تفسير إنجيل يوحنا الأصحاح 12 للأب متى المسكين
مكان البشارة:
عاشراً-من بيت عنيا
إلى أورشليم
للمرة الأخيرة
الأصحاح الثاني عشر
استعلان ملوكية المسيح ودينونة رئيس العالم
ويشمل هذا الأصحاح:
1- بيت عنيا وتكفين الجسد قبل الموت (1:12-11).
2- دخول المسيح إلى أورشليم (12:12-19).
3- رد المسيح عل طلب اليونايين: «إن ارتفعت عن الأرض أجذب إلي الجميع.» (20:12-36).
ثم ينتهي إنجيل الاستعلان بالأية 36:12 «ثم مضى واختفى عنهم».
وينتهي الأصحاح الثاني عشر بالجزئين التاليين:
+ ختام لإنجيل الاستعلان (37:12-43).
+ ملخص لإنجيل الاستعلان (44:12-50).
1- بيت عنيا وتكفين الجسد قبل الموت 1:12-11
لم يُسمع قط أن يُكفن الجسد قبل الموت، ولكن هذا هو جسد يسوع الذي لن يرى فساداً «لن تدع قدوسك يرى فساداً» (أع35:13). وهكذا ظل جسد المسيح معطراً بناردين خالص تفوح منه رائحة محبة الإنسان لابن الإنسان، والتي لم يستطع القبر أن يمحوها فبقين إلى أن قام من الموت، وتجلى في ملء لاهوته، وفاحت منه رائحة لاهوته الذكية التي وهبها للانسان بالتالى عوض ناردين مريم، ليعبر بها كل إنسان الموت وترفع عنه رائحة فساد الخطية، فيتقدم بهذه الرائحة عينها إلى الله، فيشتم الله فينا رائحة ذبيحة المسيح: «لأننا رائحة المسيح الذكية لله … رائحة حياة لحياة.» (1كو15:2-16)
1:12 ثُمَّ قَبْلَ الْفِصْحِ بِسِتَّةِ أَيَّامٍ أَتَى يَسُوعُ إِلَى بَيْتِ عَنْيَا حَيْثُ كَانَ لِعَازَرُ الْمَيْتُ الَّذِي أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ.
«قبل الفصح بستة أيام»: القصح يقع في 14 نيسان، فالمسيح وصل إلى بيت عنيا قادمأ من «أفرايم» حيث كان معتكفاً يوم 8 نيسان، وهذا يقع يوم الجمعة قبل الغروب مباشرة، فاحتسب السبت واستراح السبت وحضر وليمة العشاء بعد غروب السبت وهذا يوافق أن مرثا كانت تخدم، لأنه لا يحل الخدمة يوم السبت.
أما من حيث «الستة الآيام»، فأسلوب القديس يوحنا يرمي نحو الإشارة إلى ستة أيام الخليقة القديمة، حيث اليوم السابع استراحة ليجعل منها ستة أيام الخليقة الجديدة، وفي السبت استراح المسيح (الله) في القبر، وقام يوم الأحد ليعلن بدء الحياة الأبدية غير الزمنية.
ولودققنا، نجد أن القديس يوحنا يفتتح إنجيله «بالأسبوع» المقدس ويختمه «بالأسبوع» المقدس. إذ نقرأ في بدء الإنجيل: «هذا كان في بيت عبرة (بيت عنيا شرق الاردن)، في عبر الاردن حيث كان يوحنا يعمد» (يو28:1). هذا أول يوم.
ثم «وفي الغد نظر يوحنا يسوع مقبلاً إليه فقال هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم» (يو29:1)، هذا اليوم الثاني.
ثم «وفي الغد أيضاً كان يوحنا واقفأ هو واثنان من تلاميذه (يوحنا واحد منهما) فنظر الى يسوع ماشيأ فقال هوذا حمل الله» (يو35:1-36)، هذا ثالث يوم.
ثم «في الغد أراد يسوع أن يخرج إلى الجليل فوجد فيلس …» (يو43:1)، هذا رابع يوم.
ثم «وفي اليوم الثالث كان عرس في قانا الجليل …» (يو1:2)، هذا هو اليوم السابع!!!!
ثم ليس جزافاً أن يختار الرب بيت عنيا قبل الفصح ليعتزل هناك، لأنه من المعروف في طقس ذبح خروف الفصح أن يُعزل الخروف قبل الفصح بخمسة أيام بعيداً عن الحظيرة. وهكذا يوقع المسيح حياته على نغمات الفصح بشيء من الآبدع الطقسي، وكما كان يجرى على الخروف عملية تكريس استعداداً لتقديمه بعد خمسة أيام، هكذا سلم المسيح جسده لأيدي محبيه ليمسحوه بالطيب والدموع بعد وصوله بيوم، وذلك مساء السبت بعد الغروب وبعد الوليمة:
+ « … في العاشر من هذا الشهر يأخذون لهم كل واحد شاة … شاة صحيحة ذكراً ابن سنة … ويكون عندهم تحت الحفظ إلى اليوم الرابع عشر من هذا الشهر. ثم يذبحه كل جمهور جماعة إسرائيل في العشية»(خر3:12-6)
+ «لأنه كان يليق بنا رئيس كهنة مثل هذا قدوس بلا شر ولا دنس قد انفصل عن الخطاة, وصار أعلى من السموات.» (عب26:7)
2:12 فَصَنَعُوا لَهُ هُنَاكَ عَشَاءً. وَكَانَتْ مَرْثَا تَخْدِمُ وَأَمَّا لِعَازَرُ فَكَانَ أَحَدَ الْمُتَّكِئِينَ مَعَهُ.
أراد كثير من الشراح أن يجمعوا بين ما جاء في إنجيل القديس يوحنا وما جاء في الأناجيل الثلاثة الأخرى، عن قصة العشاء في بيت عنيا، وافترضوا أن بيت سمعان الآبرص الوارد في إنجيل القديس متى (6:26), وفي إنجيل القديس مرقس (3:14)، غير بيت مرثا ومريم ولعازر, بدليل أن لعازر كان مدعوا كضيف, على أن مرثا أيضاً حضرت لتخدم في الوليمة في بيت سمعان الآبرص، إيفاء للدين الذي صنعه الرب لأخيها لعازر. كذلك فمريم انتهزت الفرصة وأحضرت ناردينها لتطيب رجلي الرب اللتين كانت هي تجلس بجوارهما تستمع لكلمات الحياة, وأن سمعان الآبرص هو أحد العشرة البرص الذين شفاهم الرب.
ولكن من رأينا أن قصة إنجيل يوحنا ذات طابع سري ولاهوتي خاص يستلزم منا أن نأخذها كما هي بحد ذاتها.
ومرة أخرى يقدم لنا القديس يوحنا مرثا ومريم: الاولى تخدم, والثانية تتأمل وتحب. وليكن في علمك يا قارئي العزيز أن حياة التصوف بجملتها في المسيحية تأخذ منهجها وأسلوبها وفلسفتها من «مريم»، كما تأخذ حياة الخدمة أسلوبها ومنهجها وفلسفتها من «مرثا»، وما أبدع قول كتاب بستان الرهبان حينما حسم الخلاف القديم بين المتصوفين (التأمل) والنساك (التمرن بضبط الجسد والخدمة)، محاولاً أن يجمع بين خدمة مرثا وتأمل مريم بقوله إن «مريم بمرثا مُدحت»، فلولا شكوى مرثا لما مدح المسيح مريم!
ثم إن إصرار القديس يوحنا على ذكر لعازر متكئاً مع المسيح، هو في الحقيقة لفتة لا تخلو من عمق؛ فالمسيح يبدو, بينما لعازر بجواره، كمن هو قابض على زمام الموت والهاوية تحت قدميه. فكان منظره كمنظر القيامة والحياة التي تتحدى قرار السنهدريم.
3:12 فَأَخَذَتْ مَرْيَمُ مَناً مِنْ طِيبِ نَارِدِينٍ خَالِصٍ كَثِيرِ الثَّمَنِ وَدَهَنَتْ قَدَمَيْ يَسُوعَ وَمَسَحَتْ قَدَمَيْهِ بِشَعْرِهَا فَامْتَلَأَ الْبَيْتُ مِنْ رَائِحَةِ الطِّيبِ.
«المن» هو الرطل الروماني ويساوي ثلثمائة وسبعة وعشرين جراماً وربع الجرام، أي ما يساوي ثلث اللتر.
«ناردين خالص»: في مفهوم العقاقير يعني أنه نقي أي غير مُضاف إليه شموع أو راتنجات التي تعطيه قوام المرهم أو الدهان، فهو خلاصة أو أكسير حر.
والناردين هو الزيت الطيار المستخرج من الجذور وشعيرات الساق لنبات Spikenard وينمو في شمال الهند في الجهات الجبلية العالية. وكان ثمن الرطل الروماني منه حوالي ثلئمائة دينار، علمأ بأن الدينار هو أجرة العامل في اليوم في ذلك الزمان. فإذا حولناه إلى لغة زماننا الحاضر يكون ثمن الرطل منه ما يقرب 300×5 = 1500 جنيهاً مصريا، بحساب أن أجرة العامل العادي هي خمة جنيهات في اليوم.
«ودهنت قدمي يسوع, ومسحت قدميه بشعرها, فامتلأ البيت من رائحة الطيب»: في إنجيل القديس متى نقرأ أن امرأة تقدمت إليه (دون ذكر اسمها) ومعها قارورة طيب كثير الثمن، حيث سكبته على رأسه وهو متكىء (6:26). وفي إنجيل القديس مرقس: «جاءت امرأة معها قارورة طيب ناردين خالص كثير الثمن، فكسرت القارورة وسكبته على رأسه.» (3:13) وفي إنجيل القديس يوحنا يقتصر الوصف على «دهن قدمي يسوع».
فلو أخذنا بهذا الوصف المزدوج معاً، يمكننا أن نستخلص القصد الذي يهدف إليه الوحي على فم هؤلاء الإنجيليين القديسين وذلك حينما نرجع إلى العهد القديم: «… والكاهن الأعظم بين إخوته الذي صُب على رأسه دهن المسحة … لأن إكليل دهن مسحة إلهه عليه. أنا الرب.» (لا10:21و12)
وفي ذلك يتأمل العلممة والمتصوف فيلو اليهودي المعاصر للقديس يوحنا: [إن رأس اللوغس (الكلمة) بصفته الكاهن الأعظم يُمسح بالزيت, بمعنى إظهار جوهره المتألق بالنور البهي].
وكان فيلو اليهودي يرى ما يمكن أن نراه نحن أيضاً، أن دهن المسيح بالناردين، وإن جاء على يدي امرأة امتلأ قلبها حباً وإيماناً بالمسيح, إلا أن الفعل في حد ذاته كان بإيحاء من الله الآب . وهنا سر جزع يوحنا في إحجامه عن ذكر دهن رأس الرب، لأنه فوق متناول الإنسان. وعوض أن يذكر القديس يوحنا دهن رأس الرب بيدي امرأة, عاد وصحح الوضع, أنها هي التي مسحت قدميه بشعر رأسها, وهكذا تكرمت مريم وأكرمت بني جنسها إذ توجت رأس المرأة بإكليل الطيب المنحدر من جسد المسيح.
ويقيناً أن رطلاً من عطر فاخر نقي قد اندفق على ثياب الرب وقميصه أيضاً, وصح قول سليمان في نشيده الإلهي حيث تخاطب النفس البشرية ربها: «ما دام الملك في مجلسه، أفاح نارديني رائحته» (نش12:1)
وقد تمهد المعنى الإلهي لهتاف ثاني يوم أي يوم الأحد: «مبارك الآتي باسم الرب ملك إسرائيل» (13:12)
هذه المعاني البديعة لا تخرج قط عن قصد الوحي الإلهي، فكل حركة في إنجيل القديس يوحنا محسوبة بالحساب اللاهوتي. ولكي يتأكد القارىء أننا نستخلص الدرر من أعماق نهر الروح، فليسمع ما يقوله القديس يوحنا بعدما استفاق التلاميذ من عتمة الحوادث المتتابعة، إن في دهن الجسد، أو في هتاف يوم الأحد: «وهذه الأمور لم يفهمها تلاميذه أولاً، ولكن لما تمجد يسوع، حينئذ تذكروا أن هذه كانت مكتوبة عنه, وأنهم صنعوا هذه له» (يو16:12). ولكن، وللأسف، لم يذكر لنا القديس يوحنا «هذه المكتوبة عنه» ولكنها على كل حال نطوف على كل الزهور نلتقط من رحيق «المكتوبات» ليذوق القارىء والسامع مجرد الذوق!
«وامتلأ البيت من رائحة الطيب»: لقد استرعى انتباه القديس يوحنا، كشاهد عيان، جمال الرائحة وهى تعبق كل البيت، ويقيناً فإن هذا كان هو نفسه شعور الرب، فصمم المسيح أنه كما ملأت مريم عليه البيت برائحة ناردينها الفاخر، أن يملأ الكنيسة كلها والى آخر الدهور برائحة محبة واسم هذه المرأة التي أنابت نفسها عن بشرية الأجيال كلها, لكي تقدم م اليه سخاء فقرها عمل المحبة في يوم المحبة.
وجدير بالذكر أن هذا الإنجيل (يو1:12-8) هو أول قراءة تقرأ في أسبوع الآلام (عشية أحد الشعانين، وكأن الكنيسة بذلك تريد أن تقدم لنا في بداية هذا الأسبوع مثال المحبة التي سكبتها هذه المرأة على قدمي الرب «للتكفين»، كنموذج أعلى للمحبة التي يجب أن نقدمها للمسيح إزاء آلامه المحيية من أجلنا.
4:12- 6 فَقَالَ وَاحِدٌ مِنْ تلاَمِيذِهِ وَهُوَ يَهُوذَا سِمْعَانُ الإِسْخَرْيُوطِيُّ الْمُزْمِعُ أَنْ يُسَلِّمَهُ: «لِمَاذَا لَمْ يُبَعْ هَذَا الطِّيبُ بِثلاَثَمِئَةِ دِينَارٍ وَيُعْطَ لِلْفُقَرَاءِ؟». قَالَ هَذَا لَيْسَ لأَنَّهُ كَانَ يُبَالِي بِالْفُقَرَاءِ بَلْ لأَنَّهُ كَانَ سَارِقاً وَكَانَ الصُّنْدُوقُ عِنْدَهُ وَكَانَ يَحْمِلُ مَا يُلْقَى فِيهِ.
معذرة أيها القارىء العزيز، فقد كنا نحلق معاً في سماء الحب والسخاء، ورائحة المسيح الذكية, ومسحة الآب على رأس ابن الإنسان؛ واذ بنا فجأة وعلى غير انتظار نقع في نقع الطين ونتوحل في حمأة الغباء. فعوض الوجه المشرق الوديع المتواضع الذي لهذه الأخت الممدوحة، وهي في ملء سعادتها، فرحة مستبشرة أنها صنعت للرب شيئا كانت قد عبأت له طاقات حبها ومالها, يظهر في المشهد وبسرعة وجه قبيح غاضب، غاضب على إسراف «عمل المحبة» وفي حقده رأى أنه «كان يمكن أن يُباع» … كل شيء كان عنده يمكن أن يُباع إن لم يكن بثلثمائة فبثلاثين!!!
ولكن مهما أعطينا من نظرة ناقدة نحو هذا التلميذ الذي باع سيده، فلن نستطيع أن نبلغ أعماقه لأنه كان كالهاوية. ويكفي أن نحصر، فيما حصره القديس يوحنا عنه من جهة أخلاقه، أنه سارق يلتقط ما يُلقى فى الصندوق.
فالذي يخون مال الله، سهل عليه أن يبيع المسيح. ولكن الذي يسترعي انتباهنا، أن المسيح ترك الصندوق معه ولم يمانع من أن يسرق منه كما يشاء، ولا هو مانع حتى أن يبيعه (أي يبيع المسيح): «ما أنت تعمله، فاعمله بأكثر سرعة» (27:13)، وآخر كلمة قالها له الرب عندما تقدم ليسلمه: «يا صاحب لماذا جئت!!» (مت50:26)
يا إخوة، الرب لا يحصن تلاميذه أو خدامه من السرقة، والاختباء وراء صندوق الفقراء، ولكن يا ويلهم عندما يستيقظ ضميرهم .
والأن قد وضع الإنجيل هذه المفارقة أمام أعيننا، بين امرأة محبة من كل قلبها، باذلة بكل مالها، مؤمنة حقاً، ولها شهادة من المسيح؛ وبين تلميذ من الاثني عشر الأخصاء التابعين، طماع، جشع، سارق لمال الله، خائن، باع المسيح بثمن بخس. وهذه المفارقة ليست مصادفة ولا هي مجرد قصة في الإنجيل, ولكنها تقسيم قائم في كنيسة الله يمارسه من أحبوا المسيح من كل القلب حسب الوصية و«النموذج»، ومن يسلبون المسيح ويبيعونه «كالمثال» حباً في المال.
7:12- 8 فَقَالَ يَسُوعُ: «اتْرُكُوهَا. إِنَّهَا لِيَوْمِ تَكْفِينِي قَدْ حَفِظَتْهُ.لأَنَّ الْفُقَرَاءَ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ».
الإشارة هنا منطلقة سرا نحو الخائن الذي انتهت عشرته وخطته إلى موت المسيح, عمداً، مع لفتة سريعة نحو مريم التي, ودون أن تدري, أكرمت وعظمت موته بأعز ما ملكت حياتها. فالأول طعن الجسد طعنة الموت؛ والثانية تلقفت الجسد بعطرها ومسحته بشعرها.
لقد بدأت مريم ما أكمله يوسف ونيقوديموس، فالأولى كفنت الجسد حيا برطل واحد من الطيب، والأخرون كفنوه ميتاً بمائة رطل، ولكن ذُكر عمل الأولى من فم المسيح بالجميل والعرفان والشكر والذكرى الأبدية، أما عمل الأخرين فلم يذكره إلا التاريخ.
يا إخوة، إن تكريم الأحياء خالد خلود الروح, أما تكريم الأموات فهو سريع الزوال لا يقوى على حفظه وعي الإنسان!
«هى ليوم تكفيني قد حفظته»: وتأتي هذه الجملة باللاتينية ( )، حيث «تكفيني» تعني «يوم القبر». مريم أجهدت نفسها في حصولها على هذا العطر الكثير الثمن، ولا نعلم كم قترت على نفسها حتى اكتمل عندها ثمنه، ثم حفظته عندها دون أن تدري أنه كان ليوم القبر.
وإنجيل القديس مرقس يشرحها بالتفصيل : «أما يسوع فقال: اتركوها لماذا تزعجونها، قد عملت بي عملاً حسناً, لأن الفقراء معكم في كل حين، ومتى أردتم تقدرون أن تعملوا بهم خيراً. وأما أنا فلست معكم في كل حين. عملت ما عندها. قد سبقت ودهنت بالطيب جسدي للتكفين. الحق أقول لكم حيثما يكرز بهذا الإنجيل في كل العالم يُخبر أيضاً بما فعلته هذه تذكاراً لها» (مر6:14-9)
«الفقراء معكم في كل حين»: المسيح ها يستعيد على أذهان التلاميذ كلام الناموس: «لأنه لا تفقد الفقراء من الأرض. لذلك أنا أوصيك قائلاً: افتح يدك لأخيك المسكين والفقير في أرضك» (تث11:15). ومن الجانب الآخر السري في كلام المسيح، والذي سبق أن استعلنه، أن المسيح نفسه موجود في الفقراء، فالمساكين والفقراء يمثلون شخص المسيح: «الحق أقول لكم بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم.» (مت40:25)
والمعنى واضح أن إمكانية خدمة المسيح ومحبته الشخصية قائمة بصورة دائمة في خدمة ومحبة الفقراء؛ حتى بعد أن يختفي المسيح عن أعينهم عائداً إلى حيث كان.
9:12- 11 فَعَلِمَ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ الْيَهُودِ أَنَّهُ هُنَاكَ فَجَاءُوا لَيْسَ لأَجْلِ يَسُوعَ فَقَطْ بَلْ لِيَنْظُرُوا أَيْضاً لِعَازَرَ الَّذِي أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ. فَتَشَاوَرَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ لِيَقْتُلُوا لِعَازَرَ أَيْضاً. لأَنَّ كَثِيرِينَ مِنَ الْيَهُودِ كَانُوا بِسَبَبِهِ يَذْهَبُونَ وَيُؤْمِنُونَ بِيَسُوعَ.
القديس يوحنا يضع أمام القارىء المقارنة المخزية بين حاسة الشعب العامة التي لا تخطىء، وسياسة الرؤساء التي دائمأ تضلل البسطاء … فالحجاج بدأوا يتقاطرون من أورشليم إلى يت عنيا، منذ أن أقام المسيح لعازر من الأموات، وازدادوا الآن عندما علموا أن الرب هناك، وهكذا تشكل أمام الرؤساء خطر وجود لعازر كبينة لا تدحض على قوة المسيح وتفوقه. وهكذا أضيف إل قرار قتل المسيح قتل لعازر أيضاً: «لأنه إن كانوا بالعود الرطب يفعلون هذا فماذا يكون باليابس.» (لو31:23)
2- دخول المسيح إلى أورشليم (12-19)
أحد السعف, بدء أسبوع الآلام حسب الطقس
12:12- 13 وَفِي الْغَدِ سَمِعَ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ الَّذِي جَاءَ إِلَى الْعِيدِ أَنَّ يَسُوعَ آتٍ إِلَى أُورُشَلِيمَ. فَأَخَذُوا سُعُوفَ النَّخْلِ وَخَرَجُوا لِلِقَائِهِ وَكَانُوا يَصْرُخُونَ: «أُوصَنَّا! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ!».
كان حفل العشاء، بعد غروب شمس السبت، وهكذا حُسب الأحد أنه «الغد» بحساب النهار. والذي حدث أن اليهود الذين حضروا حفل العشاء الذي عمل في بيت عنيا عادوا إلى أورشليم وأشاعوا النبأ السار، أن يسوع قادم إلى أورشليم. وحالما سمع «الجمع», وهنا كلمة «الجمع» كما سبق وعرفنا يقصد بها أهل الجليل، وهم أصدق أصدقاء الرب, هؤلاء احتشدوا في صورة موكب عظيم. ولكي نأخذ صورة عن قرب لهذا المشهد الصاخب الرائع نقرأ في الأناجيل الأخرى: «فذهب التلميذان، وفعلا كما أمرهما يسوع. وأتيا بالأتان والجحش ووضعا عليهما ثيابهما فجلس عليهما. والجمع الأكثر فرشوا ثيابهم في الطريق، واخرون قطعوا أغصاناً من الشجر وفرشرها في الطريق. والجموع الذين تقدموا والذين تبعوا كانوا يصرخون قائلين: أوصنا لابن داود. مبارك الآتي باسم الرب. أوصنا في الأعالي. ولما دخل أورشليم، ارتجت المدينة كلها قائلة: من هذا؟ فقالت الجموع: هذا يسوع النبي الذي من ناصرة الجليل.» (مت6:21-11)
وهكذا تحققت كل مخاوف رؤساء الكهنة والفريسيين، ووقفوا ينظرون خائفين وحاقدين، وفاقدين كل قدرة عل تحجيم الموقف.
ويضيف القديس لوقا إضافات ذات أهية بالغة في تصوير الموقف، وفي توضيح رعبة الفرسيين وفقدانهم السيطرة على الجماهير: «ولما قرب عند منحدر جبل الزيتون ابتدأ كل جمهور التلاميذ يفرحون ويسبحون الله بصوت عظيم لأجل جميع القوات التي نظروا. قائلين: مبارك الملك الآتي باسم الرب. سلام في السماء، ومجد في الأعالي. وأما بعض الفريسيين من الجمع فقالوا له: يا معلم, انتهر تلاميذك, فأجاب وقال لهم: أقول لكم إنه ان سكت هؤلاء فالحجارة تصرخ. وفيما هو يقترب نظر إلى المدينة وبكى عليها قائلأ: إنك لو علمت أنت أيضاً، حتى في يومك هذا، ما هو لسلامك (أي المسيح المخلص). ولكن الأن قد أُخفي عن عينيك (حتى يتم الصلب). (وبناء على ذلك) فإنه ستأتي أيام ويحيط بك أعداؤك بمترسة، ويحدقون بك، ويحاصرونك من كل جهة، ويهدمونك وبنيك فيك، ولا يتركون فيك حجراً عل حجر لأنك لم تعرفي زمان افتقادك.» (لو37:19-44)
يُفهم من إنجيل القديس متى أن الرب أرسل تلميذين ليستحضرا جحشاً (ابن أتان) ليركب عليه، ومن إنجيل القديس لوقا أن الرب كان راضياً بهتاف التلاميذ، ورفض رجاء الفريسيين أن ينتهر التلاميذ. هذا معناه أن الرب كان راضياً بهذا الموكب وهذا الهتاف الذي يتضمن الهتاف بملك إسرائيل، وهذا الاستقبال الملكي بكل ملابساته. فلو تذكرنا موقفاً سابقاً للرب يوم صنع معجزة الخمس الخبزات والسمكتين، إذ كان رفضه حاسماً لمثل هذا الاتجاه كله، لأنه أولاً لم تكن ساعة استعلان ملكه قد حانت بعد؛ وثانياً لأنهم ظنوه ملكاً سياسياً: «وأما يسوع فإذ علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكاً، انصرف أيضاً إلى الجبل وحده.» (يو15:6)
لوعلمنا هذا، لأدركنا أن الرب هنا يستعلن حضور ساعة ملوكيته إلهياً على إسرائيل: «وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إلي الجميع» (يو32:12). فالموكب الملكي الذي ارتجت له المدينة، لم يكن في نظر الرب واعتباره إلا موكب الصليب: «أفأنت إذاً ملك. أجاب يسوع: أنت تقول إني ملك. لهذا قد وُلدت أنا، ولهذا قد أتيت إلى العالم.» (يو37:18)
ويلاحظ أن القديس يوحنا هو الوحيد الذي أضاف إلى جمل الهتاف جملة »ملك إسرائيل»، إمعاناً في توضيح المعاني الخفية في مفهوم دخوله أورشليم كاستعلان لملوكيته التي ليست من هذا العالم.
«فأخذوا سعوف النخل وخرجوا للقائه»: كان المعروف أن الملوك والقادة حينما يعودون من محواقع الحرب كانوا يُستقبلون بسعف النخل, وهذا نقرأه في 1مك51:13 و2مك4:14 «ودخلها في اليوم الثالث والعشرين من الشهر الثاني في السنة المئة والحادية والسبعين بالحمد وبالسعف والكنارات والصنوج والعيدان والتسابيح والأناشيد لانحطام العدو الشديد من إسرائيل» (1مك51:13)
«فأتى ديمتريوس الملك في السة المئة والحادية والخمسين، وأهدى إليه إكليلاً من ذهب وسعفة وأغصاناً من زيتون مما يختص بالهيكل وبقي في ذلك اليوم ساكتاً.» (2مك4:14)
وتوجد عملات مسكوكة أيام سمعان المكابي سنة 141-135 ق م وعليها سعف النخل رمز النصرة.
وفي سفر الرؤيا نجد موكب أحد الخوص يتكرر بكل بهائه في منظر المسيح آت وهو مُتجل بخلاصه لتستقبله كل شعوب الأرض: «بعد هذا نظرت واذا جمع كثير لم يستطع أحد أن يعده من كل الأمم والقبائل والشعوب والألسنة، واقفون أمام العرش وأمام الخروف، متسربلين بثياب بيض، وفي أيديهم سعف النخل, وهم يصرخون بصوت عظيم قائلين: الخلاص (= أوصنا) لإلهنا الجالس على العرش وللخروف.» (رؤ9:7-10)
وتصوير دخول الرب بهذا الوصف المتضمن معنى النصرة، كان بمثابة اللطمة الأخيرة على وجه أعداء المسيح من رؤساء الكهنة والفريسيين، والتي عجلت جداً بعملية الصليب، الذي هو في الحقيقة التعبير الإلهي الأخير والأبدي لنصرة المسيح، ليس على الناس بل من أجل الناس.
كما كانت سعوف النخل تُستخدم في أعياد المظال والتجديد. والنخلة شجرة محبوبة كونها ترتفع شامخة نحو السماء، فارشة أغصانها مثل التاج، كأذرع تتوسل، خضراء على الدوام, تزهر وتثمر إلى مئات السنين. لذلك ترنم بها صاحب المزمور كصورة للصديق: «الصديق كالنخلة يزهو … مغروسين في بيت الرب في ديار إلهنا» (مز12:92-13)
وقد استخدم سليمان الملك النخلة في نشيد الأ نشاد ليعبر بها عن النفس المحبوبة للمسيح: «ما أجملك وما أحلاك أيتها الحبيبة … قامتك هذه شبيهة بالنخلة … قلت إني أصعد إلى النخلة وأمسك بعذوقها.» (نش6:7-8)
وللكنيسة القبطية شغف بها يفوق الوصف. ففي يوم أحد السعف, أو أحد الخوص الذي نحن بصدده يتبارى كل بيت وبلا استثناء في اقتناء عدة أغصان منها, ويستمرون السبت مساء (عشية الأحد) في جدل الخوص بأشكال ومناظر غاية في الأبداع, والحاذقون في جدلها يملأونها بالزهور والورود، ويصنعون في الجريدة جيوباً يضعون فيها «قربانة» ويحتفظون بها في البيوت على مدار السنة. ويقوم بعض الكهنة, وهذا خطأ فاحش, بتكريسها بماء طقس «لقان الموتى» الذي يجريه الكهنة تحسباً لمن يموت في أسبوع الألأم، حيث يُمنع إجراء الصلوات على الميت، ويكتفى برشه بماء اللقان الخاص بالموتى. كما يتبارى الباعة بالنداء على الخوص المجدول على شكل قلوب: «قلبك يا سيحي، قلبك». وأصبح الخوص في هذا اليوم يشكل أجل مظاهر الفرح، ليس عند الصغار فقط بل والكبار أيضاً. وقل من يدخل الكنيسة وليس في يده سعفة يعود بها إلى بيته يحتفظ بها للتذكار والبركة. وقد احتفظت الكنيسة القبطية بهذا التراث منذ العصور الأولى.
«أوصنا, مبارك الآتى بأسم الرب ملك أسرائيل»: هو ترديد لمقاطع المزمور 117 (حسب الترجمة السبعيتية) وخاصة الآية 25: «احمدوا الرب لأنه صالح إلى الأبد رحمته …»
«قوتي وتسبحتي هو الرب وقد صار لى خلاصاً …»
«افتحوا لى أبواب البر لأدخل فيها …»
« هذا هو باب الرب والصديقون يدخلون فيه …»
«الحجر الذي رذله البناؤون صار رأساً للزاوية …»
«هذا هو اليوم الذي صنعه الرب نبتهج ونفرح فيه …»
«آه يا وب خلص (أوصنا). آه يا رب أنقذ. مبارك الآتي باسم الرب»
«باركناكم من بيت الرب …»
«الرب هو الله …»
ومن الآية «اوصنا مبارك الله الآتي باسم الرب» يبدأ في نشيد أحد الخوص لحن «إفلوجيمينوس»، مع إضافة «أوصنا لابن داود. أوصانأ في الأعالى. أوصانا لملك إسرائيل».
ويُستخدم من المزمور الآية: «قوتي وتسبحتي هو الرب وقه صار لى خلاصاً» في الكنيسة القبطية مئات المرات طوال ساعات الليل والنهار ليوم الجمعة الكبيرة في أسبوع الآلام، كمقطع ترديدي. كما تغدو الآية: «هذا هو اليوم الذي صنعه الرب فلنبتهج ونفرح فيه» في كل أيام الأحاد عند تقديم الذبيحة.
وهذا المزمور يبدو أنه أُلف ليكون تسبحة لتدشين الهيكل الثاني، وربما عند وفع حجر أساسه: «الحجر الذي رفضه البناؤون قد صار رأس الزاوية.» (مز22:118)
والطقس اليهودي الحالي يستخدم هذا المزمور بعناية فائقة ويحتل في العبادة مركزاً أساسياً, وذلك في عيد ظهور الهلال كل شهر.
وأما الآن، فقد تحولت النبوة وتحول الطقس بجملته إلى حقيقة واقعة تاريخية، استعلن فيها كل المعنى والقصد الإلهي من المزمور والطقس، إذ صار هذا المزمور كله موقعاً على حياة المسيح آية آية، بصورة إعجارية.
وكلمة «أوصنا» أصلها الأرامي «هوشعنا» ومعناها: «من فضلك خلصنا»، وقد أصبحت صلاة لطلب المعونة وخاصة أيام عيد المظال ولطلب المطر. ولكنها أصبحت هتافاً للتحية والتكريم كما جاءت في 2صم4:14 «وكلمت المرأة التقوعية الملك, وخرت على وجهها إلى الأرض، وسجدت، وقالت: هوشعنا (أعن) أيها الملك».
والسبب في أن الإنجيل لم يترجمها إلى اللغة العربية (أو أي لغة أخرى) بل بقيت بلفظها الأرامي تقريباً، هو أنها تثبتت كاصطلاح للمديح. ولكن الكنيسة تصرفت فيها وجعلتها مقطعاً للصلاة أيضاً.
أما كلمة «مبارك الآتي باسم الرب»» فكان يقولها الكهنة واللاويون ترحيبأ بالحجاج الأتين إلى الهيكل من الأماكن البعيدة، وهوذا الرب يأتي إلى هيكله بغتة (ملا1:3)، ليس حاجاً، بل كصاحب البيت، كابن على بيته، وبيته نحن (عب6:3) الحاجون إليه.
ولكن في التعبير المسيحي: «الذي كان والذي يأتي» (رؤ8:11) مأخوذ على أنه تعبير عن لقب الرب يسوع «الآتي إلى العالم» (يو27:11) من عند الآب:
+ «أنت هو المسيح ابن الله الآتي إلى العالم .» (يو27:11)
+ «أنا أتيت باسم أبي, ولستم تقبلوني، إذ أتى أخر باسم نفسه فذلك تقبلونه» (يو43:5). أما اسم أبيه فهو ( )، الذي طالما استخدمه المسيح ليعلن عن نفسه أنه والآب واحد.
+ «وعرفتهم اسمك» (يو26:17)، «كنت أحفظهم في اسمك» (يو12:17)، «إن لم تؤمنوا إني أنا هو تموتوز في خطاياكم.» (يو24:8)
«ملك إسرائيل»: لسيت واردة في النص النبوي في المزمور، ولكنها واردة في نص نبوي أخر مأخوذ من نبوة صفنيا النبي والذي سيأتي ذكره في شرح الأية 15.
14:12-15 وَوَجَدَ يَسُوعُ جَحْشاً فَجَلَسَ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «لاَ تَخَافِي يَا ابْنَةَ صَِهْيَوْنَ. هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِي جَالِساً عَلَى جَحْشِ أَتَانٍ».
«جحشا» أي «حماراً» والكلمة الآرامية حيمور واليونانية هيبوزيحبيون (زك9:9)، ومعناها «حيوان للحمل»، أي لحمل الأثقال. والحمار (أو الأتان) ( ) وتصغيره ( ) وجحش ابن أتان ( ). ولقد أخذ القديس يوحنا الكلمة من أصلها المكتوب في سفر زكريا «ابتهجي جداً يا ابنة صهيون، اهتفي يا بنت أورشليم ، هوذا ملكك يأتي إليك. هو عادل ومنصور، وديع، وراكب على حمار, وعلى جحش ابن أتان» (زك9:9)
ومعروف أن في الأدب النبوي اليهودي، وخاصة ما يأتي منه بالأشعار، يأتي تكرار الكلام لتحسين النغم والوزن ولتوضيح المعنى. وهنا يتضح في هذه الآية عملية التكرار، أولاً في «يا ابنة صهيون» ثم «يا بنت أورشليم»، ثم عاد يكرر «راكباً عل حمار», ثم أراد أن يوضح أنه حمار صغير «ابن أتان»، فأخطأ النساخ وبعدهم المترجمون وكتبوها «على حمار» وعلى «جحش ابن أتان» بإضافة الواو فجاء المعنى مغلوطا، وكأنه جالس على حمار وعلى جحش معاً. والصحيح أنه حمار صغير أي جحش.
ولكن كلمة «صغير» لا تستخدم للتعبير عن صغار الحمير فقط بل وصغار الخيل أيضاً، فلزم أن تميز كلمة «صغير» فجاءت «صغير» (جحش بالعربية) مضافة إلى أنثى الحمار أي الأتان. فصار المعنى الصحيح هكذا: حمار صغير ابن أتان. ولكن كما فهم النساخ للترجمة السبعينية، هكذا نقل عنها القديس متى في إنجيله كما هي, واضطر أن يعدل المعاني والألفاظ لتصير بالمثنى, أي حمار وجحش ابن أتان معاً، فجاءت هكذا: «فللوقت تجدان أتاناً مربوطة وجحشاً معها، فحلاهما وأتياني بهما. وان قال لكما أحد شيئاً، فقولا: الرب يحتاج إليهما, فللوقت يرسلهما. فكان هذا كله لكي يتم ما قيل بالنبي القائل: قولوا لابنة صهيرن: هوذا ملكك يأتيك وديعاً راكباً على أتان وجحش ابن أتان. فذهب التلميذان وفعلا كما أمرها يسوع، وأتيا بالأتان والجحش, ووضعا عليهما ثأبهما فجلس عليهما.» (مت2:21-7)
هذا الخطأ بالنقل غير المقصود، تلافاه كل من القديسين مرقس ولوقا ويوحنا، حيث ذكروا أنه جحش واحد فقط. ويزيد كل من القديس مرقس والقديس لوقا كلمة: «جحشاً لم يجلس عليه أحد من الناس» (مر2:11، لو30:19) كما جاءت في النسخة السبعينية: «جحشاً صغيراً» (زك9:9)
«جالساً»: لم يشأ القديس يوحنا أن ينقل الكلمة الأصلية التي جاءت في النبوة، أنه «يأتي راكباً» بل جعلها «يأتي جالساً» («فجلس عليه») كما يليق بالمسيح كملك.
«لا تخافي يا ابنة صهيون»: جاءت في أصل نبوة زكريا: «ابتهجي جداً يا ابنة صهيون، اهتفي يا بنت أورشليم».
وفي إنجيل القديس متى اختزلها وصارت «قولوا لابنة صهيون»، أما القديس يوحنا فيبدو أنه أضاف على نص زكريا النبي نصاً آخر من نبوة صفنيا النبي: «لا تخافي يا صهيون… الرب إلهك في وسطك جبار يُخلص… ملك إسرائيل، الرب في وسطك» (صف15:3-17). وواضح جداً أن القديس يوحنا أخذ هذا التعبير«ملك إسرائيل» في تسبحة الهتاف: «أوصنا، مبارك الآتي باسم الرب ملك إسرائيل».
وكلمة «لا تخافي»، المضافة إلى ركوبه على جحش رمز التواضع والوداعة والمسكنة، والتي استرعت انتباه القديس يوحنا فالتقطها من نبوة صفنيا، توضح أنه ليس ملكاً للنقمة من الأعداء, يهوداً ورومانيين، بل للسلام: «لا تخافي». فدخول المسيح إلى أورشليم بهذه الصورة السلامية، هو الذي عبر عنه التلاميذ في إنجيل القديس لوقا: «سلام في السماء، ومجد في الأعالي.» (لو38:19)
فهذا الموكب المتواضع، بقدر ما أبهج التلاميذ والأخصاء العارفين بمقاصد المسيح السلامية، بقدر ما ألهب قلوب الطالبين للخلاص من الرومان وسيادة اليهود على الأمم، وظنوا أنه بمثابة إعلان بقيام ثورة, ما أرعب قلوب الفريسيين.
ولكن بقية نبوة زكريا كانت هي وحدها التي استقرت في قلب الرب ومقاصده: «هوذا ملكك يأتي إليك، هو عادل، ومنصور، وديع، وراكب على حمار(بل) على جحش ابن أتان. وأقطع المركبة (مركبة الحرب) من أفرايم، والفرس من أورشليم (جيوش الحرب)، وتُقطع قوس الحرب, ويتكلم بالسلام للأمم …» (زك9:9-10)
ولكن حتى التلاميذ لم يفهموا ما هو حادث أمامهم، فاشتركوا في الموكب وهللوا مع المهللين، وظلوا غير مدركين للقيم الحقيقية التي تقوم عليها الحوادث التي كانت تجري أمامهم.
16:12 وَهَذِهِ الأُمُورُ لَمْ يَفْهَمْهَا تلاَمِيذُهُ أَوَّلاً وَلَكِنْ لَمَّا تَمَجَّدَ يَسُوعُ حِينَئِذٍ تَذَكَّرُوا أَنَّ هَذِهِ كَانَتْ مَكْتُوبَةً عَنْهُ وَأَنَّهُمْ صَنَعُوا هَذِهِ لَهُ.
يقول القديس كيرلس الكبير الإسكندري في تعليقه على هذه الآية: [ إن القديس يوحنا الإنجيلي لم يخجل من أن يعترف بجهل التلاميذ، ثم عاد فأظهر معرفتهم؛ لأنه لم يكن يضع في اعتباره احترام الناس، ولكنه كان يدعو لمجد الروح].
والحقيقة أن القديس يوحنا أراد أن يكشف عن مدى الخطأ الذي وقعت فيه كل الفئات، على وجه العموم، بالنسبة لدخول المسيح أورشليم ليكمل عمله الخاص ويختمه.
أولاً: فرؤساء الكهنة والفريسيون، رأوا ذلك أنه بمثابة إعلان ملكيته ببرهان هتاف تلاميذه، فكان ذلك مأخذهم الحاسم لاستخلاص سبب حكم الصلب من فم بيلاطس: «كانوا يصرخون قائلين: إن أطلقت هذا، فلست محباً لقيصر. كل نن يجعل نفسه ملكاً، يقاوم قيصر» (يو12:19)
ثانياً: اليهود والجموع الذين احتشدوا لتحيته بصفته المسيا الآتي لإعلان بدء مملكة داود، لتخليص إسرائيل من أيدي الرومان.
ثالثاً: التلاميذ، وقد لخص القديس يوحنا موقفهم بأنهم لم يفهموا هذه الأمور. وقد توضح لهم أن كل ما عملوه، تلقائياً, كان موضوعاً في خطة الله لاستعلان أعماله من جهة الخلاص المعد.
أما تعليق المسيح على هذا الموكب وهذا الاستقبال فجاء في نفس الأصحاح: «وأما يسوع فأجابهما قائلاً: قد أتت الساعة ليتمجد ابن الإنسان. الحق الحق أقول لكم، إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتمت, فهي تبقى وحدها. ولكن إن ماتت، تأتي بثمر كثير.» (يو23:12-24)
وهذا هو عين موقف الكنيسة الآن من الاحتفال بأحد الخوص. إذ تشترك فيه وتهتف للمسيح باعتباره قادما للصليب، لكي يعلن من عليه انتصاره الحقيقي على الموت والخطية، من أجل خلاص العالم واستعلان حقيقة شخصه كملك المجد.
17:12- 18 وَكَانَ الْجَمْعُ الَّذِي مَعَهُ يَشْهَدُ أَنَّهُ دَعَا لِعَازَرَ مِنَ الْقَبْرِ وَأَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ. لِهَذَا أَيْضاً لاَقَاهُ الْجَمْعُ لأَنَّهُمْ سَمِعُوا أَنَّهُ كَانَ قَدْ صَنَعَ هَذِهِ الآيَةَ.
يلاحظ القارىء أن القديس يوحنا يضع في إنجيله السبب الواضح جداً والمباشر للاحتفال المهيب الذي لاقاه به الشعب يوم أحد السعف كاستقبال الملوك، كل الشعب على كافة طبقاته, ليس الجليليون فقط الذين رافقوه في رحلته بل واليهود عامة حتى من سكان أورشليم ذاتها، وهذا على غير العادة، وذلك بسبب معجزة إقامة لعازر من الموت، وهي الآية التي صنعها الرب قبل مجيئه مباشرة إلى أورشليم:
«فكثيرون من اليهود الذين جاءوا إلى مريم ونظروا ما فعل يسوع، آمنوا به.» (يو45:11), «لهذا أيضاً لاقاه الجمم، لأنهم سمعوا أنه كان قد صنع هذه الآية.» (يو18:12)
في حين أن الأناجيل الثلاثة الأخرى للقديس مرقس والقديس متى والقديس لوقا لم توضح لماذا لاقاه الشعب بالسعف والهتاف في دخوله أورشليم، بل ذكروا حادثة دخوله أورشليم مقطوعة عما قبلها وعما بعدها.
كذلك يوضح هنا القديس يوحنا أن إقامة لعازر من الموت كانت هي السبب المباشر والقوي الذي جعل رؤساء الكهنة والفريسيين يجمعون مجمعهم الأخير والخطير ويتخذون قرارهم بالقتل المسبب: «فكثيرون من اليهود الذين جاءوا إلى مريم ونظروا ما فعل يسوع، أمنوا به. وأما قوم منهم فمضوا إلى الفريسيين وقالوا لهم عما فعل يسوع. فجمع رؤساء الكهنة والفريسيون مجمعاً، وقالوا: ماذا نصنع فإن هذا الإنسان يعمل آيات كثيرة؟ إن تركناه هكذا، يؤمن الجميع به، فيأتي الرومانيون ويأخذون موضعنا وأمتنا… إنه خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب… » (يو45:11-50).
«فمئ ذلك اليوم تشاوروا ليقتلوه» (يو53:11)؛ بل ويؤكد القديس يوحنا أن آية إقامة لعازر من الموت هي التي أنهت على كل أمل الفريسيين في محاولة محاصرته سلمياً, واستسلموا لقرار القتل
19:12 فَقَالَ الْفَرِّيسِيُّونَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «انْظُرُوا! إِنَّكُمْ لاَ تَنْفَعُونَ شَيْئاً! هُوَذَا الْعَالَمُ قَدْ ذَهَبَ وَرَاءَهُ!».
هذه آخر مقارنة يعقدها الإنجيل بين المؤمنين والرافضين, بين أبناء النور وأبناء الظلمة والموت؛ بين الجمع الذي شاهد وآمن وشهد بحماس, وبين الفريسيين الذين رفضوا, وأخيراً شهدوا ليأسهم. وفي كلام اليأس الذي عبروا به عن عدم نفعهم، وعن ذهاب العالم وراء يسوع, كانت آخر نبوة من فم الأعداء عما سيكون حتماً: «هوذا العالم قد ذهب وراءه», وإنهم لن ينفعوا شيئاً وأبداً.
3- رد المسيح على طلب اليونانيين
«إن أرتفعت عن الأرض, أجذب إلىّ الجميع»
20:12- 22 وَكَانَ أُنَاسٌ يُونَانِيُّونَ مِنَ الَّذِينَ صَعِدُوا لِيَسْجُدُوا فِي الْعِيدِ. فَتَقَدَّمَ هَؤُلاَءِ إِلَى فِيلُبُّسَ الَّذِي مِنْ بَيْتِ صَيْدَا الْجَلِيلِ وَسَأَلُوهُ: «يَا سَيِّدُ نُرِيدُ أَنْ نَرَى يَسُوعَ». فَأَتَى فِيلُبُّسُ وَقَالَ لأَنْدَرَاوُسَ ثُمَّ قَالَ أَنْدَرَاوُسُ وَفِيلُبُّسُ لِيَسُوعَ.
وهكذا يصور لنا القديس يوحنا الوجه المقابل من الغرب للمجوس الذين أتوا من المشرق، أولئك أتوا لتحية «المولود ملك اليهود» (مت2:2)؛ وهؤلاء لتحية «المصلوب ملك اليهود»، لكي يجمع المسيح في حياته ومماته الشرق بالغرب، وليحمل له الكل الشهادة والعبادة والسجود والتمجيد.
المجوس قالوا: «أتينا لنسجد له»، واليونانيون «صعدوا ليسجدوا في العيد»، والاثنان كانا طلائع الخراف اللأُخر التي ليست من هذه الحظيرة»، جاءوا ليفتتحوا عصر الأمم. ولكن كانت بعثة شرف الشرق مبكرة للغاية إذ سجلت نفسها في نفس محل الميلاد، لتحفظ حقها بأولوية الانضمام لرعية القديسين وأهل بيت الله، وهذه سمة النشاط في أهل الشرق, أما بعثة الغرب فتأخرت للغاية، ولكها لحقت الساعة الحادية عشرة، فأخذوا وعداً, من خلف الباب, بنصيبهم الكامل من الثمر الكثير: «وأنا إن ارتفعت عن الأرض، أجذب إلي الجميع» (يو32:12). ولكن هذا كله يتم بعد أن تقع حبة الحطة وتموت أولاً، لكي تملأ حقول الغرب كلها، مبشرين وقديسين ومعلمين وعلماء!!
كان صوت هؤلاء اليونانيين الأتقياء, بالنسبة لصخب هذا الموكب الزاخر، يبدو في المظهر خافتاً وغير ملفت للنظر إزاء هتاف الآلاف. ولكن في مقدرات الأمم وسجلات أمجاد المؤمنين، كان صوت هؤلاء اليونانيين كالرعد كما في بلاد الغرب, كصوت مياه كثيرة، كصوت الله نفسه الذي تراءى لبولس في الحلم على هيئة الرجل المكدوني (يوناني) يطلب المعونة (أع9:16)؛ أو بلغة أحد الخوص: «هوشعنا خلصنا»!…
23:12- 24 وَأَمَّا يَسُوعُ فَأَجَابَهُمَا: «قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ لِيَتَمَجَّدَ ابْنُ الإِنْسَانِ. اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلَكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِير».
«قد أتت الساعة»: الرب يعلن انتهاء الخدمة العامة في الرواقات الخارجية، وبدء خدمته الخاصة أمام أبيه في قدس الأقداس، كرئيس كهنة ينضح بدمه سرا على العالم من فوق الصليب. الزمن بعد ليس زمن رؤية وحديث مع الناس، ولكنها الآن ساعة معصرة الدم، وينبغي أن أدوسها وحدي: «قد دست المعصرة وحدي، ومن الشعوب لم يكن معي أحد» (إش3:63). لذلك حينما سمع باليونانيين (الشعوب)، علم أن المعصرة قد أُعدت.
على طول خدمة الرب، سمعنا منه أن ساعته لم تأت بعد، وحينئذ لم يقو عليه أعداؤه, لا بالتهديد ولا بالوعيد، ولا حتى برفع الحجارة، ولا رفع الأيادي، إذ كان يعبر من وسطهم دون أن يروه وأيديهم قابضة على الهواء. ولكن هذه ساعتهم وسلطان الظلمة (لو53:22)، وقد أحنى رأسه للصليب وعلى الصليب برضاه، لأنه كان يرى السرور الموضوع أمامه (عب2:12)، والمجد الذي كان ينتظره. لأنه بالصليب غلب الموت، وقام مكللاً بالمجد، وظهر «يسوع قائماً عن يمين الله.» (أع55:7)
إذن، فكانت هي الساعة التي ينتظرها للعودة إلى الآب. ولكن كان عليه أن يضع نفسه أولاً لكي يأخذها ثانياً، يضعها في هوان ويأخذها في مجد، والموت والقيامة متشابكان تشابكاً مستتراً، لا يُفهم الواحد بدون الأخر، ولكن الموت كان فريضة على الواحد (يسوع), أما القيامة فصارت عطاءً للجميع.
«حبة الحنطة»: يلاحظ القارىء أن إجابة المسيح على سؤال اليونانيين بخصوص رؤيته والتمتع به وبالتالي التلمذة له, تأتي على ثلاثة مستويات:
المستوى الأول: التشبيه بالطبيعة، وهو سقوط حبة الحنطة، وأن موتها الظاهري هو الذي يحولها إلى ثمر كثير.
المستوى الثاني: التطيق على مستوى النفس، على أساس إماتة الذات عن وفي هذا العالم، فهو الذي يُقيمها ويُحييها إلى حياة أبدية، حيث العالم هنا هو بمثابة الأرض بالنسبة لحبة الحنطة.
المستوى الثالث: الإلتصاق بالنموذج الإلهي، فالمسيح مات بإرادته وقام. فإذا اتبعناه تماما, نصير مثله، ونأخذ تجربته، فنموت معه ونقوم معه، إذ نأخذ قوة موته وقوة حياته: «وهم غلبوه (أي غلبوا المشتكى علينا) بدم الخروف, وكلمة شهادتهم, ولم يحبوا حياتهم حتى الموت.» (رؤ11:12)
والنتيجة التي نخرج بها من طرح هذه المستويات الثلاثة هي:
أولاً: أن المسيح سيموت ليعبر إلى اليونانيين والى العالم كله، بل والى ملء السموات والأرض.
ثانياً: ليس مجرد رؤية المسيح وسماعه يحولنا إلى تلاميذه بل يتحتم من جانبنا أن نكون مثل حبة الحنطة نموت عن ذواتنا التي تحدنا وتربطنا بالأرض والعالم، وذلك حتى نرى المسيح والحياة.
ثالثاً: موت المسيح وقيامته سيكون النموذج الفعال الذي إذا التصقنا به وخدمناه, نأخذ قوته ونشترك في نتائجه، وهذا متوفر لدى كل إنسان في العالم.
وبهذه الثلاثة المستويات، نبلغ إلى تلمذة المسيح وشركة حياته. فبدل أن يأتوا إليه ليروه، يمكنهم أن يعيشوا معه دون أن يأتوا إليه.
أولاً: التشبيه بالطبيعة: حبة الحطة المهيأة للدفن في الأرض هي الواحد (يسوع)، بكل معنى الوحدة في العزلة عن الكل. هذا كان عمق أعماق شعور المسيح الذي كاذ يعتصره ويهز كل كيانه: «نفسي قد اضطربت» (يو27:12)، «نفسي حزينة جداً حتى الموت» (مت38:26)، «ايها الآب نجني من هذه الساعة» (يو27:12)، «وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض» (لو44:22) ولولا شعوره الدائم بحلول الآب فيه، لسمعنا أكثر وأكثر، ولكنه كان يعود سريعاً لأعماقه فيرى راحته في الآب: «وأنا لست وحدى, لأن الآب معي.» (يو32:16)
ولكن كما أن حبة الحنطة تغلب وحدتها بموتها ودفنها في الأرض فتصير كثيراً، هكذا رأى المسيح «يسوع» في موته عبوراً من وحدته أي فرادته التي عانى منها، إذ لم يفهمه أحد ولم يسمعه أحد، وإلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله، وحتى إخوته لم يكونوا يؤمنون به (يو5:7)، ورئيس الكهنة مزق ثيابه لأنه لم يفهم كلامه، وتلاميذه خانوه وواحد منهم باعه، والمتقدم فيهم أنكره والباقون تركوه وهربوا؛ تم تمت معجزة حبة القمح التي دُفنت في الأرض، إذ خرجت منها السنبلة تحمل ثمراً كثيراً, كله من جسم حبة الحنطة, «من لحمه ومن عظامه» (أف30:5)، «وجيش عظيم جداً جداً» (حز10:37)، «فقال لى تنبأ للروح, تنبأ يا ابن آدم, وقل للروح هكذا قال السيد الرب: هلم يا روح من الرياح الأربع وهب على هؤلاء القتلى ليحيوا. فتنبأت كما أمرني، فدخل فيهم الروح، فحيوا، وقاموا على أقدامهم، جيش عظيم جداً جداً» (حز9:37-10). «بعد هذا نظرت، وذا جمع كثير لم يستطع أحد أن يعده، من كل الأمم والقبائل والشعوب والألسنة، واقفون أمام العرش وأمام الخروف متسربلين بثياب بيض، وفي أيديهم سعف النخل.» (رؤ9:7)
انتقل المسيح من وحدته إلى كليته، من فرادته إلى مطلقه، من انحصاره في فلسطين إلى ملئه للسماء والأرض: «صعد فوق جميع السموات لكي يملأ الكل» (أف10:4). بموته عبر المسيح إلى كل إنسان كان أو سيكون، وعوض أن كان على كل إنسان أن يعبر إليه، صار هو الذي يعبر إلى الكل في كل مكان وزمان. عوض أن نذهب إليه ونقرع، صار هو الذي يقف على كل باب ويقرع: «هأنذا واقف على الباب، وأقرع، إن سع أحد صوتي وفتح الباب، أدخل إليه، وأتعشى معه وهو معي.» (رؤ20:3)
بموت المسيح ودفنه، استعلنت القيامة والروح والحياة الأبدية التي فيه, والتي طرحها الروح القدس مع الرياح الأربع على قتلى الشعوب يهوداً و يونانيين، فدخل فيهم روح المسيح فحيوا، وقاموا، جيش عظيم جداً جداً.
وهكذا كان رد الرب على سؤال اليونانيين، متضمناً رسالته الإلهية المحيية لهم من داخل آلامه وموته ومجده الذي حانت ساعته. فكأن المسيح يخاطبهم: أتركوني الآن وحدي، لأدوس معصرتي, لأنضح دمي عليكم فتحيون. سأطرح روحي عليكم، وحياتي, وكلمتي، ورسالتي، لتصيروا شعبي.
+ «ولكي يبين غنى مجده على آنية رحمة قد سبق فأعدها للمجد، التي أيضاً دعانا نحن إياها، ليس من اليهود فقط، بل من الامم أيضاً. كما يقول في هوشع أيضاً: سأدعو الذي ليس شعبي شعبي, والتي ليست محبوبة محبوبة. ويكون في الموضع الذي قيل لهم فيه (رواق الأمم) لستم شعبي، أنه هناك يدعون أبناء الله الحي» (رو23:9-26)
ثانياً: التطبيق على مستوى النفس
25:12 مَنْ يُحِبُّ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا وَمَنْ يُبْغِضُ نَفْسَهُ فِي هَذَا الْعَالَمِ يَحْفَظُهَا إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ.
هنا التطبيق على المستوى الأعلى، إذ نحن لسنا بصدد موت طبيعي ولا أرض طبيعية ولا حياة طبيعية ولا ثمر طبيعي، ولكن التطبيق على الطبيعة فقط نقلنا إلى المستوى الروحي الأعلى.
وهذا هو قانون الحياة المسيحية، فكل ارتقاء إلى مستوى أعلى يحتاج أو يتم على أساس خسارة المستوى الأقل: «إن كنتم قد سمعتموه، وعُلمتم فيه، كما هو حق في يسوع (الموت الطبيعي بالجسد)، أن تخلعوا (الموت أو الإماتة للنفس)، من جهة التصرف السابق، الإنسان العتيق الفاسد (أهواء وشهوات النفس) بحسب شهوات الغرور، وتتجددوا بروح ذهنكم، وتلبسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله (الحياة الأعلى) في البر وقداسة الحق» (أف21:4-23). وهذا هو عين مثل حبة الحنطة، وانما على المسترى الأعلى. ويشرحه القديس بولس الرسول عملياً: «لكن ما كان لي ربحاً (فريسي ومعلم إسرائيل), فهذا قد حسبته من أجل المسيح خسارة. بل إني أحسب كل شيء أيضأ خسارة، من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربي, الذي من أجله خسرت كل الأشياء، وأنا أحسبها نفاية لكي أربح المسيح» (في7:3-8). وواضح هنا أن الربح الروحي هو على أساس الخسارة المادية والمعنوية، والخسارة أصابت الذات والربح هو الحصول على المسيح عوض الذات: «فأحيا، لا أنا، بل المسيح يحيا في.» (غل20:2)
وهكذا، فإن التضحية بما هو أقل، مهما كان شهيا ومرغوباً ومريحاً لعظمة الذات، يفتح الطريق إلى بلوغ ما هو أعظم بكثير بالنسبة لروح الإنسان وحياته الأبدية.
كذلك, فإن بذل الذات واخضاعها لمطالب الحياة الروحية، يعوض بالربح الذي يفوق البذل، وهو ربح المسيح؛ فالمسيح يحل محل الذات. كذلك أيضاً, فإن قبول الموت الإرادي، أي الإماتة، والإماتة تصيب كل ما هو قابل للفناء, يفتح باب الحياة الأبدية خطوة بخطوة.
وباختصار، فإن الذي يلتصق بما هو فان، يفنى معه؛ وكل من يلتصق بالحياة يمتلىء بها.
وهكذا كل طماع يأخذ ويخزن ويضيف إلى ذاته من مسرات الدنيا وأمجادها، يُحطم ويُهلك ذاته، بعنى أنه يجعلها بلا قيمة بالنسبة للوجود الروحي ومسراته. وكل جاحد لمشتهيات ومسرات وأمجاد الذات، تصبح ذاته نفسها هي السلم الذي يصعد به إلى السماء.
هنا المسيح على ضوء سؤال اليونانيين الذين يطلبون المجيء إليه لرؤيه، يجيب ويوضح كيفية المجيء إليه؛ فرؤية المسيح ليست بالسهولة التي يراها هؤلاء اليونانيون، أو يراها الحجاج الذين يذهبون إلى أورشليم أو الهيكل أو الجبل المقدس ليروا الله ويجتمعوا إليه: «قال لها يسوع: يا امرأة صدقيني، إنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للأب … ولكن تأتي ساعة وهي الآن حين الساجدون الحقيقيوي يسجدون للآب بالروح والحق» (يو21:4-23)
ولكي يكون السجود لله بالروح, يتحتم أن يسبقه إخضاع واماتة عن العالم للجسد. وحبة الحنطة هي هنا النفس, والأرض هي هنا العالم، والثمر هو هنا الحياة الأبدية.
والملاحظ في هذه الآية أن المسيح يضع المحبة الخاطئة في مقابل البغضة الممدوحة بالنسبة للذات. ولو رجعنا إلى المحبة الخاطئة في الإنجيل نجدها محصورة في الخمسة الاتجاهات أو المجالات التي تؤدي إلى الهلاك:
1- محبة الظلمة 2- محبة العالم 3- محبة المجد بين الناس 4- محبة الجسد 5- محبة المال
وهذه الخمسة هي المداخل المتوازية لمملكة الشر أو الشيطان. والانحياز لأي اتجاه أو مجال من هذه المجالات يظهر عدم رغبة في محبة المسيح والله.
1- والظلمة, هي الضد لـ «نور» الكلمة: «وهذه هى الدينونة إن النور قد جاء إلى العالم, وأحب الناس الظلمة أكثر من النور، لأن أعمالهم كانت شريرة.» (يو19:3)
2- والعالم هو الضد للمسيح ولله: «مملكتي ليست من هذا العالم» (يو26:18)، «محبة العالم عداوة لله.» (يع4:4)
3- ومجد الناس, هو الضد لمجد الله. «كيف تقدرون أن تؤمنوا وأنتم تقبلون مجداً بعضكم من بعض. والمجد الذي من الإله الواحد لستم تطلبونه.» (يو44:5)
4- والجسد هو ضد لله: «لأن اهتمام الجسد هو موت … هو عداوة لله.» (رو6:8-7)
5- والمال, هو ضد الإيمان بالله: «لأن محبة المال أصل لكل الشرور، الذي إذ ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان.» (1تى10:6)
فإن كان موت المسيح حتمياً، للحصول لنا عل القيامة والحياة الأبدية، فلا مفر من أن يكون الموت الإرادي حتمياً لنا (شركة الموت مع المسيح)، لنحمل ونشترك في القيامة والحياة الأبدية.
26:12 إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي فَلْيَتْبَعْنِي وَحَيْثُ أَكُونُ أَنَا هُنَاكَ أَيْضاً يَكُونُ خَادِمِي. وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي يُكْرِمُهُ الآبُ.
لو أننا وضحنا هذا المثل، سهل علينا التفسير، والمثل الأمثل هنا هو التلاميذ الذين ساروا على درب المعلم: «يكفي التلميذ أن يكون كمعلمه» (مت25:10). هؤلاء خدموا المسيح، حيثما سار بهم المسيح في مشارق الأرض ومغاربها، وهؤلاء كرمهم الآب السماوي أيما تكريم:
+ «فأجاب بطرس حينئذ وقال له: ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك, فماذا يكون لنا؟ فقال لهم يسوع: الحق أقول لكم: إنكم أنتم الذين تبعتموني في التجديد، متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده تجلسون أنتم أيضاً عل اثني عشر كرسياً تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر… وكل من ترك … من أجل اسمي، يأخذ مئة ضعف، ويرث الحياة الأبدية.» (مت27:19-29)
وعن الذين أحبوا وصمموا أن يخدموا المسيح, قدم المسيح عنهم صلاة خاصة للآب: «أيها الآب، أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني، يكونون معى حيث أكون أنا، لينظروا مجدي الذي أعطيتني …» (يو24:17)
الملاحظ هنا في طلب المسيح من الآب: «يكونون معي حيث أكون أنا», أنها ليست هي نفس الطلبة التي طلبها من التلاميذ: «حيث أكون أنا هناك أيضاً يكون خادمي», لأن طلبة المسيح من الآب هي النتيجة: «الينظروا مجدي» أما طلبة المسيح من التلاميذ فهي المنهج, أي شركة الآلام والموت: «في العالم سيكون لكم ضيق» (يو33:16), «يكفي التلميذ أن يكون كمعلمه» (مت25:10). والذي يتبع المسيح, يتحتم أن يحمل صليبه حتى يستطيع أن يتبعه, ولكن الذي يتبع المسيح حاملاً الصليب، فهو حتماً سيبلغ القيامة والحياة والمجد. فخدمة المسيح، هي بحد ذاتها تبدأ بالموت وتنتهي بالمجد، أي بتكريم الآب, كالمسيح وفي المسيح. ولكن لا كرامة من الآب لإنسان ما بدون المسيح، كما أنه لا كرامة مع المسيح بدون الصليب!! من أجل هذا يقول بولس الرسول عن خبرة ويقين: «لأن لى الحياة هي المسيح، والموت هو ربح.» (فى21:1)
27:12 اَلآنَ نَفْسِي قَدِ اضْطَرَبَتْ. وَمَاذَا أَقُولُ؟ أَيُّهَا الآبُ نَجِّنِي مِنْ هَذِهِ السَّاعَةِ. وَلَكِنْ لأَجْلِ هَذَا أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ السَّاعَةِ.
الحديث عن الموت والحياة حديث، والمذاقة مرعبة. والمبادىء العامة يعبر عليها العقل بخفة، ولكن الإختبار الشخصي محنة.
وما أبهج الحديث عن الخلاص والمجد هللويا!! ولكن لا يأتي الخلاص إلا بمرارة النفس وذوق الحنظل. ويكفي يا قارئي العزيز، أن تسمع من فم المسيح, الذي أقام لعازر بكلمة, وهو يئن هكذا: «نفسي قد اضطربت»، «أيها الآب نجني». فالخلاص لم يكسبه لنا المسيح سهلاً: «لأنه لاق بذاك … أن يكمل رئيس خلاصهم بالآلام.» (عب10:2)
«نفسي» = ( ) وباللاتينية anima: نفس المسيح هي المركز الذي يجمع فيه ملء الحياة البشرية, وقاعدة المشاعر الإنسانية. أما الروح ( ) وباللاتينية spiritus. فهي، في المسيح ، قاعدة التأثرات الروحية، استقبالا وانعكاسا؛ استقبالاً بالحديث مع الله، وانعكاساً للتعبير والتأثير.
والنفس في المسيح جاءت بهذه الصور:
+ «الراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف.» (يو11:10)
+ «ابن الإنسان لم يأت ليُخدم بل ليخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين.» (مت28:20)
+ «نفسي حزينة جداً حتى الموت.» (مت38:26)
+ «لأنك لن تترك نفسى في الهاوية.» (مز10:16 و أع27:2)
أما الروح فجاءت في:
+ «ونكس راسه وأسلم الروح.» (يو30:19)
+ «يا أبتاه، في يديك أستودع روحي.» (لو46:23)
والموت في المسيح تم هكذا:
1- بانفصال النفس عن الجسد، ولكن اللاهوت بقوة القيامة التي له لم ينفصل قط، لا عن النفس التى باشرت نزولها إلى عالم الأرواح المحبوسة, ولا عن الجسد الذى بقى مسجى فى القبر ميتاً ينتظر عودة النفس.
2- وبتسليم الروح ليد الآب.
وموقع هذه الآية: «الآن نفسي قد اضطربت» بالنسبة للآيات السابقة مهم للغاية. لأن المسيح، رداً على طلب اليونانيين، طرح ثلاثة افتراضات يتحتم أن تتم أولاً، حتى يستطيع لا اليونانيون فقط بل وكل الناس أن يروه ويتعرفوا عليه ويقبلوه ويتحدوا به!
أولاً: أن يموت هو، هنا أعطى لصورة موته وقيامته المثل من الطبيعة في حبة الحنطة.
ثانيا: أن يموت الإنسان بإرادته (الإماتة) عن الذات ومتعلقاتها المادية والدنيوية.
ثالثاً: أن يكون الإنسان مستعدأ لأن يخدم المسيح بأن يتبعه أينما سار، للآلام، ثم الموت، وبالتالي القيامة والمجد.
وأخيراً جاءت هذه الآية لتنزل بهذه النظرية كلها، بفروضها الثلاثة، إلى مستوى التجربة العملية الواقعة حالاً «الآن», لكي يكشف المسيح لتلاميذه واليونانيين وكل العالم, أن الموت الذي جازه لم يكن سهلاً, ولا كأنه بدون مجاهدة، فكشف عن رعدة الموت التي بدأت تداهم نفسه البشرية, عندما قرر, وانتهى من قراره, قبول الموت، وجاءت ساعته فعلاً.
وهذا أوضحه القديس يوحنا من عنده، بصورة تكشف عن قدرة هذا القديس في فهم حركات النفس داخل المجال الإلهي بصورة مبدعة: «قال هذا مشيراً إلى اية ميتة كان مزمعاً أن يموت» (يو33:12). القديس يوحنا هنا يرى أن كلام المسيح مهو كشف عن حقيقة وعنف وطريقة الموت الذي سيواجهه. فالنفس البشرية, وهي قاعدة المشاعر ومجتمع ملء الحياة البشرية فيه, بدأت تنوء تحت ثقل قبوله الدخول في تجربة الموت. وهذه هي غصة الموت!! التي هي بعينها المعروضة علينا دائماً حيننا نقرر ونباشر عملية الإماتة عن العالم, بقمع النفس, وبغضة ميولها وشهواتها التي تبدو لها كأنها حيوية بنوع من خداع البصر.
«نفسي قد اضطربت»: «اضطربت» باليونانية ( ), وباللاتينية Turbata، والاضطراب لا يعني الخوف (وقد جاءت أيضأ في يو33:11 و21:13)، بل هو انفعال عاطفي شديد داخل النفس.
القديس يوحنا هنا يقدم نفس الوصف الذي قدمه الإنجيليون الثلاثة عن المجاهدة التى عاناها الرب في جثسيماني. ولكن لاهوت المسيح عند القديس يوحنا يستحيل أن يتداعى أمام سطوة الموت، حتى وان تداعت النفس البشرية فيه نحو الاضطراب، بل يقدم القديس يوحنا لاهوت المسيح دائماً دائماً منتصراً وساحقاً للعدو. لذلك يسجل القديس يوحنا القول المقابل لهذا الاضطراب النفسي من الموت من جهة الرب, بالرعبة والانحدار اللذين أصابا الشيطان بالمقابل: «الآن دينونة هذا العالم، الآن يٌطرح رئيس هذا العالم خارجاً.» (يو31:12)
«وماذا أقول؟»: يعتقد بعض الشراح أنه سؤال استنكاري، الرد عليه جاء بكلمة «لا» في الكلمة «ولكن». ولكن الحقيقة أن المسيح هنا لا يسأل أحداً, ولكنه ينبه السامع ليدرك معنى الانفعال الناتج عن اضطراب النفس إزاء التجربة. فهو ليس موتاً عادياً، بل أعنف موت ماته إنسان في الوجود. فهو ليس حكم موت واقع عليه، بل صراع مع الموت ذاته ومع من له سلطان الموت (عب14:2)، والذي سينتهي بموت الموت ذاته، واستعلان الغلبة على الموت بالقيامة التي ستضاف إلى حقوق الإنسان. نعم، سيموت المسيح بكل معنى الموت، ولكن في المقابل سيندحر الشيطان, وتنكسر شوكة أو سيف الخطية في يده. علماً بأن ما جاء بعد سؤال: «وماذا أقول», لم يكن بالسلب بل بالايجاب، فهو يطلب، والطلب اسُتجيب بالفعل.
«أيها الآب نجني من هذه الساعة»: والجواب جاء من الآب بعد ذلك: «مجدتُ وأُمجد أيضاً». هذه صلاة وتوسل لدى الآب، ليس لإلغاء هذه الساعة من حياة المسيح، لأنه من أجلها جاء, ولكنه يطلب النجاة من التجربة الآتية عليه فيها, بمعنى أن يخرجه منها سالماً ومنتصراً.
والتعبير اليوناني أكثر توضيحاً؛ فهو يطلب الخروج خارج هذه السامة سالماً وهنا ( ) تفيد خارجاً، وباللاتينية تجيء بأكثر وضوح أيضاً، فتعنى الخلاص خارج، أو الخروج من، وليس الخلاص من.
والقديس يوحنا يهتم بأقصة اهتمام أن لا يجرح اللاهوت من أي جانب. فالموضع الذي جاء في الأناجيل الأخرى عن هذه الصلاة بصورة مسترسلة مثل: «أيا أبا الآب، كل شيء مستطاع لك. فأجز عني هذه الكأس» (مر36:14)، يدقق فيها القديس يوحنا ليشرحها على مستوى «النجاة منها», أي الخروج من التجربة بصورة تمجد الآب: «أيها الآب مجد اسمك»، وليس إلغا،ها بأي حال من الأحوال. ثم يؤكد المسيح طاعتة للآب بقبوله التجربة: «لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة». فليست السامة بحد ذاتها التي يطلب المسيح الخلاص منها بل التجربة، وهي تجربة الصراع الرهيب مع الموت «لأجل هذا». فهو جاء «لأجل هذا الصراع» وهو يطلب أن يخرج من هذا الصراع سالماً بصورة تمجد اسم الآب.
هذا واضح في قول سفر العبرانيين: «الذي في أيام جسده، إذ قدم بصراخ شديد ودموع، طلبات وتضرعات (في جثسيماني) للقادر أن يخلصه من الموت, وسمع له من أجل تقواه.» (عب7:5)
إذا، فالمسيح كان محقاً في توسله: «نجني من هذه الساعة» أي نجني من تجربة الصراع مع الموت, بأن أخرج منها منتصراً. التي جاءت هنا في سفر العبرانيين «أن يخلصه من الموت» والنتيجة جاءت كما توقع المسيح وكما كلب, «وسُمع له»!!
28:12- 30 «أَيُّهَا الآبُ مَجِّدِ اسْمَكَ». فَجَاءَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ: «مَجَّدْتُ وَأُمَجِّدُ أَيْضاً». فَالْجَمْعُ الَّذِي كَانَ وَاقِفاً وَسَمِعَ قَالَ: «قَدْ حَدَثَ رَعْدٌ». وَآخَرُونَ قَالُوا: «قَدْ كَلَّمَهُ ملاَكٌ». أَجَابَ يَسُوعُ: «لَيْسَ مِنْ أَجْلِي صَارَ هَذَا الصَّوْتُ بَلْ مِنْ أَجْلِكُمْ.
«أيها الآب مجد اسمك»: وها ينبغي أن ننتبه لئلا يفوت منا المعنى، فاسم الآب «أنا هو»، قد أُعطي للمسيح أن يعمل به، ويستعلن نفسه فيه، ويبرهن به أنه والآب واحد، كيان واحد؛ و«أنا هو» يعني «أنا الكائن بذاتي»، قد صار كاسم المسيح.
فالمسيح هنا يطلب من الآب أن يمجد اسمه الذي منحه للمسيح, بأن يمجد الآب نفسه في المسيح, وبالمسيح. وذلك بأن يمجد المسيح من خلال تجربة الموت, فيقوم منتصراً على الموت, وبهذا يتمجد اسم الآب في المسيح. وحينئذ يدرك الناس من قيامة المسيح من الموت أن الاسم الإلهي «أنا هو», قد صار اسم المسيح لمجد الآب حقاً، وأن «المسيح هو رب لمجد الله الآب» (في11:2)، وهذا ما سبق أن نبه عليه المسيح لندركه في حينه.
«فقال لهم يسوع: متى رفعتم ابن الإنسان (الصليب وبعده القيامة)، فحينئذ تفهمون أني أنا هو» (يو28:8). «لأنكم إن لم تؤمنوا أني أنا هو تموتون في خطاياكم» (يو24:8)، أي «اني أنا حامل لاسم الآب».
أي أن القيامة من الموت ستكون بمثابة إعلان مجد الله في المسيح, على أساس غلبة المسيح على الموت والخطية، وبالتال تكميل التكفير عن الخطايا وغفرانها لحساب الإنسان، الأمر الذي من أجله جاء إلى العالم وجاء إلى هذه الساعة.
واضح إذاً كل الوضوح، أن المسيح يطلب االخروج من الموت وليس إلغاءه, والخروج بصورة تمجد «اسم الآب» الذي عليه. وهذا هو الرد على السؤال الذي سبق أن سأله: «والآن ماذا أقول (أطلب)» نعم هذا هو الذي يطلبه.
وفي هذا نرى أن المسيح لم يفصل بين آلامه التي عبر عنها بأن نفسه قد اضطربت, وبين هدفه الذي هو الصراع مع الموت: «من أجل هذا أتيت إلى هذه الساعة». أي أن المسيح أوضح أن آلامة جاءت جزءاً من عمله: «من أجل هذا أتيت». كما لم يفصل المسيح في رؤيته وإحساسه وانفعاله بين الموت والمجد, أي القيامة, لذلك كانت «الساعة» تحمل له إحساس الألم والموت والقيامة بصورة مترابطة، حرص المسيح أن تكون هكذا عند الآب: «الكأس التي أعطاني الآب ألا أشربها؟» (يو11:8). ورد الآب على سؤال: «مجد اسمك»، جاء كموافقة كاملة من الآب لقبول الابن الكأس التي أعطاه الآب ليشربها، مع وعد باستمرار تمجيد عمل المسيح حتى النهاية: «مجدت وأمجد أيضاً».
«فجاء صوت من السماء: مجدت وأمجد أيضاً»: يلاحظ قارىء إنجيل يوحنا أن حادثة «التجلي» لم يذكرها هذا الإنجيل كحادثة قائمة بذاتها. ولكنه هنا يكشف بهذا الصوت العلني الآتي من السماء، والذي سمعه كل التلاميذ والجمع واليونانيون، عن تصميم الآب على استمرار رفح اسمه, في المسيح, إلى مستوى المجد؛ سواء في الماضي الذي يشمل كل حياة المسيح منذ أن أعلن عن ميلاده بيد ملاك، ثم بواسطة جمهور من جند الملائكة, ثم بالملائكة التي جاءت لتخدمه في تجربة صومه الأربعين يوماً وغلبته على الشيطان، وبعد ذلك بالآيات المستمرة واخرها إقامة لعازرعن الموت، والتي سجلها المسيح على أنها «لأجل مجد الله، ليتمجد ابن الله به» (يو4:11)، على أن المجد متبادل.
ثم يضيف الآب أنه «يمجد أيضاً» في زمن المستقبل بمعنى الاستمرار. والمعنى يشمل «الساعة» بكل مشتملاتها حتى النهاية, وما بعد الساعة من قيامة. ففي حادثة التجلي ناداه الآب من السماء: «هذا هو ابني الحبيب له اسمعوا» (مر7:9)، وتكلم معه موسى وإيليا عن الخروج المزمع أن يكمله في أورشليم (لو31:9)؛ وهنا، وقد أصبح بالفعل ميعاد خروجه على الأبواب، فهوذا صوت الآب من السماء يؤكد استمرار تمجيده لاسمه في المسيح على طول المدى، وعلى مستوى العالم أجمع.
لم يكن هذا الصوت لتقوية المسيح, أو استجابة شخصية له، لأن المسيح سبق وأعلن بصوت مسموع وفي خطابه للآب: «وأنا علمت أنك في كل حين تسمع لى» (يو42:11). بل إن هذا الصوت العلني، والشديد كالرعد، قد كان ليسمعه جميع الواقفين, وليس المسيح, ومفاده هو إعلان الآب لقبوله طاعة الابن وخضوعه, وموافقته على دخول التجربة مع وعد علني بالمجد! وهذا يدخل حتماً في «الشهادة التي قد شهد بها الله عن ابنه» (ايو10:5). تماما كما جاء صوت الآب من السماء في التجلي ليسمعه التلاميذ، وليس المسيح: «هذا هو ابني الحبيب. له اسمعوا» (لو35:9). لأن الموت الذي سيكمله المسيح هو لأجلهم, ولأجل العالم كله.
لهذا أسرع المسيح لكي يصحح ما فهمه الجمع خطأ، أن ملاكاً قد كلمه، وقال لهم: «ليس من أجلي صار هذا الصوت بل من أجلكم»، فهو شهادة علنية مسموعة من الآب للمسيح، وموافقة علنية أمام الجميع بقبول طاعة الابن للدخول في مواجهة العدو من داخل الموت. وبذلك يعتبر موت المسيح تكليفاً من الآب السماوي، ووعداً علنياً أيضاً بالمجد المتبادل، الآب بالابن والابن بالآب، بالقيامة العتيدة أن يكملها المسيح بسلطانه وتدبير الآب.
ولكن المسيح، بسماعه صوت الآب من السماء بالموافقة النهائية وقرار المجد من داخل الموت، تهلل وأدرك في الحال انهزام الشيطان وسقوط مملكته من السماء.
31:12 «اَلآنَ دَيْنُونَةُ هَذَا الْعَالَمِ. اَلآنَ يُطْرَحُ رَئِيسُ هَذَا الْعَالَمِ خَارِجاً»
يلاحظ أن المسيح لم يقل «الدينونة» بصورتها النهائية، بل «دينونة» بدون تعريف، كدينونة أولى بالنسبة لدينونات قادمة, كل في ميعادها. ولكن هنا دينونة حاسمة أيضاً وذات مفعول خطير، لأن آلام المسيح التي بدأ يدخلها، يقع وزرها على نظام العالم القضائي من جهة العدالة المذبوحة, والتي يمسك زمامها الشيطان، ويحركها ضد الأتقياء والضعفاء، لذلك تعتبر هذه الدينونة الأولى للعالم جزاء جرم القضاة والرؤساء، وتحريماً لروحهم التي يمتلكها الحقد والكراهية لكل ما هو حق وعدل. وهذه هي الدينونة التي ألمح إليها الروح القدس على فم سمعان الشيخ, الرجل البار الذي تكلم بروح النبوة للقديسة مريم، والمسيح كان ما زال رضيعاً في حضنها: «وباركهما سمعان، وقال لمريم أمه: ها إن هذا قد وُضع لسقوط وقيام كثيرين في إسرائيل, ولعلاهة تقاوم» (لو34:2), حيث بدأ هنا السقوط الفعلي لرأس الحية المدبرة لهلاك الإنسان منذ البدء.
«هذا العالم»: لم يفرق المسيح بين عالم اليهود أو اليونانيين، فهو عالم الشر المستحوز على الرؤوس والرؤساء بلا تفريق، فشر اليونانيين، وان كان قد بلغ حد السف والمجون، فهو لا يزيد بأي حال عن شر اليهود الذين قاوموا الله والروح القدس وذبحوا ابن صاحب الكرم، لتؤول الكرامة لهم من دون الله.
«الآن دينونة … الآن يُطرح»: تكرار كلمة «الآن» يوضح الحد الحاسم بين المد والجزر، مد العالم الكاذب اللاهي عن الله والحق، ومد الشيطان في استغلال النفوس الخاضعة له، وجذر القوة الإلهية الرادعة للاثنين.
وهنا يقف الزمن عند كلمة الآن, وهي التي عرفها المسيح هكذا: «قد أتت الساعة», وهي الفاصلة بين مرحلة الظلمة القاتمة التي ختمت على العالم بتضامن الشيطان، وبين مرحلة انبساق النور العتيد أن يسطع على العالم وشيكاً، بقيامة المسيح.
«الآن يُطرح رئيس هذا العالم خارجاً»: «رئيس هذا العالم» هو الآن في مواجهة علنية أمام «رئيس الحياة» صاحب الموت رفع قرنه على حامل جوهر الحياة!
«أنتم أنكرتم القدوس البار, وطلبتم أن يوهب لكم رجل قاتل, ورئيس الحياة قتلتموه, الذي أقامه الله من الأموات ونحن شهود لذلك.» (أع14:3-15)
وهكذا لم يقو سلطان الموت في يد الشيطان على سلطان الحياة في جسد المسيح.
«فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضأ كذلك فيهما، لكى يبيد, بالموت, ذاك الذي له سلطان الموت, أي إبليس.» (عب14:2)
«يُطرح خارجاً»: وقد جاءت في اليونانية بصيغة المستقبل «سيطرح». الطرح هو السقوط أو الإسقاط إلى أسفل بعنف نتيجة لطمة قاضية، أخرجت الشيطان من دائرة نفوذه وخارج حلقة مصارعيه، والتي كسب فيها سابقاً كل الجولات ضد الإنسان، ولكن هنا: «رئيس هذا العالم يأتي وليس له في شيء» (يو30:14)، وهكذا خسر كل جولاته مع المسيح.
ومعروف من الكتاب أن «العالم كله قد وُضع في الشرير» (ايو19:5), فكانت دائرة نفوذ الشيطان تشمل العالم كله، ولكن بصورة مستورة. كلما طرح رئيس هذا العالم في معركة ضد المسيح ، تعرى القائمون بتنفيذ مشوراته, ووقعوا تحت نور المسيح الكاشف، ودينت كل أعمالهم. وها الآن قد عُرف لدى كل المسكونة، بكل شعوبها وأجيالها، فضيحة رؤساء إسرائيل وقضاته، في مدى تزييفهم للحق والعدل والإيمان في معاملة المسيح ، كما تعرى قضاة روما أمام ضمير العالم فيما صنعه بيلاطس بالمسيح ضد المنطق والعدل والقانون. وهكذا لم يعد الشيطان ولا أعوانه مخفيين: «لأننا لا نجهل أفكاره.» (2كو11:2)
وهكذا, ومنذ صلب المسيح وقيامته, قد نُصبت على الأرض محكمة الله العليا من داخل ضمير الإنسان المستنير بنور المسيح, أي كل المؤمنين, لمحاكمة كل أعمال الشيطان وأعوانه، «كتبت إليكم أيها الأحداث لأنكم أقوياء، وكلمة الله ثابتة فيكم، وقد غلبتم الشرير» (ايو14:2)، «لأن كل من وٌلد من الله يغلب العالم, وهذه هي الغلبة التي تغلب العالم, إيماننا.» (1يو5:4)
«الآن صار خلاص إلهنا وقدرته وملكه وسلطان مسيحه. لأنه قد طرح المشتكي على إخوتنا، الذي كان يشتكي عليهم أمام إلهنا نهاراً وليلاً. وهم غلبوه بدم الخروف، وبكلمة شهادتهم، ولم يحبوا حياتهم حتى الموت.» (رؤ10:12-11)
وهكذا فقد العالم وجوده وإغراءه بالنسية للمؤمنين بالمسيح, وفقد الشيطان سلطانه على أولاد الله, كما فقد الموت فاعليته على حياة الذين وُلدوا جديداً من الله؛ وهذا هو المفهوم الواقعي والجوهري لمعنى دينونة العالم وطرح رئيسه خارجاُ, تمهيداً لانحلال هيئة هذا العالم انحلالاً نهائياً من دائرة حياة المؤمنين, بالانتقال إلى ملكوت الله وتلاشي الشيطان تلاشياً كليا من الوجود, بالنسبة لحياة المؤمنين، وذلك بدخولهم تحت سلطان المسيح والله، بل وتلاشي الموت من كيان المفديين, بدخولهم نهائياً في دائرة الحياة الأبدية مع الله.
32:12- 33 «وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ». قَالَ هَذَا مُشِيراً إِلَى أَيَّةِ مِيتَةٍ كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يَمُوتَ
.
هذه هي غاية المسيح التي من أجلها قبل أن يدخل إلى «ساعة» الصراع مع «هذا العالم» ومع رئيس هذا العالم، الذي طرحه أرضاً ليرتفع هو عن الأرض إلى أعلى لأنه ماذا بعد أن يكون قد دان «عالم الشر» وفضح مداخل الظلمة والشر فيه, وحكم عليه، وأعلن الحق عالياً فوق الكذب والخداع، إلا افتتاح عالم النور ونقل مركز الجذب من الأرض إلى السماء؟ ثم ماذا بعد أن يكون قد طرح رئيس هذا العالم من دائرة نفوذه وسلطانه المتعال فوق أفق الإنسان، وبعد أن حطه إلى أسفل تحت موطىء قدميه, إلا أن يرفع الإنسان فوق هامة الشيطان ليتسامى بروحه إلى حيث المسيح؟
لأن السيح، بموته´مرتفعاً على الصليب, رفع الإنسان معه من داخل الموت إلى القيامة والحياة، فتحرر الإنسان من جذب الارض المستمر والمستبد المؤدي إلى الموت الأبدي. ولأن المسيح، بموته، قد ظفر بالشيطان على الصليب وفضحه وأشهره جهاراً، صار الصليب هو مركز الجذب الأقوى والأعلى للانسان. وهذا هو المعنى المباشر الذي يتضمنه موت المسيح «مرتفعاً» على الصليب, مرتفعاً عن الأرض، ومرتفعاً فوق هامة الشيطان.
وقد سبق أن ركز إنجيل يوحنا على معنى ارتفاح المسيح بالموت على الصليب بقوله: «وكما رفع موسى الحية في البرية, هكذا ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية» (يو14:3). حيث رفع ابن الإنسان» هنا يتضمن القيامة بالموت أو الحياة من داخل الموت. فالحية النحاسية المرفوعة بواسطة موسى، كان مجرد النظر إليها يحيي من الموت أولئك الذين عضتهم الحية وسكبت سمها في أجسادهم.
والتطبيق هو أن المسيح ألغى على الصليب فعل الحية، أي الشيطان، وأبطل الموت المتحصل منها؛ إذ عوض سم الحية المميتة، أعطانا دمه ترياق الحياة الأبدية. فكل من نظر، نظرة الإيمان, إلى المسيح مرفوعاً على الصليب، تبطل فيه قوة الخطية التي هي سم الموت أو مشوكته القاتلة: «لأنه هكذا أحب الله العالم، حتى بذل ابنه الوحيد (على الصليب)، لكي لا يهلك كل من يؤمن به, بل تكون له الحياة الأبدية.» (يو16:3)
كذلك يعود إنجيل يوحنا في موضع آخر ليركز أيضاً على ارتفاع المسيح, على الصليب، كونه يتضمن أيضاً استعلان حقيقة المسيح: «متى رفعتم ابن الإنسان، فحيئذ تفهمون أني أنا هو» (يو28:8)، لأنه بصلب المسيح اُستعلنت قيامته «وتعين ابن الله، بقوة، من جهة روح القداسة، بالقيامة من الأموات.» (رو4:1)
وهكذا يصر إنجيل يوحنا دائمأ على أن لا يفصل الموت عن القيامة عن المجد, ويجعل مفهوم «الارتفاع» على الصليب هو«ارتفاع» القيامة أيضاً، بل «ارتفاع» الصعود!
لذلك فقول المسيح هنا: ووأنا إن ارتفعت … أجذب إلى الجميع»، يشير إلى الموت على الصليب وما يتبعه بالضرورة من قيامة وصعود ومجد، والذي يتضمن جذب المؤمنين واتحادهم بجسده.
«ارتفعت» عن الأرض» ( ) وتفيد ليس الارتفاع فوق الأرض بالمعنى الموضعي فقط، بل وبالمعنى الروحي، فهو ارتفاع عن مستوى الفكر الأرضي والجذب الأرضي، الذي يتضمن, ليس معنى الصلب فقط بل والقيامة بمفهومها الروحي العالي.
«أجذب إلي»: المعنى هنا يتضمن شيئاً من العنف بسبب الجذب المضاد من الأرض ومن العدو، وهذا المعنى يوضحه الروح القدس في إلعهد القديم : «كنت أجذبهم بحبال البشر، بربط المحبة, وكنت لهم كمن يرفع النير عن أعناقهم, ومددت إليه مطعماً إياه.» (هوشع4:11)
وعملية الجذب هي عملية روحية بحتة، تدخل في وظيفة الروح القدس مباشرة.
«الجميع»: وتأتي بدون تخصيص، فهو «الكل»، حتى ما في السموات والأرض: «وأن يصالح به الكل لنفسه عاملاً الصلح بدم صليبه بواسطته سواء كان ما على الأرض أم ما في السموات.» (كو20:1)
ولكن ليس الكل كمجموع كلي، ولكن «الكل» بالمعنى الفردي واحداً واحداً: «ولكن الذي وُضع قليلاً عن الملائكة، يسوع، نراه مكللاً بالمجد والكرامة، من أجل ألم الموت، لكي يذوق بنعمة الله الموت لأجل كل واحد.» (عب9:2)
وعملية الجذب لا تقتصر على التقريب إلى المسيح، بل وتمتد إلى داخل المسيح، كعملية تجميع في شخص المسيح، في جسده السري الذي يملأ السماء والأرض: «لتدبير ملء الأزمنة ليجمع كل شيء في المسيح, ما في السموات وما على الأرض، في ذاك.» (أف10:1)
32:12- 33 «وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ». قَالَ هَذَا مُشِيراً إِلَى أَيَّةِ مِيتَةٍ كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يَمُوتَ
.
هذه هي غاية المسيح التي من أجلها قبل أن يدخل إلى «ساعة» الصراع مع «هذا العالم» ومع رئيس هذا العالم، الذي طرحه أرضاً ليرتفع هو عن الأرض إلى أعلى لأنه ماذا بعد أن يكون قد دان «عالم الشر» وفضح مداخل الظلمة والشر فيه, وحكم عليه، وأعلن الحق عالياً فوق الكذب والخداع، إلا افتتاح عالم النور ونقل مركز الجذب من الأرض إلى السماء؟ ثم ماذا بعد أن يكون قد طرح رئيس هذا العالم من دائرة نفوذه وسلطانه المتعال فوق أفق الإنسان، وبعد أن حطه إلى أسفل تحت موطىء قدميه, إلا أن يرفع الإنسان فوق هامة الشيطان ليتسامى بروحه إلى حيث المسيح؟
لأن السيح، بموته´مرتفعاً على الصليب, رفع الإنسان معه من داخل الموت إلى القيامة والحياة، فتحرر الإنسان من جذب الارض المستمر والمستبد المؤدي إلى الموت الأبدي. ولأن المسيح، بموته، قد ظفر بالشيطان على الصليب وفضحه وأشهره جهاراً، صار الصليب هو مركز الجذب الأقوى والأعلى للانسان. وهذا هو المعنى المباشر الذي يتضمنه موت المسيح «مرتفعاً» على الصليب, مرتفعاً عن الأرض، ومرتفعاً فوق هامة الشيطان.
وقد سبق أن ركز إنجيل يوحنا على معنى ارتفاح المسيح بالموت على الصليب بقوله: «وكما رفع موسى الحية في البرية, هكذا ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية» (يو14:3). حيث رفع ابن الإنسان» هنا يتضمن القيامة بالموت أو الحياة من داخل الموت. فالحية النحاسية المرفوعة بواسطة موسى، كان مجرد النظر إليها يحيي من الموت أولئك الذين عضتهم الحية وسكبت سمها في أجسادهم.
والتطبيق هو أن المسيح ألغى على الصليب فعل الحية، أي الشيطان، وأبطل الموت المتحصل منها؛ إذ عوض سم الحية المميتة، أعطانا دمه ترياق الحياة الأبدية. فكل من نظر، نظرة الإيمان, إلى المسيح مرفوعاً على الصليب، تبطل فيه قوة الخطية التي هي سم الموت أو مشوكته القاتلة: «لأنه هكذا أحب الله العالم، حتى بذل ابنه الوحيد (على الصليب)، لكي لا يهلك كل من يؤمن به, بل تكون له الحياة الأبدية.» (يو16:3)
كذلك يعود إنجيل يوحنا في موضع آخر ليركز أيضاً على ارتفاع المسيح, على الصليب، كونه يتضمن أيضاً استعلان حقيقة المسيح: «متى رفعتم ابن الإنسان، فحيئذ تفهمون أني أنا هو» (يو28:8)، لأنه بصلب المسيح اُستعلنت قيامته «وتعين ابن الله، بقوة، من جهة روح القداسة، بالقيامة من الأموات.» (رو4:1)
وهكذا يصر إنجيل يوحنا دائمأ على أن لا يفصل الموت عن القيامة عن المجد, ويجعل مفهوم «الارتفاع» على الصليب هو«ارتفاع» القيامة أيضاً، بل «ارتفاع» الصعود!
لذلك فقول المسيح هنا: ووأنا إن ارتفعت … أجذب إلى الجميع»، يشير إلى الموت على الصليب وما يتبعه بالضرورة من قيامة وصعود ومجد، والذي يتضمن جذب المؤمنين واتحادهم بجسده.
«ارتفعت» عن الأرض» ( ) وتفيد ليس الارتفاع فوق الأرض بالمعنى الموضعي فقط، بل وبالمعنى الروحي، فهو ارتفاع عن مستوى الفكر الأرضي والجذب الأرضي، الذي يتضمن, ليس معنى الصلب فقط بل والقيامة بمفهومها الروحي العالي.
«أجذب إلي»: المعنى هنا يتضمن شيئاً من العنف بسبب الجذب المضاد من الأرض ومن العدو، وهذا المعنى يوضحه الروح القدس في إلعهد القديم : «كنت أجذبهم بحبال البشر، بربط المحبة, وكنت لهم كمن يرفع النير عن أعناقهم, ومددت إليه مطعماً إياه.» (هوشع4:11)
وعملية الجذب هي عملية روحية بحتة، تدخل في وظيفة الروح القدس مباشرة.
«الجميع»: وتأتي بدون تخصيص، فهو «الكل»، حتى ما في السموات والأرض: «وأن يصالح به الكل لنفسه عاملاً الصلح بدم صليبه بواسطته سواء كان ما على الأرض أم ما في السموات.» (كو20:1)
ولكن ليس الكل كمجموع كلي، ولكن «الكل» بالمعنى الفردي واحداً واحداً: «ولكن الذي وُضع قليلاً عن الملائكة، يسوع، نراه مكللاً بالمجد والكرامة، من أجل ألم الموت، لكي يذوق بنعمة الله الموت لأجل كل واحد.» (عب9:2)
وعملية الجذب لا تقتصر على التقريب إلى المسيح، بل وتمتد إلى داخل المسيح، كعملية تجميع في شخص المسيح، في جسده السري الذي يملأ السماء والأرض: «لتدبير ملء الأزمنة ليجمع كل شيء في المسيح, ما في السموات وما على الأرض، في ذاك.» (أف10:1)
34:12 فَأَجَابَهُ الْجَمْعُ: «نَحْنُ سَمِعْنَا مِنَ النَّامُوسِ أَنَّ الْمَسِيحَ يَبْقَى إِلَى الأَبَدِ فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَرْتَفِعَ ابْنُ الإِنْسَانِ؟ مَنْ هُوَ هَذَا ابْنُ الإِنْسَانِ؟».
الصعوبة التي واجهت الجمع في فهم معنى «ارتفاع ابن الإنساذ»، مزدوجة. فمعروف من نبوة دانيال وبقية النبوات أن ابن الإنسان قربوه إلى عتيق الأيام: «فأُعطى سلطاناً ومجداً وملكوتاً لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول وملكوته ما لا ينقرض» (دا13:7-14). هذا لو كان ابن الإنسان بصفته العامة التي لا يفهمونها أصلاً، لأن المسيا هو ابن داود، وليس ابن الإنسان. وابن داود سيأخذ مملكة أبيه ليحكم إلى الأبد: «أقسم الرب ولن يندم، أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق» (مز4:110)، «قطعت عهداً مع مختاري. حلفت لداود عبدي، إلى الدهر أثبت نسلك، وأبني إلى دور فدور كرسيك. سلاه» (مز3:89-4)، «لنمو رياسته وللسلام لا نهاية، على كرسي داود وعلى مملكته، ليثبتها ويعضدها بالحق والبر من الآن إلى الأبد» (إش7:9)، «ويسكنون فيها هم وبنوهم وبنو بنيهم إلى الأبد، وعبدي داود رئيس عليهم إلى الأبد.» (حز25:37)
وهذه النبوات الخاصة بالمسيا كابن داود كانت محفوظة في قلوب اليهود، حفظاً يتجدد كل صباح وكل مساء, بانتظار تحقيق الوعد. لذلك كانت كلمات الرب يسوع توزن في أذهانهم عليها كلمة كلمة، بل وحرفاً حرفاً، بطريقة يستحيل معها مصالحة الحرف الناموسي مع الروح الذي يتكلم به المسيح؛ حيث الكهنوت كهنوت سماوي، وحيث المملكة هي الملكوت السماوي، وحيث كرسي داود هو العرش السماوي والرئاسة هي من واقع أنه «رئيس الحياة وملك الدهور»» غير الزمنية.
ولكنهم فهموا، على كل حال، أن الارتفاع يعني الموت والانقطاع عن الوجود في الأرض، ولكن كان معنى الصليب غير مفهوم، وكان على كل حال مثبطاً لعزائمهم، إذ كانوا ينتظرون المسيا بوضعه السياسي، مما أوقف حماسهم في الترحاب بالمسيح والإنحياز له.
35:12- 36 فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «النُّورُ مَعَكُمْ زَمَاناً قَلِيلاً بَعْدُ فَسِيرُوا مَا دَامَ لَكُمُ النُّورُ لِئَلَّا يُدْرِكَكُمُ الظّلاَمُ. والَّذِي يَسِيرُ فِي الظّلاَمِ لاَ يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ يَذْهَبُ. مَا دَامَ لَكُمُ النُّورُ آمِنُوا بِالنُّورِ لِتَصِيرُوا أَبْنَاءَ النُّورِ». تَكَلَّمَ يَسُوعُ بِهَذَا ثُمَّ مَضَى وَاخْتَفَى عَنْهُمْ.
هذه هي آخر نصيحة يقدمها المسيح لليهود، على وجه الإطلاق، وهي نصيحته أيضاً لكل متشكك أومرتبك من جهة من هو المسيح. وتتلخص في أن انتهز الفرصة القليلة التي أمامك, وبالقدر الضئيل الذي يملأ فكرك وقلبك، عن صحة وصلاحية المسيح في أن يقودك ولو خطوة واحدة إلى الأمام, تقدم, تقدم ولا تقف أو تتقهقر، فالخطوة الواحدة الإيجابية كفيلة أن تدفعك إلى الأمام وباستمرار، لأن المسيح واثق من أنه هو نور العالم، وهو قادر أن يقود ويجذب ويدفع ويكشف أمام الإنسان حقيقة الحياة.
فما دام هاتف الخير مسموعاً، اتبع، ومادام بصيص النور يسيراً, سر, لأنك إن استسلمت للخير تصير ابنا للخير, وان سلمت للنور قلبك ورجليك، صرت ابنا للنور وقائداً لغيرك. وكل صوت يأتيك من الخلف ليشككك في النور، فهو صوت الظالم وأبي الظلمة، وهو حتماً للضلال والتضليل.
وكعادة المسيح دائماً، فهو لم يجب على سؤالهم، بل قطع طريق الشك عليهم بإلقاء شعاع من النور على فكرهم حتى لا يعثروا فيه، لو آمنوا. أما آمالهم في مسيا يبقى معهم إلى الأبد، فاختزلها المسيح إلى «زمان قليل بعد». وحينما قال لهم: «سيروا في النور ما دام لكم النور»، فهو يذكرهم بعمود النور الذي قاد آباءهم في سيناء وأضاء لهم ظلمة القفر, لو يتذكرون!…
«ثم مضى واختفى عنهم»: الكلام هنا، بحسب أسلوب القديس يوحنا الخفي، يعمل معى اختفاء النور، ويوحي بغشيان الظلمة لعقولهم التي لم تع النور، ولا هي سارت عل هداه. هذا هو الحبك القصصي للقديس يوحنا، لأن هنا يختم هذا القديس على كل تعاليم المسيح. فكما كانت آية إقامة لعازر من الموت آخر آياته لاستعلان حقيقة شخصه كونه «القيامة والحياة», وهي منتهى قصد الإنسان, فهنا كذلك يعطي القديس يوحنا آخر كلمة للمسيح من جهة استعلان شخصه «كنور الحياة» وهو منتهى رجاء الإنسان واخر تعاليم المسيح. وقد تحقق قول المسيح هذا عملياً، فعندما صلبوه اظلقت الدنيا، وصارت ظلمة على الأرض كلها، تعبيرا عن اختفاء النور عندما أنكروه. وهم لم يدروا أنهم قتلوا رجاءهم لما قتلوه، فلا حصلوا على مسيا يبقى لهم إلى الأبد، ولا انتفعوا بالزمان القليل بعد!
ختام لإنجيل الأستعلان (37:12-43)
37:12- 41 وَمَعَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ صَنَعَ أَمَامَهُمْ آيَاتٍ هَذَا عَدَدُهَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ. لِيَتِمَّ قَوْلُ إِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ: «يَا رَبُّ مَنْ صَدَّقَ خَبَرَنَا وَلِمَنِ اسْتُعْلِنَتْ ذِرَاعُ الرَّبِّ؟». لِهَذَا لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُؤْمِنُوا. لأَنَّ إِشَعْيَاءَ قَالَ أَيْضاً: «قَدْ أَعْمَى عُيُونَهُمْ وَأَغْلَظَ قُلُوبَهُمْ لِئَلَّا يُبْصِرُوا بِعُيُونِهِمْ وَيَشْعُرُوا بِقُلُوبِهِمْ وَيَرْجِعُوا فَأَشْفِيَهُمْ». قَالَ إِشَعْيَاءُ هَذَا حِينَ رَأَى مَجْدَهُ وَتَكَلَّمَ عَنْهُ.
إن عدم إيمان اليهود لا بد أن يسترعي كل من يطلع على الإنجيل، سواء من جهة الآيات أو الأعمال والتعاليم. والقديس يوحنا يضع نفسه الآن، وفي ختام سرده للآيات والتعاليم، كمن ينظر إلى رسالة الخلاص التي أكملها المسيح ككل، فهو يندهش من عدم إيمان اليهود، بل والمسيح نفسه اندهش من عدم إيمانهم, بل وحتى إشعياء النبي لم يصدق ما يقول. والحقيقة كذلك، فإنه لا يوجد شعب في العالم قاوم رسالة الخلاص، كما قاومها اليهود في شخص المسيح نفسه، مع أنهم خاصته!!
ويعود القديس يوحنا إلى العهد القديم، عهد النبوات والأضواء التي أرسلها الله من بعيد سابقاً ليظهر بها ويمهد لما سيكون؛ حتى إذا كان، سهل الإيمان.
ونبوات إشعياء فيها ما يكفي، سواء بالنسبة للمسيح من هو، وما هو عمله, أو بالنسبة لليهود، عن ما هو رد الفعل عندهم.
والنبوة في الواقع تصور ما سيكون، ولكن لا تتحكم في مجريات الأمور، ولا تعفي المجرم من إجرامه، أو الخاطىء من خطيته، فسبق العلم عند الله لا يؤثر في حرية وارادة من سيعمل، ولا تقلل من العقوبة المحتمة عليه. ولكن القصد الإلهي في الإعلان السابق عما سيكون، فوق أنه يمهد به الطريق والأذهان لقلوب المؤمنين، فهو يوضح مدى الإحاطة التي يشملها تدبيراته، ومدى العناية الإلهية التي تسبق وتعد المتكلم والسامع معاً، الآية، وصانعها, ورائيها معاً؟ قلب المؤمن وقلب الرافض معاً. لأن الله يشمل بكيانه كل كيان، فهو يحيط بالبداية والنهاية لكل ما كان وما سيكون، وهو سابق للزمن، وكائن بعد أن ينتهي الزمن. فالكل واقع في بؤرة رؤيته، ومشيئته تهيمن بالنهاية على كل مشيئات خلائقه.
وهنا نأتي إلى لاهوت القديس يوحنا, فهو حينما يلجأ إلى نبوة إشعياء فإنما يود أن يقول أنه بقدر ما كان يعمل المسيح بحسب تدبير الآب قولاً وعملاً، بقدر ما كان اليهود المعاندون يزدادون عدم إيمان. ولكن حتى عنادهم ورفضهم هذا كان واقعاً تحت سبق المعرفة، ولم يخرج عن التدبير. فكل ما قالو وعملو، سبق أن كشفه إشعياء, ليدرك به القديس يوحنا، وندرك نحن معه، أن العناية الإلهية تحيط بقصة الإنجيل. ولكن عدم إيمان اليهود لم يوقف تدبير الله للخلاص، بل دخل فيه كعنصر مكمل؛ فعدم إيمانهم وعنف رفضهم لم يزد عن أن يكون عثرة لهم وحدهم. فالصليب صار عثرة لليهود، ولكن اليهود لم يستطيعوا أن يكونوا عثرة للصليب.
«آيات هذا عددها»: من كلام القديس يوحنا يتبين لنا أنه كان ملما بآيات كثيرة جداً عملها الرب يسوع، ولكنه اكتفى بذكر بعض منها، وهي سبعة على وجه التحديد، رآها كافية لنؤمن على ضؤئها أن المسيح هو ابن الله:
الأولى: تحويل الماء إلى خمر_ الأصحاح الثاني.
الثانية: شفاء ابن خادم الملك – الأصحاح الرابع.
الثالثة: شفاء مقعد بيت حسدا – الأصحاح الخامس.
الرابعة.:إشباع الجموع من الخمس خبزات _ الأصحاح السادس.
الخامسة: السير على الماء _ الأصحاح السادس.
السادسة: شفاء المولود أعمى _ الأصحاح التاسع.
السابعة: إقامة لعازر من الموت بعد أربعة أيام _ الأصحاح الحادى عشر.
وفي ختام الكل أية قيامته من الأموات، مع علامات وآيات في السماء والأرض والبحر، لم يقصد بها المسيح أن يؤثر على إيمان الناس، ولكن لتُعلن فقط عن رسالته.
«ليتم قول إشعياء»: «ليتم» وتأتي في اليونانية بمعنى «ليكمل للملء». هنا لا يأتي يوحنا بالنبوة ليعلل بها تصرف بيت إسرائيل من نحو المسيح رجائهم، ولكن النبوة أتت لتغطي الفرغ المخيف الذي يتركه تصرف اليهود، في تفكير أي إنسان، من نحو معاملتهم للمسيح باعتباره أنه طابعهم وسلوكهم منذ القديم، وهذا لا غرابة فيه، فهو استمرار لتكميل مكيالهم (مت32:23).
«من صدق خبرنا؟ ولمن استعلنت ذراع الرب؟»: هذه آية إشعياء النبي (1:53), وهنا يجمع القديس يوحنا تعاليم الرب يسوع مع الآيات التي صنعها معاً، و«الخبر» هو التعليم بالكلمة ومقصده هو الإيمان» و«ذراع الرب» كناية عن القوات التي صنعها المسيح، وجاءت على مستوى الآيات أي بصفة إشارات تشير إلى لاهوت صانعها. والاثنان معاً كانا شهادة الله المنطوقة والمعمولة بواسطة ابنه. والاثنان أيضاً رُفضا، فالخبر لم يُصدق, والآية لم تفهم باعتبارها استعلاناً للمجد الإلهي لصاحبها.
«لهذا لم يقدروا أن يؤمنوا»: هنا يتعرض القديس يوحنا إلى استحالة أخلاقية عند اليهود، موروثة عبر تذمرات بلا عدد أعلنوها في وجه الله، منذ أن كانوا في مصر، ثم في خروجهم من مصر، وفي وجه موسى. وكل قاض ونبي أتى بعد ذلك لم ينج من هياجهم م مقاومتهم: «قد تركوا عهدك، ونقضوا مذابحك، وقتلوا أنبياءك بالسيف، فبقية أنا وحدي، وهم يطلبون نفسي ليأخذوها» (امل10:19). هذا كان صراخ إيليا، و يرد عليه القديس استفانوس الشهيد الأول: «يا قساة الرقاب وغير المختونين بالقلوب والآذان، أنتم دائمأ تقاومون الروح القدس. كما كان اباؤكم، كذلك أنتم. أي الأنبياء لم يضطهده اباؤكم؟ وقد قتلوا الذين سبقوا فأنبأوا بمجيء البار الذي أنتم الآن صرتم مسلميه وقاتليه، الذين أخذتم الناموس بترتيب ملائكة ولم تحفظوه» (أع51:7-53)
لهذا لم يستطيعوا أن يؤمنوا!! تركة ثقيلة جداً من مقاومة ورفض استعلانات الله على مدى الدهور, عيون أعماها عدم استعدادها للرؤيا، وآذان أصمها تكرار رفضها لصوت الله، وقلوب منعتها قساوتها عن الندم أو التوبة!!
«لأن إشعياء قال أيضاً: قد أعمى عيونهم, واغلظ قلوبهم, لئلا يبصروا بعيونهم, ويشعروا بقلوبهم, ويرجعوا فأشفيهم»: النص هنا من إشعياء (9:6-10)، ولكنه بالفحص، استقر العلماء أنه غير منقول لا من
النسخة السبعينية ولا من النسخة العبرانية الماسورتيك، والتي لجأ إليها كتاب الأسفار الأخرى.
فأما النسخة السبعينية والتى يتبعها كل من إنجيل متى وكاتب سفر الأعمال فهى ترد كالآتي: «فقد تمت فيهم نبوة إشعياء القائلة تسمعون سمعاً ولا تفهمون. ومبصرين تبصرون ولا تنظرون. لأن قلب هذا الشعب قد غلظ, واذانهم قد ثقل سماعها، وغمضوا عيونهم، لئلا يبصروا بعيونهم, ويسمعوا بآذانهم، ويفهموا بقلوبهم، ويرجعوا فأشفيهم.» (مت14:13-15)
أما إنجيل القديس مرقس فجاءت فيه كالآتي: «لكي يبصروا مبصرين ولا ينظروا, ويسمعوا سامعين ولا يفهموا, لئلا يرجعوا فتُغفر لهم خطاياهم» (مر12:4)
والاختصار والتصرف هنا واضحان, ويرى العلماء أن النص يقترب من النسخة العبرية المأسورتيك.
النسخة العبرية الماسورتيك: «اجعل قلب هذا الشعب غليظاً، وثقل آذانهم، وأغمض عيونهم، لئلا ينظروا بعيونهم، ويسمعوا بآذانهم، ويفهموا بقلوبهم، فيعودوا ويُشفوا».
أما في سفر الأعمال، فإن كاتبه يتبع النسخة السبعينية حرفياً تقريباً: «حسناً كلم الروح القدس آباءنا بإشعياه النبي قائلاً: اذهب إلى هذا الشعب وقل ستسعون سمعاً ولا تفهمون، وستنظرون نظراً ولا تبصرون، لأن قلب هذا الشعب قد غلظ، وبأذانهم سمعوا ثقيلاً، وأعينهم أغمضوها، لئلا يبصروا بأعينهم ويصغوا بأذانهم ويفهموا بقلوبهم، ويرجعوا فأشفيهم». (أع25:28-27).
أما إنجيل القديس يوحنا فيبدو النص حراً لا يتبع السبعينية, وقد حول ما جاء في النسخة العبرية بصيغة الأمر الموجه للنبي، إلى تأكيد مخيف بعمل يضطلع به الله نفسه. فبدل «إغمض عيونهم» كأمر صادر للنبي، في النسخة العبرية، يأتي «غمضوا عيونهم»، كعمل قاموا به في أنفسهم؛ وما جاء في السبعينية جعله القديس يوحنا «قد أعمى عيونهم»، حيث الله هنا هو الذي يصنع بهم هذا كرد فعل لعصيانهم، «وأغلظ قلوبهم … لئلا يرجعوا فأشفيهم.
ويلاحظ هنا أن القديس يوحنا أنهى النص على أساس أن المسيح هو الذي يشفيهم، وبذلك انتقل بالنبوة إلى الواقع بالنسبة للتاريخ الذي أُكمل على يديه! ومعناها: أني أعطيتكم فرصة لتروا وتشعروا بحقيقتي بكل الطرق فلم تستجيبوا، بل عاندتم، وقاومتم، وأسأتم إلى بلا سبب؛ ها أنا أطمس عيونكم، وأسد قلوبكم، وأقطع الرحمة عليكم فلا تعردون بعدد.
ونحن نخرج من الأوضاع المختلفة التي جاءت بها هذه النبوة بفكر واحدء وهو أن أخلاق الشعب اليهودي وملوكه مع الله اديا إلى انغلاق أعينهم عن رؤية استعلانات الله، وأصابا آذانهم بالثقل, فلم تعد تميز صوت الله أو تسمعه أصلاً. وانتهى الأمر بهم إلى أن قلوبهم فقدت الاحساسات والمشاعر التي يمكن أن تتفاعل مع محبة الله، وانتهى الأمر بأن حجز الله صوته عنهم. ويصدق فيهم القول: هذا ما جناه علي جهلي، وما جنى علي أحد. ولكن ليس من الهين مقاومة الله, لأن إمكانية التغيير والتوبة، مفتاحها في يد القدير، فإذا تمادى الإنسان أو الشعب في معاندة الله «أغلق الله عليهم في العصيان» (راجع رو32:11). وهنا يبدو الله وكأنه هو الذي أغمض عيونهم وسد آذانهم وقسى قلوبهم, بينما في الحقيقة أنهم هم الذين بعميانهم المستمر حرضوا أن يغلق عليهم فيما أغلقوا هم على أنفسهم من جهالة وحماقة. فستان أن يُقال أنهم أغمضوا عيونهم, أو أن الله أغمض عيونهم. فالذي لا يريد أن يرى الله او يسمعه لا يستطيع الله أن يظهر لهم ذاته أو يتكلم معه: «لماذا لا تفهمون كلامي. لأنكم لا تقدرون أن تسمعوا قولي.» (يو43:8)
وهكنا انقلبت عدم الرغبة المستمرة في السماع لكلمة الله إلى عدم قدرة: «لا تقدرون أن تسمعوا».
41:12 قَالَ إِشَعْيَاءُ هَذَا حِينَ رَأَى مَجْدَهُ وَتَكَلَّمَ عَنْهُ.
القديس يوحنا هنا ينقل عن نسخة «الترجوم»، أو النسخة الأرامية. وهي التي جاء فيها نص (إش1:6) بدل «رأيت السيد (أدوناي) جالسا…»، جاء «رأيت مجد السيد (أدوناي)…». لأنه بحسب القديس يوحنا, وبالتالي بحسب فكر المسيح, أن: «الله لم يره أحد قط» (يو18:1). وهذا هو التقليد القديم (الأرامي). وبهذا يكون القديس يوحنا بقوله: قال إشعياء هذا حين رأى مجده وتكلم عنه»، قد فسر النبوة أيضاً على أساس أن إشعياء رأى «مجد المسيح» وتكلم عنه، باعتبار أن إشعياء كان يتنبأ عن المسيح وعن استعلان مجده، وأنه رأى المسيح على أنه هو «أدوناي». وفي نفس أصحاح إشعياء 5:6 يقول: «لأن عيني قد رأتا الملك رب الجنود». وفي الترجة الأرامية أي «الترجوم» تأتي هكذا: «لأن عيني رأتا شاكيناه الرب»، حيث الشاكيناه هي الحضرة المنيرة أو نور الله. وهو التعبير عن المسيح أيضاً باعتباره «نور الرب», «بهاء, شعاع مجده ورسم جوهره.» (عب3:1)
42:12- 43 وَلَكِنْ مَعَ ذَلِكَ آمَنَ بِهِ كَثِيرُونَ مِنَ الرُّؤَسَاءِ أَيْضاً غَيْرَ أَنَّهُمْ لِسَبَبِ الْفَرِّيسِيِّينَ لَمْ يَعْتَرِفُوا بِهِ لِئَلَّا يَصِيرُوا خَارِجَ الْمَجْمَعِ. لأَنَّهُمْ أَحَبُّوا مَجْدَ النَّاسِ أَكْثَرَ مِنْ مَجْدِ اللَّهِ.
هنا يورد القديس يوحنا نوعاً من الإيمان يساوي عدمه, وهو الإيمان الفاقد الاعتراف أو الشهادة. وهذا إيمان مصاب بإصابة مرضية قاتلة، فهو يؤدي إلى الانكار, وهو أشر من عدم الإيمان.
أما السبب الذي جعل الايمان فاقداً الاعتراف والشهادة، فهوالخوف. والخوف بالنسبة للخطايا التي تحرم الإنسان من القيامة والحياة، يأتي في المقدمة كأخطر معوق: «وأما الخائفون, وغير المؤمنين والرجسون والقاتلون والزناة والسحرة وعبدة الأوثان وجميع الكذبة, فنصيبهم في البحيرة المتقدة بنار وكبريت، الذي هو الموت الثاني» (رؤ8:21). ووضع الخوف هنا لا يغتفر، فهو ليس خوفاً على الحياة أو خوفاً من الآلام والتعذيب، بل الخوف لئلا يفقدوا كرامتهم ومجدهم الدنيويين, كأعضاء في مجمع اليهود!! الأمر الذي فضحه القديس يوحنا: «لأنهم أحبوا مجد الناس أكثر من مجد الله»؛ وبهذا يكونون قد وضعوا الله في مركز أحط من مركزهم. وهذا وصفه المسيح هكذا: «كيف تقدرون أن تؤمنوا، وأنتم تقبلون مجداً بعضكم من بعض، والمجد الذي من الاله الواحد لستم تطلبونه.» (يو44:5)
ولكن هذا لا يمنع أن كثيرين آمنوا واعترفوا, والرسالة إلى العبرانيين هي رسالة مكتوبة إلى رؤساء وكهنة قبلوا الإيمان واعترفوا به:
+ «من ثم، أيها الإخوة القديسون, شركاء الدعوة السماوية, لاحظوا رسول اعترافنا ورئيس كهنته المسيح يسوع.» (عب1:3)
ومكتوب أيضاً:
+ وكان «جمهور كثير من الكهنة يطيعون الإيمان.» (أع7:6)
42:12- 43 وَلَكِنْ مَعَ ذَلِكَ آمَنَ بِهِ كَثِيرُونَ مِنَ الرُّؤَسَاءِ أَيْضاً غَيْرَ أَنَّهُمْ لِسَبَبِ الْفَرِّيسِيِّينَ لَمْ يَعْتَرِفُوا بِهِ لِئَلَّا يَصِيرُوا خَارِجَ الْمَجْمَعِ. لأَنَّهُمْ أَحَبُّوا مَجْدَ النَّاسِ أَكْثَرَ مِنْ مَجْدِ اللَّهِ.
هنا يورد القديس يوحنا نوعاً من الإيمان يساوي عدمه, وهو الإيمان الفاقد الاعتراف أو الشهادة. وهذا إيمان مصاب بإصابة مرضية قاتلة، فهو يؤدي إلى الانكار, وهو أشر من عدم الإيمان.
أما السبب الذي جعل الايمان فاقداً الاعتراف والشهادة، فهوالخوف. والخوف بالنسبة للخطايا التي تحرم الإنسان من القيامة والحياة، يأتي في المقدمة كأخطر معوق: «وأما الخائفون, وغير المؤمنين والرجسون والقاتلون والزناة والسحرة وعبدة الأوثان وجميع الكذبة, فنصيبهم في البحيرة المتقدة بنار وكبريت، الذي هو الموت الثاني» (رؤ8:21). ووضع الخوف هنا لا يغتفر، فهو ليس خوفاً على الحياة أو خوفاً من الآلام والتعذيب، بل الخوف لئلا يفقدوا كرامتهم ومجدهم الدنيويين, كأعضاء في مجمع اليهود!! الأمر الذي فضحه القديس يوحنا: «لأنهم أحبوا مجد الناس أكثر من مجد الله»؛ وبهذا يكونون قد وضعوا الله في مركز أحط من مركزهم. وهذا وصفه المسيح هكذا: «كيف تقدرون أن تؤمنوا، وأنتم تقبلون مجداً بعضكم من بعض، والمجد الذي من الاله الواحد لستم تطلبونه.» (يو44:5)
ولكن هذا لا يمنع أن كثيرين آمنوا واعترفوا, والرسالة إلى العبرانيين هي رسالة مكتوبة إلى رؤساء وكهنة قبلوا الإيمان واعترفوا به:
+ «من ثم، أيها الإخوة القديسون, شركاء الدعوة السماوية, لاحظوا رسول اعترافنا ورئيس كهنته المسيح يسوع.» (عب1:3)
ومكتوب أيضاً:
+ وكان «جمهور كثير من الكهنة يطيعون الإيمان.» (أع7:6)
ملخص لإنجيل الاستعلان (44:12-50)
بعد أن ختم إنجيل يوحنا على أقوال المسيح، وبعد أن سجل في يوميات المسيح أنه «مضى واختفى عنهم» (يو36:12)، عاد وسجل بعضاً من أقوال المسيح أتت بصورة جديدة غير مكررة، وبتلخيص جميل ومركز للمبادىء العامة: النور, والدينونة، والحياة. ويختص جزؤها الأول بالمؤمنين وعلاقتهم مع المسيح، وبالتالي مع الآب, والجزء الآخر يختص بغير المؤمنين، وكيفية وقوع الدينونة عليهم.
44:12- 45 فَنَادَى يَسُوعُ: «الَّذِي يُؤْمِنُ بِي لَيْسَ يُؤْمِنُ بِي بَلْ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي. والَّذِي يَرَانِي يَرَى الَّذِي أَرْسَلَنِي.»
«فنادى»: وتأتي في اليونانية «صرخ»، والمعنى ليس مجرد مناداة، فالمسيح هنا ليس في موقف تعليم بين الناس.
وكلمة «يصرخ» في العهد الجديد عامة تفيد الانفعال العاطفي في صورة نطق. وقد جاءت في مواضع متغيرة لمواقف وأشخاص متباينة جداً.
فصراخ الجموع المنفعلة بالفرح هو ( ): «والذين تقدموا والذين تبعوا كانوا يصرخون قائلين أوصنا» (مر9:11)؛ وصراخ الجموع الغاضبة هو ( ): «فصرخوا أيضاً أصلبه» (مر13:15)؛ وكذلك الصراخ لطلب المعونة: «ابتدأ يصرخ ويقول يا يسوع ابن داود ارحمني» (مر47:10)؛ كما جاءت أيضاً بخصوص يوحنا المعمدان: «يوحنا شهد له ونادى (صرخ) (يو15:1). ولكن القديس يوحنا حصر كلمة ( ) في معنى الإعلان دون الانفعال أو مجرد الصراخ.
لم ترد مثل هذه الأقوال سابقاً في تعاليم المسيح، فهي صياغة جديدة لمجمل أقوال المسيح.
والمسيح في هاتين الآيتين يربط ربطاً وثيقاً, مع التأكيد, بين الآب وبين كل من يؤمن به، وكذلك بين الآب وبين كل من يراه رؤية الاستعلان الإيماني, كابن الله, وليس رؤية العين.
وهدف المسيح من ذلك عدم الفصل بين اختبار الإيمان به واختبار الإيماذ بالآب، باعتبار أن ذات الآب وذات الآبن ذات واحدة وجوهر إلهي واحد. فالإيمان بالمسيح هو الإيمان بالله، لأن الابن والآب واحد: «أنا والآب واحد» (يو30:10)، وهذا هو الإيمان المسيحي، فالمسيح والآب ذات واحدة, ولاهوت واحد، آب وابن معاً، وانما شخصان هما أو أقنومان.
علماً بأن اختفاء المسيح باستمرار وراء من أرسله، قولاً وعملاً، هو محاولة جد خطيرة للاحتفاظ بوحدانية الفكر والمشيئة والعمل والقول بين الابن المرسل والآب المُرسيل، لأن هذا هو صميم جوهر اللاهوت، فلا ثنائية في الله قط.
46:12 أَنَا قَدْ جِئْتُ نُوراً إِلَى الْعَالَمِ حَتَّى كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِي لاَ يَمْكُثُ فِي الظُّلْمَةِ.
أن يعرف الإنسان حقيقة الله، فهذا هو النور. فالله نور، بمعنى «الحق المدرك الكامل», وكل إدراك لله هو إدراك للحق، وإدراك جزئي للكمال، لأن الحق في الله لا يُدرك كماله، فهو فائق على كل الإدراكات. لذلك، من يستنير بمعرفة الله، يظل كلما يمتد في نوره يمتد في معرفته، ومعرفة كل شيء إلى مالانهاية.
والمسيح جاء ليستعلن ذات الله المخفية، ويستعلها في ذاته هو، أي في شخصه، لأنه ابن الله الوحيد الحامل لكل حقيقة الله في ذاته؛ لذلك، فبتجسده دخل نور الله إلى العالم، فصار نور الله, أو حق الله, مُستعلناً ومُدركاً للإنسان. علمأ بأن معرفة حقيقة الله في ذاته، وهي اكتشاف ذات الله كآب وابن، هي النور الحقيقي، أو الحق المنير الذي لا يمكن أخذه أو إدراكه كمعلومة أو كمعرفة قائمة بذاتها منفصلة عن ذات الله، هذا أمر مستحيل. فكل معرفة حقيقية عن الله بدون الاتصال الفعلي بالله، هي معرفة الظل، وليست معرفة النور. ولكن المسيح أعطانا معرفة الآب في ذاته هو: «الذي رآني فقد رأى الآب» و «أنا والآب واحد» (يو9:14 و 30:10)؛ وذلك بالإتصال والاتحاد الروحي بشخصه: «بنورك نرى نوراً» (مز9:36)، «من التصق بالرب فهو روح واحد» (1كو17:6)
وهكذا جعل المسيح الطريق إلى الله عبر نفسه التي وضعها على المستوى الإفخارستي هكذا: «من يأكلني فهو يحيا بي» (يو57:6). فالمسيح هو نور العالم، وذلك لحساب الله، بمعنى أن حياته وكلماته هي الاستعلان الدائم لله. على أن الوصول النهائي إلى الله نبلفه، إن بلغنا مستوى الاتحاد بالمسيح: «لأن الله الذي قال أن يشرق نور من ظلمة، هو الذي أشرق في قلوبنا لإنارة معرفة مجد الله في وجه (شخص) يسوع المسيح.» (2كو6:4)
ومعروف أن الله ليس فيه ظلمة البتة، بمعنى أن الله حق مطلق، والحق هو الضد للباطل، والباطل هو كل ما يتغير إلى زوال.
لذلك، فكل من يؤمن بالمسيح، أي يتحد به بالروح، يعيش بالحق، ولا يطيق حتى شبه الباطل، إنه يتغير إلى النور، ولا يتغير قط إلى الباطل: «وهذا هو الخبر الذي سمعناه منه، ونخبركم به, أن الله نور وليس فيه ظلمة البتة. إن قلنا إن لنا شركة معه, وسلكنا في الظلمة، نكذب، ولسنا نعمل الحق.» (ايو5:1-6)
47:12 وَإِنْ سَمِعَ أَحَدٌ كلاَمِي وَلَمْ يُؤْمِنْ فَأَنَا لاَ أَدِينُهُ لأَنِّي لَمْ آتِ لأَدِينَ الْعَالَمَ بَلْ لِأُخَلِّصَ الْعَالَمَ.
اتفق معظم علماء الكتاب المقدس، بل وعلماء المخطوطات، أن القراءة الصحيحة لهذه الآية هي كالأتي: «إن سمع أحد كلامي، ولم يحفظه (guard)»، لأن السمع لكلام المسيح جاء هنا إيجابياً، بمعنى أنه سماع وفهم. فالمفروض أن يأتي بعده إما حفظ أو اهمال، إما قبول أو رذل.
والأن، وبعد أن أوضح المسيح أنه جاء نوراً للعالم حتى كل من يؤمن به لا يمكث في الظلمة، يعود ويأتي باللوم على من لا يحفظ كلامه ، إذ هو كلام الله وهو روح وحياة؛ وهو، بحسب القديس بولس الرسول، السيف ذو الحدين، الذي يخترق ويميز أفكار القلب ونياته، حتى إلى مفارق النفس والروح، فهو ميزان القلوب والأفكار. فكلام السيح، بحد ذاته، لأنه نور، فهو يحمل قوة الكشف والإدانة؛ فكل من لا يحفظه، سيقع تحت كشف النور، لذلك فهو حتماً سيدين نفسه على ضوء الكلمة اللوغس التي سمعها ورفضها.
ولكن المسيح وعد أنه لن يدين, بمعنى يعاقب, من لا يحفظ كلامه، ولكن الكلام نفسه سيدينه، لأن عمله الأساسي بالنسبة للعالم هو عمل الخلاص والحياة والإنارة وليس الدينونة.
قد يلاحظ القارىء التقليدي الملم بعقيدة الكنيسة أن قانون الإيمان ينص مراحة وبوضوح على أن المسيح سيأتي في ملكه «ليدين الأحياء والأموات» وهنا يبدو أنه توجد مناقضة بينه وبين هذه الآية ومثيلاتها (يو15:8, يو17:3). ولكن لكي نزيل هذا التعارض، يلزمنا أن نعيد فهم كلمة «يدين»، فهي لا تعني الحكم بالعقاب أو إيقاع غير المؤمنين تحت التأديب أو التغريم, بل تعني مجرد التمييز أو التفريق، أي التمييز بين المستحق وغير المستحق للحياة الأبدية، وهذا يتم بفعل النور. فالمسيح بصفته نور العالم ونور الحياة، فقد جاء ليميز بين أبناء النور الذين قبلوا النور، وأبناء الظلمة الذين رفضوا النور. والمسيح نور وحياة معاً، لذلك يكرر المسيح باستمرار أنه جاء إلى العالم كنور وحياة, لتخليص العالم من الظمة، وليس ليحكم على العالم. ولكن لأن المسيح نور، والعالم ظلمة، فبالضرورة ودون قصد منه، فضح الظلمة لأنه دان أي ميز النور عن الظلمة، والظلمة لم تطقه.
وهذا واضح جداً في فهم بولس الرسول لمعنى الدينونة بالنسبة للظلمة والنور: «لأنكم كنتم قبلاً ظلمة, وأما الآن فنور في الرب. اسلكوا كأولاد نور… ولا تشتركوا في أعمال الظلمة غير المثمرة، بل بالحري وبخوها… ولكن الكل إذا توبخ، يظهر بالنور، لأن كل ما أُظهر، فهو نور. لذلك يقول: استيقظ أيها النائم، وقم من الأموات, فيضيء لك المسيح.» (أف8:5-14)
المسيح هنا هو المضيء والمنير في مواضع العالم المظلمة, وهو بالتالي الموبخ والمميز بين أعمال الظلمة وأعمال النور، بين النائم الميت وبين اليقظ الحي.
هذا فو عمل المسيح، كديان العالم, وديان الأحياء والأموات. بمعنى أنه عندما يضيء على النائم والميت بالخطيئة، العائش في الظلمة, يدينه في الحال ويوبخه، فيبتدىء النائم في الخطية والميت بسمها يميز بين الظلمة التي يعيشها وبين نور المسيح، فيستيقظ ويضيء له المسيح فيحيا، لأن المسيح هو النورالمحيي: «فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس».
فالمسيح جاء نوراً للعالم, وفي الحال صار نور المسيح (الكلام والتعليم) بمثابة دينونة للعالم، ليس على أساس القضاء السلبي والهدم, بل على أساس التمييز والتفريق الإيجابي بين ما هو للنور وما هو للظلمة:
+ «فقال يسوع لدينونة أتيت أنا إلى هذا العالم، حتى يبصر الذين لا يبصرون (محبو النور) ويعمى الذين يبصرون (مبغضوا النور)» (يو39:9)
وقد شرح القديس يوحنا معنى الدينونة وفعلها بوضوح في قوله: «وهذه هي الدينونة, أن النور قد جاء إلى العالم، وأحب الناس الظلمة أكثر من النور، لأن أعمالهم كانت شريرة. لأن كل من يعمل السيئات يبغض النور، ولا يأتي إلى النور لئلا توبخ أعماله. وأما من يفعل الحق فيقبل إلى النور، لكي تظهر أعماله أنها بالله معمولة.» (يو19:3-21)
إذن، فالدينونة التي صارت بمجيء المسيح, كنور، ليست هدامة أو سلبية، بل إيجابية مطلقة وخالقة ومحيية، ولكنها مميزة تمييزاً حاداً وقاطعاً بين الحق والباطل، بين الخير والشر. وهكذا أصبح نور المسيح، أي «كلامه» دياناً للأحياء والأموات. فبالنسبة للأحياء، فالدينونة (أي النور، أي كلام المسيح) تستعلن استحقاقهم للحياة، وفي نفس الوقت تفرز الأموات الرافضين للمجيء إلى النور، فيدركون من أنفسهم أنهم غير مستحقين للحياة: «فسمع هذا الذين كانوا معه من الفريسيين، وقالوا له: ألعلنا نحن أيضأ عميان» (يو41:9). فإن كانت الدينونة قائمة منذ الآن،
فهي ستستعلن بصورة شاملة في اليوم الأخير.
رذل المسيح هو درجة أحط من الدرجة السابقة, فليس هنا عدم سماع لكلمة المسيح وحسب بل رفض وعدم قبول, وهذا ناتج من رذل شخص المسيح، حيث الرذل هنا يحمل معنى الإزدراء، وهي خطية عامدة متعمدة، تدخل تحت السلوك الأخلاقي الردىء الذي هو أشر من عدم الإيمان ومضاف إليه.
هنا كلمة المسيح بالمفرد «اللوغس» يفرزها المسيح لتقوم بحد ذاتها بالشهادة والإدانة ضد من لم يقبلها، وبالأكثر والأخطر ضد من يرذل أو يزدري بشخص المسيح. فكلمة المسيح بقدر ما تقدس، وتطهر، وتحيي، وتلد من جديد وتحرر؛ فهي لها جانبها الخطر, لأن الذي يُحيي بسلطان كلمته, هو بسلطان كلمته أيضاً يُميت؛ والكلمة التي لها قوة الخلاص لها بالضرورة قوة الدينونة.
وكلمة المسيح، التي هي الآن وعلى طول المدى تذكر وتبكت، في النهاية ستحكم حتماً وتدين «في اليوم الأخير». وهذا التحذير الأخير الذي يعلنه الرب لسامعيه، هو ما جاء بالنص في سفر التثنية كنبوة عن المسيح: «أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه, فيكلمهم بكل ما أوصيه به. ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسميء أنا أطالبه.» (تث18:18-19)
ويلاحظ هنا، في نبوة موسى عن المسيح، أنه لا يدين، بل الآب هو الذي يدين: «أنا أطالبه». كما يلاحظ التكرار فيما يخص الكلام:
فأولاً: «الآب يضع كلامه في فمه»
وثانياً: «يتكلم بكل ما أوصيه به»
ثالثاً: الذي لا يسمع لكلامي»
رابعاً: «الذي يتكلم به باسمي».
ويكاد هذا التكرار يطابق التكرار الذي أعلنه المسيح:
أولاً: «إن سع أحد كلامي ولم يؤمن…».
ثانياً: «من رذلني ولم يقبل كلامي…».
ثالثاً: «الكلام الذي تكلمت به, هو يدينه في اليوم الأخير».
رابعاً: «لأني لم أتكلم من نفسي».
خامساً: «الآب الذي أرسلني أعطاني وصية ماذا أقول وبماذا أتكلم».
سادساً: «وأنا أعلم أن وصيته هي حياة أبدية».
سابعاً: «فما أتكلم أنا به, فكما قال لى الآب, هكذا أتكلم».
«إن سمع أحد كلامي» …
«فما أتكلم أنا به، فكما قال لى الآب هكذا أتكلم».
«من رذلني ولم يقبل كلامي، فله من يدينه. الكلام الذي تكلمت به هو يدينه».
«الآب الذي أرسلني هو أعطاني وصية ماذا أقول وبماذا أتكلم».
«وأنا أعلم أن وصيته هى حياة أبدية»
«يقيم لك الرب إلهك نبياً من وسطك من إخوتك مثلي له تسمعون.» (تث15:18)
«الإنسان الذي لا يسمع لكلامي (أنا) الذي يتكلم به (هو) باسمي» «أنا أطالبه» (تث19:18)
كلام الله يدينه« (ممرا إلوهيم بحسب الترجوم النسخة الأرامية).
«وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به» (تث18:18)
«أنا أشهد عليكم بها اليوم، لكي توصوا بها أولادكم … لأنها هي حياتكم.» (تث46:32-47
كما يلاحظ الباحث أن الوارد في سفر التثنية (النسخة السبعينية) من جهة «أنا أطالب»، أي «أنا أنتقم»، أي الدينونة التي يضطلع بها الآب، جاءت في نسخة الترجوم (الأرامية) أن الذي سينتقم ليس «أنا» بل «كلام الله». «ممرا إلوهيم». وهو المطابق لما قاله المسيح في إنجيل يوحنا: «الكلام الذي تكلمت به (وهو كلام الآب) هو يدينه في اليوم الاخير». وما جاء في التوراة مطابقاً لما قاله المسيح يدعو للدهشة، لأن الله كرر مراراً أن كلام التوراة أي كلامه سيكون شاهداً عليهم (أي سيدينهم):
«خذوا كتاب التوراة هذا، وضعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم, ليكون هناك شاهدا عليكم, لأني أنا عارف تمردكم ورقابكم الصلبة. هوذا، وأنا بعد حي معكم, اليوم، قد صرتم تقاومون الرب فكم بالحري بعد موتي.»(تث26:31-27)
كما يلاحظ الباحث أن الله كلم موسى بهذا الكلام وأوصاه أن يقول لبني اسرائيل قبل موته مباشرة وبعد أن أكمل كتابة التوراة: «وقال الرب لموسى هوذا أيامك قد قربت لكى تموت … فالأن اكتبوا لأنفسكم هذا النشيد, وعلم بني إسرائيل إياه, ضهه في أفواههم. فعندما كمل موسى كتابة كلمات هذه التوراة في كتاب إلى تمامها، أمر موسى اللاويين حاملي تابوت عهد الرب قائلاً: خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم، فيكون هناك شاهداً عليكم.» (تث14:31-26)
فإذا عدنا إلى كلام المسيح في إنجيل يوحنا بخصوص سماع كلامه وحفظه، وأنه «كلام الآب», «ووصية الآب», وأن الكلام الذي قاله هو شاهد عليهم وسيدينهم في اليوم الأخير، نجد التطابق الشديد، ليس في نص الكلام فقط، بل وفي المناسبة، لأن المسيح قال هذا في نهاية خدمته، وقبل أن يموت مباشرة، إذ نقرأ بعد هذا الكلام مباشرة: «أما يسووع قبل عيد الفصح، وهو عالم أن ساعته قد جاءت …» (يو1:13)
من هذا يتضح, بأبلغ بيان، أن اختيار القديس يوحنا هذا الموضع المناسب لكلام المسيح في نهاية الأصحاح الثاني عشر, أي قبل موته مباشرة, جزء أساسي وهام جدأ من خطة تنسيق الإنجيل, وليس كما طلع علينا النقاد أن هذا الكلام غير مناسب وليس له موضع في هذا الأصحاح، وعلى حد قولهم أنه إضافة غريبة من وضع كاتب آخر غير القديس يوحنا!! وأنه جاء غير مناسب في نهاية سرد حياة المسيح؛ ولكن ورود هذه الوصية على فم المسيح، في نهاية سرد القديس يوحنا لحياة المسيح، تجيء محكمة غاية في الحكمة والاحكام، ومتوازية تماماً مع ما جاء في نهاية سيرة موسى النبي وقبل موته مباشرة وعن المسيح أيضاً، وهذا بحسب رأيى إعجاز يضع صياغة إنجيل يوحنا على مستوى الإلهام الرفيع الذي يهز القلوب ويبهرها.
والذي يسترعي انتباهنا أيضاً هنا، في ختام خدمة المسيح، تكرار كلمة «الكلام» سبع مرات في ثلاث آيات, مع توضيح أن كلمة «الكلام» باللغة العربية في هذه الآية: «الكلام الذي تكلمت به، هو يدينه في اليوم الأخير»، لم تأت بصيغة الجمع بل بصيفة المفرد, الكلمة». اللوغس فالذي سيدين هو «الكلمة» اللوغس.
نستخلص من هذا أنه، كما بدأ إنجيل القديس يوحنا بـ «الكلمة» في البدء، انتهى بـ «الكلمة» في النهاية كديان. ولكي يضع ذلك أمام ذهن القارىء، نورد أول آية يفتتح بها القديس يوحنا إنجيله، وأخر كلمة ينهي بها سرد روايته «في البدء كان الكلمة» …… «الكلام (الكلمة اللوغس) الذي تكلمت به هو يدينه في اليوم الأخير.»
هذه هي أيضأ لفتة من اللفتات التي تجعلنا على قناعة أن وراء قلم القديس يوحنا روحاً يشهد ويملي ويبدع!
تفسير يوحنا 11 | تفسير إنجيل القديس يوحنا الأب متى المسكين |
تفسير يوحنا 13 |
تفسير العهد الجديد |