الإيمان المسيحى والطبقات الاجتماعية

1 – كيف مارست كل فئات المجتمع الاحترام المتبادل بينهم؟

مجئ السيد المسيح غير مفاهيمنا، فصرنا نعتزّ بميلادنا الروحى لا بالطبقة الاجتماعية التى ننتمى إليها، ونراعى التزامنا فى قيام كل طبقة بالعمل البناء للكل.

أولاً: شركة السادة مع عبيدهم فى نوال بركة الاستشهاد. تقدم لنا أعمال الشهداء صورة حية لأشراف وحكام واغنياء قبلوا الإيمان المسيحى، ولم يقدموا بفيض للفقراء فحسب، وإنما بفرح قدموا حياتهم مبذولة من أجل الإيمان. أيضاً نجد سادة اشتركوا مع عبيدهم أو جواريهم فى قبول الاستشهاد، فصار من العبيد أبطالاً تعتز بهم الكنيسة ويكرمهم الجميع أياً كان مركزهم الاجتماعى.

ثانياً: الزواج بين المسيحيين من طبقات متباينة. سمح كالستوس Callistus (217 – 223) أسقف روما لسيدة مسيحية أرستقراطية أن تتزوج رجلاً مسيحياً من طبقة أقل منها، الأمر الذى كان القانون الرومانى يمنعه.

ثالثاً: مسيحنا جمعنا فيه. فى الرد على صلسس الذى حقر من شأن السيد المسيح، مدعياً أنه كان يشحذ، وضم إليه عشرة أو أحدى عشر شخصاً سمعتهم رديئة، كما جمع حوله العشارين والخطاة، وكان يجول هنا وهناك لعله يجد ما يأكله وسط العوز والخزى، قال أوريجينوس: [يسوعنا الذى احتقر لأنه وُلد فى قرية صغيرة لم تكن هيلينية، ولا ذات مواطنة ذات تقدير، والذى أهين لأنه كان ابن أم فقيرة عاملة، ولأنه جاع وترك لذة العيش فى مصر، يسوع هذا الذى لم يكن بسيريفوس العادى[265]Seriphos… نجح فى أن يهز العالم المسكون، ليس قط أكثر من ثيميستوكليس الأثينى، بل وأكثر من أفلاطون وأثيناغوراس أو الناس من اشتهى أن يكون الأخير، ومن يطلب الأقل ينال كل ما سيشتهيه[266]].

رابعاً: مجدنا هو الشعور بأن غالبيتنا فقراء فى الزمنيات. يقول مينيكوس فيلكس: [إن قيل إن غالبيتنا فقراء فهذا هو مجدنا، وليس عاراً علينا. فكما أن الذهن يصير واهناً بالترف، ويتقوى بالتدبير باقتصاد. ومع هذا من يقدر أن يكون فقيراً ولا يشعر بعوز، ولا يشتهى ما لدى الغير، فهو غنى فى حكم الله. إنه أكثر فقراً الإنسان الذى وإن كان لديه الكثير لكنه يشتهى ما هو أكثر… سعيد هو هذا الذى يعرف كيف يرفع نفسه فوق فقره أكثر من أن يتأوه تحت ثقل الغنى. ومع هذا إن كنا نظن أن الثروة نافعة لنا نطلبها من الله، بالتأكيد ذاك الذى هو مالك كل الأشياء يستطيع أن يهبنا نصيباً. لكننا نحن نفضل أن نزدرى بالثروة عن أن نلمسها. أفضل من الثروة نحن نطلب البراءة، ونفضل أن نسأل الصبر، ونستحسن أن نكون صالحين عن أن نكون ضالين[267]]. كما يقول: [هل أنت ملك؟ إنك تخاف… ومهما كان الحرس المحيطون بك بلا عدد، لكنك إذ فى مواجهة خطر تجد نفسك وحيداً. هل أنت غنى؟ إنه مرض أن يثق الإنسان فيما لديه، وتكون رحلة الحياة القصيرة ليست مهيأة بل تمثل حمل أثقال من حمولات المئوية. هل مجدك هو فى الشعارات الخاصة بالسلطة والأرجوان؟ إنه خطأ بشرى، وعبادة بلا نفع لكرامة متألقة فى الأرجوان وخسيسة فى الفكر. هل أنت من النبلاء، وتستعرض أسلافك؟ نعم، جميعنا وُلدنا من ذات المصدر، ولن نُميز الواحد عن الآخر إلا بالفضيلة[268]].

خامساً: الصداقة مع الجميع وليس مع طبقة مُعينة. يقول القديس أغسطينوس: [لا تُحد الصداقة بحدود ضيقة، بل تضم كل الذين لهم الحق فى الحب والحنو، وإن كانت تصل سريعاً للبعض وأكثر بطء للآخرين، كلنها تحتضن حتى أعداءنا، هؤلاء الذين أوصينا أن نصلى لأجلهم (مت5: 44). هكذا لا يوجد إنسان واحد فى الجنس البشرى لا يستحق المحبة، سواء كان ذلك مقابل الحب المتبادل، أو من أجل اشتراكه فى طبيعتنا المشتركة. غير أن الذين يحبوننا بالتبادل فى القداسة والطهارة يُقدمون لنا أصدق فرح[269]].

2 – هل يمارس المؤمنون أعمالاً خاصة بهم؟

تحدث العلامة ترتليان فى شئ من التفصيل ليرد على الاتهام الموجه ضد المسيحيين أنهم خاملون غير منتجين[270]. كما يؤكد أن المسيحيين يشاركون الوثنيين فى ممارسة كل الأعمال، ولا يحتقرون مهنة ما إلا إذا كانت مفسدة للحياة الروحية. إذ يقول: [لأننا نتذكر أنه يجب علينا أن نكون شاكرين للرب إلهنا وخالقنا. إننا لا نرذل أية ثمرة لأعماله، إننا نستخدمها باعتدال وليس بتطرف خاطئ. لهذا فإننا لا نفشل فى التردد على الساحات والأسواق والحمامات والمتاجر والمصانع والفنادق وفى كل أعمالكم، وان تكون لنا كل العلاقات الأخرى حتى نعبر حياتنا معكم فى هذا العالم. معكم نبحر فى البحر، ونلتحق بالخدمة العسكرية، ونعمل فى الأرض ونتاجر، ونبيع علانية ما تستخدمونه من منتجات تجارتنا ومصنوعاتنا[271]]. وجاء فى الديداكية: [كل من يأتيكم باسم الرب اقبلوه، بعد ذلك اختبروه واعرفوه، لتميزوا اليمين من اليسار. فإن كان الآتى عابر سبيل أعينوه قدر استطاعتكم، ولا يبقى عندكم أكثر من يومين أو ثلاثة عند الضرورة. إذا أراد أن يمكث عندكم كصاحب مهنة فليعمل ليأكل (2ت3: 10). أما إذا لم يكن صاحب حرفة، فوجّهوه أنتم لكيلا يعيش بينكم كمسيحى عاطلاً. إذ لم يرد أن يعمل فهو متاجر بالمسيح (1تى6: 5)، احترزوا من أمثاله[272]]. ويقول العلامة أوريجينوس إنه ليس من أحد خامل فى بيت الحكيم[273]. جاء فى رسالة منسوبة للقديس إكليمنضس الرومانى: [لنتأمل فى خوف الله حياة هؤلاء القديسين. نعم، أنه قد ك تب عن موسى وهرون أنهما عملاً وعاشا مع رجال يسلكون على مثالهما، وهكذا يشوع بن نون[274]]. يرى القديس إكليمنضس السكندرى أن من يعمل لكى يغتنى إنما يعمل بهدف غير مسيحى[275]. وأما من جهة الكهنة، فتطالب الديداكية أن يتفرغ الكاهن لعمله ويأكل منه.

3 – هل كان العمل شاقاً قبل سقوط أبوينا؟

يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [فى البداية أعطانا الله حياة خالية من الهموم ومُعفاة من الكد. أما نحن فلم نستخدم العطية حسناً، بل أفسدنا راحتنا، وخسرنا الفردوس. لهذا جعل حياتنا متعبة… يعمل الكسل على إفسادنا ويُسبب لنا متاعب كثيرة… لو أن الإنسان اختبر الكد منذ البداية، لما ابتلى به كعقاب بعد ذلك. وفى واقع الأمر يمكنك أن تعمل وفى نفس الوقت لا تصل إلى مرحلة العمل الشاق، كما فى حالة الملائكة[276]].

4 – هل يلتزم المسيحى بالعمل من أجل الأخرين؟

يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [لا تقل: “يستحيل علىّ أن اهتم بالغير”. فإن كنت مسيحياً يستحيل ألا تهتم بهم… لا تخطئ إلى الله، فإن قلت إن الشمس لا تقدر أن تضئ، فأنت بهذا تهينها. وإن قلت إن المسيحى لا يستطيع أن يفعل خيراً، فبقولك هذا تهين الله وتدعوه كاذباً. فمن الأسهل للشمس ألا تعطى حرارتها أو ضوءها من أن لا يبعث المسيحى أشعة نور. من الأسهل أن يصبح النور ظلاماً من أن يصير المسيحى هكذا… ليس شئ أكثر تفاهة من مسيحى لا يبالى بخلاص الغير. لا يمكنك هنا أن تتعلل بالفقر، لأن التى ألقت فلسيها ستدينك (لو21: 2). وقال بطرس: “ليس لى فضة ولا ذهب” (أع3: 6). وأيضاً بولس كان فقيراً، فغالباً ما كان جائعاً دون ان يجد ما يقتات به من طعام. ولا يمكنك أن تتعلل بوضاعة المولد فقد كان (التلاميذ) وضيعى المولد، ومن آباء هكذا. ولا تقدر أن تعتذر بنقص التعليم، إذ كانوا أناساً عديمى العلم (أع4: 13). فإنك وإن كنت عبداً، فإن لك دور يلزم أن تفعله، فقد فعل أنسيمُس هكذا… لا تقدر أن تتعلل بالضعف، فقد كان تيموثاوس هكذا، الذى كثيراً ما كانت له ضعفات[277]].

5 – هل من أعمال ممنوعة فلا يمارسها المسيحى؟

يُطالب القديس أغناطيوس الهروب من الفنون (والأعمال) الشريرة[278]، كأن يعمل كاهناً للأوثان، أو يُعد الذبائح الوثنية، أو يصب تماثيل لآلهة وثنية، أو يتاجر فى السموم أو السحر أو العرافة الخ. أيضا حذر العلامة ترتليان من استخدام الكذب والغش فى التجارة، أو استخدام القسم أثناء المعاملات التجارية[279]. كما حرّم البعض العمل كنحاتين يصنعون التماثيل، معتمدين على ما ورد فى (خر20: 4) [280].

الله الذى قدّم كل الإمكانيات لآدم، لم يجبله فى جنة عدن ليأكل ويشرب وينام، لكن أيضاً ليعمل فى الجنة. فالعمل أمر مقدس يُضفى على الإنسان نوعاً من السعادة والشعور بالقدرة على الإنتاج. قيل عن السيد المسيح إنه نجار (مر6: 3)، ووُصف بولس الرسول كصانع خيام (أع18: 3). وجاء فى أمثلة السيد المسيح أن الإنسان القادرة على العمل يستحى أن يستعطى (لو16: 3). يعتز الرسول بولس بأنه كان ينفق على نفسه ومن معه خلال عمله (أع20: 34 – 35). وفى رسالته إلى أهل كورنثوس (1كو4: 8 – 13) أوضح أنه كان يعمل ويتعب. جاء فى الدسقولية: [كن منشغلاً بما هو للرب، أو مشغولاً بعملك، ولكن لا تكن عاطلاً[281]].

6 – لماذا هاجم القديس يوحنا الذهبى الفم الأغنياء؟

كثيراً ما هاجمهم ليس لأنهم أغنياء، وإنما لأنهم كانوا كسالى بلا عمل. وعندما يتحدث عن الفقراء كان يقصد العاملين الكادحين. يمتدحهم لا على فقرهم، بل على جهادهم وكفاحهم فى العمل، وانهم يعيشون بتعب أياديهم لكى يعولوا عائلاتهم. يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [إن أردتم أن تستأصلوا الفقر فحتماً تستأصلون كل هيكل الحياة، إنكم تحطمون حياتكم. لا تجدون ملاحاً ولا قائد مركب ولا مزارعاً ولا بناء، ولا نساجاً ولا صانع أحذية ولا نجاراً ولا حداداً ولا صانع جلود ولا طحاناً، لن تجدوا أحداً من هؤلاء العاملين ولا غيرهم… إن صار الكل أغنياء، يعيش الكل فى خمول، يهلك كل شئ ويتبدد[282]].

7 – ماذا قدمت الكنيسة الأولى للعبيد والمسبيين؟

من العادات الشائعة فى العالم القديم أن يبيع الإنسان نفسه أو أبناءه للخلاص من الفقر المدقع، وأيضاً أن يبيع الجيش المنتصر المسبيين عبيداً للأغنياء من بلدهم أو من البلاد المجاورة. مع انتشار نظام العبيد لم يكن ممكناً للكنيسة أن تقف فى سلبية، بالرغم من عدم تمتعها بسلطة زمنية لإصدار أوامر صريحة ومُلزمة بتحرير العبيد. قدّمت شريعة العهد القديم وصايا تحد من العنف وإساءة استخدام السلطة بالنسبة للسادة فى تعاملهم مع العبيد، خاصة من بنى جنسهم، ليس كموافقة على وجود هذا النظام، وإنما تهيئة للتعامل مع العبيد كأشخاص وإخوة. ويبرز العهد الجديد اهتمامه بالعبيد فى الآتى:

أولاً: يطالب السادة بالحنو على إخوتهم العبيد، كشركاء معهم فى الميراث الأبدى.

ثانياً: أبرز ما للعبيد المؤمنين من رسالة فعالة حتى على السادة العنفاء يكسبونهم للإيمان خلال الطاعة فى الربّ، والحب الخارج من القلب، وليس قهراً. تحدث الرسول بولس فى الرسالة إلى فليمون عن عبده أنسيمس السارق والهارب ينعته فيها بأنه قد ولده فى قيوده، وأنه أحشاؤه، وأن يحسبه سيده نظير بولس نفسه (فل12، 10). هكذا أعطى الرسول بولس درساً عملياً لتحرير العبيد، لا خلال ثورات عنيفة ومعارك، ولكن خلال روح الوحدة والحب، والشركة معاً فى الحياة الجديدة فى السماويات!

ثالثاً: يؤكد آباء الكنيسة أن الله خلق الإنسان حراً، مثل القديس أمبروسيوس[283]، ويوحنا الذهبى الفم[284]، وغريغوريوس النيسى[285]، وباسيليوس الكبير[286]. ويُعتبر القديس إكليمنضس السكندرى والعلامة أوريجينوس من أكبر المدافعين عن العبيد. أما القديس جيروم[287] والعلامة ترتليان[288] فكانا يهاجمان تمرد العبيد.

رابعاً: بدأت مدرسة الإسكندرية كمدرسين للموعوظين[289]Catechumens تضم طالبى العماد من الأمم واليهود لتعليم الإيمان المسيحى، تُقدم لهم دراسات تؤهلهم لنوال سر المعمودية. فتحت المدرسة أبوابها أمام الجميسع، يلتحق بها أناس من ديانات مختلفة وثقافات متباينة وذوى مراكز اجتماعية مختلفة وأعمار متفاوتة. “كان التعليم بها لا يُميز بين الطبقات أو الظروف، بين العبيد أو السادة” [290]، فى وقت كان العبد رخيصاً، يُباع كالسلعة ويُشترى! حقاً كان فى كنيسة الإسكندرية فى عصر أثيناغوراس مسيحيون أثرياء يمتلكون العبيد وآخرين من أصل فقير، إلا إنه حسب قول أثيناغوراس، لم يتقدم أحد من هؤلاء العبيد بأية شكوى ضدهم تشير إلى إنكار حقوقهم تحت وطأة التعذيب. فى نفس الوقت طالب مجمع غانغرا أن يخضع العبيد لسادتهم فى الرب، ويشهدوا للإنجيل الحىّ فيهم، ولا يحاولوا الهروب من السادة، ولا استخدام العنف معهم[291]. [إن كان أحد يُعلم عبداً – تحت مظهر التقوى – أن يحتقر سيده او يترك خدمته، وألا يخدمه بنيه صالحة، فليكن أناثيما[292]].

خامساً: الصلاة من أجل العبيد المأسورين. تشهد كتابات الآباء الرسوليين[293] وبعض الليتورجيات القديمة عن اهتمام الكنيسة الأولى منذ وقت مبكر بالمسبيين والذين فى المناجم والمسيجونين. يذكرالقديس يوستين[294] جمع عطايا بعد القداس لخمسة فئات من بينهم الذين فى القيود. ويشير أريستيدس[295] من بين فضائل المسيحيين، التعامل مع العبيد كإخوة وأخوات، وأيضاً تعاون المسيحيين لتحرير المسجونين من أجل اسم يسوع المسيح. ويذكر العلامة ترتليان الجمع الشهرى للعطايا، الذى كان يوزع منها لاحتياجات العبيد المسنين، والذين فى المناجم والنفى والسجون من أجل الإيمان. وأشارت الدسقولية إلى نفس الأمر. جاء فى القديس إكلمينضس الرومانى: [نسألك أيها الرب، كن معيننا وحافظنا (مز119: 114). خلص الذين فى أحزان… المأسورين أعتقهم، الضعفاء أنعشهم، صغيرى القلوب عزهم[296]].

سادساً: العمل من أجل تحريرهم. أرسل القديس كبريانوس 100 ألفاً من السسترس Sesterces (عملة رومانية قديمة) إلى كنائس نوميديا Numidiaلافتداء المسيحيين الذين أسرتهم قبائل بريرية[297]. وأورد المؤرخ يوسابيوس فقرات من رسالة ديونيسيوس أسقف كورنثوس إلى أهل روما، موجهة إلى سوتير أسقف روما وقتئذ، جاء فيها، [لأنكم تعودتم من البداية أن تصنعوا الخير لكل الإخوة بطرق مختلفة، وترسلوا مساعدات لكنائس كثيرة فى كل مدينة، وهكذا إذ تسدون أعواز المحتاجين، توفرون احتياجات الإخوة الذين فى المناجم بالهبات التى أرسلتموها من البداية. فإنكم أيها الرومانيون تحافظون على عوائد الرومانيين الموروثة التى لم يتمسك بها أسقفكم المبارك سوتير فقط، بل أيضاً أضاف إليها مقدماً إمدادات للقديسين، ومشجعاً الإخوة الذين من الخارج بكلمات مباركة كأب محب لبنيه[298]].

لما كانت الكنيسة تهتم بتحرير العبيد بشرائهم، أعطى قسطنطين الكنيسة عام 331حق تحريرهم بإجراء خاص داخل مبنى الكنيسة، مع تحقيق كل الآثار القانونية التى ترتبط بإجراءات القانون المدنى. كما اعطى أيضاً للكنيسة حق حماية العبيد الهاربين إليها. يقول القديس إكليمنضس الرومانى: [نحن نعرف من بيننا كثيرين أسلموا أنفسهم للقيود بإرادتهم ليخلصوا آخرين. كثيرون باعوا أنفسهم كعبيد وأطعموا آخرين بالثمن الذى بيعوا به[299]].

8 – ما هى نظرة الآباء للعبيد؟

هاجم القديس يوحنا الذهبى الفم الأغنياء من المسيحيين الذين يمتلكون ألفاً أو ألفين من العبيد[300]. ويرى أنه يمكن للمسيحى أن يكون لديه عبد أو اثنين لخدمة بيته وليس لإذلالهما[301]، كما أوضح أن العبودية ليست فى خطة الله الأصلية[302]. وحث المسيحيين أن يساعدوا العبد على تعلم مهنة مُعينة حتى يمكنه أن يعمل ويتحرر من العبودية. وأعلن القديس غريغوريوس النزينزى أن العبودية هى سمة أثيمة، ومع ذلك فهى جزء من الواقع الحاضر[303]. ويقول القديس باسيليوس الكبير إنه ليس أحد بالطبيعة عبداً. لكنه فى نفس الوقت لم يطلب مقاومة نظام المجتمع، إذ يقول: [وإن كان إنسان ما يُجعل سيداً والآخر عبداً، مع هذا فخلال نظرتنا الخاصة بالمساواة فى الرتبة، نحن جميعاً قطيعاً لخالقنا، إخوة عبيد[304]]. أما القديس غريغوريوس النيسى فهو أول لاهوتى يقوم بثورة فكرية ضد العبودية. جاء فى عظته الرابعة على سفر الجامعة أساساً لاهوتياً لمقاومته للعبودية يتلخص فى النقاط التالية:

  • إن ظن أحد أنه سيد لجنسه، يحسب فى نفسه أنه مختلف عن الخاضعين له.
  • الطبيعة البشرية التى خلقها الله حُرة، لكل فرد حق أخذ قراراته المصيرية بنفسه.
  • يجب التمييز بين الخليقة غير العاقلة وصورة الله ومثاله الكائن العاقل الحر.
  • استحالة السيادة على صورة الله الحُرة، إذ لا يقدر إنسان أن يدفع ثمن آخر!
  • من أنت يا من تظن أنك سيد لكائن بشرى؟

9 – ما هى الأسس التى قامت عليها ثورة القديس غريغوريوس النيسى؟

أولاً: [جميعنا متساوون بالطبيعة[305]].

ثانياً: الله سيد الكل. [ألا تلاحظ بشاعة العجرفة؟… إذ يظن السيد فى نفسه أنه شئ مختلف عن الخاضعين له؟] [306].

ثالثاُ: الطبيعة البشرية حُرة. [ “اقتنيت عبيداً وجوار”… كأنك تتحدى القانون الإلهى وتحاربه[307]]. [لقد نسيت حدود سلطانك، قانونك هو أن تسيطر على الأشياء غير العاقلة].

رابعاً: أى ثمن دفعته لشراء عبيدك؟ [كم من العملات تظن أنك تقدر بها صورة الله؟].

خامساً: هل يُباع العبد مع ما يمتلكه؟ إذ الأرض كلها ملكه!

سادساً: كيف يُكتب عقد بيع العبد؟

سابعاً: الاختلاف بين السيد والعبد هو اختلاف فى اللقب لا غير.

ثامناً: دعوة لعتق العبيد فى عيد القيامة المجيد وذلك كما حررنا السيد المسيح بقيامته من عبودية الخطية.

وفى حديث أخر القديس غريغوريوس بأن المجتمع المسيحى يليق به أن يلتزم بالمساواة، لذا يجب انتزاع العبودية وكل ظلم من الجماعة الكنسية. [لتُمح الاختلافات الاجتماعية، فلا يوجد خضوع وسلطة، فقر وغنى فاحش، أشراف وعامة، أسرة منحطة وأسرة مُكرمة، ولا مجال لعدم المساواة… لنحكم بالمساواة السياسية والتشريعية، وتوزع على كل واحد فى كمال الحرية، وبطريقة مملوءة سلاماً ليختار ما يريده[308]].

فاصل

من كتاب: كاتيكيزم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية – جـ6 – المفاهيم المسيحية والحياة اليومية – القمص تادرس يعقوب و الشماس بيشوي بشرى.

زر الذهاب إلى الأعلى