تفسير إنجيل يوحنا الأصحاح 20 للأب متى المسكين

مكان البشارة:
حادي عشر: بعد القيامة
في أورشليم


الأصحاح العشرون 
رابعاً: القيامة أى «الحياة الجديدة»

مقدمة:
القيامة حدث يفوق التاريخ:

1- القيامة من بين الأموات «بذات الجسد» الذي صُلب، وبجروحه، وبطعنة الحربة النافذة إلى القلب؛ هذا الفعل الذي أجراه المسيح في نفسه، هو فعل غريب على البشرية. وكلمة «القيامة » التي دخلت قاموس المسيحية، ليست أصلاً من كلمات بني آدم؛ إنها تختص بعمل لا يختص بالأرض ولا بأية خليقة، إن في السماء أو على الأرض.
‏القيامة حدث هبط إلينا من السماء: «إن يؤلم المسيح يكن هو أول قيامة الأموات» (أع23:26)، ومفهومه يفوق العقل والحواس والمشاعر والتفكير وأعماق الضمير، لأنه يفوق اللحم والدم. إنه فعل خلقة جديدة في صميم الخلقة العتيقة، أضافت إلى الإنسان سواء في فكره أو كيانه بندا جديداً سماوياً.
‏لذلك ينبغي أن يستعد الفكر الآن قبل أن نخوض في كيف ظهرت القيامة واستعلنت ورُتبت وسُمعت وجُست ولُمست، يلزمنا في هذا ذهن مستعد لقبول حقائق جديدة لا تقاس بأي حقائق أو قياسات سابقة في تاريخ الإنسان ومفهوهه, وإن كانت هي, في ذات الوقت, حقائق ليست وهمية أو تصورية أو رؤيوية بل حقائق واقعية يمكن أن تمسكها العين مسك اليد، وتلمسها اليد لمس اليد لليد, وتتحسسها كما تحس العظم واللحم. ولكن بالرغم من واقعيتها الصلبة فهي لا تمت إلى واقع الإنسان!
‏لأنه يلزم أن نعرف من بولس الرسول أن هذا الذي يقوم من الموت هو جسد روحاني: «هكذا أيضأ قيامة الأموات، يُزرع في فساد ويُقام في عدم فساد، يُزرع في هوان ويُقام في مجد، يُزرع في ضعف ويُقام في قوة, يُزرع جسماً حيوانياً ويُقام جسماً روحانياً, يوجد جسم حيواني (أو نفساني) ويوجد جسم روحاني» (1كو42:15-44‏). والجسم الروحاني لا يقاس بعد بقياسات الجسم الحيواني؛ إنه يحتاج لعيون روحانية لكي تراه, أوعلى وجه الأصح, يحتاج إلى البعد الروحي في قياسات العين الترابية لكي ترى العين ما لم يكن في حيز طبيعتها.
‏هذا من جانب الإنسان، أما من جانب المسيح المُقام، فقد أوضح القديس بطرس الرسول, بوصفه قد اختبر شخصياً, أن المسيح أُعطي من الله ألا يصير ظاهراً, بمعنى أنه كان يُظهر ذاته بإرادته للذين انتخبهم ليكونوا شهود قيامته وليس للجميع: «هذا أقامه الله في اليوم الثالث وأُعطى أن يصير ظاهراً ليس لجميع الشعب بل لشهود سبق الله فانتخبهم، لنا نحن الذين أكلنا وشربنا معه بعد قيامته من الأموات.» (أع40:10-41‏)
‏والصعوبة كل الصعوبة هي بسبب سلطان الموت الذي استبد بوعي الإنسان أشد استبداد، حتى إنه ألقى ستاراً من الظلمة كثيفة العتامة على كل ما هو بعد الموت! فالموت تصور في شعور الإنسان ولاشعوره أنه العدم، عين العدم! هكذا تجبر الموت على وعي الإنسان وتسيطر ظلماً وعسفاً وكذبأ وبهتاناً. والسبب فى ذلك لا يُخفى على الإنسان الروحي. فالموت بحد ذاته عقوبة، وعقوبة الموت رسخت في كيان الإنسان كعقدة لا تُحل، وعقدة الموت لا يتخللها رجاء بالحياة، أي رجاء, وهكذا قتل الموت فكرة الحياة بعد الموت قتلاُ، وبدد مجد الروح وما للروح! لذلك أصبحت القيامة، وهي الحياة بعد الموت بكل ملء الحياة، داخلة في نطاق المستحيل لمن صدق الموت وعاش عقدته واستسلم لعقوبته: «ويحي أنا الإنسان الشقي, من ينقذني من جسد هذا الموت.» (رو24:7)
‏لذلك نعود ونقول، إنه بالرغم من أن القيامة ظهرت علنا كحقيقة تُرى وتٌسمع وتُجس بملء الحواس وملء المشاعر، إلا أن عقدة الموت هزت الواقع المنظور والمحسوس هزا عنيفاً وحاولت بكل جهد أن تلغي المنظور إلغاءً، وأن تُدخل الواقع الحي المتكلم أمامها في دائرة الخيال عنوة وتجبرا:
+ «فقال لهما يسوع لا تخافا…» (مت10:28)، مع أن المسيح نفسه كان قائما بشخصه تماماً كما كان!
+ «ولكن بعضهم شكوا…» (مت17:28)، مع أن المسيح أراهم كل العلامات أنه هو هو!
+ «فخرجن سريعاً وهربن من القبر، لأن الرعدة والحيرة أخذتاهن, ولم يقلن لأحد شيئاً لأنهن كن خائفات.» (مر8:16)
+ «فلما سمع أولئك أنه حي، وقد نظرته (المجدلية)، لم يصدقوا» (مر13:16)، مع أنه سبق وأخبرهم بكل ما سيحدث!
+«وذهب هذان وأخبرا الباقين فلم يصدقوا ولا هذين» (مر13:16)، بالرغم من تكرار الشهادة!
+ «أخيراَ ظهر للأحد عشر، وهم متكئون، ووبخ عدم إيمانهم وقساوة قلوبهم, لأنهم لم يصدقوا الذين نظروه قد قام.» (مر14:16)
+ «وإذ كن خائفات ومنكسات وجوههن إلى الأرض, قال لهن: لماذا تطلبن الحي بين الأموات.» (لو5:24)
+ «فقام بطرس وركض إلى القبر، فانحنى ونظر الأكفان موضوعة وحدها، فمضى متعجباً في نفسه مما كان» (لو12:24)
+ «فقال لهما: أيها الغبيان والبطيئا القلوب في الإيمان بجميع ما تكلم به الأنبياء، أما كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده» (لو25:24-26‏), حتى العقل وحتى القلب تقهقرا أمام حقيقة القيامة!!
+ «وقف يسوع نفسه في وسطهم وقال لهم: سلام لكم، فجزعوا وخافوا وظنوا أنهم نظروا روحاً، فقال لهم: ما بالكم مضطربين ولماذا تخطر أفكار في قلوبكم, انظروا يدي ورجلي إني أنا هو, جسوني وانظروا فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لى. وحين قال هذا أراهم يديه ورجليه, وبينما هم غير مصدقين من الفرح ومتعجبون قال لهم: أعندكم ههنا طعام… فأخذ وأكل قدامهم.» (لو36:24-43)
+ «ثم قال لتوما هات إصبعك إلى هنا وأبصر يدي, وهات يدك وضعها في جنبي, ولا تكن غير مؤمن بل مؤمناً.» (يو27:20)
‏بهذا الجزع، والخوف، والرعدة, والحيرة وعدم الإيمان، والتعجب وعدم التصديق، بل والغباء وقساوة القلب، استقبل التلاميذ «القيامة»، ولهم في ذلك الحق، كل الحق، فهم أموات بالخطية وأولاد المائتين الذين ماتوا جيعاً، وعلى بكرة أبيهم, لا يعرفون إلا لغة الموت، أما ما هو بعد الموت فليس له لغة، وإن وُجدت فليس لها وعي يدركها.
‏كل هذا يجعلنا، حينها نتنرض لرواية القيامة التي حدثت على مستوى التاريخ، أن نتيقن أنها لا تمت إلى التاريخ بصلة. فالموت هو ختم نهاية التاريخ لكل إنسان, وليس من بعد الموت تاريخ لإنسان قط. فأن يقوم المسيح من الموت حياً بجسده، وبجروحه القاتلة وطعنة جنبه النافذة، يتكلم ويُحيي، ويكشف جروحه في يديه ورجليه وجنبه، ويأخذ يد توما ويضعها في مكان الحربة, فهنا حديث ما فوق التاريخ، وأحاسيس خاصة بجسد القيامة، ولغة الحياة الجديدة التي دخلت عالم الإنسان.
‏إذأ، يتحتم على الإنسان الذي يريد أن يؤمن بالقيامة أن يبدأ يتعلم علم ما بعد الموت, وكلام ما فوق التاريخ، وحديث ما يخص الحياة الجديدة للانسان. وليس معقولاً قط أن يُفسح المجال هنا لناقد يقيس بقياساته العتيقة ما يخص الحياة الجديدة.
‏كذلك على قارىء القيامة في الإنسانجيل الأربعة أن يستعد ليسمع متفرقات موقعة بغاية الصعوبة على التاريخ من الذين عاينوا وسمعوا وشهدوا، كل على قدر ما اتسع وعيه لإدراك هذا الحدث الجلل الفائق الإدراك الذي لا يمت للطبيعة البشرية بأية صلة. والقارىء إن وعى ذلك تماماً، وعى القيامة وهتف مع الكنيسة الأولى: السيح قام، بالحقيقة قام!
2- ولكي نمهد للوعي المسيحي أن يدرك «القيامة»، يلزم بالأساس أن نضع في الاعتبار اننا في تعاملنا مع المسيح فنحن نواجه «الله ظهر في الجسد» (1تى16:3). فمعجزة المسيح العظمى هي الموت وليست القيامة، لأن السيح هو القيامة والحياة، وهو ابن الله المتعالي جداً عن مفهوم الموت، وحتى بعد تجسده لم يكن فيه خطية واحدة. ومعروف أن الموت هو عقوبة الخطية، فكيف يموت من هو القيامة والحياة، ومن هو المتعالي عن الموت، ومن هو بلا خطية قط؟ فكون المسيح يقبل أن يدخله الموت، فهذه هي معجزة الفداء, وقد استلزم منه أن يقبل الخطية، بمعنى أن يُحسب متعدياً حقيقياً ليتسنى للموت أن يدخله كعقوبة! دفع ثمنها بالفعل ومات وقُبر. ولكنه دفع ثمنها ليس عن نفسه بل من أجل الإنسان ليعفي الإنسان من الموت كعقوبة التعدي أو الخطية.
‏الموت دخل إلى المسيح، فمات المسيح حقاً، وقُبر، وبقي ميتاً من الثالثة بعد ظهر الجمعة إلى فجر الأحد ما يقرب من 36 ساعة. ولكن لم يستطع الموت أن يتعامل مع جسد المسيح أكثر من انفصال النفس عن الجسد، بمعنى أنه لم يقرب الفساد خلية واحدة من الجسد: «لا تدع قدوسك يرى فساداً» (أع27:2‏), لأن الجسد كان في حراسة روح الحياة باستعداد القيامة. لذلك, فالمسيح مات ليقوم, ويقوم بذات الجسد في ملء كماله وجروحه عليه, وعلامات الموت صارت برهان وصدق القيامة. والقيامة صارت برهان وصدق التجسد «عن ابنه الذي صار من نسل داود من جهة الجسد، وتعين ابن الله بقوة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات.» (رو3:1-4)

‏صفحة المجد فى تاريخ الإنسان

انفتاح سفر الحياة الأبدية
بقيامة المسيح من الأموات وجراحه عليه

القديس يوحنا يكتب عن قصة القيامة التي عاصرها في أيامه، لكنيسة تعيش القيامة بالفعل على مدى ستين سنة سالفة، وعلى دراية بتاريخ حوادثها من واقع ثلاثة أناجيل.
‏لذلك, لا نتوقع من القديس يوحنا تدقيقات في السرد التاريخي. ولكنه يطرق المواقف البارزة التي رسخت في قلبه وذهنه، والتي فرضت عليه الإيمان بالقيامة فرضا، عن اقتناع جارف بدد الحزن المريع الذي خلفته حوادث الصلب، وأطاح بشعور الشك والخوف. لذلك جاءت تقاريره عن القيامة كرد حاسم للموت على الصليب بعذاباته.
‏وكما هبطت حواد‏ث الآلام والموت في تصويراته لحوادث الصلب إلى مستوى العدم واليأس والتشتت والبؤس معاً للتلاميذ، ارتفعت تصويراته للقيامة في المقابل إلى مستوى الإيمان الكامل واليقين والتجمع والفرح لنفس التلاميذ. وهذا الانقلاب الجذري السريع في حياة التلاميذ، هو بحد ذاته برهان حاسم لصدق القيامة وقوة فاعليتها.

‏محتويات الأصحاح العشرين:

المنظر الأول عند القبر (18:1‏)
1- رؤية القبر مفتوحاً
‏( أ ) المجدلية في فجر الأحد تذهب إلى القبر، وتجده مفتوحاً، فتخبر التلاميذ. (1:20-2)
‏( ب ) بطرس والتلميذ الأخر يركضان نحو القبر، ويجدان الأكفان واللفائف موضوعة بحرص. فيتعجب الأول ويؤمن الثاني (3:20-10) .
2 – المسيح يظهر للمجدلية:
‏( أ ) المجدلية تنظر داخل القبر، فتجد الملائكة. (11:20-13)
‏( ب ) المسيح يظهر للمجدلية بجوار القبر، فتخطىء معرفته، ويلفت نظرها بأن يدعوها باسمها. والمجدلية تبشر التلاميذ أنها رأت الرب. (14:20-18)

‏المنظر الثاني: في العلية والتلاميذ مجتمعون.
1- فى مساء الأحد المسيح يظهر للتلاميذى ويحييهم، والتلاييذ يفرحون برؤية الرب. ثم يفتتح سفر الارساليات فى العالم. ويؤازرهم بنفخة الروح القدس وسلطان مفغرة الخطايا. (19:20-23)
2 – المسيح يظهر خصيصا للأحد عشر من أجل توما في العلية.
‏( أ ) توما كان غائباً عن الاجتماع الاول، ويرفض تصديق القيامة، ويرفض شهادة إخوته التلاميذ (24:20-25)
‏(ب) في الأحد الثاني الثانى (اليوم الثامن من القيامة)، المسيح يظهر للتلاميذ المجتمعين ومعهم توما، والمسيح يدعو توما أن يرى ويتحسس جروحه. توما يعلن المسيح رباً وإلهاً. والمسيح يطوب الذين آمنوا ولو يروا. (26:20-29)

المنظر الأول: عند القبر (1:20-18)

1 – رؤية القبر مفتوحاً فارغاً : (1:20-10).

‏( أ ) المجدلية في فجر الأحد تذهب إلى القبر، فتجده مفتوحاً، فتخبر التلاميذ: (1:20-2).
20 :1 وَفِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ جَاءَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ إِلَى الْقَبْرِ بَاكِراً وَالظّلاَمُ بَاقٍ. فَنَظَرَتِ الْحَجَرَ مَرْفُوعاً عَنِ الْقَبْرِ.

‏«أنا أحب الذين يحبونني،
والذين يبكرون إلي يجدونني»
( أم17:8)

«وفي أول الأسبوع»: وترجمتها الحرفية: وفي «الأول للسبت»، لأن السبت محسوب أنه تاج الأيام في التعبيرات العبرية، لذلك فكل أيام الأسبوع تُحسب من بعده، أي الأول للسبت يعني (الأحد)، الثاني للسبت يعني (الاثنين). وهكذا. فالسبت يحمل في طياته كل الأسبوع، حتى إن كلمة »السبت» قد تأتي بمعنى الأسبوع كله, ففي قول الفريسي المتفاخر بتقواه: «أصوم مرتين في الأسبوع» (لو18:12) تأتي كلمة «السبت» بمعنى الأسبوع كله، لأنه يحتويه بكرامته.
‏وقد صار هذا الاصطلاح «أول الأسبوع» أي «الأحد» هو اليوم الذي كرمته القيامة فوق السبت وكل أيام الأسبوع. ويسميه الآباء القديسون اليوم «الثامن» أي يوم ما بعد الأسبوع, أي يوم ما فوق الزمان بالحساب الإنساني. لأنه يوم الرب.
‏وهذا التعبير يأتي موازياُ لليوم الأول في الخليقة, الذي سُمى «الأسبوع» أي السبعة ايام للخليقة كلها من خلفه, أي بعده وقياساً عليه. ففي اليوم الاول قبل أن توجد الايام الأخرى بدأ الله الخلقة الاولى مبتدئاً: «ليكن نور» (تك3:1‏). هكذا في «أول» الأسبوع «الأحد» قام المسيح من الموت ليبدأ الخليقة الجديدة: «أنا هو نور العالم (الجديد)».
‏«باكر والظلام باقي»: لم يهدأ لها بال ولم يغمض لها جفن. لقد أعدت الحنوط مع الزميلات المريمات بعد أن انقضى السبت, ثم باتت تنتظر الفجر، أسرعت أكثر من الباقيات, وكانت أول من ولج باب أورشليم الذي يطل على الجلجثة … كان أملها الوحيد أن تطيب جسد من أسدى إليها الشفاء والمحبة, وما كانت تظن أنها ستسمع اسمها من فمه مرة أخرى، وتراه حياً بل وأكثر حياة. والذي يذوق محبة المسيح يستعذب سهر الليالى, والإسراع إليه والظلام باق. ولكن فوق كل شيء, يا لشجاعة تلك المرأة العجيبة!
‏أين التلاميذ؟ أين بطرس والزمرة كلها؟ ألا يتراءى أحد عند القبر باكرأ إلا هذه المرأة؟ وهل للنساء السير في الظلام, واقتحام المخاطر، والتواجد عند القبر خارج أسوار المدينة؟ منذ أن صُلب الرب، والتلاميذ يلوذون بالصمت، وهم مشلولو الحركة, والخوف يعصف بهم من كل جانب. ولكن هذه النكسة التي تكشف عن فداحة عثرة الصليب، هي هي عينها التي تضاف إلى مجد القيامة «وقوتها»، التي استطاعت أن تغير مثل هذه الرعدة والجبانة إلى قمة الشجاعة والمجاهرة وفصاحة البشارة ، التي هدت أركان أعتى إمبراطورية ظهرت في التاريخ، ومعها سرطان الوثنية التي كانت تنخر في جسم البشرية كلها.
‏إذا جمعنا ما يقوله القديس مرقس على ما يقوله القديس يوحنا فيما يخص ذهاب النسوة إلى القبر، تبرز الحقيقة؛ يقول القديس مرقس: «وباكراً جداً في أول الأسبوع أتين إلى القبر، إذ طلعت الشمس.» (مر2:16)
‏واضح من رواية القديس مرقس، أن مريم المجدلية ومريم أم يعقوب وسالومة (أم القديس يوحنا) قمن من بيوتهن «باكراً جداً, والظلام باق» كقول القديس يوحنا. ولكن مريم المجدلية سبقتهن مسرعة إلى القبر، فوصلته سريعا قبل أن ينقشع الظلام تماماً، فتسجلت شهادتها أولاً وبمفردها في إنجيل القديس يوحنا، أما أم يعقوب وسالومة فوصلتا ببطء وكانت الشمس قد طلعت. وهكذا تبدو المجدلية الاولى دائماً بين التقيات.
«فنظرت الحجر مرفوعاً عن القبر»:
القديس يوحنا يتميز با ستخدامه الاصطلاح «مرفوعاً» بالنسبة للحجر الموضوع على فوهة القبر، تماما كما وصف فتحة القبر والحجر عليها في قصة لعازر: «وجاء إلى القبر، وكان مغارة، وقد وُضع عليه حجر، قال يسوع ارفعوا الحجر» (يو38:11-39‏). وهذا يوحي أن الحجر الموضوع على فوهة القبر يكون مستديراً، ساقطاً في مجرى محفور له، يلزم إما رفعه، أو دحرجته، حسب الإنسانجيل الأخرى.
‏والحجر عادة يكون ثقيلاً ويلزم أكثر من رجل لدحرجته أو رفعه من مكانه، «من يدحرج لنا الحجر عن باب القبر … لأنه كان عظيماً جداً.» (مر3:16-4)

2:20 فَرَكَضَتْ وَجَاءَتْ إِلَى سِمْعَانَ بُطْرُسَ وَإِلَى التِّلْمِيذِ الآخَرِ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ وَقَالَتْ لَهُمَا: «أَخَذُوا السَّيِّدَ مِنَ الْقَبْرِ وَلَسْنَا نَعْلَمُ أَيْنَ وَضَعُوهُ».

‏جاءت إلى القبر مسرعة كأول زائر، وخرجت مسرعة كأول بشير، كانت السرعة إلى مستوى الركض تكشف عن مقدار اللهفة وشدة التأثر. ذهبت أولاً لبطرس، ومن هذا نستدل على أن مركز القديس بطرس لم يهتز بالرغم من السقطة التي وقع فيها قبل صياح الديك منذ 40 ساعة لا غير. وتكرار القول عن ذهاب المجدلية «إلى» سمعان بطرس، و«إلى» التلميذ الآخر يكشف عن أنهما كانا يقطنان كل واحد في بيت بعيداً عن الآخر. وكونها تختار هذين الاثنين من بين التلاميذ، يكشف عن التساوي في المركز الأول بين القديسين بطرس ويوحنا, ولكن من شهادة القديس مرقس الأنجيلي، يبدو أن تعيين اسم «بطرس» كان بواسطة ملاك (مر7:16).
«أخذوا السيد من القبر، ولسنا نعلم أين وضعوه»: هذا التقرير يكشف عن أن المجدلية، إما اكتفت برؤيتها الحجر مرفوعاً عن فم القبر كدلالة على أن الجسد رُفع أيضاً من القبر، سواء بيد اليهود، أو بيد آخرين ليضعوه في المكان الأليق؛ وإما أنها تحققت وهي عند القبر أن الجسد فعلاً كان مرفوعاً وغير موجود. والاحتمال الأول هو الأكثر توقعاً.
‏وقولها «لسنا نعلم» بالجمع، يفيد أن آخرين يشاركونها هذا التقرير، فربما أن النسوة كن قد حضرن أيضاً وشاركنها فى اكتشاف الحجر مرفوعاً.
‏و يا له من تعبير غاية في الوقار: «أخذوا السيد»، أي الرب, وهو ينم عن احساس عميق بأن المسيح لا يزال, بعد مأساة الصلب والإهانة والموت والدفن, هو السيد الأكرم والمتعالى, انها المحبة الصادقة, هي التي تصور للعين والقلب كل ما هو عظيم ومجيد لمن تحبه النفس؛ والقول الشائع هنا صحيح: «‏وعين الحب (الرضى)، عن كل عيب كليلة».
‏ولكن إذا عدنا إلى شهادة بقية النسوة وبقية شهادة المجدلية، ننتهي إلى حقيقة راسخة مرئية رؤى العين، لخصها القديس لوقا عن لسان تلميذى عمواس في إنجيله في آية واحدة: «بل بعض النساء منا حيرننا، إذ كن باكراً عند القبر. ولما لم يجدن جسده، أتين قائلات إنهن رأين منظر ملائكة قالوا إنه حي» (لو22:24-23)؛ … ثم يكمل شهادة النسوة بشهادة بعض التلاميذ قائلاً: «ومضى قوم من الذين معنا (يقصد بطرس ويوحنا)، إلى القبر، فوجدوا هكذا كما قالت أيضاً النساء، وأما هو فلم يروه.» (لو24:24)
‏ويلاحظ القارىء في آخر الآية القول: «وأما هو فلم يروه» الذي يفيد أن النسوة رأينه كما قرر القديس متى: «وفيما هما منطلقتان (مريم المجدلية ومريم الأخرى) لتخبرا تلاميذه، إذا يسوع لاقاهما وقال سلام لكما. فتقدمتا وأمسكتا بقدميه وسجدتا له.» (مت9:28 ‏)
‏لذلك ينبغي لنا أن نفحص جيداً، وبتمعن، في تقرير المجدلية الذي قدمه إنجيل يوحنا باختصار زائد: «أخذوا السيد من القبر، ولسنا نعلم أين وضعوه»، إذ نلاحظ أنها لم تكن تبكي، بل قدمت تقريرها بعد أن قطعت المسافة كلها ركضا. إذن, فهي كانت مفعمة بمشاعر صاحية يحدوها نوع من الأمل، فلما فقدته عادت إلى القبر الفارغ تبكي.
‏ثم لينتبه القارىء لحركتين تحملان معهما إحساسأ قوياً بأن شيئاً هاما وخطيرا قد حدث، ركض المجدلية لتخبر بطرس ويوحنا، ثم ركض بطرس ويوحنا بالتالي لاستطلاع الأمر، ثم ركض يوحنا بالذات ركضا فائقا ليسبق. هذا الركض اللاهث المتلهف لمعرفة ما حدث، يحمل معنى الأمل الذي كان شبه نائم في أعماق وجدانهم جميعا: هل قام الرب؟ وأين هو؟ القبر الفارغ وحده, أي عدم وجود الجسد لم يقنع المجدلية، ولم يقنع بطرس كدليل على قيامة الرب، إنهم كانوا يبحثون عن دليل آخر للقيامة. فالمجدلية تعلق على ما بعد القبر الفارغ: «أين وضعوه»، إنها تبحث عما سيب الفراغ للقبر. أما بطرس، فبعد أن نظر القبر الفارغ, وحتى الأكفان نفسها موضوعة وحدها, لم يفهم شيئاً، فالقيامة عنده كانت تحتاج إلى دليل أخر: «فقام بطرس وركض إلى القبر، فانحنى، ونظر الأكفان موضوعة وحدها، فمضى متعجبا في نفسه مما كان.» (لو12:24)
‏إذاً، نفهم من هذا جيداً، أن القبر الفارغ وحده وحتى الأكفان التي وُجدت كما هي ملفوفة بلفتها، والجسد منسحب منها، ومنديل الرأس في موضع الرأس وليس بداخله الرأس، لم تكن كافية لتكون العامل الأساسي للايمان بالقيامة, إذا استثنينا إيمان القديس يوحنا، وهو الوحيد الذي رأى القبر فارغاً والأكفان وحدها «فأمن».
أي أن القيامة استعلنت من خلال ظهور الرب نفسه. ولمن ظهر أولاً وكان أكثر ظهوراً؟ إلا لمن كانت المحبة تتأجج في قلبها تأججاً: «الذي يحبني … أحبه وأظهر له ذاتي.» (21:14)
‏أما «إيمان» القديس يوحنا بالقيامة مباشرة قبل أن يظهر له المسيح شخصياً، كالمجدلية، فهو نموذج الإيمان الأعلى غير القائم على العيان (النقيض الشديد لإيمان توما). وايمان القديس يوحنا هو الذي استلمته الكنيسة كلها كميراث رسول فائق القدر، وعليه نحن نعيش الآن: «الذي وان لم تروه تحبونه, ذلك وإن كنتم لا ترونه الآن، لكن تؤمنون, فتبتهجون بفرح لا يُنطق به، ومجيد» (1بط8:1)؛ «طوبى للذين آمنوا ولم يروا.» (يو29:2)

(ب) بطرس والتلميذ الآخر يركضان نحو القبر, ويجدان الأكفان واللفائف موضوعة بحرص, فيتعجب الأول, ويؤمن الثاني. (3:20-10)

20:3 فَخَرَجَ بُطْرُسُ وَالتِّلْمِيذُ الآخَرُ وَأَتَيَا إِلَى الْقَبْرِ
‏التعبير يوحي بأن كل منهما خرج من بيته في طريقه إلى القبر، فتلاقيا في الطريق، وتابعا الركض معاً نحو القبر. هنا في هذا الموضع، يكشف لنا القديس لوقا في إنجيله عن كيف استقبل التلاميذ عمومأ رسالة المجدلية بفتور ممزوج بعدم التصديق، والتقليل من انفعال المجدلية ومن معها إلى درجة الإتهام بالهذيان: «… اللواتي قلن هذا للرسل، فتراءى كلامهن لهم كالهذيان، ولم يصدقوهن.» (لو10:24-11)
‏ولكن يخص إنجيل القديس لوقا بطرس من دون التلاميذ بمراجعة موقفه بسرعة، وقيامه وذهابه للقبر راكضاً، كما جاء في إنجيل القديس يوحنا: «فقام بطرس وركض إلى القبر» (لو12:24). ولكن في موضع آخر من رواية القديس لوقا وحينما يروي بشارة النسوة على لسان تلميذي عمواس، نستشف أن بطرس لم يذهب وحده إلى القبر هكذا: «بل بعض النساء منا حيرتنا، إذ كن باكراً عند القبر ولما لم يجدن جسده، أتين قائلات: إنهن رأين منظر ملائكة قالوا إنه حي. ومضى قوم من الذين معنا إلى القبر، فوجدوا هكذا، كما قالت أيضاً النساء، وأما هو فلم يروه.» (لو22:24-24)

4:20 وَكَانَ الاِثْنَانِ يَرْكُضَانِ مَعاً. فَسَبَقَ التِّلْمِيذُ الآخَرُ بُطْرُسَ وَجَاءَ أَوَّلاً إِلَى الْقَبْرِ.

عن قصد واصرار وللفت نظر القارىء، يسجل القديس يوحنا لنفسه هذا السيق، ومخطىء من يقول بعامل السن، أن هذا شاب وذاك متقدم في السن، فالآيات القادمة تخطىء مثل هذا الزعم, لأن السرعة في الجري لو كانت من رعونة الشباب، ما تأخر يوحنا عامداً ولم يدخل القبر، إذ ترك هذا السبق لبطرس توقيرا واحتراماً للسن.
‏إذاً فالسبب واحد ووحيد هو أن يوحنا هو: «التلميذ الذي يحبه يسوع». وهذا قصد القديس يوحنا أن يوحي به للقارىء ليفهمه. فمحبة المسيح له جعلت له أجنحة يطير بها أكثر من أن يجري, هذا لم ينسه القديس يوحنا قط، فقد كان يومأ فريداً وساعة فريدة في حياته. وليفهم القارىء أن القديس يوحنا أخفى اسمه واستبدله بـ «التلميذ الذي يحبه يسوع»‏، وعلى مستوى إنجيله كله يبرهن على صدق دعواه. وهنا, فأن يسبق يوحنا بطرس فهذه مسألة تعبر عما تفعله المحبة. فالذي يريد أن يجري إلى المسيح ويسبق، تلزمه قوة المحبة. أما لماذا يصر القديس يوحنا أن يسجل لنفسه هذا التفوق على بطرس, فهو لكي يوحي للقارىء أيضاً تلميحا لماذا اختاره المسيح ليسلمه أمه، وليس بطرس.

5:20 وَانْحَنَى فَنَظَرَ الأَكْفَانَ مَوْضُوعَةً وَلَكِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ.

‏كان المكان الذي يوضع فيه الجسد في غرفة منخفضة نوعاً ما عن الغرفة الخارجية للقبر حيث كانت تجتمع النسوة للتحنيط والبكاء؛ فكان على الواقف خارج غرفة الجسد أن ينحني على فتحة الباب لينظر ما بداخل غرفة الدفن حيث الجسد يكون مسجى على مصطبة.
‏أما كون يوحنا لم يدخل، فهذا قطعاً ليس لعامل الخوف أو الرهبة أوالنجاسة من لمس القبر, كما يقول بعض الشراح؛ ولكن لأن بطرس كان قد وصل، فأعطاه الفرصة ليكتشف الأمر أولاً. والذي يوضح ذلك، أن فعل «نظر» ‏الذي استخدمه القديس يوحنا في تعبيره عن استطلاعه لما في داخل القبر جاء باليونانية ( )‏، ويفيد النظرة العابرة البسيطة من بعد. أما الفعل الذي استخدمه لاستطلاع بطرس لما دخل القبر فهو ( )‏، ويفيد التطلع مع التأمل الفاحص عن قرب. وما نشأ عن اختلاف النظرتين: البسيطة والمتعمقة، أن بطرس استطاع أن يرى منديل الرأس الذي كان داخلا على بعد, أما يوحنا فلميتره.
‏وكل هذه الدقة في وصف القديس يوحنا لحاد‏ث د‏خولهما القبر، كانت بسبب انطباع هذه ‏الحوادث بشدة في ذهن القديس يوحنا وهو يصفها من واقع حضورها في ذهنه، الذي لم يفارقه أكثر من ستين سنة!!
‏وليلاحظ القارىء أن الفكر الذي كان طاغياً على كل من بطرس ويوحنا، والذي دعاهما إلى الجري ودخول القبر والفحص, كان بسبب رواية المجدلية أن: «السيد أخذوه». فكان السؤال الذي يفتشون عن جواب له هو: هل الجسد قد أُخذ من القبر فعلاً؟ وكيف؟ ومن هم الذين تجرأوا على ذلك؟
‏ولعل رواية القديس. يوحنا هذه، وكيف ابتدأ بخبر: «أخذوا السيد، ولسنا نعلم أين وضعوه»، بالرغم من أنها جاءت معطلة للتفكير في القيامة، فقصد الروح القدس والوحي منها كان هو فحص القيامة فحصاً متأنياً؛ لا يبدأ من الصفر فقط بل ومن تحت الصفر. فهذا الخبر السلبي: «أخذوا السيد، ولسنا نعلم أين وضعوه»، هو فرض تكذيب القيامة، من هذا المستوى بدأ القديسان بطرس ويوحنا معاً يفحصان موضوع القيامة حتى انتهى بهما الأمر إلى يقين الظهور الإلهي.

6:20 ثُمَّ جَاءَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ يَتْبَعُهُ وَدَخَلَ الْقَبْرَ وَنَظَرَ الأَكْفَانَ مَوْضُوعَةً.

‏كان دخول بطرس سريعاً جريئاً تحمله اللهفة لمعرفة كيف «سُرق» الجسد، ولكن بدخوله داخل غرفة الدفن, وهي مظلمة بطبيعة الحال, استلزم منه نظرة فاحصة متأملة؛ فأخذ يجول ببصره وبكل انتباه واعمال التفكير والذكاء والملاحظة، فللحال اصطدم بالحقيقة شبه العظمى أن اللفائف التي كُفن بها الجسد هي هى، وموضوعة في مكانها. إذاً فالجسد لم يُسرق؛ هذه هي الحقيقة الأولى التي كانت تهم الراوي في روايته، لتفتح مجرى القيامة قبل استعلانها بظهور المسيح قائماً من الموت. وهنا نفى كل تفكير في أي شيء غير القيامة.
‏وكلمة «اللفائف موضوعة»، وبعد ذلك في الآية القادمة: «والمنديل … ملفوفاً في موضع وحده»، هو وصف يختص بنفي إمكانية السرقة نفياً قاطعاً، لأن اللفائف كانت بحسب كلمة «موضوعة»، والمنديل بحسب كلمة «ملفوفاً في موضع وحده»، وليس مع اللفائف بل «ملفوفاً وحده»، هذا الوضع في جملته يصور الجسد كيف كان راقداً مسجى، ثم انسحب من داخل اللفائف دون أن يفقدها نظامها التي كانت ملفوفة به حول الجسد. هذا المنظر، بحد ذاته، يذهل العقل الذي عبر عنه في إنجيل القديس لوقا: «فمضى متعجبا في نفسه مما كان».

7:20 وَالْمِنْدِيلَ الَّذِي كَانَ عَلَى رَأْسِهِ لَيْسَ مَوْضُوعاً مَعَ الأَكْفَانِ بَلْ مَلْفُوفاً فِي مَوْضِعٍ وَحْدَهُ.

‏كان وضع المنديل مكملاً لشكل الجسد كما كان مسجى سابقاً؛ فهو لم يفك من حول الرأس ليُرفع مع اللفائف, ولا اللفائف فُكت من مكانها ومن لفتها حول الجسد. كان المنظر ينطق نطقا بأن الجسد غادر الكفن … لقد طرح أردية الموت لبني الموت، ليلبس النور كالثوب (مز2:104)، وخلع أثواب الجسد ليلبس الجلال (مز1:93). لم تفكه يد بشر, ولا يد سارق، بل انفك هو من الكفن، كما دخل العلية والأبواب مغلقة!! ألم يقل سابقاً: «أنتم من أسفل أما أنا فمن فوق» (يو23:8)!!
‏لقد وقف تفكير بطرس عند حد استحالة سرقة الجسد, بدليل الأكفان الموضوعة في مكانها, ولكن لم يتقدم إلى فكر القيامة الذي يحتم الإعتقاد بالحياة التي لا تخضع لقوانين هذه الحياة. وبهذا انحصر في لغز يصعب حلة.

8:20 فَحِينَئِذٍ دَخَلَ أَيْضاً التِّلْمِيذُ الآخَرُ الَّذِي جَاءَ أَوَّلاً إِلَى الْقَبْرِ وَرَأَى فَآمَنَ.

‏رأى يوحنا ما رأى بطرس، اللفائف الموضوعة والمنديل بعيدا عنها موضوعاً بحرص وحده، وكل شيء في ترتيب ونسق طبيعي، ولا علامة لأي يد تدخلت في خروج الجسد من الكفن. ولكن الصمت عند بطرس والتعجب مما كان، ارتفع عند يوحنا إلى حد «الإيمان» ولكن ليس بالقيامة، وإلا لكان الأنجيل قد ذكر ذلك بوضوح، ولكن «الإيمان» كان بأن شيئاً قد تم!! وإن نور فجر هذا الايمان العريض بالمسيح كان يحوى فيه بصيص تكميل وعد المسيح. ولكن إلى هنا توقف الإيمان عند يوحنا بانتظار استعلان أكثر. على كل حال, لم يكن غبيا كتلميذي عمواس، أو بطيء الايمان بالقلب، فقد تسحبت عليه أنوار القيامة، ولكن من بعد. القديس يوحنا يقدم اختباره للايمان دون أن يرى؛ هو إيمان، ولكن لا يجزم القديس يوحنا أنه إيمان مباشر بالقيامة، بل كان ممهدا لها بكل تأكيد. القديس يوحنا نعرفه بعد ذلك في حادثة صيد السمك بعد القيامة، كيف عرف الرب تلقائياً دون الأخرين، «إنه الرب». هو حدس إلهامي أكثر منه تحقيق رؤيا أو إدراك نظر.

9:20 لأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا بَعْدُ يَعْرِفُونَ الْكِتَابَ: أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَقُومَ مِنَ الأَمْوَاتِ.

‏ها يقدم القديس يوحنا حقيقة جوهرية، وهي أن الأسفار المقدسة بالرغم من النبوات المرشدة والهادية إلى حقيقة المسيح لم تكن هي القائد للتلاميذ للتعرف على القيامة، بل الحوادث المتتابعة هي التي ألمعت في ذهنهم، وأعطت للأسفار المقدسة فرصة لفرض ذاتها: الحجر المرفوع من على القبر، القبر الفارغ، بشارة المجدلية والنسوة، الأكفان الموضوعة بمفردها وبنظام؛ هذا كله في الحقيقة يوضح لنا بأجلى بيان أن التلاميذ لم يكونوا قط مستعدين لتقبل القيامة، ولم يكن في ذهنهم أي تمهيد من واقع الأسفار المقدسة، مما يفيد أن القيامة كحدث فائق اقتحمت مجالهم الفكري اقتحاماً، وفرضت ذاتها عليهم كموضوع إيمان.
‏والقديس يوحنا كان دقيقأ وواضحاً وصريحاً في ذكر ضعف إيمان التلاميذ وتباطؤ ذهنهم في قبول هذه الحقيقة: «لم يكونوا بعد يعرفون الكتاب أنه ينبغي أن يقوم من الأموات». وهذا بدوره يوضح لنا منتهى صدق القيامة بحد ذاتها، فهي حدث إلهي دخل إلى عالم التلاميذ عنوة، وبدون تمهيد، ولا باستعداد سابق. كما كشف لنا هذا التباطؤ الشديد أن كل الشهود، شهود العيان بدون إيمان، صمتوا جميعا. ولكن، للأسف الشديد، فإن صراحة الأنجيل في سرد نقط ضعف إيمان التلاميذ وبطء قبولهم لحقيقة الإيمان، اتحذه بعض النقاد والهراطقة والمقاومين للايمان المسيحي كمحاولة لمهاجة القيامة ونفي حدوثها. وهكذا يتبين للقارىء، كيف أن نقط القوة في استعلان الحق الإلهي تتحول عند المحرومين من نور النعمة إلى نقط ضعف، وأن أسباب الإيمان الشديدة الصدق تصير عند الفاقدين للبصيرة الروحية، أسباب هزء وتجديف ومقاومة.
«يعرفون الكتاب»: القديس يوحنا هنا لا يشير إلى مجمل الأسفار، بل إلى كتاب واحد بالذات، وغالباً يقصد المزمور السادس عشر، وهو الذي استشهد به القديس بطرس الرسول بعد الخمسين: «لذلك فرح قلبي وابتهجت روحي. جسدي أيضاً يسكن مطمئناً. لأنك لن تترك نفسي في الهاوية. لن تدع قدوسك يرى فساداً.» (مز9:16-10)
‏ويعلق بطرس الرسول في سفر الأعمال على هذا النص، موضحاً بشدة أنه نص نبوة القيامة بالدرجة الاول هكذا: «أيها الرجال الإخوة يسوغ أن يُقال لكم جهاراً عن رئيس الآباء داود, إنه مات، ودُفن, وقبره عندنا حتى هذا اليوم، فإذ كان نبياً وعلم أن الله حلف له بقسم أنه من ثمرة صلبه يقيم المسيح حسب الجسد، ليجلس على كرسيه، سبق فرأى وتكلم عن قيامة المسيح, أنه لم تترك نفسه في الهاوية, ولا رأى جسده فساداً. فيسوع هذا، أقامه الله، ونحن جميعاً شهود لذلك (29:2-32)

10:20 فَمَضَى التِّلْمِيذَانِ أَيْضاً إِلَى مَوْضِعِهِمَا.

‏واضح أن لكل منهما موضعه، أو خاصته, كما جاءت فى اليوناية. يوحنا إلى بيته الخاص مع القديسة العذراء مريم، والقديس بطرس في العلية مع التلاميذ في بيت يوحنا مرقس. و يعطينا القديس مرقس صورة حزينة يخيم عليها اليأس لهؤلاء التلاميذ المجتعين في العلية مع كل الذين من خاصتهم هكذا: «‏فذهبت هذه، وأخبرت الذين كانوا معه (مع يسوع)، وهم ينوحون ويبكون.» (مر10:16)
‏هذا هو منظر التلاميذ قبل القيامة. وحتى بعد أن رأوا الحجر مدحرجا والقبر فارغاً واللفائف موضوعة في مكانها، ذهبوا إلى مواضعهم صامتين, وحتى المحبوبة بقيت عند القبر الفارغ تبكي

 

2- المسيح يظهر للمجدلية: (11:20-18).


‏( أ ) المجدلية تنظر داخل القبر فتجد الملائكة: (11:20-13).

11:20 أَمَّا مَرْيَمُ فَكَانَتْ وَاقِفَةً عِنْدَ الْقَبْرِ خَارِجاً تَبْكِي. وَفِيمَا هِيَ تَبْكِي انْحَنَتْ إِلَى الْقَبْرِ.

‏الإناجيل الثلاثة تتفق في ذكر زيارة واحدة لمريم المجدلية إلى القبر، والقديس يوحنا هو الذى ينفرد بذكر الزيارة الاولى التي تمت باكراً جداً، ثم يذكر الزيارة الثانية ببيانات أوفى؛ والقصد هو توضيح تدرج استعلان القيامة خطوة خطوة، بكل دقة.
‏وهذا التدرج نلاحظه أيضاً في سياق الرواية هكذا:
1- المجدلية ترى الحجر مرفوعأ والقبر فارغاُ، فتقول: «أخذوا السيد».
2- يوحنا يرى أولاً الأكفان موضوعة ولم يدخل.
3- بطرس يرى اللفائف وحدها ومنديل الرأس وحده, فيتقدم خطوة أن الجسد لم يُؤخذ.
4- يوحنا يرى أيضاُ كل هذا، فيؤمن.
‏كذلك نرى التدرج الذي يعتني القديس يوحنا بتسجيله للقيامة في استخدامه ثلا ثة أفعال مختلفة لفعل «يرى»، بالنسبة ليوحنا أولاً, ثم بطرس ثانياً, ثم يوحنا ثالثاً:
1- فيوحنا أولاً نظر الأكفان موضوعة, نظرة بسيطة عابرة.
2- بطرس ثانياُ نظر الأكفان والمنديل، نظرة تأملية فاحصة.
3- ويوحنا ثالثاً رأى فآمن، وهي نظرة تصديق وإيمان.
واضح أن المجدلية بعد أن أخبرت بطرس ويوحنا, تبعتهم هي أيضاً إلى القبر، وربما تركض أيضاً، إذ لما خرج التلميذان من القبر كانت المجدلية خارجاً. أما التلميذان فخرجا من القبر، وذهبا، كل في طريقه، وكأن القبر لم يعد فيه ما يحل لغز المسيح طالما ليس فيه الجسد. أما المجدلية فتشبثت بالقبر ولم تغادره، وكأنها تطالب القبر أن يحل لغز نفسه, وتستعطفه ببكائها أن رجاءها كان لا يزال منعقدا عليه. ويعبر القديس أغسطينوس عن وقفتها هذه هكذا: (إن ضعف طبيعتها والمشاعر الجياشة في قلبها سمرتها في المرضعا).
‏لم تحاول الدخول إلى غرفة الدفن ولكنها تشجعت وانحنت أيضاً لتنظر هي الأخرى. إنه وحي الروح فيها، وقد اجتذبها نور السماء من داخل القبر.

12:20 فَنَظَرَتْ ملاَكَيْنِ بِثِيَابٍ بِيضٍ جَالِسَيْنِ وَاحِداً عِنْدَ الرَّأْسِ وَالآخَرَ عِنْدَ الرِّجْلَيْنِ حَيْثُ كَانَ جَسَدُ يَسُوعَ مَوْضُوعاً.

«يا جالساً على الكروبيم أشرق… أيقظ جبروتك وهلم لخلاصنا.» (مز1:80-2)
‏هذه أول مرة يذكر فيها القديس يوحنا شيئاً عن ظهور فعلي للملائكة.
‏وضع الملاكين هنا في غاية الأهمية اللاهوتية، لأنه يمثل مطابقة لما نصت عليه التوراة في مكان الحضرة الإلهية من الشاروبيم فوق غطاء التابوت المسمى: «كرسي الرحمة» أو «الغفران»: «فاصنع كروبا واحداً على الطرف من هنا، وكروباً آخر على الطرف من هناك… وأنا أجتمع بك هناك, وأتكلم معك من على الغطاء, من بين الكروبين اللذين على تابوت الشهادة بكل ما أوصيك به.» (خر19:25-22)
‏وهنا وضع الملاكين على طرفي مصطبة القبر حيث كان الجسد موضوعاً، يشير إشارات بليغة إلى مركز الجسد الإلهي المسجى بمفهوم الحضرة الإلهية، وإلى قداسة المكان على المستوى العالي كموضع الحضرة الإلهية؛ كما يشير إلى أن القبر صار بمفهوم تابوت العهد الجديد بلا نزاع, ليى في مكانه ومظهره، لأنه فارغ، ولكن في معناه. فمن القبر استعلنت القيامة التي هي الركن والسند للايمان المسيحي، واستعلن المسيح ابن الله. أما جلوس الملاكين وليس وقوفهما فهو يشير إلى انتهاء نوبتهما في الحراسة، بعد أن قام المسيح وغادر القبر. فمجرد وجودها جالسين عند طرفي القبر هو بمثابة إشارة، أول إشارة, بالقيامة. وبالفعل كان الملاكان, أو الرجلان الإلهيان بحسب إنجيل القديس لوقا, أول من أعلن القيامة: «لماذا تطلبن الحي بين الأموات؟ ليى هو ههنا لكنه قام» (لو5:24-6)
ولكن في إنجيل القديس يوحنا كان عمل الملاكين هو تحديد مكان وضع الجسد، «واحداً عند الرأس والأخر عند الرجلين». وهذا التحديد الملائكي هو بحد ذاته شهادة فائقة ليقين موت الرب ويقين الدفن. إنه ختم تصديق لكل رواية ما بعد الصليب، وبالتالي إشارة صامتة ولكن دامغة أنه قام. لقد كان عمل الملاكين هو استعلان سر القبر وسر القيامة، الأمور التي فاقت قدرة بطرس والآخرين، ثم تحويل البكاء والعويل إلى بشارة وتهليل.
‏وكان ظهور الملاكين في قبر المسيح، كحراس سمائيين، ردا حاسماً دامغاً على القول أنهم أخذوه ولسنا نعلم أين وضعوه، بل تبكيتا وتقريعا مرا على اليهود الذين حاولوا أن يشيعوا هذا الإدعاء.
‏لقد اعتنى القديس يوحنا أن يوضح، بالبرهان السمائي، إلى أي مدى كان الجسد والقبر في حوزة السماء وحراسة جبابرة الأرواح العليا.
وإن وجود الملاكين في قبر المسيح هو مصداق وفاق لقول المسيح ليبلاطس: «مملكتي ليست من هذا العالم» (يو36:18‏). فهوذا الجنود يحرسون جسد رب الجنود. لقد رافقوه في ميلاده (لو13:2)، وفي تجربته (مت11:4)، وفي جثسيماني (لو43:22‏) )، وفي قبره وفي قيامته وفي صعوده (أع10:1)!!.
‏السلام للقبر مهبط الملائكة وبيت النور، الموضع الذي انطلقت منه بشرى الحياة.

 

13:20 فَقَالاَ لَهَا: «يَا امْرَأَةُ لِمَاذَا تَبْكِينَ؟» قَالَتْ لَهُمَا: «إِنَّهُمْ أَخَذُوا سَيِّدِي وَلَسْتُ أَعْلَمُ أَيْنَ وَضَعُوهُ».
‏(لماذا الطيب والنحيب….إن زمن البكاء قد انقضى، لا تبكين، بل بشرن بالقيامة للرسل – الأبصلمودية المقدسة السنوية)
‏«يا امرأة لماذا تبكين؟»: ليس هذا سؤالا بل مراجعة وعتاب. لقد هال الملائكة في يوم ارتفاع الرب بالمجد إلى أعلى السموات, أن يقف البشر في القبر يبكون وينوحون, وعلى أيديهم حنوط للجسد, والجسد قام وصار أعلى العليين!
«أخذوا سيدي»: لا تزال الفكرة الي تسلطت عليها، أنهم «أخذوا الجسد». ولا تزال هي تبحث وتفكر: «أين وضعوه؟». فالحنوط عل كفها وهي تود أن تحنط الجسد مهما كان وبأي ثمن، والبكاء يقطع نياط قلبها، وقد كفت عيناها عن أن ترى قيمة لأية قيمة، حتى للملاكين اللذين يحدثانها! أنا أريد «سيدي» وحسب.
‏عجيب في عينيها وفي مسامعها أن يسألها الملاكان: «لماذا تبكين؟» إنه «سيدي»، أخذوه، كيف لا أبكي؟ إن غيبة المسيح عنها ألغت حضرة الملائكة أمامها؛ بل ألغت الخوف والجزع من كل رهبة، فلم تعد للملائكة مكانة بعد غياب «سيدي»، ولسان حالها بالنسبة للملاكين هو: إن كنتما تعرفان أين وضعوه قولا لي وإلا فلماذا الكلام؟

(ب) المسيح يظهر للمجدلية, فتخطىء معرفته ويلفت نظرها بأن يدعرها باسمها، والمجدلية تبشر التلاميذ أنها رأت الرب. (14:20-18).
14:20 وَلَمَّا قَالَتْ هَذَا الْتَفَتَتْ إِلَى الْوَرَاءِ فَنَظَرَتْ يَسُوعَ وَاقِفاً وَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُ يَسُوعُ.

‏لما احتار الملاكان من بجاحة هذه المرأة وعنادها، استغاثا بالرب فأغاثهما، وظهر خلفها. فلما ظهر، جفل الملاكان وتغيرت جلستهم؛ لمحت المجدلية هذا منهم ورأت أعينهما مسلطة على أمر خطير خلفها, فأدارت وجهها لترى، فكان يسوع، ولكنها لم تعرفه. كانت عيناها مملوءتين بالدموع، بل بالحزن والهموم, ولكن الرب يتراءى بالفرح. فالفرح نور القيامة، وضوئها الذي به نرى الرب والسماء والآب والحياة الأبدية.
«بعد قليل لا يراني العالم أيضاً، وأما أنتم فتروني» (يو19:14)، المجدلية كانت لم تخرج بعد من نطاق العالم، إنها كانت تعيش ماضيها، والماضي غريب دائماً عن الجديد، و«هوذا الكل قد صار جديداً» ‏(2كو17:5)
‏المعمدان كان يعيش قبل أزمنة الجديد «وأنا لم أكن أعرفه» (يو33:1)، فلما جاء زمن الاستعلان, رآه, وعرفه، وسمع صوت, وفرح, وأعلن شهادته؛ والمجدلية لما دخلت زمن الاستعلان عندما ناداها الراعي باسمها, عرفته. فانطلقت للبشارة بأنها «رأت الرب».
‏تماماً كما حدث للتلاميذ بعد انقضاء «ليل» الصيد الفاشل، الذي يمثل النكسة نحو عالم الشقاء, وصيد الطعام البائد، فلما ظهر الرب على الشاطىء لم يعرفوه لأن عم الفشل ونكد السهر الخاسر أفقدهم القدرة على رؤية «الطريق والحق والحياة»؛ إلا يوحنا الذي كان جالساً وسط المركب، يهدس بأفكار الحب، وسط أنين الخسارة واللعنات على ليل ناء عليهم بكلكه، وانجلى دون سكة واحدة يتقاسمونها, فلما وقعت عيناه على الإنسان الواقف على الشاطىء نسي همه وقلبه دله على الحبيب فصرخ: «إنه الرب». فيا لبؤس وشقاء العمل بدون لمسات الحب!

15:20 قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «يَا امْرَأَةُ لِمَاذَا تَبْكِينَ؟ مَنْ تَطْلُبِينَ؟» فَظَنَّتْ تِلْكَ أَنَّهُ الْبُسْتَانِيُّ فَقَالَتْ لَهُ: «يَا سَيِّدُ إِنْ كُنْتَ أَنْتَ قَدْ حَمَلْتَهُ فَقُلْ لِي أَيْنَ وَضَعْتَهُ وَأَنَا آخُذُهُ».

«في الليل على فراشي طلبت من تحبه نفسي، طلبته فما وجدته، إني أقوم وأطوف في المدينة، في الأسواق، وفي الشوارع أطلب من تحبه نفسي، طلبته فما وجدته. وجدني الحرس الطا ئف في المدينة، فقلت: أرأيتم من تحبه نفسي، فما جاوزتهم إلا قليلاُ حتى وجدت من تحبه نفسي فأمسكته ولم أرخه!!! (نش1:3-3)
«يا أمرأة»: كانت هذه أول كلمة نطق بها المسيح بعد القيامة. أعاد المسيح استنكار الملاكين لبكائها في يوم فرح السمائيين, لماذا تبكين؟ المسيح القائم من الموت يتساءل أكثر مما يسأل، من تطلب هذه المرأة؟ أو كيف تطلب الجسد الميت وهو حي؟ هو نفس استنكار الملاكين للنسوة والمجدلية في إنجيل القديس لوقا: «لماذا تطلبن الحي بين الأموات» (لو5:24)، «…اذكرن كيف كلمكن وهو بعد في الجليل، قائلاً: إنه ينبغي أن يسلم ابن الإنسان في أيدي أناس خطاة، ويُصلب، وفي اليوم الثالث يقوم.» (لو6:24-7)
‏يُلاحظ أن المسيح يسأل المجدلية عن «من» تطلب، مع أنها تطلب شيئا (ماذا) وليس «من», هنا محاولة لردها إلى موضوع طبها الذي ينبغي أن يكون شخص المسيح وليس جسده.
المسيح، هنا، يتوسم في المجدلية جلاء البصر!! إنه واقف أمامها، «إنه حي», فينبغي أن تحيا بحياته، فلا تبكي موته ومواتها.
«إنه يراها» فكان عليها أن تفرح، لا أن تبكي، وأن يدوم فرحها!! «ساراكم أيضاً فتفرح قلوبكم.» (يو22:16)
‏إنه يتكلم معها، وقد «سمعت صوته» فيتحتم أن تقوم هي من موتها، لا أن تبكي موته!!
‏إنه قام من القبر، فكان ينبغي أن تكون قد قامت معه، لا أن تعيش في قبره!!
‏ولكن المجدلية تعود تجتر جهالتها، وفي عتمة الرؤيا تظنه البستاني، فتستعطفه أن يدلها على الجسد!! لقد تجاهلت سؤاله، لقد فقدت كل رؤيا لكل ما بعد القبر. إنها فقط تريد أن تحيا باكية على جسد تأخذه لنفسها، لتشبع بؤس حبها بالبكاء والنواح عليه!
‏هكذا الإنسان الذي يفقد رؤيا القيامة والقائم من بين الأموات, إنه يعيش ذكرى أمواته، يرتاح بالنواح عليهم، ويجوس بين مقابرهم, إن لم يكن برجله فبفكره, يندب أيامهم إلى أن تفنى أيامه!
«وأنا آخذه»: في تفجر عواطف حبها رأت في قوتها الكفاءة التي يمكن أن تجعلها تحمله بنفسها لنفسها. وهكذا إن كان الإيمان يقدر أن ينقل الجبال، فالحب قادر أن يحمل الأهوال!

16:20 قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «يَا مَرْيَمُ!» فَالْتَفَتَتْ تِلْكَ وَقَالَتْ لَهُ: «رَبُّونِي» الَّذِي تَفْسِيرُهُ يَا مُعَلِّمُ.

ناداها بالاسم كما نادى لعازر، نبه روحها فاستيقظت من موت حالها, دخل صوت ابن الله (يو25:5‏), إلى أعماق نسفها التائهة في مجاهل القبر، ففك عنها أكفانها، فانفتحت عيناها وأبصرت نور القيامة «ربوني»!!
ناداها باسمها، كراع ينادي خرافة بأسمائها لتعرفه حالاً, وتتبعه. حينما كانت تطلبه في القبر، كانت قد نأت بعيداً عن درب الحظيرة، فناداها من فوق، من عالم النور والقيامة، فعرفته بعض المعرفة، تذكرت فيه صوت نداء المعلم لها، فحسبته أنه لا يزال هو المعلم، في يوم من أيام ‏ابن الإنسان، ولكن هيهات، هذا لا يعود، إنه لم يعد «ربونى» بل رب القيامة، التي باسمها افتتح سجلات الخلود.

17:20 قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «لاَ تَلْمِسِينِي لأَنِّي لَمْ أَصْعَدْ بَعْدُ إِلَى أَبِي. وَلَكِنِ اذْهَبِي إِلَى إِخْوَتِي وَقُولِي لَهُمْ: إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلَهِي وَإِلَهِكُمْ».

‏كان المسيح هو هو بلحمه وعظامه، فحق لها أن يطير صوابها. أرادت أن تُخضع الوهم للحقيقة، لم تطق أن تبقى ناظرة إليه تسمعه, لقد اندفعت نحوه تتشبث به بكل قواها، أرادت أن تطوقه بذراعيها فتقبض عليه قبضأ حتى لا يفلت منها. إنها اكتشفته وحدها، فهو لها وحدها: «أين وضعته وأنا أخذه»، نسيت التلاميذ والناس: «حبيبي لي (وحدي)، وأنا له.» (نش16:2)!!
‏أرادتها مصارعة كمصارعة يعقوب مع الملاك وحتى الفج: «لا أطلقك إن لم تباركي» (تك26:32)، ولما ضجر الملاك من تشبث يعقوب به وهو ماسك بتلابيبه ضربه على حق فخذه حتى يفلت من يديه؛ هذا لم يرده المسيح، لم يشأ أن يلمسها بسوء فاكتفى أن حذرها: «لا تلمسينى.».
‏إن كان «لا إنسان يراني ويعيش» (خر20:33)، فكيف لهذه أن تعانقه؟
‏توما لما لمس حقيقته صرخ «دربي وإلهي»! لقد رجه اللاهوت رجاً، وسرى فيه سريان النار في الحطب، فكيف لهذه أن تضم النار في حضنها ولا تحترق.
‏فرق أن يقول هو: «جسوني والمسوني» (راجح لو39:24)؛ وأن نحاول نحن أن نجسه ونلمسه، فهو وحده الذي يخضع طبيعة جسده الإلهي للجس أو اللمس في حدود إحساسنا ، لأنه أصلاً لا يُحس. أما نحن، فيستحيل أن نبلغ من أنفسنا مستوى مجسته وملامسته بطبيعتنا؛ أو هل يمكن أن تُجس النار؟ أو يُلمس النور؟ أو يُعانق الهواء؟
‏النسوة تمسكن بقدميه كإله، وخررن ساجدات عابدات، فارتضى. ولكن أن تلمسه «امرأة» لمسة الصداقة كمعلم سبق وشفاها، فهذا غير وارد. لقد تغيرت هيئته, وتغيرت وظيفته. إنه في لحظة العبور وليس الإقامة, ولسان حاله: «إني صاعد إلى أعلى السموات، لتجثو لي كل ركبة ممن في السموات ومن على الأرض. إني صاعد لأفتتح لكم الطريق إلى الحياة الجديدة، إلى الآب وإلي، لتكونوا حيث أكون, لا لتعيشوا معي وحسب بل وتعيشوا في. لا تلمسوني أو تجسوني بعد, لتتأكدوا مني، أو لتستمتعوا بي، بل لتتحدوا بي, بل لتأكلوني، فأصير فيكم وتصيرون فيّ».
‏لقد كان النور معهم زمانا قليلاً، وها الآن لم يعد زمان. فالنور يومض في ابن الإنسان ومضته الختامية على الأرض، ليصعد النور لأبي الأنوار، ويكفينا منه الغسق مدى الأيام. لقد حسبت النور لها وحدها، فقال لها: اذهبي خبري «إخوتي»، إني صاعد إلى أبي ليكون أباكم كلكم, صاعد بأخوتي التي لكم ومنكم التي قدمتها ذبيحة لكم، ومن أجلكم، أمام إلهي وإلهكم، لتشتركوا معي في بنوتي لآبي، فيكون أباكم.
‏القيامة أعطت المسيح طبيعته المهيأة للاقامة في الأعالي وعن يمين العلي. الجسد المُقام من الموت، لم تناسبه الإقامة على أرض الإنسان تحت طبيعة عالم الناس. «أنتم من أسفل, أما أنا فمن فوق.» (يو23:8)
‏أن يقوم المسيح من بين الأموات، فلا بد أن يصعد أيضاً، فالقيامة تمهيد للصعود، والصعود تكميل القيامة.
‏والصعود الذي تكلم عننه القديس لوقا في سفر الأعمال شيء، والصعود الذي يتكلم عنه المسيح هنا في إنجيل القديس يوحنا شيء آخر. الأول يتبع مراحل الفداء الأربع: التجسد (الميلاد)، والموت (الصلب)، والقيامة, ثم الصعود, في تدرجها المحسوس والمنظور لنا. أما الصعود في إنجيل القديس يوحنا ‏فهو العمل السري غير المنظور، والخاص بالمسيح في علائقه السرية بالآب؟ لأنه من جهة علاقة المسيح بالآب, لا يمكن التفريق «الزمني» بين القيامة والصعود، فهما عمل واحد لدى الآب، عبر عنه المسيح: «وأنا إن ارتفعت عن الأرض، أجذب إلي الجميع»» (يو32:12)، حيث يشير هنا إلى ارتقاع الجسد على الصليب، والارتفاع من الموت بالقيامة، والارتفاع بالصعود. هذا كله عند المسيح والآب عمل فدائي واحد متكامل. لذلك لا يصح هنا في قوله: «إني صاعد، وأصعد» اللجوء إلى التمييز الزمني في الأفعال.
‏ولأن المسيح هو ابن الإنسان، لذلك صح أن يقول إن الله إلهه؛ ولأنه هو ابن الله أيضاً حق له أن يدعو الله «أبى». وأذ يجمعهما لنفسه معاً «أبي والهي» فهو يوضح بنوته الإلهية المتجسدة كطبيعة.
‏وقد اعتنى القديس بولس الرسول جداً في إظهار نسب الله للمسيح، كإله، مؤكداً على بشرية المسيح تماماً، بحسب تسجيل القديس يوحنا، وذلك في مواضع كثيرة: «كي يعطيكم إله ربنا يسوع المسيح أبو المجد روح الحكمة والإعلان في معرفته» (أف17:1). ويُلاحظ أن الترجة العربية في الآيات التالية خرجت من النص الدقيق كالآتي: «مبارك (الله) إله وأبو ربنا يسوع المسيح أبو الرأفة وإله كل تعزية.» (2كو3:1‏)
«لكي تمجدوا (الله) إله وأبا ربنا يسوع المسيح بنفس واحدة وفم واحد» (رو6:15)
«مبارك (الله) إله وأبو ربنا يسوع الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح.» (أف3:1‏)
‏وقد حذفت الترجمة العربية حرف الـ «و» الواقع بين «الله وآب»، فضاع مفهوم نسب الله للمسيح «كإله»» توكيدا لبشريته, من ناحية، ونسبته الطبيعية اللاهوتية لله كآب من الناحية الأخرى. «فالله» في الآيتين السابقتين يجمع الصفتين معاً بالنسبة للمسيح «إله وآب» تماما كما قال المسيح للمجدلية.
‏وأن يطلقهما معاً بالنسبة لنا «أبوكم وإلهكم», يوضح ماذا صار لنا بموته وقيامته وصعوده من مشاركتنا في مخصصاته كنعمة وُهبت لنا .
‏وهذا ينطق به نطقا قوله: «قول لإخوتي». هذا الاصطلاح الأول من نوعه، وبعد القيامة، يفيد الوضع الجديد الذى صار للإنسان والكنيسة المؤمنة بقيامة المسيح؛ فبالتعليم عن كل ما عند الآب، صار التلاميذ «أحباء» (يو15:15)، أما بالقيامة من الأموات فقد اكتسب المسيح لهم علاقة إلهية به، وبالتالى بالآب: «إخوتي» وبالتالى «أبوكم».
المسيح، بالنسبة للتلاميذ بعد القيامة، لم يعد هو المسيح ابن الإنسان النازل من السماء، وكلام الحياة الأبدية عنده، بل المسيح الذي صعد إلى الآب وعاد بالحياة الأبدية ليسكبها علينا بغنى. لقد حقق وعده «إنه خير لكم أن أنطلق» (يو7:16). لقد عاد من عند الآب بعد أن أسس المكان والمنازل، ومعه عطية الآب: «الروح القدس» الذي أعطاهم في نفس المساء.
‏ويلزم أن ننتبه إلى التفريق المتعمد الذي أوضحه المسيح بقوله: «أبي وأبيكم», فنهو لم يقل «أبونا»، بل «أبي» خاصة «وأبوكم» عامة، «أبي» بالطبيعة »وأبوكم» بالنعمة والتبني الذي وهبه لنا المسيح كشركة في بنوته.
كذلك «إلهى» خاصة، لما تنازل وأخلى ذاته وأخذ شكل العبد, وصار إنساناً بإرادته, غير مخلوق, من تحت لاهوته، «وإلهكم» عامة، كعبيد اقتناهم الله لنفسه من خليقته.

18:20 فَجَاءَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَأَخْبَرَتِ التّلاَمِيذَ أَنَّهَا رَأَتِ الرَّبَّ وَأَنَّهُ قَالَ لَهَا هَذَا.

‏في اليونانية «جاءت»، و«أخبرت» تفيد الحال والتو، بمعنى أنها تركت الرب راضية في الحال، لتقوم ببشارتها الأولى لعالم الإنسان الجديد، للكنيسة التي قبلت هذه الكلمة: «قد رأيت الرب», كإنجيل الحياة الجديدة، وبشارة الملكوت الذي دب منذ تلك اللحظة في روح التلاميذ، وإلى الآن يتفرخ ألفي سنة، ولا يزال، ثم إل الأبد.
‏لقد خرج النص في الترجمة العربية عن الأصل، وحول البشارة إلى الغائب «أنها رأت الرب»، ولكن النص اليوناني واضح وأكيد: «مبشرة التلاميذ. قد رأيت الرب», وهكذا تبوأت المجدلية الصدارة في سجل البشارة كأول إنسان رأى المسيح قائما من بين الأموات، وكأول بشير نادى بالقيامة.
‏السلام لمريم بنت ذات البرج ، التي حرست حراسات الليل حتى تقبلت أول شعاع النور…
‏السلام للتي بكرت جدا والظلام باق, تسعى، يقودها الحب، تطلب تكريم من تحبه، فوجدها ووجدته.
‏التلاميذ رأوا القبر قبراً فارغاً؛ وهذه رأته سماء مزينة بالملائكة. هؤلاء لما دخلوا القبر ما طلبوا شيئاً؛ وهذه تشبثت ببكاء تطلب جسد من تحبه, حتى استُعلن لها صاحبه في ملء الحياة وقوتها.
‏‏هؤلاء عادوا صامتين من القبر إلى حيث أتوا؛ وهذه تسمر قلبها ورجلاها في الحجر كالحجر، تتأوه، والدموع ملء عينيها، فاستحقت أن ترى مجد الله!
السلام لمبشرة صهيون، أول من قطفت من ثمرة شجرة الحياة، وأعطت التلاميذ، فأكلوا وانفتحت أعينهم, وعاينوا النور، وادثروا بثوب الخلاص.
‏السلام لمن استؤمنت، أول من استؤمن على رؤية الرب المُقام, وعلى سماع أول كلمة من فيه.
‏السلام لمن تسجل اسمها، أول ما تسجل في سفر الخلود وسجلات ملكوت السموات. بوركت يا مجدلية الإنسانجيل الأربعة، وبوركت دموعك وجرأتك ولجاجتك وأمانتك للجسد.
‏شهوة اشتهيت تكريم الحبيب الميت، وتطييب الجسد، فاستحققت حب الحي ونوال رائحة المسيح الزكية ببشارة الحياة.

المنظر الثاني: في العلية والتلاميذ مجتمعون


في مساء الأحد المسيح يظهر للتلاميذ الخائفين وهم مجتمعون ويعطيهم السلام, والتلاميذ يفرحون برؤية الرب. المسيح يفتتح سفر الإرساليات للعالم، ويؤازرهم بنفخة الروح القدس وسلطان مغفرة الخطايا. (19:20-23)

19:20 وَلَمَّا كَانَتْ عَشِيَّةُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهُوَ أَوَّلُ الأُسْبُوعِ وَكَانَتِ الأَبْوَابُ مُغَلَّقَةً حَيْثُ كَانَ التّلاَمِيذُ مُجْتَمِعِينَ لِسَبَبِ الْخَوْفِ مِنَ الْيَهُودِ جَاءَ يَسُوعُ وَوَقَفَ فِي الْوَسَطِ وَقَالَ لَهُمْ: «سلاَمٌ لَكُمْ».

‏ينفرد القديس يوحنا بذكر حوادث ومناظر لم يأت عليها الإنجيليون الثلا ثة: الأبواب المغلقة، الخوف من اليهود، غياب توما، السلطان بالروح القدس.
‏من ملابسات ظهور المسيح للمجدلية، واضح أنه كان لا بد سيظهر للتلاميذ، كما كانت بشارة المجدلية الحافز السريع لاجتماع التلاميذ مع الترقب والأنتظار. وهذه تمهيدات لازمة بالفعل لجو الاستعلان.
‏والمعتقد أن عددا كبيرا من الأخصاه كانوا مجتمعين غالباً في العلية حيث صنع الرب عشاءه الأخير، هذا يتأكد لنا من رواية القديس لوقا بخصوص عودة تلميذي عمواس إلى التلاميذ المجتمعين: «فقاما في تلك الساعة ورجعا إلى أورشليم ووجدا الأحد عشر مجتمعين هم واللذين معهم» (لو33:24)، كما يتأكد لنا من الصورة الموازية لاجتماعهم يوم الخمسين: «ولما دخلوا، صعدوا إلى العلية التي كانوا يقيمون فيها… هؤلاء كلهم كانوا يواظبون بنفس واحدة على الصلاة والطلبة مع النساء ومريم أم يسوع ومع إخوته.» (أع13:1-14)
«عشية ذلك اليوم»: كان هو اليوم المشهود والخالد في تاريخ الكنيسة، بل على وجه الصدق في تاريخ الإنسان. فقد اُستعلن المسيح غالب الموت الذي هو عدو الإنسان الأول والأخير. ووهب للانسان الحياة الجديدة التي لا سلطان للموت عليها. ونفخ في الإنسان من روح الله القدوس ليتقبل قوة الحياة التي لا تموت، عوض نفخة الله في نفس آدم التي أطفأتها لعنة العقوبة، فساد عليها الموت كتأديب.
ويلاحظ أن المسيح اختار يوم الأحد بالذات ليقدسه للكنيسة بحضوره في وسط التلاميذ. ونقول يوم الأحد بالذات وهو اليوم الذي قام فيه, لأنه عاد وظهر مرة أخرى للتلاميذ ولتوما في يوم الأحد التال، وليس يوم السبت أو أي يوم من أيام الأسبوع الأخرى!
‏من هنا يتأكد لنا بكل قوة وبيان أن المسيح قصد قصدا تقديس يوم الأحد ليكون «يوم الرب» على مدى الدهور، وهو يوم القيامة، فصار كل يوم أحد للكنيسة يوم القيامة. وهذا هو تقليد الكنيسة الثابت.
‏وبحسب التقليد الإفخارستي الذي عاشته الكنيسة ألفي سنة, فيوم الأحد هو يوم الإفخارستيا بالأساس. والمعروف والثابت من تقليد الإفخارستيا أن الرب يظهر فيه وقت «كسر الخبز», أي أثناء التقسيم, أي القسمة, تماما كما ظهر في العلية وسط التلاميذ المجتمعين. فنحن على ميعاد مع الرب في إفخارستية كل أحد.
‏كذلك, ومن التقليد الرسولى الذي يقدمه لنا القديس يوحنا في سفر الرؤيا، نعلم أن القديس يوحنا أُخذ بالروح في يوم الأحد وتسلم أسرار السبع الكنائس والأمور الخاصة بالأزمنة الصعبة التي ستأتي على العالم. وهكذا نفهم أن يوم الأحد تعين ليكون يوم الاستعلان والكشف لأسرار الله والمسيح.
«وكانت الأبواب مغلقة, حيث كان التلاميذ مجتمعين بسبب الخوف من اليهود»: كانوا عشرة تلاميذ من الاثني عثر، فيهوذا سقط من حساب الاثني عشر، وتوما تغيب، وعلى أغلب الظن أنه غادر أورشليم إلى وطنه كما صنع تلميذا عمواس في ذلك اليوم أيضاً، اللذان عادا قبل المساء مسرعين إلى العلية بعد أن ظهر لهما الرب.
‏أما الأبواب المغلقة والخوف من اليهود، فهذا إعلان صريح عن غياب الإيمان بالرب، وغياب مفهوم القيامة وقوتها جملة وتفصيلاً, بل وغياب عنصر الرجاء، الأمر الذي نلمسه بشدة في حديث تلميذي عمواس، الذي يعطينا صورة لما كان يدور الحديث حوله في العلية قبل ظهور الرب: «فقال لهما: ما هذا الكلام الذي تتطارحان به وأنتما ماشيان عابسين؟ فأجاب أحدها الذي اسمه كليوباس وقال له: هل أنت متغرب وحدك في أورشليم ولم تعلم الأمور التي حدثت فيها في هذه الأيام؟ فقال (يسوع) لهما: وما هي؟ فقالا: المختصة بيسوع الناصري، الذي كان إنساناً نبياً مقتدراً في الفعل والقول أمام الله وجميع الشعب. كيف أسلمه رؤساء الكهنة وحكامنا لقضاء الموت وصلبوه. ونحن كنا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل. ولكن مع هذا كله, اليوم له ثلاثة أيام منذ حدث ذلك, بل بعض النساء منا حيرننا إذ كن باكراً عند القبر. ولما لم يجدن جسده، أتين قائلات إنهن رأين منظر ملائكة قالوا إنه حي» (لو17:24-23)
‏وذكر «الأبواب» المغلقة بالجمح، يفيد مدى الخوف والرعبة، فباب البيت الخارجي، والباب الموصل إلى العلية, وباب العلية، كلها أحكم غلقها بمتاريس وأقفال. وتعبير القديس يوحنا لا يخلو من الرمز، فغياب «أنا هو الباب» المفتوح على السماء، ينشىء حتماً إغلاقا على النفس بكل الأبواب الممكنة.
‏ولكن, والخوف يحيط بالتلاميذ من كل جانب، حضر تلميذا عمواس على عجل يلهثان من الركض ليخبرا المجتمعين أنهما رأيا الرب وكسر الخبز بيديه، وشرح لهما «من موسى وجميع الأنبياء والمزامير مفسراً لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب» (لو27:24). وهنا تطابقت شهادة المجدلية, والنسوة، مع القبر الفارغ والأكفان وحدها، وغياب الجسد! فكادت القيامة تحاصرهم وتملأ عليهم تفكيرهم. ولكن وحتى بعد ظهور الرب لهم في عشية ذلك اليوم، نسمع أيضاً وبعد أسبوع وفي عشية الأحد التال عن خوفهم واجتماعهم والأبواب المغلقة عليهم. لقد كانت القيامة يتنازعها عتمة فكرية من صنع الواقع المرير، وخبرة أهوال الصليب، وجبروت السنهدريم ورؤساء الكهنة، عتمة لم تنقشع قط إلا بعد أن لبس التلاميذ قوة من الأعالى يوم الخمسين، ونطق فيهم الروح القدس بقوة تفوق كل سلطان العالم.
«فجاء يسوع وقف في الوسط»: دخل الرب إلى حيث كان التلاميذ مجتمعين والأبواب مغلقة عليهم. هذا أول مفهوم لطبيعة القيامة، فالقيامة من الموت لم تعد تخضع بعد لكل ما هو خاضع للموت, أي الطبيعة البشرية بكل القوانين التي تحكمها وتتحكم فيها المادة والمكان والزمان والجاذبية والحركة والحرارة والضغوط والأشكال والألوان التي كلها تختص بالمادة, فالجسد القائم من الموت هو جسد روحاني له عالمه الروحي، وله قوانينه الروحية. وكل أعمال الروح هي معجزة لدى المادي.
‏ظهور الرب «وسط» التلاميذ ألغى الأولويات والترتيب والكرامات في حضرة الرب، فالكل في الحضرة الإلهية واحد! ومن ذا يتجرأ في حضور الله ليرى نفسه أعلى من أخيه.
«سلام لكم»: ليست هي تحية بل عطية: «سلامي أعطيكم», وليس كما يعطي أهل العالم السلام بعضهم لبعض، أو كما تعد الملوك والرؤساء شعوبهم بالسلام وهم أحوج الناس إليه. سلام المسيح هنا أنشأ فيهم الفرح في الحال والتو، «ففرح التلاميذ إذ رأوا الرب» (يو20:20). وهكذا ابتدأ يداخلهم الفرح وسط الخوف الشديد الذي كان يعتريهم من اليهود. هذه أول مفاعيل القيامة وأشدها وأكثرها دواماً : «ولكني سأراكم أيضاً فتفرح قلوبكم ولا ينزع أحد فرحكم منكم» (يو22:16). إنها بهجة القيامة، أمضى أسلحة الإيمان التي نغلب بها أهوال العالم ومخاوف الشيطان ومقاومة الأشرار. فالمسيحي الذي قام مع المسيح لا يعود يرهب الموت وكل تهديدات الموت، لأن حياته ممتدة فوق الموت وأهواله، لأن سيرته مكتوبة في السماويات.

20:20 وَلَمَّا قَالَ هَذَا أَرَاهُمْ يَدَيْهِ وَجَنْبَهُ فَفَرِحَ التّلاَمِيذُ إِذْ رَأَوُا الرَّبَّ.

مسيح القيامة هو مسيح الصليب: «لا تخف. أنا هو الأول والأخر، الحي وكنت ميتاً, وها أنا حي إلى أبد الأبدين.» (رؤ17:1-18). لا يمكن أن تُفهم القيامة إلا على توقيعات الصليب وجروحه وموته، ولا يمكن أن يُفهم عذاب الصليب ومعنى الموت، إلا على نور القيامة. المسيح الذي مات مصلوباً أمام أعينهم, وكأنه قُضى «وقطع من أرض الأحياء»، ها هو هو بجروحه المميتة، واقف أمامهم حياً في ملء قوة الحياة. الموت الذي تراءى لأعينهم أنه ساد عليه وأنزله القبر، طرحه المسيح عنه وداسه، وقام بذات الجسد وذات الروح شامخاً فوق الموت ومن له سلطان الموت.
‏جروح اليدين والرجلين لم تُشف، ولا الجنب المفتوح التأم، وكأن الجسد اقتبل روح الشفاء، بل احتفظ المسيح بجروحه الغائرة وجنبه المفتوح كعلامة الموت الذي جازه، احتفظ بها كلها كما هي؛ لأن الجسد الذي قام لم يعد يستمد حياته من عناصر الحياة على الأرض، بل من فوق، من الحياة التي له خاصة: «كما أن الآب له حياة في ذاته، كذلك أعطى الابن أن يكون له حياة في ذاته» (يو26:5). فصارت علامات الموت وسماته، شهادة للموت الذي جازه ‏والقيامة التي قام. «ورأيت … وسط الشيوخ، خروف قائم كأنه مذبوح …» (رؤ6:5)، «مستحق أنت أن تأخذ السفر، وتفتح ختومه، لأنك ذُبحت واشتريتنا لله بدمك.» (رؤ9:5)
سمات الموت التي تقبلها الرب في الجسد، صارت هي سمات القيامة والمجد، ومن جروحه وجنبه المفتوح يخرج لنا الآن الشفاء والعزاء والحياة والمجد.
‏(اقتل أوجاعنا بآلامك الشافية المحيية. وبالمسامير التي سُمرث بها، أنقذ عقولنا من طياشة الأعمال الهيولية (الأعمال الماد‏ية) والشهوات الجسدية – الأجبية صلاة الساعة السادسمة).
«ففرح التلاميذ إذ رأوا الرب»: هنا فعل « يرى» ملؤه الإيمان. لقد حقق الرب وعده لهم: «أنتم كذلك عندكم ‏الآن حزن، ولكي سأراكم أيضاً فتفرح قلوبكم، ولا ينزع أحد فرحكم منكم.» (يو22:16)
‏إنها تجربة واختبار فريد من نوعه حظى به التلاميذ، وقصده الرب قصدا، ليكون خبرة لكل من آمن بالمسيح بالإيمان الرسولي المسلم بالروح.
‏يلاحظ القارىء أن المسيح دخل إلى حيث كانوا مجتمعين والأبواب مغلقة، هذا شأن جسد القيامة, الجسد الجديد للخليقة الجديدة الروحانية. ولكن المسيح، وبالجسد القائم من الموت، وبمواصفاته الجديدة غير المنظورة ولا الملموسة، أخضع جسده للرؤيا واللمس لتصير لدى التلاميذ، وبالتاؤ لدى الكنيسة, الخبرة الحقيقية والصادقة بحقيقة القيامة بالجسد وصدقها: «وأعطى أن يكون ظاهراً ليس لجميع الشعب، بل لشهود سبق الله فانتخبهم؛ لنا نحن الذين أكلنا وشربنا معه. بعد قيامته من الأموات.» (أع40:10-41‏)
«ففرح التلاميذ»: هنا الفرح من نوع خاص جدا، لا يمت بصلة إلى أي من أنواع الفرح التي نعرفها واختبرناها على الأرض. هذا الفرح هو فرح الروح بالروح، وهو ينسكب على النفس نتيجة استعلان فائق, وهو هنا المسيح نفسه.
‏وهذا ألفرح يشمل ثلاثة مفاعيل:
‏الأول: توقف الحواس الجسدية, دفعة واحدة، ومعها كل المؤشرات العصبية التي تؤثر على المخ بمراكزه الأربعة والعشرين, وهكذا يتوقف الخوف والاضطراب والحزن والقلق بكل صنوفه.
‏الثاني: انفتاح النفس على المجال الروحي أمامها بلا عائق، فتتسلل النفس وتمتد لتستجلي الحقيقة المستعلنة أمامها, المسيح الواقف في الوسط.
‏الثالث: تتقبل النفس, بقدر استعدادها، فترى الروح المنبعثة من المسيح من سلام ونور وسكينة.
هذا الاختبار الروحي نفسه يمكن أن نحصل عليه أثناء تأملنا في الحقائق الأنجيلية إذا بلغ الإيمان التصديق الكلي لكل ما يقول الرب.
‏لذلك، فالفرح المنسكب علينا من الله في هيئة استعلان، هو مصدر قوة لا يُستهان بها لدى الإنسان، وقد عبر عن ذلك العهد القديم بمنتهى الوضوح: «لأن فرح الرب هو قوتكم.» (نح10:8)

21:20- 22 فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً: «سلاَمٌ لَكُمْ. كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ أُرْسِلُكُمْ أَنَا». وَلَمَّا قَالَ هَذَا نَفَخَ وَقَالَ لَهُمُ: «أقْبَلُوا الرُّوحَ الْقُدُسَ».

‏في هاتين الآيتين يُرسي االمسيح قواعد التقديس والإرسالية للتلاميذ، والتي سبق أن طلبها من الآب في صلاة الوداع (يو17:17-18).
+ في البداية يعيد المسيح إعطائهم السلام, فالسلام الذي أعطاهم في البداية في حديث الوداع (يو27:14) هو لحساب أنفسهم الخائفة الجزعة، ليصيروا مهيئين لتحمل الرسالة بأعبائها الخطيرة. أما عطية السلام الثانية هذه، فهي لحساب الإرسالية, هي ذخيرة وأمانة, لكي كما قبلوا السلام لحساب الآخرين. يعطونه للأخرين من عند الله والمسيح: «وحين تدخلون البيت سلموا عليه. فإن كان البيت مستحقاً, فليأت سلامكم عليه. ولكن إن لم يكن مستحقاً، فليرجع سلامكم إليكم.» (مت12:10-13)
+ ثم يعطيهم المسيح مهمة الإرسالية, لا كأنها عمل منفصل عنه يقومون به بأنفسهم، بل كعمل ممتد منه، ومتصل به, ومكمل له. فإرسالية المسيح للرسل تقوم على أساس ونمط وقوة إرسالية الآب (التي هي أساس الأنجيل كله). هذا سبق المسيح وأكده في صلاته الختامية: «كما أرسلتني إلى العالم، أرسلتهم أنا إلى العالم.» (يو18:17‏)
المسيح, في صلاته, كان قد أكمل الإطار الكلي للمهمة العظمى التي أرسله الآب لتكميلها، ولم يبق منها آنئذ إلا صبغها بالدم، لتصير كلها أعمال فداء. ولأنه كان قد أكمل العمل، حق له أن يرسلهم, أو على وجه التحديد، أن يصور لهم إرساليتهم على أساس ختم الرسالة المزمع أن يضعه على الجسد: «وبالصبغة التي أصطبغ بها أنا تصطبغان» (مت23:20‏)؛ أما الآن، وقد اصطبغت إرساليته بالدم وخُتمت، فقد صارت جاهزة للاستعلان والكرازة. وكما لم يكن، وحده، يعمل أعمال إرساليته: «لأني لست وحدي بل أنا والآب الذي أرسلني … والذي أرسلني هو معي ولم يتركني الآب وحدي، لأني في كل حين أفعل ما يرضيه» (يو16:8و29)، كذلك وهو في طريقه إلى السماء أعطاهم المعزي, الآخر, ليكون «معهم ويمكث فيهم». فالإرسالية الرسولية كريمة ومجيدة للغاية, فهي نابعة من إرسالية الآب للمسيح, وتابعة لإرسالية المسيح، وممسوكة ومقودة بالروح القدس.
‏لذلك، يكرر المسيح هنا هذه الحقيقة، كأساس: «كما أرسلني الآب أرسلكم أنا». وهنا ليست المساواة في الإرسالية هي المقصودة, بل الامتداد، والمؤازرة، والديمومة, والاحتفاظ بالمصدر الذي تقوم عليه ومنه الارسالية. القديس يوحنا هو أول من يشير إلى ذلك، ولكن في اقتضاب شديد, إذ غير الفعل فقط, فجعل إرسالية الآب له على فعل ( )، وإرسالية المسيح للتلاميذ ( ). والفرق بين الفعلين دقيق للغاية, لأن ورودهما كثيراً ما كان متبادلا بلا فرق، ولكن في إنجيل القديس يوحنا يلاحظ العلماء أن فعل ( ) ‏جاء على لسان المسيح فيما يخص إرساليته من الآب باعتبارها إرسالية فائقة, أي ذات سلطان على اليهود والتلاميذ، إذ أن وراء إرساليته، الله الآب نفسه, حيث الإرسالية يتبعها تكليف عال.
‏أما فعل ( )، فيرد في إنجيل القديس يوحنا بمعنى الإرسالية وحسب، دون تكليف محدد. لذلك، فهذه الآية تحمل التقليد اللاهوتي للارسالية الذي فهمته الكنيسة ووعته وقدسته للغاية. إن الرسولية مقصورة على الاثني عشر (متياس حل محل يهوذا)، كامتياز رسمي دخل فيه بولس الرسول باختيار فوق العادة: «فقال له الرب اذهب، لأن هذا لى اناء مختار ليحمل اسمي أمام امم وملوك وبني إسرائيل … قد أرسلني الرب يسوع الذي ظهر لك … لكي تبصر وتمتلىء من الروح القدس …» (أع15:9-17)
وان المُرسل يحمل كرامة الذي أرسله: «الذي يقبل من أرسله يقبلني، والذي يقبلني يقبل الذي أرسلني.» (يو20:13)
‏ويلاحظ هنا أنه بعد أن أعطاهم التكليف بالإرسالية، قدسهم بنفخة الروح القدس للعمل، باعتبار أن الإرسالية عمل مقدس، أي خاص بإعلان الله: «لأجلهم أقدس أنا ذاتي، ليكونوا هم أيضاً مقدسين فى الحق» (يو19:17). وهنا يعطيهم الروح القدس، وهو روح التقديس والشهادة معاً، لأنه هو الناطق فيهم والذى يعرفهم بالحق!
‏ومنذ هذه اللحظة التي أرسى فيها المسيح قاعدة الارسالية على الرسل, مقدساً إياهم بالروح القدس. والكنيسة تحمل هذه الإرسالية بجدارة بالتتابع الرسولى, من الرسل إلى الآباء الرسوليين، إلى الآباء القديسين خلفاء الرسل، إلى الآباء الأساقفة, رؤساء الكراسي القانونية, في كل المسكونة المعتبرين خلفاء الرسل. وبذلك صار إيمان الكنيسة مدموغأ بالرسولية، فهو يُسمى منذ مجمع نيقية «الايمان الرسولى». ووضع في قانون الإيمان هكذا: «نؤمن بكنيسة واحدة مقدسة جامعة رسولية».
‏ومن جهة الإيمان الحى الذي نعيشه اليوم كأفراد وجماعة، فهو يقوم على ما تم للرسل في عشية ذلك اليوم، مضافاً إليه «شهادة الرسل» بعد ذلك، التي تملأ الأسفار المقدسة. فنحن نستمتع بإيمان مسيحي متأسس على نطق إلهي، واثني عشر رسولاً، شهود عيان، وإلهام الروح القدس, بالإضافة إلى ما تسجل في الأسفار المقدسة من الوحي المقدس، سواء بالنبوة في العهد القديم، أو بالاستعلان المشاهد في العهد الجديد.
‏ولكن الإمتياز الأعظم الذي صار لهذا «الإيمان الرسولى» أنه كان وظل ولا يزال يستمد قوته وسلطانه وكرامته من المسيح بالدرجة الاولى: «الحق الحق أقول لكم الذي يقبل من أرسله، يقبلنى, والذى يقبلنى، يقبل الذى أرسلنى.» (يو20:13)
‏ويلاحظ أنه كما أن الإرسالية، التي عُقد لواؤها على المسيح أولاً من عند الآب, تآزرت وتقدست فى مضمونها الظاهر للعالم بالروح القدس، وظهر هذا واضحاً للغاية سواء في تقديس العذراء بالروح القدس لقبول الحمل الإلهي: «مولود من الروح القدس ومن العذراء القديسة مريم» ( قانون الإيمان)، أو بحلول الروح القدس على المسيح وقت العماد بصورة ظاهرة لاستعلان المسحة الإلهية ودفع الإرسالية بالروح القدس؛ كذلك الإرسالية التكميلية التي عقد لواءها المسيح على الكنيسة الممثلة بالرسل القديسين، تآزرت وتقدست في مضمونها الداخلي والخارجي بالروح القدس.
‏ونلاحظ من كلا الإنسانجيل وسفر الأعمال أن الروح القدس أُعطي أولاً للتلاميذ، ثم حل عليهم ثانياً في يوم الخمسين:
أولاً: بعد القيامة مباشرة بنفخة الروح القدس من فم المسيح، تاماًكما نفخ الله الخالق في جبلة الإنسان لما خلقه فصار آدم نفساً حية. ففي نفخة القيامة هذه صار الإنسان خليقة جديدة حية تتفس بالروح القدس لحياة أبدية.
«نفخ»: وهذه هي المرة الاول والوحيدة التي فيها ترد هذه الكلمة في العهد الجديد. وهي تفيد «ينفخ في» بالمعنى الشائع في العهد القديم أنه «نفخ الحياة»، وهي خاصة بالله وحده: «وجبل الرب الإله آدم تراباً من الأرض ونفخ ‏في أنفه نسمة حياة فصار آدم نفساً حية.» (تك7:2)
«هكذا قال السيد الرب هلم يا روح من الرياح الأربع وهب على هؤلاء القتلى ليحيوا.» (حز9:37)
‏هكذا أعطى المسيح القائم من الأموات للتلاميذ شركة في روح حياة القيامة التي فيه، وهذه الروح ليست فقط روح قيامة بل وأيضا روح غسيل وتطهير وإحراق، لأنه لم ينفخ فيهم روحاً وحسب، بل الروح القدس. و«القدس» هنا يفيد التقديس والتطهير والغسل والإحراق للتأهيل للحياة الجديدة: «لكن اغتسلتم بل تقدستم بل تبررتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا» (1كو11:6). وهذا هو ما يتضمنه قول المسيح للتلاميذ: «أما أنتم فستتعمدون بالروح القدس» (أع5:1). بل وهذا هو تحقيق قول المسيح للتلاميذ: «إني أنا حي فأنتم ستحيون» (يو19:14), وهي حياة قائمة من موت لا يسود عليها الموت ثانياً قط.
‏وقد أخذت الكنيسة الشرقية عامة والقبطية خاصة عن إنجيل يوحنا عملية نفخ الروح القدس في طقس العماد، فصار «النفخ» عملية طقسية يتكمل بها سر الخليقة الجديدة، بالماء والروح، كوعد المسيح. وقد امتد عمل «النفخ» كإعطاء روح من الله في بعض الأعمال الطقسية الأخرى عند بعض الكنائس، وفي الكنية القبطية قديماً، كما في إعطاء الحل من الخطايا في سر التوبة والاعتراف. ولكن هذا التقليد ضعف في أيامنا وبطل. كذلك كان هذا يجري في طقس رسامة «أبونا» الرأس الحبشي على الكنيسة الحبشية، وذلك بأن ينفخ البطريرك القبطي أسقف الإسكندرية في قربة حتى يملأها من نفسه ويرسلها بيد مخصوص لتفتخ في وجه المختار فتتم رسامته بالتتابع الرسولي بتقديس الروح.
وكما خلق الله الإنسان في البداية على صورته، هكذا خلقه المسيح بعد القيامة بالروح القدس على صورة خالقه في البر وقداسة الحق (أف24:4)، وواضع غاية الوضوح أنها «إعادة خلقة» على مستوى الروح القدس لإعطاء الحياة الأبدية.
+ «لأننا نحن عمله مخلوقين في المسيح يسوع.» (أف10:2)
+ «إذ خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله ولبستم االجديد الذي يتجدد للمعرفة حسب صورة خالقه.» (اكو9:3-10‏)
+ «إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة…» (2‏كو17:5)
+«… تلبسوا الإنسان الجديد, المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق.» (أف24:4)
+ «يا أولادي الذين أتمخض بكم أيضاً إلى أن يتصور المسيح فيكم.» (غل19:4)
‏وهكذا في هذه الليلة الخالدة في تاريخ الكنيسة السمائي, إذ بعدما أكمل المسيح الأنجيل, خلق المسيح من الرسل، بنفخة فمه, باكورة خلائقه بالروح القدس لميراث جديد في السماء لحياة أبدية: «شاء فولدنا بكلمة الحق لكي نكون باكورة من خلائقه.» (يع18:1)
‏ثانياً: حلول الروح القدس على التلاميذ المجتمعين يوم الخمسين، فواضح أنه كان لحظة الأنطلاق لبدء الخدمة والكرازة بقوة الروح القدس: «لكنكم ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم وتكونون لى شهوداً…» (أع8:1). لذلك نسمع أنه بمجرد أن حل الروح القدس «ابتدأوا يتكلمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا» ‏(أع4:2‏). لذلك فحلول الروح القدس يوم الخمسين على باكورة الخليقة الجديدة المقدسة، يٌحسب أنه كان قوة الدفع للارسالية والكرازة والشهادة بالروح القدس، التي صورها الله جهارا بالنار المتحولة إلى ألسنة ناطقة بكل لغات الأمم!! والتي مبق أن ألمح إليها المسيح بقوله: «جئت لألقى ناراً على الأرض..» (لو49:12). وهذه هي النار التي تضرم روح الحب والبذل والتضحية والشجاعة والشهادة في قلوب الأتقياء حتى اليوم والى الأبد.
‏وللقديس كيرلس الكبير شرح للتفريق بين عمل عطية الروح القدس للتلاميذ بالنفخ من فم المسيح وبين حلول الروح القدس يوم الخمسين عليهم وهم مجتمعون, ورأيه هنا يعتبر الأوفق والأكمل: [إن مخلصنا أعطى الروح بواسطة العلامة الظاهرة وهي «نفخته» للتلاميذ القديسين, باعتبارهم باكورة للخليقة المُجددة. لأن موسى يكتب فيما يخص خلقتنا في القديم أن الله «نفخ» في أنف الإنسان نفخة الحياة. فكما تشكل في البدء وجاء إلى الوجود، هكذا بالمثل يتجدد. وكما أنه تشكل آنذاك في صورة خالقه هكذا الآن بالمثل, فبالشركة في الروح يتغير على شكل خالقه. لأن الروح يطبع صورة المخلص على قلوب الذين يقبلونه, وهذا بكل تأكيد لا يسمح لأي تساؤل. لأن بولس يستحث بوضوح الذين سقطوا في الضعف تحت إلزام العودة للتمسك بالناموس بهذه الكلمات: «يا أولادي الذين أتمخض بكم أيضأ إلى أن يتصور المسيح فيكم» (غل19:4). لأنه يقول إن المسيح لا يتصور فيهم إلا بالاشتراك في الروح القدس والحياة بمقتضى ناموس الأنجيل… لأنه يلزم لنا نحن أيضاً أن ندرك هذه الحقيقة, أي أنه أحدر لنا الروح ليمنحه لنا أيضاً. ولكن في أيام عيد الخمسين المقدس, عندما أذاع الله نعمته بوضوح أكثر معلناً عن الروح القدس الذي في قلوبهم, ظهرت لهم ألسنة من نار، لا كأنها تعني بداية لعطية الروح القدس في قلوبهم, بل بالحري لتشير إلى بدء الزمن الذي فيه وُهبت لهم عطية اللغات (الألسن). ومكتوب هذا حقاً إنهم «بدأوا يتكلمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا» (أع4:2‏). ولاحظ أنهم «بدأوا يتكلمون» وليس «بدأوا يقبلون التقديس» ‏… وهذا كان من عمل الروح الذي فيهم.]
‏وأيضا للقديس يوحنا ذهبي الفم رأي في الفرق بين عطية الروح القدس بعد القيامة وحلول البارا كليت يوم الخمسين، ولكنه رأي غير مأخوذ به: [إلا أنه لا يكون الإنسان مخطئاً إذا أكد أنهم أيضاً قبلوا قوة روحية ما ونعمة, ليس لكي يقيموا موتى أو يصنعوا معجزات, ولكن لكي يغفروا الخطايا… ولكنهم من جهة الحالة الأخرى، أي بعد الأربعين يوماً فإنهم تقبلوا قوة صنع المعجزات… وصاروا شهوداً بواسطة صنع المعجزات.]
‏وهذا الرأي الذي يقول به القديس ذهبي الفم يقوم هلى أساس ورود كلمة «الروح القدس» (في يو22:20) بدلا أداة التعريف «ألـ» ، فاعتبر ذلك نوعا من القوة وليس هو الروح.
‏ولكن هذا القياس مرفوض من علماء اللغة المقتدرين الذين قالوا بأن ورود كلمة «الروح» بدون أداة التعريف هو مثل وروده بأداة التعريف، لا فرق, وذلك بناء على استقراءات متعددة من مخطوطات مختلفة. وأيضا يذكر الروح بدون التعريف في مواضع لا يمكن إلا أن تكون للتعبير عن الروح القدس نفسه وبشخصه، مثل ما جاء في سفر الأعمال 4:2. لذلك لا نستغرب بأن لاهوتيى الأرثوذكس الروس يرفضون رأي ذهبي الفم في هذا الموضوع, وكثير من الشراح المقتدرين يجدون في عطية الروح القدس بعد القيامة للتلاميذ القمة النهائية للعلاقات الشخصية التي تأسست بين المسيح والتلاميذ.
‏ولقد كان موضوع عطية الروح القدس بعد القيامة للتلاميذ موضوع جدل لاهوتي عنيف عند الكنائس الخلقيدونية. فالمجمع المسكوني الخامس (553 م) وهو غير معترف به عند الارثوذكس غير الخلقيدونيين شجب عقيدة ثيئودور الموبسويستي لقوله إن المسيح بعد القيامة لم يعط الروح القدس في الحقيقة, ولكن الأمر كان مسألة شكلية كأنه مجرد وعد. وهكذا نستطيع أن نقول أن شرح القديس كيرلس الكبير لهذا الموضوع هو الأصح والأكمل.
‏ويلاحظ القارىء أن المسيح لم ينفخ الروح القدس على التلاميذ واحداً واحداً, لأن الروح القدس لا يُعطى بكيل أو بالتقسيم، بل أعطي للتلاميذ عطاء كلياً وقبلوه ككل، كجسد واحد ككنيسة مجتمعة متحدة، فحتى القدي توما رسول الشك, الذي كان غائباً في هذه الليلة, وإن لم يكن أهلاً لتقبله في البداية، الأمر الذى تسبب في تغيبه قصدا، لكن عندما آمن, لما رأى, قبله في الحال قبول التلاميذ قدرا بقدر. وليس توما وحده بل الكنيسة أفراداً وجماعات في كل أنحاء الأرض قبلت الروح القدس لما قبله التلاميذ، لأنه لم يعط الروح لأسماء وأشكال وأعداد ولكن للانسان, كل من يؤمن, كخليقة جديدة. فالكنيسة الكارزة في العالم وُلدت وتقدست فى المسيح والروح. ثم اُرسلت يوم الخمسين وكان التلاميذ باكورة مقدسة لهذه الخليقة المولودة بالكلمة والروح.
‏ولكي يثق القارىء في عمومية وشمولية فعل الروح القدس في الكنيسة خلوا من زمان ومكان، لنا مثال في قصة حلول الروح على السبعين شيخاً في جماعة إسرائيل، عندما أخذ الله من الروح الذى على موسى وأعطى هؤلاء الشيوخ فتنبأوا، ولكن كان اثنان منهم غائبين بعيدا في المحلة ولم يحضرا هذا المشهد الرهيب. ولكن الروح باغتهما وحل عليهما بالمثل وهم بعيداً داخل المحلة. فلما غار يشوع تلميذ موسى، إذ كيف يتنبأ هذان الشيخان وهما لم يحضرا طقس الرسامة والتنصيب؛ وفي غيرته احتج لموسى: «يا سيدي موسى اردعهما. فقال له موسى: هل تغار أنت لى؟ يا ليت كل شعب الرب كانوا أنبياء إذ جعل الرب روحه عليهم!!» (عد24:11-29). وقد تم ما نطق به موسى كليم الله وصار بالفعل يوم الخمسين وما بعده سكيباً متصلاً للروح القدس على كل من آمن واعتمد للرب.
‏وعلينا أن نلاحظ الصلة بين الإرسالية وعطية الروح القدس للتلاميذ، أنها صلة متبادلة وجذرية. فلا إرسالية بدون عطية الروح القدس، ولا عطية للروح القدس دون كرازة أو شهادة.

23:20 «مَنْ غَفَرْتُمْ خَطَايَاهُ تُغْفَرُ لَهُ وَمَنْ أَمْسَكْتُمْ خَطَايَاهُ أُمْسِكَتْ».

«وأجعل مفتاح بيت داود على كتفه، فيفتح وليس من يُغلق، ويُغلق وليس من يفتح.» (إش22:22)
‏هذه الآية ملتحمة بالآية السابقة، أي بعطية الروح القدس، في نفخة الحياة الجديدة في المسيح المُقامة من الموت, ثم بالإرسالية الممتدة من الآب أيضاً. وهكذا يكون غفران الخطايا وحجزها عن الغفران داخلاً في عمل الروح القدس المباشر، وفي نطاق خدمة الارسالية، أي خدمة الخلاص.
‏هذه الآية، من واقع منطوقها، سلاح خطير ذو حدين: حد يقطع الخطية ويفرزها عن الداخل في الحياة الجديدة، وحد يقطع الخاطىء نفسه عن جسد الكنيسة الحي حتى لا يفسدها.
‏وقد ذهب المفسرون لهذه الأية كل مذهب, ولكن لا يعنينا في شرحها إلا ما جاء في منهج الفكر الارثوذكسي الكنسي.
رأي القديس كيرلس الكبير: [بأية طريقة، وبأي معنى وهب المخلص تلاميذه الكرامة التي تليق فقط بطبيعة الله وحده؟ لقد فكر(الرب) أنه من الموافق أن الذين وُهبوا مرة روحه، وهو الرب الإله، ينبغي أن يحوزوا قوة مغفرة أو مسك الخطايا، فكيفما صنعوا يكون الروح القدس الساكن فيهم هو الذي يغفر أو يمسك هذه الخطايا حسب مشيئته، على أن العمل الذي يعمل يكون بواسطة الإنسان.]
وحسب ما أرى، يكون أن الذين نالوا روح الله، يغفرون أو يمسكون الخطايا على مستويين:
‏الأول: فهم يدعون إلى المعمودية الذين هم أهل لهذا السر، من واقع نقاوة حياتهم واختبار مدى تمسكهم بالإيمان، كذلك فإنهم يؤخرون ويستثنون الذين لم يبلغوا بعد إلى استحقاق هذه النعمة الإلهية.
‏الثاني: وفي معنى أخر، هم يفغرون ويمسكون الخطايا بأن يزجروا ويعزلوا أبناء الكنيسة (أي المعمدين)، كما يمنحون العفو للذين تابوا. تماماً كما قطع بولس ذلك الذي اقترف الزنا في كورنثوس: «لهلاك الجسد حتى تخلص النفس» (1كو5:5)، ثم عاد وقبله في الشركة «حتى لا يُبتلع من فرط الحزن.» (2كو7:2)
‏ولقد كان لهذه الآية الخطيرة تاريخ حافل باختلاف الأراء خاصة في الكنية الكاثوليكية، ولا يزال هذا الخلاف قائمأ بين المتحررين في الكنيسة الرومانية وبين التقليديين، إلى هذا اليوم. ولكن الرأي الذي يكاد أن يكون سائداً هو الرأي الذي قال به القديس كيرلس الكبير بأن الحل والمسك للخطايا يخص سري العماد والتوبة، أي ما قبل العماد وما بعد التوبة.
‏المعروف أن أباء الكنيسة على مدى الثلاثة القرون الأولى، ركزوا على مغفرة الخطايا ومسكها فيما يخص المعمودية فقط. ونرى هذا واضحاً في قانون الإيمان: «ونعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا». وانجيل القديس يوحنا يشير إلى هذه الحقيقة إشارة قوية في قصة تفتيح عيني الأعمى بالاغتسال, الذي هو رمز العماد، باعتبار أنه عاد بصيراً، لأن خطاياه غُفرت, في مقابل عدم إيمان الفريسيين الذين وضعهم الرب في مستوى العميان, أي غير المعمدين, على أساس عدم غفران خطاياهم. «فخطيتكم باقية» (يو41:9‏). وفي هذه القرون الثلاثة الأولى، كان الاتجاه عنيفاً ضد مغفرة الخطايا بعد المعمودية. ولكن يأتي إنجيل القديس لوقا ليشير إلى الغفران والمسك للخطاياه في معنى التوبة، بصورة واضحة في قول المسيح نفسه: «وقال لهم: هكذا هو مكتوب وهكذا كان ينبغي أن المسيح يتألم ويقوم من الأموات في اليوم الثالث، وأن يكرز باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم مبتدأ من أورشليم.» (لو46:24-47)
‏وانجيل يوحنا يعطي أيضاً الأنطباع بأن مغفرة الخطايا موصولة با لكرازة، لأن كلام المسيح يعطي فكراً واحداً متصلاً بين الإرسالية ونفخة الروح القدس ومغفرة الخطايا. ولكن سواء في إنجيل القديس لوقا، أو القديس يوحنا فمفغرة الخطايا متركزة نوعا ها وبصفة مبدئية في الدعوة للمعمودية, التي هي غاية الكرازة، وهي الخاصة «بالأمم». ولكن واضح من رسالة القديس يوحنا الاولى ربط مغفرة الخطايا بالاعتراف أي التوبة (راجح ايو9:1‏).
‏والملاحظ من روح إنجيل القديس يوحنا أن موضوع مغفرة الخطايا وعدم مغفرة الخطايا يأتي بصورة رئيسية كمنهج اختطه المسيح نفسه؛ بمجيئه إلى العالم، كنور وقداسة وبر: «فقال يسوع: لدينونة أتيت أنا إلى هذا العالم, حتى يبصر الذين لا يبصرون ( المعمودية لمغفرة الخطايا ) ويعمى الذين يبصرون (حرمان المدعين المعرفة والمتجاهلين لخطاياهم من مغفرة الخطايا)» (يو39:9) وعلى هذا المنوال تماما، يكون التلاميذ المرسلون من قبل الرب ليقوموا بنفس رسالة المسيح: «كما أرسلني الآب أرسلكم أنا.» (يو21:20)
‏ولكن لا يزال لاهوت القديس يوحنا يُسيج حول موضوع مغفرة الخطايا، حتى لا يتسرب إلى الذهن أن مغفرة الخطايا من عدمه هي تحت سلطان رسول أو تلميذ أو أي بشر، خلواً من تدخل ومتابعة إلهية وتصديق، وذلك بما قدمه في رسالته الاولى: «إن اعترفنا بخطايانا، فهو آمين وعادل، حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم» (1يو9:1). المسيح هنا هو قابل الاعتراف بالدرجة الاول بل هو المعرف الإلهي الحقيقي في سر الاعتراف، ويزيد أنه يطهر الضمير والنفس. أما الرسول أو التلميذ أو الأسقف أو الكاهن فما هو إلا خادم السر، يأخذ الاعتراف، ليس لنفسه, بل ليقدمه إلى المسيح: [ثم يصعد الكاهن إلى الهيكل ويعطي البخور فوق المذبح عن اعتراف الشعب جميعه في عشية وباكر والبولس, وهو يقول: «يا الله الذي قبل إليه اعتراف اللص على الصليب المكرم, اقبل إليك اعترافات شعبك واغفر لهم جميع خطاياهم هن أجل اسمك القدوس الذي دُعي علينا» – رفع البخور سر اعتراف الشعب – الخولاجي المقدس].
‏ويعود القديس يوحنا ليوضح في رسالته الاولى وظيفة المسيح الدائمة أمام الله، متشفعاً عن خطايانا كدين علينا، دفع ثمنه كاملاً: «‏واذ أخطأ أحد, فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار, وهو كفارة لخطايانا, ليس لخطايانا فقط (المعمدين) بل لخطايا كل العالم أيضاً» (1يو1:2-2)، كل المدعوين للايمان به.
‏ويتحتم في هذا المضمار الخاص بإعطاء الكنيسة سطان مغفرة الخطايا، أن يكون إيماننا بالغفران الكامل لكل خطايانا التي نعترف بها، قائما ومتأسساً في الفكر والقلب والشعور على سفك دم المسيح على الصليب، ثمناً كاملاً ليس للغفران فقط بل ولتطهير الفكروالقلب والضمير. (صلاة التحليل التي يقرأها الكاهن على المعترف في سر الاعتراف, وهي المعروفة باسم «تحليل الابن« وتُقال أيضاً في نهاية رفع البخور, توضح كيف أن سلطاذ مغفرة الخطايا الذي سلمه المسيح للرسل في هذا المساء بنفخة الروح القدس، هو مؤسس أصلاً على عمل الميسح الكفاري على الصليب: [أيها السيد الرب يسوع المسيح, الابن الوحيد، وكلمة الله الآب، الذي قطع كل رباطات خطايانا من قبل آلامه المخلصة المحيية, الذي نفخ في وجه تلاميذه القديسين ورسل الأطهارء وقال لهم: اقبلوا الروح القدس, من غفرتم خطاياهم غُفرت لهم, ومن أمسكتموها عليهم اُمسكت. أنت الآن أيضاً يا سيدنا, من قبل رسلك الأطهار أنعمت للذين يعملون في الكهنوت كل زمان في كنيستك المقدسة, أن يغفروا الخطايا على الأرض… – الخولاجي المقدس]
ويضبط هذا الإيماذ آيتان:
‏الاولى في العهد القديم:د«بدون سفك دم لا تحصل مغفرة» (عب22:9؛ راجع لا11:17)، حيث كان دم تيوس وعجول مذبوحة تكفر عن خطية المعترف، ولكن إلى طهارة الجسد فقط لأنه دم حيواني.
‏أما في العهد الجديد، فدم يسوع المسيح «كما من حمل بلا عيب» (ابط19:1)، قيل عنه: «أنه حمل الله الذي يرفع خطية العالم» (يو29:1). وأيضاً: «لأنه إن كاذ دم ثيران وتيوس ورماد عجلة مرشوش عل المنجسين، يقدس إلى طهارة الجسد، فكم بالحري يكون دم المسيح, الذي بروح أزلى قدم نفسه لله بلا عيب، يطهر ضمائركم من أعمال ميتة لتخدموا الله الحي.» (عب13:9-14)
‏وهكذا ترى يا عزيزي القارىء أن الإيمان الأنجيلي الكامل بمغفرة الخطايا ينبغي أن يتغلغل إلى أعماف «الضمير» ليطهره تطهيراً كاملآ بل والى التقديس. وهكذا يكون سر الاعتراف والتوبة لمغفرة الخطايا، له التأثير النفساني الفعال القادر أن يصحح ويشفي، ليعيد للانسان نفساً سوية، بعد أن تكون قد أفسدتها الخطية وأمرضتها.
‏وأما قوة فعالية دم المسيح، فتوضح الآية أنه قائم على أساس «الروح الازلى», أي روح الله القدوس، فدم المسيح الذي سُفك على الصليب، دم حي وحياته أزلية، أي دائمة فيه، منذ أن سُفك والى اليوم وإلى الأبد، فقدرته الذبائحية على الغسل والتطهير والتقديس قائمة وقادرة قدرة ‏لانهائية إزاء خطية العالم كله.
‏على أن كل من الكنيسة الارثوذكية والكاثوليكية تحصر السلطة الرسولية لمغفرة الخطايا وإماكسها في الرتبة الكهنوتية وفي داخل سر التوبة بأصول وواجبات وشروط، وقد انحصرت تقريبا في معاملة الشعب بعد المعمودية. وقد عالج هذا الأمر مجمع ترنت (1545-1563م) الخاص بالكنيسة الرومانية الكاثوليكية, وهو المجمع الثامن عشر، وكان مخصصاً ضد البروتستانت الإصلاحيين, وأدان كل من يقول بأن سلطان مغفرة الخطايا هو لكافة المؤمنين في الكنيسة. كما زاد بأن هذا السلطان لا يتبع رسالة بشارة الأنجيل بل هو سر قائم بذاته(؟)، ولو أن كثيراً من اللاهوتيين الكاثوليك المحدثين لا يرون أن هذا القرار يتناسب مع قصد الآية الواردة في إنجيل القديس يوحنا، فالآية واضحة أنها تخص قوة الكرازة ذاتها من جهة الله نفسه لمغفرة الخطايا في المسيح أو مسكها.
‏والخطأ الحادث والمستمر هو التمادي في استخدام هذا السلطان بمفهوم يخرج عن تحديدات الروح في الأنجيل حسب هوى الشارح.
‏ولو أن إنجيل القديس يوحنا لم يتعرض للخطايا وغفرانها بالنسبة للمعاملات الشحمية مح الآخرين, إلا أننا نفهم من إنجيل القديس متى أنه علينا أن نفرق بين خطايا تُقترف وتمس الايمان أو العقيدة أو العبادة أو الله أو الكنيسة أو جسد الإنسان ذاته (كالزنا,» باعتبار أن الجسد تقدس بالمعمودية والروح القدس في الأسرار وخاصة الاشتراك في جسد ودم المسيح, فصار جسد الإنسان هيكلاً لله وعضوا في جسد المسيح كالغصن في الكرمة؛ وبين خطايا تُقترف في المعاملات الشخصية مح الناس والاخوة لتمسهم بالسوء.
‏فالخطايا التي تُقترف ضد الله وكل ما يخصه، يدخل غفرانها بالدرجة الاول في سلطان الكنيسة. أما الخطايا في التعامل الشخصي مع الناس والتي تمسهم بالسوء، فيتحتم طلب الغفران أولا ممن أسأنا إليه مع الاستعداد للتغريم: «وإن أخطأ إليك أخوك فاذهب وعاتبه بينك وبينه وحدكما. إن سمع منك فقد ربحت أخاك. وإن لم يسمع فخذ معك أيضا واحدا أو اثنين لكي تقوم كل كلمة على فم شاهدين أو ثلاثة. وإن لم يسمع منهم فقل للكنيسة. وإن ‏لم يسمع من الكنيسة فليكن عندك كالوثني والعشار» (مت15:18-17)؛ «حينئذ تقدم إليه بطرس وقال: يا رب كم مرة يخطىء إلى أخي وأنا أغغر له، هل إل سبع مرات؟ قال له يسوع: لا أقول لك إلى سبع مرات، بل إلى سبعين مرة سبع مرات.» (مت21:18-22)
‏وواضح جداً من هذا العرض أن على الفرد المؤمن واجب الغفران أو قانون الغفران. إذ يتحتم أن يكون جاهزاً وبلا استثناء، حتى ولو أخطأ الإنسان نحوه سبعين مرة سبع مرات؛ بمعنى أنه ليس في يد المؤمن سلطان حر لمغفرة الخطايا للأخرين بل هو واجب وقانون حتمي مفروض عليه. وقول المسيح أن عليك، كمؤمن، أن تغفر لمن أخطأ إليك سبعين مرة سبع مرات، يحمل ضمنا أن ليس المؤمن أي حق لعدمم الغفران» «فمسك الخطايا» ليس من سلطان المؤمن قط, بل رفعه المسيح من يد المؤمن ووضعه في نصابه القانوني: «وإن لم يسمع فخذ معك أيضاً واحدا أو اثنين …، ون لم يسمع منهم فقل للكنيسة» هنا يأتي دور الكنيسة القانوني في مسك الخطية على الخاطىء المكابر والمعاند، وفرزه من الكنيسة: «وان لم يسمع من الكنيسة، فليكن عندك كالوثني والعشار»، بمعنى أن الكنيسة تقطعه من عضويتها، إذ لم يعد أخاً في الإيمان بل وثنياً يعبد البغضة والعداوة ويبخر للذات.
‏الاعتراف «بالزلات»: يعطينا القديس يعقوب صورة محدودة لتصريح الكنيسة وتحت سلطانها بمكاشفة المؤمنين بعضهم بعضا بالخطايا، بمعنى الاعتذار عن كل إساءة في وقتها حتى لا تثقل ضمائرهم من نحو بعضهم البعض: «اعترفوا بعضكم لبعض بالزلات، وصلوا بعضكم لأجل بعض لكي تُشفوا.» (يع16:5)
‏واضح هنا أن نوع الخطايا ليس موجها للايمان أو الله أو الكنيسة، بل هي أخطاء شخصية وقد ربط القديس يعقوب هنا بين الخطايا والأمراض، وبين الاعتراف الفردي والصلاة. وهذا التصريح من رئيس كنيسة أورشليم أم كنائس العالم آنئذ يأتي بعد أن أوضح دور قسوس الكنيسة الأساسي في دهن مسحة الزيت والصلاة ومغفرة الخطايا المتسببة في المرض.
‏لذلك لا نجد هنا في القول: «اعترفوا بعضكم لبعض بالزلات»، أي انتقال أو تنازل لسلطان الكنيسة الرسولي لمغفرة الخطايا أو إمساكها إلى عامة المؤمنين، بل هي على مستوى الأمر أو التوصية، كعمل مبدئي في غاية الأهمية والضرورة، تستكمله الكنيسة بقوتها وسلطانها الرسولي الفائق المستجاب لدى الله في السماء
‏القيمة السرية والثمينة لسلطان مغفرة الخطايا في الكنيسة: يقدم لنا القديس يعقوب الصلة السرية والخطيرة بين الخطية والمرض، وبالتالى بين غفران الخطية وقوة الشفاء عند الكنيسة المفتقدة لأولادها: «أمريض أحد بينكم، فليدع شيوخ الكنيسة فيصلوا عليه ويدهنوه بزيت باسم الرب. وصلاة الإيمان تشفي المريض، والرب يقيمه، وان كان قد فعل خطية تُغفر له.» (يع14:5-15)
‏هنا يسجل لنا القديس يعقوب نوعا هاما من قيمة سلطان مغفرة الخطايا الذي استودعه الرب في قلب الكنيسة، فهو هنا ليس منطوقا بالحل أو الغفران بل يُقدم على مستوى صلاة يقودها قسوس الكنيسة المجتمعون مع أهل المريض من أجل الشفاء باستخدام زيت المسحة المفروض أنه يحمل قوة وحضور الروح القدس. هنا يكشف لنا القديس يعقوب أن غفران الخطية الذي في سلطان الكنيسة والعامل بالروح القدس في سر المسحة هو أساس الشفاء، باعتبار أن هذا المريض علته الخطية. بهذا يكون سلطان مغفرة الخطايا في الكنيسة بمثابة قوة وذخيرة لشفاء أجساد ونفوس وأرواح المؤمنين.
‏التوبة والغفران: «ولكن الآن يقول الرب ارجعوا إلي بكل قلوبكم وبالصوم والبكاء والنوح، ومزقوا قلوبكم لا ثيابكم، وارجعوا إلى الرب إلهكم لأنه رؤوف رحيم، بطيء الغضب، وكثير الرأفة.» (يؤ12:2-13)؛ «قد محوت كغيم ذنوبك، وكسحابة خطاياك. ارجع إلي لأني فديتك.» (إش22:44)
‏أوضح تعبير عن علاقة التوبة بمغفرة الخطايا هو ما قاله القديس بطرس الرسول بعد حلول الروح القدس مباشرة لشعب إسرائيل النادم والباكي: «توبوا وارجعوا لتُمحى خطاياكم، لكي تأتي أوقات الفرج من وجه الرب» (أع19:3). ولكنها أولاً وقبل كل شيء وصية الرب المخلص فيما يخص عمل مغفرة الخطايا, كما قالها بعد القيامة بحسب إنجيل القديس لوقا: «وقال لهم … أن يُكرز باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم مبتدأ من أورشليم.» (لو46:24)
‏وقد سبق الرب في تعاليمه أيضاً أن ربط المغفرة بالتوبة ربطاً لا محيص عنه: «وان أخطأ إليك أخوك فوبخه، فإن تاب فاغفر له. وإن أخطأ إليك سبع مرات في اليوم … قائلاً أنا تائب, فاغفر له» (7:15)
‏أما ربط التوبة نفسها بالخلاص، فقد جعلها المسيح كالأساس: «إن لم تتوبوا، فجميمكم كذلك تهلكون» (لو3:13). أما مركز التوبة والتائب في السماء، فوصفه المسيح كذلك: «أقول لكم، إنه هكذا يكون فرح في السماء بخاطىء واحد يتوب…» (لو7:15)
‏إذن, لا توجد مغفرة للخطايا إلا بالتوبة، فمغفرة الخطايا تكون فقط للتائب كحالة حاضرة ومستمرة. لذلك لا يمكن أن نعبر على هبة المسيح في إنجيل يوحنا للرسل بأن كل ما يغفرونه يُغفر وكل ما يمسكونه يُمسك، حيث يأتي فعل الغفران والمسك في حالة الفعل التام المستمر اي يكون مغفوراً ويكون ممسوكاً, إلا ويكون نتيجة مباشرة للتوبة الدائمة، والمسك يصير نتيجة مباشرة لمن رفض حياة التوبة.
‏وما هي التوبة؟: التوبة في اللغة اليونانية هي بحسب الحرف «تغيير الفكر» ولكن المعنى في اللغة الأرامية التي كان يتكلم بها المسيح تعني أكثر وأعمق من هذا: فهي بحسب الفحص الدقيق تحمل معنى:
1- حالة الإنسان فيما يخص كل كفاءاته،
2- مبادرة عبادية تحمل تحولا نحو الله بتصميم وعناد،
3- ليس الكف عن سيرة سابقة أو التكفير عنها بتحمل تضحيات وعقوبات وحسب، بل لا بد وأن تشمل نزوعاً جديداً نحو المستقبل،
4- تغيير جذري في العقيدة والإيمان, أو بمعنى أبسط معرفة أعمق وأصح بالله ودراية واعية بإرادته المقدسة،
5- استجابة واضحة لنداء نعمة الله، وانتهاز فرصة الخلاص التي يعرضها الله.
‏والتوبة ولو أنها حالة قلبية داخلية للانسان، ولكن يتحتم أن يكون لها أفعال وردود أفعال ظاهرة وعلنية, كأعمال رحمة ومحبة وتواضع: «فاعملوا أعمالا تليق بالتوبة.» (لو8:3)
‏فالصوم مثلا له أعمال:
1- «أليس هذا صوما أختاره ( أنا الله): حل قيود الشر, فك عقد النير (أي إطلاق سراح الذين نعاقبهم ونعبدهم)، واطلاق المسحوقين أحراراً, وقطع كل نير (القيود التي وضعناها على من كانوا تحت سلطاننا).» (إش7:58‏)
2- «أليس أن تكسر للجائع خبزك, وأن تدخل المساكين التائهين إلى بيتك». «إذا رأيت عرياناً أن تكسوه, وأن لا تتغاضى عن لحمك.» (إش7:58)
النتيجة: «حينئذ ينفجر مثل الصبح نورك, وتنبت صحتك سريعاً, ويسير برك أمامك, ومجد الرب يجمع ساقتك, حينئذ تدعو فيجيب الرب, تستغيث فيقول هأنذا» (إش8:58-9)

 

2- المسيح يظهر للأحد عشر خصيصاً من أجل توما في العلية

توما كان غائباً عن الاجتماع الأول, وويرفض تصديق القيامة, ويرفض شهادة إخوته التلاميذ (24:20-25)
24:20 أَمَّا تُومَا أَحَدُ الاِثْنَيْ عَشَرَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ التَّوْأَمُ فَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ حِينَ جَاءَ يَسُوعُ.

‏«كانى روح الله على عزريا بن عوديا، فخرج للقاء آسا وقال له: اسمعوا لي يا آسا وجميع يهوذا وبنيامين: الرب معكم ما كنتم معه. وإن طلبتموه، يوجد لكم. وان تركتموه, يترككم.» (2أى1:15-2)
‏توما: «ديديموس» باليونانية المترجم بالتوأم، تعني ضمن ما تعني في لغة القديس يوحنا المستيكية, أي السرية, معنى أنه واحد باثنين، وهي ما توضحه ولادة التوائم). فكون توما واحدا باثنين, ثم تقول الآية إنه واحد من الاثني عشر، فهو هنا يعني أنه يكمل بالسر مكان التلميذ الذي كان معدوداً من الاثني عشر وسقط؛ لأن «الاثني عشر» هو الاصطلاح الذي تحمله الكنيسة عوض الاثني عشر سبطاً، خلوا من أعداد وأسماء وحظوظ فردية. هذا كان يدركه بطرس الرسول تماما حينما دعا الأحد عشر إلى اجتماع عاجل والى صوم وصلاة، ليعين آخر عوض يهوذا الذي صار من نصيب الشيطان، حتى يكمل نصاب الكنيسة، لا عددا بل اسما دهريا:
‏«وذهب بي بالروح إلى جبل عظيم عال, وأراني المدينة العظيمة أورشليم المقدسة نازلة من السماء من عند الله لها مجد الله ولمعانها، شبه حجر كحجر يشب بلوري، وكان لها سور عظيم وعال (سور الخلاص)، وكان لها اثنا عشر بابا (مداخل التعليم الرسولية) وعلى الأبواب اثنا عشر ملاكاً (حراس التعليم الصحيح), وأسماء مكتوبة هي أسماء أسباط بني إسرائيل (الجديد) الاثني عشر (رسولا) … وسور المدينة كان له اثنا عشر أساساً, وعليها أسماء رسل الخروف الاثني عشر.» (رؤ10:21-14)
‏لقد أنهت أخبار المحاكمة الشنيعة والصلب والموت للمعلم المحبوب، على كل أمل في بقاء توما في أورشليم مع الرفقة على ما يظن. وربما يكون قد قفل راجعاً إلى بلدته، وهي في غالب الأمر ليست في الجليل بل اليهودية، فهو كان, على ما يُعتقد, من الخمسة التلاميذ الأوائل الذين تبعوا الرب في بداية خدمته في اليهودية قبل الجليل ولكن لما ترامت إليه أخبار القيامة رجع إلى أورشليم. وهذا ما تم بالحرف الواحد لتلميذي عمواس اللذين قفلا راجعين إلى مدينتهما, يلفهما اليأس والحسرة.
‏أما لماذا تسرع توما في الأنسحاب من دائرة الأحداث هكذا دون بقية التلاميذ، فواضح من الحديث القادم أن اليأس كان قد استبد به أكثر من جميعهم, فكان رد فعل النعمة أنها انسحبت من دائرة حياته, مؤقتاً, وهكذا ينكشف سلوك توما، التراجعي، كما تتبين معاملة الله للمتراجعين: «الرب معكم ما كنتم معه، وان طلبتموه يوجد لكم وان تركتموه يترككم.» (2اى15:2)
‏فغياب توما عن ذلك الحدث العظيم، سببه توما نفسه، ولكن تقف وعود الله بلا ندامة: «وهل تنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها؟ حتى هؤلاء ينسين، وأنا لا أنساك.» (إش15:49‏)

25:20 فَقَالَ لَهُ التّلاَمِيذُ الآخَرُونَ: «قَدْ رَأَيْنَا الرَّبَّ». فَقَالَ لَهُمْ: «إِنْ لَمْ أُبْصِرْ فِي يَدَيْهِ أَثَرَ الْمَسَامِيرِ وَأَضَعْ إِصْبِعِي فِي أَثَرِ الْمَسَامِيرِ وَأَضَعْ يَدِي فِي جَنْبِهِ لاَ أُومِنْ».

‏الإنجيل لم يذكر لنا حادثة توما هذه المخجلة لكي يحط من قدر توما, بل لكي يوضح صعوبة الإيمان بالقيامة. فإنجيل القديس متى يذكر أن أكثر من واحد منهم شكوا: «ولما رأوه سجدوا له، ولكن بعضهم شكوا» (مت17:28). هذه هي صراحة الإنجيلي في روايته، التي من واقعها ندرك صدق الرواية وصدق القيامة ذاتها. وانجيل القديس مرقس لم تفته هذه المحنة الإيمانية لدى ‏البعض، فهي جزء لا يتجزأ من الحقيقة: «أخيرا ظهر للأحد عشر وهم متكئون ووبخ عدم إيمانهم وقساوة قلوبهم, لأنهم لم يصدقوا الذين نظروه قد قام» (مر14:16)
‏وهنا يزيد القديس مرقس من لوم التلاميذ الذين لم يؤمنوا إذ كان يجب أن يصدقوا الذين نظروه قد قام. وهذه تعود وتنعكس علينا لا محالة، فنحن أمام هذه الحالة عينها. فرواية القيامة بلغتنا على يد شهود عيان كثيرين, فالايمان بها أصبح يحفه القبول من اليمين بالمديح، كما يحفة الشك من الشمال بالتوبيخ. أما الطوبى أي السعادة، فهي نصيب الذين يؤمنون ولا يطلبون لا العيان ولا شهادة العيان، لأن الحق يضيء قلوبهم.
‏إذا، فرواية توما لا تخص توما ولا التلاميذ، بل هي حدثت لتكون ركناً ركيناً في استعلان شخص المخلص، كجزء حي في درجات سلم استعلان قيامة المسيح، كطوق نجاة للذين ستعصف بهم شكوك مثل شكوك توما!
‏والقديس يوحنا يقدم لنا رواية توما على التوازي مع رواية تلميذي عمواس التي قدمها القديس لوقا. فكل من الروايتين حظت بظهور الرب خاصة. ولكن حظى كل منهما بالتوبيخ المناسب.
«قد رأينا الرب»: نفس ما قالته المجدلية: «قد رأيت الرب».
‏لم تكن رؤيا وحسب بل وفرحاً، هي شهادة ستبقى خالدة أبد الدهر ترددها كلمة «آمين»، من كل من في السموات والأرض، بانتظار الاستعلان المنظور الذي تراه كل عين آمنت أو لم تؤمن. أما التي آمنت, فبتهليل تردد صداه السموات وسماء السمورات, وأما التي لم تؤمن فبالبكاء والنحيب على الذي طعنوه بلسانهم أو جحودهم أو ارتدادهم.
‏لم تقع هذه البشارة المفرحة عند توما موقع التصديق، عن قصد من النعمة, ليكون أباً ومرشداً لكل الذين صاروا بعقولهم قوامين على قلوبهم، ومدوا أيديهم وأصابعهم عوض البصيرة ليتحسسوا بها طريق الحق. لقد صار توما في تاريخ الإيمان إمام الشكاكين. ولكن يا ليت كل من يشك، ينطق بالنهاية بما نطق به توما.
«فقال لهم: إن لم ابصر في يديه أثر المسامير, وأضع إصبعي في أثر المسامير, وأضع يدي في جنبه لا أؤمن»: جروح الصليب مميتة، فكيف تصبح علامة حياة؟ إنه تعجيز!! ولكنها هى حقاً معجزة!! توما يطلب المستحيل بالعيان واللمس, يطلب اقتران الموت بالحياة والحياة بالموت، فكان له ما شاء!! إنها حقاً القيامة!!
‏توما أراد أن يمسك بنار اللاهوت، فمسك ولم يحترق، إنه فضل التجسد ومجد القيامة!!
توما أراد أن يمثل بيده طعنة الحربة، وكمثل يد موس، دخلت برصاء بعدم الإيمان, وخرجت تضيء بصراخ الإيمان (خر6:4). إن أهوال الصلبوت ضيعت من عقل توما كل معقولية الحياة من بعد الموت، لقد أصابت المسامير فكر توما بأكثر مما أصابت به يد الفادي، الفادي قام بيديه في ملء الحركة والحياة، وفكر توما تسمر بالموت وبقي بلا حراك. الجنب المفتوح بالحربة صار كهوة في إيمان توما، تفصل الميت عن الحياة، مع أن الدم والماء النازفين منه كفيلان بأن يُحيي كل الأموات.
«لا أُؤمن»: ‏لقد جازف توما بكل إيمانه، لقد وضع إيمانه بالمسيح قائماً من الموت في كفة، ورؤية عينيه ولمس يده لآثار المسامير وطعنة الحربة في الكفة المقابلة! لقد ظن توما أن الإيمان بالقيامة رهن نظر العين ولمس اليد!!
‏ولكن السيح نفسه عنما ظهر للتلاميذ المجتمعين «أراهم يديه وجنبه», فتوما وان كان يطالب بحقه الرسولى، كتلميذ له، في الرب المقام ما كان للباقين في غيابه، إلا أن ما كان ينقص توما حقاً والذي وبخه المسيح على فقدانه, كما وبخ الآخرين, فقد كان هو الإيمان: «ووبخ عدم إيمانهم وقساوة قلوبهم لأنهم لم يصدقوا الذين نظروه قد قام» (مر24:16)، وهنا يستحيل الأخذ بنموذج توما ليكون نموذجاً لنا للايمان. ولكن نموذج توما الذي شك واشترط لإيمانه الرؤيا واللمس، هو نموذج رسولي وحسب، قرره الرب أن يكون، وقرر له الاستجابة، فظهر له بمقتضى نفس شروطه, ليؤمن، فلا يبقى هو, ولا أحد غيره، غير مؤمن بعد!!
‏أما ما انتهت إليه خبرة القديس توما والتي ينبغي أن تنتقل إلينا، أنه ليس بالعيان ولا باللمس يكون الإيمان بل بتصديق الخبر الإنجيلي، بطاعة الكلمة، بالاستجابة لنداء الروح القدس «طوبى للذين آمنوا ولم يروا.» (يو29:20)

25:20 فَقَالَ لَهُ التّلاَمِيذُ الآخَرُونَ: «قَدْ رَأَيْنَا الرَّبَّ». فَقَالَ لَهُمْ: «إِنْ لَمْ أُبْصِرْ فِي يَدَيْهِ أَثَرَ الْمَسَامِيرِ وَأَضَعْ إِصْبِعِي فِي أَثَرِ الْمَسَامِيرِ وَأَضَعْ يَدِي فِي جَنْبِهِ لاَ أُومِنْ».

‏الإنجيل لم يذكر لنا حادثة توما هذه المخجلة لكي يحط من قدر توما, بل لكي يوضح صعوبة الإيمان بالقيامة. فإنجيل القديس متى يذكر أن أكثر من واحد منهم شكوا: «ولما رأوه سجدوا له، ولكن بعضهم شكوا» (مت17:28). هذه هي صراحة الإنجيلي في روايته، التي من واقعها ندرك صدق الرواية وصدق القيامة ذاتها. وانجيل القديس مرقس لم تفته هذه المحنة الإيمانية لدى ‏البعض، فهي جزء لا يتجزأ من الحقيقة: «أخيرا ظهر للأحد عشر وهم متكئون ووبخ عدم إيمانهم وقساوة قلوبهم, لأنهم لم يصدقوا الذين نظروه قد قام» (مر14:16)
‏وهنا يزيد القديس مرقس من لوم التلاميذ الذين لم يؤمنوا إذ كان يجب أن يصدقوا الذين نظروه قد قام. وهذه تعود وتنعكس علينا لا محالة، فنحن أمام هذه الحالة عينها. فرواية القيامة بلغتنا على يد شهود عيان كثيرين, فالايمان بها أصبح يحفه القبول من اليمين بالمديح، كما يحفة الشك من الشمال بالتوبيخ. أما الطوبى أي السعادة، فهي نصيب الذين يؤمنون ولا يطلبون لا العيان ولا شهادة العيان، لأن الحق يضيء قلوبهم.
‏إذا، فرواية توما لا تخص توما ولا التلاميذ، بل هي حدثت لتكون ركناً ركيناً في استعلان شخص المخلص، كجزء حي في درجات سلم استعلان قيامة المسيح، كطوق نجاة للذين ستعصف بهم شكوك مثل شكوك توما!
‏والقديس يوحنا يقدم لنا رواية توما على التوازي مع رواية تلميذي عمواس التي قدمها القديس لوقا. فكل من الروايتين حظت بظهور الرب خاصة. ولكن حظى كل منهما بالتوبيخ المناسب.
«قد رأينا الرب»: نفس ما قالته المجدلية: «قد رأيت الرب».
‏لم تكن رؤيا وحسب بل وفرحاً، هي شهادة ستبقى خالدة أبد الدهر ترددها كلمة «آمين»، من كل من في السموات والأرض، بانتظار الاستعلان المنظور الذي تراه كل عين آمنت أو لم تؤمن. أما التي آمنت, فبتهليل تردد صداه السموات وسماء السمورات, وأما التي لم تؤمن فبالبكاء والنحيب على الذي طعنوه بلسانهم أو جحودهم أو ارتدادهم.
‏لم تقع هذه البشارة المفرحة عند توما موقع التصديق، عن قصد من النعمة, ليكون أباً ومرشداً لكل الذين صاروا بعقولهم قوامين على قلوبهم، ومدوا أيديهم وأصابعهم عوض البصيرة ليتحسسوا بها طريق الحق. لقد صار توما في تاريخ الإيمان إمام الشكاكين. ولكن يا ليت كل من يشك، ينطق بالنهاية بما نطق به توما.
«فقال لهم: إن لم ابصر في يديه أثر المسامير, وأضع إصبعي في أثر المسامير, وأضع يدي في جنبه لا أؤمن»: جروح الصليب مميتة، فكيف تصبح علامة حياة؟ إنه تعجيز!! ولكنها هى حقاً معجزة!! توما يطلب المستحيل بالعيان واللمس, يطلب اقتران الموت بالحياة والحياة بالموت، فكان له ما شاء!! إنها حقاً القيامة!!
‏توما أراد أن يمسك بنار اللاهوت، فمسك ولم يحترق، إنه فضل التجسد ومجد القيامة!!
توما أراد أن يمثل بيده طعنة الحربة، وكمثل يد موس، دخلت برصاء بعدم الإيمان, وخرجت تضيء بصراخ الإيمان (خر6:4). إن أهوال الصلبوت ضيعت من عقل توما كل معقولية الحياة من بعد الموت، لقد أصابت المسامير فكر توما بأكثر مما أصابت به يد الفادي، الفادي قام بيديه في ملء الحركة والحياة، وفكر توما تسمر بالموت وبقي بلا حراك. الجنب المفتوح بالحربة صار كهوة في إيمان توما، تفصل الميت عن الحياة، مع أن الدم والماء النازفين منه كفيلان بأن يُحيي كل الأموات.
«لا أُؤمن»: ‏لقد جازف توما بكل إيمانه، لقد وضع إيمانه بالمسيح قائماً من الموت في كفة، ورؤية عينيه ولمس يده لآثار المسامير وطعنة الحربة في الكفة المقابلة! لقد ظن توما أن الإيمان بالقيامة رهن نظر العين ولمس اليد!!
‏ولكن السيح نفسه عنما ظهر للتلاميذ المجتمعين «أراهم يديه وجنبه», فتوما وان كان يطالب بحقه الرسولى، كتلميذ له، في الرب المقام ما كان للباقين في غيابه، إلا أن ما كان ينقص توما حقاً والذي وبخه المسيح على فقدانه, كما وبخ الآخرين, فقد كان هو الإيمان: «ووبخ عدم إيمانهم وقساوة قلوبهم لأنهم لم يصدقوا الذين نظروه قد قام» (مر24:16)، وهنا يستحيل الأخذ بنموذج توما ليكون نموذجاً لنا للايمان. ولكن نموذج توما الذي شك واشترط لإيمانه الرؤيا واللمس، هو نموذج رسولي وحسب، قرره الرب أن يكون، وقرر له الاستجابة، فظهر له بمقتضى نفس شروطه, ليؤمن، فلا يبقى هو, ولا أحد غيره، غير مؤمن بعد!!
‏أما ما انتهت إليه خبرة القديس توما والتي ينبغي أن تنتقل إلينا، أنه ليس بالعيان ولا باللمس يكون الإيمان بل بتصديق الخبر الإنجيلي، بطاعة الكلمة، بالاستجابة لنداء الروح القدس «طوبى للذين آمنوا ولم يروا.» (يو29:20)
ميشيل فريد غير متصل رد مع اقتباس الرد السريع على هذه المشاركة

26:20 وَبَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ كَانَ تلاَمِيذُهُ أَيْضاً دَاخِلاً وَتُومَا مَعَهُمْ. فَجَاءَ يَسُوعُ وَالأَبْوَابُ مُغَلَّقَةٌ وَوَقَفَ فِي الْوَسَطِ وَقَالَ: «سلاَمٌ لَكُمْ»

‏لا يزال التلاميذ في أورشليم ولا يزالون مجتمعين! إن حقائق القيامة وظهور الرب ربطت قلوبهم بالمكان الذى ظهر فيه، لم يعووا قادرين على مبارحة أورشليم. كانوا ينتظرون بناغ الصبر مزيدا من الاستعلان والظهور. لقد بدأت تتبلور في قلوبهم رسالتهم، ولكن لم يكونوا حائزين بعد ‏على «القوة» اللازمة للحركة.
‏كان يوم الأحد الذي قام فيه الرب وظهر لهم فيه «أيضاً» في المساء, كان قد أخذ قدسية خاصة زادت بصورة مؤكدة بعد أن ظهر لهم وللمرة الثانية في نفس المكان ونفس المساء, مساء الأحد. وهكذا تقررت علية أورشليم أن تكون مركز ميلاد الكنيسة في أورشليم, كما تقرر يوم الأحد ليكون يوم الرب، يوم القيامة، يوم الظهور والاستعلان.
فى هذا يقول القديس كيرلس الكبير: [إذا، هو لسبب صالح لنا عادة أن يكون لنا اجتماعات مقدسة في الكنائس في اليوم الثامن (الأحد). ويُستحب أن نستعير لغة التشبيه بالإنجيل فنقول، وكما تستلزمه الحاجة، نحن نقفل الأبواب. وبالرغم من ذلك يأتي المسيح ويظهر لنا جيعا منظوراً وغير منظور بآن واحد, غير منظور بصفته الإلهية ومنظورا بالجسد (في الإفخارستيا). ويجيز لنا أن نلمس جسده المقدس ويعطيه لنا أيضاً. لأننا بنعمة الله, ونحن نؤهل أن نشترك في الافخارستيا المقدسة، نستقبل المسيح في أيدينا بغرض أن نؤمن يقيناً أنه حقآ أقام هيكل جسده].
‏كان اجتماع التلاميذ وتوما معهم بمثابة داع دعا الفادي للظهور: «حيثما اجتمح اثنان أو ثلاثة باسمي، فهناك أكون في وسطهم» (مت20:18). ولكن هنا ليس اثنان أو ثلاثة، بل «أول كنيسة» تجتمع بكامل هيئتها, ليعطي لها المسيح أول درس في الإيمان غير المعتمد علي المنظور.
«فجاء يسوع والأبواب مغلقة, ووقف في الوسط»: اللغة التي صيغت بها هذه المعلومة «فجاء يسوع» توضح في اللغة اليونانية أنه كان هناك نوع من الترقب؛ وهذا ما نعتقده نحن بكل تأكيد. فالآن قد حاز التلاميذ على عطية الروح القدس الكفيل أن يجعلهم يشعرون «بالأمور الآتية»، وخاصة فيما للرب ومجيئه. ولكن الذي يلهب قلوبنا نحن أيضاً، هو كيفية ظهوره بكامل عظمة هيئته، وفي وداعة بشريته ولطف محبته، بل ونقول بروح نشيد الأ نشاد: يا لطلعته البهية، يا لبأس منظر عينيه كغالب الموت وقاهر الهاوية، يا لبهاء نور الآب الذي يشع من كل كيانه, تخرج من جروح يديه ورجليه طاقات وموجات من الأشفية والأدواء لعلاج كل أوجاع البشرية، ومن خلف جنبه منظر كنهر الحياة ليعطي كل أمم وشعوب الأرض للاغتسال بغسل الحياة، لاستنشاق نسيم روح الله. هكذا جاء يسوع خصيصآ ليتحادث مع توما بشأن عدم لياقة عدم إيمانه، بعد سنين هذا عددها وهو يسقيه فيها من روح نعمته.
‏جاء يسوع ووقف «في الوسط», صحيح أنه جاء خصيصآ لتوما، ولكن حينما يظهر المسيح يظهر في الوسط فهو للجميع والجميح له. ليس كبير أو صغير بينهم ، فالكل فيه كبير والكل فيه كريم مُكرم.
‏«وقال سلام لكم»: ليست هي مجرد تحية، ولكنها وديعة يستودعها الرب لكنيسته: «سلامي أعطيكم», فالرب لا يقرىء السلام, بل يعطيه، بل يسكبه ويبثه بثاً، ليسري في القلوب والأفكار والأرواح، ليبقى ويدوم ويترسخ داخل النفس، نلتجىء إليه يوم العاصفة فتجده، ونستغيث به في الضيقة فنسربل به.
‏ويلزم أن ننتبه أن التلاميذ كانوا لا يزالون خائفين, لأن الآبواب كانت لا تزال مغلقة عليهم. فكان المسيح، بإعطائهم السلام، كمن يقول لهم: «أما خوفهم فلا تخافوه، ولا تضطربوا ، بل قدسوا الرب الإله في قلوبكم.» (ابط14:3-15)

 


27:20 ثُمَّ قَالَ لِتُومَا: «هَاتِ إِصْبِعَكَ إِلَى هُنَا وَأَبْصِرْ يَدَيَّ وَهَاتِ يَدَكَ وَضَعْهَا فِي جَنْبِي وَلاَ تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَلْ مُؤْمِناً».

‏عجيب أن الرب يعيد نفس الكلمات التي نطق بها توما وهو يتحدث مع زملائه، فكأن الرب كان واقفاً يستمع إلى شروط توما المغلظة، لم يعاتبه ولا حتى آخذه, بل بلطف يفوق كلق لطف، أخضح جسده الذي ترتعب منه الأجناد السماوية لرؤية عين توما, ويلمس أصابعه. عرى جروحه، وجنبه المفتوح جعله في متناول يده!
‏وهكذا احتفظ الرب بعلامات الموت ليجعلها برهان الحياة، وآثار الذلة والانسحاق ليجعلها أسباب المجد!
‏ولعل إخضاع الرب جروحه النازفة للمس أصابع توما، كان قمة استعلان الموت في الحياة وقمة الحياة في الموت. وهذه هي القيامة نصا وفصا. ثم، أما كان القديس يوحنا صادقاً في رؤياه لما قال في افتتاح إنجيله: «وكان الكلمة الله»؟ وهكذا بقيت هذه الحقيقة العظمى تحتاج إلى برهان، إلى أن تجسد الكلمة وذُبح على الصليب وقام، إلى أن باشرها توما بالروح والعين المفتوحة قبل أصابح يديه، فصرخ: «ربي والهي».
‏ولكن ماذا كان وقع كلمات الرب المقام على توما، حينما ردد على مسامعه كل الكلام والشروط التي قالها للتلاميذ، متحدياً جيعهم ليؤمن بقيامة الرب؟ أعتقد أنها فوق أنها أخجلته، فقد جعلته في غير حاجة لأن يمد يده أو إصبعه. ولكن حينما مدها وحينما لمس إطاعة للأمر الذي صدر له، كان قد بلغ الإيمان في قلبه حد الصراخ بالشهادة. خبرة العين الروحية ابتلعت خبرة عين الجسد، ولمسة الروح في القلب طغت على لمسة اليد.
‏«لا تكن غير مؤمن, بل مؤمناً»: لم يكن توما غير مؤمن، لهذا ظهر له الرب. وإلا لو كان فعلاً غير مؤمن، لما ظهر له الرب على الإطلاق, لقد قلنا إن عطية الروح القدس التي نفخها الرب في التلاميذ كانت جماعية لا فردية، كانت في جسم الجماعة المتحدة، وليس على مستوى فرد دون فرد. وهكذا انتقلت من فم المسيح للرسل، ومن الرسل للكنيسة، ككل، كجسد حي. القديس توما, إذاً، لم يكن غريباً عن جسم التلاميذ، جسم الكنيسة, ولا عن عطية الروح القدس، ولكن لما استبد به الشك, كونه استثني من رؤية الرب، كان يطلب حقه في الرؤيا العينية, وزاد عليها لمس الأصابع، إمعاناً في الوثوق الذي يطلبه. بمعنى أن توما كان في طريقه إلى الإيمان في حالة حصوله على ما احتاجه إيمانه: «أؤمن يا سيد, فأعن عدم إيماني» (مر24:4)
‏الرب تنازل إلى مستوى شروط توما، ليقطع على توما, وعلى كل من يذهبث مذهبه, الطريق إلى عدم الإيمان!
ولكن الذي اعتاد على أسلوب القديس يوحنا في التلطيف الفائق الوصف عند سرد سلوك التلاميذ خاصة، يدرك كيف يخفف هذا الإنجيلي الوديع المحب من عنف أسلوب المسيح في مقارعة التلاميذ الذين قسوا قلوبهم, ولم يبلغوا سريعا إلى درجة الإيمان الفوري حسب رواية القديس مرقس: «أخيراً ظهر للأحد عشر(توما في الحسبان) وهم متكئون (ثاني مرة أي الأحد الثامن)، ووبخ عدم ايمانهم وقساوة قلوبهم, لأنهم لم يصدقوا الذين نظروه قد قام.» (مر14:16)
‏ولكن هاتين الرؤيتين لكلام الرب، هما في الحقيقة لموضوع واحد رآه القديس مرقس بما كان من ضعف التلاميذ، ورآه القديس يوحنا بما سيكون من لطف المسيح للتلاميذ، الأول رآه يستحق التعنيف، والآخر رآه يستحق التشجيع.

28:20 أَجَابَ تُومَا: «رَبِّي وَإِلَهِي».

«هو يدعو باسمى. وأنا أجيبه. أقول هو شعبي, وهو يقول الرب إلهي» (زك9:13)
‏هذا الخطاب الموجه للمسيح رأساً من القديس توما هو، نصاً وحرفاً، نفس الخطاب الموجه من أي إسرائيلي نحو يهوه الله. وهكذا بلغ الإنجيل بالفعل والقول إلى أقصى ما عبر عنه المسيح أن يكون: «لكي يكرم الجميع الابن، كما يكرمون الآب» (يو23:5). وتم بالفعل قول المسيح الذي قال: «فقال لهم يسوع: متى رفعتم ابن الإنسان, ‏فحينئذ تفهمون أني أنا هو(يو28:8)
‏إن نطق القديس توما: «ربي والهي» يكون قد وقع على المنظور الحي ما قاله القديس يوحنا في رؤياه للكلمة «وكان الكلمة الله».
‏هذه هى قمة الاستعلانات التي تتبعها هذا الإنجيلي الدقيق الدؤوب. إنها قمة إنجيل القديس يوحنا، التي ما أن بلغها هذا القديس، حتى تنفس الصعدا، وأرخى الفكر وسجل الخاتمة: «وآيات أخر كثيرة صنع يسوع قدام تلاميذه لم تُكتب في هذا الكتاب. وأما هذه فقد كُتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله، ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه.» (يو30:20-31)
والذي يزيد من قيمة هذا الاستعلان الذي استلهمه القديس توما من رؤية الرب المقام, أنه يأتي بعد أسبوع كامل من عذاب الشك وليل الظنون. فهو وان تاخر عن التلاميذ ثمانية أيام في التعرف على القيامة وتصديقها، إلا أنه سجل للكنيسة أول اعتراف علني بألوهية المسيح، خرج منه بتلقائية تعبر عن الحق الذي رآه كاعتراف إيمان بلغ الذروة, ليس في كل الإناجيل ما يضاهيه.
‏يتفق معظم الشراح في أن القديس توما لم يمد يده نحو الجسد المقدس، ولم يكن في حاجة أن يتفرس في ثقوب المسامير باليدين، ولا تحسس الجنب المفتوح, وإن خالف ذلك كثيرون أيضاً؛ بل إنه, حال ظهور الرب والأبواب مغلقة، أخذ في دهشة، وانفتحت بصيرته في الحال فنطق بما نطق. لقد شعر، والرب أمامه بلحمه وعظامه، بهيئته الجديدة المجيدة وبصوته هو هو، أن كل مطاليب ضعف إيمانه السابق من جهة رؤية أثر المسامير والجروح والجنب المفتوح، هي أتفه من الحقيقة المعلنة أمامه.
‏إن ظهور الرب بحال قيامته كان كفيلاً بأن يغير, لا فكر توما بل روحه وحياته. إن ظهور الرب قوة، فالقيامة هي المجال الإلهي الفائق، الذي إذا دخله الإنسان يفقد رؤيته لنفسه والعالم, وكأنها أقنعة يخلعها ليرى الحقيقة الدائمة ولا يعود يرى نفسه إلا في الله : «ربي والهي».
‏إنه يذكر نفسه بياء الملكية مرتين «ربي وإلهي»، تأكيدا منه أن من يراه واقفاً أمامه، يرى نفسه فيه ويراه هو في نفسه، وكأنه يردد بلسان صاحب شيد الآنشاد: «أنا لحبيبي، وحبيبي لى» (نش3:6‏). إنه تعبير عن إيمان حي محسوس وشخصي. وقول توما للمسيح: «إلهي» إنما يعبر تعبيراً حياً صادقاً منظوراً بالروح لقول الميسح: «الذي رآني فقد رأى الآب.» (يو9:14)
‏لقد صار له المسيح وصار هو للمسيح ، فاستعلن له المسيح في ذاته رباً وإلهاً. لقد تعرف على الله في المسيح، وتعرف على المسيح في الله!!
‏وأخيراً, أدرك توما أن المسيح ليس للمس اليد أو نظر العين!! فهو الملء الذي يملأ الروح والبصيرة والقلب، الملء الذي لا تسعه عين ولا يحيطه فكر.
‏وكان رد المسيح على اعتراف توما: «ربي والهي» أن أمن على إيمانه، موافقاً على إعلانه ‏بلاهوته كمن أصاب الحقيقة بكلمة، فلو لم يكن المسيح إلها بالحق, ما كان قد ارتضى بهذا الإعلان!! ولو لم يكن المسيح والآب واحد، ما رأى توما ما رأى!! لقد رأى توما المسيح كما يريد المسيح نفسه أن يُرى!
اما «ربي» فهي تخص إيمان توما بالمسيح «المعلم» الذي أكل وشرب معه, وها هو واقف أمامه. إنها صرخة المجدلية «ربوني»، تعبر عن إيمان القيامة. وأما «إلهي» فتخصه مستعلناً في حقيقته الأزلية, إذ ارتفع توما بإعلان حازه, به رأى الله فى المسيح! انهأ رؤية حق، للحق، لقد واجه توما المسيح في حقيقة ذاته: «الذى رآنى فقد رأى الآب.» (يو9:14)
‏وهكنداء بقدر ما انحط إيمان توما حتى شك في القيامة، بقدر ما أعطى للقيامة معيارها الإلهي العالي. وهكذا أثمر ظهور الرب للتلميذ الضعيف الإيمان قوة إيمانية باقية تسند الكنيسة على مدى الأزمان.
‏ولكن حذار أن نفهم من هذا أن ظهور الرب لتوما كان ظهور «العيان»، إذ يتحتم أن نفهم أن الظهور الإلهي الذي كان يظهر به المسيح بعد القيامة لم يكن ظهوراً تتحكم فيه العين البشرية وتفحصه. إنه ظهور إعجازي، يحتاج إلى عين روحية مفتوحة، إلى وعي روحي فائق عن وعي الجسد والحواس؛ يحتاج إلى عمل الروح: «وحينئذ فتح ذهنهم ليفهموا الكتب» (لو45:24). أو القول الآخر الأكثر انطباقاً الذي تم بالحرف الواحد لتلميذي عمواس: ففي الأول كان المسيح سائراً معهم ولم يعرفاه: «ولكن اُمسكت أعينهما عن معرفته» (لو16:24). ولكن، في النهاية، تمت المعجزة من خلال إفخارستيا: «فلما اتكأ معهما، أخذ خبزاً، وبارك، وكسر، وناولهما، فانفتحت أعينهما وعرفاه, ثم اختفى عنهما.» (لو30:24-31)
‏بهذه الرؤيا وحدها، يمكن التعرف على المسيح كإله، على أساس الآية التي قالها الرب: «الذي يراني يرى الذي أرسلني» (يو45:12). هنا يستحيل أن تكون رؤية العين هي التي ترى من أرسله الرب؛ إنها حتما وبالضرورة رؤية الروح، «الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله» (اكو10:2). وهذه هي رؤية الإيمان، بمعنى رؤية منشؤها التصديق، ونهايتها التعرف على الله في المسيح والمسيح في الله. هنا بلغ توما عن حق رؤية المسيح الإله: «ربي وإلهى».

29:20 قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لأَنَّكَ رَأَيْتَنِي يَا تُومَا آمَنْتَ! طُوبَى للَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا».

‏أخيراً ظهرت رنة التوبيخ والعتاب في صوت المسيح لتوما؛ لأنه ما كان لائقاً بتلميذ عاشر الرب، وسمع منه أنباء القيامة العتيدة، بل ورأى قوتها عيانأ عند قبر لعازر، مع تنبيه دائم ركز عليه الرب: «قلت لكم قبل أن يكون، حتى متى كان تؤمنون» (يو29:14). فلما «كان» ما سبق وأنبأ عنه المسيح، وحدث كما قال، لا آمن توما ولا صدق من رأوا وآمنوا !!
‏لقد شابه توما بطرس في ضعف إيمانه، فذاك صلى المسيح من أجله، حتى لا يفنى بصيص إيمانه الذي كان كفتيلة مدخنة، ودخانها يعمي العيون: «فابتدأ حينئذ يلعن ويحلف إني لا أعرف هذا الرجل!!» (مت47:26؛ مر71:14). أما هذا، فظهر المسيح له خصيصاً، وأراه جروحه، وأخضعها للمس يده، حتى يصير مؤمناً ولا يكون غير مؤمن بعد!!
‏ولكن شكرأ لك أيها القديس توما، لأن بشكك ورثتا الطوبى، أحسن الطوبى!
‏«أنتم الذين بقوة الله محروسون بإيمان, لخلاص مستعد أن يستعلن في الزمان الأخير، الذي به تبتهجون, مع أنكم الآن إن كان يجب تحزنون يسيراً بتجارب متنوعة … الذي وان لم ترؤه تحبونه. ذلك, وان كنتم لا ترونه الآن, لكن تؤمنون به فتبتهجون بفرح لا يُنطق به ومجيد.» (ابط5:1-8)
‏وفي نهاية هذه الآية المجيدة التي ورثتنا الطوبى، نلفت نظر القارىء أنها تحمل بين طياتها عزم المسيح على الأنسحاب الأخير، بحيث لا يراه أحد، بعد، إلا بالإيمان. وهكذا عبر إنجيل القديس يوحنا عن الصعود دون أن يصفه.

القصد الأساسي من كتابة إنجيل القديس يوحنا (30:20-31)

30:20 وَآيَاتٍ أُخَرَ كَثِيرَةً صَنَعَ يَسُوعُ قُدَّامَ تلاَمِيذِهِ لَمْ تُكْتَبْ فِي هَذَا الْكِتَابِ.

‏والآن، وقد أنهى القديس يوحنا إنجيله الذي كشف فيه من الآيات ذات المدلول الإلهي، وخاصة آيات القيامة, رفع عينيه نحو الأفق, نحو مستقبل الأجيال القادمة الذين كتب لهم هذا «الكتاب» بكل صدق الروح وحراسة النعمة، وكتب هذه الكلمات. إنه الآن يخاطبك أيها القارىء السعيد، باعتبارك أنك بُلغت الرسالة.
‏لقد سبق القديس يوحنا وأن وقف هذه الوقفة عينها، ناظراً إلى الماضي بكل آياته ومعجزاته الباهرة، ولكن ليس في غمرة فرح القيامة لبشارة الأمم كما هو هنا الآن، إنما في أسى وحزن، وقد امتد ظل الصليب ليغطي كل الآيات التي صنع، ليلقى عليها مسحة من الجحود والعمى والصمم التي أصابت الأمة المختارة: «ومع أنه كان قد صنع أمامهم آيات هذا عددها, لم يؤمنوا به ليتم قول إشعياء النبي الذي قاله: يا رب من صدق خبرنا، ولمن استعلنت ذراع الرب. لهذا لم يقدروا أن يؤمنوا. لأن إشعياء قال أيضأ قد أعمى عيونهم, وأغلظ قلوبهم، لئلا يبصروا بعيونهم, ويشعروا بقلوبهم، ويرجعوا فأشفيهم.» (يو37:12-40)
‏ولكن هنا يسجل لنا القديس يوحنا, كتلميذ أمين ومحبوب، شهادة ذات وزن رسولي وانجيلي، أن الآيات التي صنعها المسيح سواء وسط الشعب في اليهودية أو أورشليم (يو23:2‏) أو الجليل شيء لا يحصره عدد وبوجه خاص يذكر هنا «قدام تلاميذه»، وهو بصدد الظهور للقديس توما، لكي يرفق بها ظهورات الرب بعد القيامة، كنوع هام وممتاز من المعجزات التي اعتبرها آيات تتكلم وتشير إلى لاهوته بلا نزاع. ومعلوم, على وجه العموم، أن المسيح اقتصر ظهوره على تلاميذه بعددهم الرمزي (الاثني عشر)، وأيضاً بعد ذلك بعددهم العام نحو «خمسائة أخ» (1كو3:15-8) معتبراً أن هذه الظهورات كانت آيات تشير كلها وتتكلم عن صحة موته وقيامته، تأكيدا لرسالة الفداء التي أكملها كابن الله المتجسد.
‏ويلاحظ القارىء كيف جعل القديس يوحنا هذه الآية: «وآيات أخر كثيرة صنع يسوع قدام تلاميذه»، تأتي ملتحمة بشهادة القديس توما «ربي وإلهى», لكي تصير كنموذج يؤكد به للقارىء القصد من كل الآيات التي اختارها وسجلها: «لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله»، معتبراً أن اعتراف توما بإلوهية المسيح هو المعيار النهائي للانجيل كله.
‏ويعود القديس يوحنا ويذكرنا أن إنجيله الذي كتبه، إنما لا يمثل كل أعمال الرب، بل هو مختارات من آياته قولا وعملا، وكأنما يعتذر القديس يوحنا للقارىء الذي كان يريد أن يطلع على كل أعمال الرب. فهو بصريح العبارة يعترف أنه لم يكتب سيرة المسيح، ولكن اختار للقارىء، الذي يريد أن يؤمن بابن الله ويكون له الحياة الأبدية، ما يكفي لإيمانه. أما بقية أمجاد المسيح وأعماله فهو يتركها للمؤمن لكي يتسلمها من المسيح رأساً، ألم يستلم بولس الرسول ما يكاد أن يكون إنجيلاً بأكمله, ما لم يستلمه الآخرون؟ إذن، يكفي للقديس يوحنا أن يوصلنا إلى المسيح الحي، والباقي يتركه للمسيح الذي حسب قول القديس بولس الذي لم يره: «أحبني وأسلم نفسه لأجلي.» (غل20:2‏)
‏وهذا الأسلوب أيضأ نقرأه للقديس لوقا: «وبأشياء أخر كثيرة كان يعظ الشعب ويبشرهم.» (لو18:3)
‏وفي هذه اللفتة العميقة في نهاية إنجيله، يريد القديس يوحنا أن يسرب إلى وجداننا «غنى المسيح الذي لا يٌستقصى» (أف8:3)، والملء الذي يملأ الكل (أف23:1)، من ذا الذي يستطيع أن يحيط به؟؟
‏والقديس يوحنا بهذا التقرير, إنما يلفت نظرنا إلى استعداد المسيح أن يكمل ويستزيد من الآيات والعلم والمعرفة لمن أصبح مستحقاً للكمال والاستزادة، أليس هو القائل: «إن لي أمورا كثيرة أيضا، لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن» (يو12:16)؟


31:20 وَأَمَّا هَذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِاسْمِهِ
‏هدفان أساسيان كانا يعملان في قلب هذا القديس ويملكان عليه كل تفكيره، عندها كان يكتب إنجيله، لكي يخرج بهما القارىء من قراءته:
‏الأول: الإيمان بيسوع أنه هو المسيح ابن الله، وهذا هو جوهر المسيحية.
‏الثاني: وهو مترتب على الأول، أن تكون له حياة أبدية، وهذا هو جوهر الخلاص، فلا مسيحية بدون خلاص.
‏أما الهدف الأول، وهو الإيمان بأن يسوع هو المسيح ابن الله، فاعتبره القديس يوحنا في رسالته الأولى أنه هو غلبة العالم: «من هو الذي يغلب العالم إلا الذي يؤمن أن يسوع هو ابن الله.» (ايو33:16)
‏ما معنى هذا؟ معناه أن العالم بأمجاده وغروره وشهواته قادر ان يبتلع حياة الإنسان, وأنه لا توجد أية قوة أو وسيلة تنقذ الإنسان من طغيان العالم، إلا الإيمان بابن الله! لماذا؟ لأنه هو الذي تجسد وصار إنساناً، وغلب العالم بموته عن العالم: «ثقوا أنا قد غلبت العالم» (يو33:16)
‏وما هي غلبة العالم؟ هي الحصول على الحياة الأبدية مع الله، التي لا يمكن أن يعرفها العالم أو يعطيها. فالمسيح, وهو ابن الله، مات عن العالم وقام حياً, إذ كان لا بد أن يقوم، فافتتح بحياته الحياة الأبدية لكل من يؤمن بموته (يسوع) وقيامته (المسيح ابن الله).
وهكذا، فالهدف الثاني الذي من أجله كتب القديس يوحنا إنجيله: أن «تكون لكم, إذا آمنتم» حياة باسمه». فـ «الإيمان» بالمسيح ابن الله يعمل في شهادته غلبة المسيح عل العالم، يحمل قوة موت المسيح عن العالم، كما يحمل قوة قيامة المسيح من الأموات، أي يحمل الخلاص بكل معناه ومبناه، وبالتالى يحمل حياة المسيح ابن الله التي انفتحت على كل من يؤمن به: «لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية.» (يو15:3)
«حياة باسمه»: اسم المسيح حينما ننطقه فهو شهادة واعتراف وصك إيمان وشركة معه بالحب في موته وحياته. واسم الله، بحسب لاهوت العهد القديم, هو الله حاضراً وقائماً وفعالاً. لذلك كان محظوراً أن ينطق اليهودي باسمه، لأن النطق باسم الله هو استدعاء لحضرته, أو بمثابة الدخول في حضرته التي لا يطيقها أي إنسان مهما كان طاهراً. أما اسم المسيح، وهو على التوازي، بل التساوي مع اسم الله، فهو الحامل لحضرة المسيح الحي. ولكن المسيح مات من أجل كل خاطىء ليحييه: «إني أنا حي فأنتم ستحيون» (يو19:14)، لذلك أصبح اسم المسيح الذي يحمل وجوده الشخصي، هو هو الحياة الأبدية.
القديس يوحنا يحاصرنا منذ بدء إنجيله بهذه الحقيقة، حيث يبدأ في تعريفنا بالمسيح، وهو الكلمة اللوغس بقوله: «فيه كانت الحياة»، ولما تجسد وابتدأ «يتكلم»، قال هو عن نفسه: «إن الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة» (يو63:6‏)، ولما تكلم مع الأعمى أبصر، ولما سمع لعازر الميت صوته قام حياً. هذا هو المسيح الذي يقدمه للقارىء في ختام إنجيله: «لكي تكون لكم، إذا أمنتم، حياة باسمه».

الصورة الإنجيلية العامة لظهورات الرب
‏والتسجيلات التي أزدحمت بها أسفار العهد الجديد عن مفردات عقيدة القيامة
بحسب الإيمان الذي ورثته الكنيسة من شهادة الرسل والتلاميذ
حتى كتابة إنجيل يوحنا سنة 95-100 م
وكلها بشهادة شهود، وبالتدرج بحسب التاريخ الزمني تقريباً

1- «ولما قالت هذا، التفتت إلى الوراء، فنظرت يسوع واقفاً ولم تعلم أنه يسوع. فقال لها يسوع: يا أمرأة لماذا تبكين, من تطلبين. فظنت تلك أنه البستاني فقالت له: يا سيد، إن كنت أنت قد حملته، فقل لى أين وضعته، وأنا آخذه. قال لها يسوع: يا مريم. فالتفتت تلك وقالت له: ربوني، الذي تفسيره يا معلم … فجاءت مريم المجدلية وأخبرت التلاميذ أنها رأت الرب, وأنه قال لها هذا.» (يو14:20-18)
+ ظلت حواء تبكي على الفردوس المفقود، وتطلب لنفسها ذلك الفادي الذي يعود بها إلى شجرة الحياة, حتى وُلد لها في المجدل بنت ورثت بكاءها في طلب الفادي. هذه لما رأته رؤيا العين ظنته البستاني، مع أنه هو هو شجرة الحياة بعينها. فناداها باسمها، فعرفت فيه صوت الله. ولما أرادت أن تأخذه لنفسها، أرسلها لتدعو آدم أولاً.

2- «فحيئذ دخل أيضاً التميذ الآخر (يوحنا)، الذي جاء أولاً إلى القبر ورأى فآمن.» (يو8:20)
+ أول إيمان ورثته الكنيسة, ورثته من قلب التلميذ المحبوب. لم ير المسيح، ولم ير الجسد، بل رأى قبراً فارغاً ولفائف ملفوفة بلفتها في مكان الجسد وبوضعه. فأدرك القيامة، قبل أن يرى القائم من الأموات, ووثق بنصرة الحياة على الموت، قبل أن يشهد ويرى ويلمس الحياة التي كانت عند الآب. إيمانه صار إيمان الكنيسة, إيمان الحب والبتولية، إذ جعلت الرهبنة أساساً لها، ولا تزال ترضع من ثدي تعزيات آباء الصحاري، والقيامة هي لنا, كما كانت لهم, حياتنا كلنا ورجاؤنا كلنا.

3- «جاء يسوع، ووقف في الوسط, وقال لهم: سلام لكم. ولما قال هذا، أراهم يديه وجنبه، ففرح التلاميذ، إذ رأوا الرب.» (يو19:20-20)
‏+ أول تسجيل جماعي للقيامة: الكنيسة الأولى بالأحد عشر وُلدت، فاقدة للخائن، فصدق فيها القول أنها بلا عيب كسيدها. ظهور المسيح المُقام ملك لكل من يراه؛ فلا يقول أحد بعد لأخيه اعرف الرب، لأن «الجميع يكونون متعلمين من الله» (راجع يو45:6). أراهم يديه ملآنة جروحاً، ومن الجروح يفيض نبع سرور، وأراهم أيضاً جنبه المفتوح نابعاً منه «نهر صاف من ماء حياة لامعاً كبلور خارجاً من عرش الله والخروف.» (رؤ5:28-10)
‏‏
4- «فأجاب الملاك وقال للمرأتين: لا تخافا أنتما، فإني أعلم أنكما تطلبان يسوع المصلوب. ليس هو ههنا، لأنه قام كما قال، هلما انظرا الموضع الذي كان الرب مضطجعاً فيه، واذهبا سريعاً قولا لتلاميذه إنه قد قام من الأموات … وفيما هما منطلقتان لتخبرا تلاميذه، إذا يسووع لاقاها، وقال: سلام لكما. فتقدمتا وأمسكتا بقدميه وسجدتا له. فقال لهما يسروع: لا تخافا، اذهبا قولا لإخوتي أن يذهبوا إلى الجليل وهناك يرونني.» (مت5:28-10)
+ شهادة الملاك بقيامة الرب تُحدث عن صدى القيامة, كيف أذيعت أولاً في السموات، والنسوة كن أول من تلقين الخبر على الأرض من فم الملاك. امتزج عندهما الخوف بالفرح العظيم، لما علمتا بالقيامة، فمهد الفرح العظيم في قلبيهما لانفتاح أعينهما لرؤية الرب لما لاقاهما. فلما أمسكتا بقدميه كانتا كمن أمسكتا بالحياة الأبدية, وسجدتا, وكان سجودها أول عبادة بالروح قُدمت للمسيح على الأرض. وانطلقت حواء تبشر آدم بالعودة إلى الفردوس.

5- «واذا اثنان منهم كانا منطلقين في ذلك اليوم إلى قرية بعيدة عن أورشليم ستين غلوة اسمها عمواس … وفيما ها يتكلمان ويتحاوران اقترب اليهما يسوع نفسه وكان يمشي معهما. ولكن أمسكت أعينهما عن معرفته … فقال لهما: أيها الغبيان والبطيئا القلوب في الايمان بجميح ما تكلم به الأنبياء، أما كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده. ثم ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء، يفسر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب … فلما اتكأ معهما، أخذ خبزا, وبارك، وكسر، وناولهما, فانفتحت أعينهما, وعرفاه, ثم اختفى عنهما … فقاما في تلك الساعة (في الغروب) ورجعا إلى أورشليم, ووجدا الأحد عشر مجتمعين هم والذين معهم، وهم يقولون إن الرب قام بالحقيقة وظهر لسمعان. وأما هما فكانا يخبران بما حدث في الطريق، وكيف عرفاه عند كسر الخبز.» (لو13:24-35)
+ القيامة أنشأت هيئة أخرى جديدة للإنسان تختلف عن هيئته الأولى, لأن نوع الحياة تغيرت, فبيئة الأرض شيء نحن نعلمه, وبيئة القيامة هي السماء. وحواسنا لم تتدرب على معرفة السمائيات بعد، إلا كعطية خاصة.
+ باثنين معاً تصبح الشهادة بقيامة الرب, كانا منطلقين نحو عالم الإنسان، واليأس يملأ قلبيهما، بنية العودة إلى العمل اليومي شبه المائت. قابلهما الرب في منتصف الطريق ليردهما مرة أخرى إلى الصليب والبشارة بقيامته، كانت عبوستهما نوعاً من الغباء الذي تنشئه القراءة في الأسفار دون معرفة وايمان. والقيامة تسير بجوارها على استعداد أن تتجاوزهما، إن هما أبطأ أكثر في غبائهما. ولكن إلحاحهما وتوسلهما ومحبتهما للغرباء واستعداد ضيافتهما, أنقذهما من ابتعاد القيامة عنهما. فلما ألزما القيامة أن تحلق عندهما, حتى في جهلهما بها, حلت، ولم تستعلن نفسها لهما إلا في الإفخارستيا, وفي لحظة القسمة، أي كسر الخبز.
‏والغبيان صارا عالمين بسر الله، والبطيئا الإيمان في القلب انطلقا بالشهادة.

6- «وأما الأحد عشر تلميذاً فانطقوا إلى الجليل إلى الجبل، حيث أمرهم يسوع. ولما رأوه سجدوا له, ولكن بعضهم شكوا. فتقدم يسوع وكلمهم قائلاً: دُفع إلي كل سلطان في السماء وعلى الأرض. فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم بام الآب والابن والروح القدس.» (مت16:28-19)
‏‏+ استعلان القيامة ينشىء في الحال عند الإنسان روح عبادة حارة لا تنطفىء، لأنه يسكن القلب: «وان كان روح الذي أقام يسوع من الأموات ساكنأ فيكم، فالذي أقام المسيح من الأموات سيحيي أجسادكم المائتة أيضاً بروحه الساكن فيكم» ‏(رو11:8). واستعلان القيامة هو استعلان لسلطان المسيح المتفوق على السماء والأرض. واستعلان سلطان المسيح يتحول في القلب إلى قوة كرازية، تكفي لكرازة جميع الأمم، ولصبغ كل من يؤمن بصبغة الحياة الأبدية.

7- وبعد ثمانية أيام كان تلاميذه أيضأ داخلاً وتوما معهم. فجاء يسوع والأبواب مغلقة ووقف في الوسط وقال: سلام لكم. ثم قال لتوما: هات إصبعك إلى هنا، وأبصر يدي، وهات يدك وضعها في جنبي، ولا تكن غير مؤمن بل مؤمناً. أجاب توما وقال له: ربي والهي.» (يو26:10-28‏)
+ القيامة أعطت الإنسان الجديد سلطاناً على مغاليق عقل وقلب وباب العالم، وحررته من ‏قيود وقوانين الطبيعة. وغياب القيامة أنشأ الخوف والرعبة في قلب التلاميذ، فالإيمان بالصليب بدون القيامة لا يغير شيئاً من طبيعة الإنسان العتيق.
‏دخول القيامة في القلب الخائف المغلق يعطيه «السلام». توما هو نظير العالم الشكاك. وأصبع الشك إذ تلامس مع إصبع الله في جرح الصليب, أنتج الإيمان بربوبية المسيح. واليد الجاحدة حينما مست الجنت المفتوح, أحست بدم الفداء النازف من القلب المطعون, فحق لها الصراخ بألوهية الفادى.

8- «بعد هذا أظهر أيضاً يسوع نفسه للتلاميذ على بحر طبرية … فقال لهم يسروع: يا غلمان, ألعل عندكم إداماً (صيد), أجابوه: لا. فقال لهم: ألقوا الشبكة إلى جانب السفينة الأيمن, فتجدوا. فألقوا، ولم يعودوا يقدرون أن يجذبوها من كثرة السك. فقال ذلك التلميذ الذي كان يسوع يحبه لبطرس: هو الرب …» (يو1:21-24‏). حينئذ جرى حديث المسيح للقديس بطرس خاصة.
+ واضح أن القيامة هنا تعتمد على فعل فائق من جهة المسيح، يجعل جسده ظاهراً لمن يختاره لكي يراه، رؤية طبيعية بحواسه الطبيعية, وإنما بفعل وسيط من طرف المسيح.
‏القيامه هنا للتلاميذ الحانثين والراجعين إلى مهنتهم القديمة في الصيد, بعد أن قال لهم: هلم أجعلكم صيادين للناس، هي لتوبيخهم وردهم إلى السير المستقيم. فالمركب هي السيرة، والصيد في الشمال هو الأنحراف نحو الخطأ والفشل الذي انتهى بهم إلى الإخفاقالكلى. والصيد على اليمين، هو تعديل المسار لصيد الناس، والكرازة بالذي يلهمهم الصواب، وليس بهواجس الفكر والجري وراء الذات. والصيد الكثير، هو الصيد الروحي. والمئة والثلاث والخمسون سمكة: الثلاث سمكات لليهودية والمائة والخمسون لشعوب الأرض كلها.

9- «الكلام الأول أنشأته يا ثاوفيلس عن جميع ما ابتدأ يسوع يفعله ويعلم به إلى اليوم الذي ارتفع فيه، بعدما أوصى بالروح القدس الرسل الذين اختارهم، الذين أراهم أيضاً نفسه حياً ببراهين كثيرة، بعدما تألم, وهو يظهر لهم أوبعين يوماُ, ويتكلم عن الأمور المختصة بملكوت الله…»» (أع1:1-3)
+ القيامة هنا كان لها عملان رئيسيان: الأول استعلان شخصيته القائمة من الأموات ببراهين كثيرة ولمدة طويلة ولأشخاص منتخبين قادرين على الشهادة. والثاني استكمال استعلان الأمور الختصة بملكوت الله التي كان قد أجل التعليم بها.

10- «فينبغي أن الرجال الذين اجتمعوا معنا كل الزمان الذي فيه دخل إلينا الرب يسوع وخرج, منذ معمودية يوحنا إلى اليوم الذي ارتفع فيه عنا, يصير واحد منهم شاهداً معنا بقيامته…» (أع21:1-22)
+ واضح هنا أن التلاميذ أحسوا بعظم أهمية الشهادة الكاملة لقيامة الرب كعمل كرازي بالأساس، للكنيسة التي هي عامود الحق وقاعدته المؤسسة على الاثني عشررسولاً. كما أنه واضح، هنا، ذكر الصعود، باعتباره الارتفاع الذي به أنهى المسيح رسالته التعليمية ووجوده المنظور على الأرض الدنيا، كما رأوه بأعينهم.

11- «يسوع الناصري رجل قد تبرهن لكم من قبل الله بقوات وعجائب وآيات صنعها الله بيده في وسطكم، كما أنتم أيضاً تعلمون. هذا أخذتموه مُسلماً بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق, وبأيدي أثمة صلبتموه وقتلتموه. الذي أقامه الله ناقضاً أوجاع الموت إذ لم يكن ممكناً أن يُمسك منه.» (أع22:2-23)
+ هنا يعلن القديس بطرس أن عملية الصلب والموت هي أصلاً خطة موضوعة بمشورة الله, تصوررها النبوات، وكل دقائقها محسوبة حسب علم الله السابق, وكذلك بالضرورة قيامته المرسومة بكل تأكيد. فالله، بعد أن أكمل بالمسيح ابنه عقوبة الموت وأوجاعه على بني الإنسان, فألغى العقوبة، أقام المسيح من الموت الذي لم يكن ممكناً أن يُمسك منه، لأنه حي بالله، فقام منتصراً على عدو الإنسان الأول والأخير الذي هو الموت.

12- «أيها الرجال الإخوة يسوغ أن يقال لكم جهاراً عن رئيس الآباء داود إنه مات ودُفن، وقبره عندنا حتى اليوم. فإذ كان نبيا وعلم أن الله حلف له بقسم أنه من ثمرة صُلبه يقيم المسيح حسب الجسد ليجلس على كرسيه، سبق فرأى وتكلم عن قيامة المسيح أنه لم تُترك نفسه في الهاوية ولا رأى جسده فساداً. فيسوع هذا أقامه الله ونحن جميعا شهود لذلك.» (أع29:2-30‏)
+ ‏¬قول داود: «ولن تدع قدوسك يرى فساداً» لم يكن على داود، لأم داود أكله الدود، ولكن هذه النبوة استعلنت بكل وضوح وقوة في قيامة الرب من الأموات, التي أُعلنت في الحال أن الجسد لم يفسد، فصارت هذه النبةة هي التي تشير إلى القيامة مباشرة، والتي استشهد بها الرسل والتلاميذ بكلمة «حسب الكتب».

13- «ولكن أنتم أنكرتم القدوس البار، وطلبتم أن يوهب لكم رجل قاتل. ورئيس الحياة قتلتموه، الذي أقامه الله من الأموات. ونحن شهود لذلك.» (أع14:3-15)
+ هنا القيامة من الأموات جاءت في مواجهة إنكار لقداسة المسيح وبره والتجرؤ الأعمى على قتل من هوفي الحقيقة رئيس الحياة.

14- «إليكم أولأ م اذ أقام الله فتاه يسوع, أرسله يبارككم برد كل واحد منكم عن شروره.» (أع26:3)
+ أصبحت قيامة المسيح استمراراً لكرازة المسيح، على مستوى التبكيت للتوبة والرجوع عن الخطية.

15- ‏«وبينما هما يخاطبان الشعب, أقبل عليهما الكهنة وقائد جند الهيكل والصدوقيون, متضجرين من تعليمهما الشعب وندائهما في يسوع بالقيامة من الأموات.» (أع1:4-2)
+ القيامة من الأموات صارت المسامير التي تدق كل يوم في قلب رؤساء الكهنة, وطعنة موجعة ‏في جنب الصدوقيين.

16- «فليكن معلوماً عند جميعكم وجميع شعب إسرائيل, أنه باسم يسوع المسيح الناصري الذي صلبتموه أنتم الذي أقامه الله من الأموات, بذاك وقف هذا أمامكم صحيحاً, هذا هو الحجر الذي احتقرتموه أيها البناؤون، الذي صار رأس الزاوية وليس بأحد غيره الخلاص. لأن ليس اسم اخر تحت السماء قد أعطي بين الناس به ينبغي أن نخلص.» (أع10:4-12)
+ أول فاعلية ظهرت واستعلنت علنا نتيجة لقيامة المسيح من الأموات، كانت في «قوة اسم» يسوع المسيح، الذي بمجرد أن استدعاه القديس بطرس حلت قوة قيامة المسيح على الأعرج من بطن أمه، قام في الحال ومشى وجرى أمام الناس. فصار معلوماً أن الدعاء باسم المسيح المقام من الأموات, هو بمثابة حضور المسيح شخصياً وبرهان دائم بقيامته. والإيمان بالقيامة، صار القوة الأساسية للكرازة بالعهد الجديد: «وبقوة عظيمة كان الرسل يؤدون الشهادة بقيامة الرب يسوع, ونعمة عظيمة كانت على جميعهم.» (أع33:4)

17- «إله آبائنا أقام يسيوع, الذي أنتم قتلتموه معلقين إياه على خشبة. هذا رفعه الله بيمينه رئيسا ومخلصاً، ليعطي إسرائيل التوبة وغفران الخطايا، ونحن شهود له بهذه الأمور, والروح القدس أيضاً الذي أعطاه الله للذين يطيعونه.» (أع30:5-32‏)
+ القيامة التي قامها المسيح بيمين الله، كوعده للأباه، هي في حقيقتها ارتفاع، أي تمجيد لاستعلان رئاسته الكلية والشاملة على السماء والأرض، ولاستعلان قوة الخلاص العامل للتوبة ومغفرة الخطايا التي كان يعيشها التلاميذ ويمارسونها بتفوق.

18- «يسوع الذي من الناصرة، كيف مسحه الله بالروح القدس والقوة، الذي جال يصنع خيراً ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس، لأن الله كان معه. ونحن شهود بكل ما فعل في كورة اليهودية وفي أورشليم، الذي أيضاً قتلوه معلقين إياه على خشبة. هذا ‏أقامه الله في اليوم الثالث, وأعطى أن يصير ظاهراً ليس لجميع الشعب» بل لشهود سبق الله فانتخبهم. لنا نحن الذي أكلنا وشربنا معه بعد قيامته من الأموات.» (أع38:10-41)
+ القديس بطرس الرسول يقرر أن القيامة في اليوم الثالث كانت علنية، وصار المسيح ظاهراً، ولكن القيامة انحصرت في أشخاص انتخبهم المسيح ليكونوا شهوداً. هؤلاء أظهر المسيح نفسه لهم؛ ويقرر القديس بطرس أنه هو والتلاميذ أكلوا وشربوا معه بعد قيامته، وذلك إمعاناً في تقرير القيامة الجسدية، وفي حقيقة قيامة «اللحم والعظم»، كما شدد عليها المسيح.

19- «وأقوال الأنبياء التي تُقرأ كل سبت تمموها إذ حكموا عليه، ومع أنهم لم يجدوا علة واحدة للموت، طلبوا من بيلاطق أن يُقتل. ولما تمموا كل ما كُتب عنه أنزلوه عن الخشبة، ووضعوه في قبر. ولكن الله أقامه من الأموات, وظهر أياما كثيرة للذين صعدوا معه من الجليل إلى أورشليم الذين هم شهوده عند الشعب, ونحن نبشركم بالموعد الذي صار لآبائنا، إن الله قد أكمل هذا لنا نحن أولادهم، إذ أقام يسوع كما هو مكتوب أيضاً فى المزمور الثانى … أنه أقامه من الأموات غير عتيد أن يعود أيضاً إلى فساد… وأما الذي أقامه الله فلميتر فسادا.» (أع27:13-37‏)
+ قيامة المسيح بجسده وجروحه عليه، أثبتت صدق النبوة أنه قدوس ولم ير فساداُ في القبر، لذلك فقيامته هنا نهائية أبدية، لا يمكن أن الموت يسود عليه قط مرة أخرى. وهذا معناه أنه الآن حى ويبقى حيا إلى الأبد، وذلك لأجلنا «واما أنتم فترونني. إني أنا حي فأنتم ستحيون» (يو18:14). ويشدد بولس الرسول أن المسيح بعد القيامة ظهر أياماً كثيرة للذين اختارهم، ليكونوا شهوداً لدى الشعب والعالم، وبهذا تم وعد الله الذي وعده للآباء ولنا نحن أولادهم.

20- «إن يؤلم المسيح، يكن هو أول قيامة الأموات, مزمعا أن ينادى بنور للشعب وللأمم (أع23:26)
+ القيامة من الأموات تستعلن أن آلامه وموته كانا فدائيين, وهذه أول قيامة حدثت في تاريخ الإنسان، وهدفها إنارة اليهود والعالم.

21- «فإنني سلمت إليكم في الأول ما قبلته أنا أيضاً، أن المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب، وأنه دُفن، وأنه قام في اليوم الثالث حسب الكتب, وأنه ظهر لصفا, ثم للاثني عشر. وبعد ذلك ظهر دفعة واحدة لأكثر من خمسمئة أخ, أكثرهم باق إلى الآن, ولكن بعضهم قد رقدوا. وبعد ذلك ظهر ليعقوب ثم للرسل أجمعين. وأخر الكل كأنه للسقط ظهرلى أنا.» (1كو3:15-8)
+ بولس الرسول يصثف ظهورات الرب هكذا: ظهر أولاً لبطرس، ثم الاثني عشر تلميذاً (ناقص واحد وهو يهوذا)، وهم الأخصاء جدا، ثم ظهر مرة واحدة لخمسمئة من الأخصاء التلاميذ كانوا مجتمعين، وبولس يعرف أكثرهم وربما قابلهم. وبعد ذلك ظهر ليعقوب، وواضح أنه أخو الرب، ثم ظهر لكل الرسل، وواضح أنه ظهر لهم تباعاً وليس مرة واحدة، وأخيرأ ظهر له. ويبدو أن ظهور الرب لبولس الرسول هنا: «أما رأيت الرب» هو غير الرؤية التي رآها وهو في طريقه إلى دمشق. وكان منطوق الاعتراف الإيماني الذي رسخ بالتسليم في الكنيسة الذي استلمه بولس من الرسل، يضم أربع فقرات: أن المسيح مات من أجل خطايانا، وأنه دُفن لثلاثة أيام في القبر، وأنه قام في اليوم الثالث، وأنه ظهر. وهذا الإيمان موقع على نبوات الكتب المقدسة.

22- «ولكن إن كان المسيح يُكرز به أنه قام من الأموات, فكيف يقول قوم بينكم إن ليس قيامة أموات. فإن لم تكن قيامة أموات, فلا يكون المسيح قد قام, وان لم يكن المسيح قد قام, فباطلة كرازتنا وباطل أيضأ إيمانكم, ونوجد نحن أيضاً شهود زور لله, لأننا شهدنا من جهة الله أنه أقام المسيح.» (1كو12:15-15)
+ نحن نؤمن بقيامة الأموات، لأن المسيح مات من أجلنا، وليس من أجل نفسه، وقام من أجلنا لأنه هو القيامة وجوهرها؛ وكان لا يمكن أن يبقى في الموت، فقيامة المسيح هي قيامتنا. فإن كنا لا نقوم، يكون هذا معناه أن المسيح لم يقم من الموت، وهذا تجديف على المسيح, وتكذيب للرسل، ولكل الذين شهدوا بقيامته.

23- «وتعين ابن الله، بقوة, من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات؛ يسوع المسيح ربنا» (رو4:1‏)
+ القيامة من الأموات استعلنت الروح القدس الذي أقامه، والروح القدس بالتالى استعلن حقيقة بنوته لله التي كرز بها.

24- «بل من أجلنا نحن أيضاً، الذين سيُحسب لنا (برا), الذين نؤمن بمن أقام يسوع ربنا من الأموات, الذي أُسلم من أجل خطايانا، وأقيم لأجل تبريرنا.» (رو24:4-25)
+ كل من يؤمن بموت المسيح، يُرفع عنه ثقل خطاياه, وكل من يؤمن بقيامته بقوة الله يتبرر، كما آمن إبراهيم بأمر الله, فقدم ابنه للموت على أساس أن الله قادر أن يقيمه من الموت، فحسب الله له إيمانه برا.

25- «وان كان روح الذي أقام يسوع من الأموات ساكنا فيكم, فالذي أقام المسيح من الأموات سيحيي أجسادكم المائتة أيضاً بروحه الساكن فيكم.» (رو11:8)
+ روح القيامة الذي كان في المسيح وهبه المسيح ليسكن فينا فيقيمنا من الموت

26- «والله قد أقام الرب وسيقيمنا نحن أيضاً بقوته.» (اكو14:6)
+ الله أقام المسيح بقوة خاصة خُصصت من أجلنا.

27- «عالمين أن الذي أقام الرب يسوع، سيقيما نحن أيضاً بيسوع ويُحضرنا معكم.» (2كو14:4)
+ القوة الإلهية التي أقامت جسد المسيح من بين الأموات، هي الآن عاملة فيا بالإيمان بالمسيح.

28- «وهو مات لأجل الجميع, لي يعيش الأحياء فيما بعد, لا لأنفسهم, بل للذي مات لأجلهم وقام.» (2كو15:5‏)
+ كنا نعيش كأموات للخطية، فمات لأجلنا لنعيش كأحياء له.

29- «لأنه لهذا مات المسيح وقام وعاش, لكي يسود علي الأحياء والأموات.» (9:14)
+ كان الأموات في الخطية أحراراً من المسيح، فلما مات المسيح من أجل الخطاة ملك على الأموات ليحييهم.

30- «لأنه إن كنا نؤمن أن يسوع مات وقام, فكذلك الراقدون بيسوع, سيحضرهم أيضاً معه.» (1تس14:4)
+ الذين ماتوا فى الإيمان بالمسيح، هم الآن أحياء معه وسيظهرون معه .

31- ‏«إن كنتم قد قمتم مع المسيح, فاطلبوا ما فوق, حيث المسيح جالس عن يمين الله» (كو1:3)
+ الذين يؤمنون بقيامة المسيح وجلوسه عن يمين الله، ارتبطت قلوبهم به.

32- «الذي مثاله (مثال فلك نوح) يُخلصنا نحن الآن, أي المعمودية, لا إزالة وسخ الجسد، بل سؤال ضمير صالح عن الله بقيامة يسوع المسيح الذي هو في يمين الله, إذ قد مضى إلى السماء وملائكة وسلاطين وقوات مُخضعة له» (ابط21:3-22)
+ المعمودية أساسها دم المسيح الذي يطهر ضمير الإنسان تجاه الله, لأن المسيح دخل إلى الأقداس العليا ودمه علبه.

33- «اذكر يسوع المسيح المُقام من الأموات من نسل داود بحسب إنجيلي.» (اتي8:2)
+ ذكر قيامة المسيح بصورة منطبعة على القلب والذهن، هي أساس الحياة الجديدة للإنسان.

34- «واله السلام الذي أقام من الأموات راعي الخراف العظيم ربنا يسوع بدم العهد الأبدي…..» (عب20:13)
+ الله أقام المسيح بصفته الراعي ورئيس الكهنة الأعظم، أقامه ودمه عليه كعهد جديد أبدي للسلام بين الله والإنسان.

فاصل

فاصل

تفسير يوحنا 19 تفسير إنجيل القديس يوحنا
الأب متى المسكين
تفسير يوحنا 21
تفسير العهد الجديد

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى