تفسير سفر أعمال الرسل ٢٥ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الخامس والعشرون

القديس بولس يرفع دعواه إلى القيصر

قضى الرسول بولس سنتين في السجن بلا محاكمة, إرضاءً لليهود, إذ كانت العلاقة بين القيادات اليهودية وفيلكس الوالي يشوبها متاعب كثيرة, فأراد استرضاءهم حتى عندما نزعت عنه الولاية. والآن احتل فستوس مكانه وربما تعجب أن يبقى شخص ما محبوساً هذه المدة بلا علة أو محاكمة.

  1. فستوس في أورشليم 1-5.
  2. احتجاج بولس في قيصرية 6-9.
  3. رفع دعواه إلى قيصر 10-12.
  4. استشارة أغريباس الملك 13-22.
  5. بولس أمام محفل عظيم 23-27.
  6. فستوس في أورشليم

“فلما قدم فستوس إلى الولاية،

صعد بعد ثلاثة أيام من قيصرية إلى أورشليم”. [1]

كان بروكيوس فستوس Procius Festus واليًا له تقديره عن فيلكس، وأكثر منه عدالة وحيوية، لكن فلسطين في ذلك الحين كانت مرتعًا لقلاقل ومتاعب كثيرة. وقد مات فستوس وهو في وظيفته دون إمكانية لاستتباب الأمن فيها.

جاء أولاً إلى قيصرية عاصمة اليهودية، وإذ كانت أورشليم هي العاصمة الدينية، لهذا قدم لها أول زيارة في الولاية بعد ثلاثة أيام من ذهابه إلى قيصرية، ليقيم علاقات طيبة مع القيادات الدينية الخاضعة له، ولكي يتعرف على شئون الولاية من الجانب الديني.

“فعرض له رئيس الكهنة ووجوه اليهود ضد بولس،

والتمسوا منه”. [2]

ما أن تولى فستوس الولاية وجاء إلى أورشليم حتى أسرع إليه رئيس الكهنة ووجوه اليهود يطلبون إرسال بولس لمحاكمته. فإنه لم يكن يشغل قلب القيادات اليهودية، وليس من موضوعٍ يتحدثون فيه مع الوالي الجديد مثل الخلاص من القديس بولس. كان بولس في الحبس لمدة سنتين، لكن الحقد الذي ملأ هذه القيادات لم ينطفئ بعد.

كان رئيس الكهنة هو إسماعيل Ismael بن فابي Fabi، عينه اغريباس، يرى البعض أنه كان حنانيا.

“طالبين عليه منة،

أن يستحضره إلى أورشليم،

وهم صانعون كمينًا ليقتلوه في الطريق”. [3]

لم نسمع عن الرسول بولس السجين في قيصرية أنه التمس منه إطلاقه من الحبس، ولا أرسل إليه أحدًا من أصدقائه.

استغلوا جهل فستوس بهذه الأمور، فأرادوا أن يضغطوا عليه، ليصنع معهم عطفًا بأن يرسل لهم الأسير بولس لمحاكمته دينيًا في الموقع الذي ارتكب فيه الجرائم. وكانت نيتهم هي قتله في الطريق قبل وصوله إلى أورشليم. ولعل ذلك كان بإيعاز من الأربعين يهوديًا الذين نذروا نذرًا ليقتلوه.

طلبوا منه منة أو عطفًا وإحسانًا، وعادة الإحسان يقدم لصالح السجين، لكن هنا يطلبون إحسانًا ضد السجين.

“فأجاب فستوس أن يحرس بولس في قيصرية،

وأنه مزمع أن ينطلق عاجلاً”. [4]

لم يجد الوالي الجديد سببًا لإرساله للمحاكمة أمام السنهدرين، بل طلب التشديد على حراسة بولس، وأنه ذاهب سريعًا إلى قيصرية ليقوم هو نفسه بالمحاكمة. ولعل سرّ رفضه إدراكه انه روماني الجنسية، لهذا لا يحاكم أمام المجمع اليهودي السنهدرين، بل يسمعه بنفسه كوالٍ روماني، مسئول على وجه الخصوص عن حياة الرومانيين.

لقد وعدهم بمحاكمته على وجه السرعة حتى لا يكون لهم حجة في شيء. ربما طلب محاكمته في قيصرية مركز الولاية تكريمًا للقضاء هناك، فالأجدر أن يرسلوا من هم مقتدرين إلى قيصرية، وهو يسمع للكل! ولعله خشي من حدوث اضطرابات أثناء محاكمته في أورشليم يصعب السيطرة عليها في غياب الوالي من أورشليم.

“وقال: فلينزل معي الذين هم بينكم مقتدرون،

وإن كان في هذا الرجل شيء،

فليشتكوا عليه”. [5]

أوضح أن رفض طلبهم لا يعني دفاعه عن بولس، لذا طلب منهم أن يرسلوا من هم مقتدرين على تقديم الاتهامات ضده. لقد طلب منهم أن يثبتوا شره، فإن كان مدانًا لن يعفو عنه.

  1. احتجاج بولس في قيصرية

“وبعدما صرف عندهم أكثر من عشرة أيام،

انحدر إلى قيصرية،

وفي الغد جلس على كرسي الولاية،

وأمر أن يؤتى ببولس”. [6]

بعد أن قضى الوالي الجديد عشرة أيّام في أورشليم حيث أدرك أنّه ليس من أمر يشغل القيادات اليهوديّة الدينيّة سوى التخلّص من السجين بولس عاد إلى العاصمة. وفي اليوم التالي من وصوله لم يكن ما يشغله بعد خبرة عشرة أيّام في أورشليم سوى أن يبدأ ولايته بالنظر في قضيّة هذا السجين. ومن جانب آخر فإن القيادات الدينيّة لم تعطه فرصة للتأجيل، فقد لحقته ربّما في نفس يوم وصوله. لذلك عقد جلسة في اليوم التالي ليبحث الأمر.

جلس الوالي على كرسي القضاء ليحكم في قضية تمس أمن الدولة، واستدعى بولس وهو تحت الحراسة ليقف ويدافع عن نفسه.

“فلما حضر،

وقف حوله اليهود الذين كانوا قد انحدروا من أورشليم،

وقدموا على بولس دعاوى كثيرة وثقيلة لم يقدروا أن يبرهنوها”. [7]

وقف المتهمون أصحاب الدعوى حول الوالي مما يدل على كثرة عددهم، وقد أرادوا بهذا أن يمارسوا ضغطًا على الوالي بأن القضية لها خطورتها على أورشليم، كما أرادوا بكثرة العدد أن يرعبوا السجين المتهم بولس. لكنهم كانوا كالنحل انطفأوا كنار الشوك (مز 118: 12). لقد جاءوا بدعاوى كثيرة، وقد ظنّوا أنّهم جاءوا بنيران كثيرة يلقونها في وسط الشوك، ليس من يقدر أن يطفئها. ولكن كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كل القيود انكسرت بالرجاء في الرب… كأن نارًا قد انطلقت، وسراب من النحل التفّ بجنونٍ، أرادوا أن يبيدوه، لكن في عجزٍ لم يبلغوا غايتهم. ها أنتم ترون اسم الله هو سلاح، وسند لا يُُقاوم، قد دحرهم جميعًا.]

ويقول الأب ثيؤدورت أسقف كورش: [لقد ترجّوا أن يغلبونني بسهولة شديدة، كالنار عندما تلحق بالشوك، و”باسم الرب انتقمت منهم”. إذ كانوا يطلبون هذا صاروا في إحباط من جهة رجائهم، الذي غلبه رجائي. أقمت الرب ضدّهم، وبه أنال النصرة.]

قدموا صحيفة دعوى تتضمن اتهامات كثيرة وخطيرة، لكنهم فشلوا في البرهنة على صدقها، وذلك كما فعلوا أمام فيلكس (أع 24: 5- 19).

“إذ كان هو يحتجّ،

أني ما أخطأت بشيء لا إلى ناموس اليهود ولا إلى الهيكل،

ولا إلى قيصر”. [8]

لعله أجاب بذات الإجابة التي قدمها قبلاً أمام فيلكس (أع 24: 10-21)، لأنهم قدموا ذات الاتهامات.

  1. إنه لم ينتهك الناموس الموسوي، ولا قدم تعاليم تخالف الشريعة. فإن الإيمان لا يبطل الناموس بل يكمله. الكرازة بالمسيح حققت غاية الناموس وأكملته روحيًا.
  2. لم ينتهك قدسية الهيكل، ولا استخف بالعبادة والخدمة فيه، فالكرازة بالإنجيل تحقق التمتع بهيكل القلب الذي يرمز إليه هيكل سليمان.
  3. لم يخطئ في حق قيصر أو الحكومة، بل طالب المؤمن بالخضوع للسلطات.

“ولكن فستوس، إذ كان يريد أن يودع اليهود منة،

أجاب بولس قائلاً:

أتشاء أن تصعد إلى أورشليم لتُحاكم هناك لدي من جهة هذه الأمور”. [9]

إذ لم يكن لدى الوالي دراية بالشئون اليهودية حاول أن يكسب ود القيادات فسأل بولس إن كان يود أن يُحاكم لديه في أورشليم حيث يزعمون أنه ارتكب هذه الجرائم هناك. لم يكن ذلك أمرًا من الوالي وإنما كان اقتراحا, ربما كان يتوق الوالي أن يقبله الرسول.

  1. رفع دعواه إلى قيصر

“فقال بولس:

أنا واقف لدى كرسي ولاية قيصر حيث ينبغي أن أُحاكم،

أنا لم أظلم اليهود بشيء كما تعلم أنت أيضًا جيدًا”. [10]

رفض القديس بولس هذا الاقتراح، إذ كان يعلم أن اليهود سيجدون وسيلة أو أخرى لقتله، وأنهم سبق فخططوا لقتله. لم يرد أن يضع حياته بين يدي أناس يحملون له كل كراهية.

إنه كروماني الجنسية يُحاكم أمام الوالي الروماني في عاصمة الولاية، حيث تقام المحكمة باسم قيصر وتحت سلطانه خلال رجاله أو المندوبين عنه.

“لأني إن كنت آثمًا أو صنعت شيئًا يستحق الموت،

فلست استعفي من الموت،

ولكن إن لم يكن شيء مما يُشتكي عليّ به هؤلاء،

فليس أحد يستطيع أن يسلمني لهم،

إلى قيصر أنا رافع دعواي”. [11]

يعلن الرسول أنه لا يهرب من العدالة، ولا أن يهرب من تطبيق القانون، ولا أن يستغل أي موقف، فإنه إن كان مستحقًا للموت فبكل سرور يخضع للعقوبة. في شجاعة طلب رفع دعواه إلى قيصر في روما.

v حمل هذا توبيخًا، لأنه أراد (الوالي) ان يضحي به من أجل اليهود، وفي نفس الوقت لطَّف (الرسول) من لهجة حديثه بقوله: “لأني إن كنت آثما أو صنعت شيئا يستحق الموت فلست استعفي من الموت“. إني أنطق بحكم ضد نفسي. لقد أخجل مستمعه إذ تحدث بجرأة عن ضرورة العدالة. “ولكن إن لم يكن شيء مما يشتكى علي به هؤلاء فليس أحد يستطيع أن يسلمني لهم“[11]، ليس من يضحي بي لأجل مسرتهم. لم يقل: “إني لست مستحقا للموت، ولا أنه مستحق للتبرئة، وإنما أنا مستعد أن أحاكم أمام قيصر”. وفي نفس الوقت أيضا تذكر الحلم مما أعطاه الثقة في استئناف دعواه في روما. هذا ولم يقل له ليس لك أن تضحي بي، بل قال ليس لأحد ما أن يضحي بي، حتى لا يحسب هذا تحديا له.

القديس يوحنا الذهبي الفم

رفع القديس بولس دعواه إلى قيصر، وقد جاء ذلك في اليونانية kaisapa Epikalourai وهو اصطلاح قضائي روماني يفيد وقف استمرار القضية، وإحالتها إلى قيصر نفسه، وهو ما يعادل الالتجاء إلى القضاء العالي Supreme Court هذا الحق خاص بالمواطنين الرومانيين لكي يتحاشوا ظلم الولاة غير الرومانيين.

“حينئذ تكلم فستوس مع أرباب المشورة،

فأجاب إلى قيصر:

رفعت دعواك إلى قيصر تذهب”. [12]

التجأ فستوس إلى مشيرين قانونيين، إذ كان في حيرة. فمن جانب ليس له ما يكتبه لقيصر بخصوص اتهام معين، لأنه ليس لديه دليل على جريمة ضد الدولة أو ضد إنسانٍ، يستحق عليها عقوبة. وإن تركه يقتله اليهود وهو مواطن روماني مسئول عن حمايته أمام القانون. ومن جهة أخرى يرفض بولس الرسول محاكمته أمام محاكم اليهود إذ صمم اليهود على قتله. وإذ حضر هيرودس أغريباس الثاني ملك مقاطعة خالكيس Chalcis وجد الفرصة للاستفادة بخبرته، إذ كان خبيرًا في شئون اليهود والمسيحيين، وقد رحب الملك بذلك وطلب الاستماع لبولس.

v لنفكر كيف أن الخطط الشريرة الموجهة ضدنا ليست بخطيرة، مادمنا نحن لا نقيم خططًا شريرة ضد أنفسنا. فإنه لا يستطيع أحد ما أن يضع خططا شريرة ضدنا، أو بالأحرى قد يفعل الناس ذلك، لكنهم لن يلحقوا بنا ضررًا، بل بالأحرى تنفعنا إلى أبعد الحدود، إذ تهبنا راحة في أنفسنا بأننا نحتمل الشر أو لا يصبنا شر. نعم، إني أشهد وأعلن بأعلى صوت، أعلى من صوت البوق، بل لو أمكن لارتفعت إلى العلا واصرخ عاليًا، فإنني لن أتراجع عن ذلك قائلاً إنه لا يوجد بين كل الكائنات البشرية على الأرض من له سلطان أن يؤذي مسيحيًا. ولا حتى الروح الشرير نفسه، الشيطان الطاغية يمكنه أن يفعل ذلك، ما لم يؤذِ الإنسان نفسه. مهما فعل إنسان ما، إنما باطلاً يفعل ذلك. فكما أنه لا أستطيع إنسان ما أن يؤذي ملاكًا لو كان على الأرض، هكذا لا يقدر إنسان أن يؤذي إنسانًا. مرة أخرى فإنه لا يقدر أن يؤذي آخر مدام هذا الآخر صالحًا.

v ليس من وسيلة نؤذي بها أنفسنا سوى أذيتنا للغير، فخطايانا الثقيلة تسبب أذية لنا، لهذا فإنه لا يمكن أذية المسيحي، لأنه لا يقدر أن يؤذي أحدًا.

القديس يوحنا الذهبي الفم

بقراره هذا يتخلص من ضغط القيادات اليهودية التي ستكن للوالي كل بغضة إن أطلق القديس بولس، ويتخلص من أي اضطراب قد يحدث، وفي نفس الوقت إذ طلب بولس الروماني الجنسية الوقوف أمام قيصر لا يمكن للوالي أن يكسر القانون.

  1. استشارة أغريباس الملك

“وبعدما مضت أيام أقبل أغريباس الملك وبرنيكي إلى قيصرية،

ليسلّما على فستوس”. [13]

جاء الملك أغريباس الثاني ومعه برنيكي في زيارة ودية لفستوس يهنئونه على استلام ولاية اليهودية.

الملك أغريباس: والدته سيبروص Cypros. وهو ابن هيرودس، وكان لقبه أغريباس، وهو الذي قتل يعقوب الرسول، وكان يود قتل الرسل، وقد أكله الدود، حفيد هيرودس الكبير، الذي قتل أطفال بيت لحم عند ميلاد السيد المسيح ومجيء المجوس ليقدموا له الهدايا. دعا المؤرخ يوسابيوس هذا الملك أغريباس الصغير، وقد أقامه الإمبراطور كلوديوس Claudius ملكًا على خاليس Chalisوحكومة Trachonitis، المذكورة في لو 3: 1. حين مات والده، كان في روما مع الإمبراطور كلوديوس، الذى أراد أن يسلمه كل سلطات والده لكن وزراءه نصحوه بالعدول عن ذلك وكانت حجتهم في هذا أنه لا يليق تسليم مملكة ضخمة لشاب صغير بلا خبرة.

يخبرنا د. لايتفوت أن الكتاب اليهود تحدثوا عن الملك أغريباس، ورووا القصة التالية أنه في نهاية سنة الإبراء إذ قُرأت الشريعة، فعندما قُرأ ما ورد في تث 17: 15 ألا يقيموا ملكًا غريبًا عليهم ليس من إخوتهم، جرت الدموع من عينيه على وجنتيه لأنه لم يكن من نسل إسرائيل، وإذ لاحظ الشعب ذلك صرخوا: “لتهدأ أيها الملك أغريباس، فأنت أخونا، إذ كان من ذات دينهم، وليس من دمهم”.

برنيكي: أخته، كانت أرملة، عمة هيرودس، ملك خاليس، بعد موته عاشت مع أخيها الذي توقع أنه ينال شهرة بالتصاقها به. تزوجت للمرة الثانية بوليمون Polemon ملك بنتس وجزء من كيليكية Cilicia وطُلقت منه، فعادت إلى أخيها أغريباس. اتهمها المؤرخ يوسيفوس بعلاقة أثيمة جسدية مع أخيها أغريباس.

“ولمّا كانا يصرفان هناك أيامًا كثيرة،

عرض فستوس على الملك أمر بولس قائلاً:

يوجد رجل تركه فيلكس أسيرًا”. [14]

وجد فستوس الفرصة مناسبة لمناقشة موضوع الأسير بولس مع أغريباس العالم بالشئون الدينية لليهود، والتي لم يكن ممكنًا لفستوس أن يدركها.

“وعرض لي عنه رؤساء الكهنة ومشايخ اليهود لمّا كنت في أورشليم،

طالبين حكمًا عليه”. [15]

إذ كان فستوس رومانيًا لا دراية له بما يدور داخل الدوائر الدينية اليهودية استمع إلى أعضاء مجلس السنهدرين، وبسبب مظهرهم ومركزهم الديني وما يظهرونه من تقوى، ربما حسب أنهم موضع ثقة، وأنهم مخلصون في أحاديثهم واتهاماتهم ضد بولس. أما أغريباس فيهودي يعلم ما يدور في هذا الجو من رياء، وما يحملونه من حسدٍ وبغضةٍ بلا سبب.

“فأجبتهم أن ليس للرومانيين عادة

أن يسلموا أحدًا للموت قبل أن يكون المشكو عليه مواجهة مع المشتكين،

فيحصل على فرصة للاحتجاج عن الشكوى”. [16]

يبدو أن فستوس كاد أن يقتنع بما ادعاه مجمع السنهدرين، لكنه لم يكن ممكنًا أن يحكم على بولس بالقتل دون محاكمته. يقول أبيان Appian في تاريخه الروماني: “ليس من عادتهم أن يدينوا أناسا قبل أن يستمعوا إليهم”. وقيل في تاكيتوس Tacitus: “لا يمنع الدفاع من تقديم كل ما يمكن تبرئة المتهم”. كان العالم كله يشهد بعدالة التشريع الروماني.

“فلما اجتمعوا إلى هنا،

جلست من دون إمهال في الغد على كرسي الولاية،

وأمرت أن يؤتى بالرجل”. [17]

“فلما وقف المشتكون حوله،

لم يأتوا بعلةٍ واحدةٍ مما كنت أظن”. [18]

فوجئ فستوس بما حدث عندما اجتمع حوله المتهِمون، إذ لم يستطيعوا أن يثبتوا علة واحدة ضد القديس بولس. وذلك على غير ما توقع، حيث تأثر بثورتهم العارمة. وربما دُهش كيف تركه فيلكس في الحبس سنتين بلا ذنبٍ أو جريمةٍ ارتكبها.

“لكن كان لهم عليه مسائل من جهة ديانتهم،

وعن واحدٍ اسمه يسوع قد مات،

وكان بولس يقول أنه حيّ”. [19]

واحد اسمه يسوع قد مات“: حتمًا لم يكن فستوس يصدق أن يسوع هذا قد قام، وكان يعتقد أن أغريباس سيشاركه ذات الرأي، لذلك تحدث عن يسوع بصيغة تحمل استخفافًا به.

كان موضوع القيامة من الأموات لا يقبله غالبية الفلاسفة ولا رجال الدولة.

“وإذ كنت مرتابًا في المسألة عن هذا قلت:

ألعلّه يشاء أن يذهب إلى أورشليم،

ويحاكَم هناك من جهة هذه الأمور”. [20]

لم يكن فستوس يود أن يلزم بولس بالذهاب إلى أورشليم ليحاكم أمام مجمع السنهدرين، لكنه كان يود أن يقبل بولس ذلك برضاه. هذا يكشف عن تشككه في براءة بولس من الجانب الديني، أو ربما كان يود أن يهرب من المشكلة.

“ولكن لمّا رفع بولس دعواه لكي يحفظ لفحص أوغسطس،

أمرت بحفظه إلى أن أرسله إلى قيصر”. [21]

كان أوغسطس أو قيصر في ذلك الحين هو نيرون Nero. أما تعبير أوغسطس سيباستوسAugustus Sebastos فيشير إلى التكريم والتقدير. وقد استخدم هذا اللقب لأول مرة قيصر أوكتفيانوس Caesar Octavianus الذي كان إمبراطورًا أيام ميلاد السيد المسيح، فكان يُدعى أوغسطس قيصر. واستمر بعد ذلك مع أسلافه كعلامة تكريم للأباطرة.

“فقال أغريباس لفستوس:

كنت أريد أنا أيضًا أن أسمع الرجل،

فقال غدًا تسمعه”. [22]

أظهر الملك أغريباس شوقه إلى الاستماع للقديس بولس، ربما لإشباع حبه للاستطلاع بعد أن سمع الكثير عنه وعن كرازته بيسوع المصلوب القائم من الأموات، كما سمع عن المسيحيين.

“ففي الغد لمّا جاء أغريباس وبرنيكي في احتفال عظيم،

ودخلا إلى دار الاستماع مع الأمراء ورجال المدينة المقدمين،

أمر فستوس فأُتي ببولس”. [23]

لعل أغريباس الملك وجد في ذلك فرصة لاستعراض مجده فأقام موكبًا عظيمًا دخل دار القضاء. لم يضف عليها هذا الموكب مجدًا حقيقيًا أو تقديرًا خاصًا. ففي وسط هذا المظهر الخارجي المجيد كان كثيرون يعرفون علاقتهما الأثيمة, ويتطلعون إليهما في شيءٍ من الاستخفاف, كيف يتزوج الملك أخته!

في المدينة التي أكل الدود أبيهما حيث صدَّق مداهنة الشعب له, فحسب نفسه إلهًا جاء ابنه وابنته بفساد حياتهما يقبلان مجدًا من الناس.

الأمراء” جاءت في اليونانية chiliarchs تعنى قواد الألف، وهي تشير إلى القيادات العسكرية العظمى.

إنها فرصة رائعة وجدها الرسول بولس ليشهد للسيد المسيح في احتفالٍ عظيمٍ حضره الملك والوالي والأمراء ورجال الدولة وكل عظماء وأعيان مدينة قيصرية عاصمة البلاد السياسية.

وقف بولس الأسير يتحدث ككارزٍ يدعو الكل للتمتع بالنور الإلهي، وكأنه في اجتماع من موعوظين يعدهم للإيمان المسيحي. لقد حاول الوالي أن ينسب للرسول الهذيان، لكن الرسول نبه ضميره وراجعه في ذلك. إذ حاول الملك أن يتخلص من السهم الذي صوبه الرسول إلى قلبه، رده إليه الرسول بشجاعة، داعيًا له أن يشاركه بما يتمتع به ماعدا القيود التي في يديه.

v انظروا جمهور الاستماع قد اجتمعوا معًا لأجل بولس. جاء الحاكم والملك والأمراء والحرس وعظماء المدينة. إذ أحضر بولس ظهر كمنتصرٍ.

القديس يوحنا الذهبي الفم

  1. بولس أمام محفل عظيم

“فقال فستوس:

أيها الملك أغريباس والرجال الحاضرون معنا أجمعون،

أنتم تنظرون هذا الذي توسل إلي من جهته كل جمهور اليهود في أورشليم وهنا،

صارخين أنه لا ينبغي أن يعيش بعد”. [24]

يتساءل متى هنري عن موقف برنيكي, وقد جاء الخطاب موجهًا إلى الملك أخيها وزوجها غير الشرعي والى الرجال, وقد استخدم كلمة “رجال” بالمعنى الذي يميز بينهم وبين النساء.

“وأمّا أنا فلما وجدت أنه لم يفعل شيئًا يستحق الموت،

وهو قد رفع دعواه إلى أوغسطس،

عزمت أن أرسله”. [25]

هنا يدين فستوس نفسه, فإذ يعترف ببراءته لماذا لم يطلقه.

“وليس لي شيء يقين من جهته لأكتب إلى السيد،

لذلك أتيت به لديكم،

ولا سيما لديك أيها الملك أغريباس،

حتى إذا صار الفحص يكون لي شيء لأكتب”. [26]

ليس من جريمة يُعاقب عليها القانون الروماني ارتكبها القديس بولس.

منذ سنوات قليلة قبل هذا الخطاب لم يكن أوغسطس ولا طباريوس أن يقبل يلقب أحدهما بلقب “سيد” كما لو كان سيدًا يتعامل مع عبيدٍ له, لكن في ذلك الوقت صار أحد الألقاب الإمبريالية لمخاطبة الإمبراطور.

“لأني أرى حماقة أن أُرسل أسيرًا،

ولا أٌشير إلى الدعاوي التي عليه”. [27]

اعترف فستوس بأنّها حماقة أن يبعث بأسير إلى الإمبراطور دون صحيفة اتّهام ضدّه، ولم يعترف أنّها حماقة أن يترك بارًا في الأسر ولا يطلقه حرًّا. إنّه يخشى نيرون الإمبراطور ولا يهاب الله!

من وحي أع 25

موكبان إلى المحفل

v بقي رسولك في الحبس سنتين،

لكن كلمة الله التي في قلبه كما على فمه، لا تقيد.

وبقي رئيس الكهنة والمجمع في غليان لا ينقطع!

لن يستريحوا مادام خدّامك يعملون،

حتى وإن كانوا في القيود.

v لم يشغلهم شيء في شئون كل الأمّة.

إلا أن يتخلّصوا من بولس الرسول.

ضغطوا بكل وسيلة على فستوس منذ بدء إقامته واليًا.

أما بولس فبكل هدوء رفع دعواه إلى قيصر،

لكي يشهد لك في روما!

v اشتاق أغريباس الملك وبرنيكي أخته، زوجته غير الشرعيّة، أن يسمعا الرسول.

v أقام لهما فستوس محفلاً عظيمًا في قيصريّة، حيث أكل الدود والدهم وهو حي،

دخل الابن والابنة في مظاهر الأبّهة.

دخلا بموكب رهيب!

لكن فساد حياتهما وعدم شرعيّة علاقتها لن تصلحها مواكب العالم!

v ودخل بولس الأسير،

يحفّه موكب الطهارة والقداسة،

ويتغنّى السمائيّون بعمل نعمة الله فيه.

v موكبان، أحدهما منظور سرعان ما ينحل.

وموكب غير منظور يحمل أنشودة،

تسبيح لحمل اللَّه العامل في حياة مؤمنيه.

فاصل

سفر أعمال الرسل : 123456789101112131415161718192021222324  – 25262728

تفسير سفر أعمال الرسل : مقدمة1 23456789101112131415161718192021222324 25262728

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى