو 9:12) ، فانه بسبب هذا سمع أيضا تلك الكلمات “تكفيك نعمتی”.
لقد افتخر بولس بالقيود ، وهل تفتخر أنت بالثروة ؟ والرسل فرحوا لأنهم حسبوا مستأهلين أن يجلدوا ، وهل تسعى أنت وراء الراحة والتنعم ؟ وعلى أي أساس تتمنى أن تصل إلى النهاية التي وصلوا اليها أن کنت وانت هنا على الأرض تسير في طريق يختلف عن الطريق الذي سلكوه ؟
قال الرسول بولس : “والآن ها أنا أذهب إلى أورشليم مقيداً بالروح ، لا أعلم ماذا يصادفني هناك ، غير أن الروح القدس يشهد في كل مدينة قائلاً ان وثقا وشدائد تنتظرنی ، ( أع 22:20) .
ولما سئل : فلماذا تذهب أن كانت هنالك وثق وشدائد تنتظرك ؟ أجاب قائلا : لكي أوثق من اجل المسيح ، واموت من اجل المسيح .”لانی مستعد ليس أن أربط فقط ، بل ان اموت ايضا لأجل إسم الرب يسوع” . ( أع 21: 13).
مغزى أدبی
طوباك يا بولس : بأي شيء كنت تفتخر ؟ بالوثق ، والشدائد ، بالسلاسل ، والجروح . اسمعه يقول : “لأني حامل في جسدی سمات الرب يسوع ” ( غل 17:6) ، كأن هذه السمات نصب تذكارية تذكرنی بالانتصار . واسمعه يقول أيضا :”لاني من أجل رجاء إسرائيل موثق بهذه السلسلة” ( أع 28: 20) : وأيضا :” الذي لأجله أنا سفير في سلاسل” ( اف 6 : 20).
ما هذا ؟ ألا تخجل ، ألا تخاف اذ تتجول في العالم كسجين ؟ ألا تخاف من أن يتطاول أي واحد ويتهم الهك بالضعف ؟ أو من ان يرفض أي واحد الاقتراب منك ، أو الانضمام إلى كنيستك ؟ أما هو فاجاب قائلا : کلا ، فان سلسلتي لا تنم عن هذا. فانها يمكنها أن تلمع مضيئة حتى في قصور الملوك . “ان و ثقی صارت ظاهرة في المسيح في كل دار الولاية وفي باقي الاماكن أجمع ، وأكثر الأخوة وهم واثقون في الرب بوثقي يجترئون أكثر على التكلم بالكلمة بلا خوف” ( في13:1 و 14).
تأمل في القوة التي تحملها هذه القيود أقوى من قوة اقامة الموتى . انهم اذ يرون قيودی يزدادون شجاعة . فحيثما وجدت القيود وجد بالضرورة شيء عظيم. حيثما وجدت الشدائد وجد الخلاص يقينا ، وجد العزاء ، و توفرت أعمال البطولة. لأن الشيطان اذا رفس كان هذا بلا شك علامة على أنه قد لحق به أذى. واذا قيد خدام الله ازدادت كلمة الله نباتاً.
ولاحظ أن هذا هو ما يحدث في كل مكان. فبولس يقول انه عندما سجن اتمت قیوده نفسها هذه الأمور. لما سجن في روما ربح للمسيح عددا أوفر من المتجددین ، فانه لم تشتد شجاعته هو فقط ، بل شجاعة الكثيرين بسببه . اذ انه لما سجن في أورشليم أذهل الملك وهو في قيوده ( أع ۲۹ : ۲۸ ) ، وجعل الوالي يرتعب ( أع 24: 25).
فالكتاب يقرر بأنه اذ خاف صرفه ، والذي قيده لم يخجل من أن يتلقی تعلیمات – ممن قيده – عما كان سيحل به من أمور عتيدة. في قيوده سافر بحراً، وتحمل انكسار السفينة بشجاعة ، وثبت أمام العاصفة . لما كان مقيداً نشبت في يده أفعی ، فنفضها إلى النار دون أن يتضرر بشی ردئ ( اع 3:28- 5 ) . لما كان مقيداً في روما جذب الألوف إلى المسيح.
وعلى أي حال فليست هذه القيود من نصيبنا في هذه الأيام . ومع ذلك فهنالك قيود أخرى أن قبلناها. وما هي ؟ هي أن تقيد أيدينا عن الطمع . فلنقيد أنفسنا بها . لیکن خوف الله لنا عوضاً عن القيود الحديدية. ينبغي أن نحل من ربطهم الفقر أو الشدائد. لا وجه للمقارنة بين فتح أبواب السجن وبين حل قيود من استعبدته الخطية . لا وجه للمقارنة بين حل قیود مسجون وبين ارسال المنسحقين في الحرية ( لو 4 : 18) ، فهذا العمل الأخير أفضل جداً من الأول. العمل الأول ليس له أجر ، أما الأخير فله عشرة آلاف أجر.
كانت سلسلة بولس طويلة ، وقد تطلبت منا وقتاً طويلاً للتأمل فيها . نعم انها طويلة فعلاً، وهي أجمل من أية سلسلة ذهبية . هي سلسلة تسحب الذين ربطوا بها لتأخذهم إلى السماء ، كانها تسحبهم بالة ميكانيكية غير منظورة ، وبحبل ذهبی مدلى لتسحبهم إلى سماء السماوات. والعجيب في الأمر أنها ، اذ تربط فيما هو أسفل ، تسحب أسراها إلى أعلى. والواقع انه ليست هذه هي طبيعة الأشياء نفسها. لكن حيث يأمر الله ويتصرف لا تفكر في طبيعة الأشياء ، لكن فيما هو فوق الطبيعة.
فلنتعلم من هذا أن لا تخور عزائمنا وقت الشدائد ، أو نتذمر . فتأمل في هذا الرسول العظيم. لقد جلد بعنف الأنه مكتوب عنه وعن سیلا أنهم : “وضعوا عليهما ضربات كثيرة”. ثم أنه قيد أيضاً، وألقي في السجن الداخلي. ورغم تعرضه لأخطار شديدة ، فقد كان هو وسيلا “یسبحان الله ” في نصف الليل اذ كان الجميع نائمين لأنهم ربطوا بقيود اشد. وهل كان يمكن أن يوجد من هو أشد صلابة من هذين البطلين ؟ لقد كانا يتذکران کيف كان الفتية الثلاثة يسبحون الله ويترنمون حتى في اتون النار المحمي سبعة أضعاف ( دا 1:3 ۔ 30) . ولعلهما حدثا نفسيهما قائلين : “اننا للآن لم نکابد مثل هذه الشدائد”.
وكم كان جميلاً أن حديثنا قادنا أيضا إلى التأمل في قيود أخرى ، وفي سجن آخر : وما العمل ؟ انني أتمنى أن أصمت ، لكنني لا أستطيع . فقد اكتشفت سجناً آخر أشد عجباً. فتعال الآن متنبها واستمع إلى کلامی، انني أود أن أكف عن الحديث ، لكنني لا أستطيع . فكما أن من يشرب لا يمكنه أن يكف عن الشرب مهما قدم اليه من اغراء ، هكذا لا أستطع أنا الآن أن أكف عن الحديث عن كأس سجن الذين سجنوا من أجل المسيح وان كان بولس في سجنه لم يستطع السكوت ، ليلا ، فهل يليق بي ، وأنا جالس هنا نهاراً، وأتكلم وأنا مستريح ، أن التزم الصمت ، مع أن الذين كانوا مقيدين ، ويجلدون ، في نصف الليل ، لم يطبقوا الصمت ؟ لم يصمت الفتية الثلاثة وهم في أتون النار ، افلا نخجل نحن من الصمت ؟
ولنتأمل الآن في هذا السجن أيضاً. هنا نراهم أيضا مقیدین . لكن كان واضحاً منذ البداية انهم سوف لا يحترقون ، بل كانوا كأنهم فقط داخلون في سجن : ولماذا تربطون أناساً سوف يطرحون في النار المتأججة ؟ لقد ربطت أيديهم وأقدامهم مثل بولس الرسول . لقد ربطوا بعنف وبكل احكام كما حدث مع بولس . فالسجان طرحه في السجن الداخلى ، كما أمر الملك أن يحمي الأتون سبع مرات.
والآن لنتأمل في النتيجة . عندما ترنم بولس وسيلا تزعزع السجن ، وانفتحت الأبواب ، وعندما ترنم الفتية الثلاثة انحلت قيود أيديهم وأرجلهم. انفتحت أبواب السجن ، كما انفتحت أبواب الأتون. لان نسیماً منعشاً هب عليه.
لكن هنالك أفكار كثيرة تتزاحم في ذهني. ولست أدري ماذا أقول أولاً، وماذا أقول بعد ذلك ، ورجائي أن لا يطالب مني أحد مراعاة الترتيب ، لأن المواضيع كلها مرتبطة ببعضها . لقد حلت قيود من كانوا مقيدين مع بولس وسيلا ، ورغم هذا كانوا نائمين . أما في حالة الفتية الثلاثة فقد حدث عکس هذا . فالاشخاص الذين حملوهم وطرحوهم احترقوا هم أنفسهم وماتوا . وبعد ذلك أبصر الملك الفتية محلولین فخر أمامهم ساجداً. لقد سمعهم يترنمون ، ورأى “أربعة رجال محلولين يتمشون في وسط النار ” فدعاهم . ومع أن بولس كان قادرا ًعلى الخروج فانه لم يخرج الا بعد أن دعاه حافظ السجن وأخرجه ، كذلك لم يخرج الفتية الثلاثة الا بعد أن أمرهم بالخروج من كان قد طرحهم النار .
وای درس نتعلمه من هذا ؟ يجب أن تتعجل في تمنى الاضطهاد ، كما يجب أن لا نلح في طلب الانقاذ من الشدائد عندما تأتينا ، كما يجب – من الناحية الأخرى – أن لا نستمر فيها اذا ما أنقذنا منها. ثم أيضا : وحافظ السجن خر عند أقدام ، بولس وسيلا ، اذ كان قادرا على الدخول اليهما، أما الملك فجاء إلى باب الاتون ، وخر ساجداً للفتية الثلاثة. ولم يجسر الاقتراب من السجن الذي كان قد أعده لهم في أتون النار.
ثم لاحظ كلماتهم : فحافظ السجن صرخ قائلا : “یا سیدی ، ماذا ينبغي أن أفعل لكي أخلص ؟” ( أع 16: 30) . أما الملك ، فقال بصوت عذب ، وإن لم يكن باتضاع شديد : « یا شدرخ ویشنح وعبد نغو ، یا عبید الله العلى ، اخرجوا وتعالوا ، ( دا 3: 29) : يا لها من عظمة سامية . “یا عبید الله العلى ، اخرجوا وتعالوا” كيف كان ممكناً أن يخرجوا أيها الملك ؟ لقد طرحتهم في النار موثقين . وقد لبثوا في النار هذه الفترة الطويلة. لو كانوا قد خلقوا من مادة صلبة أما كان يجب أن يفنوا وهم يترنمون بهذه الترنيمة الطويلة؟ لكنهم نجوا لأنهم سبحوا الله. لقد وقرت النار استعدادهم لتحمل الآلام ، وبعد ذلك وقرت تسبيحهم الرائع الجمال.
وما هو اللقب الذي لقبتهم به ؟ سبق أن قلت “یا عبید الله العلى”. نعم ، كل شيء مستطاع لعبيد الله . لأنه إن كان للبعض – الذين هم خدام الناس – سلطان التصرف فيما يعنيهم ، فبالأولى يكون لعبيد الله هذا السلطان. لقد دعاهم باسمائهم المحبوبة لديهم ، عالماً أنه انما يتملقهم. لأنهم إن كانوا قد دخلوا النار لكي يستمروا أن يكونوا عبيد الله، فانه لم يكن هنالك لقب أكثر عذوبة من هذا. لو كان قد دعاهم ملوكاً، أو أسياد العالم، لما كان قد أدخل البهجة الى قلوبهم بقدر ما فعل عندما قال یا عبید الله العلى۰
ولماذا تتعجب من هذا ؟ فان بولس عندما كتب الى المدينة العظيمة – روما – سيدة العالم ، التي كانت تفتخر بعظمتها ، لم يلقب نفسه باعظم من هذا : “بولس عبد ليسوع المسيح” ( رو ۱:۱) معتقداً أن هذا اللقب مساو لكرامة وشرف روما ، بل أعظم بكثير جداً، بل أعظم من كرامة لقب الملوك والأمراء والولاة ، بل أعظم من كرامة سيدة العالم. : “یا عبید الله العلى” ، كأنه قد قال : نعم ، إنهم إن كانوا قد أظهروا غيرة شديدة ، ودعوا أنفسهم عبيداً، فلا شك في أن هذا هو اللقب الذي نرضيهم به.
ثم لاحظ أيضا تقوی الفتية الثلاثة . انهم لم يظهروا أي أثر للسخط ، أو الغضب ، أو التذمر ، أو الاعتراض، بل خرجوا. لو كانوا قد اعتبروا أن القاءهم في الاتون انتقام منهم، لأظهروا سخطهم على الشخص الذي ألقاهم فيه . لكنهم لم يظهروا شيئاً من هذا، بل خرجوا منه كأنهم خارجون من السماء نفسها. وماذا قال النبي عن الشمس : “هي مثل العروس الخارج من حجلته” ( مز 19: 5 ) . ولا يخطى المرء أن قال هذا عنهم . لكن الشمس تخرج هكذا ، أما هم فقد خرجوا في حالة أمجد من الشمس فالشمس تخرج لتنير العالم بالنور الطبيعي ، أما هم فقد خرجوا لينيروا العالم بكيفية أخرى ، أعني بكيفية روحية. وبسببهم أصدر الملك في الحال أمراً ملكياً يحوي هذه الكلمات : “الآيات والعجائب التي صنعها معي الله العلى حسن عندي أن أخبر بها. آياته ما أعظمها ، وعجائبه ما أقواها” ( دا 2:4 و3) .
وهكذا خرجوا يذيعون نوراً مجيداً جداً يسطع في تلك المنطقة نفسها ، بل في العالم كله ، بواسطة الأمر الملكي الذي أصدره الملك، ويبدد الظلمة التي انتشرت في كل مكان .
“اخرجوا وتعالوا”. لم يصدر أمرا لاطفاء النار ، لكنه بهذا أكرمهم بصفة خاصة ، باعتقاده أنهم قادرون ليس فقط على التمشى فيها ، بل حتى على الخروج منها وهي لازالت مشتعلة .
ثم لنتأمل أيضاً -أن حسن هذا عندك- في كلمات حافظ السجن. “یا سیدی ، ماذا أفعل لكي أخلص ؟” ، هل هنالك كلمات أحلى من هذه ؟ هذه تجعل الملائكة نفسها ترقص طرباً. أليس عجيباً جداً أن نسمع بان ابن الله الوحيد نفسه صار عبداً؟ وهذه الكلمات وجهها المؤمنون لبطرس في البداية ( أع ۲ : ۳۷ ) : “ماذا نصنع ؟” وماذا قال في رده : “توبوا وليعتمد كل واحد منكم”، وان كان الرسول بولس يتوق من كل قلبه خلاص اليهود فقد كان يتمنى أن يسمع هذه الكلمات منهم ، بل كان يرتضی أن يطرح في جهنم نفسها.
لكن لاحظ أنه حملهم كل المسئولية . فلنتأمل في النقطة التالية . فالملك لم يقل هنا : ماذا ينبغي أن أفعل لكي أخلص ؟ لكن كلامه يبين بانه أصبح کارزاً. فانه في الحال بدأ يكرز دون حاجة إلى معلم كما كان الحال مع حافظ السجن. فقد اعترف بالله ، واعترف بسلطانه . “حقاً أن الهكم اله الالهة ورب الملوك ، لأنه أرسل ملاکه وأنقذ عبيده” ( دا 2 : 47، 28:3).
وماذا كانت النتيجة ؟ لم يتلق التعليم سجان واحد مما كتب الملك ، ومن رؤية الأمر الواقع ، بل عدد وفير جداً. اذ هو واضح لكل إنسان أن الملك لم يكن ممكناً أن يقرر حقائق کاذبة ، لأنه لم يكن ممكناً قط أن يقدم شهادة كهذه لجماعة من الاسرى ، أو يهدم تصرفاته . يكن ممكناً أن يوجه تهمة بمثل هذا الجنون . لأنه لو لم يكن الحق واضحاً جداً لما كتب بمثل هذه اللهجة، وأمام اشخاص كثيرين كاولئك.
ألست تری مقدار قوة تلك القيود ؟ وعظمة قدرة تلك التسبيحات التي رسمت في الشدائد ؟ فقلوبهم لم تضعف ، ولم ينكسر خاطرهم ، بل ازدادوا قوة وشجاعة.
ونحن اذ نتأمل في هذه الأمور يبقى أمامنا سؤال واحد. لماذا حدث في السجن أن كل المسجونين انفکت قيودهم ، بينما حدث في التنور أن كل منفذى الاعدام التهمتهم النار. فهذا كان ينبغي أن يكون هو مصير الملك نفسه. فلا الذين ربطوا الفتية، ولا الذين ألقوهم في الاتون، مسئولون عن الخطية الشنيعة التي ارتكبت : بل كان المسئول هو من أمر بارتكابها. فلماذا هلكوا ؟ ولا داعي للتدقيق في بحث هذا الأمر ، لأنهم كانوا أشراراً جداً. ولذلك رتبت العناية الالهية أن تتم الأمور على هذا الوجه ، لکی تتبين قوة النار ، وتتبين عظمة المعجزة . لأنه ان كان الذين في الخارج قد هلكوا فكيف نجا الذين في الداخل دون أن يصيبهم أذى ؟ لقد ظهرت قدرة الله بكيفية عجيبة جداً. ولا يعجبن أي انسان ان كنت قد وضعت الملك في مستوى واحد مع حارس السجن ، لأنه قد فعل نفس الأمر، ولم يكن أي واحد منهما أكثر نبلاً من الآخر. وقد لقي كل منهما جزاءه.
وكما قلت ، أن الأبرار يزدادون نشاطا عندما تحل بهما الشدائد بصفة خاصة ، وكذا عندما يكونون في القيود ، لأن احتمال الآلام من أجل المسيح هو أعذب كل التعزيات.
وهل تسمح لي بان أذكرك بسجن آخر ؟ يبدو لي أنه من الضروري أن نتقدم من هذه السلسلة إلى سجن أخر. وای السجون تفضل؟ هل سجن ارميا ، أم يوسف ، أم يوحنا المعمدان . شكراً لسلسلة بولس ، فقد فتحت أمامنا المجال للاستمرار في أحاديث أخرى. اتريد أن نتأمل في سجن يوحنا المعمدان ؟ لقد قيد هو أيضا من أجل المسيح ، ومن أجل ناموس الله . ثم ماذا ؟ هل كان كسولاً لما كان في السجن ؟ ألم يرسل من هناك – على يد اثنين من تلاميذه – وسأل المسيح قائلاً: “أنت هو الاتي أم ننتظر أخر ؟” ( مت ۲:۱۱ و ۳ ). وحتى عندما كان هناك يبدو أنه كان يعلم ، لأنه يقينا لم يهمل مهمته.
وايضاً، ألم يتنبأ ارميا عن ملك بابل ، ويتمم عمله حتى عندما كان في السجن؟ وماذا نقول عن يوسف ؟ ألم يبق في السجن ثلاث عشرة سنة ؟ ثم ماذا ؟ أنه لم يهمل مهمته حتى عندما كان هناك.
سوف أذكر قيوداً أخرى ، وبهذا أختم حدیثی : فان ربنا يسوع المسيح نفسه ، الذي حرر العالم من قيود الخطية قيد هو أيضا. لقد قيدت يداه – اللتان عملتا عشرات الألوف من أعمال البر والخير . فقد قيل انهم و أوثقوه ومضوا به ودفعوه الى بيلاطس البنطى ، ( مت ۲:۲۷ ، یو ۱۸ : ۲۶ ) . نعم ، إن الذي عمل عجائب كثيرة جدا أوثقت يداه.
واذ نتأمل في هذه الأمور يجب أن لا نتذمر قط بل لنفرح آن کنا مقیدین. وان لم نكن مقيدين فلنكن كأننا مقيدون مع المسيح ( عب ۳:۱۳ ). اذكر ان القيود بركة عظيمة. واذ تدرك هذا كله فلنشكر الله من أجل كل شيء ، وذلك بالمسيح يسوع ربنا ، الذي يليق له الذي يليق له مع الآب والروح القدس المجد والقوة والكرامة الآن والى الابد . آمين .
العظة التاسعة ( ص 4: 1- 3 )
“فاطلب اليكم ، أنا الاسير في الرب ، أن تسلكوا كما يحق للدعوة التي دعيتم بها . بكل تواضع ووداعة ، وبطول أناة ، محتملين بعضكم بعضاً في المحبة . مجتهدين أن تحفظوا وحدانية الروح برباط السلام “.
هكذا اتضح أن قيود بولس كانت عظيمة ، وأمجد من المعجزات . اذن فلم يكن عبثاً أن يبرزها هنا ، كما قد يبدو ، ولم يكن بدون هدف . لكنه أراد – فوق كل شي – أن يحرك عواطفهم . فماذا قال : “فأطلب اليكم – أنا الاسير في الرب – أن تسلكوا كما يحق للدعوة التي دعيتم بها ” . وكيف يتم هذا ؟ “بكل تواضع ، ووداعة ، وبطول أناة ، محتملين بعضكم بعضاً في المحبة”.
لم يكن مجرد کونه أسيراً هو الذي منحه الشرف. بل كونه أسيراً من أجل المسيح . ولهذا قال ” أنا الأسير في الرب ” أي الأسير من اجل المسيح : لا شيء يماثل هذا . والآن ، أن هذه القيود تجذبني لتبعدني عن موضوع حدیثی ، و تدفعني إلى الخلف ثانية ، فاصبحت عاجزاً عن مقاومتها ، لكننى أتباعد تلقائياً، بل بالحري بكل قلبي : وأتمنى لو سمح لي دواماً باطالة الحديث عن قيود بولس.
والآن أرجو أن لا تمل ، فانني أود أن أجيب عن هذا السؤال الآخر ، الذي قد يفتح المجال للتساؤل : اذا ما قيل أن الآلام تنيل المجد فكيف يقول بولس نفسه في دفاعه أمام أغريباس : ” كنت أصلى الى الله انه بقليل وبكثير ، ليس أنت فقط ، بل أيضاً جميع الذين يسمعونني اليوم يصيرون هكذا كما أنا ما خلا هذه القيود” ( أع 26: 29) .
حاشا لله أن يكون قد قال هذا على أساس التحقير من شأن القيود ، والا لما كان قد افتخر بالقيود والسجون ، والضيقات الأخرى . وعندما كتب في مكان آخر قال :” فبكل سرور أفتخر بالحرى في ضعفاتی ” ( 2کو 12: 9) : وكيف تعلل هذا ؟ كان هذا نفسه . برهاناً على اعتقاده بعظمة تلك القيود ، لأنه كما كتب لأهل كورنثوس قائلا ً: “و سقيتكم لبنا لا طعاما لأنكم لم تكونوا بعد تطيعون” ( 1کو2 :3 ) هكذا كان الحال عنا أيضاً. فان من كان يتكلم أمامهم لم يقدروا أن يسمعوا عن جمال تلك القيود ، وبهائها ، وبركتها . ولهذا أضاف هذه العبارة وما خلا هذه القيود ، وعندما كتب إلى العبرانبن حثهم على أن يعتبروا أنفسهم مقيدين مع المقيدين ( عب ۳:۱۳ ).
ولهذا افتخر هو نفسه في قيوده ، ورحب بالقيود ، واقتيد مع المسجونين إلى السجن الداخلى . كانت قيود بولس مقتدرة جداً. كان منظراً جميلاً التطلع إلى بولس مقيداً، وخارجاً من سجنه ، والتطلع اليه مقيداً وجالساً داخل السجن . هذا منظر يبعث في النفس السرور . هذا منظر جميل يستحق أن يدفع فيه ثمن غال .
ألست ترى الأباطرة ، والولاة ، جالسين في عرباتهم ، ومتزينين بالذهب مع حاشيتهم ؟ رماحهم من ذهب ، دروعهم من ذهب ، ثيابهم مطرزة بالذهب ، ورشمة خيولهم من ذهب ؟ كل هذا لا يساوي شيئا ازاء ذلك المنظر . انني أفضل أن أرى بولس مرة واحدة خارجا من سجنه مع المسجونين عن التطلع إلى هذه المباهج عشرات الألوف من المرات. کم من الملائكة كانوا يفسحون الطريق أمامه عندما اقتيد للخروج من السجن . ولكي تدرك اننى لست أتكلم عن خیال فساوضح لك هذا مما قيل قديماً.
عندما كان ملك أرام يحارب ملك اسرائيل كان أليشع النبي يكشف لملك اسرائيل عن الخطط الحربية التي كان يدبرها سرا وهو جالس في بيته ، فصارت هذه الخطط عديمة الجدوى ، اذ كان اليشع يعلنها مقدماً لملك اسرائيل ، وهكذا نجا ملك اسرائيل من الفخاخ التي كانت تنصب له . هذا أزعج ملك أرام ، الذي ارتبك جدا ، ولم يدر كيف يكتشف ذاك الشخص الذي كان ينقل كل أسراره لملك اسرائيل و كل مؤامراته ضده ( 2مل 6 : 8-12).
وان كان في حيرته ، وكان يفحص قضيته هذه ، قال له واحد من حاملی سلاحه ان هنالك نبيا يدعى أليشع ، مقيما في السامرة ، و يخبر ملك اسرائیل بالامور التي يتكلم بها في مخدع مضجعك ، ۰ توهم الملك بانه اكتشف كل السر . لكن الواقع انه كان مخدوعاً جداً. كان يجب على الملك أن يكرم أليشع ويوقره ، ويخافه ، لان له هذه القدرة العجيبة أن يعرف – وهو جالس في بيته بعيدا جدا عن مكان اقامة الملك – كل ما كان يجري في مخدعه دون حاجة إلى أي واحد ينقل اليه هذه الانباء . لكنه مع الأسف لم يكرمه ، ولم يوقره ، بل اشتعل غضبه ، وأرسل اليه “خيلاً ومركبات وجيشا ثقيلا” لإحضار النبي اليه.
كان لاليشع تلميذ يؤهل ليكون نبياً (2مل 6: 13 ألخ ) ، ولم يكن إلى ذلك الوقت جديرا بان يری روی كهذه ، وصل جنود الملك في الحال ، قاصدين أن يقيدوا النبي. ( ومرة أخرى أتحدث عن القيود التي يتردد ذكرها كثيرا في هذا الحديث ) : وعندما رأی تلميذ اليشع الجيش الثقيل انزعج ، وركض وهو ممتلىء خوفا ، وأخبر معلمه بالنكبة ( كما حسبها ) وخبره عن الخطر المحتم الذي سوف يحل بهما . فضحك النبی عليه لخوفه من أمور لا تستحق الخوف ، وأمره بان لا يخاف . أما التلميذ ، فاذ لم يكن قد نضج في المعرفة بعد ، فانه لم يصغ اليه ، بل استمر في خوفه لأنه كان مذهولا من المنظر.
وماذا فعل اليشع ازاء هذا؟. وصلى أليشع وقال : يارب افتح عینی هذا الشاب ، ودعه يرى أن الذين معنا أكثر من الذين معهم ، (2مل6: 16و17) ۰ وللحال ” أبصر واذا الجبل مملوء خيلا ومركبات نار” وهؤلاء لم يكونوا سوى صفوف من الملائكة وان كان كل أولئك الملائكة قد جاءوا لنجدة أليشع في مناسبة كهذه ، فكم كان عدد الملائكة الذين جاءوا إلى بولس ؟ هذا ما يحدثنا عنه داود النبي : « ملاك الرب حال حول خائفية ، ( مز34: 7) . وأيضاً: “على الايدي يحملونك لئلا تصدم بحجر رجلك” ( مز91: 12).
ولماذا أتحدث عن الملائكة ؟ فالرب نفسه كان معه عندما خرج. فيقينا ان الذي رآه ابراهيم لم يكن ممكنا أن لا يكون مع بولس : فهذا هو وعده : “ها أنا معكم كل الأيام إلى أنقضاء الدهر” ( مت28: 20) . وأيضاً عندما ظهر له قال : “لا تخف ، بل تكلم ولا تسكت . لأني أنا معك ولا يقع بك أحد ليؤذيك”( أع18: 9و10) : وأيضا وقف به في حلم وقال له :” ثق يا بولس ، لانك كما شهدت بما لي في أورشليم هكذا ينبغي أن تشهد في رومية أيضاً” ( أع23: 11).
ومع أن القديسين يكونون في كل الأوقات منظراً مجيداً، وممتلئين نعمة جزيلة ، فانهم بصفة خاصة يكونون هكذا عندما يعرضون للاخطار من اجل المسيح ، وعندما يكونون أسرى في السجون . وكما أن الجندي الشجاع يكون في كل الأوقات ، ومن تلقاء نفسه ، منظراً جميلاً لكل من ينظرون اليه ، ويكون هكذا بصفة خاصة لما يكون في الصفوف بجانب الملك ، فكذلك ايضا الحال مع بولس عندما كان يرى وهو يبشر في قيوده.
أتسمحون لي ، بهذه المناسبة ، أن أذكر فكرة خطرت ببالى هذه اللحظة ؟ كان المغبوط الشهید بابیلاس[1] مقيدا ، وهو أيضا قُيد لنفس السبب الذي لأجله قُيد يوحنا المعمدان ، لأنه وبخ ملكاً من أجل اعتدائه على الناموس . كان هذا القديس قد أوصى . وهو يحتضر – بان تدفن جثته وهی مقيدة. والى اليوم لا تزال القيود مختلطة برماده إلى هذا الحد وصلت محبته للقيود التي كان قد قيد بها من أجل المسيح : “في الحديد دخلت نفسه” ، كما قال النبي عن يوسف : ( مز105: 18) : حتى النساء قيدن قبل الآن بهذه القيود.
وعلى أي حال فاننا الان لسنا مقيدين ، ولست أوصيكم بان تقيدوا ، لانه لا يوجد الان مبرر للقيود : لكن لا تقيد يديك ، بل قيد قلبك وعقلك . لا تزال هنالك قيود أخرى ، والذين لا يقيدون بهذا القيد ، قد يضطرون لأن يقيدوا بآخر. استمع إلى ما قاله المسيح : “اربطوا رجليه ويديه” ( مت22: 13) : ليت الله لا يسمح بأن نجرب بتلك القيود ، أما عن هذه فليسمح لنا بان نأخذ كفايتنا منها.
وعلى هذا الاساس قال : “فاطلب اليكم ، أنا الاسير في الرب ، أن تسلكوا كما يحق للدعوة التي دعيتم بها ” . وما هي هذه الدعوة ؟ لقد قيل :”أنتم دعيتم لتكونوا جسده” . قد أعطى لكم أن يكون المسيح رأسكم . ومع أنكم كنتم أعداء ، وارتكبتم الشرور التي لا تحصى ، الا أنه “أقامكم . وأجلسكم معه”( أف2: 6) : هذه دعوة عليا ، ودعوة لامتيازات عليا ، ليس فقط لأننا دعينا من تلك الحالة السابقة ، بل أيضا لأننا دعينا الامتيازات كهذه ، و بطريقة كهذه.
لكن كيف يمكن أن نسلك كما يحق لهذه الدعوة ؟ « بكل تواضع ، . إن المتواضع هو الذي يسلك كما يحق لهذه الدعوة . التواضع هو أساس كل فضيلة . إن كنت متواضعا ، وتأملت فيما كنت عليه سابقا ، وفي الكيفية التي بها نلت الخلاص ، فانك تتخذ من هذه التأملات باعثا لكل فضيلة . سوف لا تنتفخ بسبب القيود ، أو الامتيازات نفسها التي ذكرتها لكنك سوف تتضع اذ تعرف أن الكل يعزى للنعمة • يستطيع المتواضع أن يكون في الحال عبدا کریما شاكرا . قال الرسول بولس : « أي شيء لك لم تأخذه ؟ (1کو4: 7 ) . واسمع أيضا كلماته : « أنا تعبت أكثر منهم جميعهم ، ولكن لا أنا ، بل نعمة الله التي معي ، ( 1کو15: 10)
“بكل تواضع“، . ليس بالأقوال أو بالأفعال وحدها ، ولا حتى بسلوك المرء او نغمة صوته . لا تكن متواضعا مع واحد تهخشنا مع آخر ، بل كن متواضعا مع كل الناس ، مع الصديق ومع العدو ، مع العظيم ومع الحقير . هذا هو التواضع : كن متواضعا حتى في أعمالك الصالحة . فاسمع ما قاله المسيح : رطوبى للمساكين بالروح ، ( مت5: 3 ) . وقد وضع هذه الوصية في بداية كل التطويبات.
وقال الرسول ايضا :: بكل تواضع ووداعة وطول أناة ، اذ يمكن أن يكون الانسان متواضعا لكنه يكون سريع الغضب ، وهكذا يكون تواضعه هباء ، لأنه كثيرا ما يغلب أمام الغضب ، ويتلف كل شيء .
“محتملين بعضكم بعضا في المحبة”.
و كيف يمكن الاحتمال أن كان المرء سريع الغضب ، وسريع انتقاد الآخرين ؟ لهذا بين لنا الكيفية : في المحبة ، . لقد أراد أن يقول : ان كنت لا تحتمل أخاك فكيف يحتملك الله ؟ ان كنت لا تحتمل زميلك في الخدمة فكيف يحتملك السید ؟ حيث توفرت المحبة أصبح كل شيء محتملا .
وقال أيضا : ” مجتهدين أن تحفظوا وحدانية الروح برباط السلام ، . فقيد يديك أذن بالاحتفاظ بروح الاعتدال : ومرة أخرى نرى هذا الأسم الحلو د رباط ، ( قیود ) : كنا قد صرفنا النظر عنه ، لكنه عاد الينا من تلقاء ذاته . كانت تلك القيود حلوة ، وهذه القيود ( رباط ) حلوة أيضا ، وتلك كانت ثمار هذه ۰ اربط نفسك بأخيك . والذين قد ارتبطوا معا بالمحبة يستطيعون أن يحتملوا كل شيء بسهولة : اربط نفسك بأخيك ، واربط أخاك بنفسك : أنت سيد لنفسك ولأخيك ، لان الذي أشتاق بان أتخذه لي صديقا أستطيع أن أتمم هذا معه بالمحبة .
“مجتهدين” ، هذه تنم عن أن العمل لا يتم بسهولة ، كما تنم عن أنه ليس في قدرة كل انسان.
” مجتهدين أن تحفظوا وحدانية الروح” . وما هي . وحدانية الروح هذه ؟ ، في الجسم البشري توجد روح تجمع معا كل الاعضاء مهما تعددت . هكذا الحال هنا ، لأنه لأجل هذا أعطى الروح ، لكي يتحد الذين تفرقوا بسبب اختلاف الجنسيات ، ولأية أسباب أخرى . فالكل يصيرون واحدا : الكبير والصغير ، الغني والفقير ، الطفل والشاب ، الرجل والمرأة ، و كل نفس : بل يتحدون معا برباط أقوى مما لو كانوا جسدا واحدا . فهذه الرابطة الروحية أقوى من أية رابطة طبيعية ، وتماسك الرابطة أكمل ، و اتحاد النفس أكثر کمالا ، لأنه بسيط ومتسق.
و كيف يمكن الاحتفاظ بهذه الواحدنية ؟ « برباط السلام ، فلا يمكن أن يكون لها وجود في حالة العداوة والمنازعات . « فانه ، اذ فیکم حسد وخصام وانشقاق ألستم جسديين وتسلكون بحسب البشر ؟ (1کو3: 3 ) فكما أن النار ان وجدت قطعا جافة من الخشب التهمتها وتصاعد منها لسان واحد من اللهب ، أما إن كانت مبللة بالماء فانها لا تؤثر فيها مطلقا ، ولا تتحدها معا : هكذا الحال هنا ، فلا شيء له طبيعة باردة يستطيع أن يخلق هذه الوحدانية ، أما ما كانت له طبيعة حارة فانه يقدر وهذا هو الذي ينشىء حرارة المحبة . والله يريد أن يجمعنا كلنا معا “برباط السلام “.
وكأنه يريد أن يقول انه بهذه الطريقة عينها إن أردت أن تلتصق بشخص آخر فانك لا تقدر أن تتمم هذا الا بأن تلصقه بنفسك وإن أردت أن تجعل الرابطة مزدوجة فيجب أنه هو بدوره يلتصق بك . هكذا يريد الله أن ترتبط معا . ليس فقط بان نكون في سلام وليس فقط بان نحب بعضنا بعضا ، بل بان نكون كلنا نفسا واحدة .
ما أمجد هذا الرباط : بهذا الرباط ينبغي أن يرتبط كل واحد ما بالاخر ، وبالله . هذا رباط لا يخدش قط ، ولا يشل حركة اليد التي يربطها ، بل تتركها حرة ، تیسر لها الحركة ، وتهبها شجاعة أكثر مما تمارسه الايدى الحمرة اذا ربط القوى بالضعيف دعمه ولا يدعه يهلك ، وأيضا اذا ربط بالكسول أنعشه وبعث فيه الحيوية : لقد قيل انه و اذا عضد الأخ أخاه صارا مدينة حصينة، ( أم18: 19) . هذه القيود لا يزعزعها بعد المسافة ، ولا السماء ، ولا الأرض ، ولا أي شيء آخر ، بل هي أقوى من كل شيء . ومع أنها تصدر من نفس واحدة فانها تستطيع أن تضم في الحال أشخاصا كثيرين . استمع إلى ما قاله بولس الرسول : « لستم متضيقين فينا ، بل متضيقين في أحشائكم . كونوا أنتم أيضا متسعين ، (2کو 6 : 12و 13).
وما الذي يضعف هذا الرباط ؟ محبة المال ، شهوة الحصول على السلطة ، والمجد ، وما إلى ذلك ، هذا هو الذي يضعفه ، ويحطمه . وما الذي ينبغي أن نفعله لكي لا يتحطم ؟ ينبغي أن نتخلص من هذه المعطلات ، وأن لا ندع شيئا من هذه التي تهدم المحبة تدخل الينا لتزعجنا . استمع إلى ما قاله المسيح : « ولكثرة الاثم تبرد محبة الكثيرين ، ( مت24: 12) . لا شيء يقاوم المحبة مثل الخطية ، ولا أعني محبة الله فقط ، بل محبة أخينا أيضا.
ولكن قد يقال : هل يمكن أن يكون حتى اللصوص في سلام ؟ قل لي : متى يكونون هكذا ؟ ليس عندما يعملون بروح اللصوص : لأنهم أن كانوا يعجزون عن أن يسلكوا بقواعد العدالة بين الذين يقتسمون معهم الغنائم ، ويعطوا كل واحد حقه ، فانهم يتصرفون هكذا أيضا في الحروب والمشاجرات . هكذا ترى أنه لا يمكن وجود السلام بين الاشرار ، لكنك تستطيع أن تجده متوفرا في كل مكان بين من يعيشون في البر والفضيلة.
وأيضا ، هل يوجد السلام بين المتنافسين ؟ كلا . اذن ، فمن هم الذين تريدني أن أذكرهم ؟ أن الطماع لا يمكن أن يكون في سلام مع الطماعين ولذلك فان لم يوجد أشخاص أبرار وصالحون لليقفوا بينهم لتمزق شملهم جميعا . اذا اقتحمت المجاعة حيوانین بريين التهم أحدهما الآخر ان لم يوضع بينهما ما يلتهمانه . هكذا يكون الحال مع الطماع والجشع . ولا يمكن أن يوجد السلام حيث لم تمارس الفضيلة من قبل . اذا ما أسسنا مدينة الا يقيم بها إلا الجشعون ، وأعطيناهم امتیازات متساوية ، ولا يحتمل واحد أية إساءة تلحقه ، لكن صاروا كلهم يسيئون بعضهم بعضا ، فيل يمكن أن تقوم لهذه المدينة قائمة ؟ هذا مستحيل ، وأيضا هل يتوفر السلام بين الزناة ؟ كلا ، فلن تجد اثنين يتفقان في الآراء.
ولنعد إلى الحديث ثانية : لا يوجد مبرر لكل هذا الا لأن المحبة قد بردت وسبب برودة المحبة هو : كثرة الاثم ، هذا يؤدي إلى محبة الذات ، وتقسيم الجسد ، و تفرق أعضائه ، وتفككه ، وتمزقه . لكن اذا فوفرت الفضيلة حدث العكس ، لأن المتحلى بالفضيلة يتسامی عن محبة المال ، بحيث اذا وجد عشرة آلاف فقير تمتعوا كلهم بالسلام . أما الجشعون فان وجد منهم اثنان فقط انعدم السلام من بينهما : اذن فان توفرت الفضيلة بيننا بقيت المحبة ، لأن الفضيلة تنبع من المحبة ، والمحبة تنبع من الفضيلة .
وسافيدكم كيف يكون هذا . إن الرجل الفاضل لا يفضل المال على الصداقة ، ولا يتذكر الاساءات ، ولا يسيء لاخيه : فهو ليس وقحا ، بل يتحمل كل الأشياء بروح نبيلة . والمحبة تتضمن في هذه الاشياء ، وأيضا ان من يحب يخضع لكل هذه الأشياء ، وهكذا يدعم كل شيء غيره بالتبادل . وكون المحبة تنبع من الفضيلة يتبين من هنا ، لأن الرب عندما قال « لكثرة الاثم تبرد محبة الكثيرين ، قال هذا بكل وضوح ، وبين الرسول بولس أن الفضيلة تنبع من المحبة قائلا : « المحبة هي تكمیل الناموس ، ( رو13: 10) . وهكذا أما أن يكون المرء ودودا جدا ، أو فاضلا جدا . لأن من تتوفر فيه احدى الصفتين لابد أن تتوفر فيه الثانية : وبالعكس : آن لا يعرف كيف يحب يرتکب شرورا كثيرة ، ومن يرتكب الشرور لا يعرف كيف يبحب
مغزی ادبی
اذن فلنتبع المحبة (1کو 1:14 ) ، فهي تحمينا ، ولا تدعنا نرتكب أي شر . فلنرتبط بعضنا ببعض : ينبغي أن لا يوجد بيننا أي غش أو رياء . لأنه حيث توفرت الصداقة امتنع كل شيء من هذا القبيل . وهذا أيضا ما قاله لنا رجل حكيم آخر . و اذا أشهرت سيفا على صديقك فلا تيأس منه ، لأن المحبة قد تعود اليكما : اذا فتحت فمك على صديقك فلا تخف ، لأنه قد يوجد المجال للمصالحة الا التعيير ، أو كشف الاسرار ، أو الجروح التي ترتكب بغدر . فمن هذه يفر كل صدیق ، حكمة يشوع بن سيراخ 22: 21و 22).
أما عن كشف الاسرار ، فاننا ان كنا كلنا أصدقاء لما وجدت هنالك أسرار . فكما انه لا يوجد أي سر بين الانسان وبين نفسه ، ولا يمكن أن يخفي عن نفسه أي شيء ، كذلك أيضا لا يمكن أن يخفي عن أصدقائه ای شيء . واذا ما انعدمت الاسرار انعدمت الانقسامات . ونحن لن توجد بيننا الاسرار الا لانعدام ثقتنا بكل الناس : اذن فبرودة المحبة هي التي خلقت الاسرار.
فلماذا توجد لديك أسرار ؟ هل تريد الاساءة إلى أخيك ؟ أم هل تمنعه من أن يشاركك في أي خير ، ولاجل هذا تخبيء عنه الأمور ؟ وربما يكون لا هذا ولا ذاك . فما الذي تخجل منه ؟ ان كان هذا هو الحال فهذه علامة على انعدام الثقة . وان توفرت المحبة انعدم كشف الاسرار ، وانعدم كل تعيير أو توبيخ – الأنه من ذا الذي يعير نفسه ؟ وان حدث أن وجد المجال للتوبيخ فانه انما يحدث ابتغاء الخير . فنحن نعرف باننا عندما نوبخ أولادنا فذلك نكي نشعرهم بأخطائهم والمسيح أيضا لهذا السبب وبخ بعض المدن قائلا « ويل لك یا كورزين ، ويل لك يا بيت صيدا ، ( لو ۱۰ : ۱۳ ) ، وذلك لكي يعفيهم من التوبيخات . لأنه ليس لأحد السلطان على الضمير ، أو على ايقاظه ، أو تشديده عندما يتراخي.
اذن فینبغی أن لا نلجأ قط للتوبيخ لمجرد التوبيخ : هل توبخ صديقك بسبب اقتنائه المال ؟ يقينا انك لن توبخه اذا اقتسمت معه ما يملك : أتوبخه من أجل أخطائه ؟ کلا ، لكنك بالحرى في هذه الحالة تقومه : هل توبخه من أجل الجروح التي ترتكب بغدر ؟ ومن ذا الذي يقتل نفسه في هذا العالم ، أو يجرح نفسه ؟ لا يوجد أحد.
اذن فلنتبع المحبة . وهو لم يقل : لنحب بعضنا بعضا ، بل قال لنتبع المحبة (1کو 1:14 ) . نحن نحتاج إلى الاجتهاد الكثير . فالمحبة تختفي سريعا عن الانظار ، وهي سريعة في هروبها . وهنالك أشياء كثيرة في هذه الحياة تؤذيها . واذا ما اتبعناها فانها لا تهرب منا ، لكننا سرعان ما نستردها.
ان محبة الله هي التي أتحدت الأرض بالسماء ، ومحبة الله التي أجلست الانسان على العرش الملكي . ومحبة الله هي التي أظهرت الله على الأرض . ومحبة الله هي التي جعلت الرب عبدا . ومحبة الله هي جعلت الحبيب يبذل نفسه من أجل أعدائه ، وجعلت الابن يبذل نفسه من أجل من أبغضوه ، وجعلت الرب يبذل نفسه من أجل عبيده ، وجعلت الله يبذل نفسه من أجل البشر ، والحر من أجل العبيد .
وهي لم تقف عند هذا الحد ، بل دعتنا لما هو أعظم – نعم انها لم تحررنا فقط من شرورنا السابقة ، لكنها فوق هذا وعدتنا بان تمنحنا بركات أوفر.
فلنشكر الله اذن من أجل هذه الأمور ، ولنتبع كل فضيلة . وقبل كل شيء لنمارس المحبة بكل تدقيق لكى نستحق أن ننال البرکات التي وعدنا بها ، بنعمة ورأفة ربنا يسوع المسيح ، الذي يليق له مع الآب والروح القدس ، المجد والقوة والكرامة ، من الآن وإلى الأبد ، أمين
العظة العاشرة ( أف4: 4 )
“جسد واحد ، وروح واحد ، كما دعيتم أيضاً في رجاء دعوتكم الواحد”
عندما يقدم لنا المغبوط بولس الرسول نصيحة ذات أهمية خاصة ، وقد كان بالحق حکیما وروحيا ، فانه كان يؤسس نصيحته على أشياء في السماء وقد تعلم هذا الدرس من الرب . لهذا قال أيضا في مكان آخر : د اسلكوا في المحبة كما أحبنا المسيح أيضا ، ( أف5: 2) . وأيضا “فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضا ، الذي اذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلا الله” ( في2: 5 و 6 ) . وهذا ما فعله هنا ايضا ، لأنه عندما تكون الأمثلة التي يقدمها لنا عظيمة فان غيرته وعواطفه تزداد التهابا : فماذا يقول لنا الآن اذ يحثنا على الوحدة ؟ ” جسد واحد ، وروح واحد ، كما دعيتم أيضا في رجاء دعوتكم الواحد ”
ع 5 . « رب واحد ، ایمان واحد ، معمودية واحدة”
وما هو هذا الجسد الواحد ؟ هو المؤمنون في كل العالم ، الكائنون الآن ، والذين كانوا ، والذين سوف يكونون وايضا هوالذين أرضوا الله قبل مجيء المسيح هم ” جسد واحد”، : كيف يكون هذا ؟ لأنهم هم أيضا عرفوا المسيح . من أين يظهر هذا ؟ لقد قال المسيح : ” أبوكم ابراهیم تهلل بان يری یومی ، فرأی وفرح” ( يو8: 56 ) وأيضا قال : ولو کنتم تصدقون موسي لكنتم تصدقونني ، لأنه هو كتب عني ، ( يو5 : 46 ). ولم يكن ممكنا أن یکتب الانبياء عن شخص لم يعرفوا ما قالوه عنه ، مع انهم عرفوه وعبدوه . وهكذا كانوا هم أيضا جسداً واحداً.
ليس الجسد منفصلاً عن الروح ، والا لما صار جسدا . هكذا جرت العادة معنا نحن أيضا من جهة الأشياء المتحدة المتجانسة والمتلاصقة أن تقول عنها انها جسد واحد ، وأيضا من جهة الاتحاد نقول ان ما يقع تحت راس واحدة هو جسد : وان كانت هنالك رأس واحدة ، فهنالك جسد واحد ، والجسد مكون من أعضاء مكرمة وغير مكرمة . والعضو الاعظم يجب أن لا يتشامخ على الاحقر ، وهذا الأخير يجب أن لا يحسد الآخر صحيح أن كل عضو لا يمد الجسم بنفس المقدار الذي يمده به غيره ، لكن كل واحد يقدم نصيبه حسبما تدعو الحاجة ونظرا لأن كل الاعضاء خلقت لأغراض ضرورية مختلفة ، فكل عضو ينال كرامة مساوية لباقی الاعضاء.
هنالك أعضاء أكثر لزوما للجسد وأكثر أهمية ، والاعضاء الاخرى اقل أهمية . فالرأس مثلا عضو رئیسی فوق سائر أعضاء الجسد ، الأنها تحوي كل الحواس ، و كل العناصر التي تتحكم في النفس . ومن المستحيل أن يعيش المرء بدون رأس ، مع أن هنالك أشخاصا كثيرين يعيشون زمنا طويلا وقد قطعت أرجلهم : لذلك فالرأس أفضل من باقي الاعضاء ، ليس فقط في وضعها ، بل أيضا بسبب نشاطها الحيوي ، وبسبب وظيفتها .
ولماذا أقول هذا ؟ هنالك أشخاص كثيرون في الكنيسة . هنالك من ترتفع شخصيتهم کالرأس ، وهنالك من يشبهون العينين اللتين في الرأس ، يتطلعون إلى السماويات ، ويقفون بعيدا جدا عن الأرض ، وليست لهم صلة بها ، وهنالك من يشبهون الأرجل ، ويطاون على الأرض ، وأقصد الأرجل السليمة ، لأن السير على الأرض لا يعتبر عيبا في الأرجل ، لكن العيب هو أن يركض المرء للشر . قال النبي : أرجلهم إلى الشر تجري ، ( اش59: 7) . فعلى الرأس أن لا تتشامخ على الأرجل ، كما يجب على الأرجل أن لا تنظر بعين شريرة إلى الرأس والا تشوه جمال كل عضو ، وتعطل کمال كل عضو.
وطبيعي أن من ينصب الفخاخ لاخيه انما ينصبها لنفسه أولا . وان رفضت الرجلان أن تحملا الرأس بعيدا عن مقصدها فانهما في نفس الوقت يؤذيان نفسيهما بتكاسلهما وبعدم الحركة وأيضا اذا رفضت الرأس العناية بالرجلين ، أصابها الاذي هي أولا . وعلى أي حال ان تلك الاعضاء لا يقاوم أحدها الآخر . هذا لا يمكن ان يحدث ، لان تكوينها الطبيعي بمنعها من أن يقاوم أي عضو الاعضاء الاخرى .
أما مع البشر ، فكيف يمكن للإنسان أن لا يقاوم الآخر ؟ نحن نعلم أنه لا يمكن أن يوجد انسان يقاوم الملائكة ، كما أن الملائكة لا تقاوم رؤساء الملائكة ومن الناحية الأخرى لا يمكن أن تتشامخ المخلوقات غير العاقلة علينا . لكن حيث تساوی الجميع في الكرامة ، وفي المواهب ، وحيث لم بعط للواحد أكثر من غيره ، فكيف يمكن منع هذا التشامخ ؟
ويقينا أن هذه هي نفس باب التي تدفعك بان لا تتشامخ على اخيك . لأنه ان كانت كل الأشياء مشتركة ، ولم يعط للواحد أكثر من غيره ، فمن أين تأتي هذه الحماقة ؟ فكلنا نشترك في نفس الطبيعة ، ونشترك بالتساوي في النفس والجسد ، ونستنشق نفس الهواء ، ونأكل نفس الطعام . فمن أين جاء هذا التمرد وتشامخ الواحد على الآخر ؟ والواقع أن کون الانسان قادر على الانتصار على القوات غير الجسدية فان هذا يكفي اليبعث فيه الانتفاخ والكبرياء . والأحرى أن تنعدم خطية الكبرياء ، فهنالك مبرر قوی لکونی واسع الفكر ذلك لكي استخدمه ضد الروح الشرير . هوذا بولس نفسه كان واسع الفكر ضد الروح الشرير : لأنه عندما كان الروح الشرير يمتدحه أبكمه في الحال ، ولم يحتمله حتى وان كان قد تملقه . فانه عندما صرخت الجارية التي بها . روح عرافة ، قائلة « هؤلاء الناس هم عبيد الله العلى الذين ينادون لكم بطريق الخلاص ، ( أع16: 16و 17) وبخ الروح الشرير بعنف ، وأبكم لسانه الوقع : وفي مكان آخر کتب قائلا و الله السلام سيسحق الشيطان تحت أرجلكم سريعا ، ( رو16: 20 ).
هل للاختلاف في الطبيعة أي تأثير ؟ ألست تدرك انه ليس للاختلاف في الطبيعة أي تأثير قط ، بل للاختلاف في المقاصد فقط ؟
لكن قد يقول قائل : أنا لا أقاوم ملاکا لأن هنالك فرقا شاسعا جدا بين طبیعتی وطبيعته . وان كنت لا تقاوم ملاكا فيقينا انك ينبغي أن لا تقاوم انسانا ، فالملاك يختلف عنك في الطبيعة ، الأمر الذي لا يشرف الملاك ، يحقرك ، بينما يختلف الانسان عن الانسان ليس قط في الطبيعة بل في المباديء ، وهنالك – حتى بين البشر – من يماثلون الملائكة .
ولذلك ان كنت لا تقاوم الملائكة فبالأولى يجب أن لا تقاوم البشر ، سيما الذين قد تشبهوا بالملائكة . وان وجد بين البشر من قد تحلى بالفضيلة كملاك ، فهذا الانسان أسمى منك ، بل يفوق الملائكة سموا عنك . ولماذا ؟ لان ما يمتلكه الملاك بالطبيعة امتلکه ذلك الانسان باجتهاده . وأيضا لان بيت ( وطن ) الملاك بعيد جدا عن بيتك ( وطنك ) ، فهو يسكن السماء ، أما هذا الانسان فهو يعيش معك ، ويوحي اليك بالتمثل به . والواقع أنه يعيش بعيدا جدا عنك ، أبعد من بعد الملاك عنك . فالرسول يقول : « فان سيرتنا نحن هي في السماوات ، ( في3: 20). ولكي يبين لك أن بيت ( وطن ) هذا الانسان بعيد جدا اذكر أين يجلس رأسه . لقد قال انه جالس على العرش الملكي . وبقدر ما يبتعد عنا هذا العرش الملكي . وبقدر ما يبتعد عنا هذا العرش بقدر ما يبتعد هو.
لكنك قد تقول : هذا حسن ، لكنني أراه متمتعا بالمجد ، وهذا يبعث في روح الغيرة والحسد . هذا هو نفس الأمر الذي قلب كل الأوضاع رأسا على عقب ، وملا ، لا العالم فقط ، بالمتاعب التي لا تحصى ، بل الكنيسة أيضا . وكما أن العواصف العاتية أن هبت على ميناء هادئة عرضتها للاخطار أكثر من أخطار الصخور ، أو أكثر من أخطار البوغاز الضيق ، هكذا أن دخلت شهوة المجد قلبت أوضاع كل شيء .
لعلك شاهدت منازل كبيرة تشتعل فيها النيران ، ورأيت الدخان يرتفع نحو السماء . وان لم يتقدم أحد ليوقف هذه المصيبة ، بل ظل كل واحد يتطلع إلى نفسه ازدادت النيران اشتعالا وانتشارا والتهمت كل شيء ، وكثيرا ما وقف كل سكان المدينة حول النار كمتفرجين على الشر ، دون أن يقدموا يد المساعدة : هناك تراهم كلهم واقفين حول النار ، لا يحر کون ساکنا ، بل يمد كل واحد رأسه ليرى شعلة من النار ملتهبة تخرج من النافذة في تلك اللحظة ، أو قطعة من الخشب تتطاير ، أو حائطا يسقط بعنف على الأرض .
وقد تشتد الجرأة أيضا بالكثيرين ، وتبلغ بهم الوقاحة درجة شنيعة بحيث يقتربون من المباني نفسها أثناء اشتعالها ، لا ليقدموا لها يد المساعدة ، ويضعوا حدا للنكبة ، بل لكي يتمتعوا بالمنظر ، اذ يرون عن فرب ما كانوا يعجزون عن أن يروه بوضوح لما كانوا بعيدين . واذا كان البيت كبيرا وضخما بدا لهم مستحقا الرثاء ، والدموع الكثيرة . والواقع انه منظر يستحق الرثاء اذ نری تیجان أعمدة فخمة تهوي إلى التراب ، والاعمدة نفسها الكثيرة تتحطم ، والنيران تلتهم بعضها ، وتحطم البعض الآخر نفس الايدي التي شيدتها ، لكي لا تزيد النيران اشتعالا ، وتری التماثيل الجميلة قد تطايرت في الهواء وحل بها الدمار.
وهل يحتاج الأمر للحديث عن الثروة التي كانت مختزنة داخل المنزل : الأقمشة المزركشة بالذهب ، والأواني الفضية ؟ بیت العطور وخزائن الجواهر والحلى : وأما كل الذين كانوا بالداخل : رب البيت ، و کل انفراد الاسرة ، والعبيد ، فقد صاروا رمادا .
ولماذا صورت لك صورة كاملة كهذه ؟ ليس لمجرد رغبتی بان أصور الك بيتا يحترق ( فهذا أمر لا ابالی به ) ، بل لأنني أريد أن أصور امام عينيك – بقد ما استطيع من الوضوح – مصائب الكنيسة . لأنه هبطت على سقف الكنيسة كنیران مشتعلة ، أو كصاعقة هوت من فوق ، ومع ذلك لم يتحرك أي واحد . ومع أن بيت أبينا يحترق فنحن نیام نوما عمیقا بغباوة.
ومن ذا الذي لم تمسه هذه النيران ؟ فالكنيسة ليست الا بيتا بنی من نفوسنا نحن البشر . وهذا البيت ليس في كرامة واحدة بالتساوی ، بل من هذه الأحجار ، المشید البيت منها ، توجد أحجار لامعة ، ويوجد غيرها ما هو أصغر ومعتم ، ومع ذلك فان هذه الأحجار الصغيرة المعتمة أفضل من غيرها.
هنالك نجد أيضا الكثيرين كالذهب الذهب الذي يزين السقف. هناك أيضا نجد غيرهم ممن يضفون جمالا على الكنيسة كجمال التماثيل ثم نجد الكثيرين واقفين كالأعمدة ، فالرسول تعود أن يدعو البشر أعمدة ( غل2: 9 ) ، ليس فقط بسبب قوتهم ، بل أيضا بسبب جمالهم ، اذ يزيدون الكنيسة جمالا ، ورؤوسهم مغشاة بالذهب .
ويمكن أن نرى جماهير كثيرة يكونون الساحة المتوسطة الفسيحة ، وكل محيط الدائرة . لأن كل جسم الكنيسة يشغل مكان تلك الأحجار التي شيدت منها الجدران الخارجية . أو بالحرى ينبغي أن نتقدم إلى صورة أكمل.
هذه الكنيسة ، التي أتحدث عنها ، لم تشید من هذه الحجارة كالتي نراها حولنا ، بل من ذهب ، وفضة ، ومن حجارة كريمة . وهنالك كمية كبيرة من الذهب متناثرة في كل مكان.
ويا للدموع الغزيرة التي يستدعيها هذا الحال . لأن كل هذه الأشياء قد التهمتها نيران النفخة الكاذبة ، تلك النيران المتأججة التي لم يقترب منها أحد إلى الان : ونحن نقف متطلعين في دهشة الى لهب النار ، عاجزین عن اطفاء الشر ، وان أطفاناه لفترة قصيرة اشتعل بعد يومين أو ثلاثة اذ تتطاير شرارة من كومة الرماد ، وتلتهم النيران ما لا يقل عما سبق أن التهمته . هكذا هو الحال هنا . وهذا هو مايحدث عادة في حريق كهذا.
أما عن السبب ، فان النار قد التهمت دعامات أعمدة الكنيسة . لأن النار التهمت البعض منا الذين كانوا يدعمون سقف الكنيسة ، والذين كانوا يدعمون كل مبنى الكنيسة . وقد امتدت النار أيضا إلى باقي الجدران الخارجية وهذا ما يحدث في المباني ، فانه عندما تصل النار إلى العروق الخشبية تكون العروق في أمان لحد ما لأن الحجارة تحميها لكن عندما تسقط الأعمدة ، وتصير في مستوى الأرض ، لا يبقى شيء تلتهمه النار ، اذ يصبح الكل مشتعلا : لأنه اذا سقطت دعامات الاجزاء العلوية سقطت وراءها سريعا هذه الاجزاء العلوية.
وهذا ما يحدث أيضا في هذه اللحظة في الكنيسة . فالنار قد وصلت إلى كل جزء : اذ نحن نطلب المجد الذي يأتي من الناس ، دون أن نصغی الى ما قاله أيوب : ( ای31: 33و 39) . . .
“ان كنت قد كتمت – کالناس – ذنبی
لاخفاء اثمي في حضنی
اذ رهبت جمهورا غفيرا »
هذه روح فاضلة . فقد قال النبي : انني لم أخجل من الاعتراف أمام الجمهور الغفير بخطايا اللاارادية . وان كان هو لم يخجل فالاحرى بنا نحن أن لا نخجل : لأن اشعياء النبي يقول « ابسط قضيتك لعلك تتبرر ) ( اش43: 29) : شنيعة هي قوة هذا الشر ، فقد دمر كل شي ولاشاه . لقد تركنا الرب وهجرناه ، وأصبحنا عبيدا لشهوة الكرامة . لم نعد قادرين بعد على توبيخ من هم تحت رئاستنا ، الأن نفس المرض قد أصابنا مثلهم : نحن الذين أقامنا الله الشفاء الآخرين أصبحنا نحن أنفسنا في حاجة إلى الطبيب . وأي أمل في الشفاء قد بقي ان كان الأطباء أنفسهم محتاجين الى يد الآخرين الشافية ؟
انني لم أذكر هذا بدون هدف ، ولم أبك بدون غرض ، لكن لکی نقوم كلنا ، بنسائنا وأولادنا ، ونفترش الرماد ، ونمنطق أنفسنا بالمسوح ، ونعلن صوما طويلا ، ونتضرع إلى الله نفسه بان يمد يده الينا ، ويوقف الخطر ، لأن الحاجة ملحة إلى يده ، تلك اليد المقتدرة العجيبة . انه مطلوب من أكثر مما طلب من أهل نينوى . قال النبي : ” بعد ثلاثة أيام[2] تنقلب المدينة ” ( يونان 4: 3 ) . هذه رسالة مزعجة ، تحمل تهديدا مروعا ۰ وكيف كان ممكنا أن يحدث غير هذا ؟ هل هنالك أشد ازعاجا من أن يتوقع الجميع أن تكون المدينة قبرا لهم بعد ثلاثة أيام ، وأن يهلك الجميع بضربة واحدة ؟ لأنه ان حدث بان ابنين ماتا في وقت واحد في بيت واحد ، أصبحت هذه كارثة لا تحتمل . وان كانت أشد النكبات التي حلت بایوب أن بان سقف البيت سقط على جميع بنيه وبناته ، فقتل الجميع ، فماذا يكون الحال أن لا يسقط بيت واحد فقط ، ولا يهلك ابنان فقط ، بل تدفن تحت الانقاض أمة برمتها مكونة من مائة وعشرين الفا .
انتم تعلمون مقدار شناعة هذه النكبة . فهذا الانذار قد وجه الينا اخيرا ، لا على فم نبی ، فنحن لا نستحق أن نسمع صوت نبی ، لكن التحذير جاءنا من فوق مدويا ، وبكيفية اكثر وضوحا من ای بوق
وعلى أي حال فقد قال النبي : “بعد ثلاثة أيام تنقلب نینوی” ، هذا في الواقع انذار مزعج : أما الآن فليس أمامنا شيء كهذا . لیست هنالك ثلاثة أيام ، وليست هنالك نينوى لكي تنقلب لكن قد مرت أيام كثيرة منذ انقلبت الكنيسة في كل أرجاء العالم ، وأذلت حتى التراب ، وغمر الشر الجميع بالتساوي . والاكثر من هذا أن الضغط اشتد على شاغلى المراكز الرفيعة.
فلا تتعجبوا اذن ان قدمت لكم النصيحة بان تقوموا باعمال أعظم مما قام به أهل نينوى : ولماذا ؟ نعم أعظم ، وأنا الآن لا انادي فقط بصوم لكنني أقترح العلاج الذي أنقذ تلك المدينة ، عندما كانت مشرفة على الهلاك.
وما هو هذا العلاج ؟ قال النبي : « فلما رأى الله أعمالهم أنهم رجعوا عن طريقهم الرديئة ندم الله على الشر الذي تكلم أن يصنعه بهم فلم يصنعه ، ( یونان3: 10 ).
فلنعمل هذا ، نحن وأنتم . لنتجنب شهوة الغني ، وشهوة المجد ولنتوسل إلى الله لكي يمد يده ، ويرفع الساقطين الذين بيننا : نحن نحسن صنعا ان فعلنا هذا ، لأن الباعث على خوفنا ليس مثل ما بعثهم على الخوف ففي حالتهم لم يتحطم سوى الاحجار والأخشاب ، والأجساد التي تهلك أما الآن فلا يخشى على شيء من هذه ، بل على النفوس التي تكاد تسلم لجهنم النار.
فلنتضرع اليه ، ولنعترف له ، ولنشكره من أجل ما مضى ، ولنتوسل اليه من أجل ما هو آت ، لكي نحسب أهلا للنجاة من هذا الوحش الكاسر المروع ، ولنرفع تشکراتنا لله المحب والآب ، الذي يليق له مع الابن والروح القدس ، المجد والقوة والكرامة ، الآن والى دهر الداهرین : آمين .
- كان اسقفا لانطاكية من 237 إلى 250 م حيث استشهد اثناء الاضطهاد الذي اثاره الإمبراطور داکیوس
- حسب الترجمة السبعينية ، و أربعين يوما ، حسب الترجمات الاخرى .
- تعرضت أنطاكية للزلازل . فقد حدث زلزال سنة 395 م ، ولعله حدث وقت تاريخ كتابة هذه العظات . وفي سنة 458 م دمرت تدميرا کاملا تقريبا .
تفسير أفسس 3 | أفسس 4 | تفسير رسالة أفسس | تفسير العهد الجديد | تفسير أفسس 5 |
القديس يوحنا ذهبي الفم | ||||
تفاسير أفسس 4 | تفاسير رسالة أفسس | تفاسير العهد الجديد |