تفسير رسالة العبرانيين اصحاح 5 للقديس يوحنا ذهبي الفم
الأصحاح الخامس
العظة الثامنة (عب5: 14)
“لأن كل رئيس كهنة مأخوذ من الناس يُقام لأجل الناس في ما الله لكي يقدم قرابين وذبائح عن الخطايا. قادر أن يترفق بالجهال والضالين إذ هو أيضا محاط بالضعف. ولهذا الضعف يلتزم أنه كما يقدم عن الخطايا لأجل الشعب هكذا أيضا لأجل نفسه ” (عب 5: 1-3).
1- علاوة على ذلك، يريد المطوب بولس أن يبيّن أن هذا العهد (الجديد) هو أسمى بكثير من القديم. وهو يفعل هذا مُعبراً عن أفكاره التي عرضها قبلاً بطريقة غير مباشرة. إذاً لأنه لم يكن هناك شيئاً جسديًا أو خياليًا، هكذا لا الهيكل، ولا قدس الأقداس، ولا الكاهن الذي لديه مؤنة روحية كبيرة، ولا الامتيازات الناموسية، بل كلها كانت سامية وكاملة، ولا شيء من الأمور الجسدية، بل إن كل شئ كان متعلقا بالأمور الروحية، ومادامت الأمور الروحية لم تشجع الضعفاء في الإيمان بقدر كبير ، كما في الأمور الجسدية، من أجل هذا فإن الحديث كله كان يتحرك في هذا الإتجاه ولاحظ كلمته، يبدأ أولاً بالكاهن، وفيما بعد يدعوه رئيس كهنة، ومن خلال هذا يظهر أولاً الفروق (بين هذا وذاك).
ولهذا فهو يحدد أولاً مَنْ هو الكاهن ، ثم يبيّن الأمور التي يمارسها، ثم يشير إلى رموز الكهنوت. ولأنهم قاوموه بأنه لم يكن من أصل نبيل، ولا كاهنا في الأرض، وكان من الطبيعي لأجل هذا أن يقول البعض، إذا كيف كان ذاك كاهناً؟ وما فعله الرسول بولس في رسالته إلى رومية ٢٠٦، يفعله هنا أيضا. أي أنه يأخذ كلام من الصعب أن يكون موضع تصديق، إذا فالإيمان يفعل ما لم يستطع الناموس أن يفعله، ولا التعب الذي يُصاحب طريقة الحياة المستقيمة، راغباً في توضيح أن ما يبدو مستحيلاً قد حدث وتحقق، وقد لجأ إلى أب الآباء (إبراهيم)، ونقل أو حوّل كل شئ إلى ذلك العصر. هكذا هنا أيضاً يتبع الطريق الآخر للكهنوت، بعدما تكلّم عن أولئك الذين تبعوه أولاً. إنه لم يذكر فقط جهنم في حديثه عن الجحيم، بل ذكر أيضاً كل ما حدث للآباء، هكذا يفعل هنا أيضاً. إنه يؤكد أولاً على هذا الأمر من خلال الأمور الحاضرة. كان ينبغي بالطبع أن يؤكد على الأمور الأرضية من خلال الأمور السمائية، ولكن عندما يكون المستمعون ضعفاء روحياً، يحدث العكس. إذاً في البداية يذكر تلك الأمور التي هي مشتركة، ثم بعد ذلك يظهر ما هو موجود لأنه هكذا يصير الإمتياز واضحاً في حالة المقارنة، حين يكون هناك شيئاً مشتركاً في بعض الأمور، وإمتياز في بعض الأمور الأخرى، وهكذا ليست هناك طريقة أخري بها يصير الأمتياز واضحاً في حالة المقارنة.
“لأن كل رئيس كهنة مأخوذ من الناس”. هذا أمر مشترك مع المسيح. “يُقام لأجل الناس في ما لله، وهذا مشترك أيضاً. ” لكي يقدم قرابين وذبائح عن الخطايا”. وهذا أيضاً أمر مشترك، غير أن الأمور المشتركة ليست في كل شيء. ثم يضيف “قادر أن يترفق بالجهال والضالين”. هنا يوجد الإمتياز. “إذ هو محاط بالضعف ولهذا الضعف يلتزم أنه كما يقدم عن الخطايا لأجل الشعب هكذا أيضاً لأجل نفسه ثم يضيف أمرًا آخرا، ومشتركا أيضا.
” ولا يأخذ أحد هذه الوظيفة بنفسه بل المدعو من الله كما هرون أيضاً” (عب 5: 4)
هنا يُبرهن على شيء آخر مظهراً أنه أرسل من الله. هذا ما كان المسيح نفسه يقوله في كل موضع وهو يتحدث إلى اليهود “أبي أعظم مني”، و”لم آت من نفسي بل ذاك أرسلني” . أعتقد هنا أنه يُشير إلى الكهنة اليهود، كما لو أن أولئك الذين يتعدون ويخالفون ناموس الكهنوت ليسوا كهنة.
“وكذلك المسيح أيضا لم يمجد نفسه ليصير رئيس كهنة” (عب 5: 5). إذا أين يقول أنه رسم (تمجد ) ؟ لأن هرون مُجد مرات كثيرة، كما في معجزة العصا ، وأيضا عندما نزلت نار من السماء وأكلت أولئك الذين تعدوا على الكهنوت. أما هنا فيحدث العكس، ليس فقط لم يُصاب اليهود بمكروه، بل بالعكس إبتهجوا من أين إذا (إبتهجوا)؟ هذا ما بينه من النبوءة. فهو ليس لديه شيئاً مادياً ولا منظور. ومن أجل هذا فإنه يؤكد عليه من النبوءة ومن أمور الدهر الآتي ليصير رئيس كهنة بل الذي قال له أنت إبني أنا اليوم ولدتك”. فما علاقة هذا الكلام بالإبن؟ يقول نعم هذا الكلام قيل عن الإبن وكيف يساعد هذا الكلام على فهم موضوعنا؟ يساعد كثيراً جداً، لأن هذا إعداد لنوال المجد الذي له عند الله الآب.
كما يقول أيضاً في موضوع آخر “أنت” كاهن إلى الأبد على رتبة ملكيصادق” (عب 6:5 ) .
لمن قيل هذا الكلام؟ من هو الكاهن الذي على رتبة ملكي صادق؟ ليس آخر سوى الإبن لأن الجميع كانوا خاضعين للناموس، الجميع حفظوا السبت، وأختتنوا . لا أحد يمكنه أن يُشير إلى شخص آخر (سوى الإبن).
” الذي في أيام جسده إذ قدم بصراخ شديد ودموع وطلبات وتضرعات للقادر أن يخلصه من الموت وسمع له من أجل تقواه مع كونه إبنا تعلم الطاعة مما تألم به “(عب 5: 7-8)
أرأيت أنه لم يصنع شيئاً آخراً، سوى أنه قد قدم رعايته ومحبته الفائقة فقط؟ ماذا يريد أن يقول بعبارة بصراخ شديد ؟ هذا ما لم يذكره الإنجيل مطلقاً، ولا أنه ذرف الدمع في الصلوات ولا أنه صرخ صرخة شديدة. أرأيت كيف أنه صنع كل هذا؟ لأنه لم يكتف أن يقول صلى، بل قال بصراخ شديد.
يقول ” وشمع له من أجل تقواه مع كونه إبنا تعلم الطاعة مما تألم به وإذ كمل صار لجميع الذين يطيعونه سبب خلاص أبدي مدعوا من الله رئيس كهنة على رتبة ملكي صادق” (عب 5: 9-10).
حتى (وإن كانت طلباته) بصراخ، لكن لماذا يصف هذا الصراخ بقوله شديد؟ ثم يقول “بدموع” وسمع له من أجل تقواه فليستحي الهراطقة الذين يرفضون الجسد. ماذا تقول؟ هل إبن الله سُمع له من أجل تقواه؟ وماذا يمكن للمرء أن يقول أكثر عن الأنبياء؟ وأي علاقة بين قوله “سمع له من أجل تقواه وأن يُضيف “مع الله؟ ومن هو كونه إبناً تعلّم الطاعة مما تألم “به؟ هل يمكن لأحد أن يتكلم بهذه الأمور عن ذاك الذي أصابه الجنون إلى هذا الحد الكبير جداً وقليل التبصر الذي سيتكلم بهذه الأمور؟ يقول من أجل تقواه.. وتعلم الطاعة مما تألم به. أي طاعة تعلمها؟ هذا الذي أطاع حتى الموت، كإبن للآب، كيف تعلم الطاعة مؤخراً؟
2- أرأيت أن هذا الكلام قد قيل عن الجسد ؟ إذا فلتخبرني، هل تضرع إلى الآب لكي يخلّصه من الموت، ولهذا كان حزيناً وقال إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس؟ لكنه لم يتضرع إلى الآب أبداً من أجل القيامة، بل العكس، قد صرّح قائلاً “انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه” ، وليس أحد يأخذها مني بل أضعها أنا من ذاتي لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضاً . إذاً ماذا يحدث؟ ولأي سبب تضرّع؟ وأيضاً يقول ها نحن صاعدون إلى أورشليم وإبن الإنسان يُسلّم إلى رؤساء الكهنة والكتبة فيحكمون عليه بالموت ويسلمونه إلى الأمم لكي يهزأوا به ويجلدونه ويصلبوه وفي اليوم الثالث يقوم. ولم يقل أن الآب سيقيمني. كيف إذا تضرّع من أجل هذا (أن يخلصه من الموت)؟.
لكن لمن قد تضرّع؟ تضرّع نيابةً عن كل من أمن به. ما يقوله يعني الآتي: أنه يُسمع له بسهولة. ولأنه لم يحملوا له أبداً الرؤية أو الفكر الذي كان ينبغي أن يحملونه، قال سمع له. تماماً مثلما أن الإبن حين أراد أن يعزي تلاميذه قال ” لو كنتم تحبونني لكنتم تفرحون لأني قلت أمضي إلى الآب لأن أبي أعظم مني ) لكن كيف لم يمجد نفسه ذاك الذي وضعها تماماً، والذي بذلها (من أجلنا)؟
لأن القديس بولس يقول ” الذي بذل نفسه لأجل خطايانا”. وأيضاً ” الذي بذل نفسه فدية لأجل الجميع ” . إذا ماذا يحدث؟ أرأيت أنه يتكلم بإتضاع عن جسده الخاص؟ هكذا يقول هنا أيضاً وبرغم أنه إبن ” سمع له من أجل تقواه”. أي أنه يريد أن يُبيِّن أن ما تحقق هو خاص به، أكثر مما هو خاص بنعمة الله. فهو يقول أن تقواه كانت عظيمة إلى هذا الحد الكبير ، حتى أن الله يوقره من أجل تقواه. ثم يقول “تعلّم الطاعة (الله)”. هنا أيضاً يُظهر كم هو عظيم الربح الذي يأتي من الآلام. “وإذ كمل صار لجميع الذين يطيعونه سبب خلاص أبدي”. فإن كان ذاك الذي هو إبن قد تعلّم الطاعة مما تألم به بالأكثر جداً نحن أرأيت أن كل ما يقوله عن الطاعة، يقوله لكي يدفع هؤلاء العبرانيين للطاعة؟ يبدو لي أنهم بإستمرار ينحرفون، ولا يحفظوا أقوال الكتاب هذا قد أشار إليه بقوله “صرتم متباطئ المسامع”. ومن خلال الآلام المستمرة، يقول أنه تعلّم أن يطيع الله. “هكذا كمل” بالآلام، إذاً فهذا هو الكمال، ومن داخل الآلام يجب أن يصل المرء إلى الكمال. لأنه ليس فقط قد خلص، لكنه صار لآخرين غني للخلاص. “وإذ كمل صار لجميع الذين يطيعونه سبب خلاص أبدي”.
” مدعوا من الله رئيس كهنة على رتبة ملكي صادق الذي من جهته الكلام كثير عندنا وعسر التفسير لننطق به ” (عب 5: 11)
كان لديه هدف أن يتكلم عن فروق الكهنوت (أي الكهنوت القديم وكهنوت المسيح)، أولاً وبخهم، مظهراً أن الغفران الفائق كان عبارة عن لبن (أي محتاجين إلى اللبن، ولأنهم كانوا أطفال، فقد بقى أكثر في الكلام المتواضع الذي يشير إلى الجسد ، وهو يتكلم كما لشخص بار. ولا حظ أنه لم يحجب كلامه تماماً أو يكتمه، فقد قال أنه فعل هذا لكي يشجعهم، وأن يقنعهم أن يصيروا كاملين ولكي لا يُحرموا من العقائد العظيمة، بل لكي لا يطمروا ذهنهم. يقول ” الذي من جهته الكلام كثير عندنا وعسير التفسير، لتنطق به إذ قد صرتم متباطئ المسامع”. لأن أولئك أي (العبرانيين لا يسمعوا، ومن أجل هذا يكون الكلام صعب لأن يُشرح لأنه حين يكون شخص لديه ما يقوله لأناس لا يتابعونه، ولا يفهمون مقولاته، فإنه لا يستطيع أن يشرحها لهم بشكل جيد.
لكن ربما يشعر أحدكم مما يوجدون هنا في الكنيسة، بالدهشة من حيث أن الرسول بولس كان قد أُعيق بسبب العبرانيين عن أن يتكلم بأكمل وأسمى حديث ويعتبر أن هذا الأمر مؤذي. أعتقد أنه فيما عدا قليلون، أن مثل هؤلاء أيضاً هم كثيرون هنا ، حتى أنهم يكلمونكم بمثل هذا الكلام. لكن لأجل القليلون سأشرح هذا لكم . هل يا ترى قد كتم أو أخفى الكلام ، أم أنه أستأنفه في الآيات اللاحقة كما فعل نفس الأمر في رسالته إلى أهل رومية؟ لأنه هناك ( في رسالته إلى أهل رومية)، بعدما سد أفواه أولئك المجادلين وبعدما قال “من أنت أيها الإنسان الذي تجاوب الله، حينها أضاف الشرح. لكنني أعتقد أنه لم يصمت تماماً، ولا تكلّم بإستفاضة، لكي يجعل المستمعين في شوق (للشرح). إذاً بعدما أشار وقال إن هناك أمور عظيمة داخل الكلام، لاحظ كيف يوبخ بمدح.
هذا هو ملمح حكمة بولس على الدوام، أن يمزج بين الأمور المسببة للضيق والأمور النافعة. هذا ما يفعله في رسالته إلى أهل غلاطية قائلاً: “كنتم تسعون حسناً فمن صدكم “. وأهذا المقدار احتملتم عبثاً إن كان عبثاً؟ وأثق بكم في الرب . نفس الأمر يقوله للعبرانيين ولكننا قد تيقنا من جهتكم أيها الأحباء أمور أفضل ومختصة بالخلاص. إذا فهو يفعل أمرين، فلا هو يلح، ولا هو يتركهم يُوهنون، وهذا صواب جداً. لأنه إن كانت أمثلة الآخرين قادرة أن تحث المستمع وتقوده للغيرة، فعندما يكون شخص ما لديه عبرة من نفسه ويحث نفسه أن تكتسب غيرة وحماس، فبالأكثر جداً تظهر قوة التعليم من هذا المنطلق. إذاً هذا ما يوضحه، ولم يتركهم أن يوهنون، لأنهم كانوا محتقرين جداً، وليس لأنهم كانوا دوماً أشرار، بل أحياناً كانوا صالحين.
“لأنكم إذ كان ينبغي أن تكونوا معلمين لسبب طول الزمان” (عب 5: 13)
هنا يوضح أنهم قد آمنوا منذ سنوات بعيدة، وأوضح أيضاً أنه كان ينبغي أن يعلموا آخرين لاحظ إذا أنه بإستمرار يفعل كل ما يستطيع كي يتكلم عن رئيس الكهنة، ودوماً يرجى الكلام. إسمع كيف بدأ فإذ” لنا رئيس كهنة عظيم قد إجتاز السموات”. فيما بعد وقد أغفل أن يقول كيف هو عظيم، يقول أيضاً “لأن كل رئيس كهنة مأخوذ من الناس يُقام لأجل الناس في ما لله” وأيضاً “كذلك المسيح أيضاً لم يُمجد نفسه ليصير رئيس كهنة وبعدما قال أيضاً “أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق ، مرة أخرى يرجئ الكلام عنه، قائلاً أن المسيح في فترة حياته على الأرض قدم “طلبات وتضرعات”.
3. إذا بعدما أرجئ الكلام عنه مرات عديدة، يقول كمدافع، أن السبب يعود إليكم. يا للأسف كم يكون البون أو الإختلاف بينما كان ينبغي أن يكونوا معلمين الآخرين وهم كانوا تلاميذ، لكن ليسوا أي تلاميذ، بل هم أخر التلاميذ. يقول ” كان ينبغي أن تكونوا معلمين لسبب طول الزمان تحتاجون أن يعلمكم أحد ما هي أركان بداءة أقوال الله “
“بداءة أقوال” هكذا يدعو الطبيعة الإنسانية. لأنه كما في الأحرف اليونانية يجب على المرء أن يتعلم أولاً البدايات، هكذا أيضاً في الأقوال الإلهية كان ينبغي أن يتعلم عن الطبيعة الإنسانية. أرأيت ما هي الأسباب التي دعته أن يتكلم بإتضاع؟ هكذا صنع بولس حين تكلم إلى أهل أثينا، قال الله الآن يأمر جميع الناس في كل مكان أن يتوبوا متغاضياً عن أزمنة الجهل لأنه أقام يوماً هو فيه مزمع أن يدين المسكونة بالعدل برجل قد عيّنه مقدماً للجميع إيماناً إذ أقامه من الأموات.
ومن أجل هذا ، إن كان يتكلم عن شيء سامي، فهو يتكلم عنه بإيجاز، بينما فيما يختص بالأمور المتضعة فهي منتشرة في مواضع كثيرة من الرسالة. وهكذا يتضح الأمر السامي ، لأنه ليس هناك مجالاً للتشكيك في إلوهيته، حين يكون الإتضاع بشكل فائق للوصف.
هكذا هنا أيضاً إهتم أن يؤمنهم، لذلك ينسب الأمور المتضعة إلى الطبيعة الإنسانية، والسبب أن هؤلاء لا يستطيعون أن يسمعوا عن الأمور الكاملة. هذا قد أوضحه بشكل خاص في الرسالة إلى أهل كورنثوس، قائلاً “لأنه إذ فيكم حسد وخصام وإنشقاق ألستم جسديين وتسلكون بحسب البشر ؟ “. لاحظ من فضلك، تعقله و حكمته الكبيرة، كيف أنه بطريقة مناسبة يشير دوماً إلى الشهوات الحاضرة. لأن هناك ( في رسالته إلى أهل كورنثوس) الضعف قد أتى بالأكثر من الجهل أو عدم المعرفة، أو من الأفضل أن نقول من الخطايا، بينما هنا لم تأتِ فقط من الخطايا، بل من الأحزان أو الضيقات المستمرة أيضاً. ولهذا يستخدم كلمات يمكن أن تُظهر الفرق. هكذا يقول هناك لأهل كورنثوس) “تسلكون بحسب البشر”، بينما هنا لأن الحزن أكبر يقول “صرتم متباطئ المسامع”. وأولئك (أي أهل كورنثوس)، لم يستطيعوا أن يحتملوا لأنهم كانوا (يسلكون) بحسب البشر، لكن هؤلاء إستطاعوا.
لأنه بأن يقول “صرتم متباطئ المسامع كان برهان على أنهم قديماً كانوا أصحاء وأقوياء، ولديهم إستعداد فائق للفهم، ثم يؤكد أنهم مؤخراً أصيبوا بالتباطؤ في الفهم.
” وصرتم محتاجين إلى اللبن لا إلى طعام قوي” هنا في هذه الرسالة دائماً ما يدعوا الكلام البسيط باللبن، ويقول كان ينبغي أن تكونوا معلمين لسبب طول الزمان”. كما لو أنه قال، لهذا وبشكل أساسي صرتم ضعفاء ولا مبالين، ومن أجل هذا كان ينبغي أن تكونوا أقوياء، بسبب الزمان الذي عبر. ويسمى الكلام البسيط لبن، لأنه يُلائم البسطاء، لكن هذا هو عكس ما يناسب الكاملين، وهو أمر سيء أن يحيوا بين هؤلاء حتى أنه ما كان ينبغي أن يؤتى بالأمور الناموسية الآن ولا هكذا تصير المقارنة، أي أنه رئيس كهنة، وأنه ذبح، وأنه قدم بصراخ شديد طلبات وتضرعات. لاحظ إذا كيف تحزننا تلك الأمور، بينما أولئك (أي اليهود) قد أشبعتهم هذه الأمور في ذلك الوقت، ولم يحزنوا على الإطلاق. إذا فكلام الله . هو طعام حقيقي، يُغذي النفس ومن حيث أن كلام الله هو طعام، فهذا واضح من العهد القديم، إذ يقول أرسل” جوعاً في الأرض لا جوعاً للخبز ولا عطشاً للماء بل لإستماع كلمات الرب. ويقول القديس بولس “سقيتكم لبناً لا طعاماً”. ولم يقل أطعمتكم، وذلك لكي يبيّن أن هذا التعليم ليس طعام، بل كما يحدث مع الأطفال الصغار الذين لا يستطيعون أن يتغذوا بالخبز (لأنه لا يُعطي لهؤلاء الأطفال طعام، لكن الشراب يُعطى بدلاً من الطعام)، هكذا هنا أيضاً. ولم يقل هناك ضرورة، بل قال صرتم محتاجين إلى اللبن لا إلى طعام قوي. بمعنى أنكم أردتم ، وأنكم حملتم أنفسكم إلى الإحتياج إلى هذا التعليم.
” لأن كل من يتناول اللبن هو عديم الخبرة في كلام البر لأنه طفل” (عب 5: 13). ماذا يعني بقوله “كلام البر؟” يبدو لي هنا أنه يشير إلى طريقة الحياة، الأمر
الذي قاله المسيح إن لم يزد بركم على الكتبة والفرسيين لن تدخلوا ملكوت السموات. نفس الأمر يقوله القديس بولس عديم الخبرة في كلام البر. أي ليس لديه خبرة الحكمة السماوية، لا يمكنه أن يقبل حياة أسمى وأكمل. هذه الحياة يدعوها المسيح هنا “بر”، والكلام السامي عنه (يُدعى بر). ومن حيث أنهم قد صاروا لا مبالين هذا ما قاله لكن من أين صاروا لا مبالين هذا ما لم يضفه ،بعد ، تاركاً لهم أن يفهموا هذا الأمر، ولأنه لم يرد أن يجعل كلامه محزن
لكن من جهة أهل غلاطية كانوا مثار دهشة وحيرة، لأنه لم ينتظر أبداً أن يحدث هذا (أن يصيروا أطفال في كلام البر). وهذه هي الحيرة. أرأيت أن هناك سن طفولي أخر؟ أرأيت أن هناك نضوج أخر؟ لتصير إذا ناضجين، مكتسبين هذا النضوج الروحي لأنه من الممكن حتى وإن كنا أطفال وأولاد، أن نصل إلى هذا النضوج، لأن الأمر لا يعتمد على الطبيعة، بل على الفضيلة.
” وأما الطعام القوي فللبالغين الذين بسبب التمرن قد صارت لهم الحواس مدربة على التمييز بين الخير والشر” (عب 5: 14)
ماذا إذاً؟ ألم يكن لهؤلاء (اليهود) حواس مدربة ، ولم يعرفوا التمييز بين الخير والشر؟ هو الآن لا يشير إلى الحياة عندما يقول: “على التمييز بين الخير والشر الأن هذا ممكن وسهل أن يعرفه كل إنسان، بل يشير إلى التعاليم الصحيحة والسامية، وإلى التعاليم غير المستقيمة والمتواضعة فالطفل لا يعرف أن يميز بين الطعام الجيد والطعام الرديء. مرات عديدة يضع في فمه طين، ويتناول شيء ضار ويفعل كل شيء بلا تمييز. لكن الكمال ليس هكذا. مثل هؤلاء هم أولئك الذين يصفون للجميع بشكل عام، والذين يسمعون دون تمييز لغير الكاملين. وهو يُدين هؤلاء، لأنهم يسلكون بسذاجة، مُسلّمين أنفسهم لهؤلاء مرة، ومرة لأولئك. هذا ما يشير إليه في نهاية الرسالة قائلاً: لا تُساقوا بتعاليم متنوعة وغريبة”٢٢٨. هذا هو .. معنى “التمييز بين الخير والشر”. الحلق يتذوق الطعام، بينما النفس تختبر الكلام.
4- إذاً لنتعلم نحن أيضاً هذا (أي التمييز بين الخير والشر)، وعندما تسمع (أن المتكلم) ليس وثني ولا يهودي، فلا تعتقد على الفور أنه مسيحي، بل لتفحص كل الجوانب الأخرى، لأن المانويين[1] أيضاً وكل الهراطقة إرتدوا هذا القناع لكي يخدعوا هكذا البسطاء. لكن إن كانت حواس النفس لدينا مدربة على التمييز بين الخير والشر، فسيمكننا أن نميز هؤلاء (الهراطقة). وكيف تصير حواس نفوسنا مدربة؟ تصير مدربة من السماع المستمر، ومن معرفة الكتب المقدسة. إذاً عندما تكشف خداعهم، وتسمع اليوم وغداً، وتجد أن هذا الضلال ليس صحيحاً، فإنك تكون قد علمت كل شيء، وعرفت كل شيء. وإن لم تفهم هذا الأمر اليوم، ستفهمه غداً. يقول “الذين بسبب التمرن قد صارت لهم الحواس مدربة”. أرأيت أنه ينبغي أن ندرب حاسة سمعنا على سماع الكلمة الإلهية، حتى لا تستمع لأمور غريبة؟.
يقول “صارت مدربة على التمييز” بمعنى أن يكون المرء خبير. يقول أحدهم أنه لا توجد قيامة، وآخر لا ينتظر شيء من أمور الدهر الآتي وآخر يقبل إله آخر وآخر يقول أن بدايته أي (الإبن هي من مريم. ولاحظ كيف أن الجميع قد سقطوا على الفور في الخداع أو الضلال بسبب غياب المعيار الصحيح، طالما أن البعض عرضوا لشيء أكثر، والبعض الأخر لشيء أقل. على سبيل المثال، كانت هرطقة ماركيون قبل الجميع. هذه الهرطقة قدمت إله آخر ليس له وجود. ها هو الأكثر (من الحد). وبعد هذه الهرطقة ظهرت هرطقة سابيليوس التي نادت بأن الآب والابن والروح القدس هم شخصاً واحداً. بعد ذلك ظهرت هرطقة ماركلوس وفوتيوس، وهي تعلم بنفس الأفكار، ثم بعد ذلك جاءت هرطقة بولس الساموسطائي، والذي أدعى أن الله أخذ بدايته من مريم. ثم هرطقة المانويين، إذ الأحدث بين كل الهرطقات وبعد هذه الهرطقات جاءت هرطقة آريوس. لكن توجد هرطقات أخرى، ومن أجل هذا ، فنحن نستلم الإيمان بطريقة واحدة فقط، حتى لا نضطر أن نقترب من هرطقات لا حصر لها، ونتعرض لمضايقات، بل حين يشرع شخص أن يضيف إلى هذا الإيمان، أو ينزع منه، نعتبره إيمان مزيف. لأنه تماماً مثل هؤلاء الذين يُشرعون ،القوانين لا يُلزموننا أن نفحص إجراءات لا حصر لها ، بل يوصون بأن نلتزم بما قد أُعطى لنا ، هكذا يحدث في العقائد أيضاً. لكن لا أحد يُريد أن ينتبه للكتب المقدسة لأنه إن إنتبهنا، فإننا ليس فقط لن نسقط في الخداع، بل ستنقذ آخرين أيضا من أخطار كان يمكن أن ينخدعوا بها، لأن الجندي القوي ليس فقط هو الذي يستطيع أن يحمي نفسه، بل ويستطيع أن يُخلص مَنْ بجواره، ويُنقذه من أذى الأعداء. لكن الآن البعض لا يعرف أنه توجد كتب مقدسة، برغم من أن الروح القدس قد دبر الكثير جدا، لكي يحفظ هذه الكتب ولتنتبهوا من البداية، لكي تدركوا محبة الله التي لا يُعبر عنها للبشر. لقد أعطى إستنارة للمطوب موسى، حفر اللوحين (أي لوحي الشريعة)، وحفظه أربعون يوماً فوق الجبل وأمور أخرى كثيرة، لكي يعطيه الناموس. وبعد كل هذا ، أرسل الأنبياء الذين عانوا شروراً كثيرة. لقد نشبت حرب، وقتلوهم جميعاً، ونشروهم، وحرقوا الكتب المقدسة. هناك أيضاً رجل آخر مدهش، وأقصد عزرا ، أعطاه الله إستنارة لكي يشرح الكتب المقدسة، وجمع الأسفار المقدسة، وشرع أن يكتب ما تبقى. وبعد هذا دبّر أن تُترجم من النسخة السبعينية، وأولئك قد ترجموها.
لقد جاء المسيح، وصنع آيات ومعجزات وتحققت النبوات، والرسل قد علموها للجميع، ماذا حدث بعد ذلك؟ حدث أنه بعد تدقيق وعناية فائقة، كتب الرسل أيضاً، كما قال الرسول بولس هذه الأمور كتبت لإنذارنا نحن الذين إنتهت إلينا أواخر الدهور “. وقال المسيح تضلون إذ لا تعرفون الكتب. والرسول بولس قال أيضاً حتى بالصبر والتعزية بما في الكتب يكون لنا رجاء”، وأيضاً: “كل الكتاب هو موحى به من الله ونافع ” ، و ” لتسكن فيكم كلمة المسيح بغنى ويقول النبي في” ناموسه يلهج نهاراً وليلاً”. وفي موضع آخر يقول أيضاً ناموس الرب كامل وأيضاً ما أحلى قولك لحنكي أحلى من العسل لفمي” (ولم يقل لسمعي، بل لحنكي). وموسى أيضاً يقول ولتكن هذه الكلمات .. على فمك .. حين تنام وحين تقوم “. ولذلك فإن الرسول بولس يكتب إلى تيموثاوس قائلاً ” إهتم بهذا كن فيه “، وأمور أخرى كثيرة يمكن للمرء أن يقولها عن الكلمة المكتوبة.
لكن بعد هذا الكم الكبير من الآيات الكتابية، يوجد البعض مما لا يعرفون أنه توجد كتب مقدسة. إذا من أجل هذا لا يحدث لنا شيء صحيح، شيء نافع. لكن إن كان أحد يرغب في أن يعرف جيداً التكنيك العسكري، فلزاماً عليه أن يعرف القوانين العسكرية. وإن أراد أحد أن يعرف علم القيادة أو علم هندسة العمارة أو شيء أخر، فينبغي عليه أن يتعلم كل ما يتعلق بهذا الفن. لكن هنا (في مجال الأقوال الإلهية ليس من غير الممكن أن نراهم يفعلوا شيئاً مثل هذا، وإن كان هذا العلم يحتاج إلى يقظة كبيرة. ومن حيث أن هذا هو فن في إحتياج أن نتعلمه، إسمع النبي الذي يقول : “هلم أيها البنون استمعوا إلي فأعلمكم مخافة الرب”. بناء على ذلك فإن مخافة الرب تحتاج بالحقيقة إلى أن نتعلمها. بعد ذلك يقول “مَنْ هو الإنسان الذي يهوى الحياة؟”، يقصد الحياة الأبدية. وأيضاً يقول “صن لسانك عن الشر وشفتيك عن التكلّم بالغش. حد عن الشر وأصنع الخير. أطلب السلامة وأسع وراءها.
هل يا ترى قد عرفتم مَنْ هو النبي الذي قال هذه الأمور، هل هو المؤرخ، أم الرسول، أم الإنجيلي؟ لا أثق إلا بالقليلين الذين يمكنهم أن يفعلوا هذا. بل أن هؤلاء أنفسهم أيضاً، إن عرضتُ شهادة من موضع آخر، ستجدهم يعانون نفس المعاناة معكم. إذاً الآن سأقول نفس الأمر تماماً ، لكن بكلام آخر “اغتسلوا تنقوا أعزلوا شر أفعالكم من أمام عيني. كفوا عن فعل الشر. تعلموا فعل الخير أطلبوا الحق “. أرأيت أن الفضيلة تحتاج لتعليم؟ لأن داود النبي يقول “فأعلمكم مخافة الرب”، وهذا (أي إشعياء) يقول تعلموا فعل الخير. أين توجد هذه الأقوال يا ترى؟ بالطبع أنا لا أعتقد أنكم قد عرفتم، فيما عدا قليلين منكم.
بل إن هذه الأمور تُقرأ عليكم كل أسبوع مرتين أو ثلاثة مرات. عندما يصعد القارئ على المنبر ، يقول أولاً لمن يكون الكتاب، أي لهذا النبي أو لذاك الرسول، أو الإنجيلي، ثم بعد ذلك يقرأ محتوي النص الكتابي الذي أمامه، حتى تكون الأمور واضحة لكم، وأن تعرفوا ليس فقط أين توجد هذه الأقوال)، بل والأسباب التي كتبت من أجلها ومَنْ قالها. لكن كلها تذهب هباء، وتنقضي. لأن كل إهتماماتكم تستنفذ في الأمور الحياتية، ولا تهتموا مطلقاً بالأمور الروحية. ومن أجل هذا فإنه ولا تلك الأمور الحياتية تسير كما أنتم تريدون، بل هناك صعوبات كثيرة. بالطبع المسيح يقول “أطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تُزاد لكم “٢٤٣ . وهذه الأمور الحياتية قال عنها أنها ستُعطى بزيادة. لكن نحن بدلنا النظام، ونطلب الخيرات الأرضية، كما لو أن أمور الملكوت ستُعطى لنا كزيادة. فلنتيقظ إذا ذات مرة ولنشتهي خيرات الدهر الآتي، لأن بهذه الطريقة ستزاد الأمور الأرضية. فمن غير الممكن لذاك الذي يطلب الأشياء التي هي بحسب إرادة الله، ألا ينال الأمور الإنسانية. هذا هو حكم الحقيقة ذاتها التي تتكلم عن ذلك. إذا ينبغي ألا نسلك بطريقة مختلفة، بل لنحفظ وصية المسيح، حتى لا نفقد كل شيء . والله قادر أن يدفعنا ، وأن يجعلنا أفضل بمعونة ربنا يسوع المسيح الذي يليق به مع الآب والروح القدس المجد والقوة والكرامة والسجود الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور أمين.
- المانويون : هم أتباع الفيلسوف الفارسي ماني 273م وقد إعتقدوا بوجود مبدأيين أزليين للكون وهما غير مخلوقين: النور والظلمة النور هو إله الخير والظلمة هي إله الشر والمادة بحسب رؤيتهم هي ظلمة ، وبناء علي ذلك فهي شر. وبهذا يكون التجسد الإلهي أمر مستحيل، لأن الجسد مادة.
تفسير رسالة العبرانيين 4 | رسالة العبرانيين 5 | تفسير رسالة العبرانيين | تفسير العهد الجديد | تفسير رسالة العبرانيين 6 |
القديس يوحنا ذهبي الفم | ||||
تفاسير عبرانيين 5 | تفاسير رسالة العبرانيين | تفاسير العهد الجديد |