تفسير رسالة العبرانيين أصحاح 6 للقديس يوحنا ذهبي الفم

الأصحاح السادس

العظة التاسعة (عب6: 1-5)

” لذلك ونحن تاركون كلام بَدَاءة المسيح، لنتقدم إلى الكَمَالِ، غَيْرَ وَاضِعِينَ أيضا أساس التوبة من الأعمال الميتة، والإيمان بالله، تعليم المَعْمُودِيَّاتِ، وَوَضَعَ الأيادي، قيامة الأمْوَات، والدينونة الأبدية، وهذا ستفعلة إن أذن الله ” (عب 1:6-3).

1- أسمعتم مقدار الإدانة التي وجهها الرسول بولس إلي العبرانيين، لأنهم أرادوا أن يتعلموا نفس الأمور البدائية بإستمرار؟ وبالصواب قال لأَنَّكُمْ إِذْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونُوا مُعَلِّمِينَ لِسَبَبِ طُولِ الزَّمَانِ تَحْتَاجُونَ أَنْ يُعَلِّمَكُمْ أَحَدٌ مَا هِيَ أَرْكَانُ بدَاءَةِ أَقْوَالِ اللهِ “٢٤٤. لكنني أخشى، ربما هي فرصة يتكلم أحد عنكم بهذه الأمور، لأنه كان ينبغي أن تكونوا معلمين لسبب طول الزمان، لكنكم لم تصلوا حتى إلى مستوى التلاميذ، بل تسمعون دوماً نفس الأمور، وتسلكون بنفس الطريقة تجاه نفس الأشياء، كما لو أنكم لم تسمعوا شيئًا. وإن سألكم أحد، فلن يستطيع أحد منكم أن يُجيب، فيما عدا عدد قليل جدا يمكن إحصاءهم بسهولة. لكن هذه خسارة ليست بالقليلة. لأنه في مرات كثيرة عندما يريد المعلم أن يتقدم للأمام يهتم بالأحاديث الروحية السامية، فإن عدم إنتباه التلاميذ أو غفلتهم لا يترك له مجال لأن يفعل ذلك.

دائما يسمع تماما كما يحدث في حالة معلّمي الحروف الأولى، فلو أن الطفل العناصر الأساسية ولا يحفظها، فيجب أن يُعلّم نفس العناصر لهذا الطفل بإستمرار، ولن يتوقف عن أن يُعلّم. حتى يستطيع المعلم أن يعلمه هذه العناصر بشكل جيد (وإلا سيكون الأمر دليل على غباء شديد أن يقود الطفل لعناصر أخرى، في اللحظة التي فيها لم يضع العناصر السابقة بشكل جيد في ذهن الطفل)، نفس الأمر إذا يحدث في الكنيسة، إن قبلت نفس التعاليم بإستمرار، فلن تتعلموا شيئًا أكثر، ولن أتوقف أبداً عن أن أتكلم بنفس التعاليم. لأنه إن تكلمت لأجل الإستعراض ومحبة المجد، فكان ينبغي أن أقفز (في التعليم) وأن أتقدم، دون أن أهتم أبدا بكم، بل أهتم فقط لتصفيقكم لي (أي أعجابكم بالكلام). لكن لأنني لا أهتم بهذا، بل أفعل كل شيء من أجل فائدتكم، فلن أتوقف أن أكلمكم عن نفس التعاليم حتى تتمكنوا من فهمها وإدراكها. لأنني أستطيع أن أقول الكثير عن الخرافات الوثنية، وعن المانويين، وأتباع ماركيون، وأن أوجه لهم أصابة شديدة، بنعمة الله، لكن ليس هو وقته الآن أن أفعل هذا. فمن جهة هؤلاء الذين لم يعرفوا بعد وبشكل جيد الأمور المختصة بهم، ولم يتعلموا حتى الآن أن الطمع هو شر، فمن سيستطيع أن يتكلم بهذا الكلام (التعليم)، وأن يقودهم إلى تعاليم أخرى قبل الوقت الملائم؟

إذا فأنا لن أتوقف أن أعلم نفس التعاليم سواء إقتنعتم أم لا، لكنني أخشى لربما ونحن نقول نفس التعاليم بإستمرار إن لم تُصغُوا أن أكون سبب في إدانة كبيرة لأولئك الذين لا ينتبهون. لكن لا ينبغي أن أقول هذا للجميع، لأنني أعرف أن كثيرين ينتفعون من دخولهم إلى هنا (الكنيسة)، والذين سيصرخون وبحق ضد أولئك، بأن الضرر سيقع عليهم بسبب جهل هؤلاء وعدم إنتباههم. لكنني أقول ولا هكذا سيتضررون، لأن السماع المستمر لنفس التعاليم هو أمر مفيد لأولئك الذين يعرفونها أيضاً. أي أنه عندما نستمع لما نعرفه مرات عديدة، فإننا نتأثر أكثر. أعني بما أقول الآتي: فنحن نعرف أن التواضع هو أمرًا حسن، وقد تكلّم عنه المسيح مرات عديدة، لكن عندما نسمع لنفس الكلمات وكل ما يتعلق بهذا الموضوع بإنتباه ، نشتهي شيئا أكثر، حتى وإن كنا نسمعها مرات عديدة.

إذا هي الفرصة المناسبة الآن لأن أقول لكم ” لذلك نحن تاركون كلام بداءة المسيح لنتقدم إلى الكمال ” لكن ماذا تعني عبارة “كلام بداءة”، هو نفسه يفسرها، قائلاً غير واضعين أيضًا أساس التوبة من الأعمال الميتة والإيمان بالله. تعليم المعموديات ووضع الأيادي قيامة الأموات والدينونة الأبدية”. لكن إن كان هذا هو بداءة الكلام، فماذا تكون عقيدتنا سوى أن نتوب عن الأعمال الميتة، وأن نؤمن بواسطة الروح، بقيامة الأموات وبالدينونة الأبدية؟ لكن ماذا تعني كلمة “بداءة” لا يقول أنها شيئًا آخر سوى هذا فقط، أقصد عندما لا توجد حياة كاملة. إذا كما أن ذاك الذي يأتي ليتعلم الحروف، يجب عليه أولاً أن يسمع ا العناصر الأساسية، هكذا المسيحي يجب عليه أولاً أن يعرف هذه التعاليم بشكل جيد، وألا يتشكك مطلقاً في هذه التعاليم. لكن إن إحتاج الأمر لتعليم مرة أخرى، فليس هناك أساس. لأن الأساس كان يجب أن يثبت ويتوطد ولا يهتز فإن كان أحد بعد تعاليم الموعظين وبعد معموديته يريد بعد عشر سنوات من ذلك أن يسمع مرة أخرى تعليم عن الإيمان، وأنه ينبغي أن يؤمن بقيامة الأموات، فذاك ليس له أساس بعد، إنه يطلب مرة أخرى التعليم الأساسي عن المسيحية ومن حيث أن الإيمان هو الأساس، وأن الباقي هو البناء، إسمع ذاك الذي يقول ” حَسَبَ نِعْمَةِ اللَّهِ الْمُعْطَاةِ لِي كَبَنَّاء حَكِيمٍ قَدْ وَضَعْتُ أَسَاسًا ، وَآخَرُ يَيْنِي عَلَيْهِ. وَلكِنْ فَلْيَنْظُرْ كُلُّ وَاحِدٍ كَيْفَ يَبْنِي عَلَيْهِ. فَإِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَضَعَ أَسَاسًا آخَرَ غَيْرَ الَّذِي وُضِيعَ الَّذِي هُوَ يَسُوعُ الْمَسِيحُ وَلكِنْ إِنْ كَانَ أَحَدُ يَبْنِي عَلَى هذا الأَسَاسِ: ذَهَبًا، فِضَّةٌ، حِجَارَةً كَرِيمَةٌ، خَشَبا، عُشبا ، قَشاً ” . ومن أجل هذا قال ” غير واضعين أيضا أساس التوبة من الأعمال الميتة “. 

2- ماذا تعني عبارة ” لنتقدم إلى الكمال؟ ” يقول الأتي: لنتقدم نحو القمة ذاتها، أي لنحيا حياة كاملة. أي مثلما في البدايات الأساسية فإن حرف الـ A يضبط كل شيء وأساس لكل البناء، هكذا يقين الإيمان يضبط نقاوة الحياة. وبدون هذا الثبات في الإيمان، فمن غير الممكن أن يوجد مسيحي، مثلما أنه من غير الممكن وجود بناء بدون أساس ولا يمكن للمرء أيضًا أن يعرف الحروف جيدا بدون البدايات الأساسية. لكن لو أن شخص إهتم بالبدايات، أو أن شخص إنشغل بالأساس و لم يصعد إلى البناء، فلن ينال أبدا شيئًا أكثر من هذا، نفس الأمر يحدث معنا نحن أيضا. أي لو أننا بقينا دوماً في فضيلة الإيمان، فلن نصعد أبدا إلى كمال الإيمان.

لكن أنت يجب ألا تعتقد أن الإيمان قد نقص، لأنه دُعي بداءة، خاصة وإن الإيمان هو القوة في كمالها. لأنه عندما يقول “لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَتَنَاوَلُ اللَّبَنَ هُوَ عَديمُ الخبرة فِي كَلاَمِ الْبِرُ لأَنَّهُ طفل” ، لا يدعوها (أي التعاليم الروحية) لبن، لكن أن يتشكك أحد في هذه التعاليم، فهذا دليل على فكر ضعيف روحيا ، ويحتاج إلى كلام أكثر. لأن هذه التعاليم هي العقائد المستقيمة، ونحن ندعوا ذاك الذي ينتهج طريقة حياة صحيحة، علاوة علي إيمانه بأنه كامل. لكن إن كان أحد لديه إيمان ويفعل الشر، ويتشكك من جهة الإيمان ذاته، ويُهين التعليم، فمن المنطق أن نسميه طفل، مادام قد عاد إلى البداية وبناء على ذلك إن كنا نحيا في الإيمان سنوات طويلة، ولكن لسنا ثابتين فيه، فنحن أطفال، حين لا تظهر أسلوب حياة يتفق مع هذا الإيمان حين نبقي في مرحلة وضع الأساس.

هو يدين هؤلاء بسبب سلوكهم، وعدم ثباتهم في الإيمان و أنهم يحتاجون أن يضعوا أساس للتوبة من الأعمال الميتة. لأن مَن يُريد أن ينتقل من وضع متردي إلى آخر أفضل، و يترك هذا الوضع المتردي، ويُفضل الأمر الآخر، يجب أولاً أن يُدين هذا الوضع المتردي و أن يبتعد بإرادته عنه ، ثم بعد ذلك يأتي للأمر الأفضل لكن إن كان ينوي أن يتبع حياته السابقة فكيف سيفعل ما هو أفضل؟ ماذا إذا سنقول عن الناموس؟ ندينه ونعود إليه مرة أخرى. هذا ليس انتقال، لأنه في هذه الحالة أيضاً نسلك بالناموس. يقول الرسول بولس “أفَتُبْطِلُ النَّامُوسَ بِالإِيمَانِ؟ حاشا ! بَلْ نُثَبِّتُ النَّامُوس.  لكن أنا تكلّمت عن الأمور الشريرة. لأن ذاك الذي ينوى أن يسير نحو الفضيلة، عليه أن يدين أولاً الشر، ثم بعد ذلك يمارس الفضيلة، طالما أن التوبة لم تستطع أن تجعلهم أنقياء. و لهذا يُعمدون مباشرة، حتى أنه بنعمة المسيح يفعلون ما لا يستطعون أبدا من القيام به وحدهم. إذًا التوبة غير كافية من أجل النقاوة، لكن يجب أن ينال المرء المعمودية. لكن بالتأكيد يجب أن يأتي إلى المعمودية، بعدما يكون قد أدان قبل ذلك خطاياه و أبتعد عنها. لكن ماذا يعني بقوله ” تعليم المعموديات؟ ” لا لأن المعموديات هي كثيرة، بل هي واحدة. إذا لماذا تكلّم بصيغة الجمع؟ لأنه قال “غير واضعين أساس التوبة” لأنه إن كان قد عمدهم أيضا، ووعظهم من البداية، و إن كانوا أيضا قد تعلّموا تلك الأمور التي ينبغي أن يتعلموها وتلك التي لا ينبغي أن يفعلونها من البداية، لكانوا قد بقوا بلا تغيير أو إصلاح.

ووضع الأيادي”. لأنهم هكذا أخذوا الروح القدس. بقول الكتاب: ” وَلَمَّا وَضَعَ بولس يَدَيْهِ عَلَيْهِمْ حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْهِمْ”. و من التعليم عن ” قيامة الأموات “. لأن هذا يحدث في المعمودية، وفي الإعتراف (إي إعتراف الإيمان) يتأكد. و من التعليم عن ” الدينونة الأبدية “. لكن لماذا يقول هذا الكلام؟ لأنه من المحتمل إما إنهم إهتزوا بعدما آمنوا بالفعل، وإما أنهم عاشوا في حياة الشر واللامبالاة، إذا هو يقول لهم أن يكونوا حذرين. لذلك فهو يقول لهم هذا الكلام لكي يُبعدهم عن اللامبالاة، و لكي يجعلهم أكثر حرصاً. لأنه لا يستطيع المرء أن يقول، إن عشنا الآن في لامبالاة، سنعتمد مرة أخرى، سنتلقى تعليم الموعظين مرة أخرى، و سننال الروح القدس مرةً أخرى، أو يقول إن سقطنا من الإيمان، سنستطيع مرة أخرى بواسطة المعمودية أن نمحوا خطايانا، و تحقق نفس الأمور التي حققناها سابقا. فيقول لهم أنتم تخطئون إن إعتقدتم في هذا.

” لأن الذين استنيرُوا مَرَّةً، وَدَاقُوا المَوْهِبَة السَّمَاوِيَّة وَصَارُوا شُرَكَاءَ الرُّوح القدس، وَدَاقُوا كَلِمَة الله الصالحة وقوات الدهر الآتي، وسقطوا ، لا يُمكن تجديدهم أيضا لِلتَّوْبَة، إذ همْ يَصْلِبُونَ لأنفسهِمُ ابْنَ اللهِ ثانِيَةً وَيَشْهرُونَهُ ” (عب 6: 4-7).

لكن لاحظ كيف أنه يبدأ بتبكيت و منع، إذ يقول لا يمكن”، أي يجب ألا تتوقع بعد ، “ما هو غير ممكن”، بل “ما هو ممكن”، حتى يجعلهم ألا يأملوا في نوال شيئًا آخرًا ، لو أنهم بشكل عام قد إستنيروا مرة.

ثم يُضيف بعد ذلك.” وذاقوا الموهبة السماوية”، أي الغفران. وصاروا شركاء للروح القدس و ذاقوا كلمة الله الصالحة”. هنا هو يقصد التعليم. ” وقوات الدهر الآتي”. أي قوات يقصد؟ إما من يصنعون معجزات و إما عربون الروح. ” وسقطوا لا يمكن تجديدهم أيضًا للتوبة، أي لا يمكن تجديدهم بالتوبة. ماذا إذا؟ هل التوبة غير ممكنة ؟ ليست التوبة هي الغير ممكنة، حاشا ، بل الغير ممكن هو التجديد بواسطة المعمودية مرة أخرى[1]. لأنه لم يقل لا يمكن أن يتجددوا بالتوبة، ثم بعد ذلك صمت، لكن بعدما قال “لا يمكن”، أضاف “إذ هم يصلبون لأنفسهم إبن الله ثانية”. ويقصد بكلمة “تجديد”، أي يصير جديدا. لأن عمل المعمودية هو فقط أن تجعل الناس جدد (تُجدّد حياتهم)، يقول المرنم ” يجدد مثل النسر شبابك” أما عمل التوبة هو أنه يجعل المؤمنين بعدما يصيرون جُدد، ثم بعد ذلك يعودون إلى حالتهم القديمة بسبب الخطايا أن تحررهم من القديم وتجعلهم متجددين مرة أخرى. لكن لا تستطيع أن تقودهم إلى هذا البهاء، لأن العمل كله هنا هو للنعمة.

يقول “إذ هم يصلبون لأنفسهم ابن الله ثانية ويشهرونه”. ما يقوله يعني الآتي: أن الصليب هنا يشير إلى المعمودية، لأن “إنساننا العتيق قد صُلب معه ” ، وأيضا يقول صرنا متحدين معه بشبه موته” ، وأيضا ” فدفنا معه بالمعمودية للموت. إذا كما أنه من غير الممكن أن يُصلب المسيح للمرة الثانية، لأن هذا هو معنى “يشهرونه”، هكذا من غير الممكن أن يُعمد أحد (للمرة الثانية). لأنه إن كان الموت لا يسود عليه بعد إن كان قد قام وصار بالقيامة أقوى من الموت وإن كان بالموت قد هزم الموت، ثم بعد ذلك يُصلب مرة أخرى، فإن كل هذا يكون إسطورة وتشهير. إذا فذاك الذي يعتمد للمرة الثانية، فإنه يصلبه مرةً أخرى.

ماذا يعني بعبارة “يصلبون ثانيةً؟ يعني أنهم يعودون يصلبونه مرة أخري. لأنه كما مات المسيح على الصليب، هكذا نحن أيضا متنا بالمعمودية، ليس بحسب الجسد، لكن من جهة الخطية. لاحظ أنه يتحدث عن موت وموت ، المسيح مات بالجسد، بينما نحن نموت من جهة الخطية. لقد دفن إنساننا العتيق معه في المعمودية، وقام إنساننا الجديد الذي اتحد معه بشبه موته. إذا إن كان هناك إحتياج لأن يعتمد مرةً أخرى، فيكون من اللازم أن يموت، لأن المعمودية ليست سوى موت المعمد وقيامة الإنسان الجديد. وبالصواب قال “يصلبونه ثانيةً. لأن من يصنع هذا ، يكون كما لو أنه قد نسى النعمة السابقة، ويحيا في غفلة، وكما لو أنه توجد معمودية أخرى، هكذا يقترف كل شيء. ومن أجل هذا ينبغي على المرء أن يتيقظ وأن يحتاط.

ماذا يعني بعبارة “وذاقوا الموهبة السماوية؟ يعني بها غفران الخطايا. لأن الله وحده هو الذي يستطيع أن يمنح هذا الغفران والنعمة هي التي تمنح مرة واحدة. “فماذا نقول أنبقى في الخطية لكي تكثر النعمة، حاشا”. لكن إن كنا ننوي أن نخلص دوما بالنعمة، فلن نصير أبدا صالحين أي إن لم نجاهد مع النعمة). لأنه بينما توجد نعمة واحدة، فإننا نحيا في لا مبالاة بصورة كبيرة جدًا ، فهل يا ترى إن عرفنا أنه من الممكن أن تُمحى خطايانا مرة أخرى سنتوقف عن إرتكابنا للخطايا؟ أنا لا أعتقد هذا هنا هو يُظهر أن العطايا كثيرة، ولكي تعلم (مقدار هذه العطايا)، إسمعه، يقول أنك صرت مستحق لغفران غير محدود، أنت يا من كنت تجلس في الظلام يا مَنْ كنت العدو والمقاوم والمستبعد، والكاره لله والهالك. إذا فذاك الذي إستنار فجأةً، وإستحق الروح القدس، وإستحق التبني وملكوت الله والخيرات الأخرى والأسرار الخفية وبالرغم من كل هذا لم يصر أفضل، بل برغم من أنه كان مستحقاً للهلاك، إلا أنه تمتع بالخلاص والكرامة، فكيف سيمكنه أن يعتمد مرة أخرى بعدما نال الأمور العظيمة؟

إذا من خلال طريقين قد قال أن الأمر لا يمكن أن يحدث (أي التجديد للتوبة)، وأشار في النهاية للأمر الأقوى. الطريق الأول، هو أن ذاك الذي تمتع بمثل هذه الخيرات وخان كل العطايا التي صارت له ليس مستحقاً أن يتجدد مرةً أخرى، لأن هذا هو معنى “يشهرونه”. إذا لا توجد معمودية ثانية. لأنه إن كانت هناك معمودية ثانية، ستكون هناك ثالثة ورابعة وستبطل المعمودية اللاحقة وستبطل بالمعمودية التالية لها، ولن يكون هناك نهاية لهذا الأمر. لكنه يقول “وذاقوا كلمة الله الصالحة وقوات الدهر الآتي : هو لا يكشف عن هذا، لكنه يُضمره تقربيًا كما لو أنه يقول الآتي. من جهة أن نحيا كالملائكة، ولا نحتاج شيئًا من الأمور الأرضية، وأن نعرف أن بنوتنا تجعلنا نتمتع بالخيرات العتيدة، وأن نترجى الدخول إلى الأرض الجديدة، فهذه أمور يمكن أن نتعلمها من الروح القدس. وماذا تعني عبارة وقوات الدهر الآتي؟ تعني الحياة الأبدية، والسيرة الملائكية. عربون وضمانة هذه الخيرات ننالها بالروح القدس بواسطة الإيمان. إذا فلتخبرني، لو أنك دخلت إلى قصر وأستأمنوك على كل ما فيه، ثم بعد ذلك خنت كل شيء، فهل يا ترى سيستأمنوك مرة أخرى على ما فيه؟

4- ماذا إذا؟ ألا توجد توبة؟ توجد توبة، لكن لا توجد معمودية ثانية. لكن التوبة تحمل قوة كبيرة أيضاً، وتستطيع أن تُخلص الغارق في خطاياه، من ثقل الخطايا إن إراد ذلك، وتنقذ كل مَنْ هو في خطر، حتى وإن كان قد وصل إلى قاع الشر. وهذا يمكن أن يبرهن عليه المرء من مواضع كثيرة. هكذا يقول الرب “هل يسقطون ولا يقومون أو يرتد أحد ولا يرجع. من الممكن أن يتصور المسيح فينا إن أردنا إسمع الرسول بولس وهو يقول يا أولادي الذين أتمخض بكم أيضا إلى أن يتصور المسيح فيكم ” ، يكفي فقط أن نتوب.

لاحظ إذا محبة الله للبشر. كان ينبغي علي كل الأوجه أن تعاقب منذ البداية، لأنه إن كنا قد أخذنا أو نلنا الناموس الطبيعي وتمتعنا بخيرات لا حصر لها، إلا أننا قد تجاهلنا الرب، وعشنا حياة شريرة. لكن الله ليس فقط لم يعاقبنا، بل أعطانا خيرات لا تُحصى، كما لو أننا قد حققنا إنجازات عظيمة. لكننا سقطنا مرة أخرى، إلا أنه لم يعاقبنا ، بل أعطانا دواء التوبة، القادر يمحو كل خطايانا، يكفي فقط أن نعرف ما هو هذا الدواء، وكيفية استخدامه.

إذا ما هو دواء التوبة وكيف تعده؟ أولاً من إدانة ذواتنا التي إرتكبت الخطايا، ثم الإعتراف بها. يقول المرنم “أعترف لك بخطيتي ولا أكتم إثمي. قُلت أعترف للرب بذنبي وأنت رفعت آثام خطيتي وأيضا ” ذكرني فنتحاكم معا. حدث لكي تتبرر، وأيضاً البار يدين نفسه في دعواه. ثانيًا من الإتضاع الكثير المستمر، لأنه مثل سلسلة ذهب، فإن بدأ (به الإنسان)، فإن كل شيء سيتبعه. بمعنى لو أنك إعترفت بالخطية كما ينبغي لك أن تعترف فإن نفسك تتضع، لأنه حين يتأمل الضمير في الإتضاع بإستمرار فإنه يجعله سيتضع.

لكن يجب أن يُضاف إلى الإتضاع أمور أخرى، لكي يصير كما تمنّى المطوب داود، قائلاً ” قلباً نقياً أخلق في يا الله، وأيضاً “القلب المنكسر والمنسحق يا الله لا تحتقره. لأن الذي إنسحق لا ينهض لا يُقاوم، بل هو مهيء لأن يجوز الألم. هذا هو معنى “القلب المنسحق ، وإن أهين أو أُسيء إليه، يهدأ، ولا يحاول أن يدافع عن نفسه. ومع الإتضاع يحتاج الأمر إلى صلوات مستمرة، ودموع كثيرة نهارا وليلاً. يقول المرنم “أعوم كل ليلة سريري بدموعي أذوب فراشي، وأيضا “إني قد أكلت الرماد مثل الخبز ومزجت شرابي بدموع . وبعد الصلاة المستمرة، يحتاج الأمر لممارسة مكثفة لأعمال الرحمة (البر بالفقراء). لأنه بالحقيقة الشيء القوي الذي يُعدّه دواء التوبة هو البر بالفقراء. وكما في العلاجات الطبية يوجد دواء يحتوي على أعشاب كثيرة، إلا الأكثر أهمية أو فاعلية هو عنصر واحد ، هكذا في التوبة أيضًا الصدقة هي الأهم، ومن الممكن أن تصير قمة كل شيء. إسمع إذا ماذا يقول الكتاب المقدس “أعطوا ما عندكم صدقة فهوذا كل شيء يكون نقيا لكم ” وأيضاً “الصدقة تُنجي من كل خطيئة “. وأيضا “الماء يطفئ النار الملتهبة والصدقة تكفّر الخطايا “. ثم بعد ذلك يشير إلى أن الإنسان يجب أ يغضب ولا أن يكون حافظ للإساءة، وأن يصفح عن خطايا الجميع لأنه يقول ” أيحقد إنسان على إنسان ثم يلتمس من الرب الشفاء” و ” إن غفرتم للناس زلاتهم يغفر لكم أيضاً أبوكم السماوي ” . وأن يُنقذ أخوته من الخداع. لأنه يقول ” متى رجعت ثبت إخوتك، إن فعلت هذا تُغفر لك خطاياك. وأن يتصرف مع الكهنة حسنًا كما يليق. لأنه يقول وإن كان قد فعل خطية تُغفر له”. وأن يهتم بالمظلومين، وألا يغضب، وأن يتحمل كل شيء بوداعة.

5- أليس قبل أن تعرفوا أنه بالتوبة يمكنكم أن تتطهروا ، كنتم تجاهدون عالمين أنه لا توجد معمودية أخرى ولم تيأسوا؟ لكن الآن بعدما عرفنا كل ما تحققه التوبة والغفران، وأنه سيمكننا أن نتجنب كل شيء، إن كنا نرغب في إستخدام التوبة كما ينبغي، فأي صفح يمكن أن نناله في اللحظة التي فيها لا نريد أن نتذكر خطايانا؟ لأنه إن وُجد بالفعل هذا الأمر، فإن كل شيء سيتحقق لنا . تماما مثل الذي يعبر الباب، يكون في الداخل، هكذا الذي يتذكر خطاياه. لأنه إن فكر في خطاياه كل يوم، سيصل في كل الأحوال إلى الشفاء منها. لكن إن قال أنا خاطئ، ولم يقر بخطاياه بشكل منفصل واحدة تلو الأخرى، ولم يقل فعلت هذه الخطية وتلك، فإنه لن يتوقف أبدا أن يعترف بهذه الطريقة على الدوام، وفي نفس الوقت لن يحرص أبدا على تقويم نفسه. لكن إن بدأ في الإقرار بخطاياه، فعلى كل حال ستتبع هذه الخطوة خطوات أخرى. لأن الصعوبة في كل موقف، تتمثل في البداية والخطوات الأولي. لنبدأ إذا هذه الخطوات الأولى، وكل شيء سيكون سهل وممكن.

إذا فلنبدأ ، واحد يكثف من الصلوات وواحد بأن يذرف الدموع بإستمرار وآخر عابس الوجه، لأنه ولا حتى هذا الأمر القليل هو بلا نفع. لأنه يقول ” رأيت طرقه وسأشفيه وأقوده وارد تعزيات له ولنائحيه “. لكن لنتضع جميعًا بممارسة أعمال الرحمة، بأن نغفر خطايا شركاءنا في الإنسانية، وبأن ننسى الإساءة، وبأن لا ننتقم لأنفسنا. إن تذكرنا خطايانا بإستمرار، فلن يستطيع أي شيء من الأشياء الخارجية أن يقودنا إلى التباهي فلا الغنى ولا القوة ولا السلطة، ولا الكرامة، بل وحتى إن جلسنا بعد في عربة ملوكية، سنتنهد بمرارة. لأن المطوب داود كان ملك، وقال “أعوم كل ليلة سريري بدموعي ” ، ولم يتأثر إطلاقا بأي أثر سلبي من الثوب الملوكي الأرجواني ولا من التاج، ولم يتباهى أبدًا بمكانته، لأنه كان يحمل قلبا منسحقا.

إذا ، ما هي هذه الأشياء الإنسانية؟ تراب ورماد، وزغب أمام الريح، ودخان وظلال ورقة تجول هنا وهناك ،وزهر وحلم ،وأسطورة وخرافة، وريح ومجرد نسمة هواء ترحل وتختفي جناح لا يقوى على الطير، نفخة هواء تعبر سريعا، وأي شيء آخر عديم القيمة أكثر تفاهة من هذه الأشياء. أخبرني إذا أي شيء تعتبره هام و ضروري؟ أي مكانة تعتقد أنها الأعظم ؟ هل هي رتبة القنصل ” ؟ لأن الكثيرين يعتقدون أنه لا توجد مكانة أعظم من هذه الرتبة. إذا الأكثر منه أي من القنصل هو ذاك الذي وُجِدَ في بهاء عظيم جدًا، وكان موضع إعجاب شديد، من هو ليس بقنصل، لكنه ليس لديه شيئًا أقل (منه) الواحد والآخر قائم في نفس الرتبة وبعد وقت قليل لن يكونا الاثنين في نفس الرتبة أخبرني متى حدث هذا، وكم من الوقت إستغرق ؟ هل ليومين؟ نفس الأمر يحدث في الأحلام. لكنه يقول، هذا حلم. وما أهمية هذا؟ هل ما يحدث في النهار ليس حلم؟ أخبرني لأي سبب 1 نقول عن هذه الأمور أنها حلم؟ لأنه مثل الأحلام عندما يأتي النهار، تظهر أنها لم تكن شيئًا، هكذا هذه الأمور العالمية عندما يأتي المساء تظهر كلا شيء. لأن الليل والنهار أقتسما كل الوقت بالتساوي أيضًا. إذا مثلما لا يفرح المرء خلال فترة النهار بكل ما حدث بالليل هكذا لن يكون من الممكن أن يتمتع بالليل بكل ما حدث بالنهار.

هل صرت قنصلا؟ فقد صرت أنا أيضًا. لكن أنت بالنهار وأنا بالليل وما معنى هذا؟ معناه أنك لا تملك شيئًا أكثر مني، فيما عدا أنه يُقال عن فلان أنه قنصل والسعادة التي تشعر بها من الكلام تجعلك تملك شيئًا أكثر، أقصد إن تكلّمت، وقلت أن فلان هو قنصل، ولو منحت أنا هذا اللقب بالكلام، ألا يُقال وفي نفس الوقت يفقد؟ هكذا الأمور الإنسانية أيضًا الواضح أنه قنصل، لكنه لن يكون هكذا بعد قليل. لكن لنفترض أنه قنصل لسنة وسنتين وثلاثة وأربعة سنوات. فأين هم هؤلاء العشرة أشخاص الذين صاروا قناصل؟ لا وجود لهم. لكن الرسول بولس ليس هكذا لأنه حين كان على قيد الحياة كان في بهاء بإستمرار، ليس ليوم ولا لأثنين، ولا لعشرة ولا لعشرين ولا لثلاثين يوما ، ولا لعشرة أو عشرين أو ثلاثين سنة ، لكن منذ أن رقد مرّ حوالي أربعمائة عام، ولا زال حتى اليوم أكثر بهاء، بل هو الآن مشرق جدًا، أكثر مما كان عليه وهو على قيد الحياة. وهذه الأمور بالطبع تحدث على الأرض لكن أي كلام سيستطيع أن يعبر عن بهاء القديسين في السموات؟ 

من أجل هذا أترجاكم، أن نطلب هذا البهاء، وليكن هذا هدفنا، حتى نناله، لأن هذا هو البهاء الحقيقي لنبتعد – إذن – عن الإنشغال بالأمور المعيشية، لكي نجد نعمة ورحمة بمعونة ربنا يسوع المسيح الذي يليق به مع الآب والروح القدس المجد والقوة والكرامة والسجود الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور آمين.

العظة العاشرة (عب6: 7-12)

“لأن أرضا قد شربت المطر الآتي عليها مرارًا كثيرة وأنتجت عشبا صالحا للذين فلحت من أجلهم تنال بركة من الله” (عب 6: 7)

1- لنستمع لكلام الله بمخافة، بخوف ورعدة. يقول المرنم “أعبدوا الرب بخوف واهتفوا برعدة”. لكن إن كان فرحنا وهتافنا يجب أن يكون برعدة، حين يكون الكلام مخيف، مثل الكلام الحالي، فأي عقاب سنكون مستحقين له، إن لم نلاحظ هذه الأقوال برعدة ؟ فبعدما قال الذين سقطوا لا يمكن أن يعتمدوا للمرة الثانية، ولن ينالوا غفران الخطايا مرة أخرى، وبعدما أظهر كم هو مخيف هذا الأمر، أضاف “لأن أرضا قد شربت المطر الآتي عليها مرارا كثيرة وأنتجت عشبا صالحًا للذين فلحت من أجلهم تنال بركة من الله ولكن إن أخرجت شوكا وحسكًا فهي مرفوضة وقريبة من اللعنة التي نهايتها للحريق”.

إذا لنخف أيها الأحباء. هذا التهديد ليس من الرسول بولس، هذا الكلام ليس من إنسان، بل هو من الروح القدس من المسيح الذي يتكلم من خلال بولس. ترى مَنْ هو نقي من هذه الأشواك؟ حتى وإن كنا بعد أنقياء، فلا ينبغي أن تكون لنا شجاعة أو جرأة، بل يجب أن نخاف ونرتعد لربما تنبت داخلنا أشواك. لكن حين نكون جميعنا بالكامل شوكاً وحسكاً، من أين تكون لنا الجرأة، أخبرني، وما الذي جعلنا أن نبقى في لا مبالاة ؟ ما الذي يجعلنا خاملين؟ فإن ذاك الذي يعتقد أنه قائم، ينبغي عليه أن يخاف ربما يسقط، لأن الرسول بولس يقول ” من يظن أنه قائم فلينظر أن لا يسقط ” ، فكم بالحري الذي سقط، ينبغي عليه أن يعتني بنفسه حتى يقوم؟ فإن كان الرسول بولس يخشى ربما بعدما ” كرز للآخرين، يصير هو نفسه مرفوضاً ” ، ذاك الذي كان مُختبر للغاية، يخشى أن يصير مرفوضاً، أما نحن الذين صرنا بالفعل مستحقين للطرد أي دفاع سيكون لنا، عندما لا نحيا في خوف فقط تتمم المراسم الدينية ونخلص لها علي سبيل العادة لا أكثر؟ إذا أيها الأحباء لنخف. “لأن غضب الله مُعلن من السماء” . لنخف، لأن هذا الغضب ليس فقط هو مُعلن ضد الفجور، بل وضد كل عمل ظالم، سواء كان صغيراً أو كبيرًا.

هنا هو يُشير إلى محبة الله للبشر. أما المطر فهو يشير إلى التعليم. وكما قال سابقاً ” كان ينبغي أن تكونوا معلمين بسبب طول الزمان”، نفس الأمر يقوله هنا أيضا، والكتاب يتحدث عن التعليم في مواضع كثيرة بكلمة المطر، يقول ” وأوصى الغيم أن لا يمطر عليه مطرًا “، متحدثا عن بُستان الله نفس الأمر نجده في موضع آخر حيث يدعو (التعليم) بالجوع بسبب نقص الخبز، وبالعطش بسبب نقص الماء. وفي موضع آخر يقول : ” سواقي الله ملأنة ماء”. لأنه يقول ” لأن أرضا قد شربت المطر الآتي عليها مرارا كثيرة. هنا يُظهر أنهم قبلوا الكلمة مرات عديدة بخمول، لكنهم ولا هكذا قد إنتفعوا فإن لم تكن قد فلحت، وإن لم تكن قد قبلت المطر، ما كان للشر أن يكون كبيرًا بهذا القدر، لأنه يقول: “لو لم أكن قد جئت وكلمتهم لم تكن لهم خطية ، لكن إن كنت قد شربت، وقبلت (المطر) مرات كثيرة ، فلأي سبب تُثمر أشياء أخرى بدلاً من أن تُنتج ثمارًا جيدة؟ لأن الكتاب يقول “فأنتظر أن يصنع عنبا فصنع عنبا رديًا”.

أرأيت أن الكتاب يدعو الخطايا بالأشواك؟ لأن داود يقول أيضا ” تحولت رطوبتي إلى يبوسة القيظ “. وهذه اليبوسة أو الشوكة لم تأت فقط، بل تسمرت. وإن كان هناك جزء من الشوكة لا زال باقيًا بعد ولم نخرج الشوكة كاملة، فإن هذا الجزء يؤلمنا تماماً مثل الشوكة بكاملها. ولماذا أتكلم عن هذا الجزء الصغير؟ لأنه بعدما نخرجه يبقى ألم الجرح لمدة طويلة بعد. ولهذا يحتاج الجرح لعلاج وإهتمام شديد حتى تشفى منه تماما. لأنه لا يكفي فقط، أن تبيد الخطية، بل يجب أن نعالج مكان الجرح.

لكنني أخشى لربما يكون الكلام موجه لنا نحن أكثر منه لآخرين، أي “أرضا قد شربت المطر الآتي عليها مرارا كثيرة”. لأننا بإستمرار نشرب، بإستمرار نسمع، لكن نفقد ندى الفجر عندما تشرق الشمس، ولهذا تخرج أشواك. ليتنا نسمع المسيح الذي يقول أن “الذي سقط بين الشوك هم الذين يسمعون ثم يذهبون فيختنقون من هموم الحياة وغناها ولذاتها ولا ينضجون ثمرًا . لأن الرسول بولس يقول لأن أرضًا قد شربت المطر الآتي عليها مرارا كثيرة وأنتجت عشبا صالحا “.

2. لا يوجد أمرًا نافعًا بهذا المقدار الكبير، بقدر الحياة النقية، ولا أمرًا متوافقاً ومتوازنا ، مثل طريقة الحياة الفاضلة، لا شيء نافع بهذا القدر، مثل الفضيلة. يقول ” أنتجت عشبا صالحًا للذين فلحت من أجلهم تنال بركة من الله ” . . هو هنا يقول إن الله هو المسبب لكل الأشياء، فيضرب اليونانيين رويداً رويدا الذين يعللون إنتاج الثمار لقوة الأرض. إذ يقول ليست أيدي الفلاحين هي التي تجعل الأرض تثمر، بل أمر الله. ولهذا يقول ” تنال بركة الله ولاحظ أنه لم يقل عن الشوك “تُنتج شوكاً”، ولم يستخدم هذه الكلمة النافعة، لكن ماذا قال؟ قال ” أخرجت شوكا “. كما يمكن للمرء أن يقول، أنبتت أو أخرجت. 

ثم يقول ” ولكن إن أخرجت شوكا وحسكًا فهي مرفوضة وقريبة من اللعنة” (عب 6: 8).

يا للعجب! كم يحمل هذا الكلام من تعزية قال قريبة من اللعنة، وليست اللعنة تحل عليها لأن ذاك الذي لم يسقط بعد في اللعنة، بل كان قريب منها ، سيمكنه أن يبتعد عنها. وهو لم يُعزهم فقط بهذا الكلام، بل وبالكلام اللاحق. لأنه لم يقل أنها مرفوضة وأن اللعنة ستسقط عليها وستحترق، لكن ماذا قال؟ قال ” نهايتها للحريق”. إنه يظهر بهذا ، أن الأرض التي تبقى هكذا حتى النهاية، ستؤول إلى هذه المآل (الحريق) حتى أننا إن اقتلعنا الأشواك وحرقناها، سيمكننا أن نتمتع بخيرات لا تُحصى ونصير أهلاً لقبول البركة. وبالصواب دعى الخطية شوكا، قائلاً ولكن إن أخرجت شوكا وحسكًا”، لأنه من أي مكان تمسكه، يجرح وينهش، وهو بشع في رؤيته.

إذا بعدما أدانهم بقدر كاف ، وأخافهم، وأصابهم ، عالجهم مرة أخرى، حتى لا يُحبطهم بالأكثر ، ويجعلهم متوانين لأن ذاك الخامل الذي يهاجمه، يجعله أكثر خمولاً . ولا يُداهنهم تماماً، حتى لا يرفعهم، ولا يهاجمهم بشدة، حتى لا يجعلهم أكثر توان، لكنه بعدما يصيبهم لوقت قليل يعالجهم بما فيه الكفاية بالكلام اللاحق، حتى يحقق ما يريده إذا ماذا يقول؟ يقول :

” ولكننا قد تيقنا من جهتكم أيها الأحباء أمورًا أفضل ومختصة بالخلاص” (عب 6: 9) .

أي أننا لا نقول هذا الكلام، لأننا نريد أن ننتقدكم أو نلوكم، ولا لأننا نعتبركم مملؤين بالأشواك، لكننا نتكلم هكذا لأننا نخشى ربما يحدث هذا ، أي من الأفضل أن أُخيفكم بالكلام، حتى لا تحزنوا. وهذا يُظهر إلى حد بعيد جدا تعقل الرسول بولس. فهو لم يقل “أعتقد” ولا “استنتج” ولا “أتمنى” ولا “اترجى”، لكن ماذا قال؟ قال قد تيقنا”. نفس الأمر قد قاله عندما كتب إلى أهل غلاطية، قال ” ولكنني أثق بكم في الرب أنكم سوف لا تفتكرون شيئا آخر “. لم يقل “تفتكرون شيئًا آخر”، بل قال “لا تفتكرون شيئا آخر”. ولأنه قد انتقدهم هناك بشدة، ولم يستطع أن يمتدحهم عن الأمور الحاضرة، لكنه يمتدحهم فيما يختص بالأمور المستقبلية، قائلاً ” سوف لا تفتكرون شيئًا آخر. لكنه هنا يمتدحهم عن الأمور الحاضرة، إذ يقول ” ولكننا قد تيقنا من جهتكم أيها الأحباء أمورًا أفضل ومختصة بالخلاص”. ولأنه لم يستطع أن يقول الكثير فيما يختص بالأمور الحاضرة، يعزيهم من خلال الأمور المرتبطة بالماضي، إذ يقول

“لأن الله ليس بظالم حتى ينسى عملكم وتعب المحبة التي أظهرتموها نحو أسمه إذ قد خدمتم القديسين وتخدمونهم” (عب 6: 10).

ياللعجب! كيف شدّد وقوّى نفوسهم، مذكرا إياهم بالأمور القديمة وألزمهم بألا يعتقدوا أن الله قد نساهم لأنه لا مناص من إرتكاب الخطية لذاك الذي . غير متأكد من دينونة الله العادلة ومجازاته وفقا لما إقترفه كل واحد في حياته، وسيقول إن الله ظالم وبناء على ذلك ألزمهم أن ينتظروا خيرات الدهر الآتي على كل حال، لأنه من خلال الحديث عن أمور الدهر الآتي سيمكن للمرء أن يُشدد ذاك الذي أصابه اليأس من الأمور الحاضرة وضجر نفس الأمر كتبه الرسول بولس في رسالته إلى أهل غلاطية، وقال ” كنتم تسعون حسنًا فَمَنْ صدكم وأيضا “أهذا المقدار احتملتم عبثًا إن كان عبثاً. تماما مثلما يتكلم هنا، يذكر المديح لكن بلوم، قائلاً : ” كان ينبغي أن تكونوا معلمين لسبب طول الزمان هكذا يقول هناك ( في رسالته إلى أهل غلاطية) “أنكم تنتقلون هكذا سريعًا ” المديح يصاحبه دهشة. لأننا نتعجب عندما يسقط العظماء. 

أرأيت أن المديح مغلف بالإدانة؟ وهو لا يتكلم عن نفسه فقط، بل يتكلم بإسم الجميع، لأنه لم يقل “قد تيقنت”، بل قال ” قد تيقنا من جهتكم… أمورًا أفضل” أي أمورًا حسنة وهو يقول هذه الأمور إما لأجل (مدح) سلوكهم، أو لأجل المكافأة التي (سينالونها). وبعدما تكلّم في الجزء السابق عن الأرض التي أخرجت شوكا وحسكاً) أنها مرفوضة وقريبة من اللعنة التي نهايتها الحريق”، ولكي لا يظهر أنه يتكلم عن هؤلاء، أضاف على الفور ” لأن الله ليس بظالم حتى ينسى عملكم وتعب المحبة”، معلنا بهذا، أنه وإن كنا نتكلم بهذا الأسلوب، إلا أننا لا نتكلم بهذه الأمور عنكم على كل الأحوال. لكن إن كنت لا تقول هذا الكلام عنا، فلماذا تُديننا داعيًا إيانا كسالى وتُخيفنا، وتذكر الأشواك؟ لأنه يقول

” ولكننا نشتهي أن كل واحد منكم يظهر هذا الإجتهاد عينه ليقين الرجاء إلى النهاية. لكي لا تكونوا متباطئين بل متمثلين بالذين بالإيمان والأناة يرثون المواعيد” (عب 6: 11-12).

3. يقول “نشتهي”. لا نريد لهذه الرغبة ) أن تصل فقط لمستوى الكلام. لكن قل ماذا نشتهي نشتهي أن تتبعوا الفضيلة، لا لأننا ندين الأمور السابقة، بل لأننا نخاف بشأن الأمور المستقبلية. ولم يقل، لا لأننا لدين الأمور السابقة، بل الحاضرة، لأنه قد أصابكم الشلل، وصرتم خاملين. بل لاحظ كيف أنه لم يؤنبهم بل أظهر لهم ودا ومحبة. إذا ماذا قال؟ قال

” لكننا نشتهي أن كل واحد منكم يظهر هذا الاجتهاد عينه ليقين الرجاء إلى النهاية” (عب 6: 11) .

لأن هذا هو ما يستحق الإعجاب في حكمة بولس أي أنه لم يظهر كيف أنهم تقاعسوا ، وكيف تراجعوا لأن هذا هو معنى قوله : نشتهي أن كل واحد”، مثلما يمكن للمرء أن يقول، أريد أن تحاول دوماً مهما كنت في السابق. هكذا، تكون الآن وفي المستقبل أيضًا هذا إذا جعل التبكيت أكثر رقة، وأكثر قبولاً بارتياح. ولم يقل “أريد”، الأمر الذي سيكون دليل على صحة التعليم، بل قال “نشتهي”، والذي كان دليل على حنو أبوي، وأقوى من كلمة أريد كأنه يقول لهم أغفروا لنا حتى وإن تكلّمنا بكلام صعب. ولكننا نشتهي أن كل واحد منكم يظهر هذا الاجتهاد عينه ليقين الرجاء إلى النهاية”.

ماذا يعني بهذا الكلام؟ يقول أن الرجاء يسند ويشجع أيضا، حتى لا تنهزموا، ولا تيأسوا لكي لا يكون رجائكم نافلاً، لأن كل من يعمل الصلاح، هذا يترجى الخيرات، ولن ييأس أبدا.

” لكي لا تكونوا متباطئين” (عب 6: 12).

لكي لا تبقوا خاملين. لكنه قال قبلاً ” إذ قد صرتم متباطئ المسامع ٢٩٠. لكن لاحظ كيف أن هناك قد توقف في موضوع التباطئ أو الخمول عند السمع، بينما هنا برغم أنه يقول نفس الشيء تقريباً، يشير إلى شيء آخر. أي أنه بدلاً من أن يقول، حتى لا تبقوا في غفلة، قال “لكي لا تكونوا متباطئين”. أيضا يقودهم إلى الزمن المستقبلي الخالي الهموم، قائلاً : ” لكي لا تكونوا متباطئين”. وطالما أن ذلك الزمن ليس هو الآن، ولن نكون مسئولين ( عن شيء). لأن ذاك الذي يشعر بأنه يلاحظ نفسه في الحاضر، لأنه غير مبالي بالمستقبل، ربما يصير أكثر تباطيء، بينما ذاك الذي يشعر بأنه يلاحظ نفسه لأجل حياة الدهر الآتي، لن يكون متباطئ.

يقول ” ولكننا نشتهي أن كل واحد منكم”. يا لعظمة حنو الرسول بولس، إنه يعتني بنفس الشيء للكبار وللصغار للعظماء وللبسطاء، ويعرفهم جميعا، ولا يحتقر أي أحد، بل يظهر نفس الإهتمام لكل أحد ، ونفس الكرامة تجاه الجميع. ولهذا فقد أقنعهم بالأكثر أن يقبلوا كلامه الذي قد يبدو) ثقيلاً. يقول “لكي لا تكونوا متباطئين”. لأنه مثلما أن الخمول يضر بالجسد ، هكذا فإن الخمول في ممارسة الصلاح يجعل النفس أكثر تباطئ وضعيفة. ” بل متمثلين بالذين بالإيمان والأناة يرثون المواعيد “. ومن هم هؤلاء الذين يتكلم عنهم بعد ذلك. فيما سبق قال ، ” تذكروا الأيام السالفة”، بعد ذلك لكي لا يقولوا، وما هي هذه الأيام، يُحيلهم إلي أبو الآباء (أي إبراهيم)، حاملاً لهؤلاء الأمثلة أو النماذج للإنجازات التي تحققت من الآباء، وبينما اعتقدوا أنهم تركوا ، فإنه يتكلم بهذا، لكي لا يقولوا أنهم تركوا ، لأنهم أُحتقروا كأناس غير مستحقين على الإطلاق، ولكي يستطيعوا أن يعرفوا أن ملمح الرجال الشجعان هو أن يحيوا في داخل التجارب، وأن الله يتعامل هكذا تجاه الرجال المدهشين والعظماء.

لكن يجب، كما يقول، أن يتحمل المرء كل الأمور بصبر، لأن هذا هو معنى أن يؤمن أحد. لكن لو أنه يقول إنني أعطى، وأنت تأخذ على الفور، فلماذا تؤمن؟ هذا الأمر لا يتعلق بإيمانك، بل بي أنا الذي أتممت الوعد أولاً وأعطيته. لكن إن قلت أنني أعطي وأعطيت بعد مائة عام، فلا تيأس لأنه حينئذ تكون قد إعتبرتني موضع تصديق، وستحمل لي رؤية لائقة. أرأيت كيف أن عدم الإيمان في مرات كثيرة، يحدث ليس فقط بسبب غياب الرجاء، بل أيضًا بسبب صغر النفس وغياب الصبر، وليس بسبب ذاك الذي وعد؟

يقول ” لأن الله ليس بظالم حتى ينسى عملكم وتعب المحبة التي أظهرتموها نحو اسمه إذ قد خدمتم القديسين وتخدمونهم”. إنه يشهد لهؤلاء بأمور عظيمة، ليس فقط بأعمال، بل بأعمال قد تمت بصبر هذا ما قاله في موضع آخر ” وليس كما رجونا بل أعطوا أنفسهم أولاً للرب ولنا “. وهنا يقول “أظهرتموها نحو اسمه إذ قد خدمتم القديسين وتخدمونهم” لاحظ كيف يُعالجهم أيضًا فيضيف قائلاً ” وتخدمون”. بل والآن يقول “تخدمون” مُرّفعًا هؤلاء، ومُظهرًا أنهم لم يفعلوا هذا للقديسين، بل لله “التي أظهرتموها” ليس فقط للقديسين، بل لله، لأن هذا هو معنى “نحو إسمه. كما لو أنه قال لأجل إسمه فعلتم كل شيء. لكن ذاك الذي تمتع بكل هذا الإهتمام من قبلكم وكل هذه المحبة لن يزدري بكم ولن ينساكم.

4. ونحن نسمع تلك الأمور، أترجاكم، لنخدم ،القديسين، لأن كل مؤمن هو قديس ما دام هو مؤمن. وإن كان أحد علماني، هو قديس. ” لأن الرجل غير المؤمن مقدس في المرأة والمرأة غير المؤمنة مقدسة في الرجل”. لاحظ كيف أن القداسة يصنعها الإيمان. إذا إن رأينا شخص علماني في موقف صعب، فلنمد له يد المساعدة، ينبغي ألا نهتم فقط بأولئك الذين يعيشون في البراري. لأن هؤلاء (النساك) هم قديسون في الحياة وفي الإيمان، بينما العلمانيون هم قديسون في الإيمان، لكن الكثيرون قديسون في الحياة فقط. فالأمر ليس هكذا، عندما نرى راهب في محبسه حينئذ ،نزوره وعندما نرى علماني يجوز صعوبات، فلا نقوم بزيارته. فهذا العلماني هو قديس وأخ. ماذا إذا هل ندينه) لأنه غير نقي ودنس؟ اسمع المسيح عندما يقول “لا” تدينوا لكي لا تُدانوا “. فلتفعل أنت هذا لأجل الله. وماذا أقول؟ بل وإن رأينا وثني يجتاز صعوبة فيجب أن تحسن إليه، وبشكل عام يجب أن تحسن لكل إنسان يجوز موقف صعب، لكن بالأكثر جدا حين يكون علماني مؤمن. إسمع الرسول بولس الذي يقول “فإذا حسبما لنا فرصة فلنعمل الخير للجميع ولا سيما لأهل الإيمان.

لكن لا أعرف من أين دخل إلينا هذا الفكر، وكيف سادت هذه العادة لأن هناك من يبحث عن النساك الذين يعيشون في وحدة ويريد أن يُحسن إليهم فقط. بل وهؤلاء أيضا يفحصهم بدقة ويقول إن لم يكن مستحق، وإن لم يكن بار، وإن لم يكن قد صنع معجزات فلن أساعده. أنت بذلك تكون قد هدمت الجزء الأكبر من عمل ،الرحمة والباقي ستهدمه أيضًا مع مرور الوقت. وإن كان أن يتجه عمل الرحمة أيضًا إلى الخطاة والمذنبين لأن عمل الرحمة يعني أن يمارسه الإنسان ليس تجاه أولئك الذين عاشوا بالفضيلة، بل تجاه أولئك الذين عاشوا في يجب الخطية.

ولكي تعرف هذا اسمع ماذا يقول المسيح بالمثل. ” إنسان كان نازلاً من أورشليم إلى أريحا فوقع بين لصوص ” . هؤلاء اللصوص تركوه على جانب الطريق بين حي وميت ومصادفة عبر من هذا الطريق لاوي، ورغم أنه رآه، فقد أشاح بوجهه عنه ومضى ونفس الشئ حدث مع كاهن (نزل في تلك الطريق) رآه وجاز مقابله وتركه. وفي النهاية عَبَر سامري فأعتنى به بشكل فائق ضمد جراحاته وصب عليها زيتا وأركبه على دابته وأتى به إلى فندق، وقال لصاحب الفندق “اعتن به “. ولاحظ سخاءه الكبير، إذ يقول ” ومهما أنفقت أكثر عند رجوعي أوفيك”. ثم يتساءل المسيح له المجد ” فأي هؤلاء الثلاثة ترى صار قريبا؟” وعندما قال له الناموسي ” الذي صنع معه الرحمة” قال له يسوع: ” اذهب أنت أيضا واصنع هكذا “. ولاحظ أي مثل قاله لم يقل إن يهودي صنع بسامري، بل قال إن سامري أظهر كل هذا السخاء. من هذا المثل نتعلم أن نعتني بالجميع بنفس القدر، وليس فقط نهتم بأهل الإيمان، ثم لا نبالي بالغرباء، بل نهتم بالجميع.

 إذا هكذا أنت أيضا، إن رأيت شخص يتألم ، لا تفحصه مطلقاً، إذ هو مستحق لمساعدتك، لأنه يتألم. فإن رأيت حمار يُشرف علي الغرق، فإنك ترفعه، ولا تبحث عن صاحب هذا الحمار ، وبالأكثر جدا لا ينبغي أن تبحث عن إنتماء هذا الإنسان لمن يكون ، لأنه ينتمي إلى الله، سواء كان وثني أو يهودي. لأنه حتى وإن كان ملحداً، يحتاج إلى مساعدة. وإن كان بالطبع حالته تسمح لك أن تفحصه وأن تحكم عليه، حسنًا فلتتكلم بهذه الأمور. لكن الآن الكارثة لن تتركك أن تبحث في هذه الأمور. لأنه إن كان لا يجب أن يتفحص أحد الأصحاء، وأن لا يفحص كثيرًا أمور الآخرين، فبالأكثر جدا لا يجب أن يفحص مَنْ يتألمون. فضلاً عن ذلك ماذا تقول عنه ؟ هل رأيته في رخاء أو رفاهية أو أنه يتقدم في رقي، ولهذا تقول إنه شرير ودنيء؟ إنه يتعذب ويُعاني، لكن إن رأيته وهو يتألم، فيجب ألا تقول إنه شرير. إذا عندما يعيش في رخاء، حسنًا نتكلم بتلك الأمور، لكن عندما يجتاز في كارثة ولديه احتياج لمساعدة، لا ينبغي أن نقول إنه شرير (أي بسبب شره يجوز هذه الكارثة). لأن هذا برهان على القسوة والوحشية، والتباهي.

أخبرني هل وجد ما هو أكثر ظلماً من اليهود ؟ لكن الله عاقبهم بعدل وحسنًا بعدل شديد جدا ، لقد قبل أولئك الذين عانوا معهم، بينما عاقب كل من ابتهجوا معهم. يقول الكتاب : ” ولا يغتمون على انسحاق يوسف “، وأيضا يقول ” انقذ المنقادين إلى الموت ولا تحزن على المال . لم يقل أن تفحص وأن تعلم من هو (وإن كان كل من ينقادون إلى الإعدام هم أشرار للغاية)، لكنه قال فقط أن تُنقذ” أيا كان مَنْ هو. لأن هذه هي الرحمة بشكل أساسي. أي أن مَن يُحسين إلى صديق هو على كل حال لا يصنع الإحسان لله بينما ذاك الذي يُحسين لشخص مجهول لا يعرفه، هو يفعل هذا بوضوح لله. يقول النبي ” لا تحزن على المال”، بل حتى وإن احتاج الأمر أن تنفق كل الأموال فلتعطها. لكن نحن إن رأينا أناس يتعذبون، ينوحون، ويعانون بصورة أسوء من ميتات لا حصر لها ، بل ومرات كثيرة يحدث هذا بظلم، فإننا نحزن على المال ولا نحزن على الأخوة، نعتني بالأشياء المادية التي لا نفس لها ، ولا نبالي بالنفس الإنسانية.

لكن الرسول بولس يحثنا أن نعلم المقاومين بنية خالصة، ربما كما يقول “أن يعطيهم الله توبة لمعرفة الحق فيستفيقوا من فخ إبليس إذ قد اقتنصهم لإرادته يقول “عسى أن أرأيت مقدار الصبر الذي تحتويه الكلمة؟ فلنتشبه نحن أيضاً بالقديس بولس وألا نيأس لأن الصيادين أيضًا ألقوا السنارة في البحر مرات كثيرة، ولم يصطادوا سمك، لكن عندما ألقوها فيما بعد تمتعوا بصيد وفير. هكذا أنا أيضًا لا أُصاب باليأس، بل أنتظر أن يُقدم لي كل الثمر الناضج معا. لأن الفلاح أيضًا عندما ينثر البذور ينتظر اليوم الأول والثاني ويصبر لوقت طويل، ثم بعد ذلك يرى الثمار كلها معا وهى تزهر من كل موضع.

هذا ما أنتظر أن يحدث معكم بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي يليق به مع الآب والروح القدس المجد والقوة والكرامة الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور آمين.

العظة الحادية عشر (عب6: 13-20)

” فإنه لما وعد الله إبراهيم إذ لم يكن له أعظم يقسم به أقسم بنفسه. قائلا إني لأباركنك بركة وأكثرنك تكثيرا وهكذا إذ تأني نال الموعد. فإن الناس يقسمون بالأعظم ونهاية كل مشاجرة عندهم لأجل التثبيت هي الـ القسم ” (عب 6: 13-16).

1- بعدما أنّب العبرانيين بشدة، وبعدما أخافهم بما فيه الكفاية، بدأ يعزيهم بالمديح، وبأنهم سيحققون رجائهم على كل الأحوال، الأمر الذي يُعد أكثر قوة (من المديح). لكنه لا يعزيهم من خلال الأمور الحاضرة بل ومن خلال الأمور الماضية أيضاً. وهذا قد أقنعهم بالأكثر أي مثلما أنه في الدينونة قد أخافهم بالأكثر بتلك الأمور الخاصة بالعذابات)، هكذا في المكافآت يُعزيهم بهذه (أي بالمديح وتحقيق رجائهم، مُظهرًا ماهية العُرف الإلهي. وهذا العرف هو ألا يعطي الوعود مباشرة، بل بعد وقت طويل. وهو يفعل هذا ، ويظهر أعظم برهان على قوته، ويقودنا إلى الإيمان، حتى إن كان كل الذين يجوزون ضيقات ولم يتمتعوا بالوعود ولا بالمكافآت أن لا يُصابوا بالضجر بسبب أتعابهم. وبعدما تركهم جميعًا ، برغم من أنه كان في مقدوره أن يذكرهم كلهم إلا أنه أشار إلى إبراهيم، بسبب استحقاقه الشخصي، وبسبب أن في شخصه قد تحقق هذا انتظار الوعد).

لما وعد وإن كان بالطبع في نهاية الرسالة يقول إن كل هؤلاء الذين عاشوا بالإيمان) بعدما نظروا المواعيد من بعيد ،وحيوها، لم ينالوها حتى لا يكملوا بدوننا. يقول الله إبراهيم إذ لم يكن له أعظم يقسم به أقسم بنفسه. قائلاً إني لأباركنك بركة وأكثرنك تكثيرًا وهكذا إذ تأنى نال الموعد”. إذا كيف يقول (في نهاية الرسالة) إنهم لم ينالوا المواعيد ؟ وكيف تحققت هذه المواعيد؟ لم يتكلم عن نفس الأمور هنا وهناك أي في القديم، لكنه عزاهم مرتين وعد الله إبراهيم”. وما تحقق هنا، قد أعطاه الله له بعد زمن طويل، بينما في القديم لم يكن قد تحقق بعد ” وهكذا إذ تأني نال الموعد “.

أرأيت أن الوعد وحده لم يفعل كل شيء، بل والتأني أيضا؟ هنا (في الرسالة) يُخيفهم، مظهرًا أنه في مرات كثيرة يُعاق الوعد بسبب صغر النفس. وهذا قد برهن عليه من خلال الشعب، لأنهم أُصيبوا بصغر النفس، لذلك لم ينالوا الوعد مطلقا، بينما أظهر العكس مع إبراهيم. ثم بعد ذلك في نهاية الرسالة، يفعل شيئًا أكثر. يُظهر كيف أنهم وإن كانوا قد تأنوا، لم ينالوا المواعيد، لكنهم ولا هكذا قد تضايقوا.

” فإن الناس يقسمون بالأعظم ونهاية كل مشاجرة عندهم لأجل التثبيت هي القسم. لكن الله إذ لم يكن له أعظم يقسم به أقسم بنفسه” هذا صواب. إذا مَنْ هو ذاك الذي أقسم لإبراهيم؟ أليس هو الابن؟ يقول لا . وكيف تقول هذا؟ فمن جهة أن هذا (القسم) يقوله الابن، فهذا لا أشك فيه. فعندما يقسم الابن نفس القسم ويقول ” الحق الحق أقول لكم، ألا يتضح أنه يقسم هكذا، لأنه ليس له أعظم يقسم به؟ وكما أقسم الآب، هكذا يُقسم الابن أيضًا بنفسه، قائلاً ” الحق الحق أقول لكم”. هنا هو يُذكرهم بالقسم الذي للمسيح الذي كان يقوله باستمرار ” الحق الحق أقول لكم من آمن بي ولو مات فسيحيا”.

ما معنى ” ونهاية كل مشاجرة عندهم لأجل التثبيت هي القسم “؟ معناها أنه بدلاً من أن يقول إنه بالقسم تنقضي الشكوك المثيرة للمشاجرة، فإنه لم يقل هذا ولا ذلك، بل قال كل مشاجرة. بالطبع كان ينبغي بدون قسم أن يكون هناك إيمان بالله. يقول

” فلذلك إذ أراد الله أن يظهر أكثر كثيرا لورثة الموعد عدم تغير قضائه توسط بقسم” (عب 6: 17).

هنا (القَسَمْ) يشمل المؤمنين. ومن أجل هذا يُذكر بالوعد الذي أُعطى لنا بشكل عام. يقول ” توسط بقسم “. هنا أيضا يقول إن الابن صار وسيط بين الناس والله.

” حتى بأمرين عديمي التغير لا يمكن أن الله يكذب فيهما ” (عب 6: 18).

ما هو الأمر الأول، وما هو الأمر الآخر؟ أن يقول وأن يعد ، ثم يضيف القسم للوعد. لأن هذا القسم بالنسبة للناس واضح أنه الأكثر تصديقًا، ولهذا فقد أضافه.

2- أرأيت أنه لا يهتم باستحقاقه، بل بكيفية إقناع الناس، وأنه احتمل أن تُقال عنه أمور غير لائقة؟ أي أنه يريد أن يؤكد (على تحقيق الوعد). وفي حالة إبراهيم، يُظهر أن كل الأمور مرتبطة بالله، وليس بصبر إبراهيم، لأنه قبل أن يُضاف القسم للوعد ، لأنه الله أقسم بما يُقسم به الناس، أي أقسم بذاته. لكن أولئك يقسمون بالأعظم، لكن الله لا يقسم بالأعظم، وإن كان قد أقسم. لأنه ليس هو نفس الشيء أن يقسم الإنسان بذاته، وأن يقسم الله بذاته، لأن الإنسان لا يسود على نفسه. أرأيت أن هذه الأقوال ربما لم تُقال لإبراهيم بل لنا نحن؟

يقول ” نحن الذين التجأنا لنمسك بالرجاء الموضوع أمامنا “. وهنا أيضا قد حقق الرجاء بالصبر. الآن هو لم يقل لأنه أقسم. وما معنى أقسم؟ هذا قد أوضحه بقوله يقسم بالأعظم”. ولأن الجنس البشري هو جاحد أو لا يؤمن، ينزل إلى نفس المستوى معنا. كما أقسم لأجلنا، على الرغم من أنه أمر غير جدير بالاستحقاق ألا يكون هناك إيمان. هكذا قال ” تعلم .. مما تألم به “، لأن البشر يعتبرون أنه أمر جدير بالتصديق أكثر أن يختبر هو الآلام بنفسه. وما معنى ” الرجاء الموضوع أمامنا “؟ معناه أننا نستطيع أن نستنتج الأمور الخاصة بالدهر الآتي، من خلال الوعود التي تحققت لأنه إن كانت تلك الوعود قد تحققت بعد كل هذا الزمن الطويل، فإنها ستحقق هناك على كل الأحوال. وبناء على ذلك فكل ما حدث لإبراهيم، يضمن لنا تحقيق الوعود في الدهر الآتي.

” الذي هو لنا كمرساة للنفس مؤتمنة وثابتة تدخل إلى ما داخل الحجاب حيث دخل يسوع كسابق لأجلنا صائرًا على رتبة ملكي صادق رئيس كهنة إلى الأبد” (عب 6: 19-20).

وبينما نحن لازلنا مقيمين في العالم، ولم نرحل بعد من هذه الحياة، يُظهر أننا نتمتع بالفعل بهذه الوعود، لأنه بواسطة الرجاء نحن بالفعل في السماء. لقد قال انتظروا واصبروا ، لأن هذه الوعود ستتحقق على كل الأحوال. ثم بعد ذلك وهو يؤكد على هذا الكلام، يقول، لكننا نتمتع بالفعل بهذه الوعود بواسطة الرجاء. ولم يقل ” نحن داخل (الحجاب)، بل قال ” عن مرساة النفس تدخل إلى ما داخل الحجاب”، الأمر الذي كان حقيقيًا وأكثر توقعًا أو أكثر إمكانية. لأنه كما أن المرساة عندما تمسك بالمركب، لا تتركه أن يذهب هنا وهناك، حتى وإن ضربته رياح كثيرة، بل عندما ترشق فيه تثبته، هكذا هو الرجاء.

ولاحظ كيف قدم لنا الصورة المناسبة. لأنه لم يتكلم عن الأساس، الأمر الذي لم يكن مناسبا ، بل تكلم عن مرساة. فذاك الذي يوجد في نوات بحرية، ويقف فوق الماء، كما لو أنه فوق الأرض، يتمايل وهو لا يتمايل. إذا من جهة أولئك الثابتين والمؤمنين بشدة، فبالصواب قد ذكر المثل الذي قاله المسيح ” رجل عاقل بنى بيته على الصخر. لكن من جهة الذين إنتابهم الملل والضجر، وكان ينبغي أن يمسكوا بالرجاء، فبالصواب قد أشار الرسول بولس إلى المرساة. لأن العاصفة والنوة الكبيرة تهز و تحرك السفينة بينما الرجاء لا يتركها تتحرك هنا وهناك “”، حتى وإن ضربتها رياح كثيرة. وبناء على ذلك، إن لم يكن لدينا رجاء، لكنا قد هلكنا منذ وقت بعيد. ويمكن للمرء ليس فقط في الأمور الروحية، بل وفي الأمور. الحياتية أيضا، أن ينال قوة هذا الرجاء الكبيرة، كما هو الحال في التجارة، وفي الزراعة، وفي الحملات (العسكرية). لأنه إن لم يحيا به المرء على الداوم، فلن يتمكن أن ينشغل أو يهتم بأي عمل.

ماذا يعني ولم يقل فقط “مرساة”، بل قال “مرساة مؤتمنة ” ، لكي يظهر ثبات أولئك الذين يمسكون بالرجاء من أجل خلاصهم. ولهذا يُضيف ” تدخل إلى ما داخل الحجاب”. هذا الكلام؟ يعني أنها بديلة عن قوله “إن هذا الرجاء يصل إلى السماء”. بعد ذلك أضاف الإيمان، لكي لا يكون كلامه عن الرجاء فقط، بل هو كلام عن إيمان حقيقي. لأنه بعد القسم أضاف شيئًا آخر، يُمثل الدليل على هذه الأمور، هو أن يسوع دخل كسابق لأجلنا. لكن السابق هو سابق لآخرين، كما كان يوحنا المعمدان سابقاً للمسيح ولم يقل فقط دخل، بل قال ” حيث دخل يسوع كسابق لأجلنا”، لأننا نحن أيضاً سنتبع (نفس الطريق). لأنه لا يجب أن تكون المسافة بين السابق وأولئك الذين يتبعونه كبيرة، لأنه هكذا لن يكون سابقا. أي أن السابق وكل الذين يتبعونه ينبغي أن يكونوا في نفس الطريق، وهو يسير (في الطريق) والآخرون يحاولون أن يصلوا إليه.

 يقول ” صائرًا على رتبة ملكي صادق رئيس كهنة إلى الأبد”. ها هي تعزية أخرى، طالما أن رئيس كهنتنا هو في السماء، فهو أفضل من رؤساء كهنة اليهود، ليس فقط من جهة الطريقة، بل ومن جهة المكان، والخيمة والعهد، والشخص. وهذا كله يخص الجسد.

3. إذا يجب على أولئك الذين فيهم كاهن أن يكونوا أفضل بكثير. وكما أن الفرق كبير بين المسيح وبين ،هرون هكذا هو الفرق بيننا وبين اليهود إذا فلتلاحظ أن لنا في السماء الكاهن الذبيح، وفي السماء الكاهن، وفي السماء الذبيحة. وبناء على ذلك فلنقدم مثل هذه الذبائح التي يمكن أن تقدمها على ذلك المذبح ليس بعد خراف وعجول ليس ،دم ودخان ورائحة شواء. كل هذا قد أبطل، وحلّ محله العبادة العقلية وما هي العبادة العقلية؟ هي تلك التي تقدم بالنفس وبالروح، لأنه يقول “الله . روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا، أي كل مَنْ هو ليس في إحتياج للجسد ، والأعضاء، والأماكن. مثل هذه الأمور هي ،الرأفة والتعقل والرحمة والتسامح والإحتمال، والتواضع.

هذه الذبائح يمكن أن يراها أيضًا في العهد القديم وقد صوّرت مسبقا منذ البداية. لأن داود يقول ” اذبحوا ذبائح البر وتوكلوا على الرب” وأيضا “فلك أذبح ذبيحة حمد ” و” ذابح الحمد يمجدني” و “ذبائح الله هي روح منكسرة ” وأيضا ” ماذا يطلب منك الرب سوى أن تسمعه و ” لأنك لا تسر بذبيحة (الخطية) و ” أن أفعل مشيئتك يا إلهي “١٠”. وأيضا يقول النبي ” لماذا يأتي لي اللبان من شبا “، وآخر يقول أبعد عني ضجة أغانيك ونغمة ربابك لا أسمع ” وبدلاً من كل هذا يقول الرب ” إني أريد رحمة لا ذبيحة “

أرأيت بأية ذبائح يُسر الله؟ أرأيت بعض الذبائح قد تخطاها أو تجنبها منذ البداية، وأن البعض الآخر قد حلّ محلها؟ إذا فلنقدم هذه الذبائح الذبائح العقلية) لأن تلك الذبائح ( الحيوانية) هي برهان على الغنى والأغنياء. أما الذبائح (العقلية)، هي دليل على الفضيلة الذبائح الحيوانية هي خارجية، أما العقلية فهي داخلية، الذبائح الحيوانية يمكن أن يقدمها أي إنسان عادي، لكن العقلية يقدمها قليلون. وعلى قدر ما الإنسان هو أفضل من الخروف على قدر ما هي أفضل هذه الذبيحة العقلية من الذبيحة الحيوانية، لأنك هنا أنت تقدم نفسك ذبيحة. لكن توجد ذبائح أخرى هي المحرقات الحقيقية أجساد الشهداء القديسين. هناك حيث النفس والجسد هما مقدسين وحيث هذه الذبيحة لها رائحة عطرة بشكل فائق.

يمكنك أنت أيضًا إن أردت أن تقدم مثل هذه الذبيحة أي ماذا إن لم تحرق الجسد بالنيران؟ يمكنك أن تحرقه بنار أخرى، كما بنار الفقر الإختياري، نار الضيقة. أي حين يكون في إستطاعة المرء أن يحيا في تمتع وترف، لكنه يفضل الحياة القاسية والصعبة وإماتة الجسد ، أليست هذه محرقة؟ مت وأُصلب جسدك، وحينئذ ستنال أنت نفسك إكليل هذه الشهادة. أي أن ما يفعله هناك (أي في شهادة الدم بالسيف، فلتفعله هنا الرغبة في إماتة الذات). يجب ألا يحرقك ويسود عليك العشق للمال، بل ينبغي أن تحترق وتُمحى تماماً بنار الروح، ولتقطع هذه الرغبة غير المعقولة و الفاسدة بسكين الروح. هذه هي الذبيحة الحسنة والمقبولة لا تحتاج إلى كاهن بل إلى ذاك الذي يقدمها، والذبيحة الحسنة هي تلك التي تؤدي بالطبع على الأرض، لكنها تصعد فوراً إلى السماء. 

ألا نندهش أن النار في عصر قديم قد نزلت ودمرت كل شيء ؟ ويمكن الآن أيضاً أن تنزل نار مُثيرة للدهشة أكثر بكثير من تلك النار وتدمر كل ما هو أمامها ، أو من الأفضل أن نقول لا أن تدمر، بل أن تصعد إلى السماء. لأنها لا تجعل هذه الأشياء رماد، بل تقدمها ذبائح لله. تلك كانت تقدمات كرنيليوس. لأنه يقول صلواتك وصدقاتك صعدت تذكارًا أمام الله. أرأيت هذا التزاوج الرائع؟ وقتذاك يسمعوننا (أي السمائيين)، عندما نسمع نحن أيضًا للفقراء الذين يأتون إلينا. يقول الكتاب ” من يسد أذنيه عن صراخ المسكين فهو أيضا يصرخ ولا يستجاب له ” .. و ” طوبى للذي ينظر إلى المسكين في يوم الشر ينجيه الرب ” وهذا اليوم ليس سوى يوم الدينونة، التي ستكون قاسية على الخطاة.

ما معنى “للذي ينظر “؟ تعني ذاك الذي يُدرك ما معنى فقير، ذاك الذي يعرف   ضيقته جيدا. لأن مَنْ يعرف ضيقته، سيساعده على كل الأحوال وعلي الفور. فعندما ترى فقير لا تحتقره بل فكر مباشرة في وضعك إن كنت أنت في مكانه، ما هي الأشياء التي كنت لا ترغب أن يعملها الآخرون لك؟ يقول “طوبي للذي ينظر”. فكر أن (الفقير ) هو حر مثلك، وأنه شريك معك في نفس الأصل النبيل (أي الأصل (الروحي، وأنه شريك لك في كل شيء. لكن برغم من أنه ليس أقل منك في شيء، إلا أنك في مرات عديدة لا تعتبره مساو حتى لكلابك؟ لأن هذه الكلاب تشبع يوميًا بالطعام، لكن هذا الفقير مرات كثيرة ينام جوعان، الحر صار محتقرا أكثر من عبدك.

لكنه يقول العبيد يؤدون خدمة لنا. أخبرني ما هي هذه الخدمة؟ هل يخدمونك جيداً؟ إذا لو برهنت لك أن هذا الفقير يؤدي لك خدمة أكبر بكثير من هؤلاء العبيد، ماذا ستقول؟ لأنه سيظهر أمامك يوم الدينونة وسيُنقذك من النار. هل يمكن لكل العبيد أن يفعلوا شيئًا مثل هذا ؟ عندما ماتت طابيثا ، مَنْ أقامها ؟ عبيد كانوا حولها، أم فقراء؟ لكن أنت لا تريد أن تساوي الحر بالعبيد هذا الفقير محاط بالبرد الشديد وملقى في الطين ورث الثياب يموت في البرد ، يصر بأسنانه، ومن وجهه ومظهره الخارجي يثير في النفوس الشفقة والرأفة، بينما أنت الذي تستدفئ وتسكر، تحتقره. إذا كيف تستحق أن ينقذك الله عندما تجوز كارثة؟ لكن مرات عديدة تقول لماذا ينبغي علي أن أسامح شخصا قد أمسكته وهو يُخطيء كثيرًا بينما الله لا يسامح؟ لا تقل هذا، لأنك لا تقوم لإنقاذ الذي لم يخطئ أبدا إليك، بل وتحتقره.

لكن إن احتقرت إنسانًا مثل هذا (الفقير)، فكيف سيسامحك الله عندما تخطئ إليه؟ إذا ألا تستحق بسبب هذه الأمور نار جهنم ؟ وما الغريب في هذا؟ لأنه في مرات عديدة تزين جسد مائت بلا إحساس ولم يعد بعد يشعر بالكرامة، بملابس مذهبة كثيرة ومتنوعة، لكنك تحتقر الجسد الذي يعاني، ويفنى، ويتعذب، ومنهك من الجوع ومن البرد ، وتُذعن و تستسلم للمجد الباطل، أكثر من خوف الله. ويا ليتك تتوقف عند هذا الحد، بل على الفور تكيل إتهامات على الذي يقترب منك، لماذا لا يعمل هكذا تقول لماذا يأكل دون أن يعمل ؟ أخبرني هذا الذي تمتلكه كيف آل إليك، وهل هو ثمرة عملك، ألم تأخذه من الميراث الأبوي؟ وإن كنت تعمل هل لأجل هذا تُدين الآخر (الفقير ) ؟ ألم تسمع الرسول بولس وهو يقول ” أما أنتم أيها الأخوة فلا تفشلوا في عمل الخير لأنه بعدما قال ” إن كان أحد لا يريد أن يشتغل فلا يأكل أيضاً ” ، أضاف هذا. لكنك أنت أيها الغني تقول عنه أنه مخادع.

4- ماذا تقول أيها الإنسان؟ تدعوه مخادع لمجرد قطعة خبز، وقطعة ملابس ؟ وتقول أنه سوف يبيع مباشرة هذه الأشياء التي يتسولها. ماذا إذا؟ هل الجميع هم فقراء لأنهم لا يعملوا؟ ألا يوجد أحد فقير بسبب تعرض تجارته للخسارة؟ أو بسبب أحكام صادرة ضده؟ أو بسبب تعرّضه لسرقه؟ أو بسبب تعرضه لأخطار؟ أو بسبب إصابته بمرض؟ أو بسبب أي ظرف آخر؟ أيضًا إن سمعنا أحد وهو ينوح ويصرخ ناظراً نحو السماء وهو عريان وشعره طويل، وبملابس رثة، ألا ندعوه دجال ومخادع ومنافق؟ ألا تخجل؟ من تدعوه مخادع؟ لا تعطي شيئا، لكن لا تدين هذا الإنسان. بل أنت تقول إن هذا الإنسان لديه الكثير، وأنه يتظاهر بالفقر. لكن هذه هي إدانة لك، وليست ضد ذاك الإنسان إذ هو يعرف أنه يتعامل مع قساة، مع وحوش أكثر منهم بشر، وإن كان بعد يتكلم بصورة تستحق الإشفاق، فإنه لا يخدع أحد، بل ويضطر أن يرتدي ملابس تثير الشفقة، لكي يُحنن نفسك. 

إن رأينا أحد يقترب بملابس تليق بإنسان حر أو سيد فهذا مخادع، ولكي يظهر أنه ينحدر من أصل نبيل، فإنه يقترب بهذه الطريقة. لكن إن رأينا شخص بملابس رثة، فإننا ننظر إليه بطريقة سيئة. إذا ماذا نفعل ؟ يا للعجب، ما هذه الوحشية، وما هذه القسوة ولأي سبب يجرد أو يعري أعضائه المستأصلة؟ لأجل قساوتك. فإن كنا رحماء، فما كانوا في حاجة إلى هذه الأساليب، إن كنا نقبلهم من أول قدوم لهم، ما كان لهم أن يلجأوا إلى كل هذه الأفعال من هو التعس إلى هذا الحد، لدرجة أن يرتضي مثل هذه التصرفات بأن يصرخ كثيرًا، ويريد أن يظهر بهذا المظهر السيئ، وينتحب بشكل علني في رفقة زوجته العارية ويمشي وأرجله تغوص في الطين؟ أليست هذه الأمور ،مُرزية، بل وأسوء من كل فقر؟ وبالرغم من كل هذا ، ليس فقط لا يُرحمون، بل ويُدانون من جانبنا . والعجيب إننا نغتاظ لأن الله لا يستجيب لصلاتنا؟ بل إننا سنتعثر، لأننا لا تقنع، عندما نترجي؟ ألا نرتعد أيها الأحباء؟

لكنه يتعلل قائلاً، إنني قد أعطيت مرات كثيرة. وأنا بدوري أقول لك، هل أنت لا تأكل باستمرار. وهل أنت في مرات كثيرة تطرد أولادك عندما يطلبون شيئًا ؟ يا للعجب على هذه السفاهة هل تدعو الفقير وقحا؟ وأنت عندما تخطف أو تسلب ألست وقحا، بينما الفقير عندما يترجى لأجل الخبز هل تدعوه وقحا؟ ألا تفهم مدى احتياج البطن؟ ألا تصنع أنت كل شيء لأجل بطنك؟ أوليست . عدم مبالاتك بالأمور الروحية، إلاّ لهذا السبب؟ ألا نضع السماء وملكوت الله أمام عيوننا؟ ألا تخشى على تلك السلطة (الدنيوية)، فتحتمل كل شيء، ولا تحتقرها؟ هذه الوقاحة بعينها. ألا تنظر إلى الشيوخ والمعاقين؟ لكن يا للعجب على هذا الغباء! إنه مجرد إدعاء أن فلان يُقرِض عملات ذهبية كثيرة، والآخر يُقرض بقدر كبير أيضا، ومع هذا يتسول. أنت تقول أساطير وحماقات لأطفال صغار. لأن هؤلاء الأطفال يسمعون دوما مثل هذه الأساطير من مربيهم و معلميهم. 

إنني لا أقتنع ولا أصدق حاشا لي أن أقبل مثل هذا الفكر. هل يقرض لأنه يملك الكثير، ثم بعد ذلك يتسول ؟ أخبرني لماذا يفعل هذا؟ وما هو الأمر الأكثر قبحاً من التسول؟ فالموت أهون من التسول.

إلى متى سنكون قساة؟ ماذا إذا؟ هل الجميع يُقرِضون؟ هل الجميع مخادعون؟ ألا يوجد فقير حقيقي؟ يجيب نعم يوجد بل وكثيرين، لكن لماذا لا نساعد هؤلاء الفقراء، ونلجأ إلى فحص حياتهم بالتدقيق؟ وأنا بدوري أقول لك هذا إدعاء وتبرير. لأن المسيح له المجد يقول ” مَنْ سألك فأعطه. ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده، مد يدك ولا تقيدها. لم تعين لنفحص حياة البشر، لأن هكذا لن نحسن إلى أحد. لماذا عندما نصلي إلى الله نقول ” لا تذكر لي خطاياي”؟ وبناء على ذلك، إن كان هذا الفقير خاطئ بشكل كبير جدا، فلتفكر بنفس الطريقة من جهته أيضاً، ولا تذكر له خطاياه. الوقت هو لمحبة البشر، وليس لفحص دقيق إنه وقت للإحسان، وليس لحسابات أو تقديرات تريد أن تطعمه إن أردت فلتعطه، لكن إن لم ترد إصرفه دون أن تشك أو تتحير لماذا هو تعس ومتعب. لماذا لا تُحسن إليه، ولماذا تغير توجه أولئك الذين يريدون أن يُحسنوا إليه؟ أي عندما يسمع منك أحد أن هذا مخادع وأن ذاك منافق، وأن الآخر يُقرض، فإنه لن يعطي لا لهؤلاء ولا لأولئك، لأنه سيتشكك في أن الجميع هم هكذا بالطبع أنتم تعرفون إننا من السهل أن نرتاب ونفكر في الأمور الشريرة، بينما الأمور الحسنة لا نفكر فيها مطلقا.

لنصير رحماء، ليس هكذا ، بل مثل أبينا السماوي فإنه يطعم زناة، وأشرار ودجالين. وماذا أقول؟ أقول إنه يطعم أولئك الذين يرتكبون كل أنواع الشرور لأنه لا مفر من أنه يوجد كثيرين مثل هؤلاء (الأشرار). ومع هذا يُطعم الجميع، ويُلبس الجميع لم يمت أحد مطلقاً من الجوع، إلا إذا كان أحد قد أراده أن يصل إلي هذه المرحلة. هكذا فلنصر شفوقين، فإن كان في إحتياج ويمر بضيقة مالية، فلنقدم له المساعدة. لكننا الآن قد وصلنا إلى مرحلة من اللامبالاة الشديدة، حتى أننا نفعل هذا (أي التجاهل والرفض) ليس فقط تجاه الفقراء الذين يمرون بضيقات، بل وتجاه رجال يعيشون بمفردهم. يقول إن فلان ،مخادع ألم أقل سابقا، إن أعطينا للجميع دون تمييز فإننا سوف نمارس عمل ،الرحمة لكن إن بدأنا نفحص المحتاجين بطريقة مبالغ فيها، فلن نقدم رحمة مطلقا ؟ ماذا تقول؟ هل لكي يأخذ قطعة خبز هو مخادع؟ بالطبع لو طلب عملات ذهبية أو فضية أو ملابس فخمة أو عبيد ، أو أي شيء آخر مثل هذا ، فمن العدل أن يدعوه أحد، مخادع. لكن إن لم يطلب أي شيء من كل هذا، بل طلب طعام ومأوى، وهذا دليل على قناعته، أخبرني ، فهل هذا ما يتسم به المخادع؟

لنوقف الفضول غير الملائم والشيطاني والمهلك إن قال أحد أنه ينتسب إلى الإكليروس، أو يدعو نفسه كاهنا فليفحصه وليختبره بعناية، لأن الفحص الدقيق هنا ليس فيه ضرر، بل الضرر هو في أمور كبيرة. لكن إن كان لديه احتياج للطعام، فيجب ألا يفحصه مطلقا ، لأنك لا تعطي بل تأخذ. افحص إن أردت كيف أظهر إبراهيم محبة وضيافة لكل من أتى بالقرب منه. فإن كان فضوليا وفاحصا بريبة لأولئك الذين لجأوا إليه ما كان له أن يستضيف ملائكة، هل كان عليه أن لا يصدق أنهم ملائكة ويطرد هؤلاء وآخرين أيضًا؟ لكنه لم يفعل ذلك بل قبلهم جميعًا، لذلك إستقبل ملائكة أيضاً.

هل الله يعطيك المكافأة أو الأجر، بسبب سلوك هؤلاء الذين يأخذون؟ إنه يعطيك بسبب رغبتك (في العطاء)، بسبب السخاء المماثل ومن محبتك الشديدة للناس، وبسبب السلوك الحسن لتكن فيك هذه الأمور الحسنة، وستتمتع بكل الخيرات والتي ليتنا نتمتع بها جميعًا بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي يليق به مع الآب والروح القدس المجد والقوة والكرامة الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور آمين.

  1.  هذه الكلمات كما يقول .ق. أثناسيوس لا تمنع توبة الخطاة، بل تشير إلى أن معمودية الكنيسة الجامعة تعطي مرة واحدة ولا يمكن أن تتكرر ويجب أن تلاحظ أنه للعبرانيين بالذات كتب الرسول هذه الكلمات لأنه خاف عليهم من التظاهر بالتوبة وأنهم بسبب تمسكهم الشديد بالناموس الموسوي وشريعة التطهير سيظنون أنه توجد فرصة لمعموديات يومية متكررة كما جاء في ( مر 7: 3-4). لذلك يعلن أن التجديد في المعمودية هو تجديد فريد لا يعاد. وفي رسالة أخرى يقول إيمان واحد معمودية واحدة (أف 4-5) وهو لا يقول من المستحيل أن يتوب الساقط بل من المستحيل أن نصنع نحن تجديدًا لأنفسنا بالتوبة، والفرق كبير، لأن من يتوب يكف عن الخطية ولكن آثار جروحه تظل ظاهرة، بعكس من يعتمد يخلع العتيق ويتجدد (كو 3: 9-10) . بل ويولد مرة ثانية بنعمة الروح القدس (يو 3: 3) الروح القدس”، ق. أثناسيوس الرسولي ترجمة د موريس تاوضروس، د. نصحي عبد الشهيد إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، الرسالة الرابعة، فقرة 13 ص 134.

تفسير رسالة العبرانيين 5 رسالة العبرانيين 6 تفسير رسالة العبرانيين تفسير العهد الجديد تفسير رسالة العبرانيين 7
القديس يوحنا ذهبي الفم
تفاسير عبرانيين 6 تفاسير رسالة العبرانيين تفاسير العهد الجديد
 

زر الذهاب إلى الأعلى