تفسير رسالة كورنثوس الأولى أصحاح ١٣ للقديس يوحنا ذهبي الفم

تفسير كورنثوس الأولى – الأصحاح الثالث عشر

 

“إن كنت أتكلم بألسنة الناس والملائكة ولكن ليس لي محبة فقد صرت نحاساً يطن أو صنجاً يرن” (ع۱).

قول بولس الرسول “بألسنة الملائكة” لا لأنه وضع للملائكة جسداً إنما قوله هذا يعني وإن كنت أتكلم هذا بالوجه الذي يخاطب الملائكة بدون فضيلة المحبة فلست أنا شيئا وإنما أكون ثقيلاً ومبغوضاً.

ولم يقل لا أكون شيئاً على الإطلاق بل قال : “فقد صرت نحاساً يطن ” الذي هو شيء لا يحس وفاقد النفس ، وقوله « نحاساً يطن» كونه يبدي صوتاً باطلاً عبثاً ومنصرفاً فيما لا ينفع.

رأيت كيف أن الخالي من المحبة يشبه الأجسام الخالية من النفس وفاقدة الحس.

“وإن كانت لی نبوة وأعلم جميع الأسرار وكل علم وإن كان لى كل الإيمان حتى أنقل الجبال ولكن ليس لي محبة فلست شيئاً” (ع۲)

ذكر السيد المسيح أن القدرة على نقل الجبل هو جزء صغير من الإيمان إذ قال « لو كان لكم إيمان مثل حبة خردل لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل من هنا إلى هناك فينتقل» ( مت۱۷ :۲۰).

وأما بولس الرسول فقال : “إن كان لي كل الإيمان” فإذا ماذا نقول إلا إن هذا كان أمراً عظيماً نقل الجبل ولذلك ذكره ليس لأن هذا الأمر فقط يستطيعه ويقدر عليه الإيمان كله، بل لأن هذا الأمر كان يظهر عظيماً للجسدانيين.

“وإن أطعمت كل أموالي وإن سلمت جسدي حتى أحترق ولكن ليس لى محبة فلا أنتفع شيئاً” (ع۳). 

 و لم يقل أعطى وإنما قال « أطعمت» كمعد لنفقته والخدمة بكل اجتهاد ويا لهذه المبالغة ! لأنه وضع هذه الأقوال بزيادة أخرى لأنه لم يقل إن أعطيت نصف موجوداتی أو الثلثين بل إنه قال : « كل أموالی ».

«المحبة تتأني وترفق المحبة لا تحسد المحبة لا تتفاخر ولا تنتفخ » (ع4) .

تأمل في بولس الرسول إذ ابتدأ فوضع أولاً قوله «المحبة تتأني» فهذا سبب الخيرات كلها أي طول الأناة وهذه أصل الفلسفة كلها ، لأن النفس الطويلة الأناة مهما وقع فيها من الشدائد التي لا ترجوها يزول سريعاً ولا يزعجها أصلاً لأن طول الأناة أشد صلابة من كل شيء .

«ولا تقبح ولا تطلب ما لنفسها ولا تحتد ولا تظن السوء» (ع5) .

فالمحبة لا تقبح شيئا بل بأجنحة من ذهب تغطى ذنوب المحبين كلها وعلى هذا الوجه كان يوناثان يحب داود.

والمحبة لا تستقبح شيئا لأن أمرها المستغرب هو هذا ، وذلك لكونها لا تدع المهان يحزن وتعتريه الغموم فقط بل تجعله يصير فرحاً.

والمحبة تعد شرفاً لا يستحي به الغير لأن الخزي إنما يكون من عدم المحبة.

والمقصود من «ولا تطلب ما لنفسها» كما يحدث بين الناس فالحاكم الجالس ليحكم لا يطلب ما يوافقه بل ما ينفع القريب ، والمرؤسون أيضاً يطلبون ما يوافق الحاكم لأجل العمل والخدمة، والجنود من أجلنا يحملون الأسلحة لأنهم لأجلنا يخاطرون بأنفسهم ونحن نشقى لأجلهم لأن قوتهم من عندنا والأمور الأخرى كلها هكذا

«ولا تفرح بالإثم بل تفرح بالحق» (ع6)

أي أنها لا تفرح بالذين يصابون وليس هذا فقط بل وما هو بالحرى أعظم أنها « تفرح بالحق » 

«وتحتمل كل شيء وتصدق كل شيء وترجو كل شيء وتصبر على كل شیء » (ع7).

من طول الأناة ومن الصلاح نحتمل الشتم أو الجراح أو الموت أو أي شيء آخر . ومعنی  «وترجو كل شيء » أي ترجو كل شيء صالح ولا تيأس ممن تحبه ، بل وإن كان رديئاً تتوقع إصلاحه.

«المحبة لا تسقط أبداً وأما النبوات فستبطل والألسنة فستنتهي والعلم فسيبطل» (ع8).

المقصود من قول بولس الرسول «وأما النبوات فستبطل والألسنة فستنتهي» لأن هاتين القضيتين دخلتا لأجل الإيمان ، فإذ قد أنبت الإيمان في كل مكان فلا حاجة إليهما بعد ذلك ، وأما محبة الواحد للآخر فتنمو نمواً عظيماً في هذا العمر الحاضر وفي المستقبل.

«لأننا نعلم بعض العلم ونتنبأ بعض التنبوء. ولكن متى جاء الكامل فحينئذ يبطل ما هو بعض» (ع۹ ،۱۰)

أي أنه لا تبطل المعرفة وإنما تبطل أن تكون جزئية المعرفة ، لأننا لا نعرف مقدار ما نعرفه الآن لكنه بالحرى أكثر كثيراً، فلکی أبرهن على ذلك بقياس أقول : أما الآن فقد نعرف إن الله موجود في كل مكان لكننا لا نعرف كيف ، ونعرف أن الله خلق كل الأشياء من العدم لكننا نجهل الطريقة ، ونعرف أن السيد المسيح ولد من البتول أما كيف حدث ذلك فلا نعرف ، أما فيما بعد في الأبدية فسنعرف معنی كل هذا أكثر وأوضح .

«ولما كنت طفلاً كطفل كنت أتكلم وكطفل كنت أفطن وكطفل كنت أفتكر ولكن لما صرت رجلاً أبطلت ما للطفل. فإننا ننظر الآن في مرآة في لغز لكن حينئذ وجهاً لوجه الآن أعرف بعض المعرفة لكن حينئذ سأعرف كما عرفت» (ع۱۱ ،۱۲).

إن الجالس في الظلام ما دام لا يرى الشمس لا يبادر نحو لمعان شعاعها وإنما هي توضح ذاتها عندما تشرق ، فعندما يستقیم ضياؤها حينئذ يبادر هو نحو ضوئها هكذا عرفنا الله وبادر إلينا الآن ، ونعرف أشياء كثيرة من المكتومة الآن ونحظى بتلك الحكمة المغبوطة

« أما الآن فيثبت الإيمان والرجاء والمحبة هذه الثلاثة ولكن أعظمهن المحبة » (ع۱۳).

المحبة موهبة وطريق بليغ للمواهب والمواهب بدونها لا تفيد فائدة عظيمة.

أراد بولس الرسول هنا أن يرفع من شأن المحبة على وجه آخر فقال « أما الآن فيثبت الإيمان والرجاء والمحبة هذه الثلاثة ولكن أعظمهن المحبة » وذلك لكونها تعلوهما.

فاصل

أقرأ أيضاً

فاصل

تفسير 2 كورنثوس 12 تفسير رسالة كورنثوس الأولى تفسير العهد الجديد
تفسير 2 كورنثوس 14
 القديس يوحنا ذهبي الفم
تفاسير رسالة كورنثوس الأولى تفاسير العهد الجديد

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى