العظات الخمسون للقديس أنبا مقار

مسيرة الإنسان ومؤازرة الروح القدس

العظة السادسة والعشرون من العظات الخمسون

[عن سمو النفس الخالدة وكرامتها وقدرتها وعملها، وكيف أنها تُجرب من الشيطان ، وتنال العتق من التجارب . العظة تحوي أيضاً أسئلة مملوءة تعليماً عظيماً جداً]

[أ] سمو النفس الخالدة وكرامتها

1 – لا تنظر، أيُها الحبيب ، ببساطة إلى الجوهر العقلي للنفس، فالنفس الخالدة إنما هي إناء كريم. فاعتبر كم هي عظمة السماء والأرض ، والله لم يُسر بهما ، بل بك وحدك قد سُر ؛ فافطن إلى كرامتك وشرفك ، لأن الرب – ليس بملائكة بل بنفسه – قد جاء للمحاماة عنك، حتى يدعوك أنت الضال المُثخن بالجراح ، ويرد إليك جُبلة  آدم الطاهر الأولى. فإن الإنسان كان سيداً ، بدءاً من السماء إلى ما هو أسفل ، مميزاً الأهواء ، وغريباً عن الشياطين ، ونقيا من الخطيئة ، و « على صورة الله وشبهه» . لكن بسبب التعدي بات ضالاً ومكلوماً وميتاً، لأن الشيطان أظلم عقله. فهو هكذا من وجهٍ، ومن وجه آخر هو يحيا ويميز ويملك الإرادة.

۲ – سؤال : حينما يأتي الروح القدس ، ألا تُستأصل الشهوة الطبيعية مع الخطيئة؟

الجواب : قد سبقت وقلت إن الخطيئة تُستأصل ، ويسترد الإنسان جبلة آدم الطاهر الأولى؛ كذلك بالحق بقوة الروح القدس وبالميلاد الروحاني الجديد يبلغ الإنسان قامات آدم الأول ، بل ويغدو أعظم منه ، لأنه يتأله.

[ب] الشيطان ليس مُطلق العنان

3 – سؤال : هل الشيطان مُطلق إلى حد معين ، أم إنه يحارب كما يشاء؟

الجواب : إن هجومه ليس هو على المسيحيين فحسب ، بل على عبدة الأوثان وعلى العالم بأسره . فلو أُطلق له العنان ليشن حربه كما يشاء لكان قد أهلك الجميع ! لماذا ؟ لأن هذا هو عمله ومشيئته . لكن كما أن الفخاري يلقي الآنية ويشعل الأتون من تحتها إلى درجة معينة ، فلا يزيد عليها لئلا تنصدع إذا شويت أكثر مما ينبغي ، ولا ينقص منها لكي لا تتلف إذا ما لبثت نيئة ؛ بالمثل صائغ الفضة وصائغ الذهب يضعان ناراً بقياس ، لأن النار إذا زادت ينحل الذهب والفضة وينصهران ويتلفان . فإن كان العقل البشري يعرف أن يزين الأحمال للدابة وللجمل ولأي حيوان آخر بحسب ما يمكنه أن يتحمل من أثقال ، فكم بالحرى الله العالم بآنية البشر يُفسح أيضاً بدرجات متفاوتة للقوة المعادية ؟!

4 – فكما أن الأرض ، وإن تكن واحدة ، فهي هنا وعرة وهنالك سهلة ، وموضع فيها يصلح لغرس كرم وآخر لزراعة حنطة وشعير؛ كذلك أيضاً هذه المواضع التي لقلوب البشر ونياتهم هي متمايزة ؛ وكذلك أيضا المواهب المعطاة فوق : ففيما يعطي لواحد خدمه الكلمة ، يُعطى لآخر تمییز، ولثالث مواهب شفاء ، لأن الله يعلم مقدرة كل أحد على التدبير ، وتبعاً لذلك يعطي شتى مواهبه . بالمثل أيضاً في ما يختص بالحروب ، فبقياس معين ، بحسب ما يمكن أن يقبل كل واحد ويحتمل ، تُطلق عليه القوة المعادية.

[ج] عدم مبارحة طبيعة النفس لحالها

5- سؤال : إذا ما قبل أحد القوة الإلهية وتغير جزئياً، فهل يلبث في طبيعته؟

الجواب : لكي تُمتحن الإرادة ، حتى بعد قبول النعمة ، إلى أية وجهة تميل ومع أي منحی تتوافق ، فإن الطبيعة تلبث على حالها : القاسي في قساوته ، واللين في لينه. فقد يحدث أن إنساناً رغم كونه عامياً يولد ثانية روحياً ويتحول إلى سبيل الحكمة وتُعلن له أسرار خفية ، ومع هذا يظل بالطبيعة عامياً. وآخر مع كونه بالطبيعة قاسياً يسلم إرادته نحو خوف الله فيقبله الله، ومع أن الله يُسر به فما تنفك طبيعته على قساوتها. وثالث يكون ذا أخلاق جيدة ، حليماً، صالحاً، يسم ذاته لله ويقبله الرب ، ولكن حينما لا يثبت في الأعمال الصالحة لا يُسر به الرب ، لأن كل طبيعة آدم هي متنقلة نحو الخير ونحو الشر ، فلها إمكانية قبول الشر ، لكن لها – إن تشأ – أن لا تقترفه .

6 – كمثل رق يكتب عليه بطرق شتى ، فأنت قد شئت وكتبت شيئاً ثم محوته ، لأن الرق يقبل كل ما يُكتب عليه ؛ هكذا الإنسان القاسي الذي سلَّم إرادته إلى الله وتحول إلى الصلاح ، يُقبل لدى الله. لأن الله ، لكي يُظهر أحشاءه ، يقبل كل إنسان وكل اشتياق. فإن الرسل كانوا يصرفون زماناً ما في المدينة التي كانوا يدخلونها ، وكانوا يشفون بعض المعذبين ولا يشفون البعض الآخر. فالرسل أنفسهم كانوا يرومون أن يهبوا الحياة لجميع موتاهم ويجلبوا الصحه لجميع السقماء ، ولكنهم لم يحظوا بمبتغاهم كاملاً ، إذ لم يُؤذن لهم بأن يعملوا كل ما شاءوا. كذلك بالمثل بولس حين أُمسك من قبل الوالي ، فلو شاءت النعمة التي معه لجعلت الوالي کالحج وثلمت السور ، إذ إن بولس كان إنسانا مقتنيا للباراكليت ، لكن الرسول دُلي في زنبیل ! فأين هي القدرة الإلهية الملازمة له ؟! فهذه الحوادث إنما قد صارت تدبيرياً ، ففي بعض الأمور يجترح الرسل آيات وعجائب ، وفي البعض الآخر يلبثون ضعفاء ، لكي بهذا يُميز إيمان الذين يؤمنون والذين لا يؤمنون وتمتحن حرية الإرادة وتُظهر، إن كان البعض لا يعثرون في المواقف الأكثر ضعفاً. لأنه لو كان كل ما يريده الرسل يصنعونه لكانوا يغرسون الناس في تقوى الله عنوة بواسطة الآيات لا بالإرادة الحرة ، ولما كان هناك بعد إيمان أو عدم إيمان . فالمسيحية إنما هي « حجر صدمة وصخرة عثرة».

[د] الشيطان لا يجربب إلا بسماح من الله

٧ – بيد أن ما قد كُتب عن أيوب ليس هو بالأمر البسيط ، كيف أن الشيطان طلبه، لأنه ما كان ليستطيع أن يعمل شيئاً من نفسه بدون سماح . لكن ماذا يقول الشيطان للرب؟ “أعطني إياه في يدي « وسيلعنك في وجهك » ( أي 1 :11س ) . هكذا أيضا الآن أيوب هو هو ، والله هو هو، والشيطان هو هو ، فعلى قدر ما ينال أحد مُعاضدة الله ويكون غيوراً وحاراً بالنعمة ، يطلبه إبليس ويقول للرب : “لأنك تُعينه وتعضده فإنه يعبدك . اتركه وسلمه لي « وسيلعنك في وجهك». وبعد ذلك حين تتعزى النفس تنسحب النعمة وتُسلم النفس للتجارب ، فيأتي الشيطان جالباً ربوات شرور : يأساً وقنوطاً وأفكاراً شريرة ، مُضيقاً الخناق على النفس ، حتی يُضعضع رجاءها بالله ويقصيها عن هذا الرجاء.

۸- أما النفس الحكيمة فلا تفقد رجاءها وسط الملمات والضيق بل تتمسك بما هي ممسكة به، وأي ما يجلبه عليها الشيطان عبر ربوات من التجارب تصبر عليه قائلة : ” حتى وإن كنت أموت فإني لا أتركه” . وحينئذ ، إن كان الإنسان “يصبر إلى المنتهی” ، يشرع الرب في محاجاة الشيطان : “ها أنت تنظر كم من شرور وضوائق جلبتها عليه ، وما أطاعك بل إنه يعبدني ويخافني”، حينئذ يخزى الشيطان ولا يعود له شيء بعدُ ليقوله . فإنه فيما يخص أيوب ، لو أن الشيطان كان يعلم أن أيوب حال وقوعه في التجارب كان مزمعاً أن يصبر ولا ينغلب ، لما كان قد طلبه (ليجربه) حتي لا يُخرى ؛ هكذا الآن أيضاً يخزى الشيطان من الذين يصبرون على الضيقات والتجارب ويندم لأنه ما ظفر بشيء ، فيشرع الرب في محاسبته :” ها إني قد أفسحتُ لك ، ها قد أذنت لك لكي تحبه ، فهل استطعت شيئا ؟ هل أطاعك ؟”

۹- سؤال : هل يعلم الشيطان إذاً كل أفكار الإنسان وخواطره ؟

الجواب : إن كان الإنسان حين يعيش مع آخر يعلم أموره ، وأنت ذو العشرين عاماً تعلم أمور قريبك ، أفلا يعلم أفكارك الشيطان المصاحب لك منذ ولادتك ؟! فإن له ستة آلاف من الأعوام . لكنا لسنا نزعم أنه يعلم قبل أن يجرب الإنسان ماذا عساه أن يصنع ، فالمجرب يجرب ولكن لا يعلم أيطيعه الإنسان أم لا ، إلى أن تُسلم النفس إرادتها عبده له . كذلك لا نزعم أن الشيطان على دراية بكل أفكار القلب ورغباته. كما لو أن هناك شجرة لها أغصان كثيرة وأفرع عديدة ، فيستطيع المرء – لسبب ما – أن يمسك بغصنين من الشجرة أو ثلاثة ؛ هكذا أيضا فإن للنفس أغصاناً كثيرة وأعضاءً عديدة ، فتوجد أغصان للأفكار والخواطر يمسكها الشيطان ، وتوجد أفكار وخواطر أخرى تمتنع عليه .

[هـ] جهاد الإنسان وتشبثه بالفرح والرجاء

۱۰ – فإنه حين تنبع الأفكار ، تارة يكون جانب الشر أقوى وطوراً يكون فكر الإنسان هو الغالب تماماً، وذلك إذا ما نال عوناً ونجاة من لدن الله وقاوم الشَّر ؛ فالإنسان يكون آناً مسُوداً و آونة مالكاً لإرادته . فقد يعرض أن يتقدم الإنسان بحرارة إلى الله ، والشيطان يعلم ذلك ویری أنه يُضاده، ولكن لا تكون له قدرة أن يمنعه . لماذا ؟ لأن للإنسان إرادة أن يصرخ إلى الله ، وله ميل طبيعي لأن يحب الله ويؤمن به ويطلبه ويتقدم إليه. ففي الأمور المنظورة يعمل الفلاح الأرض ، لكنه وإن كان يعملها إلا أنه يحتاج إلى المطر والغي من فوق ، فما لم ينزل المطر من فوق تذهب فلاحه الفلاح لأرضه أدراج الرياح ؛ هكذا الحال أيضاً في العالم الروحاني ، فإن الأمور تعتبر من وجهتين : فمن الضرورة بمكان أن يفتح الإنسان – باختياره – أرض قلبه ويكابد الأتعاب ، لأن الله يطلب تعب الإنسان وكدَّه وعمله ، إلا أنه ما لم تلح من فوق سحابة سماوية وغُيوثُ النعمة فهيهات أن ينتفع الفلاح المكدود شيئاً.

11 – فإن هذه هي علامة المسيحية، أن يُحسَّ الإنسان – مع كل ما يجاهد فيه، ومع كل أعمال البر التي يصنعها – وكأنه ما عمل شيئاً؛ فإذا ما صام يقول : ” إني ما صُمت”، وإذا ما صلَّی : “إني لم أُصل”، وإذا ما ثابر على الصلاة : ” إني لم أتوفر على الصلاة ، بل لم أزل مبتدئاً[1] في النسك والجهاد “. حتى وإن يكن باراً أمام الله ، يجب عليه القول : ” إني لست ببار وليس لي جهاد ، بل إني أبدأ كل يوم[2]” . فيلزمه أن يكون له كل يوم رجاء الملكوت المنتظر وفرحه وانتظاره مع انتظار الفداء العتيد ، قائلا : “إن لم أفد اليوم ، فغدا سوف أُفدى” . لأنه كما أن الذي يغرس كرمة يكون له في نفسه – حتى قبل أن يشرع في گده – رجاء وفرح ، ويسبق فيتمثل في ذهنه جنى الكرم ويحسب ما سيدره عليه قبلما يكون خمر بعد ، وهكذا يتقبل التعب إذ يشحذ الرجاء والانتظار همته لتجشم الأتعاب ، فينفق من أمواله في ذلك الزمان الشيء الكثير، بالمثل أيضا الذي يبني بيتاً والذي يزرع ، فإنه ينفق من أمواله كثيراً من أجل رجاء الكسب المزمع ؛ هكذا أيضاً هنا ما لم يقتن الإنسان أمام ناظريه الفرح والرجاء قائلاً: ” إني عتيد أن أنال الفداء والحياة” لا يمكنه أن يتحمل الضيقات أو الأثقال ولا أن يتقبل الطريق الضيقة ، لأن الرجاء والفرح الملازمين له يُشجعانه على مكابدة الأتعاب وتحمل الضيقات[3].

۱۲ – لكن كما أنه ليس من السهل على جُذوة أن تفلت من النار ، هكذا لا تقرب النفس من نار الموت إلا بأتعاب جزيلة . لأن الشيطان في غالب الأحيان يوسوس خفية للنفس – في طي أفكار صالحة – قائلاً: “إنك بهذا يمكن أن تُرضي الله” فيغنمها إلى أفكار سفيهة غارة ، وإذ لا تعرف النفس المخدوعة أن تميز ، « تسقط في فخ إبليس » وهلاكه. أما السلاح الأفضل للمجاهد والمناضل فهو هذا : أن يدخل إلى قلبه ويصنع حرباً مع الشيطان ويبغض ذاته وينكر نفسه ويغضب عليها وينتهرها ، ويقاوم الشهوات الهاجعة فيه ويناصب أفكاره العداء ويقاتل ذاته.

۱۳ – فإن كنت تحفظ جسدك خارجياً من الفساد والزنى بينما تزني في باطنك ، فإنك إنما قدَّام الله قد زنيت وفسقت بأفكارك ، ولا يُجديك نفعاً اقتناؤك جسداً بتولاً. كمثل أن يكون هناك شابة وشاب ، وهذا يُغويها بمكر حتي يفسدها ، فإنها تُمسي أخيراً رجسة عند عريسها لأنها زنت؛ هكذا النفس غير الجسدانية التي يكون لها شركة مع الحية الكامنة في الداخل، أي الروح الشرير ، فإنها تزني ( مرتدة ) عن الله ، إذ إنه مكتوب : « إن كُل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها ، فقد زنى بها في قلبه » ( مت 5 : 28) . فإنه يوجد زنی يُگمل بالجسد ، وكذا يوجد زنى للنفس حين يكون لها شركة مع الشيطان. لأن النفس ذاتها تكون شريكة وأختاً إما للشياطين أو لله وملائكته ، فإن هي زنت مع الشيطان فما عادت جديرة بالختن السماوي.

[و]حرب الشيطان باقية ما بقيت الحياة

14 – سؤال : هل يأتي وقت يهدأ فيه الشيطان ويُعتق الإنسان من الحرب ، أم إن حربه تدوم ما دام هو حياً؟

الجواب : إن الشيطان لا يهدأ عن الحرب قط ، فطالما الإنسان حيّ في هذا الدهر ولا بساً للجسد فإن رحى الحرب لا تفتأ تدور . لكن حين تنطفئ «سهام الشرير المُلتهبة» ، أي ضرر يمكن أن يصيب الإنسان حتى ولو أتاه الشيطان؟ فقد يعرض أن يكون أحد صديقاً للملك ويفلح في إنزال عقاب بخصمه ، فطالما أن الملك في صفه وهو صديق له يعضده ، فلا شيء يضره. فحين ينجح إنسان في أن يشق طريقه عبر جميع الرتب والمكانات ويغدو صديقاً للملك ، فأي ضرر يمكن لأحد أن يلحقه به إذ ذاك ؟ ففي الأمور المنظورة توجد مدن تنال عطايا وهبات كل سنة من الملك ، فإن كانت تخدمه يسيراً فإنها لا تخسر شيئاً، ذلك لأنها تنتفع بمثل هذه العطايا وتقبلها من لدن الملك ؛ هكذا أيضا المسيحيون ، فإن كان العدو يثير عليهم حرباً، إلا أنهم قد أقاموا في اللاهوتية ولبسوا ” قوة من الأعالي” وراحة ، فلا يُعيرون أمر الحرب اهتماماً.

15 – فكما أن الرب قد لبس جسدا تارگاً وراءه كل رئاسة وسلطان ، هكذا المسيحيون أيضا يلبسون الروح القدس ويمكثون في راحة ؛ حتى وإن ثارت عليهم حرب فالشيطان يقرع من الخارج ( فقط ) أما من الداخل فهم محصنون بقوة الرب ولا يأبهون بالشيطان. فحين جرب الشيطان الرب هناك في البرية أربعين يوماً، هل أضره بشيء حين دنا من جسده من الخارج ؟ لأنه من الداخل كان إلهاً؛ هكذا المسيحيون أيضاً ولئن كانوا يجربون من الخارج لكنهم من الداخل مملوؤون من اللاهوتية ولا يضرهم شيء . فإن أدرك أحد هذه القامات ، يكون قد بلغ محبة المسيح الكاملة و “ملء اللاهوت”. أما من لم يكن على هذه الحال فإن له إلى الآن حرباً في داخله ، فيكون في راحة في صلاته حيناً، وحيناً آخر يجابه ضيقاً وحرباً. لأنه هكذا يشاء الرب فيدربه على الحروب إذ لا يزال طفلا ، وكلا الوجهين ينبعان في داخله : النور والظلمة ، الراحة والضيق ، فمثل هؤلاء يُصلون في راحة آنا ، ويكونون في اضطراب آنا آخر.

16 – أفمـا تـسـمـع مـا يقـولـه بـولس؟ «إن كانت لي كل المواهب، وإن أسلمت جسدي حتّى أحترق، وإن كنت أتكلم بألسنة الملائكة، ولكن ليس لي محبة، فلست شيئاً» (1کو13: 1-3 – حسب النص). ذلك لأن كل هذه المواهب إنما هي للتشجيع، وأولئك القائمون فيها – وإن يكونوا في النور – أطفال بعد. فإن كثيرين من الإخـوة قـد أدركـوا مثل هذه القامات، واقتنـوا مواهب شفاء وإعلانا ونبؤة ،ولكن لأنهم ما بلغوا المحبة الكاملة حيث «رباط الكمال» دهمتهم الحرب، وفي تهاونهم سقطوا. أما لو بلغ أحد المحبة الكاملة، فمذ ذاك يربط بالنعمة ويكون مأسوراً لها. ولكن حتّى وإن كان أحد يوشك أن يدنو من قامة المحبة دون أن يبلغ لأن يربط بالمحبة عينها، مثل هذا ما يزال تحت ربقة الخوف والحرب والسقوط، وإن لم يتحفظ يطرحه الشيطان.

17 – لأنه هكذا قد ضل كثيرون، إذ بعدما أتتهم النعمة توهموا أنهم أدركوا الكمال وطفقوا يقولون: “حسبنا هذا، فلا حاجة لنا إلى شيء إلا أن الرب لا نهاية له ولا يمكن الإحاطة به، والمسيحيون لا يجسرون أن يقولوا: “إنا قد أدركنا»، لكنهم يلبثون متواضعين ويطلبونـه ليـل نهار. ففي الأمور المنظورة لا نهاية للتعلم، وليس أحد يعرف هذا إلا من له باع طويلة في تحصيل العلوم؛ هكذا هنا أيضا: فإن الله لا يدرك ولا يقاس إلا للذين تذوقوا ذاك الذي قبلوه، وعرفـوا ضـعفهم. فلو أن أحدا لم يكـن يعرف إلا النزر اليسير من العلم ويذهب إلى ضيعة حيث يوجد عاميون، فإنه يمجد منهم كمتعلم لأنهم قرويون أقحاح لا يعرفون أن يميزوا؛ أما إن كان ذلك الرجل عينه، الذي لا يعرف العلم إلا يسيرا، يذهب إلى مدينة حيث يوجد خطباء ومتعلّمون فإنه لا يجرؤ أن يظهر أمامهم ولا أن يتكلّم، لأنه يحكم عليه كجاهل من أولئك المتعلمين.

[ز] لا ثمر للإنسان بدون الروح القدس

18 – سؤال: إن كان إنسان ينتقل من هذا العالم وهو لم يزل بعد في حرب، وله في نفسه الوجهـان معا: وجه الخطيئة ووجه النّعمة، فإلى أين يذهب وهو ممسوك من الجانبين؟

الجواب: إنه يذهب حيث يكـون هـدف عقله وحيث تكون محبته. فقط إن أتت عليك شدة وحرب فينبغي لك أن تقاومها وتبغضها، لأنه أن تأتي الحرب فهذا ليس من شأنك، أما الذي يخصك فهو أن تبغضها. حينئذ، حين ينظر الرب عقلك، أنك تجاهد وتحبه من كل نفسك، فإنّه يفصل الموت عن نفسك في ساعة واحدة – لأن ليس عنده أمر عسير – ويأخذك إلى أحضانه وإلى نوره، فيختطفك في لحظة من الزمان من جوف الظلمة وينقلك للتو إلى ملكوته. فإنه هيّن لدى الله صنع كل شيء في لحظة من الزمان؛ فقط ليكن لك حب من نحوه، فالله يحتاج إلى جهد الإنسان، لأن النفس شريكة للاهوتية.

19 – وكما ذكرنا مراراً كثيرة مثل الزارع، فإنه بعد أن يكد ويلقي البذار في الأرض ينبغي له أن ينتظر المطـر مـن فـوق. لأنه ما لم يظهر السحاب وتهب الرياح، يضيع تعب الفلاح هباء إذ إنّ البذرة تُدفن مجردة. فلتتّخذ هذا أيضا على العالم الروحاني: فإنه إذا ما عول الإنسان على جهـاده الخاص فقط، دون أن يتقبـل مـا هـو غريب عن طبيعته، لا يمكنه أن يعطي أثمارا لائقة بالرب. فما هو إذا عمل الإنسان؟ هو ترك (الكل)، والخروج من العالم، والمداومة على الصلاة، والسهر، ومحبة الله والإخوة؛ هذا هو ما يخصه. ولكنّه إن كان يعتمد على جهاده الخاص ولا يرجو قبول شيء آخر، ولا تهب على نفسه رياح الروح القدس، ولا تظهر سحابة سماوية وينزل مطر من السماء ويهطل على نفسه، فلا قدرة للإنسان أن يعطي أثمارا لائقة بالرب!

20– فإنه مكتوب إن الكرام حينما يرى الغصن آتيا بثمر ينقيه ليأتي بأكثر؛ وأما الذي لا يأتي بثمر فإنه يجتثه ويسلمه للحريق. لكن الذي يخص الإنسان هو هذا: إنـه سـواء كـان يـصـوم أو يسهر أو يصلي أو يعمل أي صلاح، يعزو كل شيء للرب، قائلًا: “لولا أنّ الرب قواني ما كنت أستطيع أن أصـوم أو أصلي أو أخرج من العالم، وهكذا حالما يرى الله نيتك الصالحة، أن الذي لك، الذي تصنعه بالطبيعة، تعزوه إلى الله، يغـدق هـو عـليـك الـذي لـه خـاصـة، أي الأمـور الروحية الإلهية السماوية. فما هي ثمار الروح؟ هي الابتهاج والشرور .

21 – سؤال: لكـن مـن حيث إنه توجد ثمار طبيعية كالمحبة والإيمان والصلاة، تشبه هذه الثمار الروحية، فبين لنا كيف تكون الطبيعية وكيف تكون الروحانية؟

الجواب: إن أعمالك التي تصنعها، وإن تكن حسنة ومقبولة لدى الله، لكنها ليست بطاهرة. فمثلا أنت تحب الله، لكن ليس بالكمال، فيأتي الرب ليعطيك محبة لا يعتريها تغيير – المحبة السّماوية. أنت تصلي على نحو طبيعي بطيش وتشتت فكر، ولكن الله يعطيك الصلاة النقيـة «بالروح والحـق». فإنّه في الأمـور المنظـورة، تخرج الأرض – في جُـل الأحيـان – الشوك من نفسها، أما الزارع فينقب ويعمل باجتهاد ويلقي بذاراً، لكن الشوك دون أن يزرع يطلع ثانية ويكثر، إذ قـد قيـل لآدم عقب التعدي: «حسكا وشوكا تنبت لك الأرض» (تك 3: 18 حسب النص). فيكد الزارع أيضا في الأرض ويقتلع الأشـواك وهي لا تزال تكثر. فلتتّخذ هذا المثال روحيًا: فإنه بعد التعدي تخرج أرض القلب شوكا وحسكا، فيعمل الإنسان ويكد ولكن لا يزال شؤك الأرواح الشريرة يطلع ثانية. ثم إن الروح نفسه يعين ضعف البشر، والرب يلقي زرعا سماويا في ذات أرض القلب ويفتحها، ورغم إلقائه الزرع لا ينفك الحسك والشوك يطلعان أيضا. ومرةً أخرى يفتح الرب نفسه أرض النّفس جنبا إلى جنب مع الإنسان، والأرواح الشريرة والأشـواك مـا تفتأ تنبع هناك وتطلع ثانية، إلى أن يصير الصيف وتكثر النعمة وتجف الأشواك بفعل حرارة الشمس.

22- لأنه وإن يكن الشر ملازما للطبيعة، غير أنه لا يسـود هـكـذا عليها ولا يكون له مرعى فيها. فإن أعواد القمح الرقيقة يمكن للزوان أن يخنقها، لكن حينما يقبـل الصيف وتجف السنابل، لا يعـود الـزوان يضرُ القمح في شيء. فحتّى وإن حدث أن هناك ثلاثين مكيالا من القمح النقي ومخلوط معه ربع مكيال من الزوان، فماذا يظهر منه؟ لأنه قد طمر بكثرة الحنطة؛ هكـذا أيضا في حالة النعمـة، فمتى ازدادت عطيـة الله ونعمته للإنسان فغدا غنيا للرب، فإن الشر – رغم كونه ملازما له جزئيا – لا يستطيع أن يضر الإنسان، ولا أن يكـون لـه قـوة عليـه أو مرعى فيه. لأنّ الرب وتدبيره قد صارا من أجل هذا: كي يعتق أولئك الذين ما برحوا مستعبدين للشر وواقعين بين براثنه ورازحين تحت وطأته، ويهبهم الغلبة على موت الخطيئة. فينبغي إذا للإخوة ألا يستغربوا إن كان يضيق عليهم من قبل البعض، لكيما يتحرروا من عقال الشر. 

[ح] كما تألم الرب لأجلنا، حري بنا أن نتألم لأجله

23– فإنه في القديم أيضا، مع أن موسى وهارون كان لهما الكهنوت فقد تألّما كثيرا؛ أما قيافا، الجالس على كرسي ذينك، فقد اضطهد هو نفسه الرب وحكم عليه، لكن الرب رغم هذا، إكراما للكهنوت، تركه يكهـن. كذلك الأنبياء كانوا يضطهدون من الأمة ذاتها، وأخيرا صـار بطرس خلفا لموسى، مؤتمنا على كنيسة المسيح الجديدة وعلى الكهنوت الحق. فإنه توجد الآن معمودية نار وروح، وختان يتم في القلب، لأنّ الروح الإلهي السماوي يسكن في القلب. لكن ولا حتّى هؤلاء الكاملون – مـا دامـوا في الجسـد – بمطمئنين، بسبب حرية إرادتهم، بل لا يبرحـون تحت الخوف، ولأجل هذا أيضا يخلى بينهم وبين التجارب. أما إذا بلغت النفس لأن تمضي إلى مدينة القديسين تلك، فحينئذ فقط يمكنها أن تكون بلا ضيق ولا تجارب، لأنه هناك لا يكون بعد هم ولا ضيق ولا تعب ولا شيخوخة ولا شيطان ولا حرب، بل راحة وفرح وسلام وخلاص، إذ يكون الرب في وسط قديسيه. هذا الذي دعي “مخلصا لأنه يخلص المسبيين، ودعي طبيبا لأنه يهب دواء سماويا إلهيا ويشفي أهـواء النفس التي لا تزال تسود أحيانا على الإنسان. فعلى سبيل المفاضلة نقول: إن يسوع هو ملك وإله، أما الشيطان فهو ظالم ورئيس شرير . 

24 – والله وملائكته – إلى ذلك – يرومـون أن يسكن هذا الإنسان معهم في الملكوت، كذلك الشيطان وملائكته يبتغون أن يسكن عندهم. فالنفس إذا هي في الوسط بين هاتين الحقيقتين، وفي النهاية أيما نصيب تنزع إليه مشيئة النفس يصير الإنسان ملكا له وابنا. فكما لو أن أبا يرسل ابنه إلى بلد غريب حيث تلقاه وحوش في الطريق، فيعطيه أدوية وما يبطل به السموم لكيمـا إذا أتـت عليـه الـوحـوش أو الأفاعي يعطيهـا مـن الـدواء ويقتلها؛ هكذا أنتم أيضا اجتهدوا أن تنالوا الدواء الشماوي الشافي للنفس والمحصن لها، لكي تقتلوا به الوحوش السامة التي للأرواح النجسة. فليس أمرا يسيرا اقتناء قلب نقي، إنما فقط بجهاد كثير ونصب يقتني الإنسان ضميرا وقلبا نقيا، حتّى تُستأصل منه شأفة الشر.

25 – فإنه يعرض أن تكون النعمة في أحد، بينما قلبه ما تنقى بعد، ولهذا السبب سقط الذين سقطوا، لأنهم لم يصدقوا أن الدخان والخطيئة ما ينفكان يلازمانهم حتى بعد قبولهم النعمة. أما جميع الأبرار فقد أرضوا الله إلى المنتهى عبر الطريق الضيقة الضاغطة؛ فإبراهيم، رغم كونه غنيا بحسب الله وكذا بحسب العالم، كان يدعو نفسه «تُرابا ورمادا»؛ وداود يقول: «أما أنا فعـار البشر، ومحتقر الشعب، ودودة لا إنسـان» (مز21: 7 س – النص)؛ بالمثل جميع الأنبياء والرسل كانوا مذلين ومعيرين. لا بل إنّ الرب نفسه، الذي هو الطريق والإله، لما جاء – لا لأجل نفسه، بل لأجلك أنت – لكي يصير مثالا لك في كل صلاح، أنظر إلى أية مذلة بلغ، «آخذا صورة عبد»، وهو الإله ابن الإله، والملك ابن الملك، المعطي بنفسه أدوية شافية والواهب البرء للمجروحين، أما من الخارج فكان يبدو كواحد من المجروحين.

26- لكن إياك والاستهانة بجلاله الإلهي حين تنظـره مـن الخـارج مذلولا نظير واحد منا! فإنه من أجلنـا ظهر هكذا لا أجل ذاته. تأمله في الساعة التي فيها طفقوا يصرخون: «إصلبة! إصلبه!» (لو23: 21)، وكان الجمع محتشدا، كيف كان مذلولا أكثر من الكل! فكما أنه في الأمور الظاهرة، إن كان هناك فاعـل شـر قـد صـدر عليـه حـكـم مـن الوالي، فإنه يمسي بالتالي مرذولا ومحتقرا من جميع الناس؛ هكذا الرب في ساعة الصليب، كإنسان مشرف على الموت، تجـرع مـن الفريسيين غصص الهـوان. فحين بصقوا على وجهـه ووضعوا عليـه إكليـل شـوك ولطموه، أية مذلة لم يجزها؟! لأنه مكتوب: «ظهري قد بذلت للسياط، ووجهي لم أرد عن خزي البصاق، وخدي عن اللطم» (إش50: 6 س حسب النص). فـإن كـان الله قـد نـزل إلى مثـل هـذا الـدرك مـن الإهانات والآلام والمذلة، أفأنت – يا مـن بطبيعتـك طين وذو طبيعـة مائتة – مهما تذللت بكل نوع، ستعمل شيئا يضارع ما عمله سيدك؟! فإن الإله، من أجلك، قد واضع ذاته، أفأنت من أجل ذاتك لا تتذلل بل ترتفع وتنتفخ؟! هو أتى ليحمل ضيقاتك وأثقالك ويعطيك راحته، أفلا تشاء أنت أن تتحمل الأتعاب وتتألم لكي يمكنك بهذا أن تنـال شفاء لجراحاتك؟! فالمجد لإمهاله وطول أناته، إلى الدهور، آمين.


  1.  هذه الفكرة البسيطة الحكيمة : أن يعتبر الإنسان ذاته مبتدئا على الدوام ، كانت هي السر وراء احتفاظ ق . أنطونيوس أبي أنبا مقار ومعلمه بغيرته وحميته ثابتتين منذ بداية رهبنته إلى نهاية حياته ، ونجدها ليس أقل من أربع مرات في سيرته بقلم ق. أثناسيوس [فصل 7 ( مرتان ) ، فصل 16 في مُستهل خطابه المطول للرهبان ) ، فصل 91( وصيته الأخيرة عند نياحته )] .
  2. كل يوم ،هاتان الكلمتان سوياً هما أيضاً سر عظيم جلیل القدر قد حفظ للقديس أنطونيوس عزمه وقلبه مشتعلين ومتوقدين إلى النهاية ، ونجد عبارة كل يوم مذكورة أربع عشرة مرة في سيرته لتصف دوام جهاده [ الفصول 7 ( مرتان ) ، 16 ، 18، 19( أربع مرات ) ، 45 ، 47 ، 55 ، 66 ، 89( عند نياحته ) ، 91( عند نياحته أيضاً)].
  3. لنلاحظ أن أنبا مقار قد أورد في هذه الفقرة فقط أربع مرات سلاحاً روحياً باراً، سداه الفرح ولحمته الرجاء. وهذا إنما يذكرنا بنصيحة أنبا أنطونيوس الذهبية التي جمع فيها تينك الفضيلتين ’ إذا أردنا احتقار العدو ، فلنتأمل دواماً في ما للرب ، ولتفرح النفس كل حين في الرجاء”. ( سيرة ق . أنطونيوس 41 ) ، ولعلك الآية التي يستلهمانها هي : « فرحين في الرجاء » ( رو 12:12) .

زر الذهاب إلى الأعلى