تفسير سفر أعمال الرسل ٧ للقمص تادرس يعقوب

الإصحاح السابع

خطاب استفانوس

جاء خطاب القديس استفانوس ليس دفاعًا عن نفسه، ولا عن الإيمان المسيحي، وإنما وجد الفرصة سانحة أن يقف أمام رئيس الكهنة وبعض الرؤساء والقيادات اليهودية ليقدم لهم دعوة كتابية صادقة للتمتع بالإيمان الحي. كان يتحدث معهم كتابيًا كما لو كان الكتاب المقدس مفتوحًا أمامه، ينطق بالروح القدس، ليعطي مفاهيم كتابية جديدة تخص شعب الله. بكونه يهوديًا هيلينيًا، اقتبس عبارات الكتاب المقدس من الترجمة السبعينية. خطابه كرازي من الدرجة الأولى.

وضع القديس استفانوس الأساس الروحي اللاهوتي الحي للمدافعين الكنسيين فيما بعد. فإن ما يشغل المدافع ليس الدفاع عن السيد المسيح وكنيسته، فالسيد قادر أن يدافع عن نفسه وعن كنيسته، لكنه يحمل قلبًا متسعًا ليكشف عن الحق الإنجيلي للمقاومين، فيقتنعوا معه بعمل الخلاص المجيد.

قدم القديس استفانوس عرضًا رائعًا للعهد القديم ككلٍ، ليبرز أن الإيمان بالسيد المسيح هو غاية الناموس والأنبياء وكل أسفار العهد القديم.

كان القديس يتكلم لا كمتهمٍ يدافع عن نفسه، بل كمن في مركز القوة، ليراجع الحاضرون أنفسهم ومفاهيمهم وقسوة قلوبهم وغرلة آذانهم، حتى لا يوجدوا بعد مقاومين للروح القدس كآبائهم (أع 7: 51).

دعاهم أن يرتفعوا معه كما إلى السماء ليروا بمنظارٍ روحي الناموس والأنبياء والهيكل وكل طقوس العبادة، يرون في يسوع المسيح أصل التاريخ ومصدر الخلاص، فلا يكملوا مكيال آبائهم المقاومين للحق الإلهي.

إن كان هذا الخطاب موجه إلى القيادات اليهودية المملوءة حقدًا ضد رب المجد يسوع وكنيسته، فإنه كان أيضًا موجهًا بطريقة غير مباشرة للمؤمنين الذين من أصلٍ يهودي، وكانوا لا يزالوا عاجزين عن التحرر من حرف الناموس والطقوس اليهودية. إنه خطاب ألقاه في آخر لحظات وجوده على الأرض ليصحح مسار كنيسة أهل الختان، إن صح التعبير، فلا تنشغل بحرف الناموس، ولا ترتبط بهيكل أورشليم.

 

ظهور إله المجد لإبراهيم في أرضٍ وثنية 1-10

فقال رئيس الكهنة:

أترى هذه الأمور هكذا هي؟” [1]

أظهر رئيس الكهنة نوعًا من استخدام العدالة إذ أعطى الفرصة للقدّيس استفانوس أن يدافع عن نفسه ويردّ على الاتّهامات الموجّهة ضدّه، ولعلّ رئيس الكهنة كان يتوقّع أن القدّيس يستغل الفرصة للرجوع عن أفكاره حتى لا يتعرّض للموت رجمًا.

سأل قيافا رئيس الكهنة كرئيس للمجمع بخصوص الاتهامات الموجهة إلى استفانوس، الخاصة بنقض الهيكل ومقاومة الناموس. ولعله كان يود أن يقتنص من فمه كلمة تبرر مجمع السنهدرين في محاكمته ليسوع وصدور الحكم بضرورة قتله. أراد أن يعطي للشعب فرصة ألا يثوروا على صلب يسوع ورجم استفانوس.

جاء سؤال رئيس الكهنة يعني: لقد سمعت الاتهامات الموجّهة ضدّك، فماذا تقول: مذنب أم غير مذنب؟ وقد قدّم القدّيس استفانوس دفاعًا مطوّلاً يتّسم بالآتي:

أولاً: جاءت إجابته موجّهة مباشرة إلى نقاط الاتّهامات بطريقة واضحة.

ثانيًا: كشف دفاعه عن استعداده الكتابي العميق وقدرته في الأسفار المقدّسة والتقليد اليهودي.

ثالثًا: أن ما يؤمن به ويكرز به إنّما هو امتداد حيّ وروحي لطريق الآباء، بل ولتاريخ الخلاص الذي يسير حسب خطّة اللَّه المعلنة بواسطة الآباء والأنبياء.

رابعًا: إذ أراد الردّ على الاتّهامات استعرض القدّيس تاريخهم منذ البداية، مظهرًا عظمة حنوّ اللَّه الفائق في علاقته بشعبه، وكيف قابل الشعب هذه المحبّة الإلهيَّة بجحودٍ وتذمّرٍ مستمرٍ عبر الأجيال، وأنّه قد امتلأ كأس شرّهم وفاض، فأسقطوا أنفسهم تحت ثمر عصيانهم وحرموا أنفسهم من مراحم اللَّه.

خامسًا: أوضح خلال الأسفار المقدّسة أن كنيسة اللَّه أو شعب اللَّه لم يبدأ بالعبرانيّين ولا بأرض كنعان، بل كان له مؤمنون أمناء في مناطق أخرى، قبل بناء الهيكل، فليس بالأمر الغريب أن يطلب له شعبًا في العالم كلّه.

فقال أيها الرجال الإخوة والآباء، اسمعوا:

ظهر إله المجد لأبينا إبراهيم وهو في ما بين النهرين،

قبلما سكن في حاران“. [2]

مع ما حملوه من كراهية وبغضة أظهر لهم استفانوس كل مودة، فتحدث معهم بأسلوبٍ فيه توقير واحترامٍ دون مداهنة، تحدث إليهم بكونه واحدًا منهم، فدعاهم “إخوة وآباء“.

جاء خطاب القديس استفانوس سردًا تاريخيًا بمفهوم لاهوتي عميق يحمل شهادة للسيد المسيح ولإنجيله، وليس دفاعًا عن نفسه. وقد قسم خطابه إلى ثلاث مراحل:

المرحلة الأولي: زمن الآباء البطاركة [2-16].

المرحلة الثانية: زمن موسى والأنبياء [17: 43].

المرحلة الثالثة: بين الخيمة والهيكل [44-50].

أظهر في هذا العرض الحقائق التالية:

أولاً: بارك الله آباءهم وهم لم يكونوا في فلسطين أو كنعان، وعلى رأسهم إبراهيم واسحق ويعقوب.

ثانيًا: لم يرتبط شعب إسرائيل خلال التاريخ بالعبادة في الهيكل حتى عصر سليمان.

ثالثًا: حتى عندما بُني الهيكل، فإن الهيكل لم يحفظ إسرائيل من عصيانه وتمرده على الله.

كأن استفانوس أراد تأكيد أنه يوجد ما هو أعظم من كنعان الأرضية، والهيكل في أورشليم، وهو التمتع بالمصالحة مع الله خلال المسيا الموعود به.

أيها الرجال الإخوة والآباء“: وجه حديثه إلى شيوخ الشعب كإخوة، والكهنة ورئيس الكهنة كآباء.

“اسمعوا“: يتكلم بروح القوة، بكونه يعلن كلمة الله التي يجب الاستماع لها.

إله المجد” دعا اللهإله المجد” ليؤكد أنه لن يجدف على الله كما ادعوا عليه.

بدأ بدعوة إبراهيم للخروج من أور الكلدانيين لكي يتكرس لله، ويتأهل لنوال الوعود الإلهية، ويصير أبا لرجال العهد القديم. “وهو في ما بين النهرين، قبلما سكن في حاران” وكأن الله يود أن يلتقي بالمؤمنين أينما وجدوا، فلم يظهر لإبراهيم في أورشليم ولا في خيمة الاجتماع أو الهيكل، وإنما في ما بين النهرين، في أور الكلدانيين (تك 15: 7؛ نح 9: 7، تك 11: 31-32).

هنا يدعو اللهإله المجد“، فإن كان وجه موسى قد صار لامعًا بانعكاس مجد الله عليه، فإن إله المجد أشرق على إبراهيم أب الآباء، قبل استلام الناموس، في أرض وثنية، “ما بين النهرين“، إن صح التعبير. أشرق بمجده على إبراهيم، كما على وجه موسى مستلم الناموس، وها هو مشرق على استفانوس نفسه في عهد النعمة. الله هو هو أمس واليوم وإلى الأبد، يشتهي أن يُشرق بمجده في كل العصور على كل البشر، ولا يحدْ نفسه بمكانٍ معينٍ وشعبٍ معينٍ.

v لم يكن الهيكل موجودًا (في ذلك الحين)، ولا (طقوس) الذبيحة، ومع ذلك وُهب لإبراهيم رؤية الله… وكان في بلدٍ غريبةٍ. وقد أجاد (القديس استفانوس) في أنه يبدأ حديثه بدعوة الله “إله المجد“، متطلعًا إلى أن الله يجعل الذين بلا كرامة ممجدين، إذ يقول: “إنه هو الذي جعلهم ممجدين، سيجعلنا نحن أيضًا ممجدين”. لاحظوا كيف يقودهم من المثل الأول بعيدًا عن أمور الجسد. يقول “إله المجد“، ملمحًا إلى أنه لا يحتاج إلى المجد الذي نقدمه له، الله لا يصدر مجده عن الهيكل، بل هو نفسه ينبوع المجد. لا تظنوا أنه يقول هذا لكي يمجده.

القديس يوحنا الذهبي الفم

جاءت دعوة الله لإبراهيم وهو بين الوثنيين في أور الكلدانيين، ولم يكن بعد ذهب إلى أرض الموعد. وجاءت الدعوة أن يذهب أولاً إلى حاران، حيث قطن فيها بعض الوقت، وبعد ذلك ذهب إلى كنعان أو فلسطين.

لم يقل: “وقد جاء إلى الأرض التي أنتم ساكون فيها”، وإنما قال: “هناك نقله”، وكأن الله قد حمله على ذراعيه، وانطلق به من حاران إلى أرض الموضع. مجيئه إلى أرض الموعد هو عطية إلهية ووعد إلهي، قام الرب نفسه بتنفيذه.

الله الذي حمل إبراهيم إلى هذه الأرض بسبب إيمانه العملي وطاعته، هو الذي يطرد بنيه خلال عدم الإيمان والتمرد. استفانوس كابن إبراهيم، بالإيمان يتمتع بكنعان السماوية، أما المقاومون للإيمان فسيُطردون من كنعان الأرضية كما السماوية، حتى وإن ظنوا أنهم ذرية إبراهيم.

وقال له: أخرج من أرضك،

ومن عشيرتك،

وهلُمّ إلى الأرض التي أُريك“. [3]

قدم إبراهيم أقوى مثل في الإيمان (عب 11: 8-9)، صورة حية لبساطة الثقة في الله. إن كان إبراهيم قد ترك بالإيمان أرضه وعشيرته وبيت أبيه لينطلق إلى حيث لا يعلم، فإنه يليق بأبناء إبراهيم ألا يرتبطوا بأمرٍ زمنيٍ بطريقةٍ حرفيةٍ كالإنتساب الجسدي لإبراهيم أو ممارسة العوائد اليهودية أو الافتخار بمبنى الهيكل.

خرج إبراهيم ليزحف إلى بلاد لا يعرف طبيعتها ولا سمات سكانها، وليس له جيش أو أسلحة ليغزو المناطق، كل سلاحه وإمكانياته هو “الوعد الإلهي”.

جاءت دعوة الله لإبراهيم بالطاعة له، بالخروج من أرضه ومن عشيرته وبيت أبيه. وكأنه يقول لهم: أنتم لستم مثل أبيكم إبراهيم، لأنكم عوض الطاعة “دائمًا تقاومون الروح القدس” [51].

فخرج حينئذ من أرض الكلدانيين،

وسكن في حاران،

ومن هناك نقله بعدما مات أبوه إلى هذه الأرض،

التي أنتم الآن ساكنون فيها“. [4]

إن كان اللَّه قد دعا إبراهيم أب المؤمنين ليتحرّك من أرض الكلدانيّين “ما بين النهرين” إلى حاران، ثم إلى كنعان؛ وكان إبراهيم مطيعًا للدعوة، لذا يليق بنا ألا نتشبّت بأرض معيّنة، بل نخضع لخطة اللَّه قائدنا، ليحركّنا كيفما يشاء وليس حسب فكرنا البشري.

يليق بنا كأبناء لإبراهيم أن ندخل مع اللَّه في عهدٍ، فنرتفع معه فوق العالم، ونحيا بالإيمان في طاعة للَّه، فنتمتّع باللقاء مع إله المجد.

أبرز القدّيس أن إبراهيم لم يتحرّك إلى أرض الموعد إلا بعد موت أبيه في حاران، وكأن تحرّكات إبراهيم لم تكن حسب تحرّكات أسرته، بل حسب خطّة اللَّه بالنسبة له شخصيًا. وكأنّه يدعوهم أن يتحرّكوا هم أيضًا ليست حسب ما نال آباؤهم، أي الارتباط بكنعان، بل حسب خطّة اللَّه للخلاص في العالم كلّه.

كان إبراهيم أداة طيعة في يد الله، وقد نقله إلى “هذه الأرض التي أنتم الآن ساكنون فيها“. لم يقل الأرض التي امتلكتموها أو ورثتموها، فقد قتلوا ابن صاحب الكرم الوريث الحقيقي والوحيد، وصاروا سكانًا مُعرضين للطرد، إذ يُنزع عنهم الكرم ليُسلم لمؤمني العهد الجديد، كما سبق فأعلن السيد المسيح نفسه.

ولم يعطه فيها ميراثًا، ولا وطأة قدم،

ولكن وعد أن يعطيها ملكًا له ولنسله من بعده،

ولم يكن له بعد ولد“. [5]

لا يُحسب تجديفًا إن كان السيّد المسيح يعلن عن نقض هذا الموضع لكي يقودنا إلى كنعان السماويّة، إنّما هذه حركة إلهيّة تكملة لخطته في تحرّك إبراهيم من كور الكلدانيّين إلى حاران ثم إلى كنعان، واستعباد نسله في مصر ودعوتهم للخروج إلى كنعان. الآن يطلب المخلّص الخروج من الارتباط الحرفي بكنعان للعبور إلى كنعان السماويّة.

عاش إبراهيم متجولاً كمن ليس له موضع إقامة دائم يستقر فيه. كل ما امتلكه المقبرة التي أصر أن يدفع ثمنها، ليدفن فيها زوجته سارة (تك 23). هذه اشتراها بماله ولم ينلها وعدًا من الله، لكن الله وهبه نعمة في أعين بني حث.

إذ ورثها أبناؤه حُسبت الأرض ملكًا له، فما يناله الابن يحسب الأب المحب أنه قد تمتع هو به.

نال الوعد بأن يرثها أبناؤه حين كان شيخًا وزوجته عاقرًا، لكنه آمن بالوعد الذي تحقق تمامًا.

كانت بركة إبراهيم تكمن، لا في الأرض التي وُعد أن يرثها أبناؤه، وإنما في الوعد الإلهي نفسه. لم ينل إبراهيم وطأة قدم في كنعان، بل نال وعدًا أن يملكها ولنسله من بعده. ملكها إبراهيم بالإيمان، وأعطاها لنسله اسحق الذي قدمه محرقة. فالميراث مشروط بالإيمان، كإيمان إبراهيم، والطاعة الباذلة لله، كطاعة اسحق. إنه ميراث مشروط: “إن شئتم وسمعتم تأكلون خير الأرض، وإن أبيتم وتمردتم تؤكلون بالسيف، لأن الرب تكلم ” (إش 1: 20).

v أنظروا كيف يرفع أفكارهم بعيدًا عن (امتلاكهم) للأرض… فقد جاء (لإبراهيم) وترك كلاً من أقربائه والأرض. لماذا لم يعطه الأرض؟ حقًا كانت رمزًا لأرضٍ أخرى.

القديس يوحنا الذهبي الفم

وتكلم اللَّه هكذا أن يكون نسله متغربًا في أرض غريبة،

فيستعبدوه، ويسيئوا إليه، أربعمائة سنة“”. [6]

لكي يتمتع نسل إبراهيم بالميراث يلزمه أولاً أن يتحمل الغربة، ويختبر العبودية، فيتوق إلى الحرية، ويقّدر قيمة الميراث المجاني.

يذكرهم القديس استفانوس بتغرب أبناء إبراهيم أربعة قرون في مصر قبل خروجهم إلي البرية ليدخلوا أرض الوعد. وقد ذكر 400 سنة كرقمٍ تقريبيٍ لرقم 430 كما جاء في غل 3: 17. تبدو خطّة اللَّه للخلاص بطيئة بلا تسرّع، إذ ترك نسل يعقوب أربعمائة عام في الغربة بمصر، لكنّها محكمة وآمنة ويقينيّة.

يرى العلامة ترتليان أن الناموس الذي سُلم لموسى هو ناموس الله القائم قبل موسى، وأن هذا الناموس يفتح باب الإيمان للأمم، إذ يتنبأ عن ذلك.

v نحن نفهم أن ناموس الله سابق حتى لموسى، لم يُعط أولاً في حوريب، ولا في سيناء، ولا في البرية، بل هو أقدم من هذا بكثير، إذ وجد أولاً في الفردوس، وأعيد تشكيله بعد ذلك من أجل الآباء البطاركة، ثم أُعيد مرة أخرى لليهود في أوقات أخرى.

العلامة ترتليان

والأمة التي يستعبدون لها،

سأدينها أنا يقول اللَّه،

وبعد ذلك يخرجون،

ويعبدونني في هذا المكان“. [7]

إن كان الله يسمح باستعباد نسل إبراهيم إلى حين ليتمتعوا بالميراث فإن فرعون وجيشه الذي يتشامخ على الله وعلى شعبه يسقط تحت الدينونة والهلاك، بينما يخرج الشعب ليعبد الله.

v ذاك الذي وعد بأن يهب الأرض هو نفسه سمح بالشرور (الضيقات). الآن أيضًا يعد بالملكوت، ومع هذا يسمح لنا أن نُختبر بالتجارب. إن كان في ذلك الوقت لم تُعطَ الحرية إلاَّ بعد أربعمائة سنة فأي عجب (إن سمح بالضيقات) من أجل الملكوت؟ مع هذا حقق وعده؛ انتظار الوقت لم يبطل كلمته.

v الله غني في طرقه ووسائله ليخرجنا من الضيقات. لقد أظهر فوق كل شيء أن الأمة تزايدت جدًا بالمقاومة ضدها، بينما اُستبعدت وأُسيء معاملتها لكي تفنى. وهذا هو عظمة الوعد. فلو أنها نمت في أرضها لم يكن الأمر عجيبًا. ولم يكن هذا لفترة قصيرة حين كانت في أرضٍ غريبة، بل لمدة أربعمائة عام. هنا نتعلم درسًا عظيمًا لفلسفة الاحتمال. لم يعاملهم كسادةٍ بل كعبيدٍ. بل وكأعداء وطغاة، وقد سبق فأخبرهم أنهم ينالون حرية عظيمة، هذا ما يعنيه بالقول: “يخرجون ويعبدونني في هذا المكان” [٧] في حصانةٍ.

القديس يوحنا الذهبي الفم

“وأعطاه عهد الختان،

وهكذا ولد اسحق،

وختنه في اليوم الثامن،

واسحق ولد يعقوب،

ويعقوب ولد رؤساء الآباء الاثنى عشر“. [8]

إن كان اليهود يتهمون القديس استفانوس بالتجديف على الله وعلي موسى وأنه سيغير عوائدهم، فإن إبراهيم أباهم نال الوعد الإلهي قبلما ينال الوصية بالختان، التي يحسبها اليهود صلب العوائد اليهودية وعمودها الفقري. لقد تبرر إبراهيم بالإيمان قبل أن يُختتن. لم يقدم الله لإبراهيم وصية أخرى سوى “عهد الختان”، فلم نسمع عن وصية حفظ السبت، ولا طقوس للتطهيرات، ولا إقامة بيت خاص بالله (خيمة الاجتماع أو الهيكل). ومع هذا حُسب إبراهيم واسحق ويعقوب محبوبي الرب، وظل اسم الله بعد موتهم يُدعى: “إله إبراهيم وإله اسحق، وإله يعقوب”.

هكذا يود القديس استفانوس أن يسحب قلوبهم إلى الوصية الإلهية أو العهد الإلهي، ألا وهو ختان القلب والآذان.

ورؤساء الآباء حسدوا يوسف،

وباعوه إلى مصر،

وكان اللَّه معه“. [9]

يوضح لهم القديس استفانوس أن ما يعانون به من غيرة شريرة وحسد ليس بالأمر الجديد، بل هو قديم قدم الإنسان نفسه. في بدء خلقة الإنسان تسلل الموت إلى آدم وحواء بحسد إبليس، وها هو في بدء تكوين شعب الله سلم رؤساء الآباء (أبناء يعقوب) أخاهم يوسف خلال الحسد. وعندما جاء ربنا يسوع المسيح سلمه الرؤساء للموت بحسدهم له. والآن يقف استفانوس في المجمع ليحاكم لحسدهم إياه. فالذين يطلبون قتله الآن هم حفدة رؤساء الآباء الذين باعوا أخاهم عبدًا بحسدهم له.

v أيها الأخ المحبوب إن حسدك لما هو خير، وغيرتك ممن هم أفضل منك يبدوان في نظر البعض كما لو كانا خطأ تافهًا وطفيفًا. وإذ يُنظر إليه (الحسد) كما لو كانا تافهًا وليس ذا قيمة لا يُخشى منه. وإذ لا يُخشى منه يُستهان به. وإذ يُستهان به يصعب تحاشيه. ولهذا فإن الحسد ضرر مظلم وخفي. فإذ لا ندرك أنه ينبغي على الحكيم أن يتحاشاه، يتسرب خفية إلى العقل غير الحذر ويجعله مضطربًا.

أضف إلى هذا، أمرنا الرب أن نكون حكماء، وأوصانا أن نلاحظ باهتمام بالغ لئلا يتسرب ذلك العدو، الذي يقف متربصًا دائمًا، فيزحف خفية إلى صدورنا، ويشعل من الشرارات لهيبها، ويضخم الأمور الصغيرة. وهكذا بينما نستنشق الهواء اللطيف والنسيم الناعم بلا حذر، إذ بالعواصف والزوابع تهب، فتعمل على إفساد الإيمان، وتدمير الخلاص والحياة.

لهذا ينبغي علينا أيها الأخ الحبيب، أن نكون حذرين متسلّحين بكل القوة، مراقبين بدقة كاملة، حتى نطرد العدو الثائر الذي يصوب أسهمه إلى كل جزء من أجزاء جسدنا الذي يمكن أن يضرب أو يجرح، وذلك كما يحذرنا الرسول بطرس، ويعلمنا في رسالته قائلاً: اصحوا واسهروا، لأن إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمسًا من يبتلعه هو” (1 بط 8:5).

في كل الأمثلة الذي أصيب بالضرر الحاسد نفسه، أما الذي حسده فكان الرب معه، لا يقدر الحسد أن يبث سمومه فيه.

v لو نظر أي إنسان بدقة إلى (سهام الحسد)، فسيجد بأنه ليس هناك ما ينبغي أن يُحذر منه ويراعيه أكثر من أن يؤخذ أسيرًا بواسطة الحسد والحقد. فليس أحد يسقط في الأشراك الخفية للعدو الخبيث بحيث يرتد من الحسد إلى الكراهية، إلا ويهلك بسيفه هو شخصيًا دون أن يعلم.

v يكون الضرر تافهًا والخطر بسيطًا عندما تًجرح الأطراف بسيفٍ، فيكون الشفاء هيّنًا مادام الجرح واضحًا، ويُستخدم الدواء. فالقرحة التي تُرى يمكن علاجها بسهولة. أما جراحات الحاسدين فهي مخفيّة وسرّية، ولا تقبل علاجًا لشفائها، فتغلق على نفسها آلامًا مخفية داخل مكامن الضمير.

v منذ بداية العالم كان الشيطان هو أول من أهلك نفسه ودمًر الآخرين. لقد انكسر بالغيرة مع الحسد المملوء ضغينة ذاك الذي كان في العظمة الملائكية، مقبولاً أمام الله ومحبوبًا عنده.

إنه لم يرشق الآخرين بغريزة الغيرة قبل أن يرشق نفسه بها، ولا بالأسر قبل أن يؤسر هو، ولا بالدمار قبل أن يهلك. وفي إغرائه بالغيرة، أفقد الإنسان نعمة الخلود الموهوبة له، وهو نفسه فقد تلك التي كانت له سابقًا.

يا لها من شرور عظيمة أيها الأخوة الأحباء، فقد أسقط الحسد الملاك، وأزال مجد عظيم وبهي، فذاك التي خدع به الآخرين هو نفسه خُدع به.

الشهيد كبريانوس

وأنقذه من جميع ضيقاته،

وأعطاه نعمة وحكمة أمام فرعون ملك مصر،

فأقامه مدبرًا على مصر،

وعلى كل بيته“. [10]

بينما يبيع رؤساء الأسباط أخاهم عبدًا ليتخلصوا منه، إذا بالله ينقذه من جميع ضيقاته ويعطيه نعمة وحكمة ويهبه مجدًا في أرض مصر. فمقاومة الرؤساء لم تهز شخصية يوسف، بل تحولت لمجده. وكأنه يحذرهم من مقاومته له في الحق الإلهي، فسيؤول هذا حتمًا لمجد الله، ومجد خادمه الأمين.

v يُظهر أن القديسين غير مستثنيين من التجربة، لكنهم ينالون عونًا في ذات التجارب… فالتجارب جعلت يوسف أكثر مجدً، وكما فعل الملك مع موسى بأمره قتل الأطفال لكي يُقتل موسى. فلو لم يصدر الأمر هكذا لما انسحب موسى إلى البرية وتمتع بالرؤيا وتأهل لها. هكذا الذي بيع كعبدٍ جعله الله ملكًا هناك بينما ظنوا أنه عبد. هكذا فعل المسيح في موته مؤكدًا سلطانه، فإنه يملك كملكٍ حيث هم باعوه.

القديس يوحنا الذهبي الفم

ما تمتع به يوسف لم يكن إلا نعمة مجانية لله، إذ وهبه نعمة في أعين الكثيرين، كما وهبه حكمة، ففسر الأحلام في السجن كما بالنسبة لفرعون (تك 41).

نزول يعقوب أب الأسباط إلى مصر 11-19

ثم أتى جوع على كل أرض مصر وكنعان،

وضيق عظيم،

فكان آباؤنا لا يجدون قوتًا“. [11]

حلت المجاعة على أرض مصر (تك 41: 54) كما على كنعان، وإذ كان يعقوب والإحدى عشر ابنًا وعائلاتهم في كنعان لم ينقذهم المكان “كنعان” بل أنقذهم الله خلال يوسف الذي كان في مصر.

ولما سمع يعقوب أن في مصر قمحًا،

أرسل آباءنا أول مرة“. [12]

لاحظ حكمة القديس استفانوس، فهو يدعو أبناء موسى العشرة الذين أرسلهم يعقوب “آباءنا“، فيحسب آباء الأسباط آباء المؤمنين المسيحيين. ومن جانب آخر إذ يروي تاريخًا أورده موسى النبي في أسفار الشريعة يؤكد قبوله لأسفار الشريعة وثقته فيما كتبه موسى النبي بالوحي الإلهي.

وفي المرة الثانية، استعرف يوسف إلى إخوته،

واستعلنت عشيرة يوسف لفرعون“. [13]

في المرة الثانية كشف يوسف عن شخصيته لإخوته (تك 45: 4)، وقدمهم لفرعون (تك 45: 16).

فأرسل يوسف واستدعى أباه يعقوب وجميع عشيرته،

خمسة وسبعين نفسًا“. [14]

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن ما فعله آباؤهم رؤساء الأسباط بأخيهم يوسف كان نبوة رمزية لما تحقق بالنسبة للسيد المسيح، وقد قام مجمع السنهدرين بتحقيق النبوة. لقد حمل لهم يوسف صداقة واهتمامًا، وحتى بعد حسدهم له وبيعه عبدًا لم يتخلَ عنهم، بل قدمهم لفرعون وأعانهم. صورة رائعة للحب الخالص يكشفها لنا القديس استفانوس، وكأنه يعلن لمقاوميه أنهم مع كل ما فعلوه بالسيد المسيح وما يفعلونه برسله بعد صعوده يبقى السيد وكنيسته يحملان كل حبٍ لهم، ويقدمان لهما الحياة الأفضل.

لم يكن يوسف في أرض الموعد بل في مصر، مع هذا كان الله معه وأنقذه من جميع ضيفاته” [10-11]. لم ينقذه من كل متاعبه فحسب، وإنما حول الضيقات لمجده، فجعله المدبر على كل أرض مصر وعلى بيت فرعون. أنقذه من العبودية التي نال ثمنها اخوته، ووهبه حرية ومجدًا على أعلى مستوى.

اتبع استفانوس الترجمة السبعينية حيث ذكر العدد 75 نفسًا بينما جاء في الأصل العبري سبعين نسمة (تك 46: 26 ؛ خر 1: 5؛ تث 10: 22). يرى البعض أن عائلة يعقوب كانت قادمة عددها 66 (تك 46: 26) مضافًا إليهم عائلة يوسف 9 أفراد (تك 46: 27).

v لنتعلم إذن أن الكتاب المقدس يستخدم الجزء عن الكل. فإن الذي قال: “يأتي أمامك كل جسدٍ” (مز 25: 2) لا يعني أن تًحضر الأجساد أمام الديان منفصلة عن النفوس. وعندما نقرأ في التاريخ المقدس أن يعقوب نزل إلى مصر مع 75 نفسًا (أع 7: 14) نفهم أنه يقصد بأن الأجساد مرتبطة بالنفوس. هكذا أيضًا قيل أن الكلمة صار جسدًا (يو 2: 19)، آخذًا مع الجسد كل الطبيعة البشرية.

القديس غريغوريوس النيسي

فنزل يعقوب إلى مصر،

ومات هو وآباؤنا“. [15]

عاش الاسرائيليون 215 عامًا في مصر، فمات كل أبناء يعقوب قبل خروج إسرائيل من مصر، منطلقين نحو أرض كنعان.

ونقلوا إلى شكيم،

ووضعوا في القبر الذي اشتراه إبراهيم بثمن فضة،

من بني حَمور أبي شكيم“. [16]

دُفن يعقوب في حقل مكفيلة بواسطة يوسف وإخوته. أما عظام يوسف فحملها الإسرائيليون إلى أرض كنعان حسب وصيته، ودُفن في شكيم (يش24: 32؛ تك 50: 25). لم يشر العهد القديم قط إلى نقل عظام أي أب آخر غير يوسف، لكن الاحتمال وارد وكبير أن الإسرائيليين حملوا عظام آبائهم. فكما حمل نسل يوسف عظام أبيهم، يحتمل أن قام نسل الآباء الآخرين بذات العمل.

يقول المؤرخ يوسيفوس أن أبناء هؤلاء الرجال (إخوة يوسف) ونسلهم، حملوا أجسادهم بعد حين ودفنوها في حبرون، أما عظام يوسف فحملوها بعد ذلك إلي أرض كنعان. عندما خرج اليهود من مصر. أخذ بهذا الرأي كثير من الكتَّاب اليهود، أن الآباء رؤساء الأسباط قد دُفنوا في حبرون، غير أن بعض اليهود يعتقدون أنهم دفنوا في شكيم. على أي الأحوال فإن العهد القديم لم يُشر إلى ما يخالف قول القديس استفانوس. كانت شكيم في أيام القديس استفانوس تحت أيدي السامريين، ولعله لهذا السبب أشار كثير من الكتَّاب اليهود إلى أن عظام آبائهم في حبرون، حتى لا يعتز السامريون بأنها تحت أيديهم. مع هذا لم يعترض السامعون على كلمات القديس استفانوس.

شكيم: مدينة أو قرية بالقرب من السامرة، كانت تُدعى سوخار (يو 4: 5)، شيخيم Shechemوسيكيم Sychem. الآن تُدعى نابولس Napolose أو نابلس Naplous، تبعد حوالي عشرة أميال من شيلوه Shiloh و40 ميلاً من أورشليم ناحية الشمال.

كل ما ناله إبراهيم أب الآباء أو يعقوب (إسرائيل) أب الأسباط قطعة أرَض صغيرة كمدفن، ولم يرتبط قلب أحدهما بميراث الأرض المتّسعة الخصبة.

من الذي اشترى الأرض التي في شكيم؟

جاء في تك 33: 19، ويش 24: 32 أن يعقوب وليس إبراهيم هو الذي اشترى هذه الأرض من بنى حمور أولاد شكيم، أما إبراهيم فاشترى الأرض التي في مكفيلة من بنى حث في حبرون (تك 23). يرى البعض أن الأصل هو “اشتراه أبونا”، وفي النساخة ظن النساخ أنه يقصد بأبينا “إبراهيم”، فكتبوا إبراهيم عوض كلمة “أبونا”.

وكما كان يقرب وقت الموعد الذي أقسم اللَّه عليه لإبراهيم،

كان ينمو الشعب،

ويكثر في مصر“. [17]

إذ حلّ وقت الخلاص سمح اللَّه لشعبه أن ينشأ وينمو وسط الضيق في مصر. فلم تكن تلك السنوات وقتًا ضائعًا، ولا عقبة في تحقيق الوعد الإلهي، بل كان الضيق هو الجو اللائق للخروج، والتمتّع بالوعد الإلهي. هكذا يرتبط تحقيق الوعود بأزمنة الضيق. هنا يعلن القدّيس استفانوس عن نظرته الكتابيّة الصادقة أن ما تعانيه كنيسة العهد الجديد من اليهود إنّما هو الجو الصحّي لنموّها وازدهارها روحيًا وعدديًّا.

بقي رعاة الماشية في أرض جاسان شرق الدلتا، لأن مراعيها كانت جيدة، ومعروف أن فروع نهر النيل في هذه المنطقة كانت متعددة جدًا. أما بقية شعب إسرائيل فانتشروا في مصر كلها، واختلطوا بكل مراكز الأعمال والمهن، وأتقنوا كل صنعة وشربوا أسرارها. عاشوا أربعة قرون في وسط أعلى حضارات العالم آنذاك، بل وربما لا تدانيها حضارة اليوم. درسوا العلوم والآداب والحكمة والاقتصاد والطب والفلك والهندسة واللغة الخ.

لقد نموا جدًا وازدادوا حتى حسبوا مصرَ وطنًا لهم. وحتى عندما إستعبدهم فرعون رفضوا الخروج من مصر تحت قيادة موسى. وبعد الخروج حاولوا الرجوع إليها عدة مرات. وفي أيام ارميا النبي حملوه قسرًا معهم وذهبوا إلى مصر.

أظهر القديس استفانوس عمل الله العجيب الذي حوّل في فترة صغيرة الأسرة المكونة من 75 نسمة إلى أمة عظيمة هذا تعدادها. في فترة 215 سنة صار عدد رجال الحرب 600 الف محارب، فقد حقق الله وعده لإبراهيم.

إلى أن قام ملك آخر،

لم يكن يعرف يوسف“. [18]

إذ تزايد عدد الإسرائيليون جدًا وقووا، لم يفكروا في الخروج من مصر، بل كانوا يشعرون بالاستقرار فيها، لهذا سمح الله بظهور ملك آخر في مصر لم يسِر على منهج الملوك سلفائه، هؤلاء الذين كانوا يحسنون التعامل معهم. سمح به الله لكي لا يشعروا بالاستقرار، بل يخرجوا إلى الأرض التي وعد الله بها إبراهيم أن يرثها نسله. وقد حان وقت إتمام الوعد الإلهي.

يرى البعض أن فرعون هذا هو رمسيس، الملك الخامس من الأسرة الثامنة عشر، وأن هذا تم حوالي عام 1559 ق.م. يظن م. شامبليون M. Champollion أن اسم الملك هو ماندونيMandonei الذى بدأ ملكه عام 1585 ق.م حتى 1565 ق.م. ويرى ج ولكنسون G. Wilkinson أنه أول ملك في الأسرة الثامنة عشر ويُدعى عموسيس Amosis أو عامس Ames ويرى هاكت Prof. Hackett أن معرفتنا بتاريخ مصر القديمة إلى الآن ليست دقيقة تمامًا، لذا يصعب تحديد الزمن بدقة.

فاحتال هذا على جنسنا،

وأساء إلى آبائنا،

حتى جعلوا أطفالهم منبوذين لكي لا يعيشوا“. [19]

سمح الله بقيام ملك آخر (رمسيس الثاني 1292-1225 ق.م.) الذي اضطهد العبرانيين لكي يحرمهم من قدور اللحوم وملذات مصر وأطاييبها، إذ كانوا قد بدأوا ينهبون خيرات مصر، وكان الله يعد لهم الخلاص والتمتع بأرض الموعد. وقد تم الخروج في عهد فرعون ممبتاح Memoptah (1225-1215 ق.م).

إذ لاحظ المصريون تزايد عددهم كانوا يضيفون عليهم الأثقال، حيث يلاحظ القديس استفانوس هنا ثلاثة أمور:

  1. جحودهم الدنىء، إذ لم يراعِ الملك الجديد خدمات يوسف لهذه الأمة.
  2. سياستهم الشيطانية وفكرهم الجهنمي “فاحتال على بني جنسنا“. لم يسلكوا بحكمة لنفع أنفسهم، بل ما كان يشغلهم هو الاحتيال والسلوك بعنفٍ في غير رحمةٍ بإخوتهم.
  3. تصرفهم معهم على مستوي مؤلم، حيث خططوا لقتل كل الأطفال الذكور الصغار.

في هذا كله يود القديس استفانوس أن يبرز لهم أن دخولهم أرض الموعد لا فضل لهم أو لآبائهم فيه، إنما هو عطية مجانية، وهبة من الله صانع المستحيلات، الذي عمل حسب غنى نعمته، وليس حسب استحقاقهم. ولعله أراد أن يوضح لهم أن التاريخ يعيد نفسه، فما فعله بهم المصريون، وما خططوا لتدميرهم فشل تمامًا، وتمتع إسرائيل بالحرية وورث أرض الموعد. الآن ها هم أنفسهم يمارسون ما فعله المصريون وبذات الروح، ويظنوا أنهم قادرون على تحطيم كنيسة المسيح، لكن يبقى الله، إله المستحيلات، عاملاً في وسط المؤمنين ليهبهم الميراث الأبدي، كنعان السماوية.

تربية موسى في قصر فرعون20-29

وفي ذلك الوقت وُلد موسى،

وكان جميلاً جدًا،

فرُبّيَ هذا ثلاثة أشهر في بيت أبيه“. [20]

إذ بلغ الاضطهاد ذروته وُلد موسى، وكان هو نفسه في خطرٍ، معرضًا لقتله وهو بعد حديث الولادة؛ أرسله الله مخلصًا عندما بلغت الظلمة الذروة، وصارت الكارثة كما بلا حل. وُلد وسط هذه الظلمة الدامسة، وإذا بوجهه الجميل جدًا يشرق كما بنورٍ. لقد قدسه الله وهو بعد في الرحم، فوُلد جميلاً جدًا في عيني الله، بل وحتى في عينى ابنة فرعون.

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم عجز الإنسان عن العمل، حتى وإن كان أبًا أو أمًا للشخص. لقد احتفظ الوالدان بموسى، ولكن إلى ثلاثة أشهر فقط، وألقياه في النهر.

v إذ صار عون الإنسان ميئوسًا منه فألقياه، عندئذ أشرق إحسان الله في روعةٍ.

v هذا هو العجب، أن ذاك الذي يكون لهم نصيرًا وُلد وسط العاصفة، لا قبل ولا بعد ذلك الوقت.

القديس يوحنا الذهبي الفم

ولما نُبذ اتخذته ابنة فرعون،

وربّته لنفسها ابنًا“. [21]

نجحت خطة فرعون، فقد اعتادت الأمهات المملوءات حنوُا على أطفالهن أن يلقين بهم إلى الموت، كما فعلت والدة موسى النبي.

تعهده الله وهو في رحم أمه فوهبه جمالاً رائعًا، وتعهده وهو رضيع برعاية والديه لمدة ثلاثة اشهر، وإذ توقفت أذرع الوالدين، تعهده في بيت فرعون نفسه المقاوم لله ولشعبه.

وكان جميلاً جدًا“، وبحسب الأصل اليوناني “جميلاً أمام الله” أو “جميلاً بالله“. وهو تعبير عبراني يعني أنه هيئته لها مسحة إلهية سرية جعلت أبويه لا يخشيان أمر الملك (عب 11: 23). يصفه المؤرخ يوسيفوس: “كان طفلاً شكله إلهيًا”. ووصفه فيلون: “لما وُلد الصبي للوقت ظهر بوجه أكثر جمالاً من عامة الناس”، وبسبب جماله إذ التقطته ابنة فرعون من الماء اتخذته ابنًا لها.

v إذ كانت كل هذه العناية الإلهية ترافق (الطفل موسى) لم تُذكر كلمة “هيكل” ولا “ذبيحة”، بل تربى في بيت بربري.

القديس يوحنا الذهبي الفم

في كتابه “حياة موسى” يقدّم لنا القديس غريغوريوس أسقف نيصص شخصيّة موسى النبي وحياته وأعماله كرمز لعمل السيّد المسيح في النفس البشريَّة وتمتّعها بخلاصه العجيب.

يرى القديس غريغوريوس أسقف نيصص في ابنة فرعون المتعلّمة الوثنيّة والعاقر رمزًا للفلسفات الزمنيّة والفلاسفة الذين يبذلون جهدًا عظيمًا كمن هم في حالة طلق، لكنهم يحبلون ريحًا ولا ينجبون قط، إنّهم كالأميرة العاقر! إنّها دومًا تجهض، فلا تنجب نور معرفة اللَّه. تربّى موسى في قصر فرعون كابن لابنة فرعون، لكنّه رضع اللبن من أمّه، أي من لبن الكنيسة [بهذا تنتعش النفس وتنضج وتتمتّع بالوسائط للصعود إلى الأعالي.]

فتهذّب موسى بكل حكمة المصريين،

وكان مقتدرًا في الأقوال والأعمال“. [22]

كان تعليم المصريين يركز على علم الفلك وتفسير الأحلام والطب والرياضيات والعلوم الدينية. كان العالم القديم ينهل من معرفة قدماء المصريين وحكمتهم وفلسفتهم. فمن المعروف أن العلم انتقل من مصر إلى فينيقية ثم إلى اليونان، وقد جاء عدد ليس بقليلٍ من الفلاسفة اليونان إلى مصر من أجل المعرفة.

مقتدرًا في الأقوال“: يعترف موسى النبي أمام الله أنه ثقيل اللسان، وبطيء في الحديث”. لهذا فإن اقتداره في الأقوال تعني قدرته على الاتصال بفرعون. هذا واضح عندما كان هرون يود أن يبلغ فرعون رسالة كان يقدمها خلال أخيه موسى (خر4: 11-16).

لم ترد عبارة “مقتدرًا في الأقوال” في أسفار العهد القديم، اقتبسها استفانوس عن التقليد اليهودي، وهي تعبر عما تمتع به موسى في قصر فرعون طوال 40 عامًا. وكأن الله قد هيأه للقيادة بروح المعرفة والعلم، وربما خلال هذه المعرفة العلمية استطاع أن يكون له دوره الفعال في إنشاء خيمة الاجتماع بما تحمله من إبداع. هذا وقد تزينت معرفته بعمل الله في حياته ليكون “حليمًا أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض” (عد 12: 3). وقاده الرب إلى البرية ليتعلم روح الرعاية الحانية في وسط القفر. خلال حكمة المصريين تعلم الكتابة، فسجل الأسفار الخمسة كما تعلم حفظ الورق أو المخطوطات من التلف. يؤكد علماء كثيرون أن موسى النبي هو الذي اخترع الخط العبري بقواعده. ويرى البعض من جهة اقتداره في العمل أنه قاد حملة مصرية ضد أثيوبيا، ونال نصرة باهرة وعاد بالأسرى، وقد صار أغنية بين أبطال الحرب والسلم.

لم ينسَ موسى إله آبائه إذ، لذلك وقد صار دارسًا عظيمًا لم ينقد إلى سحر مصر، بل أدرك خداع لشيطان للسحرة، وخداعهم للآخرين.

مقتدرًا في الأقوال والأعمال“: ربما تعني أنه صار أشبه برئيس وزراء مصر، يتكلم بسلطانٍ وينفذ ما يقوله.

ولعله كان في ذهن القديس استفانوس أن ما تمتع به موسى هو بتخطيطٍ إلهيٍ، فصار بالله قادرًا، صاحب سلطان. هكذا استفانوس نفسه، إذ يتمتع بالروح القدس الساكن فيه يشعر أنه صاحب سلطان.

v تربّى في غنى الملوك وبهائهم ومجدهم، وتعلّم “بكل حكمة المصريّين” [22]. ولما بلغ سن الرجولة، وصار عظيمًا، رفض كل تلك الأشياء، مفضّلاً بالأحرى شدائد المسيح وعاره، كما يقول الرسول: “على أن يكون له تمتّّع وقتي بالخطيّة” (عب 11: 25) .

القديس مقاريوس الكبير

v عندما بلغ (موسى) السن المناسب علّموه الحساب والهندسة والشعر والتوافق الموسيقي، بالإضافة إلى الطب والموسيقى، على أيدي المعلّمين النابغين في هذا العلوم والفنون من المصريّين. كذلك تعلّم الفلسفة، تلك التي تدل عليها الرموز في اللغة الهيروغليفية، كذلك قام اليونانيّون بتعليمه المواد الدراسيّة، وتنشئته كطفلٍ ملكي، وذلك حسبما ذكر فيلون في سرده لحياة موسى. درس موسى إلى جانب ذلك آداب المصريّين، وعلم الأجرام السماويّة على أيدي الكلدانيّين والمصريّين، كما يذكر إيبوليموس Eupolemus في كتابه عن ملوك اليهوديّة. كان موسى أول الرجال الحكماء، وأول من علّم اليهود علم النحو والصرف، وهو ما تلقّاه الفينيقيّون من اليهود فيما بعد، ثم أخذه اليونانيّون عن الفينيقيّين.

القديس إكليمنضس السكندري

v تعلم موسى كل حكمة المصريين… وإذ تركها بحث عن الله بكل رغبة قلبه، وهكذا رأى الله وسأله وسمع له عندما تكلم (خر 3: 4).

القديس أمبروسيوس

v يلزمنا أن نتعلم من الله ما نفكر فيه عن الله، فليس لنا مصدر للمعرفة سواه. قد تتدرب بكل حذاقة كما تشاء في الفلسفة العلمانية، ربما تسلك حياة بارة. هذا كله يساهم في الشبع الفكري، لكنه لا يعينك على معرفة الله. لقد تبنت ابنة فرعون موسى، فتعلم كل حكمة المصريين، بالإضافة إلى ذلك كان له ولاؤه لجنسه، فانتقم لما أصاب العبراني بقتل المصري، ومع هذا فلم يعرف الله الذي بارك آبائه.

القديس هيلاري أسقف بواتييه

ولمّا كمُلت له مدة أربعين سنة،

خطر على باله أن يفتقد إخوته بني إسرائيل“. [23]

لم يُذكر عمره في العهد القديم حين فكر موسى في انقاذ اخوته، لكن القديس استفانوس اقتبس هذا عن التقليد اليهودي.

شبّ موسى مقتدرًا في الكلام والعمل، وظن أن بقدراته ومواهبه يستطيع أن يفتقد اخوته في مذلتهم. وربما كان في ذهنه أن يقود حملة عسكرية لمقاومة مضطهدي شعبه، ولتثبيت حقوقهم بالقوة. لكن هل كان يظن أنه قادر أن يثبت وجود شعبه بالسيف داخل أرض مصر، أم انه يقود الشعب إلى فلسطين؟

يرى البعض إن فرعون طلب أن يقتل موسى ليس لمجرد قتله للمصري، وإنما جاء هذا الحدث لتأكيد في ذهن فرعون أن موسى قد بدأ حركة تنظيم سري لحساب العبرانيين، فشعر بخطورته. فإبلاغ فرعون بحدث قتل مصري وهو أمر يُحسب تافهًا بالنسبة لفرعون، إنما يكشف أن شكًا قد سرى في أوساط القصر الملكي بتخطيط خفي لموسى ضد المصريين.

عاش موسى في قصر فرعون كمصري في بيت فرعون، ولم يكن له اتصال بشعبه، لكن قلبه وفكره وكل أعماقه كانت مرتبطة بشعبه، يئن مع أنينهم، ويشتهي أن يراهم في كمال الحرية.

وإذ رأى واحدًا مظلومًا،

حامى عنه وأنصف المغلوب،

إذ قتل المصري“. [24]

الظلم الذي حل على اليهودي من المصري هو أنه كان يضربه بعنفٍ يمكن أن يؤدي إلى قتله.

يرى القديس غريغوريوس أسقف نيصص في المصري الوثني رمزًا للتعاليم الفلسفيّة الفاسدة واليهودي المتديّن رمزًا لتعاليم الآباء، حيث توجد خصومة بينهما. يقول أيضًا: [حرب المصري ضدّ العبراني تشبه حرب الوثنيّة ضدّ الدين الحقيقي، والخلاعة ضدّ البرّ، والعجرفة ضدّ التواضع، وكل شيء ضدّ ما هو عكسه. يعلّمنا موسى بمثاله أن نقف في صف الفضيلة كما في صف قريب لنا، وأن نقتل عدوّ الفضيلة (الشرّ). فنصرة الابن الحقيقي هو موت للوثنيّة ودمار لها. وهكذا البرّ يقتل الظلم، والتواضع يذبح التشامخ.]

فظن أن إخوته يفهمون أن اللَّه على يده يعطيهم نجاة،

وأمّا هم فلم يفهموا“. [25]

لم يرد هذا في أسفار العهد القديم. لكن ما ذكره القديس استفانوس هو أمر مقبول. عندما وقف موسى في صف العبراني وكان يقاوم المصري بمفرده، حسب أن ما قد فعله هو بتوجيه الله نفسه لكي يخلص شعبه، وظن أنه كان يليق بالشعب أن يفهم ذلك، مدركًا أنه وإن تربى في قصر فرعون لكنه إسرائيلي.

وفي اليوم الثاني ظهر لهم وهم يتخاصمون،

فساقهم إلى السلامة، قائلاً:

أيها الرجال أنتم إخوة، لماذا تظلمون بعضكم بعضًا“. [26]

ظهر في اليوم التالي (خر 2: 13) فجأة وبطريقة غير متوقعة لإثنين عبرانيين يتخاصمان، وقد حثهما على المصالحة وإيجاد سلام بينهما. وجه حديثه نحو الشخص المخطئ مؤكدا أن الذي يصارع ضده هو أخوه.

فالذي كان يظلم قريبه دفعه، قائلاً:

من أقامك رئيسًا وقاضيًا علينا؟” [27]

إذ طلب موسى من الظالم أن يضع في اعتباره أخوة أخيه له رفض المصالحة، بل وهدد موسى، فإنه ما أصعب على المخطئ الجاهل أن يراجع نفسه في هدوء ويعترف بخطأه. هذا ما دفع الله نفسه أن يبادر بالحب ويتمم الخلاص ببذل ابنه الوحيد لعل الخطاة يتلامسوا مع الحب الإلهي. فإنهم من جانبهم لا يطلبون المصالحة مع الله.

ليس عجيبًا أن يقاوم الظالم موسى، قائلاً: “من أقامك رئيسًا وقاضيًا علينا؟” هذه هي التحية الطبيعية التي تصدر عن قلب الإنسان الشرير وفكره نحو من يحثه على المصالحة والسلام.

أتريد أن تقتلني كما قتلت أمس المصري؟” [28]

من أخبره بما حدث في اليوم السابق. غالبًا ما أخبر الإنسان الذي أنقذه موسى أقرباءه بما فعله. وعوض تقديم كلمة شكر أو تشجيع لمن يطلب خلاصهم، وجد موسى مقاومة وتهديدًا.

ليته لا يترقب أحد كلمة مديح أو تشجيع ممن يخدمهم، بل يعمل لحساب ملكوت الله دون ترقب أية مكافأة زمنية كبرت أو صغرت.

v يظهر كيف كان (آباؤهم) جاحدين للمحسنين إليهم، كما في المثال السابق، فقد خلصوا بواسطة يوسف الذي ألحقوا به ضررًا، هكذا مرة أخرى خلصوا بشخصٍ آخرٍ ناله ضرر، أعني موسى… بالنية قتلوه كما فعل الآخرون في المثل السابق.

إنهم باعوا من لهم في أرض غريبة، وهنا طردوا شخصًا من أرضٍ غريبة (مصر) إلى أرض أخرى غريبة (البرية).

في المثال السابق قدم لهم الشخص (يوسف) طعامًا، وهنا يقدم لهم (موسى) مشورة صالحة!…

انظروا كيف تحولت الخطط التي للمقاومة مصادر خلاص للذين يدبرون الخطط ضدهم.

كان الشعب الذي يخطط ضد نفسه والذي كان الغير يخططون ضدهم ومع هذا كله خلصوا. لم تهلكهم المجاعة، لم يحدث هذا قط، إذ خلصهم ذات الشخص الذين أرادوا هلاكه بطريقهم.

القرار الملكي (لفرعون) لم يبددهم، بل بالأحرى كانوا ينمون بالأكثر عندما مات ذاك الذي عرفهم. لقد أرادوا قتل مخلصهم، وهم بلا سلطان أن يفعلوا ذلك. ألا ترون كيف أنه بذات الوسائل التي أراد الشيطان أن يبطل وعد الله تحقق الوعد.

القديس يوحنا الذهبي الفم

فهرب موسى بسبب هذه الكلمة،

وصار غريبًا في أرض مديان حيث ولد ابنين“. [29]

ما توقعه موسى لم يكن غير حقيقي، فقد توقع أن الخبر يبلغ إلى مسامع فرعون فيطلب رأسه. وقد حدث، إذ صار فرعون يطلب قتله. هرب موسى في أرض مديان، وهي منطقة صحراوية في شمال غرب العربية. هناك تزوج صفورة ابنة راعوئيل (خر2: 18) أو يثرون (عد 10: 29؛ خر 3: 1)، كاهن مديان. انجبت صفورة ابنين هما جرشوم واليعازر (خر 18: 3-4).

يركز القديس استفانوس على “الغربة”، فذكرها عندما تحدث عن إبراهيم وقيل أن نسله يكون متغربًا. وهنا يعيش موسى متغربًا في أرض مديان، وقد أثر ذلك على نفسه، فدعى ابنه جرشوم “لأنه قال كنت نزيلاً في أرض غريبة” (خر 2: 21-22).

كان شعور الغربة ملازمًا موسى كل أيام حياته، وُلد في مصر غريبًا عن وطنه الأصلي “كنعان”، وتربى في قصر فرعون غريبًا عن والديه، وهرب إلى مديان لتتضاعف غربته، وأخيرًا انطلق إلى البرية بالشعب متغربًا، ولم يدخل أرض الموعد.

العليقة والأرض المقدسة 30- 36

ولما كملت أربعون سنة،

في لهيب نار عُلِّيقة“. [30]

الآن تبدأ قصة الخروج وموسى في أضعف حالاته كغريبٍ هاربٍ من وجه فرعون. هنا أعلنت السماء تحركها للخلاص، فقد ظهر يهوه على شكل نارٍ متقدة في عليقه، ينزل ليقدس الأرض، ويقود شعبه إلى كنعان. إنها قصة التجسد الإلهي حيث تحمل العذراء مريم في أحشائها جمر اللاهوت، ويقود السيد المسيح البشرية إلى كنعان السماوية، محررًا إياهم من عبودية إبليس.

هنا للمرة الثانية يوضح استفانوس أن ظهور الله لمؤمنيه غير مرتبطٍ بأورشليم؛ ظهر لإبراهيم فيما بين النهرين، وظهر لموسى النبي على جبل سيناء. تقدست الأرض بحلول الله، ليس في هيكل سليمان ولا في قدس الأقداس، وإنما على جبل سيناء… بهذا يدفع استفانوس السامعين إلى عدم التعصب لأرض الموعد ومدينة أورشليم والهيكل، فإن الله يود أن يقدس العالم كله!

v قطن موسى في البرية؛ فبعد أن أكمل 40 عامًا من عمره هرب من مصر، ولمدة أربعين عامًا رعى قطعان يثرون، أما يوحنا فجاء إلى البرية منذ ولادته. “الأعظم بين مواليد النساء” (مت 11: 11)، كان بالحق مستحقًا أن يتمتع بتربيةٍ أعظم. يقول النبي عنه: “ها أنا أرسل ملاكي أمام وجهك” (ملا 3: 1؛ مت 11: 10).

العلامة أوريجينوس

v أزال عنه كرامة الملوكيّة بإرادته (إذ ترك قصر فرعون) كأنّها تراب ينفضه بإزالته من قدميه (عب 11: 24-26). عزل نفسه عن المجتمع البشري لمدّة أربعين عامًا، وعاش منفردًا مركّزًا نظره بثبات على العزلة والتأمّل في غير المنظورات (عب 11: 27). بعد هذا استنار بنورٍ لا يعبّر عنه، وحرّر الأجزاء السفليّة التي لنفسه من الثوب الميّت المصنوع من الجلد.

القدّيس غريغوريوس النيسي

يرى القدّيس غريغوريوس النيسي في انطلاق موسى النبي إلى البرّيّة ليعيش فيها أربعين عامًا راعيًا للغنم، رمزًا لانطلاق النفس إلى حياة السكون، ترعى حركاتها الداخليَّة كقطيع، كما كان موسى يرعى الغنم هناك. [بنفس الطريقة سنحيا حياة توحد، فلا نعود نسقط في أشراك أعداء ولا أن نوجد في وسطهم، بل سنحيا بين الذين هم مثلنا في ميولنا وفكرنا التي نقوتها، فترعى كل حركات نفوسنا مثل غنم وتتغذّى على الإرادة التي للفكر المُهتدى.]

فلما رأى موسى ذلك تعجب من المنظر،

وفيما هو يتقدم ليتطلع،

صار إليه صوت الرب“. [31]

ما أدهش موسى النبي هو منظر العليقة التي بها لهيب نار ولم تحترق. إنه منظر عجيب يحمل صورة حية لكلمة الله المتجسد، فقد تجسد ولم يحترق الناسوت بنار اللاهوت الذي لا يُمكن الاقتراب إليه.

يمثل هذا المنظر أيضًا كنيسة الله سواء في العهد القديم أو الجديد؛ فقد كان إسرائيل وسط نار الاضطهاد في مصر ولم يحترق، لأن الله نفسه أرسل لهم موسى، رمز السيد لمسيح، مخلصًا. وتبقى الكنيسة في العهد الجديد وسط نيران الضيقات التي تعجز عن أن تحرقها.

يشير هذا المنظر أيضًا إلى القديسة مريم بكونها حملت كلمة الله في أحشائها، هذا الذي يُدعى نارًا آكله، لكنها لم تحترق، إذ قدسها روحه القدوس، وهيأها لحلول الكلمة فيها وقبول جسدٍ منها.

لم يرَ موسى النبي الجوهر الإلهي، لكنه رأى العليقة الملتهبة نارًا بكونها رمزًا للتجسد الإلهي، لكنه سمع صوت الرب وتعّرف عليه.

أنا إله آبائك،

إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب،

فإرتعد موسى،

ولم يجسر أن يتطلع“. [32]

يتحدث الله مع موسى النبي معلنًا: “أنا إله آبائك، إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب“. وكأنه يرجع بذاكرة موسى إلي الوعد الإلهي لهؤلاء الآباء المحبوبين لديه! وقف موسى في رعدةٍ، لا يجسر أن يرفع عينيه ليرى وجه الرب.

كأن الله يعلن لموسى النبي: “أنا هو إله آبائك، إله إبراهيم، وإله اسحق، وإله يعقوب؛ كما إني أنا هو إلههم واهب الوعود ومقيم العهد معهم، أنا هو إلهك الذي يقيم معك العهد. موت إبراهيم واسحق ويعقوب لم يعطل العهد، لأنه وإن مات هؤلاء فأنا حي أهبهم الحياة. إنهم في عيني ليسوًا أمواتًا بل أحياء”.

صارت الأرض مقدسة، مؤهلة للسجود عليها لله، وليس للدوس عليها بالنعلين. تمتع موسى بالسجود بالروح والحق، وليس في حرفية العبادة وشكلياتها.

ارتعد موسى، ولم يجسر أن يتطلع إلى المنظر، فقد أدرك أن المتحدث هو صوت الرب واهب الوعود لآبائه إبراهيم واسحق ويعقوب. تمتع موسى النبي بصوت الرب، وأدرك ان خلاله يحقق الله إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب وعوده.

لقد أُتهم القديس استفانوس أنه يجدف على الله وعلى موسى (6: 11) وقد كاد اليهود أن يؤلهوا موسى النبي، لهذا مع تقديم القديس استفانوس كل توقيرٍ واحترامٍ لموسى النبي، يكشف هنا أنه إنسان مجرد، عاجز عن التطلع حتى إلى العليقة الملتهبة نارًا، ويرتعد حين يسمع الصوت الإلهي، إنه يخضع للآلام، خاصة للخوف عندما يتجلى مجد الله وينكشف جلاله أمامه.

يرى القدّيس غريغوريوس النيسي في العلّيقة المتّقدة بلهيب نار إشراق النور الإلهي علينا خلال تجسّد الكلمة. فقد صار جسدًا لكي يلقي بنوره على البشر. يقول أيضًا: [لئلاّ يظن أحد أن البهاء لم يصدر عن مادة، لم يشرق النور من نجمٍ من بين الكواكب، بل صدر عن علّيقة أرضيّة، فاق في بهائه كل الكواكب السماويّة. نتعلّم من هذا أيضًا سرّ العذراء: النور الإلهي الذي أشرق منها خلال الميلاد على الحياة البشريَّة لم يحرق العلّيقة الملتهبة، كما أن بتوليّتها لم تتحطّم بإنجابها.]

فقال له الرب:

اخلع نعل رجليك،

لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة“. [33]

خلع الحذاء يحمل معنى رمزيًا سبق لنا الحديث عنه في دراستنا لسفر الخروج (ص 3) وفي سفر التثنية (25: 7-10). إذ يرى العلامة أوريجينوس في هذا إشارة إلى التخلي عن محبة الأمور الزمنية الميتة، لأن الأحذية كانت تصنع من جلود الحيوانات بعد ذبحها، وخلع محبة الظهور، لأن الجلد يُستخدم في الطبول التي تعطي أصواتًا عالية بلا عمل إشارة إلى حب المظاهر.

أيضًا جاء في الشريعة أنه إن رفض إنسان الزواج بأرملة أخيه ليقيم له منها نسلاً يخلع حذاءه ويسمى “بيت مخلوع النعلين” (تث 5:25-10)، وكأن موسى عند خلعه الحذاء أعلن أنه ليس بعريس الكنيسة، وهكذا الأسقف أو الكاهن أو الشماس يخلعون أحذيتهم عند دخولهم الهيكل ليؤكدوا أن المسيح وحده هو عريس الكنيسة.

v لم تُذكر كلمة “هيكل”، ومع ذلك فالموضع مقدس بظهور المسيح وعمله. فإن الموضع أكثر دهشة من قدس الأقداس، إذ لم يُذكر في موضع آخر أن الله ظهر هكذا، ولا قيل أن موسى ارتعد إلاَّ في هذا الموضع.

لقد ظهرت عظمة حنو رعايته…

انظروا كيف يُظهر أن الله بحنوه كما بتأديباته وبمعجزاته قد يقرّبهم إليه، لكنهم بقوا كما هم. الله حاضر في كل موضع، هذا ما يجب أن يتعلموه! إذ نسمع هذه الأمور ليتنا نهرب إليه في ضيقاتنا.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v يعلّمنا النور ما ينبغي علينا أن نفعله حتى نقف داخل أشعّة النور الحقيقي. فإنّه لا يمكن للأقدام المنتعلة (بنعلين جلديين) أن تصعد إلى ذلك العلوّ الذي فيه يُرى نور الحق. لهذا وجب خلع أغطية الجلد الميّتة والأرضيّة عن النفس، هذه التي التحفت بها طبيعتنا في البداية عندما وُجدنا عراة بسبب عصياننا للإرادة الإلهيَّة. عندما نفعل هذا تثمر معرفة الحق وتعلن عن ذاتها.

القدّيس غريغوريوس النيسي

إني لقد رأيت مشقّة شعبي الذين في مصر،

وسمعت أنينهم،

ونزلت لأنقذهم،

فهلُم الآن أرسلك إلى مصر“. [34]

يعتزّ اليهود بموسى النبي جدًا، بكونه القائد العظيم الذي خلّص آباءهم من عبوديّة فرعون لينطلق بهم إلى البرّيّة حتى يرثوا أرض الموعد. الآن يكشف ما وراء حب موسى لشعبه ورعايته وقوّته، إنّها حب اللَّه نفسه الذي نزل بنفسه إليهم إذ رأى وسمع، رأى مشقّتهم، وسمع أنينهم، أمّا موسى فهو مُرسل كأداة في يد اللَّه: “فهلمّ الآن أرسلك إلى مصر” [34]. الذي أرسله وهبه نصرت متوالية ونجاحًا في تحقيق رسالته.

يقدم القديس استفانوس ملخصًا لما سجله موسى النبي بالتفصيل في خروج 3: 7-10. أرسله الله إلى مصر، ليصارع فرعون، لا بقدراته وقوته، وإنما بعمل الله فيه. أرسله بعد أن عانى الشعب المشقة، وارتفع أنينهم إلى السماء، حتى يخرج بهم إلى البرية ليعيشوا قرابة أربعين سنة، فيفنى الجيل الذي حمل أوثان مصر في قلبه، ويدخل بجيلٍ جديدٍ إلى ارض الموعد.

ينسى الإنسان الله ويتجاهله، لكن الله لا ينسى الإنسان أينما وجد. لقد نزل إليهم ليسمع أنينهم وينقذهم، منفذًا وعوده ومخلصًا إياهم.

v من البداية قال لآدم: “بعرق جبينك تأكل خبزك” (تك ٣: ١٩). أيضًا لكي يخرجوا من الألم الشديد إلى الراحة، كان يلزمهم أن يشكروا الله. اسمعوا ما يقوله النبي: “خير لي أنك أذللتني” (مز ١١٩: ٧١). فإن كان الضيق نافع جدًا للعظماء المشهورين، فكم بالأكثر بالنسبة لنا.

v لنخضع نحن أنفسنا للصلاة. إنها سلاح قدير إن قُدمت بغيرةٍ، إن كانت بدون عجبٍ، إن كانت بذهنٍ مُخلصٍ. إنها تصد حروبًا، وتفيد الأمة كلها مع عدم استحقاقها. يقول: “سمعت أنينهم ونزلت لأنقذهم” [34]. إنها هي عينها دواء منقذ، له قوة لمنع الخطايا وشفاء الأفعال الشريرة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

هذا موسى الذي أنكروه قائلين:

من أقامك رئيسًا وقاضيًا؟

هذا أرسله اللَّه رئيسًا وفاديًا،

بيد الملاك الذي ظهر له في العليقة“. [35]

كان الاتّهام الموجّه ضد القدّيس استفانوس أنّه يجدّف على موسى، الآن يعلن لهم القدّيس بأن اللَّه كرّم موسى إذ أرسله، وقد جاءت المقاومة المستمرّة والخطيرة من جانب آبائهم، الذين رفضوا رئاسته وحكمه كقاضٍ عليهم. في قسوة قلب وغلاظة رقبة كانوا دائمي التذمّر عليه، بل وحاولوا قتله أكثر من مرّة. فالقدّيس استفانوس لا يجدّف على موسى، بل يكرمه ويعجب منه كيف احتمل مقاومة شعبه له، دون أن يتخلّى عنهم أو يقاومهم.

حين قدم موسى نفسه لشعبه، ومد يده للعمل، انكشف حال الشعب، إذ رفض موسى كقائدٍ أو رئيسٍ أو قاضٍ، لكن حين أعلن الله عن حضوره الناري وهب موسى عمل الرئاسة والخلاص بكونه رمزًا للمخلص الحقيقي، ملك الملوك. فقد كان الشعب غليظ الرقبة ومتمردًا منذ عصر موسى؛ فما يفعله اليهود في أيام الرسل ليس بالأمر الغريب عن طبيعتهم. كان موسى رمزًا للسيد المسيح الذي رفضه البناءون فصار حجر الزاوية (أع 4: 21).

ما فعله آباؤهم بموسى النبي فعله الرؤساء بيسوع المسيح. لقد أنكروا العليقة المتقدة نارًا، ورفضوا قيادة موسى وعمله كقاضٍ وفادٍ من عبودية فرعون. الآن يرفض أبناؤهم الصليب المشرق بنوره، ويجحدون تجسد الكلمة الإلهي، ولا يقبلون يسوع ملكًا وفاديًا لنفوسهم. إنهم مقاومون أبناء مقاومين.

v إنه لأمر معتاد لدى اليهود أن يخطئوا للمحسنين إليهم، حتى وهم يقدمون لهم الإحسان.

القديس يوحنا الذهبي الفم

هذا أخرجهم، صانعًا عجائب وآيات في أرض مصر،

وفي البحر الأحمر،

وفي البرية أربعين سنة“. [36]

نزل الله لإنقاذ شعبه وهم في مصر، ورافقتهم العناية الإلهية أثناء عبورهم بحر سوف وفي داخل البرية، ولم ينتظر ولا سألهم أن يذهبوا أولاً إلى أورشليم ويقيموا الهيكل وعندئذ يحل في وسطهم ويعمل فيهم.

لقد رافقتهم الآيات والعجائب الإلهية، ففي مصر أرسل الضربات العشرة ليخلصهم بيدٍ قويةٍ، وذراعٍ رفيعة (خر4- 12)، وفي البحر الأحمر شقه لكي يعبر الشعب بسلامٍ، بينما هلك فيه فرعون وكل جنوده (خر14، 15). وفي البرية خلال الأربعين عامًا كان يقدم لهم المن من السماء والماء من الصخرة (خر 16، 17 الخ).

لم يستخدم موسى خبراته العسكرية القديمة، لكن وهبه الله العجائب والآيات حتى يًرعب قلب فرعون وقلوب المصريين (خر 3: 19-21). وبقي هذا السلاح الإلهي في يد موسى ليعبر بالشعب بحر سوف، ويسير بهم في وسط البرية أربعين عامًا.

مقاومة آبائهم لموسى 37- 43

هذا هو موسى الذي قال لبني إسرائيل:

نبيًّا مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم،

له تسمعون“. [37]

هكذا بلغ القديس استفانوس إلى ما يبغيه أن موسى المرفوض من آبائهم هو القائد المدعو من الله، والمسنود بالآيات والعجائب. ما حدث مع موسى يحدث مع يسوع المسيح مخلص العالم، الذي جاء إلى خاصته، وخاصته لم تقبله.

إذ كشف القديس استفانوس أنه لن يجدف على موسى النبي، بل ينتقد رافضي قيادته، ويظهر ما صنعه الله على يديهم، يعود فيوضح أن موسى نفسه الذي يفتخرون به ويثقون الآن فيه قد وعد بمجيء المسيح (تث 18: 15؛ 18)، فيلزمهم الاستماع له وطاعته بقبول من تنبأ عنه. لقد أعلن السيد المسيح نفسه أنهم إن كانوا يؤمنون بموسى يلزمهم أن يؤمنوا به (يو 5: 46). وقد سبق لنا الحديث عن هذه النبوة أثناء دراستنا لسفر التثنية.

v دعا ابن الله ملاكًا كما دعاه أيضًا إنسانًا. لقد ظهر له في البرية وليس في هيكلٍ. انظروا كل من العجائب تحدث ولا تُذكر كلمة “هيكل” أو “ذبيحة”. هذا ليس فقط في البرية بل وفي العليقة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v لنترك الآن كلمة “مثلي” إلى حين لبحثها في موضعها. ولكن متى يأتي هذا النبي المنتظر؟

أنظر ما كتبه وابحث بتدقيق نبوة يعقوب الموجهة إلى يهوذا: “إياك يحمدك اخوتك”. ثم يقول: “لا يزول قضيب من يهوذا، ومشترع من بين رجليه، حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع شعوب” (تك 8:49، 10) لا من اليهود. بهذا أعطى علامة لمجيء المسيح، هو انقطاع الحكم من اليهود فلو لم يكونوا تحت حكم الرومان لما كان المسيح قد جاء بعد. لو كان لليهود ملك من يهوذا من نسل اليهود لما جاء المسيح بعد…

إنه المنتظر من جميع الشعوب.

وما هو علامته؟ “رابطًا بالكرمة جحشه” (تك 11:49). لاحظ الجحش الذي يعلنه زكريا بصراحة.

القديس كيرلس الأورشليمي

v كان رب الأنبياء، ومحقق النبوات، ومقدس الأنبياء، ومع هذا فهو نبي أيضًا… إنه مثل (موسي) حسب الجسد وليس حسب العظمة.

v إنه يشبهه، بمعنى من جهة الجسد، وليس من جهة سمو العظمة. لذلك دعي الرب يسوع “النبي”.

القديس أغسطينوس

v يتحدث موسى النبي عن المسيح قائلاُ: “يقيم لك الرب إلهك نبيًا من وسطك من إخوتك مثلي، له تسمعون” [15]. لهذا فمن لا يطيعه يعصى الناموس.

القديس يوحنا الذهبي الفم

هذا هو الذي كان في الكنيسة في البرية،

مع الملاك الذي كان يكلمه في جبل سيناء ومع آبائنا،

الذي قبل أقوالاً حيّة ليعطينا إيّاها“. [38]

يشير القديس استفانوس هنا إلى الاجتماع الكنسي الذي صنعه موسى النبي بأمر الله مع جميع الشعب وآباء الأسباط في حوريب، حين ظهر لهم الرب وأعطاهم الناموس. تقبل موسى الناموس، واستعفي الشعب من سماع صوت الله (تث 18: 15-16). إنه اجتماع كنسي تحقق على جبل حوريب، كنيسة بلا أعمدة ولا سقف ولا أروقة ولا هياكل؛ كنيسة حية بحلول الله في وسط شعبه، وهي كنيسة غريبة في وسط القفر.

هكذا يود القديس استفانوس أن يسحب قلوب الرؤساء إلى جوهر الكنيسة التي تقوم على حضرة الله. أما غاية الاجتماع الكنسي، فهو التمتع بأقوال الله الحية.

تمتع الشعب في البرية بأقوال الله أو الشريعة الموسوية التي تسلمها موسى خلال خدمة الملائكة (أع 7: 53؛ عب 2: 2)، وهى أقوال حية. تمتعوا بهذه البركات الإلهية الفائقة في البرية خارج أرض الموعد وبدون وجود هيكل.

الذي لم يشأ آباؤنا أن يكونوا طائعين له،

بل دفعوه، ورجعوا بقلوبهم إلى مصر“. [39]

لم يقل “آباؤكم” بل “آباؤنا“، الذين اتسموا بالعصيان والتمرد على الله وعلى موسى، فرفضوا القيادة الإلهية ورجعوا إلى مصر بقلوبهم. لقد “قال بعضهم لبعض: نقيم رئيسًا، ونرجع إلى مصر… ولكن قال كل الجماعة أن يُرجما (موسى وهرون) بالحجارة” (عد 14: 4، 10).

هذا هو القرار الذي اتخذه الآباء في أيام موسى، وقد جاء قرار السنهدرين ضد يسوع المسيح مطابقًا لقرار آبائهم. لم يستطع الآباء أن يرجموا موسى وهرون، أما مجمع السنهدرين فحقق عمليًا ما في قلوبهم بصلب السيد المسيح.

v إن كنا نتوق إلى بلوغ الكمال الحقيقي، يلزمنا أن نتطلع إلى الأبديات. فإن كنَّا حسب الخارج لنا جسد، (لهذا ننشغل بآبائنا ومنازلنا وجاهنا ومباهج هذه الحياة)، لنترك بقلوبنا من الداخل هذه الأمور ولا نعود نشتاق إلى ما قد تركناه، فلا نصير كأولئك الذين قادهم موسى. لأن هؤلاء إن لم يرتدّوا بالجسد (حرفيًا)، غير أن قلوبهم قد ارتدت إلى مصر، وذلك بتركهم الله الذي قادهم بعلامات قوية، وعودتهم إلى عبادة أصنام مصر التي حسبوا أنهم قد احتقروها. ويقول الكتاب: “ورجعوا بقلوبهم إلى مصر، قائلين لهرون: اعمل لنا آلهة تتقدَّم أمامنا” (أع 39:7-40). وهكذا نسقط في نفس اللعنة التي سقطوا فيها في البرية بعدما أكلوا المَنْ النازل من السماء، مشتهين طعام الخطية النجس، أو بالأحرى راغبين في الانحطاط، متذمرين معًا في نفس الطريق (عد 5:11، 18؛ خر 3:16)…

ويحدث معنا نفس الأمر في سلوكنا وحياتنا، فالبعض بعدما يترك هذا العالم يعود مرة أخرى إلى شهواته الأولي، متحولاً إلى ميوله السابقة الكائنة في قلبه، صانعًا ما صنعه أولئك.

الأب بفنوتيوس

لقد ندموا على خروجهم من مصر، وارتبطت بطونهم بالطعام المصري، حتى وإن كان مجرد رائحة القدور، كما ارتبطت أعماقهم بالعبادة المصرية، كأن يسجدوا لعجل أبيس، وارتبط سلوكهم بالعادات والأخلاقيات التي كانت للمصريين.

قائلين لهرون:

اِعمل لنا آلهة تتقدم أمامنا،

لأن هذا موسى الذي أخرجنا من أرض مصر،

لا نعلم ماذا أصابه“. [40]

فعملوا عجلاً في تلك الأيام،

وأصعدوا ذبيحة للصنم،

وفرحوا بأعمال أيديهم“. [41]

بالرغم من كل هذه البركات التي تسلمها آباؤهم من يد الله خلال موسى، إلا أنهم رفضوا الله ونبيه موسى. اشتهوا الرجوع إلى مصر، إذ طلب الشعب من هرون أن يصنع لهم تمثالاً ذهبيًا لعجل أبيس معبود المصريين (خر32: 16، 18). وقد برروا تصرفهم بأن موسى قد اختفى عنهم، ولا يعلمون شيئًا عن مصيره.

في أيام موسى صنع الشعب عجلاً من ذهب ليعبدوه ويقدموا ذبيحة للصنم بفرح، وفي أيام السيد المسيح طلبوا قيصر ملكًا، ورفضوا مملكة المسيح الروحية.

كأنه يوبخهم: من الذي جدف على الله وعلى موسى؟ هل أنا الذي قبلت من تنبأ عنه موسى، ومن كان هو نفسه رمزًا له، أم آباؤكم الذين رفضوا قيادة موسى، وندموا على خروجهم من مصر، واشتهوا الطعام المصري الذي كانوا يقدمونه للعبيد (رائحة القدور)، ويتعبدون للعجل، وكسروا الناموس وقاوموا أقوال الله الحية؟

فرجع اللَّه وأسلمهم ليعبدوا جند السماء،

كما هو مكتوب في كتاب الأنبياء:

هل قرّبتم لي ذبائح وقرابين أربعين سنة في البريّة يا بيت إسرائيل؟” [42]

افتبس القدّيس استفانوس هذه النبوّة من عاموس 5: 25، ليكشف لهم عن انحرافهم من أقوال الأنبياء أنفسهم.

أعطاهم الله سؤل قلبهم، فقد اشتهوا الرجوع عن الله، والارتداد إلى مصر حيث حياة العبودية. وهبهم طلبتهم فرجع عنهم وسلمهم لشهوة قلوبهم.

بل حملتم خيمة مولوك،

ونجم إلهكم رمفان التماثيل التي صنعتموها،

لتسجدوا لها،

فأنقلكم إلى ما وراء بابل“. [43]

ارتبطت عبادة كواكب السماء بعبادة الإلهين مولوك ورمفان.

مولوك: مقتبسه من العبرية كما من العربية ومعناها “ملك”. وهو إله العمونيين، حيث كانوا يقدمون له ذبائح بشرية. وقد حذر موسى النبي الشعب في مواضع مختلفة من تقديم أطفالهم ذبائح للإله مولوك، حيث كانوا يجيزوهم في النار (لا 18: 21؛ 20: 2-5).

عبد الإسرائيليون مولوك بعد دخولهم أرض الموعد؛ فبنى سليمان هيكلاً له على جبل الزيتون (1 مل 11: 7)؛ وأجاز منسى ابنه في النار تكريمًا لهذا التمثال (2 مل 21: 3، 6). وكان تمثال هذا الإله مصنوع من النحاس، ويداه ممتدتين كما لو كانتا تطلبان أن تحتضنا الطفل المُقدم ذبيحة. كانوا يوقدون نارًا في التمثال النحاسي حتى يحمر تمامًا، ويضعون الطفل على الذراعين المحميتين بين دقات الطبول والرقص، فيحترق الطفل تمامًا. يظن البعض أن هذا كان يتم تكريمًا لكوكب زحل ساتورن وهو إله الزراعة عند الرومان، والبعض يحسبونه تكريمًا للشمس، والبعض كوكب عطارد (رسول الآلهة، وإله التجارة والفصاحة والمكر واللصوصية عند الرومان).والبعض كوكب الزهرة، فينوس، إلهة الحب والجمال عند الرومان الخ.

نجم إلهكم رفعان“: اقتبسها القديس إستفانوس عن الترجمة السبعينية. تطلق كلمة رفعان في القبطية على كوكب زحل.

إذ بلغوا أقصى حدود التمرد حيث فضلوا العبادة للأوثان عن عبادة الله الحي، أعطاهم سؤل قلوبهم، فنقلهم بالسبي إلى بابل، حيث العبادة الوثنية التي طالما ارتدوا إليها. سلمهم الله لفكر قلوبهم (عا 5: 25-27).

خيمة الشهادة في البرية 44- 45

بعد هذا العرض التاريخي المؤلم الذي يكشف عن إصرار آبائهم على التمرد على الله، مع وجود قلة أمينة مقدسة للرب لا ترتبط بالحرف القاتل، بل بالإيمان الحي العملي، مثل إبراهيم واسحق ويعقوب وموسى النبي والأنبياء، الآن يتحدث عن الخيمة والهيكل.

تسلل هذا الاتجاه لعبادة الأصنام إلى العبرانيين عبر كل تاريخهم، وبلغ القمة أثناء السبي البابلي. اعتادوا الإقتداء بجيرانهم المحيطين بهم، فكانوا يؤلهون كواكب السماء ويعبدونها (تث 4: 19؛ 17: 3؛ 2 مل 21: 3، 5؛23: 4-5؛ إر 8: 2؛ 19: 13؛ صف 1: 5)

وأمّا خيمة الشهادة، فكانت مع آبائنا في البرية،

كما أمر الذي كلم موسى أن يعملها،

على المثال الذي كان قد رآه“. [44]

كان من عادة الوثنيين أن يأخذوا آلهتهم معهم أينما ذهبوا، فيضعون التمثال الصغير في هيكل صغير أو خيمة صغيرة. ولكي يحفظ الله شعبه من عبادة الأوثان أظهر لموسى المثال السماوي الذي بناء عليه يصنع خيمة الاجتماع التي كان فيها تابوت العهد، تُحمل الخيمة في مسيرة الشعب في البرية، وتُنصب أينما حلوا، علامة الحضرة الإلهية (خر 25: 9، 40؛ 26: 30؛ 27: 8).

التي أدخلها أيضًا آباؤنا،

إذ تخلفوا عليها مع يشوع في مُلكِ الأمم،

الذين طردهم اللَّه من وجه آبائنا إلى أيام داود“. [45]

أحضر الآباء خيمة الاجتماع معهم في أرض الموعد تحت قيادة يشوع بن نون، حتى متى طرد أمامهم الأمم الوثنية، وجب تطهير كنعان من كل أثرٍ وثنيٍ لتبقى الحضرة الإلهية وحدها علامة اتحادهم بالله، وقبوله ملكًا يشبع أعماقهم ويدير أمورهم.

حقًا، لقد صنع موسى خيمة الاجتماع، سرّ قوتها إنها “على المثال الذي كان قد رآه“، أي تحمل ظل السماويات. رأى موسى ما هو غير مصنوع بأيدٍ بشرية، وقدم ظلاً لذلك على الأرض، لكي يختبر المؤمنون ظل السماويات.

كان القديس استفانوس يحدثهم عن خيمة الاجتماع لكي يسحب قلوب الرؤساء المجتمعين إلى الفكر السماوي، أما هم فأقاموا خيمة مولوك في قلوبهم.

لا يسكن الله في مصنوعات الأيادي 46 -50

الذي وجد نعمة أمام اللَّه،

والتمس أن يجد مسكنًا لإله يعقوب“. [46]

وجد داود النبي نعمة لدى الله الذي أغدق عليه بالبركات، ووهبه نصرة على الأعداء، أما رد فعل داود النبي فهو التهاب قلبه بأن يقيم هيكلاً دائمًا يُوضع فيه تابوت العهد، رمز الحضرة الإلهية (2 صم 7: 1، أي 22: 7).

ولكن سليمان بنى له بيتًا“. [47]

كان داود الملك يشتهي أن يبني لله بيتًا (2 صم 3:2-7)، وإذ وجد نعمة في عيني الله، سمح لابنه سليمان أن يبني الهيكل.

v لقد ظنوا أن سليمان كان عظيمًا (لأنه بني الهيكل)، لكنه لم يكن أفضل من أبيه، ولا حتى على مستوى أبيه، هذا أمر واضح… فإن حتى (هذه الأبنية) لا تليق بالله، إذ هي أمور مصنوعة، متطلعًا إلى أن هذه مخلوقات هي من صنع يديه.

القديس يوحنا الذهبي الفم

لكن العلي لا يسكن في هياكل مصنوعات الأيادي،

كما يقول النبي“. [48]

أزال القديس استفانوس الاتهام الموجه ضده أنه يتحدث ضد الهيكل، فقد أظهر أن هذا الهيكل كان موضوع شهوة قلب الملك البار داود، وأنه بُني بأمرٍ إلهيٍ. وفي نفس الوقت يؤكد أن الله لا يحد نفسه بهذا الهيكل المصنوع بالأيادي. إنه ليس في حاجة إليه، فعرشه هو السماء، فمع تقدير القديس استفانوس للهيكل في أورشليم، لكن ما يشغل قلب الله أن يقبل جميع الأمم الإيمان الحي، فلا يحد العبادة بمدينة أورشليم وبهيكل سليمان.

v [بمناسبة الاحتفال بعيد لتدشين كنيسة:]

كلنا أيها الأحباء كنا هياكل للشيطان قبل العماد، وتأهلنا بعد العماد أن نصير هياكل المسيح. إن تأملنا إلى حدٍ ما بدقة في خلاص نفوسنا، ندرك أننا هيكل الله الحي. الله ليس فقط يسكن في مبانٍ مصنوعة بأيدٍ بشرية، أو منشأة من خشب وحجارة، وإنما فوق الكل يسكن في النفس التي خُلقت على صورة الله، وتشكّلت بيد الخالق نفسه. لذلك يقول الرسول الطوباوي بولس: “هيكل الله مقدس، الذي أنتم هو” (كو 3: 17).

v هذه الهياكل مصنوعة من خشب وحجارة لكي ما تجتمع هياكل الله الحية فيه، وتصير معًا هيكل الله. المسيحي المنفرد هو هيكل الله، والمسيحيون الكثيرون هم هياكل الله.

لاحظوا أيضًا أيها الإخوة، يا لجمال الهيكل الذي تتشكل من الهياكل؛ وذلك مثل أعضاء كثيرة تكَّون جسدًا واحدًا، هكذا هياكل كثيرة تكَّون هيكلاً واحدًا.

الآن تلك الهياكل التي للمسيح، نفوس المسيحيين التقية مبعثرة في العالم، ولكن إذ يحل يوم الدينونة، يجتمعون معًا، ويكَّونون هيكلاً واحدًا في حياة أبدية…

لنفرح أننا تأهلنا أن نكون هيكل الله، لكن لنخشى لئلا نفسد هيكل الله بأعمال شريرة. لنخشى ما يقوله الرسول: “إن كان أحد يفسد هيكل الله، فسيفسده الله” (1 كو 3: 17).

الله الذي استطاع دون صعوبة أن يشَّكل السماء والأرض بقوة كلمته، رسم أن يسكن فيكم، لذا وجب أن تعملوا بطريقة بها لا تضادون مثل هذا الساكن.

ليت الله لا يجد فيكم، أي في هيكله، شيئًا دنسًا أو مظلمًا أو متشامخًا. فإن عانى هناك من مضايقة ينسحب سريعًا، وإذ يفارقه المخلص للحال يقترب الشيطان، كم تكون حالة النفس التعيسة حينما يفارقها الله ويمتلكها الشيطان؟ مثل هذه النفس تُحرم من النور، وتمتلئ ظلمة، تفقد العذوبة، وتمتلئ مرارة. إنها تحطم الحياة، وتجد الموت. إنها تنال عقوبة، وتفقد الفردوس.

الأب قيصريوس أسقف آرل

السماء كرسي لي،

والأرض موطئ لقدمي،

أي بيت تبنون لي؟ يقول الرب،

وأي هو مكان راحتي؟” [49]

أليست يدي صنعت هذه الأشياء كلها؟” [50]

إن كان الله في تنازله سمح بإقامة خيمة الاجتماع، ثم ببناء الهيكل، فإن راحته ليس في موضع معين، بل في حضوره وسط شعبه، الذي يحمل شعبه إلى العلى، ويرتفع بهم إلى ما فوق الحرف والمادة ليتمتعوا بالروح والسماء!

اضطهد آباؤهم الأنبياء ولم يحفظوا الناموس 51- 53

يا قساة الرقاب وغير المختونين بالقلوب والآذان،

أنتم دائمًا تقاومون الروح القدس،

كما كان آباؤكم كذلك أنتم“. [51]

إن كان الهيكل كمبنى ليس موضوع سرور الله، ولا كل المتعبدين فيه هم أبرار في عيني الله، فإن القديس استفانوس من هذا المنطلق يتهم المتعبدين في الهيكل في حرفيةٍ بغير روحٍ أنهم قساة الرقاب وغير مختوني القلوب والآذان؛ إذ يقاومون الروح القدس، ويضطهدون القدوس، متشبهين بآبائهم المتمردين.

اتهموا القديس استفانوس بأنه يجدف على ناموس موسى. وقد جاءت إجابته أنه ليس هو المرتكب هذه الخطية، بل اليهود الذين لم يؤمنوا بما هيأ لهم الناموس، هؤلاء الذين منذ أيام موسى وهم يعصون كلمة الله. أُتهم بالتجديف على الله بتجاهله للهيكل، وجاءت إجابته أن تاريخ إسرائيل نفسه يؤكد أن الهيكل مؤسسة وقتية ليست جوهرية في العبادة الصادقة لله.

يا قساة الرقاب“، اتسم هذا الشعب بهذا اللقب منذ البداية، وقد وجهه الله نفسه لهم خلال موسى النبي مرارًا وتكرارًا (خر 32: 9؛ 33: 3، 5؛ 34: 9؛ تث 9: 6، 13)، أُستخدم عن الشعب اليهودي في تمردهم على الله، وعدم رغبتهم في الالتزام بحدود الوصية الإلهية، وهو تعبير رمزي يشير إلى الثيران التي تقاوم ولا تريد الانصياع للنير الموضوع على أعناقها.

وغير المختونين بالقلوب والآذان“، كان الختان هو العلامة التي تميز اليهودي الذي يخضع لسلطان الناموس من أجل تمتعه بالوعد الإلهي. كان إشارة إلى النقاوة الداخلية ورفض كل دنس أو رجاسة. عدم ختان القلب يشير إلى رفض الإنسان الخضوع الداخلي للناموس وعدم اكتراثه بالتمتع بالوعود الإلهية. طالبهم الرب بختان القلب والأذن (تث 10: 16؛ إر 4: 4؛ 9: 26). فأغلف القلب أو الأذنين هو ذاك الذي لا يتمتع بالعهد مع الله، فيكون كمن ينتسب للأمم، ولم يصر إسرائيليًا بالروح.

غير المختونين بالآذان” يعني عدم رغبة الإنسان إلى الاستماع لصوت الله (لا 26: 41؛ إر 9: 26).

وأنتم دائما تقاومون الروح القدس“: يقابلون حب الله ومراحمه بالمقاومة. “في كل ضيقهم تضايق، وملاك حضرته خلصهم”، بمحبته ورأفته هو حلهم ورفعهم وحملهم كل الأيام القديمة، ولكنهم تمردوا وأحزنوا روح قدسه، فتحول لهم كأنه عدو يحاربهم (إش 63: 9-10).

إنّهم كآبائهم يهتمّون بختان الجسد، ولا يهتمّون بختان القلب والأذن الروحي، لهذا تمتلئ قلوبهم كراهيّة وبغضة للروح القدس، تتحوّل إلى سلوك خطير، حيث قتل آباؤهم الأنبياء العامل فيهم الروح، وها هم يكملون مكيال آبائهم فيقاومون الروح القدس العامل في رسل المسيح وخدّامه. لا، بل ازدادوا شرًا عن آبائهم إذ خانوا البار وقتلوه! هنا يقدّم ضدّهم أخطر جريمة وأبشع ما فعله الإنسان منذ خلقته إلى انقضاء الدهر، وهي جريمة ثابتة لا يستطيعون إنكارها.

إذ لمس القديس استفانوس عدم اكتراث الرؤساء بالحقائق الكتابية، وانحصار فكرهم في أمرٍ واحدٍ، وهو الخلاص من اسم يسوع، وتبرئة أنفسهم في قرارهم بصلب يسوع، تحول من الدفاع إلى الهجوم، فكشف لهم أن السنهدرين الذي حكم على السيد المسيح بالصلب يحمل نفس روح التمرد اذي كان في الشعب منذ خروجه من مصر.

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أنهم كآبائهم دائمًا يقاومون الروح. فعندما كان يًطلب منهم تقديم ذبائح حيوانية لم يقدموا، وحين يريدهم ألاَّ يقدموا ذبائح دموية لأن ذبيحة المسيح قد حققت الهدف يريدون أن يقدموا ذبائح. وحينما طالبهم بعبادته في الهيكل عبدوا الأوثان مع الأمم، وحين طالبهم ألاَّ ينشغلوا بالهيكل بل أن يعبدوا بالروح والحق انشغلوا بالهيكل.

v هكذا كانت جسارة إنسان حاملٍ للصليب في الحديث. ليتنا نحن أيضًا نتمثل به، فإنه وإن كان الوقت ليس زمن حرب (اضطهاد)، إلاَّ أنه دائمًا وقت للجسارة في الحديث (شهادة عن المسيح). يقول أحدهم: “أنطق بشهاداتك أمام الملوك ولا أخجل” (مز ١١٩: ٤٦). إن كانت لنا فرصة أن نكون بين وثنيين فلنُبكم أفواههم، لا بالسخط ولا بالعنف… فإن الجسارة هي نجاح، وأما الغضب فهو فشل. فإن كانت لنا جسارة يلزمنا أن نتطهر من الغضب. فلا ينسب أحد كلماتنا للغضب.

ليس من المهم الكلمات التي تنطقون بها عندما تغضبون، فإنكم بالغضب تحطمون كل شيء… انظروا إلى هذا الإنسان، كيف كان متحررًا من الأهواء وهو يخاطبهم. فإنه لم يتهمهم، إنما ذكَّرهم بكلمات الأنبياء.

ولكي أظهر لكم أنه لم يكن في غضبٍ في اللحظات التي فيها قاسى شرورًا على أيديهم، صلى لأجلهم: “لا تقم لهم هذه الخطية” [٦٠]. كان أبعد من أن ينطق هذه الكلمات بغضبٍ، لا بل كان يتكلم في حزنٍ وأسى عليهم.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v لقد أظهر (بولس) أن اليهود أيضًا مذنبون. بينما يظهرون أنّهم يعيشون تحت ناموس اللَّه، ويدافعون عن امتيازهم الذي باستحقاق أسلافهم، بالحقيقة أساءوا سمعة نعمة اللَّه إذ استخفّوا بالوعد الذي قُدّم لأسلافهم.

أمبروسياستر

v إن كنّا جميعًا نخلص بالنعمة، قد يحتجّ البعض: لماذا لا يخلص كل أحدٍ؟ لأنّهم لا يريدون أن يتجاوبوا. فإن النعمة، مع أنّها نعمة لكنّها تخلّص الذين يريدونها وليس الذين يرفضونها ويهربون منها.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v تُعطى النعمة ليس لأنّنا نصنع أمورًا صالحة، وإنّما لكي ننال قوّة لصنعها، وليس لأنّنا نتمّم الناموس، وإنّما لكي تكون لنا القدرة على تحقيقه.

القديس أغسطينوس

أيّ الأنبياء لم يضطهده آباؤكم؟

وقد قتلوا الذين سبقوا فأنبأوا بمجيء البار،

الذي أنتم الآن صرتم مسلِّميه وقاتليه؟” [52]

جاء التعبير حازمًا وقاطعًا، أنه لم يوجد نبي واحد لم يضطهده اليهود، وكأن اضطهاد الأنبياء قد صار في طبيعة الشعب عبر الأجيال، يسري في دمهم.

لقد قتل آباؤهم الأنبياء الذين كانت رسالتهم الرئيسية هي الإعلان عن مجيء المسيا مخلص العالم. لقد تفاقمت معاصيهم للغاية، إذ قتلوا رسل الله الذين تنبأوا عن أعظم البركات التي تتمتع بها الأمة، بل وتعم على العالم.

إن كان هذا ما فعله آباؤهم، فإن أبناءهم تعدوا جرائم آبائهم، إذ قتلوا المسيا نفسه.

تكلم هنا معهم بكلمات جريئة وصريحة، إذ يتهمهم بأنهم أبناء قتلة الأنبياء الذين سبقوا فتنبأوا عن يسوع البار، وها هم قد شاركوا آباءهم في سفك دم الأنبياء، بل وأكملوا الكيل، إذ سلموا ذاك الذي هو موضوع شهوة الأنبياء. لقد وجه إليهم ذات الاتهام الذي وجهه إليهم السيد المسيح نفسه (مت 23: 29-34).

لم يخشاهم القديس استفانوس، إذ حسب ذلك تكريمًا له أن يفعلوا به ما فعله آباؤهم بالأنبياء، وأن يشارك السيد المسيح البار آلامه.

v قتلوا الأنبياء القدّيسين، وهم مذنبون بدم كثير من الأبرار، لذلك قيل لهم بوضوح: “أي الأنبياء لم يقتله آباؤكم؟!” وأيضًا: “يا أورشليم، يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرّة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا، هوذا بيتكم يُترك لكم خرابًا” (لو 13: 34-35). لكن أعمالهم الشرّيرة لم تمتد فقط إلى الأنبياء القدّيسين، بل تصاعدت حتى إلى ذاك الذي هو رب الأنبياء، أي المسيح. وإذ هم متغطرسون، كما لو كانوا يتشامخون برقابهم المتعجرفة، لم يعطوا أي اهتمام للالتزام بالإيمان به، بل قاوموا تعليمه الجهاري بخبثٍ، ووبّخوا الذين أرادوا أن يكونوا معه على الدوام، الذين تعطّشوا لتعليمه….

v لم تمتد أعمالهم الشرّيرة فقط إلى الأنبياء القدّيسين، بل تصاعدت حتى إلى ذاك الذي هو رب الأنبياء، أي المسيح… لذلك لم يُعطَ لهم أن يعرفوا أسرار ملكوت السموات، بل بالأحرى أُعطي لنا نحن الذين أكثر استعدادًا لقبول الإيمان.

القديس كيرلس الكبير

الذين أخذتم الناموس بترتيب ملائكة ولم تحفظوه“. [53]

تُستخدم كلمة diatagesترتيب” في التنظيم العسكري في الجيش، يعرف كل شخصٍ رتبته بما لها من سلطة ومدى حدودها. وكأن الملائكة، كل في رتبته، وقفوا في دهشة أمام حب الله للإنسان وهو يسلمهم الشريعة التي هي كلمته الحية. إنهم شهود لهذا العمل الإلهي الممتع. يرى البعض أن الملائكة في خدمتهم لله محب البشر تسلموا الشريعة، وقدموها للإنسان ليشاركهم تسابيحهم، ويشاركونه عبادته الروحية.

ولما كانت كلمة “ملائكة” معناها “رسل”، لهذا يرى البعض أنه يعنى هنا الذين أرسلهم الله وعهد إليهم كلمته ليعلونها لشعبه عبر الأجيال. ويرى آخرون أن استلام الشريعة صاحبه بروق ورعود ودخان وزلازل… هذه كلها أرسلها الله لكي يتلامس الشعب مع مهابة الوصية. هذه تسمى ملائكة أو رسل لله.

أخيرًا إذ يملأون مكيال آبائهم بسفك الدماء البريئة، يكسرون الناموس الذي تسلموه بترتيب ملائكة. ولعل تسليم الناموس بترتيب ملائكة هو تقليد يهودي يعتمد على ما ورد في تث 33: 1-4 (الترجمة السبعينية). وقد أخذ القديس بولس بهذا التقليد (غل 3: 19؛ عب 2:2).

v أعطي كل تدبير العهد القديم خلال ملائكة… يعملون أحيانًا شخصيًا، وأحيانًا بشخص اللَّه.

القديس أغسطينوس

v يقصد بالملائكة رسل اللَّه، أي موسى، وابن نون، وغيرهما من الأنبياء حتى يوحنا المعمدان. خلال هؤلاء أُقيم ورُتّب الناموس والأنبياء بواسطة اللَّه بيد المخلّص أي بقوّته. فإنّه هو الوسيط، ومصالح اللَّه مع البشريَّة، لكي يخلّص من يريد من الذين تسلّموا الناموس من الملائكة.

أمبروسياستر

v في كل موضع يقول إن كلمة الله أعطيت بواسطة ملائكة (عب 2: 2؛ غل 3: 19؛ أع 7: 53). حقًا يقول البعض أنه يعني هنا بهم موسى، لكن دون سبب مقبول. فإنه يذكر الملائكة بصيغة الجمع، والملائكة الذين يتحدث عنهم هنا هم الذين في السماء.

القديس يوحنا الذهبي الفم

السماء المفتوحة 45 – 56

فلما سمعوا هذا حنقوا بقلوبهم،

وصروا بأسنانهم عليه“. [54]

إذ أتهمهم القديس استفانوس بالتجديف لم يستطيعوا أن يجيبوه، لأن حديثه كله كتابي. لم يستطيعوا أن يضبطوا حقدهم وثورتهم، فأصروا بأسنانهم عليه، حملوا له كل مرارة.

جاءت الكلمة اليونانيّة المترجمة “حنقوا” deprionto هي بعينها المترجمة نشروا في عب11: 37. فإن الشرّ الذي فيهم ليس فقط بعث روح العداوة وألهب فيهم الغضب، إنّما مزّق قلوبهم وقتلها كما بمنشار. فعدم الإيمان مع الحسد يهلك القلب، بينما الإيمان العامل بالمحبّة يشفي القلب ويهبه سلامًا في الرب.

وصرّوا بأسنانهم عليه” علامة عجزهم تمامًا عن الاستماع إليه. صاروا يصرّون بأسنانهم كوحوش مفترسة تود أن تفتك بمن هم أمامها، متعطّشة لسفك الدم.

لم يشغلهم وجهه المشرق كوجه ملاكٍ، لكنهم حسبوا خطابه هجومًا على الديانة اليهودية منذ بدء نشأتها، إذ حسب آباءهم قتلة الأنبياء، وتحدث عن الهيكل أن الله لا يسكن في بيت مصنوع بأيدٍ بشريةٍ، حسبوا هذا أقسى أنواع الإهانات، إذ يسيء إلى الهيكل أعظم فخر للأمة كلها، لذا سدوا آذانهم، وحنقوا بقلوبهم، وصروا بأسنانهم، حيث وجب رجمه قبل أن تصدر المحكمة بالحكم. فقد اندفع الكل في غيرة بشرية للتنفيذ، وانقضوا عليه، حاسبين أنه لا يوجد وقت لإصدار الحكم عليه.

وأمّا هو فشخص إلى السماء،

وهو ممتلئ من الروح القدس،

فرأى مجد اللَّه،

ويسوع قائمًا عن يمين اللَّه”. [55]

بينما كانت قلوبهم قد امتلأت بالبغضة ارتفع قلبه بالحب للناس وللبشرية حتى لمضطهديه. تطلع أيضًا بعينيه نحو السماء ليرى مجد الله ويسوع قائمًا عن يمين العظمة.

لماذا رفع عينيه نحو السماء؟ حتمًا إذ أصروا بأسنانهم، وظهرت عليهم نية القتل، سحب الرب قلبه كما نظره نحو المجد السماوي. الضيق هو المجال الخصب الذي فيه يطمئن الله على المؤمن ليعاين رؤى وأمجاد سماوية دون أن يسقط في كبرياء أو اعتداد بالذات.

يمين الآب“: لا يعنى أن للآب يمين أو يسار، إنما يشير تعبير “اليمين” إلى القوة والمجد، لهذا يُصور السيد المسيح أنه عن يمين الآب (مز110: 1؛ عب1: 13).

إذ كان القديس استفانوس ممتلئًا من الروح القدس تركزت أنظاره لا على مقاومة الرؤساء له، ولا على ملامحهم المملوءة شراسة، ولا على الحجارة التي حملوها ليرجموه بها، وإنما على السماء المفتوحة، ليرى مجد الله وقد أشرق عليه، ويسوع قائمًا عن يمين الله، كمن يقدم قوته الإلهية للشهيد حتى يعبر به إلى الفردوس.

في دراستنا لسير الشهداء ندرك حقيقة هامة وهي أنه في عصور الاستشهاد، خاصة في الليالي السابقة لتنفيذ الأحكام كثيرًا ما يشرق نور الله علانية في السجون، ويتمتع المُقدمون للاستشهاد برؤى وأحلام إلهية، ويظهر أحيانًا السيد المسيح نفسه لهم. لهذا يقال إنه يُوهب للشهيد أن يرى السيد المسيح قادمًا إليه عند انتقاله، ولهذا يُدعى شهيدًا، فهو يشهد للحق، ويشاهد المسيح الحق، كما يشهد له المسيح أمام الآب، وأمام كل السمائيين.

v باقتفاء الشهيد استفانوس أثر معلمه في أفعاله وأقواله لم ينقصه شيء، فقد أبان تسليم أمره لله ونضوج صبره أهّله للمعاينة الإلهية. لقد كتب: “شخص إلى السماء، فرأى مجد الله، ويسوع قائمًا عن يمين الله” (أع 7 :55).

هذا هو المجد الذي قدمه المخلص للشهيد: أنه يُكرم فوق الملائكة أنفسهم… فإنه رأى “موضوع” حبه عينه، حيث تخشى الملائكة أن تطلع عليه (1 بط 1: 12). فقد شخص الشهيد إلى حيث “يستر الشاروبيم وجوههم” (إش 6 :2). إنه يعاين ما لا يجسر السيرافيم على التطلع إليه. لقد ارتقى بعينيه إلى علو لا حد له. وبدا هكذا أعلى من الملائكة، وأسمى من الرئاسات، متخطيًا العروش. لأن صوت المعلم هو الذي استماله، بوعده إياه: “حيث أكون، هناك أيضًا يكون خادمي” (يو 12 : 26 ).

لقد كان أول خادم… لذا هتف قبل بولس: “كونوا متمثلين بي، كما أنا أيضًا بالمسيح” (1 كو 11 : 1 )… أنا أول من جاهد مع المعلم، وأول من رأى الخفيات في السماء. لأني رأيت، نعم رأيت الابن قائمًا عن يمين الآب. عاينت حقيقة ما قيل: “قال الرب لربي: اجلس عن يميني، حتى أجعل أعداءك موطئًا لقدميك” (مز 109 : ؛ مت 22 : 44، مر 12 : 36؛ لو 20 : 42-44؛ أع 2 : 34 – 35؛عب 1 : 13).

القديس يوحنا الذهبي الفم

v على ما أظن أن القيام والجلوس يدلان على الثبات في الطبيعة والاستمرار المطلق كما قال باروخ، دالاً على عدم الحركة (التغيير) والتنقل في تصرف الله: “إنك أنت تجلس إلى الأبد، أما نحن فنهلك إلى الأبد” (باروخ 3: 3). فمن الواضح إذن أن الجهة “اليمنى” تعني أن الرتبة متساوية في الكرامة.

القديس باسيليوس الكبير

عادة كان الأنبياء متى رأوا مجد الرب ارتبط المنظر برؤية ملائكة أو إحدى الطغمات السماويّة مثل الشاروبيم أو السيرافيم، أمّا هنا فلم يرَ القدّيس استفانوس الملائكة ولا أيّة طغمة سماويّة، ربّما لأن تطلّعه إلى بهاء السيّد المسيح ونوره الفائق جعل كل كيانه منشغلاً به دون المحيطين به. أو لأن ربّنا يسوع المسيح أراد أن يؤكّد لاستفانوس أن لحظات رجمه هي لحظات مجدٍ عظيمٍ، شغلت السيّد المسيح الذي قام لمساندته والترحيب به دون أن ينشغل بخدّامه السمائيّين.

“فقال: ها أنا انظر السماوات مفتوحة،

وابن الإنسان قائمًا عن يمين اللَّه”. [56]

رفع استفانوس عينيه إلى السماء لينظر السموات مفتوحة، وابن الإنسان قائمًًا عن يمين الله. فمن يفتح قلبه بالحب العملي الباذل من أجل إيمانه بمسيحه المحبوب، يجد أبواب السماء مفتوحة له، وابن الإنسان مشغولاً به.

من أخبر الإنجيلي لوقا بما رآه الشهيد استفانوس في لحظاته الأخيرة؟ بلاشك أن صوته الهادئ الوديع اخترق قلوب كثير من الواقفين، خاصة شاول الطرسوسي الذي كان راضيًا بقتله. ولعل بعض الحاضرين الأتقياء قد هالهم منظر وجه استفانوس الملائكي، واشتركوا معه في الرؤيا، فشاهدوا ما شاهده. وكأن القديس استفانوس شهد لقيامة السيد المسيح حتى اللحظات الأخيرة من عبوره من العالم إلى الفردوس.

ما رآه دانيال النبي في القرن السادس ق.م (دا 7: 13-14) شاهده استفانوس في النصف الأول من القرن الأول الميلادي. فالقرون الطويلة لن تفصل قديسي الله، ولا تغير الحق الإلهي العجيب.

كما وهب الروح القدس القديس استفانوس قوة للشهادة بالكلمة، واستنارة للحديث عما تنبأ به الأنبياء، قدم له البصيرة المفتوحة ليرى الحق السماوي بعينيه، ليشهد أمام راجميه أن المسيح المرفوض هو قائم في السماء، موضوع تهليل الأنبياء والسمائيين!

اتهمه الرؤساء بأنه مستحق للرجم، لأنه أهان الهيكل، وإذا بهم يسمعونوه أنه يرى الله إله آبائهم قد فتح له هيكل السماء ليرى المسيا واقفًا عن يمين العظمة، ينتظر اللقاء معه وجهًا لوجه. إنها شهادة سماوية حية وجرئية بأن مجد الله قد فارق الهيكل، وها هو يملأ نفوس المؤمنين ببهائه، ويقيم بروحه القدوس هيكله داخلهم.

v يجلس (السيد المسيح) كديان للأحياء والأموات، ويقوم كمحامٍ عن شعبه. لقد وقف إذن ككاهن بينما كان يقدم لأبيه ذبيحة شماس صالح. لقد وقف كمن يفصل في الأمر لكي يهب جائزة. كما لو كان للمصارع الصالح جائزة على صراعه القدير.

v ليته يقوم في وسطكم لكي ما تعلن السماوات مجد الله (مز 19: 1)، تُفتح لكم فتتممون إرادته، وتمارسون عمله.

v كان يسوع قائمًا كمدافعٍ عنه. كان وافقًا كمن هو متحفز، لكي يعين مصارعه استفانوس في جهاده. كان قائمًا كمن يستعد ليكلل شهيده.

v ليكن قائمًا من أجلكم، كي لا تخافوا من جلوسه، إذ يجلس لكي يدين كقول دانيال (دا 7: 9-11).

القديس أمبروسيوس

v [في تعزية أوستوخيوم لنياحة والدتها]

إذ صوب الألم سهمه إليها فاحتملته بصبرٍ عجيبٍ، هكذا كمن قد رأت السماوات مفتوحة وهى تقول: “آه يا ليت لي جناحين كحمامة فأطير، وأصير في راحة” (مز 55: 6).

القديس جيروم

استشهاد استفانوس 57 – 60

فصاحوا بصوت عظيم،

وسدوا آذانهم،

وهجموا عليه بنفسٍ واحدةٍ“. [57]

صاحوا بصوتٍ عظيم لكي يطغوا على صوته، وسدّوا آذانهم لئلاّ تتنجّس بتجاديفه.

ظهرت علامات الغضب على أعضاء المجمع، فأثاروا الشعب ليصرخوا ويتحركوا للقتل دون إصدار قرار من مجمع السنهدرين، فقد أخذ الشعب النور الأخضر للتحرك. فما فعله الشعب، إنما هو تحقيق لما في قلوب أعضاء المجمع.

لقد اتهمه المجمع بالتجديف، وأشاروا بطريق أو آخر أن ما ينطق به استفانوس هو تأكيد وشهادة حية لصدق الاتهام.

سدوا آذانهم“: كمن لا يريدون أن يسمعوا تجديفًا أكثر حتى لا تتدنس آذانهم.

“وأخرجوه خارج المدينة ورجموه،

والشهود خلعوا ثيابهم عند رجليّ شاب يقال له شاول”. [58]

تحول المجمع إلى حالة هياجٍ شديدٍ وصياحٍ، وحسبوا ما نطق به القديس استفانوس تجديفًا لن يسمحوا له بالدخول إلى آذانهم لئلا تتنجس. تحوّل المجمع من محكمة عليا للعدالة تصدر الحكم بعد المداولة إلى هيئة تنفيذية للرجم دون صدور حكم رسمي به.

كان الرجم هو عقوبة التجديف (لا 24: 16). بحسب الشريعة يقوم الشهود بالبدء في الرجم. أما سحْبِه خارج المدينة فهو أمر طبيعي، إذ جاء في لاويين 24: 14، أن يسحب من كان تحت اللعنة خارج المحلة.

كان شاول يتطلع إلى رجم استفانوس بكونه حلم حياته، فهو يود الخلاص من ذاك الذى كان يجادله ويفحمه، حاسبًا في هذا العمل خدمة لله، وتطهيرًا للشعب من روح التجديف على الله وعلى الشريعة وموسى والهيكل!

لكن كيف رجموه دون الالتجاء إلى الحاكم الروماني، إذ قالوا لبيلاطس أثناء محاكمة يسوع المسيح: “لا يجوز لنا أن نقتل أحدًا” (يو 8: 31)؟ قيل أن رجم استفانوس تم في غيبة بيلاطس عن البلاد.

خلع الشهود ثيابهم، ووضعوها عند رجلي شاول الطرسوسى لكي يلقوا بأول حجرٍ على الشخص إثباتا أنهم مسئولون عن صدق شهادتهم. وقد تم ذلك عند رجلي شاول الذي دخل في حوار مع القديس استفانوس مرات ومرات بكونه أحد أعضاء مجمع الكيليكيين (أع 6: 9).

ولعله كانت شهوة قلب شاول أن يختفي استفانوس عن الوجود، لأنه أفحم الكثيرين في المجامع. ويرى البعض أن قرار شاول كان له اليد الأولى لرجم استفانوس، لهذا سمع الصوت الإلهي: ” لماذا تضطهدني؟” (أع 9: 6) وقد بقيت صورة وجه استفانوس الملائكي لا تفارق عيني شاول الطرسوسى أو بولس الرسول، وصارت أحاديثه منهجًا لاهوتيًا له. إنه يعترف “وحين سُفك دم استفانوس شهيدك كنت أنا واقفًا وراضيًا بقتله، وحافظًا ثياب الذين قتلوه” (أع 22: 20)، أي كان مشتركًا في الحكم عليه ومسرورًا بقتله.

فكانوا يرجمون إستفانوس وهو يدعو ويقول:

أيها الرب يسوع اقبل روحي“. [59]

القديس استفانوس الممتلئ بالروح القدس حياته صلاة دائمة، فإنه وإن كان لم يخدم لسنوات، وإنما لأشهر قليلة أو أسابيع معدودة، لكنه عاش رجل صلاة حتى في لحظات رجمه، فجاء ثمر الروح فيه متكاثرا، ويكفي انه باستشهاده سحب قلب شاول الطرسوسى للبحث عن الحق.

v لقد سمعتم كيف كان استفانوس قاسيًا [51-52]، الآن اسمعوا كيف قد أحب! لقد قاوم الذين كان ينتهرهم ورُجم بواسطتهم… كان آخر صلاته هي من أجل أعدائه. علّموا هنا أن يكون لكم ثوب العرس (الحب حتى للأعداء).

القديس أغسطينوس

v يا لسعادة ذاك الذي يواجه عنف الشيطان بالاجتهاد بكل أنواع أطايب الاحتمال!

العلامة ترتليان

ثم جثا على ركبتيه،

وصرخ بصوت عظيم:

يا رب لا تُقم لهم هذه الخطية.

وإذ قال هذا رقد“. [60]

ختم القديس استفانوس حياته بصلاة وداعية فائقة، إذ قدم شفاعة لدي الله من أجل مضطهديه.

إذ واجه القديس استفانوس الموت شهد للسيد المسيح أنه واحد مع الآب في يديه، يستودعه روحه. لقد تشَّبه بسيده في لحظات صلبه. “ونادي يسوع بصوتٍ عظيمٍ وقال: يا أبتاه في يديك استودع روحي” (لو 23: 46). لقد سبق فصرخ المرتل: “أخرجني من الشبكة التي خبأوها لي، لأنك أنت حصني، في يدك استودع روحي” (مز 31: 5)

تحت قيادة الروح القدس جثا بركبتيه لكي يستشهد وهو في حالة صلاة. وقد وهبه الروح قوة ليصرخ بصوت عظيم، بينما كان الجسد ضعيفًا للغاية تحت ضربات الحجارة القاسية. كما كشف الروح عن قلبه المتسع بالحب، فتشَّبه بسيده على الصليب: “لا تقم لهم هذه الخطية”.

أخيرًا: “لما قال هذا رقد”، إنه لم يمت، لكنه رقد في ليل هذا العالم ليستيقظ على نور نهار الله الذي يمسح كل دمعةٍ، ويدخل به إلى فرح سيده ويشارك السمائيين تهليلهم وبهجتهم!

v إذ قال هذا رقد في موته. يا له من نومٍ طوباوي، وراحة حقيقية! انظروا ماذا يعني أنه يستريح سعيدًا: أن يصلي من أجل أعدائه.

v بحبك لإنسان هو عدوك تصير صديقًا لله؛ في الحقيقة ليس صديقه فقط بل وابنه، كما يقول الرب نفسه: “أحبوا أعداءكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، هذا يبرهن أنكم أبناء أبيكم السماوي” (راجع مت 5: 44-45) .

v لنجاهد أن نعمل كأطباء نحو كل الأشرار. لنكره أعمالهم الشريرة، لا الناس أنفسهم. لنصلي من أجل كل الصالحين لكي ما يرتفعون دومًا إلى حياة أفضل، ومن أجل الأشرار لكي ما يتمتعون سريعًا بحياة صالحة خلال أدوية التوبة. عندما نصلي من أجل هذا، فإنه يهبنا نحن ذلك.

v حزن (استفانوس) بالأكثر على خطاياهم أكثر من حزنه على جراحاته. حزن على شرورهم أكثر من حزنه على موته. تصرف بحقٍ؛ بالتأكيد يوجد في تصرفهم الشرير ما يلزم النوح عليه، بينما لم يوجد شيء في موته ليحزن عليه. الموت الأبدي تبع شرهم بينما الحياة التي بلا نهاية تبعت موته… ليتنا نحب اخوتنا في الكنيسة بذات الروح التي بها أحب استفانوس أعداءه.

v إن كان القديس استفانوس قد سيم شماسًا بواسطة الرسل، فقد سبق الرسل أنفسهم بموته المنتصر المبارك. الذي كان أقل في الرتبة صار الأول في الألم؛ والذي كان تلميذًا صار معلمًا باستشهاده متممًا ما قاله النبي الطوباوي في المزمور: “ماذا أرد للرب من أجل كل إحساناته عليَّ؟” (مز 116: 2) .

الأب قيصريوس أسقف آرل

v كان سلوك المسيح نفسه فوق كل الآخرين، وذلك كمثالٍ لنا. لأنّه بينما كان لايزال معلّقًا على الصليب الثمين، وجموع اليهود يهزأون به، قدّم للَّه الآب صلوات لحسابهم، قائلاً: “اغفر لهم، لأنّهم لا يعلمون ماذا يفعلون” (لو23: 34). وأيضًا الطوباوي استفانوس بينما كان يُرجم بالحجارة، جثا على ركبتيه، قائلاً: “يا رب لا تقم لهم هذه الخطية“. وبولس الطوباوي أيضًا يقول: “نُشتم فنبارك، يُفترى علينا فنعظ” (1 كو 4: 12).

القديس كيرلس الكبير

v إن كان ربّكم مثالاً عاليًا جدًا عليكم أن تحوّلوا أفكاركم نحو زميلكم الخادم. فقد كان القّديس استفانوس يُرجم، وإذ كانوا يرجمونه كان يصلّي بركبٍ منحنية لأجل أعدائه، قائلاً: “يا رب لا تقم لهم هذه الخطية” [60]. لقد كانوا يقذفونه بالحجارة ولم يكونوا طالبين العفو، ومع ذلك صلّى لأجلهم. أريد أن تكونوا مثله. فلتتقدّموا إلى الأمام بالنسبة لأعدائكم. إن لم تستطيعوا أن تحبّونهم أثناء قسوتهم، فلتحبّونهم على الأقل عندما يسألونكم العفو.

القديس أغسطينوس

v أنه لم يقف عند عدم قذف جالديه باللعنات، بل وصلى من أجلهم، وأنتم لا تكتفون بعدم الصلاة من أجل أعدائكم، بل تلعنوهم. بقدر ما كان استفانوس جديرًا بالإعجاب، بنفس القدر أنت بائس… أية عقوبة نحن لا نستحقها؟ قد تظنون أنكم تجرحون عدوكم، في الحقيقة أنتم تصوبون السلاح ضد أنفسكم. إذ لا تعطون فرصة للديان أن يكون رحيمًا من جهة خطاياكم، وذلك بإثارته ضد خطايا الغير. “لأنكم بالدينونة التي بها تدينون تُدانون، وبالكيل الذي به تكيلون يًكال لكم” (مت 7: 2). لنكن رحماء، فننال الرحمة من قبل الرب.

v لن يسكن الروح القدس حيث يوجد الغضب، بل ملعونون هم الغضبى. لا يمكن أن يحل الأمان قط حيث يوجد الغضب. إنما كعاصفة في البحر، اضطراب عظيم، صخب شديد، لا مجال قط لتعلم دروس الحكمة، هكذا عندما يوجد السخط.

v عندما صمت صوت استفانوس، صار صوت بولس المبوًق يدوي.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v هكذا كان سلوك المسيح نفسه فوق كل الآخرين، وذلك كمثالٍ لنا، لأنه بينما كان لايزال معلقًا على الصليب الثمين، وبينما كان الشعب اليهودي يهزأون به، قدّم للَّه الآب صلوات من أجلهم، قائلاً: “اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون” (لو 23: 34).

وأيضًا استفانوس الطوباوي بينما كان يُرجم بالحجارة، جثا على ركبتيه، قائلاً: “يا رب الذي تُقم لهم هذه الخطية” (أع 7: 60).

وبولس الطوباوي أيضًا يقول: “نُشتم فنبارِك، يُفترى علينا فنعظ” (1 كو 4: 12)…

لكن ربّما تعترضون قائلين في داخلكم: المسيح هو اللََّه، أمّا أنا فإنسان ضعيف، وليس لي إلا عقل ضعيف عاجز عن أن يُقاوم هجمات الشهوة والألم. إنك تتكلّم بالصواب، لأن عقل الإنسان ينزلق بسهولة إلى الخطأ، ومع ذلك أقول أن الرب لم يتركك محرومًا من رحمته، فأنت مقتنيه في داخلك بواسطة الروح القدس، لأننا نحن مسكنه، وهو يسكن في نفوس الذين يحبّونه. إنه يعطيك قوّة لكي تحتمل بنبلٍ كل ما يحلّ بك، وأن تقاوم برجولة هجمات التجارب. لذلك “لا يغلبنّك الشر، بل اغلب الشرّ بالخير” (رو 12: 21).

القديس كيرلس الكبير

v إذ تمثل التلاميذ أيضًا بالسيد المسيح، عندما كانوا يسقطون تحت الآلام بنفس الطريقة، صلوا من أجل قاتليهم.

المعارف

v يليق بشهيد المسيح الأول أن يكون هكذا، هذا الذي هو سابق للشهداء يتبع المسيح في موته المجيد، لا يكرز فقط بآلام المسيح، بل ويقتدي أيضًا بصبره الفائق المملوء لطفًا.

الشهيد كبريانوس

v تفوق شريعة الرب ناموس الطبيعة والناموس الذي أعلنه موسى. لأن غير المستطاع عند البشر مُستطاع عند اللَّه (لو18: 27). لكن المسيح لم يشترع المستحيلات، فإن استفانوس أظهر ذلك في وقت آلامه، عندما أحنى ركبتيه وصلّى من أجل الذين كانوا يرجمونه. بنفس الطريقة، فإن بولس الذي عانى الكثير من أيدي اليهود صلّى أيضًا لأجلهم. فإن ندرة حدوث هذه الأمور لا يُظهر أنّها مستحيلة. لأن أغلب الشعب يظنّون أنّها أمور يصعب تنفيذها، وذلك بسبب عدم الرغبة في الصراع للبلوغ إلى قمّة الفضيلة.

ثيؤدور أسقف هيراقليا

اختار القديس استفانوس حتى في لحظات رجمه أن يركع ليصلي. لذا جثا على ركبتيه غير متطلع إلى الحجارة التي تنهال عليه بل إلى خلاص مضطهديه.

رقد القديس استفانوس بقلبٍ مملوءٍ حبًا ونفسٍ مملوءةٍ سلامًا فائقًا. لم يشغله خروج نفسه من جسده، ولم يفكر فيما يعانيه جسده من الآم أثناء الرجم، لكن وقد اختبر الحياة السماوية، لم يكن ممكنًا للموت ولا لقوةٍ ما، أن تفقده سلامه حتى تسليم النفس الأخير.

شتان ما بين موت الأشرار ورقاد القديسين! فالأشرار يرتعبون في لحظات الموت لدخولهم إلى ما هو مجهول، أما القديسون فيتهللون عند رقادهم لأنهم طالما اشتاقت نفوسهم إلى تلك اللحظات السعيدة!


من وحي أعمال الرسل ٧

أينما حللت أراك في داخلي،

تسكب بهاءك عليَّ!

v لقبك مفرح يا إله المجد.

أعلنت مجدك لأبي إبراهيم،

لا ليمجدك، بل لكي يتمتع ببهاء مجدك!

لم يرك في أورشليم، ولا في الهيكل،

لكنه تمتع بك في كور الكلدانيين الوثنيين!

v وعدته بأرض الموعد، لكنك لم تعطه وطأة قدم فيها.

لكي يطلب الأرض الجديدة والسماء الجديدة!

وعدته أن ينعم نسله بأرض الموعد،

لكنه لن يدخلها ما لم يُستعبد أبعمائة عام.

هل لي أن أحتمل كل ألم وتجربة،

فأدخل لا أرض الموعد، بل كنعان السماوية؟

v هب لي مع يوسف البار القلب المتسع لمبغضيَّ.

مؤمنًا أنهم وإن باعوني عبدًا،

فذلك لمجدي ولخلاصهم!

ليغلقوا أبواب قلوبهم،

أما قلبي فدومًا متسع لهم.

ليدبروا الشر،

فأنت تقيم من شرهم خيرًا لي ولهم.

لترسلني إلى مصر عبدًا،

هناك أراك يا خالق الكل، قد صرت عبدًا لأجلي!

v ما كان لوالديّ موسى أن يحتفظا به سوى ثلاثة شهور.

عجزت أياديهما البشرية، فامتدت يدك لخلاصه.

كنت ترعاه في قصر فرعون،

ولم تفارقه قوتك!

قدمت له لبن كنيستك المقدسة غير الغاش،

إذ رعته أمه وسط الجو الوثني.

تدرب على حكمة العالم وفلسفته،

لكنه استهان بكل مجدٍ وعلمٍ ملوكي،

من أجل عار صليبك.

v رفضه شعبه، فهرب إلى البرية،

هناك نسي العالم ومباهجه وحكمته،

هناك اختلى بك يا أيها القدوس،

هناك رعى حواسه ومشاعره وكل طاقاته كقطيعك المقدس.

في سكون برية نفسه،

رآك في العليقة الملتهبة نارًا.

ما لم يره نبي أو رئيس كهنة في الهيكل،

رآه نبيك في سكون البرية.

خلع حذائه لأنه صار واقفًا فيما هو أعظم من قدس الأقداس!

هب لي بروحك القدوس أن أخلع كل ما هو ميت فيّ،

فيؤهلني للتمتع بنور أسرارك.

v قاومه الشعب وحاولوا قتله،

حتى في لحظات إحساناته عليهم كقائدٍ يعمل بقوتك!

بقي قلبه مفتوحًا لمقاوميه حتى آخر نسمة في حياته!

أقام لك سليمان هيكلاً،

مع كل المجد الذي ناله، هل صار في مرتبة داود أبيه؟

بنى لك هيكلاً، أما قلب داود فكان على مثال قلبك!

v هب لي أن أراك في داخلي،

تسكب بهاء حبك ومجدك في أعماقي!

أتمتع بالأرض الجديدة مع أبي إبراهيم،

والقلب المتسع مع يوسف البار،

وإدراك أسرارك مع موسى النبي،

ونقاوة القلب مع داود الملك!

فاصل

سفر أعمال الرسل : 123456789101112131415161718192021222324  – 25262728

تفسير سفر أعمال الرسل : مقدمة1 23456789101112131415161718192021222324 25262728

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى