تفسير رسالة كورنثوس الثانية ٢ للقديس يوحنا ذهبي الفم

تفسير كورنثوس الثانية – الإصحاح الثاني

 

«وَلكِنِّي جَزَمْتُ بِهذَا فِي نَفْسِي أَنْ لاَ آتِيَ إِلَيْكُمْ أَيْضًا فِي حُزْنٍ.»(ع۱).

يبدو بولس الرسول هنا أنه يعتذر وبخفية يلذعهم ، لأنهم إن كانوا أحزنوه الآن فهم عتيدون أن يحزنوه أيضا.

«لأَنَّهُ إِنْ كُنْتُ أُحْزِنُكُمْ أَنَا، فَمَنْ هُوَ الَّذِي يُفَرِّحُنِي إِلاَّ الَّذِي أَحْزَنْتُهُ؟»(ع۲).

إذ كان بولس الرسول عتيداً أن يوجد في الحزن فالتزم أن يزجرهم ويراهم محزونين إلا أن هذا الأمر نفسه قد أفرحه ، لأن هذا علامة المحبة العظمى أن يكون أهلاً لمثل هذا الأمر ، لأن الأمر الذي كان عادة التلاميذ أن يحزنوا ويتوجعوا إذا ما زُجروا ، هذا الأمر نفسه نسبه لهم كجمیل صدر منهم فقال : “فمن هو الذي يفرحني إلا الذي أحزنته”.

«وَكَتَبْتُ لَكُمْ هذَا عَيْنَهُ حَتَّى إِذَا جِئْتُ لاَ يَكُونُ لِي حُزْنٌ مِنَ الَّذِينَ كَانَ يَجِبُ أَنْ أَفْرَحَ بِهِمْ، وَاثِقًا بِجَمِيعِكُمْ أَنَّ فَرَحِي هُوَ فَرَحُ جَمِيعِكُمْ.»(ع3).

حيث إن بولس الرسول قال من قبل إنه يفرح إذا أحزنهم وإذا كان هذا القول قاسياً عكسه على وجه آخر وصيره أرق فقال هنا « إن فرحي هو فرح جميعكم ».

«لأَنِّي مِنْ حُزْنٍ كَثِيرٍ وَكَآبَةِ قَلْبٍ كَتَبْتُ إِلَيْكُمْ بِدُمُوعٍ كَثِيرَةٍ، لاَ لِكَيْ تَحْزَنُوا، بَلْ لِكَيْ تَعْرِفُوا الْمَحَبَّةَ الَّتِي عِنْدِي وَلاَ سِيَّمَا مِنْ نَحْوِكُمْ.» (ع4) .

أي نفس تكون جذابة أكثر من نفس بولس الرسول ؟ حيث أوضح إنه يحزن ليس بقليل على الذين أخطأوا ، لأنه لم يقل من حزن فقط بل قال « من حزن كثير».

ولم يقل بدموع فقط ، بل قال “بدموع كثيرة”.

وحيث إن بولس الرسول لم يطق احتمال سحابة الغموم كتب إليهم لا ليحزنوا فقط بل کتب “لتعرفوا المحبة التي عندي” أنها متوافرة كثيرة.

ولم يقل المحبة على الإطلاق وإنما قال “المحبة التي عندي ولاسيما من نحوكم”، حيث قصد بذلك اجتذابهم ، إذ أظهر لهم إنه يحبهم أكثر من الجميع.

«وَلكِنْ إِنْ كَانَ أَحَدٌ قَدْ أَحْزَنَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُحْزِنِّي، بَلْ أَحْزَنَ جَمِيعَكُمْ بَعْضَ الْحُزْنِ لِكَيْ لاَ أُثَقِّلَ.» (ع5).

قول بولس الرسول “أحزن جميعكم بعض الحزن” بذلك أظهرهم مشارکین همومه.

«مِثْلُ هذَا يَكْفِيهِ هذَا الْقِصَاصُ الَّذِي مِنَ الأَكْثَرِينَ، » ( ع 6).

لم يذكر هنا الزاني وإنما قال “مثل هذا”، كما فعل في الرسالة الأولى إلى کورنثوس ، ولم يذكر الخطية فيما بعد أصلا كون الوقت وقت اعتذار.

«حَتَّى تَكُونُوا ­ بِالْعَكْسِ ­ تُسَامِحُونَهُ بِالْحَرِيِّ وَتُعَزُّونَهُ، لِئَلاَّ يُبْتَلَعَ مِثْلُ هذَا مِنَ الْحُزْنِ الْمُفْرِطِ.» ( ع7) .

قول بولس الرسول “تسامحونه بالحرى وتعزونه”، لئلا بدون المسامحة تصير حالته أسوأ . وقوله “لئلا يبتلع مثل هذا من الحزن المفرط ” لئلا يفعل ما فعله يهوذا الإسخريوطي بعدما سلم السيد المسيح.

«لِذلِكَ أَطْلُبُ أَنْ تُمَكِّنُوا لَهُ الْمَحَبَّةَ.»( ع8).

لم يأمر بولس الرسول هنا بل يطلب ، لا كمعلم بل كمساعد في الكرامة ، فأجلسهم على كرسى التعليم وأقر ذاته في منزلة المساعد فاستعمل التوسل . وقول بولس الرسول “أن تمكنوا له المحبة”، لأن هذا الأمر هو فضيلة التلاميذ كما أنه فضيلة المعلمين ، أي أن يكونوا محبين. 

«لأَنِّي لِهذَا كَتَبْتُ لِكَيْ أَعْرِفَ تَزْكِيَتَكُمْ، هَلْ أَنْتُمْ طَائِعُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ؟»( ع9).

 المقصود من قول بولس الرسول “هل أنتم طائعون في كل شيء” لأن هذا هو سمات التلاميذ الأوفياء أي أنهم لا يطيعون في تلك فقط بل وأن يطيعوا في أضدادها أيضاً ، وقد فعل هذا لكي يلزمهم بالطاعة.

«وَالَّذِي تُسَامِحُونَهُ بِشَيْءٍ فَأَنَا أَيْضًا. لأَنِّي أَنَا مَا سَامَحْتُ بِهِ إِنْ كُنْتُ قَدْ سَامَحْتُ بِشَيْءٍ ­ فَمِنْ أَجْلِكُمْ بِحَضْرَةِ الْمَسِيحِ،»( ع10).

قول بولس الرسول “والذي تسامحونه بشيء فأنا أيضاً” ، إذ جعل ذاته بعدهم واعتبرهم رؤساء تابعاً لهم ، وهذا ليلين العزم القاسي ويزيل المقاومة ثم لكي لا يصيرهم مترفعين.

أما قوله “فمن أجلكم” لا يعني أنه يسامح لأجل الناس ، ولذلك أضاف بقوله « “بحضرة المسيح

«لِئَلاَّ يَطْمَعَ فِينَا الشَّيْطَانُ، لأَنَّنَا لاَ نَجْهَلُ أَفْكَارَهُ.»( ع11).

قول بولس الرسول “لئلا يطمع فينا الشيطان” فحسناً سمى ذلك طمعاً لأن الشيطان لا يأخذ الذي له بل يخطف الذي لنا.

والمقصود من قوله “لا نجهل أفكاره” أي غشه وحيله الرديئة وأفعاله الدنيئة ومحنه التي بزى الورع وشكل الديانة يقدمها . 

«وَلكِنْ لَمَّا جِئْتُ إِلَى تَرُوَاسَ، لأَجْلِ إِنْجِيلِ الْمَسِيحِ، وَانْفَتَحَ لِي بَابٌ فِي الرَّبِّ، لَمْ تَكُنْ لِي رَاحَةٌ فِي رُوحِي، لأَنِّي لَمْ أَجِدْ تِيطُسَ أَخِي. لكِنْ وَدَّعْتُهُمْ فَخَرَجْتُ إِلَى مَكِدُونِيَّةَ.»( ع12، 13).

لم يقل بولس الرسول حضرت إلى ترواس مطلقا بل قال “جئت إلى ترواس لأجل إنجيل المسيح”، وعندما جاء وجد عملاً عظيماً لأنه قال : “وانفتح لی باب في الرب”.

ولم يقل إن غياب تيطس عطل خلاص المزمعين أن يتقدموا إلى الإيمان ، ولا إنه تغافل عن الذين آمنوا بسبب ذلك ، بل قال “لم تكن لي راحة” ، أي أنه حزن واغتم لسبب غياب الأخ.

وقول بولس الرسول “لكن ودعتهم فخرجت إلى مكدونية “، إذ أوضح كم هو صعب فراق الأخ ولذلك مضى من هناك.

«وَلكِنْ شُكْرًا ِللهِ الَّذِي يَقُودُنَا فِي مَوْكِبِ نُصْرَتِهِ فِي الْمَسِيحِ كُلَّ حِينٍ، وَيُظْهِرُ بِنَا رَائِحَةَ مَعْرِفَتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ.»( ع14).

لم يقل بولس الرسول الله الذي صيَّرنا مشهورين وإنما قال ” الله الذي يقودنا في موكب نصرته” ، موضحا أن هذه الاضطهادات قد تقيم رايات الغلبة ضد الشيطان في كل موضع في الأرض . ولم يقل في موكب نصرته فقط بل قال “في موكب نصرته في المسيح” أعني أن الكرازة في المسيح.

ولم يقل معرفته فقط بل قال “رائحة معرفته” مسمياً معرفة المسيح طيباً جزيل الثمن 

«لأَنَّنَا رَائِحَةُ الْمَسِيحِ الذَّكِيَّةِ ِللهِ، فِي الَّذِينَ يَخْلُصُونَ وَفِي الَّذِينَ يَهْلِكُونَ.»( ع15).

كما أن النور وإن كان قد يُظلم ضعيفي البصر فهو ما يزال نوراً مع أنه يظلم ، والعسل وإن كان يبدو للمرضى مراً إلا أن طبيعته حلوة ؛ هكذا أيضا الإنجيل هو زکی الرائحة وإن كان يهلك قوماً إذا لم يؤمنوا به ؛ لأن الهلاك ليس هو فعله بل عدم وفاء أولئك .

وقد تظهر فضيلة الإنجيل ليس من خلاص الصالحين فقط بل ومن هلاك الأشرار ، لأن الشمس لكونها شديدة الضياء ، لهذا السبب تؤلم ضعيفي البصر ، هكذا السيد المسيح هو لسقوط ونهوض كثيرين وهو يبقی مخلصاً مع سقوط كثيرين ، وحضوره عذاب أعظم للذين لم يطيعوه.

«لِهؤُلاَءِ رَائِحَةُ مَوْتٍ لِمَوْتٍ، وَلأُولئِكَ رَائِحَةُ حَيَاةٍ لِحَيَاةٍ. وَمَنْ هُوَ كُفْوءٌ لِهذِهِ الأُمُورِ؟»( ع16).

لأن الذين يتقدمون إلى هذه الرائحة هكذا أي ليهلكوا والبعض هكذا أي ليخلصوا ، ولذلك إن كان أحد يهلك فالسبب منه ، لأنه يقال إن الطيب يخنق الخنزير والنور يظلم ضعيفي البصر ، فهكذا هي طبيعة الخيرات ، لأن النار لا تتضح قوتها عندما تضئ وتنقى الذهب فقط ، بل وعندما تفنى الأشواك أيضاً، وبهذا تحسب ناراً ، وهكذا السيد المسيح بهذا يوضح عظمته عندما يبيد من هو ضده بروح فيه ويبطله بظهوره.

«لأَنَّنَا لَسْنَا كَالْكَثِيرِينَ غَاشِّينَ كَلِمَةَ اللهِ، لكِنْ كَمَا مِنْ إِخْلاَصٍ، بَلْ كَمَا مِنَ اللهِ نَتَكَلَّمُ أَمَامَ اللهِ فِي الْمَسِيحِ.»( ع17).

أي إننا لا نُشابه الأنبياء الكذبة الذين يقولون إن أكثر الأمور لهم ؛ لأن هذا هو الغش. 

ومعنى قول بولس الرسول ” كما من الله” أي أن الأشياء كلها أعطاها لنا الله فلا نفتخر بشیء و أنه لنا لكننا ننسب الأشياء كلها لله.

وقوله “في المسيح” ، أي ليس بحكمتنا لكننا نتعلم من قدرته.

فاصل

فاصل

تفسير 2 كورنثوس 1 تفسير رسالة كورنثوس الثانية تفسير العهد الجديد
تفسير 2 كورنثوس 3
 القديس يوحنا ذهبي الفم
تفاسير رسالة كورنثوس الثانية تفاسير العهد الجديد

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى