تفسير إنجيل القديس يوحنا 12 للقمص أنطونيوس فكري
تفسير يوحنا 12
(يو1:12-11)آية (1): “ثم قبل الفصح بستة أيام آتى يسوع إلى بيت عنيا حيث كان لعازر الميت الذي أقامه من الأموات.”
الفصح يكون 14 نيسان والمسيح أتى إلى بيت عنيا يوم السبت 8 نيسان ووليمة العشاء كانت بعد غروب السبت لأن مرثا كانت تخدم ولا يحل الخدمة يوم السبت. ويقرأ هذا الفصل مساء سبت لعازر (عشية أحد الشعانين) تطبيقًا لقول الإنجيل “قبل الفصح بستة أيام”. وتكرر قراءته يوم الأربعاء من البصخة المقدسة في الساعة السادسة لما جاء فيه عن يهوذا الإسخريوطي. وذلك حسب ما عرضه متى ومرقس وأوردا القصة بعد ذكر مؤامرة اليهود ضد المسيح. وأيضًا الكنيسة اتبعت نفس فكر متى ومرقص، فتقرأ فصل محبة مريم للمسيح كصورة مناقضة لخيانة يهوذا له إعلانا أن الكنيسة تحبه بالرغم من كراهية العالم له. هنا نجد أن المسيح يسلم نفسه مثل خروف الفصح بين أيدي أحبائه ليكفنوه.
الآيات (2، 3): “فصنعوا له هناك عشاء وكانت مرثا تخدم وأما لعازر فكان أحد المتكئين معه. فأخذت مريم منا من طيب ناردين خالص كثير الثمن ودهنت قدمي يسوع ومسحت قدميه بشعرها فامتلأ البيت من رائحة الطيب.”
بحسب ما ورد في متى ومرقس فهذه الوليمة كانت في بيت سمعان الأبرص وهناك رأيين [1] أن سمعان الأبرص هو والد لعازر ومريم ومرثا والوليمة كانت في بيتهم. [2] سمعان الأبرص شخص معروف وذو قرابة لعائلة لعازر لذلك أقام وليمة ليسوع الذي أقام لعازر. وأتت الأختان لتخدما في هذه الوليمة بدافع محبتهما ليسوع وكرد لجميله لإقامة أخيهما لعازر من الموت. وغالبًا فسمعان الأبرص أخذ اسمه هذا من أنه كان أبرصًا وشفاه المسيح. وسواء كان سمعان الأبرص والد لهم أو قريب فنحن أمام صورة رائعة يحبها المسيح.
1- سمعان الأبرص: شفاه المسيح وهو أتى ليشفينا من مرض الخطية ومعروف أن البرص رمز للخطية. والمسيح جاء لحياتنا ليطهرها. والمسيح يحب أن ندعوه لبيوتنا كما فرح بدعوة إبراهيم ليأكل عنده .
2- لعازر: أقامه المسيح من الموت وهو أتى لتكون لنا حياة.
3- مرثا: وكانت مرثا تخدم مرثا تعبر عن حبها بالخدمة. بعد أن يقيم المسيح كنيسته من الأموات ويعطيها حياة عليها أن تقوم وتخدم وتشهد له ولعمله هذه تمثل حياة الخدمة. وهكذا صنعت حماة سمعان إذ قامت وخدمتهم بعد أن شفاها الرب.
4- مريم: تعلن حبها للمسيح وتسكب حياتها ومالها عند قدميه مشتركة في صليبه محتملة كل ألم ويكون هذا رائحة طيبة تنتشر في كل العالم هذه تمثل حياة التأمل.
5- يسوع وسط كنيسته: يتعشى معها وتتعشى معه (رؤ20:3) فكنيسته فتحت قلبها له. (يتعشى معها هنا على الأرض عربونًا لعشاء عرس الخروف في السماء)
6- في بيت عنيا: أي بيت الحزن والألم. والمسيح معنا الآن يشترك في آلامنا على الأرض ويعزينا (هنا على الأرض، هذه التعزية والشبع بشخصه = يتعشى معنا).
ونلاحظ أن مرثا استمرت في عملها في خدمة البيت. ومريم استمرت في عملها تحت قدمي يسوع ملازمة المكان الذي اختارته نصيبًا لها (لو39:10، 40). وهنا مريم انتهزت فرصة وجودها تحت قدمي يسوع لتعلن حبها، وأنها بآلامها تشترك مع المسيح في آلامه. فمريم سمعت كلام المسيح وأنه سيصلب ويتألم ويموت وآمنت بما قال وهي تصنع هذا لتكفينه.
لعازر كان أحد المتكئين معه= وجود لعازر في الوليمة إعلانًا لقوة الحياة التي في المسيح والتي تتحدى قرار السنهدريم. منًا = المن = ¼327 جم = رطل روماني = ⅓ لتر.
ناردين خالص= أي عطر خالص دون أي زيوت أو إضافات، أصيل ونقي. ناردين معناه السنبل وهو النبات الذي يستخرج منه هذا الطيب وهو أثمن ما عرف يومئذ من أطياب وهو من شمال الهند. هذا إشارة لمن يقدم حبًا خالصًا ولا يطلب ثمنًا لهذا الحب.
دهنت قدمي يسوع= يقول متى ومرقس أنها دهنت رأسه. فالعادة كانت أن يسكب المضيف دهنًا على رأس ضيفه (لو46:7). ومريم سكبت الطيب على رأس السيد ثم قدميه، ومتى ومرقس تكلما عن العادة المتبعة، أن مريم قامت بواجب الضيافة المعتاد. أمّا يوحنا فلاحظ غير المعتاد أنها تدهن قدميه بل مسحت قدميه بشعرها وإذا كان الشعر هو مجد المرأة (1كو15:11) = منتهى الاتضاع والانسحاق، فيوحنا حبيب المسيح لاحظ بمحبته النارية هذه الملاحظة، أنها لم تقم فقط بواجب الضيافة المعتاد، بل وضعت مجدها تحت قدمي من تحبه وهذا هو الحب في نظر يوحنا. فامتلأ البيت من رائحة الطيب= ملاحظة شاهد عيان. بل أن الرائحة ما زالت منتشرة لهذا اليوم “يذكر ما فعلته هذه المرأة تذكارًا لها” ونلاحظ أن القصة حدثت عشية أسبوع آلام المسيح وتقرأها الكنيسة في ميعادها أي السبت مساءً. فمحبة مريم التي قدمتها هي نموذج لما يجب أن نقدمه للمسيح في مقابل آلامه، علينا أن نضع كل ما لنا (حتى ما لنا من مجد تحت قدميه) فتنتشر الرائحة الطيبة.
الآيات (4-6): “فقال واحد من تلاميذه وهو يهوذا سمعان الإسخريوطي المزمع أن يسلمه. لماذا لم يبع هذا الطيب بثلاث مئة دينار ويعط للفقراء. قال هذا ليس لأنه كان يبالي بالفقراء بل لأنه كان سارقًا وكان الصندوق عنده وكان يحمل ما يلقى فيه.”
يذكر الإنجيليين متى ومرقس ويوحنا أن الطيب كان كثير الثمن ولكنهم لم يهتموا بكم هو الثمن. ولكن يهوذا وحده اهتم، فكل شيء عنده يمكن أن يباع حتى سيده المسيح. وهو قدَّر ثمنه بثلاثمائة دينار= وهي أجرة العامل في سنة فالعامل أجرته دينار في اليوم. ونلاحظ أن الثمن الذي قدَّره يهوذا للطيب كان أكثر كثيرًا جدًا من الثمن الذي باع به سيده (يُقَّدَرْ بـ4 مرّات) هنا نرى التناقض صارخًا بين محبة مريم للسيد ومحبة يهوذا للمال وخيانته لسيده. فالإنسان العالمي يحب الأخذ ولا يحب العطاء، أمّا ابن الله فهو يسكب نفسه سكيبًا. وكان كلام يهوذا فيه تعريض بالمسيح وأنه قبل الطيب بدلًا من الفقراء، وتحريض للتلاميذ والسامعين، وهذا ما حدث فهم اغتاظوا وبدأوا يرددون ما قاله يهوذا (مت8:26+ مر4:14). ويهوذا كان سارقًا= وكونه سارقًا يدل على طبعه الخائن وعدم أمانته ونلاحظ أن المسيح سلًّم يهوذا الصندوق لكفاءته في النواحي المالية. وكان المسيح وتلاميذه يتعيشون مماّ في الصندوق. ولكن يهوذا كان يأخذ أكثر من حقوقه لنفسه. فالله أعطاه موهبة التفوق في الأمور المالية ولكن فنلاحظ أن مواهبنا والنقاط القوية التي نملكها قد تتحول لنقاط ضعف إذا انخذع الإنسان من شهوته وانغلب من التجربة التي تَعْرِضْ له من ناحيتها. كما أنها تكون مصدر بركة وقوة له ومنفعة للخدمة لو غلبها، أي غلب شهوته. (يع13:1، 14). يحمل= أصلها ينشل.
الآيات (7، 8): “فقال يسوع اتركوها أنها ليوم تكفيني قد حفظته. لأن الفقراء معكم في كل حين وأما أنا فلست معكم في كل حين.”
المسيح هنا يتنبأ بأنه عند موته لن يكون هناك وقت لتكفينه وما فعلته مريم هو كنبوءة (فمريم من شدة محبتها شعرت بما سيحدث له، وصدقت كلامه بأنه سيصلب ويموت ويقوم في اليوم الثالث كما كان يقول دائمًا) وواجب تكفين لجسده، وهو بهذا يرد على ما قاله يهوذا من أن هذا كان يجب أن يعطي للفقراء بأن الفقراء معكم كل حين وهناك من قلبه مملوء شراً ويتستر وراء أشياء حلوة. والمسيح بهذا يبرئ مريم من أنها أخطأت بفعلها، بل هي كرمت من له كل الكرامة وهو مستحق لها. بل أن ذكر التكفين كان فيه تقريع ليهوذا الخائن الذي يفكر في خيانة سيده. فيهوذا طعن السيد ومريم تلقفت جسده بعطرها. لقد بدأت مريم ما أكمله بعد ذلك يوسف ونيقوديموس. ولاحظ أنه في (مت20:28) يقول “أنا معكم كل الأيام” وهنا يقول “أنا لست معكم في كل حين” هو يقصد أنه سيتركهم بالجسد إذ يموت ويقوم ويصعد للسماء. ولكن المعنى إنتهزوا أي فرصة موجودة، فالفرصة قد لا تتكرر. والمحبة تعرف متى تقدم للمسيح ومتى تعطي الفقراء.
الآيات (9-11): “فعلم جمع كثير من اليهود أنه هناك فجاءوا ليس لأجل يسوع فقط بل لينظروا أيضًا لعازر الذي أقامه من الأموات. فتشاور رؤساء الكهنة ليقتلوا لعازر أيضًا. لأن كثيرين من اليهود كانوا بسببه يذهبون ويؤمنون بيسوع.”
بدأ الناس يتوافدون، على المسيح بسبب معجزة لعازر. ونرى هنا غباء هؤلاء الرؤساء، فهل قتل لعازر سيجعل الناس تنسى المعجزة، وهل من أقامُه مرّة لن يستطيع إقامته ثانية. ولنلاحظ أن هياجهم كان أحد أسبابه أن في إقامة لعازر دليل على عدم صحة عقيدتهم بأن الموتى لا يقومون. وبسبب آخر واضح هو التفاف الناس حول المسيح وإنفضاضهم عن رؤساء الكهنة اليهود.
(يو12:12-19)
الآيات (12، 13): “وفي الغد سمع الجمع الكثير الذي جاء إلى العيد أن يسوع آت إلى أورشليم. فاخذوا سعوف النخل وخرجوا للقائه وكانوا يصرخون أوصنا مبارك الآتي باسم الرب ملك إسرائيل.”
وفي الغد= أي يوم الأحد. إذًا الوليمة كانت يوم السبت. الذين حضروا حفل العشاء أذاعوا النبأ السار أن يسوع الذي يريدونه كملك سيأتي إلى أورشليم. والجمع الذي إحتشد كان أغلبهم من الجليليين ومن الذين سمعوا بمعجزة إقامة لعازر فتحمسوا للقائه. وأمام هذا الإستقبال الحافل تأكدت مخاوف الفريسيين ورؤساء الكهنة ووقفوا ينظرون خائفين وحاقدين. وسعف النخيل هو رمز للنصرة والبهجة (لا40:23+ رؤ9:7). وهم رأوا أن يسوع هو المسيح المسيا الذي تنبأ عنه الأنبياء وأنه سيأتي من نسل داود ليعيد لهم الملك (صف15:3-17+ لو32:1-33) فهم كانوا يحلمون باستعادة كرسي داود بل وأن يحكموا العالم كله. ونرى من (1مك51:13+ 2مك4:14) أنهم كانوا يستقبلون الملوك بسعف النخيل. ووجدت عملات مسكوكة من أيام سمعان المكابي عليها سعف النخيل. والنخيل شجرة محبوبة لأنها ترتفع شامخة نحو السماء فارشة أغصانها مثل التاج كأذرع تتوسل دائمًا. خضراء على الدوام تزهر وتثمر لمئات السنين (مز12:92-13+ نش6:7-8) وفيه نرى النفس المحبوبة للمسيح تشبه بنخلة.
ويوحنا اختار قول الناس أوصنا مبارك الآتي باسم الرب= فالمسيح أتى بقوة إلهية لخلاص الإنسان وتجديده، هو ابن الله الذي أتى ليخلقنا خلقة جديدة.
الآيات (14-15): “ووجد يسوع جحشًا فجلس عليه كما هو مكتوب. لا تخافي يا ابنة صهيون هوذا ملكك يأتي جالسًا على جحش أتان.”
لا تخافي= فدخول المسيح لأورشليم كان للسلام ولم يأتي ليحارب الرومان وتسيل الدماء في أورشليم لكن ليملأ القلوب سلامًا. بل ليصنع سلامًا بين السماء والأرض. وكان دخوله وديعًا هادئًا وليس كالملوك الأرضيين يصنعون حربًا ويطلبون جزية. والجحش يستعمله الفقراء وفي هذا درس لليهود المتكبرين الذين يحلمون بملك أرضي. وفي تواضع المسيح هذا إشارة لأن أحلام اليهود في مملكة عالمية هي أوهام خاطئة. ودرس لكل من يحلم بمجد أرضي أنه يجري وراء باطل.
آية (16): “وهذه الأمور لم يفهمها تلاميذه أولًا ولكن لما تمجد يسوع حينئذ تذكروا إن هذه كانت مكتوبة عنه وانهم صنعوا هذه له.”
لم يفهمها تلاميذه أولًا= كثيرًا ما لا نفهم أعمال المسيح أولًا ولكننا من المؤكد سنفهم فيما بعد (يو13: 7). وأنهم صنعوا هذه له= أي أنهم اشتركوا في تكريم المسيح كملك، واشتركوا في تنفيذ النبوات، فهذه عائدة على النبوات. لم يكن التلاميذ فاهمين ولا الشعب ولا الفريسيين وكم من أمور تجري في حياتنا ونحن لا نفهمها. علينا أن لا نطالب بالفهم فسيأتي يوم ونفهم. لكن علينا بالإيمان.
آية (19): “فقال الفريسيون بعضهم لبعض انظروا أنكم لا تنفعون شيئًا هوذا العالم قد ذهب وراءه.”
هذه نبوة من فم الأعداء بإيمان العالم وذهابه وراؤه، ونرى غيظهم من ضياع سلطانهم. لا تنفعون شيئًا= هذه مثل “راحت عليكم”. فالناس تركتهم وهذا هو ما أغاظهم.
طلب اليونانيين أن يروا يسوع (يو20:12-36)
الآيات (20-22): “وكان أناس يونانيون من الذين صعدوا ليسجدوا في العيد. فتقدم هؤلاء إلى فيلبس الذي من بيت صيدا الجليل وسألوه قائلين يا سيد نريد أن نرى يسوع. فآتى فيلبس وقال لإندراوس ثم قال إندراوس وفيلبس ليسوع.”
يقرأ هذا الفصل في الساعة الأولى من ليلة الاثنين من البصخة المقدسة، فهذا هو الوقت الذي دار فيه هذا الحديث بعد دخول الرب لأورشليم. ويقرأ باكر عيد الصليب، فالصليب هو خلاص كل العالم، وهو محور كلام السيد المسيح هنا في ضرورة حمل الصليب. ومن يفعل يرى يسوع. ونرى هنا أن اليونانيين الأمم جاءوا لتحية المصلوب ملك اليهود، كما جاء المجوس الوثنيين لتحية المولود ملك اليهود، لكي يجمع المسيح في حياته ومماته الشرق والغرب، فالكل يسجد له ويعبده، كلاهما (يونانيين ومجوس) هم من الخراف التي ليست من هذه الحظيرة (اليهود)، كلاهما يفتتحان عصر قبول الأمم. ولاحظ أن في ميلاده رفضه اليهود. فولد في مذود ومجده الأمم (المجوس). فتش عنه المجوس ودبر هيرودس قتله. والآن يقبله الأمم اليونانيين ويدبر اليهود لقتله. واليونانيين هنا هم أصحاب الجنسية اليونانية وليسوا من يهود الشتات لكنهم تهودوا إذ قيل أتوا ليسجدوا، ولكنهم كانوا يعيشون في الجليل معجبين باليهودية، ولأنهم في نظر اليهود دخلاء فمكانهم في الهيكل في دار الأمم، لذلك جاءوا إلى فيلبس ليدبر لهم مقابلة مع المسيح لأن المسيح كان داخل الهيكل. ونلاحظ أن اليونانيين أتوا لفيلبس لأنهم يعرفونه من الجليل حيث يقيم يونانيين كثيرين. ونلاحظ أن فيلبس اسمه يوناني فربما كان له قرابة معهم. هم سمعوا عن المسيح ومعجزاته وإستقباله وتطهيره للهيكل فأعجبوا به وأرادوا أن يروه.
الآيات (23-24): “وأما يسوع فأجابهما قائلًا قد أتت الساعة ليتمجد ابن الإنسان. الحق الحق أقول لكم إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتمت فهي تبقى وحدها ولكن إن ماتت تأتى بثمر كثير.”
رأى المسيح في مجيء اليونانيين باكورة الحصاد الذي سيحصد بواسطة موته. فحبة الحنطة تشير للمسيح الذي سيدفن بعد صلبه ليأتي بالأمم واليهود. والمسيح انتهز الفرصة ليعلن اقتراب ساعة موته والتي بها سيكون الخلاص لكل العالم يهودًا ويونانيين أي يهودًا ووثنيين. يتمجد= بصليبه وموته ثم بقيامته وصعوده وجلوسه عن يمين الآب. وبذلك يكون الموت بداية للحياة المجيدة السمائية للأمم كما لليهود وبهذا يتمجد يسوع. وفي هذا تشابه مع البذرة في دفنها. اليونانيون أتوا ليروا مجد يسوع الذي دخل في إستقبال عظيم وطهر الهيكل. لكن نجد يسوع يتكلم عن موته. فالصليب هو مجده. وهذا عكس الملوك الأرضيون الذين يفتخرون بالمظاهر. وعلى كل مؤمن أن يميت ذاته مثل حبة الحنطة في هذا العالم، وهذا ما سوف يعطيه حياة أبدية. ومن يميت ذاته يكون المسيح بالنسبة له هو الطريق للقيامة والحياة. أمّا من انغمس في لذات هذا العالم فيكون قد اختار الموت كما أن البذرة لو تركت بدون دفن يأكلها السوس (مت39:10). ولو تُركت البذرة في المخازن دون أن تُدفن في الأرض لأكلها السوس، بل لظلت هكذا بدون جمال، مجرد بذرة يابسة لكنها متى ماتت نبتت وأثمرت وأينعت وأخضرت الحقول وتوجت بالسنابل لذلك فالتضحية هي باب الإثمار والإنتاج، والصليب باب المجد. وأمّا الحبة التي ترفض التضحية وترفض الصليب تظل وحدها بلا منظر، بلا ثمار وبلا مجد. والثمار ستأتي أيضًا بتلاميذه الذين سيبذلون حياتهم. قد أتت الساعة= المسيح يعلن أن ساعة الصليب اقتربت، الذي به سيدخل الأمم (اليونانيون) للإيمان. هم أتوا ليروا مجد أرضي. ولكن أتت الساعة ليعرف الجميع معنى المجد الحقيقي السماوي. والمسيح إذ مات ودفن ثم قام عرفه الكل، وآمن العالم به. هو حبة الحنطة التي إذ تموت في التربة وتتحلل يخرج منها سنابل خضراء مملوءة (المؤمنين في كل العالم). فعمل المسيح الفدائي أعطى حياة لكثيرين جدًا في كل العالم. وبالصليب سيرى الأمم واليهود المسيح رؤية قلبية بالروح القدس فيعرفوه ويؤمنوا به فيتمجد ابن الإنسان.
دخل المسيح إلى أورشليم كملك يملك على قلوب محبيه، دخل وسط جو كله محبة وفرح، محبة منه لأورشليم (رمز لكنيسته) ودخل ليصلب ويكون حبة حنطة تموت ليؤسس كنيسته ويملك عليها، ودخل ليصلب، فالصليب هو قمة الحب، وأمام محبته هذه ملكته كنيسته عليها، على قلوب أولادها. ومن ملكوه على قلوبهم وجعلوه يتعشى معهم كما حدث مع أسرة سمعان الأبرص ولعازر بالأمس سيجعلهم يتعشوا معه في السماء عشاء عرس الخروف (رؤ19: 9 + رؤ3: 20) ويتمجدوا. ويرفع من كانوا في بيت العناء، بيت عنيا على الأرض إلى مجد السماء. فشركاء الألم شركاء المجد. والمسيح كان وسط أحبائه، وقد قبل أن يسلم نفسه للموت، تاركًا نفسه لأحبائه ليكفنوه. وكان هذا الحب ترطيبًا لآلامه. لكنه كان قد بدأ طريق الصليب. طريق إعلان أعظم حب من الله للبشرية. وما زال للآن كل حب معلن، كل زجاجة طيب مكسور هو مُفرح لقلب المسيح، الزجاجة المكسورة هي صليبي ولكن طريق المجد هو الصليب، هذا ما رأيناه مع المسيح، وهذا هو الطريق الذي يدعونا إليه المسيح. (الحب+ حمل الصليب).
آية (25): “من يحب نفسه يهلكها ومن يبغض نفسه في هذا العالم يحفظها إلى حياة أبدية.”
نرى هنا التطبيق العملي. من يبغض نفسه= يموت عن شهوات العالم. هنا المسيح يرد على سؤال اليونانيين وعلى كل من يريد أن يرى يسوع. فمن يريد أن يرى يسوع فليصنع ما صنعه يسوع ويموت عن العالم. من يحب نفسه= النفس هنا تشير للحياة الطبيعية الحسية. أمّا الحياة الأبدية فهي الحياة الحقيقية، فمن يترك لذاته الحسية الخاطئة الآن يكون كمن يدفن نفسه وبذلك يرتفع ليستحق الحياة الأبدية، والحياة الأبدية هي المسيح والمعنى أن من يصلب الأنا تظهر حياة المسيح فيه. ولنبدأ بحفظ الوصية وإيثار الآخرين على أنفسنا ونقدم توبة حقيقية، فالتوبة هي دفن الجسد العتيق وإيثار الآخر هو دفن للأنا. وأمّا من لا يريد أن يكون كحبة الحنطة المدفونة ويمت فلن يأتي بثمر، من يرفض خدمة الآخرين ويرفض إعطاء الحب للآخرين ويحيا في عزلة وإنفرادية متلذذًا بحسياته الجسدية يكون كبذرة في المخازن بلا جمال ولا مجد معرضة للفساد والسوس محرومة من الحياة الأبدية. فلنحمل صليب يسوع حتى الموت. ومن يتمسك بالمادة لا يمكن أن يرتقي إلى فوق (السماويات). ومن يلتصق بشيء فانٍ يفنى معه (كملذات الدنيا). هذا هو طريق رؤية المسيح.
آية (26): “إن كان أحد يخدمني فليتبعني وحيث أكون أنا هناك أيضًا يكون خادمي وإن كان أحد يخدمني يكرمه الآب.”
المسيح هنا يقدم مفهوم الخدمة فهي ليست مجرد خدمة للآخرين بل هي أن نسير في طريق المسيح أي الصليب. فليتبعني= كيف نتبعه إن لم نقبل أن نحمل الصليب. ونسير في طريقه بحفظ وصاياه وقبول أي صليب يوضع علينا (مت38:10، 39). فالإيمان الصادق بالمسيح هو أن نسير في طريقه ونتحمل في سبيله كل أنواع الجهاد الروحي فمن يشاركه آلامه سيشاركه أمجاده (رو17:8). حيث أكون أنا يكون خادمي= أي يكون له نفس طريق المسيح أي الصليب ثم المجد، حمل الصليب هو طريق التلمذة للمسيح (لو14: 27) فالصليب هو المحبة الباذلة، وهذه هي مدرسة المسيح ومن يريد أن يصير تلميذا فيها عليه أن يتعلم حمل الصليب. إن كان أحد يخدمني= لا يقصد بهذا خدمته في العالم بينما هو في الجسد لأن ساعة موته قد إقتربت. ولكن تعني حفظ وصاياه وخدمة أولاده، ويتشبه به فهو أتى ليَخْدِمْ لا ليُخْدَمْ. يكرمه الآب= من يتبع المسيح ويخدمه حاملاً صليبه سينال كرامة من الله الآب (مت40:10+ 1صم30:2). وهنا المسيح يشرح وحدة الذات الإلهية بينه وبين الآب. فمن يكرم الابن يكرمه الآب أيضاً، ولا يعود عبداً بل يصير إبناً للآب. ونحن نكرم القديسين والشهداء فالآب يكرمهم. ولنلاحظ أنه لا صليب بدون تعزيات (2كو3:1-10). وهذه التعزيات هي عربون الأفراح والأمجاد السماوية فشركاء الألم شركاء المجد. ومن يلقي نفسه بإيمان في طريق الصليب يبدأ يتذوق هذا العربون. يخدمني= [1] يحفظ وصيتي [2] يخدم رعيتي.. كيف؟ يحمل الصليب مثلي: [1] يموت عن شهوات العالم [2] قبول أي ألم.
حيث أكون أنا يكون هناك يكون خادمى = إذاً فلنسأل أنفسنا أين يوجد المسيح ونذهب فنجده (مت25 : 34 – إلخ). ومن هنا نفهم أننا نجد المسيح حيث الفقراء والمرضى والمساجين وحيثما يوجد كل محتاج تذهب له لتقدم له خدمة …إلخ. وكل إفتقاد لخاطئ أو ضال هو خدمة مقدمة لربنا. إذاً كل خدمة نقدمها لأولاد ربنا أو لأي محتاج فأنت تقدمها لربنا يسوع نفسه. لذلك هناك من يقبل يد المرضى حين يزورهم واثقين إنهم يقبلون يد المسيح. أما الأماكن التي يوجد بها خطية أو شبه خطية فلن يوجد فيها المسيح فاهرب منها.
ومن يغلب ويكون مع المسيح دائما هنا على الأرض سيكون معه أيضًا في المجد بحسب وعد الرب “وإن مضيت وأعددت لكم مكانا آتي ايضا وآخذكم إليَّ، حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم ايضاً” (يو14 : 3). وأيضاً “أيها الآب أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنا، لينظروا مجدي الذي اعطيتني، لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم” (يو17 : 3). وننظر مجده تعنى أن نكون في حضرة الله فنعكس مجده، فتكون لنا أجسادا ممجدة، ونرى نوره فيكون لنا أجسادا نورانية.
آية (27): “الآن نفسي قد اضطربت وماذا أقول أيها الآب نجني من هذه الساعة ولكن لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة.”
النفس هي قاعدة المشاعر الإنسانية. أمّا الروح فهي أداة الاتصال بالله بها يتحدث مع الله وينعكس هذا في تعبيراته وتعاليمه. لذلك فالإنسان الروحي هو الذي يقوده الروح القدس، والروح القدس يتصل بروح هذا الإنسان، فالروح يتعامل مع روح. وروح الإنسان الخاضع للروح القدس هو الذي يقود الجسد والنفس أي كل الإنسان. وإضطراب المسيح هنا يشير لأنه إنسان كامل وهو الآن يتصوَّر الثمن الذي عليه أن يدفعه وهو الموت وحمل خطايا كل البشرية حتى يراه اليونانيين بل كل إنسان ويؤمنوا به، فيخلصوا. الإضطراب لا يعني الخوف فالمسيح لا يخاف من الموت فما يجعلنا نخاف من الموت هو الخطية والمسيح بلا خطية. ونخاف من الموت فما بعد الموت مجهول لنا، أما المسيح فيعرف المجد السماوي. إذاً هو ليس خوف بل هو إنفعال عاطفي شديد داخل النفس. ليس من أجل آلام الصليب ولكن [1] من أجل الخطايا التي سيحملها وهو القدوس البار. والخطية بالنسبة له شيء مكروه جدًاً. [2] من أجل الموت الذي سيتذوقه وهو الحي المحيي. القيامة والحياة. والموت ليس من طبيعته ، بل كان الموت في العهد القديم نجاسة ومن يتلامس مع ميت يتنجس (عد5 : 2 ، 19 : 11). [3] حجب وجه الآب عنه، وهذا فوق مستوى إدراكنا.[4 ] خيانة الناس الذين أحبهم وكراهيتهم له، وهذا ضد طبيعته (المحبة فالله محبة). ولكن لاتصاله الروحي بالآب كان له قرار حاسم هو التوجه إلى الصليب مهما كان الثمن= ولكن لأجل هذا أتيت= الابن أتى متجسدا لأجل خلاص البشر وذلك :- [1] لمحبته للبشر. [2] طاعته للآب.
ولاحظ أن إرادة الآب هي نفسها إرادة الابن، وهذه الإرادة هي خلاص البشر ونجاتهم من الموت، فالله يحب البشر. وبهذا تكون طاعة الابن معناها تسليم الإرادة الإنسانية وقبول المسيح كإنسان كامل لألام لا نستطيع نحن أن نتصورها، حتى تتم الإرادة الإلهية في خلاص البشر. وكان قراره موجهاً بكل قوة نحو إتمام المشيئة الربانية وبكل حسم أيضاً.
ماذا أقول= المسيح لا يسأل، بل هو يلفت النظر لإضطرابه وإنفعاله نتيجة المعركة مع الموت والتي في نهايتها يموت الموت. وهو كان يصلي ويصرخ (عب7:5) ليخرج منتصراً من هذه المعركة ويضاف إنتصاره لحساب الإنسان ويكون للإنسان حياة عوضاً عن الموت.
نجني من هذه الساعة= أعطني الإنتصار على الموت بالقيامة. وقبول الآب وإستجابة الآب أعلنها بقيامة الابن.
الآيات (28-30): “أيها الآب مجد اسمك فجاء صوت من السماء مجدت وامجد أيضًا. فالجمع الذي كان واقفًا وسمع قال قد حدث رعد وآخرون قالوا قد كلمه ملاك. أجاب يسوع وقال ليس من اجلي صار هذا الصوت بل من أجلكم.”
أيها الآب مجِّد إسمك = هي نفسها “أيها الآب…. مجد إبنك” (يو17 : 1) .
إسمك= إجو إيمي (يونانية)= أنا هو= يهوه (عبرية) . يهوه صار إسماً للمسيح. مجد إسمك= مجد إبنك. فالمسيح يطلب أن يمجده الآب ويؤيده في هذه المعركة مع الموت لينتصر على الموت. ولكن لنلاحظ أن الآب والابن واحد فمجد الابن هو مجد الآب أيضاً. ولذلك فالمسيح ليس مشتاقاً أن يمجده الآب، بل هو مشتاق أن يتمجد جسده، ويكون هذا المجد لحساب كنيسته التي هي جسده. وهذا المجد يبدأ بإنتصاره على الموت، ويعطي حياته هذه للمؤمنين وهي حياة أبدية ثم يصعد للسماء ويتمجد بجسده، ويكون هذا المجد لكل من يغلب من المؤمنين (يو17 : 22). والصوت الشديد كان ليسمعه المجتمعون فيؤمنوا بالمسيح بعد أن ظهرت علاقته بالآب. والله سبق وكلم موسى وإبراهيم وكثير من الأنبياء والآن يكلم ابنه ليظهر العلاقة بينه وبين ابنه، إلاّ أن اليهود لم يفهموا. رعد .. ملاك= الله يتكلم لكن كل واحد يسمع بحسب استعداده ونقاوة قلبه واهتمامه فالبعض فهموا أن هذا صوت فقالوا ملاك والبعض لم يفهم أبداً فقالوا رعد. وعموماً فصوت الرعد يصاحب كلام الله كما حدث مع موسى. ونلاحظ أن المجتمعين لم يميزوا صوت الله ولم يفهموا ما قيل، فالناس في بشريتهم وخطيتهم لا يستطيعون أن يسمعوا صوت الله. ونلاحظ أن صلاة المسيح ليست مثل صلاتنا وفيها نرجو ونتذلل وننسحق ليقبلنا الله، ولكن هي نوع من إعلان الصلة بينه وبين أبيه ومن خلال هذه الصلة تنسكب القوة الإلهية لتساند الجسد الضعيف حتى ينتصر في معركة الموت. ويرى الناس هذه الصلة فيؤمنوا بأن المسيح هو من الله. وصلاة المسيح حيث أنه واحد مع الآب ومشيئتهما وإرادتهما واحدة تشير لأنه يعلن مشيئة الآب التي هي مشيئته أيضاً. مجدت= في حياته ومعجزاته وبره وأن كل الإتهامات ضده إرتدت على مقاوميه. كما شهد الآب للإبن في العماد والتجلي وقال “هذا هو إبني الحبيب” وكما شهدت الملائكة له يوم الميلاد قائلة “المجد لله في الأعالي..” هنا الآب يشهد للمجد الذي للإبن منذ الأزل= وأمجد أيضاً= المجد الذي سيصير لناسوته بعد موته إذ يقوم ويصعد للسماء ويجلس عن يمين الآب. وسيؤمن به كل العالم ويسجدون له. بل من أجلكم= إذاً الصوت ليس لتشجيع المسيح لكن ليؤمنوا (هو إعلان للناس).
آية (31): “الآن دينونة هذا العالم الآن يطرح رئيس هذا العالم خارجًا.”
قال دينونة ولم يقل الدينونة. فالدينونة مُعَرَّفَةْ بالـ هي في نهاية العالم. دينونة= يسقط بعنف نتيجة ضربة قوية ويخرج خارج دائرة المصارعة إذ إنهزم، هذا معنى الكلمة. والانتصار ليس أن الله انتصر على إبليس بل المسيح الإنسان انتصر لحسابنا عليه ليجذبنا بصليبه للسماء والغلبة هي لمن يؤمن (1يو4:5). ولكن هناك دينونات كثيرة كلٌ في ميعادها. فمحاكمة المسيح الظالمة سيقع ذنبها على من حكموا عليه، ولذلك خربت أورشليم. ولأن من حكموا على المسيح ظلمًا يحركهم الشيطان فلا بُد أن يسقط الشيطان بعد أن ساد العالم بظلمته طويلًا (لو18:10-19). ولقد انكشف إبليس أمام الكل وصارت حيله معروفة مدانة لأولاد الله. المسيح ببره أظهر شر العالم والشيطان الذي يحرك العالم حين صلب العالم المسيح. فلا عذر لإنسان يسير وراء العالم. لقد كان الصليب دليل إدانة العالم على كل شروره، فالعالم عوضًا عن أن يفرح بالمسيح قام عليه وصلبه (يو19:3+ 39:9+ 11:16). ومعروف أن الشيطان رئيس هذا العالم (يو30:14). ولقد تحوَّل الصليب إلى مجد للمسيح وحياة للمؤمنين وقوة يهزمون بها الشيطان، وصار الصليب عار ودينونة وإدانة لمن صلبه ولمن لا يؤمن به. بالصليب سلب الله كل سلطان لإبليس على البشر (مت29:12). وجرده من كل نفوذ له كان يذلهم به ويجعلهم عبيدًا له (كو14:2-15). ومن ثم خلعه من عرشه وطرحه خارج العالم ليصير مجرد مخلوق حقير شرير متمرد على الله ينتظر في سجنه ساعة الدينونة (2بط4:2) مقيدًا بسلاسل بعد الصليب (رؤ1:20-3). ينتظر أن يلقى في النار الأبدية في نهاية الأيام (مت41:25+ مر24:1). ولكن طرحه بدأ بالصليب= الآن يُطرح لم يعد للشيطان سلطان على أولاد الله. هو خارج دائرة من هم للمسيح. هو يحاربهم لكن لا سلطان له عليهم. وقوله دينونة العالم أي كشف وجه العالم الغادر والمقصود بالعالم هو المادية المعادية لروح الله. ونلاحظ أنه بالمعمودية يخرج الشيطان تمامًا من حياة المؤمنين ولكن يظل يحاربهم من خارج (لو21:11-22). والمسيح أعطانا القوة أن نطرده وأعطانا سلطانًا أن ندوس عليه بعد أن حررنا منه. ولكن هناك من يذهب له وبالتالي يفقد حريته لذلك ينبه المسيح أن لا نفعل ذلك (يو36:8). بالصليب أدينت الخطية فينا أي ماتت وأصبحت بلا سلطان علينا (رو3:8).
الآيات (32-33): “وأنا إن ارتفعت عن الأرض اجذب إليَّ الجميع. قال هذا مشيرًا إلى أية ميتة كان مزمعًا أن يموت.”
المسيح ارتفع على مرحلتين الأولى على الصليب (يو14:3+ 28:8) ثم الصعود (مر19:16+ لو51:9+ أع11:1). وكان الصليب هو طريق الصعود لأعلى فهو كان الخطوة الأولى. لذلك صار المؤمنون يشتهون الصليب بسبب الخطوة التالية وهي الارتفاع للمجد (يو1:14-3) كان كل هذا ردًا على طلب اليونانيين أن يروه. فهو سيجذبهم لأعلى وليس فقط سيرونه. بارتفاع المسيح على الصليب سيجذب المؤمنين إلى الحياة الأبدية. مشيرًا= كلمة صليب كانت لعنة وصارت ارتفاع للمجد. لقد صارت كلمة ارتفاع تشير للصليب وتشير للصعود أيضًا، بل صارت قوة جبارة تجذب البشر للسماء وعكس قوى الشر. هو يجذب لكن ليس كل واحد يستجيب، وقوله الجميع= يهود وأمم.
آية (34): “فأجابه الجمع نحن سمعنا من الناموس إن المسيح يبقى إلى الأبد فكيف تقول أنت أنه ينبغي أن يرتفع ابن الإنسان من هو هذا ابن الإنسان.”
تنبأ الأنبياء عن أن ملك المسيح أبدي (دا 13:7-14+ أش7:9+ حز25:37+ مز3:89-4، 35-36+ مز4:110) ولكن اليهود فهموا هذه النبوات خطأ لأنهم ظنوا أن ملك المسيح سيكون على الأرض ولم يفهموا أن ملكه سيكون ملك أبدي سماوي. ولذلك حينما قال المسيح إن ارتفعت عن الأرض (32) فهمها اليهود أنه سيموت، ومن هنا حدث اللبس فكيف يموت وهو المسيا الذي سيملك إلى الأبد. وكان خطأ اليهود فهمهم السطحي فكيف يقيم المسيح ملكًا أبديًا على أرض مصيرها الفناء. هو قال عن نفسه أنه ابن الإنسان فبحسب فهمهم أنه لو كان المسيح فابن الإنسان لن يموت.
الآيات (35-36): “فقال لهم يسوع النور معكم زمانًا قليلًا بعد فسيروا ما دام لكم النور لئلا يدرككم الظلام والذي يسير في الظلام لا يعلم إلى أين يذهب. ما دام لكم النور آمنوا بالنور لتصيروا أبناء النور تكلم يسوع بهذا ثم مضى واختفى عنهم.”
النُّورُ مَعَكُمْ زَمَانًا قَلِيلاً بَعْدُ = المسيح هو النور الحقيقي (يو1 : 9) . وهنا يرد السيد على تصورهم أن المسيح سيبقى على الأرض إلى الأبد. ومعنى كلامه …
لا أنا لن أبقى للأبد بجسدي هذا على الأرض كما تظنون.
وهنا يعطيهم الرب نصيحة لأنهم متشككين ومعاندين. فبحسب فكرهم فالمسيح الآتي سيكون له ملك أرضى أبدى، لذلك رفضوا فكرة أن يرتفع المسيح تاركا الأرض كما قال لهم في الآية (33). والحقيقة أنهم لرفضهم للمسيح حسدا، فهم يفتشون على أي سبب ليرفضونه، ويحاولون أن يتصيدوا عليه أي خطأ بل حاولوا كثيرا أن يوقعوا به في خطأ (مت22 : 15) . فهم رسموا لأنفسهم صورة للمسيح المنتظر بحسب أفكارهم المادية ولم يجدوها في السيد المسيح المتواضع. والمسيح يعطيهم نصيحة أن لا يعاندوا متمسكين بأرائهم، فالله لن يسير بحسب أرائهم بل عليهم هم أن يسيروا بحسب فكر الله. الله يريد لهم ولنا حياة سمائية وهم يريدون حياة أرضية مادية. وطالما قال لهم المسيح أنه سيرتفع فهو إذاً سيرتفع ولن يغير خطته. وعليهم أن يصدقوا هذا ويتعلموا منه طالما هو على الأرض بجسده، فكلام المسيح هو “روح وحياة” (يو6 : 63) و”كلام الحياة الأبدية عنده” (يو6 : 68) . وبالتالي قد يعنى كلامه أن عليهم أن ينتفعوا بفرصة وجوده معهم فهو النور القادر أن يقودهم. فهو ليس إنسان ذي جسد عادي مثل باقي البشر، بل هو الله – نور من نور (يو12:8+ 5:9+ 6:1-10+ 19:3) . ونفهم من الكتاب المقدس أن النور هو الله ذاته (أي19:38+ دا22:2+ مز2:104+ مز1:27) وواضح أن المسيح يدعوهم لأن يؤمنوا به ليصيروا أبناء النور وينتهزوا فرصة وجوده على الأرض بجسده ليتعلموا.
ثم مضى وإختفى عنهم= غالباً كان إختفائه بطريقة عجيبة ملحوظة من أمامهم. رمزاً لأنه سوف يصعد للسماء ولن يعودوا يرونه بالجسد بعد صعوده.
قد يُفهم من كلام المسيح أن عليهم أن يؤمنوا به طالما هو معهم بالجسد وهم قادرين أن يرونه ويدركوا نوره جسديا، وذلك قبل أن تضيع الفرصة إذ يصعد بجسده فلا يعودوا يرونه بجسده. وهذا صحيح جزئيا لليهود الذين يسمعونه.
فقول المسيح هذا لليهود الذين يسمعونه كان ليسمعوا تعاليمه ويستفيدوا منه ومن تعاليمه فلا يسقطوا في براثن الشيطان سلطان الظلمة = لئلا يدرككم الظلام = أي الشيطان والمعنى إن لم تقبلوني سيسيطر عليكم الشيطان سلطان الظلمة (لو22 : 53). إذاً إنتهزوا الفرصة فمن لا يسير في النور لن يصل للحياة الأبدية.
وهذا ما حدث لليهود فعلا، فنتيجة عنادهم ورفضهم للمسيح سقطوا في الظلمة، ووصل بهم الأمر لصلب المسيح. والنتيجة خراب أورشليم وهلاك الملايين منهم على يد تيطس الروماني. بل لمدة 2000 سنة وهم مشردين في العالم كله مرفوضين ومنبوذين. وعلى كل من يسلك في الظلمة عليه أن يتوقع هذه النهاية. وكان المسيح يشفق على اليهود من هذا المصير ويعاتبهم أنهم رأوه وسمعوا تعاليمه ورأوا أعماله ولم يؤمنوا (يو6 : 36 + يو8 : 45 ، 46) .
ولكن هنا يثور سؤال … وماذا بعد صعود المسيح، كيف نرى نحن النور لنؤمن؟ وهل معنى كلام المسيح هنا لليهود أن يستغلوا فرصة وجوده على الأرض بالجسد ليؤمنوا، أنه لا طريق للإيمان بالمسيح إن لم نراه بالجسد؟
قطعا المسيح لا يقصد هذا على الإطلاق. فإن كان شرط أن نؤمن بالمسيح أن نراه جسديا، فكيف يؤمن البشر به في كل مكان وكل زمان.
وفي هذه الآيات يرسم المسيح لكل إنسان طريق الإيمان به، وطريق تغيير طبيعة الإنسان من طبيعة مظلمة إلى طبيعة نيِّرة. والطريق ببساطة أن من يريد أن تتغير طبيعته عليه أن يترك طريق الخطية والظلمة، وأن يسلك في النور أي يلتزم بوصاياه.
ولاحظ تسلسل كلام الرب فهو قال أولًاً *سيروا في النور ثم تقدم خطوة فقال *آمنوا بالنور= آمنوا بي. *لِتَصِيرُوا أَبْنَاءَ النُّورِ = أي من يؤمن بالمسيح يتغير كيانياً، يصير خليقة جديدة (2كو5 : 17)، ويصير نوراني (هذه مثل “يصير نيرِّاً كله” لو36:11).
*فسيروا ما دام لكم النور= في ترجمة أخرى (القطمارس katameroc) فسيروا في النور. وكل من يسلك في النور منفذا وصايا المسيح تاركا طريق الخطية، ستكون له العين المفتوحة التي ترى وتبصر النور. فالنور لا يراه سوى مفتوح العينين صاحب القلب النقي “طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله” (مت5 : 8). وهذا يعنى أنه سيدرك المسيح حقيقة، فالمسيح هو النور، وهذا معنى مثل الرب في (مت7 : 24 – 27) .
*آمنوا بالنور = ومن إنفتحت عيناه سيرى المسيح ويعرفه، ومن يعرفه حقيقة سيحبه وسيؤمن به. بل سيسكن عنده الآب والابن (يو14 : 23) .
*لِتَصِيرُوا أَبْنَاءَ النُّورِ = من يسكن عنده الآب والابن ستتغير طبيعته إلى طبيعة نورانية، فالنور الحقيقي يسكن فيه وينعكس عليه.
وكل إنسان أمامه طريق من اثنين :-
1) إما يختار المسيح فيختار طريق النور والحياة الأبدية، ولاحظ أن من يختار هذا الطريق يساعده المسيح، فبدون المسيح لن نقدر أن نفعل شيئا (يو15 : 5) .
2) أو يختار الإنسان طريق الظلمة أي طريق الخطية وشهوات الجسد، فيقع في براثن سلطان الظلمة أي الشيطان (لو22 : 53) ونهاية هذا الطريق الموت.
وهذا نفس ما ردده موسى النبي في العهد القديم “قد جعلت قدامك الحياة والموت. البركة واللعنة. فإختر الحياة لكي تحيا أنت ونسلك” (تث30 : 19) .
رفض اليهود للمسيح (يو37:12-50)
الآيات (37-41): “ومع أنه كان قد صنع أمامهم آيات هذا عددها لم يؤمنوا به. ليتم قول أشعياء النبي الذي قاله يا رب من صدق خبرنا ولمن استعلنت ذراع الرب. لهذا لم يقدروا أن يؤمنوا لأن أشعياء قال أيضًا. قد أعمى عيونهم واغلظ قلوبهم لئلا يبصروا بعيونهم ويشعروا بقلوبهم ويرجعوا فاشفيهم. قال أشعياء هذا حين رأى مجده وتكلم عنه.”
نرى هنا عدم إيمان اليهود بالرغم من كل ما عمله المسيح أمامهم. بل كل ما عمله كان تصديقًا للنبوات، ولو اهتم هؤلاء العلماء الدارسين أن يفهموا، لو اهتموا بالبحث عن الحقيقة لرأوها مجسدة أمامهم. من صدق خبرنا= من صدق كلام المسيح (الإنجيل). وللآن فهناك من لا يصدق حتى من المسيحيين، فمن يصدق لا بُد أن يتوب وتتغير حياته. ولكنهم لأنهم لم يبحثوا عن الحق فقد عميت عيونهم. وحتى هذا تنبأ عنه إشعياء. فهم الذين أعموا عيونهم لأنهم لا يريدون. هم بحثوا عن أنفسهم لا عن الله لذلك لم يجدوا الله بينما كان هو أمامهم. وكون إشعياء يعلن هذا، فهذا يشير إلى أن كل شيء يتم بحسب تدبير الله، ليس بقوتهم ولا مؤامراتهم صلبوا المسيح، بل بسماح من الله. (يو11:19). إشعياء قال هذا حين رأي مجده= ويوحنا يقصد بهذا ما قصده إشعياء.. أبعد ما رأى اليهود كل هذا المجد للمسيح لم يؤمنوا. لمن استعلنت ذراع الرب= ذراع الرب إشارة للمسيح المتجسد (إش9:51+ 1:53+ أش9:52-10). فالمسيح ظهر في الجسد، وأظهر بأعماله وأقواله محبة الله، ولكن أشعياء يتعجب، لمن حدث هذا؟ لليهود الذين رفضوه وصلبوه، لقد تحققت نبوة إشعياء. ولكن عدم إيمانهم لم يوقف تدبير الخلاص بل صار عثرة لهم وحدهم، واستعلنت ذراع الرب للأمم. لم يقدروا أن يؤمنوا= ليس لأن الإيمان صعب. لكنهم لم يريدوا. حين رأي مجده= في أش (6) رأى أشعياء مجد الله، وهنا يوحنا ينسب هذا المجد للمسيح. وبهذا نفهم أن المسيح هو رب المجد. أعمى عيونهم= أي سمح بأن يغمضوا عيونهم عن الحق وذلك لشرهم. الله يحاول مع الإنسان لكي يؤمن فإذا عاند الإنسان فالله يترك الإنسان ويكف عن محاولاته معه فيقال أن الله قسى قلب الإنسان أو أن الله أعمى عينيه وهذا ما حدث مع فرعون. إذًا الله تركهم لقساوة قلوبهم ولم تساندهم نعمته فلم يدركوا مجده، أما إشعياء نقى القلب رأى مجده. ومع قساوة قلوبهم فالله لم يتوقف عن خلاص البشرية.
الآيات (42-43): “ولكن مع ذلك آمن به كثيرون من الرؤساء أيضًا غير أنهم لسبب الفريسيين لم يعترفوا به لئلا يصيروا خارج المجمع. لأنهم أحبوا مجد الناس أكثر من مجد الله.”
الإيمان بلا اعتراف يساوي عدمه، فسبب عدم الاعتراف هو الخوف على ضياع مراكزهم كأعضاء في مجمع السنهدريم وهذه لها كرامة عظيمة عند اليهود، وكيف يكون الله في مرتبة أقل من مراكزهم. والكتاب ذكر اثنين من الذين آمنوا من الشيوخ وهم نيقوديموس ويوسف الرامي وهؤلاء كانوا يأتون للسيد ليلًا حتى لا يراهم أحد، لكنهما أظهرا شجاعة ما بعدها شجاعة عند موته وجاهرا بإيمانهما غير مبالين بأي خطر (مت57:27+ لو50:23-51+ يو1:3، 2+ يو22:9).
هذه الآيات يذكرها يوحنا هنا لنرى فيها:
مقام المؤمن 44-46.
مقام غير المؤمن 47-48.
مقام كلام المسيح 48-50.
وهذه مبادئ ذكرها المسيح ونادى بها من قبل ويسجلها يوحنا هنا كتعليق على عدم إيمان اليهود بالمسيح بعد أن أنهى المسيح تعليمه للجموع ولليهود. فابتداء من إصحاح (13) ينفرد المسيح بتلاميذه في أحاديث خاصة وتعليم لهم وحدهم وصلاته الشفاعية يوم الخميس. ولكن لم يَعُدُ المسيح بعد هذه الكلمات يتكلم مع الفريسيين أو الشعب. لذلك يضع يوحنا هذه الآيات كختام بمعنى أن المسيح صنع لهم كل شيء وأراهم كل شيء. وكل إنسان حر أن يقبل أو يرفض. وهذه تشبه ما قيل في (رؤ11:22) من يظلم فليظلم بعد ومن هو نجس فليتنجس بعد ومن هو بار فليتبرر بعد.
الآيات (44-45): “فنادى يسوع وقال الذي يؤمن بي ليس يؤمن بي بل بالذي أرسلني. والذي يراني يرى الذي أرسلني.”
نادى= أي بصوت عالٍ إظهاراً لغيرته الشديدة على خلاصهم. الذي يؤمن بي= هذا تعليق على من آمن وأعلن إيمانه جهاراً، وعلى من آمن من الرؤساء والشيوخ وأخفى إيمانه، وعلى من رفضوا الإيمان تمامًاً (آيات 40، 42) من آمن بالمسيح فقد إنفتحت عيناه وعرفه، وحين عرفه فقد عرف الآب لأن المسيح هو صورة الآب. والذي يراني= يراني بحسب الحقيقة ويعرف مجدي السماوي. العين المفتوحة هنا هي درجة أعلى من الإيمان، وتحتاج لإعلان بالروح القدس. ونرى هنا أن المسيح لا يفصل بين الإيمان بالآب والإيمان به فهما جوهر إلهي واحد. والمسيح هو صورة الآب ورسم جوهره فمن يراه يرى الآب (عب1: 3)، وهو تجسد لنرى فيه صورة للآب “الله لم يره أحد قط، الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبَّر” (يو1: 18) وهو قال “الذي رآني فقد رأى الآب” (يو14: 9) . بل بالذى أرسلني = وتأكيد المسيح الدائم أنه مرسل من الآب هو تأكيد على هذه الوحدة مع أبيه السماوي الذي أرسله ليعلن للعالم صورة الآب. من يرى يسوع (ليس بشكله البشري) بل رؤية إيمانية سيرى كل ما يمكن إدراكه عن الآب.
تعليق: 1) الروح ينير قلب الإنسان فيرى ما لا يُرى. يرى بعيني قلبه، بحواسه الداخلية. كما نطق بطرس “أنت هو المسيح ابن الله الحي”.
2) نحن نصل للآب عن طريق الابن، والآب يصل لنا عن طريق الابن (نش2:1).
آية (46): “أنا قد جئت نورًا إلى العالم حتى كل من يؤمن بي لا يمكث في الظلمة.”
نورًا= قبل المسيح كان العالم في ظلمة لا يدرك الله ولا يراه ولا يعرفه. ومجيء المسيح بدد الظلمة بنوره. لكن لا ينتفع بهذا النور سوى من يؤمن بالمسيح.هو الحق المدرك الكامل. والمسيح جاء ليستعلن ذات الله المخفية في شخصه. والخطية أظلمت عيوننا فما عدنا نرى الله. والمسيح بنوره نرى خطيتنا ونتوب عنها. لذلك فالإيمان بالمسيح يعيدنا إلى الحالة الأولى، لنا عيون تبصر الله وتراه كما كان آدم في الجنة، وهذا عكس ما قيل في آية (40) قد أعمى عيونهم بسبب عدم إيمانهم (آية39). هذه الآية توضيح لما سبق، فمن يقبل المسيح، ينير له المسيح قلبه فيعرف الآب. وبدون المسيح فالإنسان يعيش في ظلام فلا يعرف الله ولا الطريق ولا الحق ولا المستقبل.
آية (47): “وإن سمع أحد كلامي ولم يؤمن فأنا لا أدينه لأني لم آت لأدين العالم بل لأخلص العالم.”
المسيح في مجيئه الأول أتى ليخلص لا ليدين، أتي ليدعو الجميع للإيمان، ومن يرفض لن يُدان الآن (يو17:3). وهذا ما نراه فكثيرين من الملحدين يهاجمون الله والمسيح، ولا يعاقبهم الله. والدعوة معروضة أمامهم حتى آخر يوم في حياتهم. هذا الزمان هو زمان الرحمة وليس الدينونة. سمع= سمع وينفذ.
الآيات (48-50): “من رذلني ولم يقبل كلامي فله من يدينه الكلام الذي تكلمت به هو يدينه في اليوم الأخير. لأني لم أتكلم من نفسي لكن الآب الذي أرسلني هو أعطاني وصية ماذا أقول وبماذا أتكلم. وأنا اعلم أن وصيته هي حياة أبدية فما أتكلم أنا به فكما قال لي الآب هكذا أتكلم.”
الكلام الذي تكلمت به هو يدينه= كلام الله هو سيف ذو حدين (عب12:4) الحد الأول يطهر وينقي ويقطع الخطية من داخلنا لنولد من جديد (1بط23:1) ومن يرفض فالحد الثاني يدين به المسيح هذا الشخص، وبه يحاربه (رؤ13:2). من يرفض كلام المسيح وكلام المسيح حياة. إذًا هو يرفض الحياة. إذًا هو وقع تحت الدينونة. هو وضع نفسه بنفسه تحت الدينونة. فكلام المسيح نور وسيميز البار من الشرير (يو19:3-20) إذًا المسيح بسلطان كلمته يحيي ويقدس ويطهر وأيضًا يميت. فالكلمة التي لها قوة الخلاص لها أيضًا قوة الدينونة وهذا يتطابق مع مع نبوة موسى عن المسيح “اقيم لهم نبيا من وسط اخوتهم مثلك واجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما اوصيه به. ويكون ان الانسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي انا اطالبه” (تث18:18-19)، فمن لا يسمع كلام المسيح ويؤمن به يدينه الآب، فالآب “كلمنا في ابنه” (عب1 : 2) . لذلك فكلمات المسيح ستقف شاهدًا ضد من يستهين بها. المسيح الآن لا يدين أحدًا، فهو ما جاء ليدين. لكن من يرفضه وضع نفسه خارج دائرة الرحمة. وسيدان في الأبدية إذ تقف كلمات المسيح شاهدة عليه أنه رفض الرحمة= من رذلني= أي رفض أن يؤمن بي. لم يقبل كلامي= لم يقبل تعليمي، فكلام المسيح وتعليمه هو الحق وهو نفسه كلام الآب. وهذا الكلام لا يزول، ومن يقبله يحيا ومن لا يقبله يدان. فالدينونة ليست أن نقف في محاكمة أمام الله، بل أن كلام المسيح حق سيواجه ضمير الإنسان ويحكم عليه. كل واحد سيدان من الحق الذي سمعه في يوم من الأيام “ضمائرهم مشتكية” (رو15:2). وصيته حياة أبدية= هي في ذاتها حياة. أي حين تقبل وصية المسيح تأخذ حياة في داخلك. الله يريد للإنسان الحياة الأبدية. وحين يعطي الإنسان وصية فهو لا يريد أن يتحكم في حريته بل أن تساعده هذه الوصية أن يحيا حياة أبدية ولا يهلك.
ونفهم من كلام المسيح هنا أن كلامه هو نفسه كلام الآب فهما واحد. لذلك فكل من لا يؤمن بالمسيح وبكلامه سيبرهن أنه غير مستحق للغفران والخلاص الذي أتى لأجلهما المسيح. وبالتالي لا يستحق الحياة الأبدية. فهدف وصايا المسيح وتجسد المسيح أن يعطينا حياة أبدية. وخلاصة كلام المسيح هنا أنه هو الله الظاهر في الجسد ومن يؤمن به ينال حياة أبدية، ووصايا الآب التي هي وصاياه من يطيعها تكون له الحياة الأبدية.
فما أتكلم أنا به فكما قال لي الآب هكذا أتكلم= هذا نفس ما قاله موسى (تث18:18-19). وقال لي الآب هذه تعني أنه، لأن الآب والابن واحد فالمعرفة متطابقة والإرادة واحدة، ولكن ما يريده الآب يعلنه الابن وينفذه.
تفسير يوحنا 11 | تفسير إنجيل القديس يوحنا القمص أنطونيوس فكري |
تفسير يوحنا 13 |
تفسير العهد الجديد |