تفسير رسالة غلاطية أصحاح ٣ للقمص تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح الثالث
التبرير بالإيمان
يبدأ القديس يوحنا الذهبي الفم تعليقه على هذا الأصحاح بالقول: [هنا يَعبر (الرسول) إلى موضوع آخر؛ ففي الإصحاحين السابقين أوضح أنه رسول لا من الناس ولا بإنسان ولا في حاجة إلى إرشاد رسولي. الآن إذ أكد سلطانه كمعلمٍ يسترسل في الحديث بأكثر ثقة، مقارنًا بين الإيمان والناموس.]
يمكن أن يُعفي عن مجرم، لكنه لا يُحسَب بارًا. أما التبرير فهو عمل الله الذي لا يغفر آثامنا فحسب، وإنما يقدم برّ المسيح لحسابنا. يهبنا برًا ليس من عندياتنا بل هو برّ المسيح. الله يبرر الخاطئ التائب ولا يبرر خطاياه.
1. خبرة الغلاطيين بالإنجيل 1-5.
يبدأ القديس بولس حديثه بخصوص الإيمان كمصدر للتبرير بالإشارة إلى خبرة الغلاطيين أنفسهم. لقد دعاهم أغبياء [1]، ليس “باطلاً ” مت (22:5). وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لأنه بعدما أظهر أنهم رفضوا الإيمان، وحسبوا موت المسيح بلا هدف، قام بتوبيخهم الذي مهما بدا عنيفًا، فهو أقل مما يستحقون!] دعاهم أغبياء لأنهم تجاهلوا خبرتهم الشخصية مع المخلص وعمله الفدائي، وكما يقول القديس أغسطينوس: [نحن ندافع عن الرسول الذي دعا الغلاطيين أغبياء، وقد دعاهم أيضًا إخوة، ذلك لأنه لم يقل هذا باطلاً .]
أ. لقد رسُم المصلوب بوضوح أمام عيونهم [1]: بالإيمان يرى الغلاطيون المسيح المصلوب أكثر وضوحًا من كثير من اليهود الذين كانوا في أورشليم منهمكين في أعمال الناموس الحرفية؛ فكيف يقللون الآن من شأن الإيمان في غباوة بقبولهم خداع هؤلاء الذين يتكلمون على أعمال الناموس؟
v لم يصلب (السيد المسيح) في غلاطية بل في أورشليم، ومع هذا يقول: “بينكم” ليعلن عن قوة الإيمان في رؤية أحداث تمت على بعد مسافات (حدث الصلب)… لقد رأوا بعيني الإيمان بأكثر وضوح من بعض الذين كانوا حاضرين ومشاهدين للصلب…
هذه الكلمات تحمل مديحًا ولومًا؛ تمدحهم لقبولهم الحق المطلق، وتلومهم لأنهم تركوا المسيح الذي شاهدوه عاريًا، مطعونًا، مسمرًا على الصليب من أجلهم، ولجأوا إلى الناموس، دون أن يخجلوا من هذه الآلام (التي احتملها عنهم).]
ب. لقد اختبروا نعمة الروح القدس [2] بالإيمان وليس بأعمال الناموس. لقد نالوا بالفعل قوة الروح العظيمة ومزاياها في حياتهم اليومية وسلوكهم، فلماذا يتركون هذا ويرتدون إلى الناموس العاجز عن أن يهبهم شيئًا كهذا؟
ج. هم أغبياء، لأنهم بدأوا بالروح، بالأمور العليا، وانحدروا إلى الأسفل، أي إلى أعمال الناموس الخاصة بالجسد [3]. يبدأ الإنسان الحكيم عادة ببدايات صغيرة ثم يتقدم إلى الأمور العليا، أما هم ففعلوا العكس. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [بعدما تتفرسون في الشمس تطلبون شمعة؟ بعدما تأكلون طعامًا قويًا تجرون وراء اللبن؟]
د. لقد احتملوا الكثير من أجل إيمانهم، فهل كان هذا عبثًا؟ [4]. لقد تألمتم كثيرًا بسبب إيمانكم، فلا تخافوا من هؤلاء المخادعين، لئلا يجردونكم من إكليلكم ويسرقونه منكم.
ه. لقد نلتم الروح القدس الذي يعمل عجائب بينكم، وذلك بخبر الإيمان وليس بأعمال الناموس.
v يقول: هل نلتم عطية عظيمة كهذه، وتممتم مثل هذه العجائب، لأنكم حفظتم الناموس أم لأنكم التصقتم بالإيمان؟ واضح أن هذا تحقق بسبب الإيمان.
2. خبرة إبراهيم 6-9
التبرير بالإيمان ليس خبرة جديدة، فإنه حتى قبل الناموس كان لإبراهيم أب الآباء ذات الخبرة. يؤكد القديس بولس خبرة إبراهيم لأن له قدره العظيم عند اليهود، كما يترجى الأمم أن يُحسبوا أولاده بالإيمان وليس حسب الجسد. يقدم القديس بولس البراهين على أن إنجيل الحرية يتفق مع وعود العهد القديم، مبرزًا التناغم الكامل بين تعليم العهد القديم والإنجيل. لقد أساء المتهودون فهم علاقة المسيحية بالعهد القديم، لذلك فهو يلفت الإنتباه إلى الأساس التعليمي لعقيدته بخصوص تحرر الأمم من الناموس الموسوي، مظهرًا أنهم ورثة المواعيد والبركات التي أُعطيت لإبراهيم قبل الناموس وقبل الختان .
أ. بحسب التقليد اليهودي نفسه جاء في عظة مدراشية (“مدراش” تعني تفسيرًا) أن إبراهيم حسب بارًا أمام الله بالإيمان [6]. وليس بحفظ طقوس ناموسية.
ب. بالمنطق، يليق بأولاد إبراهيم من اليهود أو الأمم أن يتشبهوا به؛ أي أن يعيشوا بالإيمان، فيشاركوه في المواعيد. أبناء إبراهيم الحقيقيون هم فقط الذين يتمثلون بإيمانه. فضيلة الإيمان تأتى بالأمم إلى الالتصاق بإبراهيم أكثر من اليهود نسله حسب الجسد. الذين يتكئون على الإيمان بالمسيح يسوع لتبريرهم سوف يتباركون مع إبراهيم المؤمن.
v يعلمنا الرسول بكمال خلال كلماته الواردة في رسالته إلى أهل غلاطية أن إيماننا كان مرموزًا إليه في إبراهيم باعتباره بطريرك (أب) إيماننا ونبيًا له [59]…
يعلن الرسول أن هذا الرجل لم يكن نبيًا للإيمان فحسب، وإنما كان أبًا للأمم الذين يؤمنون بيسوع المسيح، لأن إيمانه واحد مع إيماننا.
v نحن أبناء إبراهيم بسبب تشابه الإيمان والوعد بالميراث.
القديس إيريناؤس
v إن كان ذاك الذي كان قبل النعمة قد تبرر بالإيمان مع أنه كان غنيًا بالأعمال، فبالأولى نحن (نتبرر بالإيمان). لأنه أية خسارة لحقت بإبراهيم بكونه ليس تحت الناموس؟ لا شيء؛ فإن إيمانه كان كفيلاً للتمتع بالبرّ.
v إذ اعتمدوا كثيرًا على أنهم من نسل إبراهيم، وخشوا من تخليهم عن الناموس لئلا يجعلهم غرباء عنه، لذلك حوٌل بولس ذلك إلى برهان ضدهم، مُثبتًا أن الإيمان على وجه الخصوص هو الذي يربطهم بإبراهيم .
ج. اعتاد المعلمون الكذبة أن يربكوا الغلاطيين بقولهم إن الناموس جاء أولاً ثم الإيمان. لهذا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [الآن يزيل هذا المفهوم بإظهار أن الإيمان سبق الناموس، كما يتضح في حالة إبراهيم الذي تبرر قبل استلام الناموس.] تبرر إبراهيم قبل وضع ناموس الختان بخمسة عشر عامًا.
د. بشٌر مُعطى الناموس إبراهيم بأن الأمم تتبرر بالإيمان [8]. لو أن التبرير يتحقق بأعمال الناموس لبشر الله إبراهيم بإعطاء الناموس، لا بتقديم بركة الإيمان.
v “الله” نفسه الذي أعطى الناموس قد وضع أن يتبرر الوثنيون بقبولهم الإيمان. لم يقل “أعلن” بل “بشر بالإنجيل” ليشير أن الأب (إبراهيم) كان مبتهجًا بأسلوب التبرير هذا وكان له رغبة عظيمة لإتمامه (الكرازة بالإنجيل تعنى الكرازة بالأخبار السارة أو المبهجة).
ه. يتحقق الخلاص من لعنة الناموس خلال السيد المسيح الذي فيه تحققت بركة إبراهيمم [10-14].
3. لعنة الناموس 10-14
يشهد الناموس ذاته (تث 26:27) أن الذين يسعون أن يتمموه هم تحت اللعنة، لأنه يطالبنا أن نعمل به مُفترضًا أن ننال البرّ بذلك بينما في الواقع تقودنا هذه الأعمال إلى الكبرياء عندما نُتممها، وهذا هو جوهر الخطية.
لا يقدر الناموس أن يهب البرّ بل يجلب موتًا على كل من لا يحفظونه (10:3). اللعنة هي حكم صادر ضد كل كاسرٍ للناموس بينما تحل البركة على كل من يعيش بالنعمة. بمعنى آخر من يحسبون أنفسهم أبرارًا بسبب أعمال الناموس يسقطون في الكبرياء، ويصيرون تحت اللعنة، والذين يعجزون عن تحقيق كل أعماله هم أيضًا تحت اللعنة، والآن كيف ينتشلنا السيد المسيح من هذه اللعنة؟
يمكننا القول بأننا خلال الخطية صرنا تحت اللعنة، بينما صار مخلصنا الذي بلا خطيه لعنة لأجلنا [13]، لا بارتكابه خطية ما، وإنما بتعليقه على خشبة، وهكذا احتضننا ونحن تحت اللعنة، وأنقذنا منها بنعمته. خلصنا المسيح المصلوب من اللعنة، إذ حقق في شخصه كل متطلبات الناموس بالكامل، وفي الوقت نفسه صنع كفارة كاملة وتامة عن كل تعديات اليهود (والبشرية بوجه عام) ضد الناموس. هكذا صار الناموس مرضيًا لا يطالب السيد المسيح ولا بقية الجنس البشري بشيء ماداموا متحدين معه بالمعمودية.
يقول القديس يوستين في حواره مع (تريفو اليهودي) أن العائلة البشرية كانت في حاجة أن تُفتدى من اللعنة بواسطة الصليب. [إن ظهر الذين هم تحت الناموس أنهم تحت اللعنة لعدم ملاحظتهم كل متطلباته، كم بالأكثر تكون كل الشعوب التي تمارس الوثنية ويُغوون الشباب ويرتكبون جرائم أخرى؟ إن كان أب الكل قد أراد لمسيحه أن يحمل لعنة الكل من أجل كل البشرية، عالمًا أنه يقيمه بعد صلبه وموته، فلماذا تجادلون بخصوصه هذا الذي خضع للأمم هكذا حسب مشيئة الآب وقبل اللعنة عوض أن تبكوا على أنفسكم؟]
v ها أنتم ترون كيف يبرهن أن الذين يلتصقون بالناموس هم تحت اللعنة، إذ يستحيل عليهم أن يتمموه [10-11]؛ ثم كيف جاء الإيمان يحمل قوة التبرير هذه…
مادام الناموس عاجزًا تمامًا عن أن يقود الإنسان للبر، فالإيمان هو العلاج الفعّال الذي يجعل ما كان مستحيلاً بالناموس ممكنًا (رو 8: 3)…
استبدل المسيح هذه اللعنة بلعنةٍ أخرى، “ملعونّ كل من عُلِّق على خشبة”. إن كان مَنْ يُعلَّق على خشبة ومن يتعدّى الناموس كلاهما تحت اللعنة، وإنه كان من الضروري لذاك الذي يحرر من اللعنة أن يكون هو حرًا منها، إنما يتقبل لعنة أخرى (غير لعنة التعدي)، لذلك قُبِل المسيح في نفسه هذه اللعنة الأخرى. (خلال التعليق على خشبة) لكي يحررنا من اللعنة… لم يأخذ المسيح لعنة التعدي، بل اللعنة الأخرى، لكي يَنتزع اللعنة عن الآخرين. “على أنه لم يعمل ظلمًا ولم يكن في فمه غش” (إش 9:53). إذ بموته خلص الأموات من الموت، هكذا بحمله اللعنة في نفسه خلصهم منها.]
القديس يوحنا الذهبي الفم
v عند سماعنا “المسيح قد صار لعنة لأجلنا” [13]، و”لأنه جعل الذي لم يعرف خطية، خطية لأجلنا” (2 كو 5: 21)، لا نفهم من هذا ببساطة أن المسيح بكُليته صار خطية أو لعنة، إنما حَمل اللعنة التي علينا (إش 53: 4؛1 بط 2: 24).
v كما أن المسيح بذاته لم يصر لعنة، إنما قيل هذا لأنه أخذ على عاتقه اللعنة لحسابنا، هكذا صار جسدًا لا بتحوله إلى جسد، إنما اتخذ جسدًا من أجلنا وصار إنسانًا.
v إنه يُرشد اليهود وأهل غلاطية أن يضعوا رجاءهم لا في الناموس بل في الرب مُعطى الناموس.
v صار خطية ولعنة لا لحسابه بل لحسابنا… صار لعنة لأنه حمل لعناتنا.
v كيف يمكن أن يكون خطية ذاك الذي يحررنا من الخطية؟ وكيف يمكنه أن يكون لعنة ذاك الذي يفدينا من لعنة الناموس؟ حدث هذا ليمارس تواضعه إلى هذه الدرجة، ولكي يُشكِلنا نحن بالتواضع الذي يجلب مجدًا.
v دُعي لعنة من أجلي، هذا الذي حطم لعنتي… صار آدم الجديد ليحتل مكان آدم الأول، وبهذا فقط يجعل عصياني عصيانه هو بكونه رأس الجسد كله.
v صار مطيعًا ذاك الذي “أخذ أسقامنا وحمل أمراضنا” (راجع مت 8: 17)، فشفي عصياننا؛ إذ بجلداته شَفي جراحاتنا وبموته طرد الموت العام الذي سيطر على كل البشرية. من أجلنا أطاع حتى صار “خطية” و”لعنة” بتدبيره لحسابنا؛ لم يكن هكذا بالطبيعة، إنما صار كذلك من أجل حبه للإنسان.
v بالناموس صرنا تحت اللعنة، بينما بنعمة المسيح خلصنا منها.
v النعمة عادةً تُعلِن عما يفعله الله لأجلنا (1 كو 15: 3- 4)؛ أما الناموس فيُعلن عما يطلبه الله منا (خر 20: 1- 7).
v النعمة تهبنا حياة وقوة لكي نطيع الوصية ( يو 14: 23 ) ونتقدس ( رو 6: 14-22 )، أما الناموس فيأمر بالطاعة والقداسة الكاملة (تث 6: 24- 25) وإلا سقطنا تحت الموت (يع 2: 10).
v النعمة غالبًا ما تكشف عن حب الله لنا ( يو 3: 16)، أما الناموس فغالبًا ما يأمرنا بحب الله (مت22 : 37).
v بالنعمة أُعلِن لنا عن البركات الإلهية (غل 4:3)، بينما أُعلِنت اللعنة ونحن تحت الناموس (غل 3: 10).
v النعمة تهبنا الحرية في المسيح (غل 5: 1)، أما تحت الناموس فكنا عبيدً للخطية (غل 4: 1-3).
v النعمة هي قوة الله (رو 1: 16)، أما الناموس فقوة الخطية (1 كو 15: 56).
v بالنعمة نلنا البنوة للآب (غل 4)، أما الناموس فيحرم الإنسان من الحضرة الإلهية (خر 18: 12-24).
v تُعِلن النعمة عن صورة الصالحات عينه، أما الناموس فله ظل الخيرات العتيدة (عب 10: 1).
v بنسل إبراهيم (يسوع المسيح) تصير البركة للأمم (14) (تك22: 18؛ 26: 4).
4. الناموس لم يبطل الوعد لإبراهيم 15- 18
بعد أن قدم براهين كثيرة تقوم على أساس التقليد اليهودي والكتاب المقدس استخدم الرسول مثلاً بشريًا، بقوله: “أيها الإخوة بحسب الإنسان أقول، ليس أحد يبطل عهدًا قد تمكن ولو من إنسان أو يزيد عليه“ [15]. بمعنى آخر يجب احترام العهود البشرية، فلا يُزاد أو ينقص شيء من شروطها، والآن قد أُقيم عهد مع إبراهيم قبل استلام الناموس بحوالي 430 عامًا، لم يُذكر فيه حفظ أعمال الناموس، بل ذكر فيه الإيمان. فإذا ما أُضيف هذا الشرط (حفظ أعمال الناموس) بعد ذلك يُساء إلى العهد الإلهي.
أِستُلِم الناموس بعد نوال وعد الله لا ليبطل الوعد، إنما ليمهد للإيمان. فإن كانت أعمال الناموس هي منبع الخلاص لما أخذ إبراهيم الوعد بالبركة بنسله وإنما باستلام الناموس.
v خلال رمز ديمومة العهد الإنساني يدافع الرسول عن العهد الإلهي.
العلامة ترتليان
v “أيها الإخوة بحسب الإنسان أقول ليس أحد يبطل عهدًا قد تمكّن ولو من إنسان أو يزيد عليه“ [15].
هكذا يقول: “أيها الإخوة“… لقد دعاهم قبلاً “أغبياء” وها هو يدعوهم “إخوة”، وذلك لتوبيخهم في نفس الوقت…
يقول: إن أقام إنسان عهدًا فهل يجرؤ مَن يأتي بعده من يُغيره أو يزيد عليه؟ هذا ما يعنيه بـ “يزيد عليه”. بالأولى عندما يُقيم الله عهدًا؛ ومع مَنْ أقام عهدًا؟… أقام الله عهدًا مع إبراهيم، إذ وعده بأن تتبارك جميع الأمم في نسله، هذه البركة لا يمكن للناموس أن يُلقي بها جانبًا… أخذ إبراهيم وعدًا أن تتبارك الأمم في نسله، ونسله حسب الجسد هو المسيح [16-18].
أعطى الله وعده لإبراهيم ونسله قبل إعطائه الناموس بـ 430 عامًا. هذا الوعد السابق للناموس تحقق في يسوع، نسل إبراهيم. ذكر الرسول 430 عامًا عن الترجوم الفلسطيني (في التعليق على خر 12: 40)، وهي إعادة صياغة (تفسير) للنص الكتابي الذي يُتلى في الخدمات المقامة في المجمع أيام القديس بولس.
يقول القديس أغسطينوس: [إن إبراهيم نال وعدًا ليس فقط في المسيح، نسل إبراهيم الذي يبارك الأمم [16]، بل وفي جسده، أي في كنيسة المسيح [28]. إن كان نسل إبراهيم يُفهم عن المسيح وحده، فإنه ينطبق علينا نحن أيضًا، أي على المسيح بأكمله: الرأس والجسد، المسيح الواحد.]
5. غاية الناموس 19-25
أثُير السؤال الذي في افتتاحية هذا القسم (فلماذا الناموس؟) في سياق البرهان الذي يقدمه القديس بولس؛ حيث لم يُذكر بعد إلا الجانب السلبي للناموس وأعماله (رو 7: 25-27). يرفض القديس بولس فهم الناموس بكونه مضادًا لوعود الله، بل بالأحرى يؤكد أن عمل الناموس هو تحديد الوضع القانوني للإنسان أمام الله، وإن كان عاجزًا عن تقديم البرّ أو تغيير علاقة الإنسان بالله.
سلطان حفظ أعمال الناموس الحرفية كأداة فعالة في تحقيق خطة الله محدود حتى يُعلن الإيمان ويأتي المسيح.
v “وأما الوسيط فلا يكون لواحدٍ“ [20]، ولكن الله واحد. لا انقسام بين الأقانيم كما تعلمنا في الإيمان (لأن اللاهوت واحد في الآب والابن والروح القدس). يصير الرب وسيطًا مرة بين الله والإنسان، فيربط الإنسان باللاهوت به.
القديس غريغوريوس أسقف نيصص
ما هو هدف الناموس الموسوي [19]؟
السيد المسيح قادر أن يخلص الخطاة، فلا تقدر النعمة أن تبدأ عملها حتى يُبرهن الناموس أننا مخطئون كما تظهر الرسالة إلى رومية لكل واحدٍ منا. يستطيع الناموس فقط “أن يُغلِق على الكل تحت الخطية“ [22]، كما في سجنٍ؛ عندئذ جاء السيد المسيح ليهبنا الحرية ويقدم لنا برّه.
الناموس روحي، لكنه لا يحمل قوة الخلاص أو إمكانية التبرير. غايته أن يُظهِر للجنس البشري الساقط مدى فساد الطبيعة البشرية الخاطئة التي بلا شفاء. يكشف للإنسان عن خطيته وعماه واستخفافه بالله وأنه ساقط تحت الغضب الإلهي. هكذا يقودنا الناموس إلى السيد المسيح بإبرازه حاجتنا إليه كمخلصٍ وطبيبٍ.
v لم يُعْطَ الناموس لشفاء الضعفاء، وإنما للكشف عن ضعفهم وإظهاره… لقد تسلموا الناموس الذي لم يستطيعوا أن يتمموه؛ لقد عرفوا داءهم، والتمسوا عون الطبيب، مشتاقين أن يبرأوا إذ عرفوا أنهم في كربٍ، الأمر الذي ما كانوا ليعرفوه لولا عجزهم على تتميم الناموس الذي تسملوه.
طالما يظن الإنسان أنه بريء، يُصيبه الكبرياء ويحتقر نعمة الله. لهذا فالناموس يذل هذا الكبرياء ويطرحه خارجًا، إنه معلم صالح عمله أن يُقنع المتكبرين بالحاجة إلى إصلاح، ويقود الأطفال كما إلى المدرسة، ويتأكد من تركيز انتباههم، وعند الضرورة يؤدبهم، ويطمئن على سلامتهم سلوكيًا وجسديًا. هذا المؤدب يتعهد الأطفال، فيقودهم في الشوارع ليُحضِرهم إلى المدرسة، ويدربهم على إيجاد متعة في قبول الأخبار السارة (الإنجيل) وخبرة الحياة المسيحية. عمله يتلاءم مع الطفولة حيث يدخل بالمؤمن من الطفولة إلى النضوج الروحي في المسيح (3: 25-29)، الذي يمنحه القدرة على ضبط النفس وإنكار الذات.
يُصلح الله قلوبنا باستخدام إبرة حديدية (الناموس) أولاً، ليمد بعد ذلك خيط الإنجيل الدائم والحب والسلام والفرح. في السيد المسيح تحققت كل مواعيد الله.
v يقول (بولس) إن الناموس كان مؤدبنا إلى المسيح يسوع… لم يَعُقهم الناموس قط عن الإيمان بإبن الله، لا بل بالأحرى حثهم على ذلك بقوله إنه لا خلاص للإنسان من جرح الخطية القديم إلا بالإيمان به، هذا الذي أخذ شِبه جسد الخطية، وارتفع عن الأرض على خشبة الاستشهاد، جاذبًا الكل إليه (يو12: 32 ؛ 3: 14)، ومقيمًا الأموات.
القديس ايريناؤس
v إذ لم يدرك اليهود خطاياهم، وبالتالي لم يشتاقوا إلى المغفرة؛ أُعطِي لهم الناموس ليتحسسوا جراحاتهم، لعلهم يتوقون إلى طبيب…
الآن لا يتعارض المؤدب (الناموس) مع المعلم (السيد المسيح)، بل يتعاون معه، ينطلق بالشاب الصغير من كل رذيلة، ويُعِدُّه بكل رفق لكي يتقبل إرشادات معلمه. ولكن عندما تتشكل عادات الشاب حينئذ يتركه مُرشده كما يقول الرسول.
إذن، كان الناموس مرشدنا، وكنا نحن خاضعين؛ لم يكن عدوًا لنا بل كان عاملاً مع النعمة في تعاون؛ ولكن إن دُفِعْنا إلى أسفل بعد قبول النعمة يصير بهذا مضادًا لنا، لأنه يُقيد أولئك الذين يجب أن يتقدموا في النعمة، ففي هذا تحطيم لخلاصنا.
v إله العهدين واحد؛ في العهد القديم أنبأنا عن المسيح الذي ظهر في العهد الجديد؛ الذي قادنا إلى مدرسة المسيح بواسطة الناموس والأنبياء… إن سمعت أحد الهراطقة ينطق بالشر على الناموس أو الأنبياء، أَجِبْهُ بصوت المخلص قائلاً أن المسيح لم يأتِ لينقض الناموس بل ليكمله (مت 5: 17).
إذ يقرأ القديس أثناسيوس كلمات القديس بولس أن الناموس المُعْطَى لليهود كمرشدٍ يتضمن الإيمان بالمسيح يوضح أنهم لم يفهموا ذلك ولا استطاعوا التلامُس مع الحق الذي نقتنيه والكامن في الناموس، لأنهم تمثلوا بالحرف ولم يخضعوا للروح.
يقول Dom B. Orchard: [الحياة الدينية في العالم – في نظر القديس بولس مَرَّت بثلاث مراحل من أيام إبراهيم مؤسس جنس اليهود:
1. مِنْ إبراهيم إلى موسى: خلال هذه الفترة كان التبرير يتحقق خلال الإيمان بالمواعيد، دون وجود ناموس بالمعنى الإيجابي (ما عدا الختان وحده الذي وُجِد في العهد الإلهي مع إبراهيم – تك17: 11).
2. مِنْ موسى إلى المسيح: خلالها كان التبرير يتحقق خلال الإيمان بالمواعيد، مع الالتزام بحفظ الناموس الذي تسلموه في سيناء بطريقة إيجابية (الذي يبرر هو الإيمان لا الناموس).
3. منذ عهد المسيح: يتحقق التبرير بالمسيح وبحفظ الإنجيل (وهو أسمى من أن يكون مجرد تجديد للتهود).]
6. أبناء بالإيمان 26-29
مهّد الناموس الطريق للإيمان، وكمرشدٍ جاء بنا إلى السيد المسيح حتى نتبرر بالإيمان [24]. فما هو دور الإيمان في حياتنا؟ إياه يقودنا إلى الإنسان الكامل [25]، فإننا جميعًا أبناء الله بالإيمان بيسوع المسيح. التبرير (dikaiosune)، الذي يعني في نظر القديس بولس عبورًا من حالة العداوة مع الله كثمرة للخطية الأصلية ومِنْ الخطية الفعلية إلى البنوة التي بها نقتني حياة المسيح الإلهية داخلنا، هي دائمًا هبة الله المجانية بمقتضى عطية الإيمان العامل بالمحبة (غل 5: 6).
“التبني” كلمة قانونية رومانية تعني “احتلال مركز الابن” في وضع شرعي. جاء السيد المسيح ليفتدينا حتى لا نظل بعد عبيدًا تحت الناموس، وإنما نملك كل امتيازات الأبناء والورثة البالغين، فندعو الله “آبا الآب” (4: 6).
v لم نعد بعد تحت مؤدب [25]، “لأنكم جميعًا أبناء الله“ [26]. يا للعجب! انظر! يا لعظمة الإيمان! ها يوضح الرسول ذلك تدريجيًا! قبلاً أظهر أن الإيمان يجعل منهم أبناءً لإبراهيم… الآن يبرهن أنهم أبناء الله أيضًا… بعد ذلك إذ يقول أنه لأمر عظيم ومدهش يوضح كيفية تبنيهم للَّه: “لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح“ [27]… ما دام المسيح هو ابن الله وأنتم قد لبستموه، واقتنيتموه داخلكم، وتشكلتم على مثاله، صرتم أقرباء له واحدًا معه في طبيعته.
v مع أن الكتاب المقدس يشهد بأن ربنا يسوع المسيح هو إبن الله الوحيد، يقول إن المسيح منحنا أن نصير إخوة وشركاء معه في الميراث، بهذا نلنا نوعًا من التبني خلال النعمة الإلهية .
v “آبا” بالعبرية تطابق”Pater” في اللاتينية… كما أن العبارة “آبا الآب” تتضمن فكرة الجنسين: (الإسرائيليون والأمم)، فإن كلمة “أب” نفسها بمفردها تشير إلى قطيع واحد يتكون من الاثنين معًا.
البسوا المسيح
v لا تسمح لدنس أو غضن يدنس نقاوة ثوب الخلود، بل احفظ قداسه كل أعضائك، إذ تلبس المسيح؛ إذ يُقال: “لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح” (أف 3: 27). لتكن أعضاؤكم جميعًا مقدسة فتكون كمرتدية ثوبًا من القداسة والنور.
v قد لبسنا المسيح بواسطة الماء والروح وإن كنا لم ندرك مجده.
القديس اسحق السرياني
v إذ اعتمدتم في المسيح، ولبستم المسيح، تصيرون على شكل ابن الله.
واحد في المسيح!
يظهر شمول الإنجيل خلال الإشارات إلى العماد بكونه نتيجة لعمل الإيمان. فالمعمدون الجدد لا يلبسون المسيح فحسب (رو 4:13، أف 24:4)، وإنما يصيرون أيضًا واحدًا معه، يشتركون في صلبه ويتمتعون بالحياة الجديدة معه (20:2). مادام العماد يوّحد كل الأشخاص مع المسيح (1 كو 13:12) كما يربطهم أيضًا ببعضهم البعض، لأن جميعهم إخوة مات “المسيح لأجلهم” (1 كو 11:8؛ 15:14). لجميع المؤمنين رب بلا تمييز بينهم (رو 12:10-13؛ أف 11:2-22؛ كو 11:3).
بالمعمودية نلبس المسيح [27] ونتحد كأعضاء معًا كأبناء لله فيه. “ليس يهودي ولا يوناني، ليس عبد ولا حر، ليس ذكر ولا أنثى، لأنكم جميعًا واحد في المسيح“ [28]. نصير كلنا واحدًا، لنا ذات الميراث الذي وعد به ابراهيم. “فإن كنتم للمسيح فأنتم إذًا نسل إبراهيم وحسب الموعد ورثة“ [29].
v هذا هو هدف السر العظيم من أجلنا. هذا هو غرض الله من أجلنا، هذا الذي صار إنسانًا وافتقر (2كو8: 9)، لكي يُحْيى أجسادنا (رو 11:8)، ونستعيد صورته (1كو15: 48)، ويتجدد الإنسان (كو3: 11) فنصير واحدًا في المسيح، الذي يعمل بكمال في جميعنا حتى إنه هو نفسه يكون حاضرًا، فلا يكون ذكر أو أنثى، بربري أو سكيثي، عبد أو حر، إنما تحمل ختم الله في أنفسنا، الذي به وله قد خُلِقْنا وأخذنا صورته ومثاله لكي نُعْرف بهذا وحده.
يقول القديس غريغوريوس النيسي: [إن خلقة طبيعتنا لها معنى ثنائي: طبيعة خُلِقتْ على مثال الله أفسدتها الخطية وجددها ربنا، وطبيعة تنقسم حسب تمايزنا (ذكر وأنثى).]
تفسير غلاطية 2 | تفسير رسالة غلاطية |
تفسير العهد الجديد |
تفسير غلاطية 4 |
القمص تادرس يعقوب ملطي | |||
تفاسير رسالة غلاطية | تفاسير العهد الجديد |