تفسير رسالة كورنثوس الثانية ١١ للقديس يوحنا ذهبي الفم
تفسير كورنثوس الثانية – الإصحاح الحادي عشر
«لَيْتَكُمْ تَحْتَمِلُونَ غَبَاوَتِي قَلِيلاً! بَلْ أَنْتُمْ مُحْتَمِلِيَّ.»(ع1)
لم يقل بولس الرسول هذه الأقوال طلباً للمجد أي التي عزم أن يقـولهـا الآن، لكنه لم يفكر في شيء من هذا بل نظر إلى أمر واحد وهو خلاص الذين يسمعون الأقوال فقال « ليتكم تحتملون غباوتي » وبهذا جعلهم يثقون جداً في المحبة ، ثابتاً أنه يحبهم لا بمحبة بسيطة كيفما اتفقت بل إنها محبة ناشئة عن حرارة عشق بجنون فقال إنه يجب أن يحتملوه في غباوته وجهالته.
«فَإِنِّي أَغَارُ عَلَيْكُمْ غَيْرَةَ اللهِ، لأَنِّي خَطَبْتُكُمْ لِرَجُل وَاحِدٍ، لأُقَدِّمَ عَذْرَاءَ عَفِيفَةً لِلْمَسِيحِ.»(ع2)
لم يقل لأننى أحبكم وإنما قال ما كان أكبر من ذلك جداً فقال « أغار عليكم » لأن أنفس العشاق تلتهب بالغيرة جداً ولا تتولد الغيرة عن شيء آخر سوى عن المحبة المتزايدة جداً.
وقوله « غيرة الله » لأن الرب يغار فقـد قيل « غيرة رب الجنـود تصنـع هذا » ( ۲ مل ۱۹ : ۳۱ ) وليـعـرف الكل أن بولس الرسـول لا يفعل أي شيء لسبب آخرى سوى لأجلهم ، لأنه يغار عليهم لا ليربح شيئاً آخر بل ليخلصهم ، وهكذا هي غيرة الله ، وهكذا هي غيرته ، شديدة وطاهرة معاً ، ثم إن سببها ضروري.
وقوله « لأنى خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح » أي لا أغار إذا لذاتي بل لذاك الذي خطبكم له ، لأن الوقت الحـاضـر هو وقت الخطبـة أمـا وقت الزفاف فهو وقت آخر عندما يقولون قام الختن ، يا لها من أمور جديدة ، في العالم يبقى الناس قبل الزواج بتوليين وبعد الزواج لا، وأما في السماء فليس كذلك بل وإن لم يكونوا عـذارى قبل الزواج وبعـده يـصـيـرون بتـوليين، وهكذا الكنيسة كلها تصيـر بتـولاً لأنه قال هذا القول مخاطباً الجميع : المتزوجين وغير المتزوجين.
«وَلكِنَّنِي أَخَافُ أَنَّهُ كَمَا خَدَعَتِ الْحَيَّةُ حَوَّاءَ بِمَكْرِهَا، هكَذَا تُفْسَدُ أَذْهَانُكُمْ عَنِ الْبَسَاطَةِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ.»(ع3)
بذكر هذا الخبر جعلهم في خوف كبير ، لأنه إذا كانت الحية ذات مكر ، وحواء عديمة الفهم فلم ينقذها من هذا شيء أصلاً ، فانظروا إذا لئلا يصيبكم هذا الأمر فليس من يحامي عنكم .
ولم يقل بولس الرسول كما خدع آدم وإنما قال « كما خدعت الحية حواء » إذ أوضح أن الخديعة للنساء.
«فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ الآتِي يَكْرِزُ بِيَسُوعَ آخَرَ لَمْ نَكْرِزْ بِهِ، أَوْ كُنْتُمْ تَأْخُذُونَ رُوحًا آخَرَ لَمْ تَأْخُذُوهُ، أَوْ إِنْجِيلاً آخَرَ لَمْ تَقْبَلُوهُ، فَحَسَنًا كُنْتُمْ تَحْتَمِلُونَ.»(ع4)
من هذا القول أوضح بولس الرسول أن أهل كورنثوس لم يفسدوا من ذواتهم بل أتى الـمضلون إليهم من موضع آخر.
«لأَنِّي أَحْسِبُ أَنِّي لَمْ أَنْقُصْ شَيْئًا عَنْ فَائِقِي الرُّسُلِ.»(ع5)
انظر كيف أن بولس الرسول يتواضع هنا لأنه لم يقل إن الرسل لم يتولوا شيئاً أكثر منى لكنه قال « لأنى أحسب أني لم أنقص شيئاً عن فائقى الرسل».
وجعل بولس الرسول المقايسة معهم بالشكل اللائق ولذلك عندما ذكرهم لم يقل الرسل على الإطلاق لكنه قال عن الفائقين المعظمين جداً مشيراً إلى بطرس ويعقوب ويوحنا.
«وَإِنْ كُنْتُ عَامِّيًّا فِي الْكَلاَمِ، فَلَسْتُ فِي الْعِلْمِ، بَلْ نَحْنُ فِي كُلِّ شَيْءٍ ظَاهِرُونَ لَكُمْ بَيْنَ الْجَمِيعِ.»(ع6)
حيث إن أولئك الذين أفسدوا أهل كورنثوس كانوا يفتخرون بهذا أى كونهم غير أميين وضع بولس الرسول هذا القول ولم يستح بذلك لكنه كان يفتخر به، ولم يقل وإن كنت في كلامي أمياً بل وهم ـ أيضاً ـ أميون لأن هذا كان يبدو مذمة لهم أيضاً.
وقـوله « بل نحن في كل شيء ظاهرون لكـم بين الجـمـيع » هنا يلوم الرسل الكذبة ويذمهم بأنهم سالكون بالمكر في حين إنه لم يغش حسب الوجه ولا كرز غاشاً بالقول ، أما أولئك فكانوا يظهرون بخلاف ما هم عليه وأما هو فليس كذلك فلسان حاله يقول إننا في كل أمر ظهرنا لكم كوننا أميين ولا نخفى أنفسنا ، نأخذ من قـوم ولا نسكت فنأخـذ منكم ولا نتظاهر بعـدم الأخذ مثل هؤلاء إذ يأخذون وينكرون الأخذ ، لكننا نفعل كل شيء ظاهراً لكم.
«أَمْ أَخْطَأْتُ خَطِيَّةً إِذْ أَذْلَلْتُ نَفْسِي كَيْ تَرْتَفِعُوا أَنْتُمْ، لأَنِّي بَشَّرْتُكُمْ مَجَّانًا بِإِنْجِيلِ اللهِ؟ 8سَلَبْتُ كَنَائِسَ أُخْرَى آخِذًا أُجْرَةً لأَجْلِ خِدْمَتِكُمْ، وَإِذْ كُنْتُ حَاضِرًا عِنْدَكُمْ وَاحْتَجْتُ، لَمْ أُثَقِّلْ عَلَى أَحَدٍ.»(ع7، 8)
قول بولس الرسول « إذ أذللت نفسی کی ترتفـعـوا » أي بالـضـيـقـة تـصـرفت وأذللت نفسى ، هذا قد تلوموننى عليه ، ولسببه تتعالون مترفعين على إذ أذللت نفسی متوسلاً متضايقاً جائعاً لترتفعوا أنتم ، ولم يقدم قوله في معنى الشدائد ولا في معنى المعجزات بل في معنى التغافل عن الأموال.
ولم يقل أخذت بل قال « سلبت » آخرين أي عريتهم وأفقرتهم.
والأمـر الأعظـم لـم يقل ذلك للزيادة بل لحاجة الأمـور الضـرورية ، لأنه عندما الأمـور الـضـرورية ، والأصعب من ذلك قوله « لأجل خدمتكم » إذ نكرز لكم ، وكان يجب أن يكون قوتنا من عندكم وقد استمددنا ذلك من الغير ، فالذنب مثنى لا بل مثلث ، أى أنه إذ كان مقيماً عندهم وخادماً لهم وإذ كان محتاجاً للقوت الضـرورى كان يعطيه له الغير والفرق المفرط كان كثيراً بين هؤلاء وأولئك ؛ هؤلاء في كسلهم وأولئك في اجتهادهم فأولئك إذ كان بعيداً عنهم كانوا يرسلون له وأما هؤلاء ولا في حضوره كانوا يقيتونه.
«لأَنَّ احْتِيَاجِي سَدَّهُ الإِخْوَةُ الَّذِينَ أَتَوْا مِنْ مَكِدُونِيَّةَ. وَفِي كُلِّ شَيْءٍ حَفِظْتُ نَفْسِي غَيْرَ ثَقِيل عَلَيْكُمْ، وَسَأَحْفَظُهَا. »(ع9)
قول بولس الرسول « لأن احتياجي سده الإخوة الذين أتوا من مكدونية » رأيت كيف عمل بولس الرسول على إغاظتهم إذ قدم إلى الوسط الذين خدموه، لأنه في البداية اقتادهم إلى الاشتياق لأن يعرفوا من كانوا هؤلاء عندما قال « سلبت كنائس أخرى أخذاً أجرة » ( ۲ کو ۱۱ : ۸ ) وهنا ذكرهم بأسمائهم الأمر الذي به استحثهم أيضاً على الصدقة.
وقوله « في كل شيء حفظت نفسى غيـر ثقيل عليكم وسأحفظها » أي لا تظنوا أننى أقول هذه الأقوال لكي آخذ إذ لم يترك لهم أملاً في الأخذ منهم لكنه قطع الرجاء في ذلك بالكلية.
«حَقُّ الْمَسِيحِ فِيَّ. إِنَّ هذَا الافْتِخَارَ لاَ يُسَدُّ عَنِّي فِي أَقَالِيمِ أَخَائِيَةَ.»(ع10)
وحتى لا يظن أحد أنه قد يعترى بولس الرسول الغم قال هذه الأقوال مسمياً القضية فخراً.
«لِمَاذَا؟ أَلأَنِّي لاَ أُحِبُّكُمْ؟ اَللهُ يَعْلَمُ.»(ع11)
حل بولس الرسول القضية سريعاً بأسلوب المصالحة ، إلا أن ولا على هذا الوجه عتقهم من الزلات ، لأنه لم يقل إنكم لستم ضعفاء ولم يقـل أنتم أقوياء بل قال « الأنى لا أحبكم » القول الذي بالحرى يزيد في مذمتهم لأن من محبته الكثيرة لم يأخذ منهم ، كونهم بهذا بالحرى يبكتون .
«وَلكِنْ مَا أَفْعَلُهُ سَأَفْعَلُهُ لأَقْطَعَ فُرْصَةَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ فُرْصَةً كَيْ يُوجَدُوا كَمَا نَحْنُ أَيْضًا فِي مَا يَفْتَخِرُونَ بِهِ.»(ع12)
قول بولس الرسول « في ما يفتخرون به » إذ كان هذا القول استهزاء بكبريائهم ، لأنهم كانوا يفاخرون بهذا الذي لم يكن فيهم ، لأن الرجل الشهم لا يفتخر بما ليس فيه فقط ، بل ولا بما فيه.
«لأَنَّ مِثْلَ هؤُلاَءِ هُمْ رُسُلٌ كَذَبَةٌ، فَعَلَةٌ مَاكِرُونَ، مُغَيِّرُونَ شَكْلَهُمْ إِلَى شِبْهِ رُسُلِ الْمَسِيحِ.»(ع13)
ما هو هذا القول الذي تقوله يا بولس ، الذين يكرزون بالمسيح ولا يأخذون أموالاً ، الذين لم يدخلوا بشارة أخرى هم رسل كذبة ؟ ! يقول : نعم ولهذا السبب نفسه إذا هم بالحرى هكذا كونهم يفعلون هذه كلها ليخدعوا وهم فعلة غاشون ، لأنهم قد يعملون إلا أنهم يقلعون المغروس وتصوروا بصورة الحق ، وهكذا تصنعوا بحيلة الضلال ، وقد يقولون إنهم لا يأخذون أموالاً وإنما كانوا يأخذون خفية.
«وَلاَ عَجَبَ. لأَنَّ الشَّيْطَانَ نَفْسَهُ يُغَيِّرُ شَكْلَهُ إِلَى شِبْهِ مَلاَكِ نُورٍ! فَلَيْسَ عَظِيمًا إِنْ كَانَ خُدَّامُهُ أَيْضًا يُغَيِّرُونَ شَكْلَهُمْ كَخُدَّامٍ لِلْبِرِّ. الَّذِينَ نِهَايَتُهُمْ تَكُونُ حَسَبَ أَعْمَالِهِمْ.»(ع14، 15)
إن كان هناك موضع للتعجب فيجب أن نتعجب من هذا أنه يوجد ملاك النور الذي له الدالة بأن يتكلم إذ هو قائم أمام الله ، هكذا يوجد ملائكة مظلمون وهم جنود إبليس الأردياء.
والشيطان أضل كثيرين متمثلاً ملاك نور ، هكذا وخدامه الذين تظاهروا على مثال الرسل ، لأنه لا يكون شيء شيطانياً كالذي يتظاهر .
«أَقُولُ أَيْضًا: لاَ يَظُنَّ أَحَدٌ أَنِّي غَبِيٌّ. وَإِلاَّ فَاقْبَلُونِي وَلَوْ كَغَبِيٍّ، لأَفْتَخِرَ أَنَا أَيْضًا قَلِيلاً.»(ع16)
قول بولس الرسول « أقول أيضاً » لأنه كان قد سبق فاستعمل تقويمات كثيرة ، لكنه لم يكتف بما قاله فقال أيضاً.
وقوله « لا يظن أحد أني غبى » لأن هذا الأمر كان فعل قوم يتفاخرون بغير داع.
أما قوله « وإلا فاقبلوني ولو كغبي لأفتخر » إمعن نظرك أنه في كل مرة عزم بولس الرسول على مدح ذاته يسبق فيصد ذلك.
«الَّذِي أَتَكَلَّمُ بِهِ لَسْتُ أَتَكَلَّمُ بِهِ بِحَسَبِ الرَّبِّ، بَلْ كَأَنَّهُ فِي غَبَاوَةٍ، فِي جَسَارَةِ الافْتِخَارِ هذِهِ.»(ع17)
رأيت كيف أن الافتخار ليس هو بما يختص بالرب ، لأن الكتاب يقـول في موضع آخر « كذلك أنتم أيضاً متى فعلتم كل ما أمرتم به فقولوا إننا عبيد بطالون » ( لو ۱۷ :۱۰).
«بِمَا أَنَّ كَثِيرِينَ يَفْتَخِرُونَ حَسَبَ الْجَسَدِ، أَفْتَخِرُ أَنَا أَيْضًا.»(ع18)
المقصود من قول بولس الرسول « يفتخرون حسب الجسد » أي الافتخار بشرف الجنس ، بالغنى ، بالحكمة ، بالختان ، أن يكون أحد له أجداد يهود.
«فَإِنَّكُمْ بِسُرُورٍ تَحْتَمِلُونَ الأَغْبِيَاءَ، إِذْ أَنْتُمْ عُقَلاَءُ! لأَنَّكُمْ تَحْتَمِلُونَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَسْتَعْبِدُكُمْ! إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْكُلُكُمْ! إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْخُذُكُمْ! إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَرْتَفِعُ! إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَضْرِبُكُمْ عَلَى وُجُوهِكُمْ!»(ع19، 20)
إذ دفعتم لهم أموالكم وأجسادكم وحريتكم ، لأن هذا الأمر هو أعظم من الأخذ فى ألا يكونوا أسيادا على أموالكم فقط بل وعلى أنفسكم أيضاً.
«عَلَى سَبِيلِ الْهَوَانِ أَقُولُ: كَيْفَ أَنَّنَا كُنَّا ضُعَفَاءَ! وَلكِنَّ الَّذِي يَجْتَرِئُ فِيهِ أَحَدٌ، أَقُولُ فِي غَبَاوَةٍ: أَنَا أَيْضًا أَجْتَرِئُ فِيهِ.»(ع21)
قال بولس الرسول هذا القول لا لأنهم كانوا يضربونهم على وجوههم بل كانوا يبصقون عليهم ويحتقرونهم لأن ما هو الذى يصير أشد من هذا وأى سيادة تكون أمرّ من هذه إذا ما انتزعوا أموالكم وحريتكم وكرامتكم ولا يتركونكم ولا فى منزلة العبيد، لكنهم يستعملونكم أذل من كل عبد مشترى بالفضة .
«أَهُمْ عِبْرَانِيُّونَ؟ فَأَنَا أَيْضًا. أَهُمْ إِسْرَائِيلِيُّونَ؟ فَأَنَا أَيْضًا. أَهُمْ نَسْلُ إِبْرَاهِيمَ؟ فَأَنَا أَيْضًا.»(ع22)
أى أن بولس الرسول أعلى شأنا وأفضل منهم.
«أَهُمْ خُدَّامُ الْمَسِيحِ؟ أَقُولُ كَمُخْتَلِّ الْعَقْلِ، فَأَنَا أَفْضَلُ: فِي الأَتْعَابِ أَكْثَرُ، فِي الضَّرَبَاتِ أَوْفَرُ، فِي السُّجُونِ أَكْثَرُ، فِي الْمِيتَاتِ مِرَارًا كَثِيرَةً.»(ع23)
ابتدأ بولس الرسول فى ذكر المحن التى واجهها من تعب وجرح وجلد وحبس وميتات كثيرة ، لأنه قال من قبل « كما هو مكتوب إننا من أجلك نمات كل النهار قد حسبنا مثل غنم للذبح » ( رو٨ :٣٦).
«مِنَ الْيَهُودِ خَمْسَ مَرَّاتٍ قَبِلْتُ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً إِلاَّ وَاحِدَةً.»(ع24)
ولأى سبب « إلا واحدة » ؟! لأن الشريعة القديمة كانت تقول إن الذى يضرب أكثر من أربعين جلدة يكون محتقراً عندهم ، ولكى لا يصير المضروب محتقرا أمر بأن يضرب أربعين جلدة إلا واحدة ، وذلك حتى لا يُحتقر المضروب .
«ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ضُرِبْتُ بِالْعِصِيِّ، مَرَّةً رُجِمْتُ، ثَلاَثَ مَرَّاتٍ انْكَسَرَتْ بِيَ السَّفِينَةُ، لَيْلاً وَنَهَارًا قَضَيْتُ فِي الْعُمْقِ.»(ع25)
قـول بولس الرسول « ثلاث مرات انكسرت بي السفينة» ، لأنه كان يرسل إلى طرق بعيدة ذات غرق.
وقوله « ليلاً ونهاراً قضيت في العمق » قال قوم إن بولس الرسول بقى في وسط اللجة ، وآخرون قالوا كان سابحاً ؛ القـول الذي هو أصدق لأنه ذلك الـقـول ليس بغريب
«بِأَسْفَارٍ مِرَارًا كَثِيرَةً، بِأَخْطَارِ سُيُول، بِأَخْطَارِ لُصُوصٍ، بِأَخْطَارٍ مِنْ جِنْسِي، بِأَخْطَارٍ مِنَ الأُمَمِ، بِأَخْطَارٍ فِي الْمَدِينَةِ، بِأَخْطَارٍ فِي الْبَرِّيَّةِ، بِأَخْطَارٍ فِي الْبَحْرِ، بِأَخْطَارٍ مِنْ إِخْوَةٍ كَذَبَةٍ.»(ع26)
قول بولس الرسول « بأخطار في المدينة بأخطار في البرية بأخطار في البحر » لأن الضرورة كانت تدعوه للمجاهدة في كل مكان ، في المدن وفي البراري وفي البحر.
وقوله « بأخطار من إخوة كذبة » انظر حرباً من نوع آخر ، ليس الأعداء فقط كانوا يضـرون بولس الرسول بل المتظاهرون بالإخوة أيضـاً وكان الأمر يحتاج إلى كثير وفهم زائد.
«فِي تَعَبٍ وَكَدٍّ، فِي أَسْهَارٍ مِرَارًا كَثِيرَةً، فِي جُوعٍ وَعَطَشٍ، فِي أَصْوَامٍ مِرَارًا كَثِيرَةً، فِي بَرْدٍ وَعُرْيٍ.»(ع27)
أخطار أتعاب وأتعاب أخطار كانت متتابعة متواصلة ولم تكن تتركه يرتاح قليلاً.
«عَدَا مَا هُوَ دُونَ ذلِكَ: التَّرَاكُمُ عَلَيَّ كُلَّ يَوْمٍ، الاهْتِمَامُ بِجَمِيعِ الْكَنَائِسِ.»(ع28)
قول بولس الرسول « عدا ما هو دون ذلك » إن الشدائد التي ترك ذكرها أكثر من التي أحصاها ، بل ولا هذه التي أحصاها ذكرها حسب كميتها ، لأنه لم يكتبها بأنواعها بل ما كان يفهم منها وعدده قليل الذي ذكره فقال ثلاث مرات ودفعة ، وأما الشدائد الأخرى فلم يذكرها هكذا كونه ذكرها مراراً كثيرة ، ولم يذكر الفضائل الناشئة عنها أعنى أنه استرد أناساً هذا مقدارهم بل إن ما قاساه من أجل الكرازة ذكره متواضعاً.
وقوله « ذلك التراكم على كل يوم » أى الاضطرابات الانزعاجات ، احتياطات الجموع ونهضات أهل المدن هذا ما كان على وجه الخصوص يحاربه به اليهود ، وكان أعظم توبيخ لجنونهم كونه بغتة غير ترتيبهم ، وكان يثور عليه الحرب كثيراً من ذويه من المرائين وفي كل موضع هيجان الأمواج وهطل الأمطار في المسكونة في البر والبحر ، من خارج ومن داخل ، ولم يقاوم بل كان يحسب ذلك هبة.
أما قوله « الاهتمام بجميع الكنائس » هذا هو تمام الأمور وغايتها لأن نفس بولس الرسول كانت تتمزق وضميـره يتفتت ، فالشدة من الخارج والحرب من الداخل والأمواج المتراكمة ، وأمطار المصاعب الهاطلة وحرب الأفكار لأنه إن كان الذي يعتني بأمر بيت و بيت واحد وله عبيد ووكلاء ونظار لا يرتاح قط من الاهتمامات ، وهذا بولس الرسول المهتم ليس ببيت واحد بل بمدن وجماهير وأمم المسكونة بأسرها متكبداً آلاما بهذا المقدار من أجل مثل هذه الأمور مع وجود المضرين الذين هذا مقدارهم ومعتنى بالكل أكثر . اعتناء الأب بأولاده .
تفطن إذا فيما احتمله بولس الرسول.
«مَنْ يَضْعُفُ وَأَنَا لاَ أَضْعُفُ؟ مَنْ يَعْثُرُ وَأَنَا لاَ أَلْتَهِبُ؟ »(ع29)
لم يقل من يضعف وأنا لا أشارك ضعفه بل قال « من يضعف وأنا لا أضعف» كمن يوجد في الداء في المرض عينه هكذا انزعج بولس الرسول مضطرباً. وقوله « من يضعف » إنه يقصد كل إنسان ، وكما أنه كان هو الكنيسة التي في المسكونة كلها ، هكذا كان يتألم عن كل عضو.
أما قوله « من يعثر وأنا لا ألتهب»، انظر أيضاً إفراط التألم ، كيف أنه استعار تسمية الالتهاب قائلاً ؛ اشتعل ، احترق ، الأمر الذي كان أعظم الأشياء كلها.
«إِنْ كَانَ يَجِبُ الافْتِخَارُ، فَسَأَفْتَخِرُ بِأُمُورِ ضَعْفِي.»(ع30)
رأيت كيف أن بولس الرسول لم يفتخر بالآيات بل بالاضطهادات والتجارب أمـور الضعف ، لأن اليـهـود كـانـوا يحاربونه والأمم يـقـاومـونه والإخـوة الكذبة يغمونه وإخوته يحزنونه ، والاضطراب محدق به من كل جهة من ذويه ومن هی الغرباء.
«اَللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي هُوَ مُبَارَكٌ إِلَى الأَبَدِ، يَعْلَمُ أَنِّي لَسْتُ أَكْذِبُ. فِي دِمَشْقَ، وَالِي الْحَارِثِ الْمَلِكِ كَانَ يَحْرُسُ مدِينَةَ الدِّمَشْقِيِّينَ، يُرِيدُ أَنْ يُمْسِكَنِي،»(ع31، 32)
انظر لما كان بولس الرسول قد أشعل بهذا المقدار جنون والى الحارث الملك ، وهذه حالة نفس بولس الرسولية حيث إنه احتمل أموراً هذا مقدارها ولم يتزعزع بل احتمل ما يأتى عليه.
«فَتَدَلَّيْتُ مِنْ طَاقَةٍ فِي زَنْبِيل مِنَ السُّورِ، وَنَجَوْتُ مِنْ يَدَيْهِ.»(ع33)
انظر هنا كيف قبل بولس الرسـول الهروب من المحاصرة ، لأنه وإن كـان قـد اشتهى السفر من هناك ، لكنه كان يشتاق خلاص الناس ، فلذلك مراراً كثيرة كان يحتال بمثل هذه الحيل حافظاً ذاته للكرازة ولم يمتنع من استعمال حيل البشر عندما دعت الضرورة إلى ذلك ، هكذا كان منتبها فائقاً.
ولكن عندما تكون الشرور لا مهرب منها يسلم الأمر للنعمة وحدها ، أما عندما تكون المحنة معتدلة كان بولس الرسول يتدبر بعقله أموراً كثيرة من تلقاء نفسه ، وهنا أيضاً ينسب الأمور كلها لله.
تفسير 2 كورنثوس 10 | تفسير رسالة كورنثوس الثانية | تفسير العهد الجديد |
تفسير 2 كورنثوس 12 |
القديس يوحنا ذهبي الفم | |||
تفاسير رسالة كورنثوس الثانية | تفاسير العهد الجديد |