تفسير إنجيل يوحنا الأصحاح 17 للأب متى المسكين
الأصحاح السابع عشر
صلاة المسيح للآب
[وبعد ما أعطى تلاميذه كل التعاليم فيما يختص بالخلاص، وأكمل معرفتهم وهيأهم لمواجهة التجارب، نقل الحديث إلى صلاة.] القديس كيرلس الكبير
مقدمة
مقارنة بين صلاة المسيح الأخيرة فى إنجيل القديس يوحنا والثلاثة ألأناجيل الأخرى:
+ صلاة يوحنا 17 المدموغة بالمجد والتجلي وغلبة العالم، والتي فيها يستعلن المسيح لاهوته على مستوى الوحدة غير المنفصلة مع الآب, يقابلها في الثلاثة الأناجيل الأخرى، وفي نفس المكان، صلاة جثسيماني بأحزانها ودموعها وسجودها وعرقها المتصبب كالدم, مع طلب إعفاء من شرب هذه الكأس، لوأمكن! فهل من تفسير؟
نعم، فهذ مضادة، مثل كل المتضادات في حياة المسيح التي نشأت من كون أن: «الكلمة صار جسداً» بلغة إنجيل يوحنا (14:1)، أما بلغة القديس بولس فهي: «الله ظهر في الجسد» (اتى 16:3). لذلك يلزم أن لا نقرب المقارنة بين هاتين الصلاتين، إلا على أساس الرؤية المتكاملة لشخص المسيح، باعتبار «الاله المتجسد». لأننا بهذا نرى في الصلاتين معاً منتهى حقيقة المسيح الإلهية والبشرية معاً، في ضوء الإخلاء الذي أُكمل بالمجد، واتضاع العبد الذي ارتفع إلى أن استوى على العرش في ملكه الأزلى مع الآب، لتسجد له كل ركبة ما في السماء وعلى الأرض.
+ لذلك ينبغي غاية الانتباه أن نفرق بين رؤية المسيح لنفسه التي يتحرك بها ويتصرف ويعلن ما يراه صالحأ للاعلان, ويحبس ما لا يلزم أن نعرفه قبل الآوان، وبين ما نراه نحن بعجز إدراكنا الذي لا يرقى أبداً إلى حقيقة ذالله, فأحياناً نراه إنساناً فيما لا ينبغي أن يكون، ثم نراه إلهأ فنستكثر عليه ما للانسان: فمثلاً, نستكثر جداً في أنفسنا ما يقوله سفر العبرانيين أنه: «قدم بصراخ شديد ودموع, طلبات وتضرعات للقادر ان يخلصه من الموت، وسُمع له من أجل تقواه« (عب7:5). في حين أن هذا هو عمله الأعظم الذي من أجله نزل من السماء؛ لكي يحمل من أجل الإنسان هذا الخزي عينه، وهذا الضعف المشين بكل ما يعنيه وينطوي عليه، من رهبة الموت ورعبته، ومن الجزع من مواجهة فراغ القبر وعدميته؛ لكي يقوم بالإنسان, هذا الذي حمله في نفسه, منتصراً غالباً ودائساً الموت تحت رجليه؛ لكي لا يسود عليه الموت بعد، وكأنه صار إلى العدم، بل لكي يلاشي هذا الموت وجبروته, فيتحول موت الإنسان إلى مجرد انتقال إلى حياة أفضل, أي سماوياً. فالصراخ والدموع والرعبة والجزع، حولها له جميعاً إلى هتاف النصرة وسلطان الغلبة، بل واستحقاق مجد!
+ فصلاة المسيح في يو 17 هي وقفة للمسيح لمراجعة رسالته، في شموخ لاهوته كما جاءت في إنجيل يوحنا. أما صلاة جثسيماني بانبطاح المسيح على الأرض, كما جاءت في الأناجيل الثلاثة, فهي قمة ذلة الإنسان التي تبناها المسيح عن الإنسان, كمدخل لائق للصليب. فهذه وتلك هي المضادة التي نشأت أصلاً من «تجسد الكلمة», والتي فيها وبها دُعي الإنسان من سكنى القبر إلى سكنى السماء.
+ لقد جاءت لتعبر عن أعلى مستوى لشركة الابن مع الآب، وأجلى صورة لابن الإنسان المستعلن كابن الله، مسيا الدهور، حامل الاسم العظم: «أنا هو», «وكان الكلمة الله» (يو1:1)، «أنا هو نور العالم» (يو12:8)، «أنا هو القيامة والحياة» (يو25:11)، «أنا والآب واحد» (يو30:10)، «الذي رآني، فقد رأى الآب.» (يو9:14)
+ وصلاة جثسيماني كما جاءت في إنجيل مرقس 32:14، بدموعها وتضرعاللها، جاءت لتستعلن تنازل الابن، كيف أخلى ذالله وأخذ شكل العبد! وكيف «أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة مولوداً تحت الناموس» (غل4:4)، وكيف «أرسل ابنه في شبه جسد الخطة، ولأجل الحظية، دان الخطية في الجسد» (رو3:8)، وكيف «أخلى نفسه آخذاً صورة عبد، صائراً في شبه الناس. وإذ وُجد في الهيئة كإنسان، وضع نفسه، وأطاع حتى الموت, موت الصليب» (في7:2-8). وكيف وُضع قليلاً عن الملائكة «من أجل ألم الموت، لكى يذوق، بنعمة الله، الموت لأجل كل واحد, لأنه لاق بذاك الذي من أجله الكل, وبه الكل، وهو آت بأبناء كثيرين إلى المجد, أن يُكمل رئيس خلاصهم بالآلام» (عب9:2-10)، وكيف أن «الذي في أيام جسده، إذ قدم بصراخ شديد ودموع طلبات وتضرعات، للقادر أن يخلصه من الموت, وسُمع له من أجل تقواه؛ مع كونه ابناً، تعلم الطاعة مما تألم به» (عب7:0-8)، وكيف «من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب، مستهينا بالخزي» (عب2:12)، «فتفكروا في الذي احتمل من الخطاة مقاومة لنفسه مثل هذه، لئلا تكلوا وتخوروا في نفوسكم.» (عب3:12)
+ القديس يوحنا، وان قدم لنا صلاة المسيح في (يو17) رافعاً المسيح إلى قمة الاستعلان الإلهي, لم يفته أيضاً أن يسجل بعضا مما سجلته الأناجيل الأخرى والرسائل من مظاهر اتضاعه وضعفه البشري. ففي يو 27:12 سجل له: «الآن نفسي قد اضطربت, وماذا أقول؟ أيها الآب نجني من هذه الساعة، ولكن لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة». كذلك، وفي موجة الحزن الأليم الذي اجتاح النسوة وهن تبكين على لعازر، انتبه المسيح وهو في مواجهة سلطان الموت، وفي الحال تراءت أمامه ساعته القادمة تحمل نفس المنظر والمشاعر، فاضطرب أيضاً و«بكى يسوع.» (35:11)
+ فإن كان في صلالله في (يو17) قد رفع عينيه نحو الآب، لكن لم يغب عن عينيه أيضاً صورة الصليب بمروعالله القادمة، وظلمة القبر البارد، ولكن كانت القيامة حاضرة فيه أيضاً والمجد المسترد! هذه كلها كانت داخلة حتماً في اعتباره وهو يصلي، ولكن كان قد جمعها كلها في رؤية واحدة وكأنها قد تمت!! ألم ينتبه من كسر جسده وسفك دمه مسبقاً على العشاء؟
+ بل إن خلفية هذه الصلاة في (يو17) التي أعطتها هذه القوة والشموخ والرزانة والجلاء البصري المنقطع النظير، مع السلام الذي يفوق العقل بالرغم من ظل الصليب المنعكس على نفسه بكل ثقله. هذه الخلفية كانت قائمة على أساس أنه قد انتهى مع نفسه وتخطى الألم الكثير الذي ينتظره . فعندها رفع عينيه إلى السماء، كان يتطلع إلى رحلة المجد القادمة، بعد أن استوفى في ضميره الرضى برحلة المذلة وكل مقاومة منتظرة: «ثقوا, أنا قد غلبت العالم».
+ لقد حبس أنين الألم القادم في صدره؛ ورعبة مواجهة الموت ومن له سلطان الموت ألقاها خلف ظهره إلى حين؛ والدموع التي هطلت في شهد الباكين على لعازر الحت عليه، فالمشهد واحد، فجفت في عينيه حينما تطع إلى الآب. وشعور الرغبة في الإعفاء من الكأس وساعة الظلمة كانت على شفتيه، ولكنه أجلها إلى ما بعد أن ينتهي من تقديم حساب الوكالة، وتسجيل وصيته الأخيرة من نحو تلاميذه والكنيسة القادمة من وراء الدهور.
+ فلما استوثق من سماع الآب له، كما أنه هو في كل حين يسمع للآب، انطلق مح تلاميذه صوب جثسيماني صامتاً؟
+ ليبكي هناك مع كل الذين بكوا موتاهم، ليستوفي أحزان بني الإنسان؛
+ وسجد وأمعن في السجود للآب، ليقدم آخر تعبيرات الخضوع والطاعة وواجبات التوبة عن كل جهالات الإنسان؛
+ وتصبب العرق كالدم من جبين آدم الثاني, استيفاء للعنة «عرق الجبين» التي اكتسبها آدم الأول، لما عصى الله وخرج من لدنه ملوماً محسوراً (تك13:9)؛
+ وتحت ظلال أشجار جثسيماني أخذت نفسه تحزن وتكتئب حزناً حتى الموت، ليتقيأ الشهوة التي استقرت في أحشاء أبوينا الأولين، التي ورثاها لكل من اتوا بعدهما، حينما أكلا من الشجرة وأتيا الحرام.
+ في هذه الليلة الخالدة (يو17)، أكمل المسيح في صلالله مح الآب منتهى استعلان لاهوته. وفي جثسيماني (مر32:14)، استعلن المسيح بدموعه وسجوده وعرقه المتصبب كالدم ملء تجسده…
+ ولم يجد صعوبة أن ينتقل من الاولى إلى الثانية, أليس هو الذي انتقل من حضن الآب بملء مسرته, ليحتضن الإنسان؛ تاركا مجد السماء، ليعيش على أرض الأحزان؛
+ وقف المسيح في صلالله (يو17) مرفوع الرأس باعتباره «الكاهن الأعظم»، يستعد ويستبرىء ذمته أمام الآب ليكون أهلاً لتقديم ذبيحته, ليس عن نفسه، فهو لم يوجد فيه خطية ولا في فمه غش، ولكن من أجل العالم كله بمفهومه الإنساني البائس، على مستوى كل فرد على حدة!
+ أما في صلالله في جثسيماني (مر32:14)، فكان هو الذبيحة والخروف نفسه! يُساق إلى الذبح, منحنياً, ساجداً حتى الأرض، باكياً، صارخاً، يستنزف شحنة عواطفه حتى يحتفظ بهدرئه وصمته لدى حاكميه وصالبيه! لقد صلب المسيح ذالله قبل أن يصلبه العالم، واستدعى كل آلام الموت، ليجوزها بإرادته قبل أن تأتي عليه، فأكمل النبوة بيديه، قبل أن يكملها فيه الشامتون: «أحزاننا حملها، وأوجاعنا تحملها، ونحن حسبناه مصاباً مضروبأ من الله ومذلولاً» (إش4:53)
الجلال الذي أحاط بصلاة المسيح في (يو17): منذ أول آية في الأصحاح السابع عشر، بدأ الجو الذي يحيط بالتلاميذ والمسيح يدخل في هدوء مفاجىء, كهدوء السماء، مع رهبة وهيبة وجلال!، يحسها القارىء إن كان حقاً على مستوى إنجيل يوحنا …
والانطباع الشديد الذي يلقي بظله على فكر القارىء، أننا أمام مواجهة حقيقية بين الآب والآب؛ إنه حديث السماء، حديث الله مع نفسه، فيما يخص مستقبل الإنسان…
نحن لا نعلم بالضبط أين صلى المسيح صلاته هذه:
هل في العلية؟ لقد سبق أن قال: «قوموا ننطلق من ههنا» (يو31:14)؛
هل في الطريق؟ وهل يمكن أن تقوم صلاة مثل هذه بين الغادي والرائح؟
هل في جثسيماني؟ ربما! لكن يقول العالم ومتكوت ومعه آخرون، إن الظن الغالب الذي يوحي به روح الكلام، أن هذه الصلاة قُدمت إلى الآب في الهيكل. ويرجح ذلك، خبر سجله المؤرخ اليهودي يوسيفوس أنه كان من عادة رؤساء الكهنة أن يفتحوا أبواب الهيكل في منتصف الليل للشعب, وخاصة الحجاج، لحضور صلاة الفصح. فهل عرج المسيح على الهيكل مع تلاميذه، لكي يتخاطب رسميأ مع الآب, ويضع أساس كنيسة الدهور القادمة؟ ربما.
ومما يرجح ظننا هذا, أي احتمال حدوث صلاة المسيح في الهيكل, ما جاء في بداية الأصحاح الثامن عشر، حيث يقول معقباً على الصلاة مباشرة: «قال يسوع هذا وخرج مع تلاميذه إلى عبر وادي قدرون حيث كان بستان دخله هو وتلاميذه» (يو1:18). والمعروف أن وادي قدرون يفصل الهيكل عن جبل الزيتون، حيث البستان المدعو «جثسيماني». وهكذا ينحصر المعنى أن «خروج»» المسيح هو وتلاميذه كان من الهيكل بعد الصلاة.
على كل حال، كان هدوء ذلك الليل في هذا الميعاد، وهذه المناسبة، في هذا المكان، يزيد الشعور بخطورة الموقف.
كل هذا جعل من هذه الصلاة نقطة تحول عظمى في تاريخ، لا الجماعة الاولى وحدها، بل والكنيسة على مدى الدهور والعالم كله! لقه كانت البدء الحقيقي لاستعلان العلاقة الإلهية التي بدأت تربط الله بالإنسان، والدعوة العليا التي تلقاما الإنسان من خلال هذه الصلاة، ليدخل في وحدة مع الله وشركة. ويكفي برهاناً على ذلك وتوثيقا، أن تسجيل هذه الصلاة العلنية هكذا في الإنجيل أعطت الفرصة لكل إنسان أن يسمع هذا الحديث، ويفهمه، ويحتفظ به لنفسه، ويأخذه كوثيقة لحسابه إن يشاء!!
والمسيح حينما بدأ صلاته، بدأ وكأنه في حالة تجلي, معطيا للعالم ظهره، ليبدأ رحلته السرية الظافرة نحو الآب. وكان المسيح يصلي بتركيز شديد, موجهاً كل مشاعره نحو الآب، ولكن كان التلاميذ حاضرين في صلاته وكأنه يستعلن لهم أقصى ما يمكن من أسرار حياته الخاصة وتعاليمه ومشاعره، كاشفاً لهم ومن أجلهم صلته السرية بالآب، وكنا نحن أيضأ حاضرين بصفتنا كل الذين يؤمنون بكلامه، ولا زلنا حاضرين نسمع صوت الابن يصلي من أجل الكنيسة، وكل الذين يؤمنون به وبكلامه.
وصارت صلاة المسيح هذه كنز إلهامات للكنيسة على مدى الدهور، تستمد منها دستور إيمانها, ومفردات تعليمها، وضوابط سلوكها, ومنتهى رجائها!
أما قلب هذه الصلاة النابض، فهو قول المسيح: «ولأجلهم أقدس أنا ذاتي، ليكونوا هم أيضاً مقدسين في الحق» (يو19:17). بمعنى أن المسيح ارتضى وتعين منذ البدء أن يجعل نفسه ذبيحة خاصة من أجل العالم، لكي يقدم التلاميذ ذواتهم أيضاً ذبائح حية ومقبولة في ذبيحة المسيح، وهكذا يستمر الخلاص حياً فعالاً، حتى يتغير وجه العالم، وبهذا ينتهي عمل المسيح بتكريس البشرية لله!
تقسيم الصلاة: من العسير تقسيم الصلاة تقسيمأ منهجياً صحيحاً، لأنها صلاة؛ والمسيح لم يبوبها مسبقاً، بل
كان يعود إلى ذكر الأمر نفسه في مواضع متباينة.
ولكن بقدر الإمكان قسمها الشراح إلى ثلاثة أقسام رئيسية:
القسم الأول: (1-5). حيث يقدم الابن نفسه إلى الآب في المجد المشترك.
القسم الثاني: (6-19). يقدم وصيته للآب فيما يخص التلاميذ الحاضرين هذه الصلاة.
القسم الثالث: (20-26). يقدم وصيته للآب فيما يخص الكنيسة على طوك المدى.
القسم الأول فيما يخص صلته بالآب 1:17-5
حيث يصلي من أجل:
1- مجده الذي يُنشىء مجداً للآب.
2- عمل الابن على الأرض من حيث غايته.
3- من حيث أسلوب عمله على الأرض.
4- من حيث اكتمال عمله حسب المواصات المعطاة.
5- طلب استعادة مجده السالف على أساس اكتمال كل شيء.
1:17- تَكَلَّمَ يَسُوعُ بِهَذَا وَرَفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ وَقَالَ: أَيُّهَا الآبُ قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ. مَجِّدِ ابْنَكَ لِيُمَجِّدَكَ ابْنُكَ أَيْضاً.
«تكلم يسوع بهذا»: واضح هنا العلاقة الصميمة بين التعليم السابق وبين هذه الصلاة، صحيح أنها كانت نقلة
مفاجئة ولكن دون انقطاع في المنهج العام، فهو انتقال من التعليم فيما يخص الخلاص إلى الدخول العملي في سر الفداء. كانت أخر جملة قالها المسيح قبل دخوله في الصلاة هي: «ثقوا، أنا قد غلبت العالم» (يو33:16)! كان هذا هو المدخل الرسمي لصلاة التكريس التي كرس فيها نفسه للموت، كآخر مرحلة في مراحل خطة الخلاص التي جاء بها من عند الآب.
و«أنا قد غلبت العالم» معناه تقديم الوثيقة التي تعني أنه غلب كل شيء في العالم، ولا يوجد فيه خطية واحدة تمنعه من أن يقدم ذبيحته لأجل الآخرين، وليس عن نفسه. فبطهارته وقداسته الكاملة تأهل أن تكون ذبيحته شاملة لكل العالم، لأنه غلب في معركة العالم. وبناء عليه، فقد استحق أن تُقبل ذبيحته على أساس استعلان مجده جنباً إلى جنب، حتى تُفهم الذبيحة أنها ذبيحة إلهية، لها ما لها من أثر وفاعلية دائمة، ذبيحة الغالب، وكل من يشترك فيها يشترك في انتصارها. فهي ذبيحة إنتصار لحسابنا، كما يقرر ذلك القديس يوحنا في رسالته الاولى: «كل من يؤمن أن يسوع هو المسيح، فقد وُلد من الله، … لأن كل من وُلد من الله يغلب العالم. وهذه هي الغلبة التي تغلب العالم، إيماننا. من هو الذي يغلب العالم؟ إلا الذي يؤمن أن يسوع هو ابن الله» (1يو1:5و4و5)
وما هي «غلبة العالم» بالنسبة للذين آمنوا بالمسيح واشتركرا في ذبيحته، قولاً بالإيمان، وعملاً بأكل الجسد وشرب الدم؟ هى اقتفاء حياة المسيح والاقتداء به: «ينبغي أن أكون فيما لأبي» (لو49:2)، «لكن ما كان لى ربحاً، فهذا قد حسبته من أجل المسيح خسارة. بل إني أحسب كل شيء أيضاً خسارة من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربي، الذي من أجله خسرت كل الأشياء، وأنا أحبها نفاية لكي أربح المسيح.» (في7:3-8)
غلبة العالم هي الانتباه، حتى لا نتعلق بالمادة أو بمظاهر العالم الجاذبة «للرغبة»، المعشوقة لاستعباد الحواس؛ وهي إما خدع راق كالجمال والحب والفن، وإما خداع منحط كالجنس ولذة الأكل والشرب. لذلك نجد أن عنصر «غلبة العالم» سيصبح أساساً لتنويع درجاتنا في السماء، كنهاية النهاية: «من يغلب، فساعطيه أن يجلس معي في عرشي، كما غلبت أنا أيضأ وجلست مع أبي في عرشه» (رؤ21:3)؛ وهذا بحد ذاته أعلى مستويات الوجود الروحي للانسان، الذي آمن بالمسيح واقتفى أثر حياته وتقوى بها.
والملاحظ أن غلبة المسيح على العالم بحياته، أعطته بالضرورة أن يغلب الموت بموته: «رئيس هذا العالم يأتي وليس له في شيء» (يو30:14). وصار لقب المسيح في السماء «الغالب»: «خرج غالباً, ولكي يغلب» (رؤ2:6). وغلبة المسيح منحها لنا كشركة في موته وقيامته, بهذه هتف بولس الرسول: «يعظم إنتصارنا بالذي أحبنا» (رو37:8)، أي أن المسيح كمنتصر سيمسك بيدنا لننتصر ونعبر. فالانتصار أساس الانتقال من العالم إلى الله؛ لأنه لما أكمل المسيح الانتصار على العالم, تهيأ للانتقال إلى الآب.
«ورفع عينيه نحو السماء وقال»: هنا انتقل السيح بنفسه وبسامعيه ودخل مباشرة في الحديث على المستوى الإلهي، فرفع عينيه إلى السماء، يعني اتجه بكل كيانه نحو الوجود الإلهي المطلق، فالسماء رمز الحضرة الإلهية الدائمة. ولأول مرة يسمع الإنسان حديثاً سرياً بين الآب والآب السماوي. فالحديث موجه للآب مباشرة، ولكن على مستوى الأذن البشرية لتسمع، والقلب ليفهم، ويرتقي بوعيه الروحي للمدارك الإلهية العالية. فالإنسان في هذه الصلاة، وبهذه الصلاة، مدعو رسمياً للدخول في هذه الشركة السرية بين الابن والآب، من خلف الابن الواقف يصلي بنا.
«أيها الآب» (نقول باختصار أن «الآب« هو مصدر القوة الإلهية المفكرة الواعية اللانهائية, ومصدر النور والحياة والإرادة والقداسة والمحبة التي لها القوة لتجذب كل شيء. و «الابن« هو الفعل: الفعل لقوة الآب وفكره ووعيه, وهو كلمة هذا الفكر وفعل حياة الآب وعمل إرادته، والمنفذ لحبه المطلق. لذلك كان بالضرورة أن الفعل (الكلمة) يكون هو الخالق كفعل إرادة الآب للخلق. وهو أيضاً وبالضرورة الخالق للكائنات الروحية كفعل حياة وروح مطلق للخلق الواعي. و «الروح القدس« هو روح الآب, وروح الابن, قوة الحياة المطلقة فى الآب والابن, فهو الشاهد لما بين الآب والابن، شهادة مدركة ومنطوقة في الآخرين, وهو قوام الحياة وديمومتها ونموها وسر غبطتها واتحادها بالله.
هكذا جاءت الترجمة اليونانية. ولكن الأصل العبري الذي تكلم به المسيح هي اللفظة المشهورة
«أبا» وبالإنجليزية father. والنطق بهذه الكلمة معناه الاتجاه المباشر بين المسيح وأبيه السماوي. ولكن لم يقل «يا أبانا»، فالصلاة لا تُحسب أنها عامة وكأنه واحد من العامة. ولم يقل «يا أبي»، لذلك فالصلاة تُحسب هنا أنها ليست سرية خاصة, فهي داخلة في الصفة التي تجعلها صلاة البشرية كلها بفم المسيح بين الابن والآب بآن واحد. لذلك يقولها علنا وبالصوت المسموع: «أيها الآب»(1): ففي الحقيقة، هذه الصيغة التي خاطب بها المسيح الله: «أيها الآب» توضح كيف يحصر المسيح نفسه في الجنس البثمري، لا كواحد بل كمن يمثل الإنسان ككل، ولكن بجرأة تفوق قامة البشرية، إنها جرأة من هو وحده يعرف الآب, وله الآب، وهو آت إليه!
«قد أتت السأعة»: لاحظ أن المسيح كان يعرف ميعاد الساعة بالضبط، بل وما تحمله هذه الساعة من المهانة
والمجد، من الذلة والرفعة, من الموت والقيامة! فلما كان العالم يستحثها للمجيء: إما بدفع المسيح للظهور في مجده سواء من أمه أو من إخوته؛ وإما لاستعلان المهانة المخبأة فيها وذلك من اليهود ورؤساء الكهنة؛ كان المسيح يحجزها بسلطان: «لم تأت ساعتي بعد» (يو3:2). ولكن الأن أدرك أنه قد استنفذ زمانه على الأرض، وحان موعد الكأس ليشربها بكل ما فيها، وليعبر إلى الآب عبر الصليب والهوان: «وأما يسوع, قبل عيد الفصح، وهو عالم أن ساعته قد جاءت لينتقل من هذا العالم إلى الآب (أخذ الكأس وذاق وأعطى التلاميذ)» (يو1:13). المسيح كان يعلم أنه (أي العبور) ليس هو موت بل انتقال!! في ذلك يقول القديس أغسطينوس [ وقد بين (المسيح) أن الزمن كله, وأن كل مناسبة عمل فيها عملاً, أو سمح بشيء ما أن يُعمل، فإن ذلك كله هو بتدبير منه، بينما هو لا يخضع للزمن.]
«مجد ابنك, ليمجدك ابنك أيضا»: هذا هو مضمون الساعة، فقد أتت الساعة التي يتمجد فيها الابن. وقد سبق وأن أعطى المسيح لهذه الساعة مضمونها : «وأما يسوع فأجابهما (فيلبس وأندراوس) قائلاً: قد أتت الساعة, ليتمجد ابن الإنسان» (يو23:12). كما أن طلب التمجيد هذا يغطي مضمون هذا الجزء الأول من الصلاة (1-5).
والتمجيد هنا هو في مفهوم المسيح استعلان طبيعته الإلهية للعالم. وحقيقة طبيعته تظهر للعالم بواسطة قيامته المنتظرة, أي انتصاره على الموت؛ التمجيد الذي يستحقه بالفعل في مقابل انتصاره على العالم. فهنا طلب المسيح يختص بصميم الإعلان عن رسالته للعالم للخلاص المنشود. على أن قيامته علنا وصعوده إلى الآب ستؤل حتماً إلى استعلان وتمجيد الآب! حيث يتضح أن خطة الخلاص تبتدىء بإرسال الآب للابن لخلاص العالم، وتنتهي بذهاب الابن إلى الآب، متمماً هذا الخلاص. وهكذا تُستعلن حقيقة وطبيعة الآب، باستعلان حقيقة وطبيعة الابن، الأمر الذي عبر عنه المسيح: «مجد ابنك. ليمجدك ابنك أيضاً». هذا يفسره بولس الرسول بمنتهى الوضوح والقوة في رسالته إلى فيلبي: «لذلك رفعه الله أيضاً, وأعطاه اسماً فوق كل اسم. لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض, ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو «رب» (اسم يهوة فى القديم) لمجد الله الآب» (فى9:2-11)
ويلاحظ من هذا الطلب في الصلاة، أن «مجد ابنك» تجيء ولها هدف مباشر: «ليمجدك ابئك». هنا واضح العلاقة الصميمة والمتبادلة على المستوى الواحد بين مجد الابن ومجد الآب، كما يتضح بالمنطق أن أيا من مجد الابن أومجد الآب لا يُستعلن بدون الأخر، فالارتباط بين مجد الابن ومجد الآب جوهري ولكن المطلوب في النهاية هو مجد الآب! لهذا يلزم أن نربط هذا الطلب: «مجد ابنك ليمجدك ابنك أيضا»، بطلب سابق ألح عليه المسيح وهو في بدء التجربة: «الآن نفسى قد اضطربت، وماذا أقول, أيها الآب نجني من هذه الساعة, ولكن لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة, أيها الآب مجد اسمك. فجاء صوت من السماء: مُجدت وأُمجد أيضاً» (يو27:12-28). وكان تعقيب المسيح على هذا الصوت: «ليس من أجلي صار هذا الصوت بل من أجلكم» (يو30:12). واضح أن هذا الطلب السابق كان هو الطلب لتمجيد اسم الآب، وذلك بالتدخل في عمل المسيح الذي يعمله باسم الآب, والقصد أن يتمجد الآب بموت المسيح، حينما يستعلن غلبته على الموت بالقيامة, فيتمجد عمل المسيح كله، وبالتالى الاسم الذي يعمل به ومن أجله!
وهنا في هذه الآية (1:17) يتكرر الطلب بوضوح، على أساس أن تمجيد الابن يُنشىء تمجيد الآب, وهو القصد والنهاية. ثم لا ننسى، أنه تطبيقاً للآية الاولى (30:12)، فإن طلب المسيح المجد من الآب، لم يكن من أجل نفسه، بل من أجل السامعين، أي التلاميذ والعالم من بعدهم, وبالنهاية ليتمجد الآب.
كذلك, فإن قول الآب من السماء ردا على طلب الابن في الآية (27:12): «مُجدت وأمجد أيضاً»، يوضح أن الآب مجد اسمه في أعمال المسيح كلها, وهو يتمجد في ختام عمله بقيامة المسيح من الموت!
هنا أيضاً بالمثل في الآية (17:1)، فإنه بقدر ما سيتمجد المسيح بالقيامة من الأموات، هكذا سيتمجد الآب حتماً: « … الذق أقامه الله» (أع24:2). ومجمل تعليم المسيح لخصه المسيح فى «السعى لمجد الآب» هكذا: «من يتكلم من نفسه، يطلب مجد نفسه، وأما من يطلب مجد الذي أرسله, فهو صادق، وليس فيه ظلم.« (يو18:7).
تماما كما يلخص المسيح كل عمله على الأرض، أنه كان لحساب الآب، أى لمجده ولاستعلانه: «العمل الذي آعطيتني لأعمل، قد أكملته, أنا مجدتك على الأرض… أنا أظهرت اسمك للناس.» (يو4:17-6)
والمعنى البسيط الذي نستنبطه من مفهوم المجد بالنبسة للمسيح، هو في الواقع استعلان لاهوته وسلطانه المطلق على الموت, أو بمعنى إنجيلي عملي: استعلان قوة قيامته الإلهية وذهابه إلى الآب وجلوسه عن يمينه: و«المجد» في مفهومه الأساسي كأصل ومنبع, هو طبيعة الله في مفهوم سموه المطلق والفائق, وبقدر القرب منه ينتقل المجد إلى الآخرين. فللملائكة «مجد», ولأرواح القديسين في السماء «مجد». وهكذا كما يقول بولس الرسول: «لأن نجماً يمتاز عن نجم في المجد» (1كو41:15)، تعبيرا من صدق القرب والبعد عن الله مصدر كل المجد. و«التمجيد» من قبل الله والمسيح للآخرين ينحصر في معنى «التكريم», بالتقريب من الله مصدر المجد والنور: «وهؤلاء مجدهم أيضاً» (رو30:8)، وبإعطاء «مواهب فائقة»، بمعنى تجهيز الإنسان بقوة إلهية تعمل لاستعلان الله فيه!! وهو تثبيت لمفهوم القرب من الله.
1- ولكن ما هو المجد الذي يطلبه المسيح بمفهومه كغالب للموت بالقيامة وبكرامة الصعود والجلوس عن يمين الآب, كما جاء في الآية الاولى (يو1:17)؟ بل ما هي المحصلة النهائية من كل عمل المسيح على الأرض وفي السماء أيضاً, بالمفهوم العملي الإنجيلي, وخاصة بالنسبة لنا؟
2- هذا يوضعه إنجيل يوحنا، بمنتهى الاختصار والوضوح، في الآية الثانية: «إذ أعطيته سلطاناً على كل جسد، ليعطي حياة أبدية لكل من أعطيته» (يو2:17). والبرهان الأكيد على صلة مجد المسيح بإعطاء الحياة الأبدية لنا, هو أن كل من حاز هذه العطية السماوية، أى الحياة الأبدية، يظل يمجد الآب والمسيح على الأرض وفي السماء، الآن وإلى أبد الابدين!!
3- ثم ما هي الحياة الأبدية في مفهومها العملي الإنجيلي أيضاً؟ وهذا أيضاً يوضحه إنجيل يوحنا بأجلى بيان في الآية الثالثة «وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته» (يو3:17)
4- وما معنى «أن يعوفوك»؟ هذا كان عمل المسيح الذي استلمه من الآب في الآية الرابعة: «العمل الذي آعطيتني لأعمل، قد أكملته.» (يو4:17)
وهكذا يأتي كلام المسيح للآب في صلاته الخالدة، من الآية الاول حتى الآية الرابعة، مرتبأ ترتيباً مذهلاً يفوق كل تصور. وعليه، فلينظر القارىء إلى أي حد يستحق المسيح المجد الذي يطلبه، لا كإضافة عليه، بل كاستحقاق من واقع عمله ونتيجة حتمية له. وإن كان من العدل، لو أنصف العالم، لأعطاه له منذ البدء، ولكنه أنكره عليه؛ فاستعلن مجده في النهاية ليفحم العالم الجاحد؛ بل ليخلصه: «وبالإجماع عظيم هو سر التقوق (حياة المسيح العملية)، الله ظهر في الجسد، تبرر في الروح (بالقيامة من الموت)، تراءى لملائكة (استعلان مجده المنظور من السماء)، كُرز به بين الأمم، أومن به في العالم (أخيرأ أدرك العالم حقيقته)، رُفع في المجد (آخر منظر سماوي له).» (اتي16:3)
كذلك يلزم أن نتبه أن «مجد» المسيح ليس صفة يمكن أن ندركها بمفردها، لأنها كما سبق وقلنا هي استعلان حقيقته الإلهية التي لا تُدرك إلا بالإيمان، ومن خلال عمله الذي أكمله على الأرض والذي لا يزال يُكمله عنا في السماء. وغاية استعلان المسيح، هي أن يدرك العالم حقيقته الإلهية الجوهرية، أنه والآب واحد في المجد؛ إلى هنا ينتهي عمل المسيح وينتهي معه التاريخ. فالتاريخ كله وُضع لكي ينتهي عند كمال استعلان المسيح، أي بلوغ الخلاص الكلي.
(1) ويُحسب هذا استعلاناً وكشفاً لسر العلاقة المباشرة والاتصال الجوهري الذاتي بين الابن والآب في وضعه المطلق، هذا الذي استلمته الكنيسة وعبرت عنه أيضاً بالنداء «يا أبا الآب»: «إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضأ للخوف (من الله بعد) بل آخذتم روح التبني الذي به نصرخ يا أبا الآب» (رو15:8)، وقد كررها بولس الرسول لترسخ فى أذهاننا كميراث حقيقي. «ثم بما أنكم أبناء، أرسل الله روح ابنه (البنوة) إلى قلوبكم صارخا يا أبا الآب» (غل6:4), وكأن المسيح في قلوبنا يدعو الآب بدالة البنوة.
2- إِذْ أَعْطَيْتَهُ سُلْطَاناً عَلَى كُلِّ جَسَدٍ لِيُعْطِيَ حَيَاةً أَبَدِيَّةً لِكُلِّ مَنْ أَعْطَيْتَهُ.
«إذ»: «إذ» أتت هنا بمعنى «كما», كما جاء في الآية 22:17 «ليكونوا واحدأ، كما أننا نحن واحداً»؛ وأيضاً في 21:17 «ليكون الجميع واحداً، كما أنت أنت أيها الآب في وأنا فيك». فالمعنى هنا هو التساوي في المناسبة. لذلك، فهذه الآية شرح لزومية وأحقيقة ما سبق، بمعنى أن يطلب المجد عل قياس، أو بداعي، أنه أعطي سلطاناً ليعطى الحياة الأبدية لكل جسد!
هنا القول: «أعطيته سلطاناً على كل جسد» تفيد بحد ذاتها ألوهيته المطلقة. فـ «كل جسد» تعني «كل بشر» بتعبير العهد القديم. وهذا هو سلطان الله وحده! «يا سامع الصلاة إليك يأتي كل بشر» (مز2:56). واعطاء الابن الحق بإعطاء الحياة الأبدية لكل بشر، هي واحدة من المطلقات التي استلمها الابن، فقد أعطاه الآب كل شيء بصورة مطلقة: «الآب يحب الابن. وقد دفع كل شيء في يده» (يو35:3)، «يسوع وهو عالم أن الآب قد دفع كل شيء إلى يديه…» (يو3:13)، وأعطاه الدينونة: «الآب لا يدين أحداً، بل قد أعطى كل الدينونة للابن.» (يو22:5)
من هذا يتبين أن المسيح كان يخدم خدمة المجد، وهذا معنى قول الصوت من السماء: «مّجدتُ»» (يو28:12)، أما طلب المسيح للمستقبل فقد حُفظ له بوعد: «أُمجد أيضاً».
ولكن للأسف فإن خدمة المجد هذه، بالرغم من أنها كانت في صميم المجد، إلا أنها لم تكن مفهومة ولا مُدركة, بل وكان مُفتريأ عليها. هذا يعني أن مجد المسيح في أعماله وحياته كلها على الأرض، كان مختبئاً في النهاية، أو أنه كان يعمل على أساس استعلان النهاية.
«على كل جسد… لكل من أعطيته»: المعنى قد يبدو متضارباً، إذ كيف أعطي الابن سلطاناً على كل جسد، ثم يعود ويقتصر الفعل على من أعطاه الآب فقط ؟! فهل للمسيح سلطان على من يريد الآب أن يعطيهم حياة أبدية؟ نعم، فسلطان الابن مطلق بالفعل على كل جسد، ولكن منهم من لن يقبل الحياة الأبدية التي يدعو إليها الآب، برفضه المسيح، هؤلاء يبقى سلطان المسيح عليهم للدينونة وليس للحياة الأبدية!!
ولكن ما هي الحياة الأبدية التي أعطي الابن سلطاناً أن يعطيها لنا؟
3- وَهَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلَهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ المسيح الَّذِي أَرْسَلْتَهُ.
الحياة الأبدية:
1- هي اسم قد استخدمه المسيح في إنجيل القديس يوحنا للتعبيرعن نفسه: «أنا هو القيامة والحياة» (يو25:11)، وعن عطائه لهذه الحياة. فلأن له هذه الحياة في ذاته، مثل الآب، فهو يُحيي من يشاء مثل الآب (21:5و26). ولأنه نزل من السماء، ودخل العالم ملتحماً فيه بتجسده، فقد أعطى العالم هذه الحياة بجسده (37:6), وفوق كل شيء ، فهو يمنح حياته لأخصائه الذين يلتصقون به ويتبعونه من كل قلوبهم (24:5)، وللذين يسمعونه ويدخل صوته إلى أعماق قلوبهم (24:5). وبسبب كل هذا العطاء المتعدد الوسائل للحياة، يقول المسيح إنه هو «الحياة» (25:11)، كقوة فعالة مُحيية .
ولكن كل هذا العطاء يتركز في تقديمنا إلى الله أبيه من خلال عطائه لهذه الحياة (6:14).
أما الوسائل التي استودعها سر الحياة لكي نقربها ونحن في موضعنا على الأرض, دون عناء, فهي تكمن في سر الشكر بكسر الخبز وشرب الكأس بعد البركة (الإفخارستيا) (35:6و48)، وفي سر الماء بالدفن فيه، وكأننا نموت لنحيا ونقوم معه (المعمودية) (5:3), وفي سر الكلمة (10:4 و63:6 و68:6), وفي سر الإيمام الحقيقي (38:7).
أما كُنة هذه الحياة بالمفهوم الإنساني الاخباري، فهي النور الحقيقي, أنا هو نور العالم, ونور الحياة (12:8)، «والحياة كانت نور الناس» (يو4:1)، النور الذي يدخل الإنسان فيضيء كيانه ويفتح وعيه، ليدرك نفسه فيدرك خالقه. يدخل الإنسان في النور، فيدرك الله، ويعيش فى حضرته (1يو:4:1)، لأن «الله نور.» (1يو5:1)
ب _ «والحياة الأبدية» في إنجيل القديس يوحنا هي المقابل «لملكوت الله» في الثلاثة الأناجيل الأخرى. غير ان اسم «ملكوت الله» هوتعبير من تعابير التراث اليهودي، يفهمه اليهود على أساس أن الله كان يملك على إسرائيل على المستوى الفكري الضيق. في إنجيل يوحنا، المسيح يخاطب العالم كله، فالحياة الأبدية بالنسبة له هي الحياة الأفضل والأعلى والدائمة، بالمقارنة مع الحياة الأقل التي يألقها الناس عامة تحت نور الشمس على الأرض، وفي «ظل الله» وليس في نوره، حياة طبيعتها المادة المحسوسة التي تقيم أودها من أكل وشرب وتنفس، يحكمها الزمان والمكان والحرارة والجاذبية، ومجدها الطول والعرض والإرتفاع. الحياة الأبدية ليست كذلك، فهي حياة متحررة من كل ضوابط المادة. فإن كانت الحياة الحاضرة يلزمها عقل الحسيات والمدركات الحسية، فالعقل لا يصلح كأداة لمعرفة الحياة الأبدية. هنا تنبري الروح الواعية بالعقل العالي الواعي، الذي يدرك المطلقات، من نوع طبيعة الحياة الأبدية نفسها؛ هذا العقل يعمل الآن بصورة جزئية، لذلك فالإنسان أعطي له في هذا الزمان إدراك الله والحياة الأبدية إدراكاً جزئياً.
وكلمة «االحياة الأبدية» ليست غريبة عن الفكر والتراث اليهوديين، فهي واردة في الأسفار بمفهوم معنى الخلاص، بصيغة مبهمة. ولكي نفرق بين الحياة في العالم والحياة مع الله، أعطي للحياة صفة الديمومة الإلهية «الأبدية». فكلمة «الحياة» وهي مُعرفة وموصوفة بالأبدية، تُعرف وتُقرأ على مستوى الإنسان، أما عل مستوى الله والمسيح، فلا يُقال أنه الحياة الأبدية بل «الحياة», كقوة وليس كاسم, فهو الذي يخلق الحياة ويقيمها، وهذا يتضح من وصف المسيح لكلماته الخارجة من فمه بل من كيانه الإلهي: «الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة» (يو63:6)، لأن «الكلمة» في المفهوم الاعتباري العال، هي تعبير عن الذات والكيان (يو68:6).
ج- فإذا فهما الحياة الأبدية عل ضوء معنى ملكوت الله، فهي الحياة التي يملك الله عليها بروحه، حيث يحيا الإنسان بقيادة روحه القدوس, وحسب مشيئته، سواء بالفكر أو بالعمل وجعله الغاية لكل شيء. ودخول الإنسان الحياة الأبدية هو كدخوله ملكوت الله، وكأن الإنسان يولد لحياة أعلى، ليس عشوائياً كما يولد الإنسان من بطن أمه, بل بالوعي الجديد لحياة أخرى, حيث عامل الإيمان هو الأساس، فيرتقي الإنسان بأفكاره وأعماله وكل ملكاته، وكأنه خُلق من جديد. وفي الحياة الأبدية, التي يحصل عليها الإنسان, يكون الله قطبها الجاذب وعنصر ديمومتها الفعال، يستمد منه الإنسان صفاته الجديدة، حيث يُقال, عن حق, أن الإنسان يصير شريكاً في الطبيعة الإلهية: «بمعرفة الذق دعانا بالمجد والفضيلة, اللذين بهما قد وُهب لنا المواعيد العظمى والثمينة، لكي تصيروا بها شركاء الطبيعة الإلهية, هاربين من الفساد الذي في العالم بالشهوة.» (1بط3:1-4)
وتكون حيازة الحياة الأبدية، هنا، كالعربون، كسبق مذاق، وهناك بالامتلاك والإقامة. لهذا يُقال عن حق أننا نرث ما لله في المسيح يسوع كأبناء بالتبني.
د- إعطاء الحياة الأبدية: هنا يجيء إعطاء الآب السلطان للابن على كل جسد، أي على الخليقة البشرية كلها, ليعطي الحياة الأبدية حسب مشيئة الآب، في هذا الزمان استعلاناً سرياً لماهية «الابن» المتجسد, فهو يمتلك الحياة في ذاته أولاً: «لأنه كما أن الآب له حياة في ذاته، كذلك أعطى الابن أيضاً أن تكون له حياة في ذاته» (يو26:5). ثم إن له سلطان الله في إعطاء الحياة الأبدية منذ الآن: «من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني، فله حياة أبدية، ولا يأتي (مستقبلاً) إلى دينونة، بل (الآن) قد انتقل من الموت إلى الحياة» (يو24:5)
معنى ذلك أن الآب والابن يشتركان معاً في إعطاء الحياة الأبدية، حسب نص الآية: «ليعطي حياة أبدية لكل من أعطيته»؛ المسيح يعطي بالفعل، والآب بالمشيئة والاختيار. ويستحيل فصل الفعل عن المشيئة المتتمة له, ولا المشيئة عن الفعل؛ فالآب «والابن المسيح» يعطيان الحياة الأبدية؛ وبناء على ذلك يتحتم أن تكون الحياة الأبدية هي معرفة الآب والابن معاً، بحيث لو قال المسيح: «وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك» فقط، لاستحال الأمر, لأن الحياة الأبدية أُعطيت بالابن يسوع المسيح. فبدون الابن يسوع المسيح، لا تكون حياة أبدية للناس. وكما أنه بغياب الحياة الأبدية، تغيب معرفة الله في ذاته، وهي المعرفة المؤدية لخلاص الإنسان، وتنحجب طبيعه الله كآب وابن عن الوعي البشري؛ كذلك فإنه بدخول الحياة الأبدية، تنكشف حقيقة الآب والابن، ويدرك الإنسان سر الله والخلاص.
من هذا يتضح حتمية ذكر: «ويسوع المسيح الذى أرسلته» مع «يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك», لأن معرفة الآب والابن هي جوهر الحياة الأبدية، وهي جوهر الإيمان بالتالى؛ هي معرفة ليست بالفكر المجرد، بل بطاقة الحياة الواعية العاملة لحساب الله والحياة الأبدية، كقوة وعي إيماني تقربنا إلى الله، وتحضرنا أمامه.
ه- ولكن ما هي الحياة الأبدية على مستوى الاختبار؟: لكي نعرف ما هي الحياة الأبدية على مستوى الاختبار اليومي، يلزم أن نعرف أولاً الفرق بين الحياة الأرضية التي تنتهي بالموت, وبين الحياة الأبدية التي لا يوجد فيها موت. فالحياة المائتة كلها متغيرات؛ فالفرح المعروف فيها قابل للتغيير وينقلب إلى حزن، والسلام ينقلب إلى قلق واضطراب, والحب ينقلب إلى بغضة وكراهية, والأمل والرجاء إلى يأس وقنوط .
أما طبيعة الحياة الأبدية, فكل صفاتها وأحوالها دائمة, غير قابلة للتغيير للضد, بل إلى الأفضل دائماً.
والآن، فإن كل مؤمن بالمسيح لا بد وأن يكون قد جاز فترة من فترات الفرح الروحي المبهج، وحمل أثارها في نفسه، يذكرها فتنتعش روحه، سواء كان ذلك على أثر سماع عظة أو قراءة كتاب روحي أو فصل من الإنجيل أو أثناء الصلاة. تلك اللحظات التي لا زالت منطبعة في نفسه وروحه، هي لحظة من لحظات الحياة الأبدية, ومذاقها فوق الطبيعة، وهي كافية أن تعزي الإنسان أثناء مصادماته لتجارب الحياة. ولكن يوجد مؤمنون جازوا فترات أطول، من هذا النوع من الفرح أو السلام أو الغبطة الروحية» حيث صارت لهم مجالاً دائمأ يلوذون به في مواجهة العواصف وزعازع الحياة الأرضية.
وما يُقال عن الفرح، يُقال عن السلام الروحي, وكل تذوقات نعم الحياة الأبدية الأخرى التي تطفح على النفس, فتملأها هدوءا وطمأنينة ورجاء وعفة وقداسة وتمجيدا دائماً والتصاقا حاراً بالرب. وهؤلاء الذين يذوقون هذه يختبرون الصلاة بالروح, والسجود بالروح، والتسبيح بالروح، ببهجة تفوق العقل.
هذه هي الحياة الأبدية، وهذا هو سبق مذاقها. وأوضح صفاتها، أن أثرها لا يزول على مدى عمر الإنسان كله, وهي تجعله يسخر من تقلبات الأيام والسنين, وتبقى حصناً أميناً للنفس.
هذه هي الحياة الأبدية المبهجة التي سوف نحيا ملئها فوق. هذه هي الحياة الأبدية التي هي عينها الحضرة الإلهية، وهي نفسها تذوق العشرة مع المسيح, بل هي حياة المسيح والآب. لذلك يقول القديس يوحنا، إنه لما ظهرت الحياة الأبدية في شخص يسوع المسيح، والتي كانت مخفية في الله، ورآها في شخصه، وشاهدها بروحه في تعاليمه, ولمسها بقلبه وروحه لمس اليد, صارت له شركة مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح (أقرأ 1يو1:1-4)؛ أي أن معرفة الآب وابنه يسوع المسيح، بالاستعلان، هي عينها الحياة الأبدية, وهي عينها الشركة مع الآب والمسيح! بل والإخبار بها يعطي نفس الشركة: «الذي رأيناه وسمعناه, نخبركم به، لكي يكون لكم أيضاً شركة معنا.» (1يو3:1)
«أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته»:
«يعرفوك»: صيغة الفعل هنا استمرارية، فنحن هنا بصدد الحياة الدائمة والأبدية. والمعرفة هنا منصبة على «أنت الإله الحقيقي وحدك» أي الآب؛ و«يسوع المسيح الذي أرسلته» هوا الابن المتكلم عن نفسه ولكن بصيغة الغائب. ومعرفة الله ليست كمعرفة الناس أو الأشياء أو المعارف العالمية. فأداة معرفة الدنيا هي العقل المحسوس العامل بالمخ البشري. وأما معرفة الله، فلا تؤتى بالعقل، بل بالوعي الروحي, وهو العقل أو الذهن العالي المختص بالمطلقات, وهذا يكتسب المعرفة بالاستعلان، أي يُستعلن له الحق، فيدركه. والاستعلان يأتيه من فوق، من خارج الكيان الإنساني، بالخبر الإلهي، أي بالبشارة بأمور الله المفرحة والسارة، سواء بالكلمة المنطوقة أو المكتوبة أو الرؤيا: « إن كان منكم نبي للرب, فبالرؤيا أستعلن له, في الحلم اكلمه, وأما عبدي موسى، فليس هكذا بل هو أمين في كل بيتي، فما إلى فم وعياناً أتكلم معه, لا بالألغاز, وشبة الرب يعاين.» (عد6:12-8)
والمسيح افتتح عهد الملكوت أو الحياة الأبدية للانسان، على مستوى كلمته: «الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة» (يو63:6). هنا المسيح يُعرفنا بالحياة التي فيه، بواسطة سماع الكلمة وقبولها: «الحق الحق أقول لكم: الحق الحق اقول لكم: إن من يسمع كلامي, ويؤمن بالذي أرسلني، فله حياة أبدية، ولا يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة.» (يو24:5)
التعرف على المسيح، هو هو التعرف على الآب, لأن رسالة المسيح هي استعلان الآب الذي فيه، بالكلمة والعمل: «الذي رآني, فقد رأى الآب» (يو9:14)). فالمسيح هو مستعلن الآب. والتعرف على المسيح والآب هو الحياة الأبدية. على أن المعرفة هنا لا يمكن أن تسمى معرفة فكرية أوعقلية, بل معرفة بالا ستعلان، أي كشفت الحقيقة؛ والحقيقة لا تنكشف إلا لمستحقيها، أي تُستعلن للآخذين فقط. فالله يُستعلن، أو يُعرف معرفة حقيقية لأخصائه، أي الذين له، أى الذين امتلكهم وامتلكوه. فالمعرفة للآب والابن هي بعينها شركة مع الآب والابن, كما يُعلن القديس يوحنا: «فإن الحياة أُظهرت، وقد رأينا، ونشهد، ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب، وأُظهرت لنا. الذي رأيناه وسمعناه, نخبركم به, كي يكون لكم أيضاً شركة معنا, وأما شركتثا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح.» (1يو2:1-3)
واضح هنا أن «الحياة» هي المسيح، و»أظهرت» بالتجسد, وقد اأُستعلنت في المسيح، فعرفوا الآب والابن. وما أدركه القديس يوحنا بالاستعلان المباشر بمعاشرته للمسيح نفسه، ينقله لنا، أي ينقل الاستعلان الذي حصل عليه، ينقله لنا بالخبر، ونحن من هذا الخبر نحصل على الاستعلان كاملاً بالإيمان بصدق الإنجيل. أما القديس يوحنا فبالاستعلان الذي بالإيمان حصل على شركة في المسيح والآب, وهو يدعونا إلى نفس الشركة معه، على مستوى تصديق الإيمان لقبول الاستعلان. هذه هي «معرفة» الآب والابن.
كما نلاحظ في هذه الآية (17:3) أن «معرفة الآب» تساوي «معرفة يسوع المسيح» في بلوغ الحياة الأبدية. هذا التساوي هو على مستوى الفعل والعمل. هنا ممارسة حقيقية نحصل بها حالياً على الغبطة، التي هي عربون سعادتنا القادمة الدائمة. ولكن ملء معرفة الآب والمسيح مذخوة لنا في الحياة الأخرى، التي هي بعينها ممارسة سعادة الحياة الأبدية ذاتها.
في سفر الرؤيا نجد أن الصفات الأساسية التي بها يُخاطب الله الآب هي نفسها التي يُخاطب بها ويوصف المسيح الممجد. ففي الآية (10:6) نسمع أرواح الشهداء تصرخ لدى الله قائلة: «وصرخوا بصوت عظيم قائلين: حتى متى أيها السيد القدوس والحق لا تقضى وتنتقم لدمائنا من الساكنين على الأرض», ثم نجد الوحي يصف المسيح بنفس الصفات: «هذا يقوله القدوس الحق الذي له مفتاح داودى الذي يفتح ولا أحد يُغلق, ويُغلق ولا أحد يفتح.» (رؤ7:3).
«أنت الإله الحقيقي وحدك, ويسوع المسيح الذي أرسلته»: المسيح يوجه الكلام للآب. ولكن كما يوجه المسيح الكلام للأب، نوجه نحن نفس الكلام للمسيح، حيث نقول: «أنت الإله الحقيقي وحدك». لأن صفة الألوهية هي للآب كما للابن، وصفة الحق هي للآب كما للابن, لأن الحق في المفهوم اليهودي ينصب على أمانة الله، واستقامة وصاياه، واستجابته لسؤال الإنسان البار، ووفائه بوعده إذا وعد. ها يظهر الإتجاه الفعلي العملي «للحق». وبالمفهوم الهلليني (أي اليوناني)، فإن الحق هو ما ليس «شبه حق», فهو ليس خيالاً أو كذباً، أي الاتجاه الفكري التصوري. والمسيح هو كذلك بالمفهومين: فهو«الصادق الأمين» (رؤ14:3؛ 11:19). وصفة «الواحدية» هي للآب كما للابن، لأنها صفة الطبيعة والجوهر الإهي أساساً. فالطبيعة الإلهية بسيطة بساطة مطلقة، أي غير غير مركبة، فالإنسان له طبيعة مركبة من جسد ونفس وروح، الله ليس كذلك. فالله روح كُلى مُطلق، لهذا يستحيل معه الثنائية، كما يستحيل فيه التقسيم أو الانقسام. فالله واحد كلي صاف، فالآب واحد، والابن واحد، لأن جوهرهما واحد بسيط غير منقسم قط.
من ها نفهم صفة الواحدية لله، أنها صفة جوهرية من وقع طبيعته وليس من جهة عدده؛ فحينما نقول: «الله واحد» فنحن نتعمق طبيعته، لا درءأ لتعدد الآلهة، ولكن وصفاً لحقيقة الله ذاته، على أن «الواحد المطلق» هو بآن واحد «الحق المطلق» وهو هو «الإله الواحد» حتماً.
ولكن المسيح جاء ليعلن الآب المحتجب. فمعرفة الآب يستحيل أن تتم بدون المسيح، الذي جاء ليستعلنه، ويستعلنه في ذاته، وفي طبيعته. فذكر المسيح مع الله الآب، هو بقصد التكميل الاستعلاني وليس الإضافة. وكما أن الابن يُمجد الآب، والآب يُمجد الابن، كذلك فالابن يستعلن الآب، والآب يستعلن الابن بالروح الذي أرسله. لذلك، يستحيل معرفة أحدها بدون الآخر. لذلك يقول المسيح ما هو مُعتبر تحصيل حاصل، أن «الحياة الأبدية هي أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته». وكأنما هو يقول: إن الحياة الأبدية هي معرفة الآب والابن, الله الواحد بذاته.
والمسيح لم يقل هذا بصيغة المتكلم، لأن الممطق يمنع القول بأن الإله الحقيقي هو «أنت وأنا»، فقال بصيغة الغائب: «أنت, وهو» حيث مضمون «هو» في المفهوم اليهودي اللاهوتي بحسب الأسفار المقدسة تعني «الإله» في أبغ تعبير سري، هذا إذا جاءت من موقف المتكلم، كما وردت بالعبري مئات المرات في الأسفار المقدسة «أنا هو» الله.
وتطبيقاً لما قلناه, نقرأ للقديس يوحنا في رسالته الاولى: «ونحن في الحق, في ابنه يسوع المسيح, هذا هو الإله الحق والحياة الأبدية» (ايو20:5). وواضح هنا أن القديس يوحنا يعطي للمسيح كل الصفات التي لله الآب بلا تفريق، وهذا يعني بصورة جلية أن المسيح يسوع هو الاستعلان الكامل لله الآب الحامل لكل مفاته، الذي فيه وبه يُعرف الله الآب معرفة حقيقية وكاملة, وأن ملء الله الآب الكامل فيه.
4:17- 5 أَنَا مَجَّدْتُكَ عَلَى الأَرْضِ. الْعَمَلَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي لأَعْمَلَ قَدْ أَكْمَلْتُهُ. وَالآنَ مَجِّدْنِي أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ عِنْدَ ذَاتِكَ بِالْمَجْدِ الَّذِي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ الْعَالَمِ.
الآيتان هنا مترابطتان, وكأنهما شطران لبيت شعر واحد. مضمونه: «أنا مجدتك على الأرض, والآن مجدني أنت في السماء». كان المجد الذي طلبه المسيح في أول صلاته: «مجد ابنك», يختص بتدخل الآب لتكميل باقي المهمة العظمى، وهي الجزء الأكثر إيلاماً وإذلالاً لابن الله في عملية الموت, بكل ما تثمله من العار والهزيمة الصورية.
أما المجد الذي يطلبه هنا, فهو مجد الاستحقاق للعمل، وكأنه قد اكمل «الآن» على الأرض وهو على عتبة الانطلاق إلى الآب. إذ لم يعد سبب للبقاء في حالة الإخلاء التي بقي فيها لحين تكميل المهمة العظمى.
أما طلب المجد في البداية، فالمسيح قدمه بصيغة الغائب غير المباشرة: «ابنك». ولكن هنا يقدم الطلب بصيغة المتكلم : «أنا», لأن الأول يختص بعلاقة عامة، الابن بالآب. أما في الثاني فيسوع المسيح يتكلم على الأرض بمواجهة في حالة التجسد، وقد أكمل الابن المهمة. ولكن في كلتا الحالتين تظهر العلاقة الوثيقة بين الآب والابن بصورة صارخة.
«أنا مجدتك على الأرض»: الرسالة التاريخية أُكملت, وهي بحكم المنتهية، وجاهزة الآن لتقديم الختام. صحيح أنها في اتضاع العبد، ولكن العبد نجح في اتضاعه الكامل وطاعته المطلقة في تنفيذ المهمة، وأكمل استعلان الآب بالقول والعمل والآية. وهذا قمة التمجيد للاب. فتمجيد الآب تم باستعلان ابوته للمسيح وللانسان في كل العالم. هذا نراه اليوم بعد ألفي سنة بصورة فائقة النجاح، فاكل ينادي الآب: «يا آبانا»، بألوف وملايين الأفواه والقلوب، في كل يوم، بل في كل لحظة.
أما تمجيد المسيح على الأرض، فقد تم باستعلان بنوته لله، وهذا صار دستور إيمان كل مسيحيي العالم .
وأما تمجيده في السماء، فقد حازه بالدرجة الاولى، إذ صار المسيح والآب واحداً في كل إيمان.
ومن الآن والى الأبد سيظل تمجيد الله الآب يتم عن طريق تمجيد الابن يسوع المسيح وبه. فبدون الابن، لا يُمجد الآب، لأنه لا يوجد إلا وسيط واحد بين الله والناس، يسوع المسيح، ولأن بدون استعلان الابن (تمجيده) لا يُستعلن الآب (تمجيده). فالتمجيد هو إعلاذ الحق. فهو والاستعلان واحد.
«العمل الذي أعطيتني لأعمل, قد أكملته»: «أكملته»، تفيد الكمال أكثر مما تفيد الانتهاء منه، ويتضح ذلك من المقابل اللاتيني consommasi، وقد سبق أذ استخدم الإنجيل نفس اللفظة «أكمل» كمعيار أساسي وضعه المسيح نصب عينيه مذ البداية: «طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله» (يو34:4). واللفظتان العربيتان «أكمل», و«أتمم» لا تفيدان صميم المعنى الذي يهدف إلى «الكمال» أي التكميل على مستوى الكمال. فعمل المسيح يفوق معنى الأداء وحسب!!
وقول المسيح من العمل ككل أنه قد «أُعطي له»، يفيد أنه يعمل عمل طاعة المشيئة الآبوية. فالعمل لم يختاره المسيح لنفسه، لذلك حُسب بالفعل أنه ذبيحة وفداء، كإسحق تحت يد إبراهيم مربوطاً. وقد سبق المسيح وأوضح هذا مرارا: «لأن الأعمال التي أعطاني الآب لأكملهت، هذه الأعمال بعينها التي أنا أعملها هي تشهد لى أن الآب قد أرسلني» (يو36:5). لهذا يستعذب النساك والرهبان الطاعة، وبالأخص إذا كانت تحت يد شديدة، للقيام بأعمال شاقة أو حقيرة، إذ تُحسب لدى الضمير الصاحي والنفس الواعية أنها ذبيحة مقبولة لدى الله. ولا يستثقل العمل الحقير إلا الجهال الذين لم تنفتح بصيرتهم بعد على ذبيحة المسيح. ولذلك قيل أيضاً عن موس النبي: «… مفضلاً بالآحرى أن يُذل مع شعب الله، على أن يكون له تمتع وقتي بالخطية، حاسباً عار المسيح غنى أعظم من خزائن ممصر، لأنه كان ينظر إلى المجازاة.» (عب25:11-26)
«والآن مجدني أنت أيها الآب عنه ذاتك, بالمجد الذي كان لى عندك قبل كون العالم»: الآن في فم المسيح رفيقة الساعة التي جاء من أجلها، وقد أكمل ذبيحة التاريخ الطوعية التوافقية بحسب مشيئة الآب تماماً وكمالاً، وقد أضمر لنفسه ما أضمر اليهود ضده وكما صمم عدو البشرية لهم، أن يُكمل ذبيحة تواضعه بذبيحة موته, موت الصليب. والآن المسيح يطلب أن يرتفع ابن الإنسان من الأرض إلى السماء، لأن عمل المسيح على الأرض وعمله في السماء وحدة واحدة لا تتجزأ!! والآن، وهو يطلب المجد والبهجة، كختام لعمله المضني على الأرض الذي أكمله في عمق التاريخ الإنساني الحزين، يطلب في الحقيقة تجلي تاريخ الإنسان وبلوغ نهايته المفرحة، وبالتال تجلي الخليقة العتيقة, بعد أن دان عالم الظلمة الذي رفض أن يتبع النور، وطرح رئيسه خارج دائرة التجديد، وقاد عالم الإنسان في النور كخليقة أخرى تماماً، وأدخلها في مجالها الأعلى الاخروي. وهي وإن بدت محصورة نوعا ما في شخصه, إنما كان هو ولا يزال كباكورة وكسابق لأجلنا. فالذين دخلوا معه، ويدخلون كل يوم، هم شهادة مدموغة بالتحول الخفي والسري الذي يتغير به العالم دون ضجيج. وهكذا تم، بالمسيح, القول الأول: «فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس.» (يو3:1)
«عند ذاتك»: حيث تترجم “عند” أحيانأ «مع». ففي الآية (يو38:8): «أنا أتكلم بما رأيت عنه أبي»، وفي الآية (يو17:14) : «… لأنه ماكث معكم ويكون فيكم». ولكن بالنسبة للمسيح والآب، فمجد الابن ومجد الآب هما المجد الواحد للذات الإلهية. فكلمة «عند ذاتك» تأتي هنا بمعنى الاتصال اللاهوتي المباشر الذي يفيد استعلان الوحدة القائمة بالمجد في الله بين الآب والابن. هنا عودة إلى القول الأول: «وكان الكلمة الله» (يو1:1)، لأن طلب المسيح أن يأخذ المجد الذي كان له عند ذات الآب قبل كون العالم، هو بالنسبة لنا مقارنة استعلانية واضحة بين حالة المسيح الآن في الجسد، وحالته قبل تجسد «الكلمة». الآن في تخل طوعى عن مجده لتأدية مهمة لا تقبل الظهور في المجد، لأنها مهمة تحمل عار الإنسان وذله تحت الخطية والناموس، وقبول هوان الموت كعقوبة عن كل زي جسد. ومن الآن يتطلع المسيح لما كان له قبل التجسد، أي يستعلن لاهوته, لتستعلن وحدته مع الآب, هاتان اللتان لم تفارقاه قط، لا بالروح ولا بالجسد ولا لطرفة عين. ولكن الإخلاء كان على مستوى الإخفاء عن أعين الناس ومدارك الشيطان. والآن يطلب المسيح الاستعلان لما هو له, عند ذات الآب, قبل الخليقة، أمام تلاميذه واليهود والعالم كله، حتى تبلغ رسالة تواضعه وطاعته حتى الموت على الصليب ذروة قوتها وفعلها الفدائي الخلاصي, فالذي تألم وصُلب وقُبر وقام، لم يكن هو ابن الإنسان وحسب، بل هو هو ابن الله الوحيد الواحد مع الآب.
وفي قول المسيح: «بالمجد الذي كان لى عندك قبل كون العالم»، تصريح بلاهوته كحقيقة ينبغي أن يُعترف بها، ففبل كوذ العالم لم يكن إلا الله وحده!
هذا الطلب الذي يطلبه المسيح الآن, أي استعلان حقيقة نفسه كابن الله وطبيعته الإلهية, كان قد ألمح إليه سابقاً حينما أعثر فيه تلاميذه لما قال عن أكل جسده وشرب دمه: «فعلم يسوع في نفسه أن تلاميذه يتذمرون على هذا، فقال لهم: أهذا يعثركم؟ فإن رأيتم ابن الإنسان صاعداً إلى حيث كان أولاً؟» (يو61:6-62))
ويأتي الطلب الأول والطلب الثاني بخصوص المجد, في تطابق بديع مع مجد الآب واستعلان الذات الواحدة التي تتبادل المجد في ذاتها هكذا:
أنا مجدتك على الأرض، فمجدني أنت عند ذاتك في السماء.
أنا أعلنت حقيقة أبوتك فيّ, أي في ذاتي, للناس, أعلن أنت حقيقة بنوتي فيك, أي في ذاتك.
أنا استعلنت حقيقتك في عمق الزمان وفي العالم، استعلن أنت حقيقتي الآن في الأزلية قبل كوذ العالم.
والآن، أيها القارىء العزيز، قد يبدو في نظرك أن طلب المسيح المجد لنفسه واستعلان لاهوته ووحدته مع الآب، أمراً هينٍاً وتحصيل حاصل, وكأنه ليس من جديد في الموضوع. ولكن لننبه القارىء أن المسيح الآن يحمل جسد الإنسان ونفسه وروحه وفكره في ذاته، فهو مُثقل بطبيعة عاجزة غريبة كل الغرابة عن طبيعة الله!! فصعوبة هذا الطلب لا تخص المسيح «كابن الله» في ذاته, الذي لم يفارقه مجد اللاهوت؛ ولكن هذا يخص تجسده، أي طبيعة الإنسان الذي فيه، أنت وأنا وكل خاطىء مثلنا!! المسيح بطلبه هذا يطلب استحقاق ما لا يحق، بجراءة منقطعة النظير، تسندها طاعته حتى الموت، أن يكون للانسان الذي فيه ولطبيعته البشرية هذه الشركة في المجد عينه الذي يطلبه كابن الله!! فهذا الطلب هو بحد ذاته أعظم أعمال المسيح التشفعية لحساب الإنسان، باستحقاق ذبيحة طاعته, فهو الذي يحمل إكليل جوهر الفداء والخلاص لبني الإنسان، والذي ينتهي بالمجد!
+ «ونحن أموات بالخطايا، أحيانا مع المصيح. بالنعمة أنتم مخلصون، وأقامنا معه وأجلسنا معه في السماويات في المسيح يسوع» (أف5:2-6)
+ «… وتعرفون محبة المسيح الفائقة المعرفة، لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله.» (أف19:3)
+ «الذي سيغير شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده, بحسب عمل استطاعته أن يخضع لنفسه كل شيء.» (في21:3)
+ «شاكرين الآب الذي أهلنا لشركة ميراث القديسين في النور, الذي أنقذنا من سلطان الظلمة، ونقلنا إلى ملكوت ابن محبته. (كو12:1-13)
+ «متى أُظهر المسيح حياتنا، فحيئذ تظهرون أنتم أيضأ معه في المجد» (كو4:3)
+ «ونشهدكم لكي تسلكوا كما يحق لله، الذي دعاكم إلى ملكوته ومجده.» (1تس12:2)
+ «الأمر الذي دعاكم إليه بإنجيلنا، لاقتناء مجد ربنا يسوع المسيح» (2تس14:2)
+ «وإله كل نعمة، الذي دعانا إلى مجده الأبدي في المسيح يسوع» (1بط10:5)
+ «لأنه لاق بذاك الذي من أجله الكل، وبه الكل، وهو آت بأبناء كثيرين إلى المجد, أن يكمل رئيس خلاصهم بالآلام.» (عب10:2)
+ «إن كا نتألم معه، لكي نتمجد أيضاً معه.» (رو17:8)
والآن، ليعلم كل إنسان، أن المسيح ابن الله هو جالس الآن بجسدنا هذا عينه عن يمين الله، ينتظر ذهابنا إليه. والبشرية فيه، بعد أن تمجد بها، صارت هكذا شريكة في مجد الله. هذه هي الخليقة الجديدة والإنسان الجديد.
وهذا يتضح بأبلغ بيان في طلب المسيح الذي سوف يقدمه في الآية (24): «أيها الآب، أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني, يكونون معي حيث أكون أنا, لينظروا مجدي الذي أعطيتني، لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم».
ؤإن كنا سوف نقدم الشرح الوافي لهذه الآية البليغة في محلها، ولكن ما يهمنا هنا في الآية (5) التي نحن بصددها، هو: يكونون معي, حيث أكون أنا», فهنا شركة في المجد البنوي لله، ثم «لينظروا مجدي» ليس بنظر العين، بل بشركة الرؤيا والإدراك والمعرفة الإلهية الفائقة, ثم «الذي أعطيتني» تفيد بكل وضوح المجد الإضافي الذي حازه المسيح «كابن الإنسان» لحساب الإنسان.
وقد ألمح المسيح لهذه الشركة القائمة في المجد الفائق عن الزمن والرؤية العينية الآن، عند قوله لبطرس: «حيث أذهب، لا تقدر الآن أن تتبعني، ولكنك ستتبعني أخيراً» (يو36:13). وأخيراً، هذه الشركة تفيد الأخروية (الإسكاتولوجيا) والتي جازها بطرس على الأرض وقت الشهادة تحت حد السيف، وكما رآها إستفانوس وهو تحت رجم الحجارة: «وأما هو فشخص إلى السماء وهو ممتلىء من الروح القدس، فرأى مجد الله، ويسوع قائماً عن يمين الله. فقال: ها أنا أنظر السموات مفتوحة, وابن الإنسان قائما عن يمين الله.» (أع55:6-56)
القسم الثاني: فيما يخص التلاميذ (يو6:17-19)
وتتركز الصلاة في استعلان الآب للتلاميذ:
1- كيف استعلن الآب، وكيف قبلوه: (6-8).
2- كيف كان يحفظ التلاميذ، وقد حان وقت تركهم: (9-11).
3- العمل السابق، والعمل اللاحق: (12-13).
4- محنة التلاميذ في العالم: (14-15).
5- المسألة المطلوبة من أجلهم: (16-19).
بعد أن أفرغ المسيح ما في قلبه علنا، فيما يخص نفسه، لدى الله أبيه وأمام تلاميذه، اتجه بطلبه من أجل تلاميذه.
ويلاحظ أن عمل المسيح الذي أكمله على الأرض في حدوده الضيقة كان يشمل في الحقيقة الوعد بالتكميل الأعظم، في حدوده اللانهائية في السماء لدى ارتفاعه وعودته إلى الآب.
ونحن نجد في سؤاله الآب من أجل نفسه: «مجدني» اتجاهاً سرياً ولكن ملحوظاً نحو التلاميذ، فالمجد الذي يطلب هو يخص التلاميذ والإنسان عموماً. والآن من داخل سؤاله المجد لنفسه يسأل من أجل تلاميذه أن: «احفظهم», و«قدسهم». وأن المجد الذق يلح عليه من أجل نفسه والآب إنما يتجه في الواقع وضمناً إلى تكميل خلاص التلاميذ والعالم الذى بدأ بتجسده. والآن هو يطلب له الكمال .
1- كيف استعلن الآب وكيف قبلوه:
6- «أَنَا أَظْهَرْتُ اسْمَكَ لِلنَّاسِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي مِنَ الْعَالَمِ. كَانُوا لَكَ وَأَعْطَيْتَهُمْ لِي وَقَدْ حَفِظُوا كلاَمَكَ.
المسيح يقدم تلاميذه على ثلا ثة مستويات:
الاول: علاقتهم بالمسيح: «أنا أظهرت اسمك للناس».
الثاني: علاقتهم بالآب: «كانوا لك».
الثالث: من واقع حالهم: «قد حفظوا كلامك».
وكل مستوى من هذه المستويات جعله المسيح سبب سؤال وطلبة، والثلاثة معاً يكونون الصورة المتكاملة للتلمذة الصحيحة التي يودها لهم ويعمل من أجلها.
«أنا أظهرت اسمك للناس»: «أنا أظهرت اسمك» تأتي موازية ومتساوية لقوله: « أنا مجدتك» (عدد4)، والاثنان يقعان تحت بند الاستعلان. فقد أكمل المسيح استعلان الله «كآب» له وللآخرين؛ له بنوع الخصوصية، وللآخرين بالنعمة المقدرة بتوسطه، وذلك بكل إصرار وتكرار، ليس في قوله وعمله فحسب بل وبحياته. وقد وضح أن هذا الاستعلان كان جديداً بالفعل على الذهن اليهودي، بالرغم من ادعائهم البنوية لله. وكم هو واضح في قول إشعياء النبي وهو يصف المسيح: «وأنا الرب إلهك، مُزعج البحر فتعج لججه، رب الجنود اسمه. وقد جعلت أقوالى في فمك، وبظل يدي سترتك، لغرس السموات، وتأسيس الأرض، ولتقول لصهيون: أنت شعبي.» (إش15:51-16)
بثلاثة أمورو أظهر المسيح اسم الآب:
الأول: بكونه هو الابن الذي أطاع الآب حتى الموت, لأنه باستعلان بنوته الخاصة الجوهرية لله، أظهر وأعلن أبوة الله.
الثانى: بإعطاء تعاليم الآب وكلماته تحت اسم الآب: «أنا هو.»
الثالث: بصنح القوات والآيات التي تعلن عن الآب الحال فيه. وكل نور أدخله المسيح إلى عالم الإنسان بإعلان الحق وممارسة الحب كان في الحقيقة هو بهاء أو شعاع مجد الآب، ورسم أو صورة لجوهره.
ولكن ليس الكل قبل هذا الاستعلان، فالاستعلان أُعطي تماماً، ولكن الذين انفتحت أعينهم وقبلوا حقيقة رسالة المسيح كابن، هم هؤلاء الذين عبر عنهم المسيح: «للناس الذين أعطيتني». فالاستعلان العام لابوة الله، قبله الناس، إنما على مستوى التلاميذ أولاً، الزين اجتذبهم الآب، كعينة نموذجية وخميرة، حسب قوله السابق: «لا يقدر أحد أن يقبل إلي، إن لم يجتذبه الآب» (يو44:6)، «لا يقدر أحد أن يأتي إلي، إن لم يُعط من أبي» (يو65:6) والحقيقة أن الذي يجتذبه الآب، يجتذبه الابن بالضرورة: «وأنا إن ارتفعت عن الأرض، أجذب إلي الجميع» (يو32:12). والمسيح يختار أيضاً: «ليس أنتم اخترقوني، بل أنا اخترتكم وأقمتكم… » (يو16:15). ولكن على الناس أن يطيعوا هذا الاختيار، أو يرفضوه كيهوذا، ليصيروا عبرة للرافضين. ولكن كان عمل المسيح العام، هو إظهار اسم الله الآب لشعب إسرائيل أولاً: «أخبر باسمك إختوتي. في وسط الجماعة أسبحك.» (مز22:22)
«من العالم»: تفيد أن الله اختارهم وأخرجهم من حيازة العالم: «ولكن لما سر الله، الذي أفرزني من بطن أمي ودعاني بنعمته، أن يعلن ابنه في لابشر به بين الأمم، للوقت لم أستشر لحماً ودماً، ولا صعدت إلى أورشليم إلى الرسل الذين قبلي، بل انطقلت إلى العربية» (غل15:1-17). هنا في هذا الوصف للدعوة يتضح كيف يدعو الله الذين له، حيث يكمن في هذا الكلام المعنى المتسع والعميق لقول المسيح: «كانوا لك». فدعوة بولس الرسول كان يقف خلفها علاقة مع الله ذات أبعاد لا يعرف مداها إلا الله وحده، أي أن بولس كان لله أولاً، ثم أعطاه الله للمسيح، فصار بولس للمسيح. وهكذا وراء كل إنسان دعاه الله إلى ابنه، قصة وحكاية ذات أبعاد غائرة في القلب والضمير والوجدان بين الإنسان ولله، قصة حق مستعلن، وحب طاغ، ومشاعر قلقة وملتهبة قادها الله إلى ملكوت ابن محبته
«كانوا لك, وأعطيتهم لى»: كان التلاميذ يمثلون في الحقيقة الشعب المختار، وبسلوكهم تجاه المسيح كانوا «إسرائيليين حقاً لا غش فيهم»، وأثبتوا بذلك أنهم «خاصة لله» يهوه، وبذلك اعتبرهم المسيح أنهم كانوا يتبعون, بإيمانهم الإسرائيلي، الله الذي جاء المسيح ليستعلنه الآن كآب. وبإيمانهم بالمسيح، وضح أن الآب سلمهم للابن ليكمل خلاصهم وفداءهم.
«وأعطيتهم لي»: «خرافي تسمع صوتي، وأنا أعرفها فتتبعني، وأنا أعطيها حياة أبدية… أبي الذي أعطاني إياها» (يو27:10-29). «الذين أعطيتني حفظتهم, ولم يهلك منهم أحد» (يو12:17). هنا، يتضح أن عمل الآب في اجتذاب النفوس يسبق عمل الابن, وهذا حتمي. والإنسان يعرف أولآ الله، وحينما يخلص الإنسان في عبادته لله، يكشف له الله عن طريق الخلاص ويعرفه بابنه: «وكانت نبية حنة بنت فنؤئيل من سبط أشير, وهي متقدمة في أيام كثيرة، قد عاشت مع زوج سبع سنين بعد بكوريتها. وهي أرملة نحو أربع وثمانين سنة، لا تفارق الهيكل عابدة بأصوام وطلبات ليلاً ونهاراً، فهي في تلك الساعة وقفت تسبح الرب، وتكلمت عنه مع جميع المنتظرين فداء في أورشليم» (لو36:2-38)؛ «وكان رجل في أورشليم اسمه سمعان. وهذا الرجل كان باراً تقياً ينتظر تعزية إسرائيل. والروح القدس كان عليه. وكان قد أوحي إليه بالروح القدس أنه لا يرى الموت قبل أن يرى مسيح الرب، فأتى بالروح إلى الهيكل, وعندما دخل بالصبي يسوع أبواه ليصنعا له حسب عادة الناموس، أخذه على ذراعيه وبارك الله وقال: الآن تطلق عبدك يا سيد حسب قولك، بسلام, لأن عيني قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته قدام وجه جميع الشعوب.» (لو25:2-31).
حنة النبية وسمعان الشيخ كانا لله، وأخلصا جداً في إيمانهما بالله، فشاء الله أن يكلل إيمانهما بإلإيمان بالمسيح.
واضح أن العمل يبدأ بالأب, وينتهي بالابن عبر الروح القدس، ليستقر الثالوث في قلب الإنسان. واختيار التلاميذ وكل المؤمنين الذين لم يكونوا يعرفون إلا الله, كان على أساس أن أرواحهم كانت ملتهبة فيهم مُسبقاً. ونحن نقرأ في بداية إنجيل يوحنا، كيف كان التلاميذ يبحثون عن الخلاص بكل قلوبهم: «وجدنا (المسيا) الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء.» (يو45:1)
« حفظوا كلامك»: الترجمة العربية هنا تجاوزت المعنى، فالصحيح هو: «حفظوا “كلمتك” اللوغس». فالمعنى هنا عميق، ويفيد أنهم استعلنوا كلمة الله التى هى المسيح، باعتباره جوهر التوراة، وبذلك كرموا كلمة الله في شخصه، و«حفظوها»، بمعنى أدركوا سرها؛ فسهروا عليه وأبقوه في كنز قلوبهم، وهكذا أبقوا الآب والحق في معرفتهم!
هذا المعنى شرحه المسيح سابقاً: «إنه مكتوب فى الأنبياء ويكون الجميع متعلمين من الله، فكل من سمع من الآب وتعلم يقبل إليّ» (يو45:6). هنا «سمع من الآب» تكشف عن انفتح على صوت الله وقبل سر الكلمة.
وهما يطيب لنا أن نكشف عن القوة المستترة فى قول المسيح هذا، فحفظ كلمة الله هو هو التلمذة الحقيقية لله والمسيح، وهو يعني السهر على الإنجيل بقديم أسفاره وجديدها، لاجتلاء كنوزه وبركاته المذخرة لنا: «طوبى للانسان الذى يسمع لى ساهراً كل يوم… لأنه من يجدنى يجد الحياة وينال رضى من الرب» (أم34:8-35). وما من قديس أو واعظ مُلهم إلا وكان السهر على الإنجيل والكلمة طعامه وشرابه وفرحه وعزاءه.
وكلمة يحفظ الكلمة في إنجيل يوحنا ورؤياه تعني السهر عليها، يقابلها في الإنجليزية watch وليس guard، أي «يسهر» وليس «يحرس»، فعكس «يسهر» على الكلمة هو «يرفضها ويزدري بها ولا يعتبرها»، أما عكس «يحفظها» بمعنى «يحرسها» هو أنها تسقط منه وتضيع. ومن هذا نفهم أن حفظ الكلمة بمعنى السهر عليها هو قبولها قبولاً شهياً : « وجد كلامك فأكلته. فكان كلامك لى للفرح، ولبهجة قلبى، لأنى دٌعيت باسمك، يا رب إله الجنود.» (إر16:15)
والمزمور حينما يقول: «أما الآن فحفظت قولك (كلامك، اللوغس)» (مز67:119)، فهو يعني: «أدخرته لنفي دُخراً». فالمسيح يشبه الملكوت بإنسان باع كل ما عنده واشترى اللؤلؤة الكثيرة الثمن وحفظها (مت46:13)، وكذلك بالذي وجد الكنز في حقل، ومن فرحه باع كل ما كان له واشترى ذلك الحقل (مت44:13). هذه الأمثلة كلها تدور حول قيمة كلمة الخلاص، أي الإنجيل، بالنسبة للحياة. فاللؤلؤة والكنز هما كلام الله، في تعبير المسيح، وقد أعطى المسيح لذلك مثلاً أقوى وضوحاً في مثل الزارع: «الذي في الأرض الجيدة هو الذين يسمعون الكلمة فيحفظونها في قلب جيد صالح، ويثمرون بالصبر… فانظروا كيف تسمعون» (لو15:8و18)
لذلك فقول المسيح عن التلاميذ أنهم «حفطوا كلامك» هو الإعلان عن سر التلمذة الصادق والوحيد، وهو سر التقدم أيضاً والنمو والانفتاح. ولعل أقوى قيمة لمفهوم حفظ الكلمة عند المسيح، جاء في قوله: «الحق الحق أقول لكم، إن كان أحد يحفظ كلامي، فلن يرى الموت إلى الأبد» (يو51:8). وهكذا أصبح حفظ كلام المسيح في القلب، هو بذرة الحياة الأبدية التي تحول قلب الإنسان إلى ملكوت الله.
وإن أنسى فلن أنس في حياتي ما قراته عن السائح الروسي، لما أشعل أخوه الأكبر النار في كوخهم الوحيد، بعد أن سرق مدخوات أبيهم ليخفي فعلته الشنعاء، وفر هارباً، وكان السائح الروسي راقداً مع زوجته في الدور الأعلى، فدلى زوجته من النافذة وقفز وراءها، وذهبا كلاها يسيران في الشارع خالي الوفاض من كل ها امتلكاه، إلا الإنجيل في نسخة مخطوطة جلسا على قارعة الطريق يقرآن فيه؛ فأخذت زوجته تبكيه فسألها: لماذا تبكين يا أختي؟ فقالت له: كلام الإنجيل يا أخي حلو يعزيني عن كل ما فقدت!
7- وَالآنَ عَلِمُوا أَنَّ كُلَّ مَا أَعْطَيْتَنِي هُوَ مِنْ عِنْدِكَ.
هنا يشرح المسيح معنى أو ثمرة حفظهم لكلمة الآب، أو معنى سهرهم على تعاليم المسيح وفهمهم لسر الآب المتكلم فيه والعامل الأعمال. فالكلمة أضاءت بصيرتهم وآلهمت قلوبهم، وفتحت أعينهم، وأدخلتهم في نور الحق والحياة، وحكمتهم بكل حكمة.
«علموا أن كل ما أعطيتني هو من عندك»: إذا أردنا أن نترجم هذا القول إلى أبسط معنى، فهو أن التلاميذ أدركوا أني جئت لأستعلنك قولاً وفعلاً وعملاً وحياة!!
«الآن»: إن وضع هذا الظرف الزماني «الآن» هنا في هذه الآية خطير. فهو تعبير صادق عن وقفة أمام الموت! وبهذا يصبح معنى اكتمال معرفتهم بأن كل ما للمسيح هو من عند الآب, يعني أنهم بلغوا إلى حد الصلة التي تربطهم وسوف تربطهم إلى الأبد بالمسيح, لا كإنسان بعد، لأنه هو بحد ذاته استعلان الآب؛ فإزاء الموت الذي كان كفيلاً سابقاً أن يفك بل أن يقطع كل رباط بين الإنسان والإنسان, «الأن» لن يجرؤ الموت أن يصنع هذا مع المسيح بالنسبة لتلاميذه!! لذلك, فهو يدخل إلى محنة الموت واثقاً من متانة الرباط، الذي لن تفصم عرى العلاقة التي تربطهم به!!
8- لأَنَّ الْكلاَمَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي قَدْ أَعْطَيْتُهُمْ وَهُمْ قَبِلُوا وَعَلِمُوا يَقِيناً أَنِّي خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِكَ وَآمَنُوا أَنَّكَ أَنْتَ أَرْسَلْتَنِي.
المسيح يصعد بالدرجات نفسها التي صعدها التلاميذ، موضحاً أولأ أن حفظهم كلمة الآب المُعلنة بالمسيح وفيه، هو الذي أوصلهم إلى معرفة أن كل ما للمسيح هو من الآب، ثم يرتقي إلى درجة اليقينية التي بلغوها، موضحا أن سرها كان في أن المسيح سلمهم تلسيما وأعطاهم عطاء كل ما استلمه وكل ما أعطاه له الآب، وكان قبولهم للكلمة هو سر يقينهم بكل هذا. وهذا في الحقيقة أحد الأسرار المخفية في الإنجيل بخصوص كلمة الله أو وصيته وأوامره، فإنه بمجرد قبولها بالإيمان على أساس تصديق الله تصديقاً مطلقا لا يقبل افتراض الشك ولا يطلب البرهان, ولا يعتمد على المشاعر والعواطف المخادعة، بل تصديقاً قلبيا دون تدخل العقل الفاحص, فإن الكلمة، أو الآية أو الوصية أو الأمر الإلهي، يتحول في القلب إلى قوة تنفيذ!! فكلام الله ووصاياه، مهما بلغت في مظهرها الخارجي أنها صعبة التنفيذ أو حتى بلغت حد الاستحالة لدى العقل، فإنه بمجرد قبوها بالتصديق الكامل، تبدأ قوتها الكامنة تعمل في الحال. فكلام الله يحمل قوة تفيذه في داخله لدى الذين يؤمنون بصدق الله وأمانة وعده.
وعليك أيها القارىء أن تلحظ ذلك في ترتيب الأفعال التي جاءت في هذه الآية:
أعطيتهم الكلام، وهم قبلوا (بالإيمان)، وعلموا، يقيناً، وآمنوا باليقين، وبالنهاية بلغوا الإدراك الكلي الواثق بالمسيح ورسالته أنه خرج من عند الآب، كخروج الشعاع من مصدر النور، وأن الآب أرسله لتكميل الفداء والتقديس. هكذا يتحول القبول بالتصديق إلى علم, ثم إلى يقين, ثم إلى إيمان واثق, فاستعلان للحق. أي من علم إلى خبرة حية وشركة!! وعلى هذه الخبرة الحية والشركة الفعلية تأسست كنيسة الله التي نحيا خبرتها وإيمانها الحي اليوم. ولكن تبقى الحقيقة الاولى والأعظم أهمية «قبلوا»: «وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله.» (يو12:1)
«علموا يقيناً»: هنا الترجة العربية جاءت بتصرف، فهي «علموا حقاً وبالحقيقة». فالعلم بالحق، هو أكثر من اليقين. لأن الإنسان قد يتيقن من العلم بالشيء، ولكن يظهر ان يقينه جاء غير صحيح. ولكن إن كان العلم هو عن حق, أو باكتشاف الحق، فهو الاستعلان الإلهي، لأن الحق هو الله؛ وهذا العلم بالحق لا يقبل الزيف على وجه الإطلاق. على أن قبول العلم بالحق لا يأتي بالفهم والملاحظة أو المنطق والقياس, ولكن قبول الحق يأتي بالخضوع والطاعة المذعنة تحت سلطان كلمة الله! وهذا يُنشىء، ليس مجرد إيمان أعمى بالعقيدة، بل إيماناً يسنده استعلان الحق, إيماناً منفتحاً على الله. فالإيمان الحقيقي هو حياة وسلوك في نور معرفة الله, والإيمان الحقيقي يظل حياً بالكلمة يستمد نموه من سرها بلا انقطاع.
«أني خرجت من عندك, وآمنوا أنك أنت أرسلتني»: «أني خرجت من عندك» هي نفسها «أنك أرسلتني»؛ ولكن الأول هو فعل الابن والثاني هو فعل الآب. الأول يفيد عملية التجد، والثاني يفيد عملية الصليب ومهمة الفداء.
والمسيح سوف يبني على هذا المعنى قوله فيما بعد: «إني لست من هذا العالم»، وسوف يبني عليه إيمان التلاميذ بأنه خرج من عند الآب، وأن الآب أرسله، وأنهم أيضاً أصبحوا ليسوا من هذا العالم، باعتبار أن إيمانهم بهذا يفصلهم عن العالم ويضمهم إلى الابن الذي خرج والآب الذي آرسله!! إذ تصبح حياة التلاميذ مستمدة من الله كأصل وجودهم وليست مستمدة من العالم!!
والعالم رفض المسيح وذبحه، وبذلك أثبت أن المسيح ليس منه، وكذلك التلاميذ، فقد رفضهم العالم بشدة وقتلهم، وأثبت أنهم ليسوا من العالم (يو18:15-21). ويعلق على ذلك القديس يوحنا في رسالته الاولى بقوله: «لا تتعجبوا يا إخوتي، إن كان العالم يبغضكم» (1يو13:3). «هم من العالم، من أجل ذلك يتكلمون من العالم، والعالم يسمع لهم. نحن من الله، فمن يعرف الله يسمع لنا، ومن ليس من الله لا يسمع لنا.» (1يو5:4-6)
ب – كيف كان يحفظ التلاميذ, وقد حان وقت تركهم
9- مِنْ أَجْلِهِمْ أَنَا أَسْأَلُ. لَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ الْعَالَمِ بَلْ مِنْ أَجْلِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي لأَنَّهُمْ لَكَ.
«أنا أسأل»: تأتي بمعنى «أصلي»، وهكذا ترجمت بالإنجليزية: I pray, وهو نوع رفيع من السؤال. وهذا الاصطلاح، وان كان شائعاً في العهد الجديد في معاملة الناس في التخاطب معاً وليس للصلاة، إلا أن القديس يوحنا قد اختص به فقط دون جيع الأسفار، في مخاطبة الله. فهو سؤال يُقدم كطلب، بدالة، ولم يستخدمه إلا المسيح في مخاطبة الآب.
هنا السيح يفرق بين الذين لله وبين الذين عليه. فالذين كانوا لله الآب وأعطاهم للمسيح الابن، هؤلاء الذين «قبلوا» كباكورة لجميع الذين «يقبلون» الابن حتى نهاية الدهور، هم الأعمدة التي ستقوم عليها الكنيسة وتبقى وتدوم.
المسيح هنا يطابق الصوت القائل لإرميا النبي: «وأنت فلا تصلى لأجل هذا الشعب، ولا ترفع لأجلهم دعاء ولا صلاة، ولا تلح علي لأني لا أسمعك» (إر16:7). والسبب قاله المسيح، ردا على سؤالهم: «إلى متى تعلق أنفسا؟ إن كنت أنت المسيح، فقل لنا جهرا؟ أجابهم يسوع: إني قلت لكم ولستم تؤمنون… لأنكم لستم من خرافي» (يو24:10-26)، وأيضاً: «لو كان الله أباكم، لكنتم تحبونني، لأني خرجت من قبل الله وأتيت؛ لأني لم آت من نفسي بل ذاك أرسلني. لماذا لا تفهمون كلامي، لأنكم لا تقدرون أن تسمعوا قولة (= كلمتي «لوغس»). أنتم من أب هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا.» (يو42:8-44)
أما من جهة محبة الله للعالم ومحبة المسيح له، والتي كلفته ذبيحة نفسه على الصليب من أجل كل العالم، فهي قائمة لا تثتنيها الصلاة ولا تتغاضى عنها، فذبيحته نفسها هي أعظم صلاة قُدمت لخلاص كل العالم: «هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم» (يو29:1). ولكن المسيح يصلى هنا خاصة من أجل الذين سيتركهم في العالم، العتيد أن يضطهدهم ويقتلهم أيضاً!
فالعالم المحبوب من الله سيرد الحب إيماناً، والذين لا يؤمنون سيُخرجون أنفسهم بأنفسهم من دائرة حب الآب وذبيحة الابن. المسيح أمرنا أن نحب أعداءنا ونبارك لاعنينا ونصلي من أجل الذين يسيئون إلينا ويطردوننا، لأنه بذلك يُستعلن فينا حب المسيح، وتُستعلن ذبيحة صليبه، ويتجلى الفداء والبذل. فإذا رأى ذلك الأعداء يؤمنون، واذا لم يؤمنوا ربحنا نحن أنفسنا.
والمسيح هنا يسأل ويصلي من أجل الذين سيقعون فريسة اضطهاد العالم الذي استثنى نفسه من إيمان المسيح وحب الآب؟ فمن أجل هؤلاء، هو لا يسأل، لأنهم أوقعوا أنفسهم تحت دينونة وليس تحت تشفع صلاته: «الآن دينونة هذا العالم.» (يو31:12)
10- وَكُلُّ مَا هُوَ لِي فَهُوَ لَكَ وَمَا هُوَ لَكَ فَهُوَ لِي وَأَنَا مُمَجَّدٌ فِيهِمْ.
هذا مو المعيار الجديد الذي يضع الآب والابن على مستوى واحد يقوم على أساس تبعية أو ملكية التلاميذ، أي المؤمنين فرادى أو ككنيسة. فالتلاميذ، وكذلك المؤمنون, يُعتبرون تابعين لله الآب، بقدر ما هم تابعون للمسيح. وبمعنى أعمق، يعتبر الإيمان بالمسيح تأكيداً لتبعية المؤمن لله الآب. وكذلك، فإن المؤمن بالله، يصير إيمانه حقيقة مؤكدة، إن كان يؤمن بالمسيح ويتبعه، ذلك لأن استعلان حقيقة الله هي كائنة بصورة فريدة في المسيح يسوع الابن المتجسد.
فالآن، ها هو المسيح بنفسه واقف يسأل الآب ويصلي من أجل تلاميذه, أليس ذلك تأكيدا لصدق تبعيتهم لله والمسيح، وعلى أنهم يستمدون من الله والمسيح حياتهم ووجودهم، وليس من العالم؟! وهذا هو سر صلاة المسيح لأجل تلاميذه، والمؤمنين، والكنيسة ككل، التي باستمداد حياتها ووجودها من الآب والمسيح، أصبحت ليست من هذا العالم، وبالتال فإنها أصبحت في حاجة شديدة, بل وتستحق كل استحقاق, أن يسأل المسيح الآب من أجلها، ولو أن الآب نفسه يحب كل من أحب الاب، فهو لا يحتاج بعد أن يسأله المسيح من أجلها.
ولكن في قول المسيح: «وكل ما هو لك فهو لى»، نقلة سرية إلى التعريف به، أي بشخصه، أكثر من التعريف بمن هو له. فقول المسيح: «كل ما لي فهو لك»، يمكن أن يقوله كل واحد. ولكن قوله لله الآب: «وكل ما لك فهو لي»، هو قول لا يجرؤ عليه ملاك ولا إنسان، كان من كان، أو أي مخلوق، غير الابن الذي له ما للآب وهو واحد معه. هذا يحققه لنا سفر الرؤيا، بأن يعطي للمسيح ما للآب تماماً هكذا:
+ «قائلين بصوت عظيم: مستحق هو الخروف المذبوح أن يأخذ القدرة, والغنى, والحكمة, والقوة, والكرامة, والمجد, والبركة.» (رؤ12:5)
ثم يعود سفر الرؤيا ويعطي لله الجالس على العرش هذه السبعة العظائم هكذا:
+ «وخروا أمام العرش على وجوههم، وسجدوا لله قائلين: أمين. البركة, والمجد, والحكمة, والشكر, والكرامة, والقدرة, والقوة لإلهنا إلى أبد الآبدين. أمين.» (رؤ11:7-12)
لذلك, فقول المسيح بعد ذلك: «وأنا ممجد فيهم» واقع في دائرة ما للآب حتماً وبالضرورة. فإن كان المسيح ممجداً فينا، فهو بالتالي تمجيد للآب. فالمسيح هنا يقدم للآب واحداً من أعظم نجاحاته أكمله لحساب الله: أن صار الإنسان البائس العاجز مصدر تمجيد لله على مستوى استعلان حقيقة الآب والابن. وإن كان يبدو هذا أنه لحساب الله شكلاً, فالحقيقة هي أن الإنسان هو الذي فاز بهذه الرتبة العليا: أن يعطي المجد لله، ويلهج بتسبيح الآب وحب الابن.
وإنها لحقيقة جديرة بالتعريف والتأكيد، أنه ليس في جيع أعمال الإنسان وأقواله أعظم وأجل من أن يمجد الله ويسبح بمجده. فالتسبيح بمجد الله، هو عمل الملائكة، واكليل الأرواح البارة المكللة في السماء، التي لا تكف عن تقديس الاسم المبارك وتقديم الشكر والسجود المتواصل والمجد الدائم. يعرف هذا الذين يحبون التسبيح ويتقنون السهر فيه, ويعترفون بما حصلوه من بركات، وتحصلوا عليه من قربى ورؤيا وسماع!
«وأنا ممجد فيهم»: مرة أخرى يلزم أن نفهم أن تمجيد المسيح يعني «استعلان حقيقة» بنوته لله وطبيعته وصفاته وأعماله, والآن، قد أصبح المسيح مُستعلنا بكل صفاته في تلاميذه، بكل يقين الإيمان أنه ابن الله الآتي إلى العالم، وهو هكذا في الحقيقة: «وأنا ممجد فيهم»، حيث انطبعت فيهم صفاته، وذلك إلى الدرجة التي إن أردت فيها أذ تعرف من هو المسيح، فتأمل في حياة التلاميذ وسيرتهم وأعمالهم وكلامهم، فستعرف من هو المسيح حقاً. فالاستعلان بالنسبة للحقائق الإلهية هو شركة فيها، لذلك فالتمجيد والدوام فيه، هو الإرتفاع بالسيرة الذاتية من الأرض إلى السماء: «فإن سيرتنا نحن هي في السموات» (في20:3). لذلك، فالتسبيح بمجد الله والمسيح هو دخول سرى في ذلك المجد.
11- وَلَسْتُ أَنَا بَعْدُ فِي الْعَالَمِ وَأَمَّا هَؤُلاَءِ فَهُمْ فِي الْعَالَمِ وَأَنَا آتِي إِلَيْكَ. أَيُّهَا الآبُ الْقُدُّوسُ احْفَظْهُمْ فِي اسْمِكَ. الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي لِيَكُونُوا وَاحِداً كَمَا نَحْنُ.
«ولست أنا بعد في العالم»: هنا علة هذه الصلاة بمجملها، فلولا أنه قد أكمل رحلته، ووجه وجهه شطر السماء لما صلى من أجلهم، إذ كان يكفيهم أنه معهم. ولكن الأن وقد حان الوقت أن يتركهم وحدهم ليدخل في عمله الأعلى طبيعةً وشأناً، وهو أن يتراءى أمام الآب متشفعأ عنهم؛ لذلك وقف يمارس مقدماً عينة منظورة من عمله غير المنظور والدائم إلى مدى الدهور، عن الذين له، طالما بقوا وحدهم في هذا العالم.
«وأنا آتي إليك»: الفعل «آتي» في المضارع الدائم، والمقابلة بين حالات المسيح الثلاث التي فيها يوصف المسيح أنه «آت»، تحتاج إلى تأمل:
1- «أنت المسيح ابن الله الآتي إلى العالم.» (يو27:11)
2- «وأنا آتي إليك أيها الآب القدوس.» (يو11:17)
3- «آتي أيضاً وآخذكم إلي.» (يو3:14)
وكأن الزمن ملغى، فهو آت باستمرار إلى العالم، وآت إلى الآب وآت إلينا ليأخدنا! ولكن لكل حالة فعلها الخاص بها، وكل حالة مترتبة عل ما قبلها، وهي تبدو وكأنها جديدة، مع أنها ليست بجديدة. فالزمن وحده يتغير عندنا، أما عنده هو فلا يتغير: «بعد قليل لا تبصروني ثم بعد قليل أيضاً ترونني» (يو16:16)، «ولست أنا بعد في العالم»، و«لا أترككم يتامى، إني آتي إليكم» (يو18:14)، «وأنا آتي إليك»، «وأنا لست وحدي لأن الآب معي.» (يو32:16)
تأمل في ذلك بولس الرسول فقال:
+ «وأنت يا رب (يعني المسيح الذي مُسح بزيت البهجة أكثر من رفقائه)، في البدء أسست الأرض، والسموات هي عمل يديك, هي تبيد، ولكن أنت تبقى. وكلها كثوب تبلى، وكرداء تطويها فتتغير, ولكن أنت أنت، وسنوك لن تفنى.» (عب10:1-12)
وأيضاً: «يسوع المسيح هو هو، أمساً واليوم وإلى الأبد.» (عب8:13)
ففي الظاهر الزمي، سيتركهم المسيح وحدهم؛ ولكن في الحقيقة، فإن ذهابه للآب هو دخوله في نطاق القوة الأكثر فعالية، وهذا يزيد من قربه إليهم، تماما كما سبق وقال عن نفسه: «وتتركوني وحدي، وأنا لست وحدي، لأن الآب معي.» (يو32:16)
ولكن الحقيقة الأشد عزاء، هو أنه طالما كان معهم على الأرض، فقد كانوا منه على بعد! ولكن لما تركهم وحدهم ذاهبأ إلى الآب، أصبح وهو في السماء متحداً بهم وهم به متحدون، وعن قرب. لذلك كان يقول لهم مراراً: «إنه خير لكم أن أنطلق» (يو7:16)!! ولذلك عينه قال لتوما: «لأنك رأيتي يا توما، آمنت. طوبى للذين آمنوا ولم يروا» (يو29:20). هذه الطوبى، هي الاتحاد عينه بالروح. أما إيمان العيان، فلا يزال يحتاج إلى الطوبى!!
والرؤيا العينية لا تفيد الإيمان شيئاً: «وأما الأن فقد رأوا وأبغضوني أنا وأبي.» (يو24:15), والعيان لا يسُعف اللحاق بالمسيح: «لا تقدر الآن أن تتبعني، ولكك ستتبعني أخيراً» (36:13)
ولكن عدم رؤياه، رؤيا العين، لا يمنع أن يرانا هو: «ولكني سأراكم أيضاً، فتفرح قلوبكم» (يو22:16) فنمتلء به خباً وفرحاً. «الذي وان لم تروه، تحبونه. ذلك، وإذ كنتم لا ترونه الآن، لكن تؤمنون به، فتبتهجون بفرح لا يُنطق به ومجيد.» (ابط8:1)
«أيها الآب القدوس»: بعد أن أوضح المسيح أن تلاميذه سيُتركون وحدهم في العالم، وأنه آت إلى الآب، يصبح دور الآب وارداً بصورة ملحة؛ وبسبب أن العالم قوة معادية للايمان ومركز تجارب، يكون الالتجاء إلى «قداسة» الآب أمراً حتمياً. فالنداء هنا من واقح الحال, وليس مجرد تسمية.
التجاء المسيح إلى «قداسة» الآب، هو بحد ذاته, يكشف عن خطورة وضع التلاميذ في غيابه بالنسبة لإمكانية ابتلاع العالم لهم. هنا تبلغ الصلاة ذروة توسلها الواقعي. فـ «قداسة» الآب هي حصن الذين في العاصف تجاه قدرة العالم على ابتلاع الضمائر الجزعة والواقعين تحت التهديد والوعيد والخوف أو الإغراء والترغيب.
هنا يبدو واضحاً, لماذا علمنا المسيح أن نخاطب الآب طالبين أن: «يتقدس اسمك». فهنا اللهفة في طلب تقديس اسم الآب، من حال واقعنا المهدد كل يوم ولحظة في العالم؛ فالشر محيط، والجذب عنيف, والإغراء ملبس بقوة شيطانية. فالالتجاء إلى اسم الله القدوس ليتقدس في حياتنا وأفكارنا وعيوننا وقلوبنا وضمائرنا، هو قوة غالبة وحصن منيع: «اسم الرب برج حصين, يركض إليه الصديق و يتمنع.» (أم10:18)
وسوف تُكمل هذه الطلبة بالآية القادمة: «قدسهم في حقك»، حيث يُجري الآب فيهم فعل قداسته, ليحولهم من العالم إلى نفسه، من المستوى الجسداني إلى الروحاني، من الزيف إلى الحقيقة، من الزائل إلى الأبدي.
«احفظهم في اسمك الذي أعطيتني»: لقد أجمع العلماء المختصون بالمخطوطات أن «الذي أعطيتني» هنا تختص بالاسم وليس بالتلاميذ. وكذلك الاسم الوارد في الآية (12) الآتية بعد ذلك. ويقع هذا المعنى موقعاً لاهوتياً قويا وصحيحاً ، وهومطابق تماما لما جاء بالنبوة عن المسيح: «لأن اسمي فيه» (خر21:23). فالاسم هو الاستعلان الحقيقي للشخص، والمسيح حاز هذا الاستعلان حيازة ذاتية لنفسه، فكان يقوله وكأنه له، أو كأنه هو هو «أنا هو»، وهو اسم «يهوه» في كل أسفار العهد القديم.
وحيازة المسيح لاسم الله، معناه حيازته الكاملة لطبيعة الله وقوته وصفاته, وهذا واضح من قول الله لموسى مُنبهاً بخصوص النبي الذي سيقيمه مثله أن «اسمي فيه»، بجعل عصيانه مرجباً للقضاء وللدينونة ولا غفران، وهو هنا يتكلم عن المسيح: «احترز منه واسمع لصوته ولا تتمرد عليه، لأنه لا يصفح من ذنوبكم، لأن اسمي فيه» (خر21:23)، «وأعطاه اسماً فوق كل اسم، لكي تجثو، باسم يسوع، كل ركبة ممن في السماء، ومن على الأرض، ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب، لمجد الله الآب.» (في9:2-11)
كل هذا يوضح أن المسيح يستعلن الآب استعلاناً ذاتياً, لذلك، يصبح معنى «احفظهم في اسمك الذي أعطيتي» يعنى «أعلن ذاتك لهم»، فهذا هو الحفظ البالغ منتهى القوة بالنسبة للإنسان الذي يواجه قوى العالم الشريرة!! وهذا الإعلان الذاتي لله, الذي هو الاسم في جوهر معناه, قائم في «الكلمة»، في الإنجيل، في تعاليم المسيح التي تركزت في استعلان الآب بالدرجة الاولى~ والمسيح بعد ما اكمل، باشر هذا العمل للتلاميذ: «فتح ذهنهم ليفهموا الكتب» (لو45:24). هذا هو نفسه استعلان ذات الله، وهو بعينه الحفظ الذي يعطي المناعة ضد قوى العالم السلبية.
وصلاة المسيح لكي يحفظهم الآب «في اسمك الذي أعطيتني» تطلب أن يثبتهم الآب في صفات أبوته، التي هي فعالة في المسيح كابن، لكي يعيشوا معاً في دائرة وجوده وعمله ومشيئته.
«في اسمك»: الاسم هنا طاقة وقوة. والحفظ هو، إما بإدخال التلاميذ في مجال فعل الاسم أي الاستعلان الذاتي، وإما شمول التلاميذ بهذه الطاقة لتدخل فيهم. الاول تكون بفعل استعلاني يجذب القلوب إلى مجال قوته، والثانية بفعل نعمة تنسكب داخل قلوبهم بحسب منتهى خيرية الله.
وفي التراث اليهودي التقوي الذي ورثته الكنيسة، فإن مجرد النطق باسم الله يدخلنا في مجال قوة عمله، وكأنه هتاف بحضور الله أو بالدخول في حضرته. وقد دخل ذلك في صميم الطقس الدعائي، فالصلاة تُفتتح باسم الآب والابن والروح القدس، والتقديس يتم بدعاء الاسم على الماء ليصير مقدساً للتقديس والتعميد، وعلى الخبز والخمر ليصيرا إلى الجوهر الجسدي الإلهي, وعلى رأس المريض وبدهنه فيشفى. وباختصار، فلا يجرى أي طقس في الكنيسة إلا بدعاء الاسم, الذي هو بمثابة الحضرة الإلهية. وباسم الله الآب والابن والروح القدس، تُبنى الكنيسة، وتتقوى، وتعمل، وتبشر. وبدون اسم الله الآب والابن والروح القدس، لا توجد كنيسة. لذلك، فكل عمل العالم هو أن يُخفي اسم الثالوث عن المؤمنين به, أو يزعزع سلطانه في القلوب، أو ينتزعه كلية بجحد الإيمان، أو الإلحاد، أو التمادي في الملذات التي تغمر القلوب ليُنسى الاسم.
على أن نسبة «القدوس» للآب، تفيد السلطان المطلق والفائق للآب، الذي يفصله كل الفصل عن الخطية والخطاة والعالم المخلوق الذي ينحرف عن التعبد له: «لأنه كان يليق بنا رئيس كهنة مثل هذا، قدوس = بلا شر ولا دنس, قد انفصل عن الخطاة وصار أعلى من السموات» (عب26:7). هنا، الجزء الثاني «انفصل عن الخطاة» شرح للجزء الآول «قدوس بلا شر»!!
ومن هنا تكون قوة قداسة الآب في حفظ تلاميذه والمؤمين من سلطان العالم الخاطىء! «لأني (أنا) الله، لا إنسان، القدوس في وسطك، فلا أتي بسخط.» (هو9:11)
«ليكونوا واحداً كما نحن»: الوحدة المطلوبة هنا هي أساساً للحفظ، فاحفظهم في اسمك, لأنهم في العالم، بأن تجعلهم واحداً. والوحدة ليست مجرد ألفة العشرة ورابطة المودة والإجماع على الرأي أو المشورة، بل هي وحدة الطبيعة التي تأخذ قوتها وتحقيقها وانسجامها الفائق من المسيح وفيه. فالمسيح في وحدة مع الآب، قائمة بحضور التجسد. والقصد أن قوة الوحدة التي في التجسد مع الإنسان، ثم قوة الوحدة بين المسيح والآب هي القوة التي يطلبها لنا لتجعل كل المؤمنين في المسيح واحداً. هكذا يطلب المسيح للتلاميذ أولاً أن يكونوا واحداً بهذه القوة، فتتكون الكنيسة في قوة الاسم.
والوحدة، كقوة نابعة من وحدة الآب والمسيح، والتي يطلبها المسيح، لا يقصد أن تأتيهم مفروضة عليهم من خارجهم، بل يطلبها لتنشأ فيهم من داخلهم, وذلك بثبوتهم في الاسم، وبالكلمة، وبالصلاة؛ الأمر الذي استجاب له الآب بقوة في تكميل وعده بإرساله قوة الروح القدس الفعالة لهذه الوحدة عينها، كما حدث فعلاً يوم الخمسين.
والإنسان ينزع بطبيعته إلى هذه الوحدة، ولكنه يُخطىء دائماً الوسيلة، كما اجتمع في بابل قديما. فالجمعيات والجماعات والمؤسسات والنوادي والرحلات والرياضات، كلها محاولات للوحدة، ولكنها وحدة كاذبة تجمع على الظواهر وليس على الحقائق والجوهر. تجمع على الراحة والفسحة والتسلية والمرح والمسرات واللهو، وكلها خدع يزول مع الوقت، وربما تؤول إلى الضد، وغالباً ما تنتهي بمزيد من الفرقة والعداوة والانقسام، وربما الخطية والانحدار للاستغراق في الفردية.
أما الوحدة الحقيقية، فهي التي يطلبها لنا المسيح في اسم الآب وحفظه وقوة استعلان ذاته وجذبه، وهي تقوم على تقديس الاسم واستعلان الحق الإلهي في الكلمة. لذلك، فالإنجيل والصلاة هما وحدهما منبع الوحدة بين أعضاء جسد المسيح. والوحدة ألتي طلبها المسيح وقد تمت بالفعل بقوة الروح القدس، هي الكنيسة الواحدة الوحيدة الجامعة الرسولية لقد كان الرسل والتلاميذ بذرتها الاولى، وصلاة المسيح كانت المخاض الذي وُلدت منه يوم الخمسين، وسر العلي الذي حفظها في العالم من العالم حتى اليوم!
وقوة الاسم, إذا تمسك بها كل واحد, هي بحد ذاتها قادرة أن توحد وترفع الفوارق بين طبائعهم, وتخفي ذواتهم عن أعينهم, وتخلي مشيئاتهم من أنفسهم، وذلك حينما يتوقف جذب العالم لشهواتهم ويتحرك الروح فيهم. وهذه هي الصورة التي أرادها لهم المسيح، فكانت:
+ «وكانوا يواظبون على تعليم الرسل والشركة وكسر الخبز والصلوات. وصار خوف في كل نفس، وكانت عجائب وآيات كثيرة تجرى على أيدي الرسل. وجميع الذين آمنوا كانوا معاً، وكان عندهم كل شيء مشتركاً، والأملاك والمقتنيات كانوا يبيعونها ويقسمونها بين الجميع، كما يكون لكل واحد احتياج. وكانوا كل يوم يواظبون في الهيكل بنفس واحدة, وإذ هم يكسرون الخبز في البيوت كانوا يتناولون الطعام بابتهاج وبساطة قلب، مسيحين الله, ولهم نعمة لدى جميع الشعب. وكان الرب كل يوم يضم إلى الكنيسة الذين يخلصون.» (أع42:2-47)
ولكن لنعد إلى: «أيها الآب القدوس احفظهم»، فالوحدة التي يطلبها المسيح هي داخل نطاق عمل الاسم القدوس، فهي وحدة تقديس وطهارة. لأنه خارج القداسة والتقديس، يوجد العالم؛ والقداسة والتقديس في مضمونها الفعلي هي الانفصال عن ما هو للعالم. هنا تكون الوحدة التي تجمع التلاميذ، هي بشد كل منهم وانفصاله عن ما هو للعالم، وهذا لا يتم إلآ بالانجذاب المشترك نحو الآب والقداسة لتستمد الجماعة أو الكنيسة حياتها من مصدر خارج العالم، من قربهم من الآب والابن, من قوة استعلان الآب وعمله بالإنجيل. أما هذا الاتجاه التقديسي فسيوفي المسيح حقه في بقية الصلاة والتوسل (يو17:17-23).
وبعد أن يعمل اسم الآب في الجماعة، أي الكنيسة، ويوحدها معه وفيه، تبقى أبعاد أسرار هذا الاسم فائقة عن الزمان الحاضر. ففي هذا الاسم يكمن الميراث المحفوظ لنا في السموات: «من له أذن فليسمع ما يقوله الروح للكنائس: من يغلب فسأعطيه أن يأكل من المن المخفى، واعطيه حصاة بيضاء، وعلى الحصاة أسم جديد مكتوب لا يعرفه أحد غير الذي يأخذ.» (رؤ17:2)؛ «وهم سينظرون وجهه، وأسمه على جباههم.» (رؤ4:22)
ج- العمل السابق والعمل اللاحق
12- حِينَ كُنْتُ مَعَهُمْ فِي الْعَالَمِ كُنْتُ أَحْفَظُهُمْ فِي اسْمِكَ. الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي حَفِظْتُهُمْ وَلَمْ يَهْلِكْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلاَّ ابْنُ الْهلاَكِ لِيَتِمَّ الْكِتَابُ.
إن صلاة المسيح التي يقدمها في هذا الأصحاح هي أصلاً لإلغاء الفوارة الزمنية، في اعتبار العناية الإلهية. ويكاد المعنى يكون هكذا: لما كنت معهم في العالم بالجسد، كنت أحفظهم في اسمك، والأن لا تتركهم أنت حينما آتي أنا إليك، بل اشملهم بحفظك ورعايتك. وهذا ينسحب، بالتال، على كل الأجييال الآتية هكذا: هذا الجيل، جيل التلاميذ، أنا كنت معهم بالجسد أحفظهم، فالأجيال القادمة ليكن نصيبهم محفوظاً في اسمك الذي هو اسمي: «عمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس.» (مت19:28)!
كنت أحفظهم … حفظتهم …..: الفعل الآول: «كنت أحفظم» وتعني «سهرت عليهم», والفعل الثاني: «حفظتهم» بمعنى «حرستهم» سهرت عليهم بالتعليم، فحفظت قلوبهم باستعلان الحق في اسمك. وحفظهم، وحرستهم، وحميتهم من جذب العالم، وذلك بأن حصرت قلوبهم في دائرة معرفتك.
والفعلان يفيدان قدرة المسيح على استعلان اسم الآب، أي صفاته، لهم وتعليمهم بكلماته وتعريفهم بكل ما عند الآب. وهذا بالطبع ظل مدخراً لنا بالإنجيل، كما علم به تلاميذه, مضافاً إليه الاستعلان الفائق بالروح القدس الذي أصبح يعرفنا بكل الحق, ويذكرنا بكل ما قاله المسيح.
والآن، وقد ذهب إل الآب وجلس عن يمينه، أصبح وجوده أكثر وضوحاً لنا الآن مما كان بالجسد مع تلاميذه آنذاك.
«ولم يهلك منهم أحد»: هذه ثمرة الحفظ والسهرو الحماية التي أعطاها المسيح لتلاميذه، الذين أثمرت فيهم تعاليمه وكلماته المحيية واستعلانه لمحبة الآب التي قبلوها، فانسكبت في قلوبهم فلم يُفقد أحد، وظلوا محفوظين ومحروسين في الاسم وقوته. وكان الرب مرتاحاً لموقفهم، ولكن كان يقيته ذاك التلميذ الذي هو مزمع أن يسلمه!
«إلا ابن الهلاك ليتم الكتاب»: كان يهوذا في فكر الرب آنئذ، ولكن لم يذكر اسمه، لأن حساسيته تجاه الخطاة كانت رقيقة للغاية، شأن الراعي الصالح، وقد بلغت ذروتها تجاه صالبيه: «يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون» (لو34:22). أما يهوذا فلم ينظر المسيح إليه منذ البدء كتلميذ قط، وإنما كابن الهلاك: «أليس إني أنا اخترتكم الاثني عشر، وواحد منكم شيطان, قال عن يهوذا سمعان الإسخريوطي، لأن هذا كان مزمعاَ أن يسلمه، وهو واحد من الاثني عشر.» (يو70:6-71)
لقد دخل في جماعة الاثني عشر لكي يسقط منها، وصار تلميذاً لا ليتتلمذ على معلمه بل ليسلمه! لم يكن غنمة، بل ذئباً اندس في وسط الغنم. لم يكن من عمل الفادي أن يحرسه، بل أن يحترس منه، لم يستثنيه من تعليمه وحبه وثقته، شأنه شأن شسمه التي يشرقها على الخطاة، فقد سلمه الصندوق ليبرر وضميره تجاهه، وهو عالم أنه يسرقه، ووهبه ما وهب التلاميذ من الحب والثقة، ولكنه خانهما.
«ابن الهلاك»: إن وصف المسيح ليهوذا بهذه الصفة، لم يكن بقصد أن يدينه أو يحكم عليه، بل ليوضح لماذا فُقد وهلك. فيهوذا اختار ذلك لنفسه، وصمم عليه, ونقذ خطته، بالرغم من تلميحات المسيح وتصريحاته، بل وكسر كل العوائق التي وضعها المسيح في طريق خيانته, باللطف حيناً، والوعيد أحياناً، بالحب مرة وبتهديد الدينونة مراراً. ولكن في النهاية فرط فيه المسيح: «ما أنت تعمله، فاعمله بأكثر سرعة»!! (يو37:13)، لذلك فـ «هلاك» يهوذا لا يحط قط من قدر المسيح، كمعلم، ولا يقلل من شمولية فدائه: «أم تستهين بغنى لطفه وإمهاله وطول أناته، غير عالم أن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة. ولكنك من أجل قساوتك, وقلبك غير التائب، تدخر لنفسك غضباً في يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة.» (رو4:2-5)
لقد اختار يهوذا بنفسه لنفسه الدور الذي تتم به النبوات ويكمل المكتوب، واختيار المسيح له مع الاثني عثر بالرغم من معرفته المسبقة لمصيره والدور الذي سيقوم به, ليتم الكتاب! «لست أقول عن جيعكم، أنا أعلم الذين اخترتهم، لكن ليتم الكتاب: الذي يأكل معي الخبز، رفع علي عقبه» (يو18:13). والكتاب المذكور هنا هو المزمور 9:41 «أيضاً رجل سلامتي، الذي وثقت به، آكل خبزي رفع علي عقبه»، والكلام هنا على أخيتوفل (اقرأ 2صم23:17).
«قد جعلت قدامك الحياة والموت … فاختر الحياة لكي تحيا» (تث19:3-). ولكن يهوذا اختار الموت دون الحياة. أن يهلك إنسان وهو في رفقة المسيح وواحد من التابعين له حتى النهاية, لا يمكن إلا أن يكون «ابناً للهلاك». لقد اختار يهوذا أن يهلك من أعلى وأميز موضع للأمان والخلاص!! ولا عيب على المخلص، لأنه إن كان قد اختار الصليب لنفسه، فلا عيب أن يختار أدواته!
13- أَمَّا الآنَ فَإِنِّي آتِي إِلَيْكَ. وَأَتَكَلَّمُ بِهَذَا فِي الْعَالَمِ لِيَكُونَ لَهُمْ فَرَحِي كَامِلاً فِيهِمْ.
المعنى هنا جميل وعميق للغاية, فالمسيح على الأرض يتكلم, ولكن من منطق تكميل الرسالة, وهو في حالة التأهب لترك العالم والانطلاق إلى الآب, فالكلام يأخذ طابعه الاخروي. والتلاميذ يسمعون حديث السماء وكأنه تم في السماء. والمسيح يقصد هذا قصدا، حتى يشعر التلاميذ بوجودهم في حضرة الابن والآب. فالكلام يخصهم. ووجودهم في حضرة الآب، يسمعون الابن متكلماً عنهم, يسأل ويطلب من أجلهم هو بعينه عينة من وجودهم الاخروي المزمع أن يكون، الذي يشددهم بالفرح الآخر أو الأخروي, وهو الفرح الكامل في طبيعته الأخرى، الذي سبق أن أعلنهم به: «اطلبوا تأخذوا، ليكون فرحكم كاملاً» (يو24:16)، والأن هو يطلب، وهم بالسر يأخذون، ليكون فرحهم كاملاً فيهم!
ومعروف في التقليد اليهودي أن الفرح لن يكون فرحاً كاملاً، إلا في أيام المسيا!
ولكن هنا فرح أعظم, وهو فرح الابن حينما يستودعه تلاميذه بأن يسلمهم إلى حفظ الآب القدوس.
فرح المسيح الخاص، الأن يبلغ ذروته وهو يترك العالم ذاهباً إلى الآب، وهو هو نفس الفرح الذي يريد أن يُسر به لتلاميذه عبر هذه الصلاة. إذ، وهم محفوظون ومحروسون في اسم الآب، يكونون وكأنهم قد انتقلوا من هذا العالم إلى الآب، أو بالحري انتقلوا من الموت إلى الحياة. ولم يعد للعالم سلطاناً عليهم!
هنا يطيب لنا أن نقول للقارىء، إن هذا اختبار حي يبلغه الإنسان بالصلاة, حينما ينطلق بروحه نحو الآب والمسيح، تاركأ العالم خلف ظهره، حيث يكون لسان حاله: «من لى في السماء، ومعك لا أريد شيئاً في الأرض.» (مز25:73)
د – محنة التلاميذ في العالم
14- أَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمْ كلاَمَكَ وَالْعَالَمُ أَبْغَضَهُمْ لأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنَ الْعَالَمِ كَمَا أَنِّي أَنَا لَسْتُ مِنَ الْعَالَمِ.
« كلاَمَكَ»: (كلمتك بالمذكر): المسيح يشدد على «أنا» باعتبار وجوده الكامل، مشيراً بذلك أن استعلانه لكلمة الله حققه بذاته وفي ذاته. ولما قبلوا استملان الآب وكلمته، و«تقووا من ضعف» (عب34:11)، وظهروا أمام العالم بشخصيتهم الجديدة وكلمة الآب في فمهم، أبغضهم العالم بغضاً بائناً قاطعاً، إذ لم يعد لهم شكل العالم ولا لغته!!
وهكذا إذ صارت لهم هيأتهم الأخروية الجديدة، نبذهم العالم، وعزلهم وأبغضهم، لما اعتزلوا هم العالم وأبغضوا أعماله. ولكن هذه هي بعينها هيئة الرسولية في العالم. جماعة تحيا الحياة الجديدة التي تستمدها من الله، مولودين ولادة جديدة أخرى من فوق بالروح من خارج العالم، ولكنها تعيش على درب الصليب المؤدي إلى الحياة الأبدية إلى فوةق, ولكنها تبقى في العالم لتتلقى منه الضربات الموجعة, لأنها ليست من شكله ولا تتكلم لغفته. هذه هي محنة الرسولية المحبوبة عندهم: «ودعوا الرسل، وجلدوهم وأوصوهم أن لا يتكلموا باسم يسوع، ثم أطلقوهم. وأما هم فذهبوا فرحين من أمام المجمع، لأنهم حسبوا مستأهلين أن يهانوا من أجل اسمه» (أع40:5-41). وهذه المحنة عينها ورثتها الكنيسة عبر الدهور في الضيقات، تفتخر بآلامها من أجل اسمه، ككنيسة رسولية، لها سمات الرب يسوع، كأغصان مثبتة في الكرمة الحقيقية التي جذرها في السماء. وقد حسب خادم المسيح أن خدمته أفضل، إن كان يتلقى إزاءها ضربات أوفر!!
+ «ولكن الذي يجترىء فيه أحد أقول في غباوة آنا أيضاً آجترىء فيه … أهُم خدام المسيح (الرسل)؟ أقول كمختل العقل: فأنا أفضل, في الأتعاب أكثر, في الضربات أوخر, في السجون أكثر, في الميتات مراراً كثيرة, من اليهود خمس مرات جُلدت أربعين جلدة إلا واحدة، ثلاث مرات ضُربت بالعصي, مرة رُجمت, ثلات مرات انكسرت بي السفينة، ليلاً ونهاراً قضيت في العمق (المياه)، بأسفار مراراً كثيرة، بآخطار سيول، بأخطار لصوص، بأخطار من جنسي، بأخطار من الامم، بأخطار في المدينة، بأخطار في البرية, بأخطار في البحر، بأخطار من إخوة كذبة، في تعب وكد في أسهار مراراً كثيرة, في جوع وعطش، في أصوام مراراً كثيرة، في برد وعري.» (2كو21:11-27)
ويلاحظ في هذا السجل الافتخاري بالآلام، أن بعضها كان بفعل الأعداء المقاومين لانجيل المسيح، ولكن بعضها أيضاً ساقها عليه رئيس هذا العالم بنوع من التعقب والانتقام. فالذي ينسحب من هيئة هذا العالم ليحيا الله، يدخل مباشرة في مواجهة سافرة مع العد ووآتباعه.
لقد وُهب للكنيسة أن تتألم، إنها الشركة السرية مع المسيح في آلامه، التي هي سمة المفديين والمعينين للحياة الأبدية، إنها إكليل المجد الذي سيوضع على رؤوس الذين يصبرون إلى المنتهى نظير إكليل الشوك الذي يتلألأ الآن على رأس المسيح, وهو جالس عن يمين العظمة في السموات.
إنها الزوفا التي يغسلنا بها المسيح الآن من قذر العالم, لنؤهل لمسحة الدم والخلاص.
المسيح هنا في هذه الآية، يدافع عن تلاميذه وكل المضطهدين من أجل اسمه، الذين سيشربون من كأس آلامه واضطهاده. المسيح هنا شفيع حقيقي، وباراكليت شرعى, له حق الدفاع, لأنه حامل ثوت المحاماة المغموس بدم صليبه، فهو وحده له حق إقامة الدعوى والخصومة ضد العالم الذي قتله بالغش والكذب والخداع، وذلك لحساب كل الذين يدخلون شهوداً لآلامه وصليبه, فقضية الصليب مرفوعة حتى إلى نهاية الدهر، واليهود يتوارثون الشهادة جيلاً بعد جيل: «تكونون لى شهوداً» (أع8:1)؛ «روح الحق الذي من عند الآب ينبثق، فهو يشهد لى، وتشهدون أنتم أيضاً.» (يو26:15-27).
15- لَسْتُ أَسْأَلُ أَنْ تَأْخُذَهُمْ مِنَ الْعَالَمِ بَلْ أَنْ تَحْفَظَهُمْ مِنَ الشِّرِّيرِ
.
حين أعيى إيليا النبي من اضطهاد إيزابل، «سار في البرية مسيرة يوم، حتى أتى وجلس تحت رتمة، وطلب الموت لنفسه وقال: قد كفى الأن يا رب، خذ نفسي، لأنني لست خيراً من أبائي» (امل4:19). ليست هكذا خدمة الرسولية والبشارة المفرحة بملكوت الله والمناداة بإنجيل الخلاص!!
المسيح هنا يوعي التلاميذ بصلاته، حتى لا يقعوا في خطأ إيليا، فلا يكلوا في الضيقات: «كي لا يتزعزع أحد في هذه الضيقات، فإنكم أنتم تعلمون أننا مرضوعون لهذا. لأننا لما كنا عندكم، سبقنا فقلنا لكم إننا عتيدون أن نتضايق، كما حصل أيضاً وأنتم تعلمون.» (1تس3:3-4)
«من الشرير»: في اللغة اليونانية لا يتضح من هذه التسمية «الشرير»، نوع الجنس إن كان مذكراً أو محايداً. ولكن الذي أخذ به معظم العلماء، أنه مذكر وأنه يقصد الشيطان بالذات، رئيس هذا العالم، لأن الشر في العالم نابع من سيطرته على نفوس الناس : «والعالم كله قد وُضع في الشرير» (ايو19:5). والاصطلاح «من الشرير» واضح. «وفي الشرير» هو المقابل لعبارة «في المسيح». فكما يعيش المؤمنون في دائرة قوة المسيح وحفظه، يعيش الأخرون في قوة الشرير وإغرائه. ومعروف أن علاقة الإنسان بالشر عى علاقة شخصية. والمسيح، وهو عالم بأصل الشر ومصدره، يصلي أن يحفظ الآب أولاده من سلطان وتأثير الشرير المخادع والمقتحم، ليس فقط من جهة أعماله الظاهرة، بل ومن سلطانه الخفي غير المنظور، حتى لا يقع أحد في حبائله: «لأننا لا نجهل أفكاره.» (2كو11:2)
وحينما يضع المسيح هذه المقابلة بوضوح بين «لست أسأل أن تأخذهم من العالم، بل أن تحفظهم من الشرير»، فهو يؤكد رسوخ الكنيسة في العالم, كمكان عملها الوحيد، الذي ينبغي أن تتعاطاه بفرح في وسط الضيقات, كما يقول بولس الرسول: «تعلمون أننا موضوعون لهذا» (1تس3:3). والعالم, كما أنه مركز الشر، هو أيضأ بالكنيسة مركز الشهادة.
وحينما يقول: «بل أن تحفظهم من الشرير», فهو يؤكد عمل الخدمة الرسولية في وسط الشر وتجاه الشر وفي وسط الأشرار، دون الرضوخ للشر أو التنازل معه أو إليه. فالحفظ من الشرير لا يعني الهروب من مواجهته، بل الهروب من إغراته وإغواته.
وصلاة المسيح من أجل التلاميذ أن يحفظهم الآب من الشرير، مرادفة لما جاء في الصلاة الربانية التي علمنا فيها المسيح أن نطلب النجاة من الشرير. وهو أيضأ تراث يهودي استلمه اليهود من يعقوب أب الآباء في أعطائه للبركة على أولاد يوسف: «الله الذي رعاني منذ وجودي إلى هذا اليوم، الملاك الذي خلصني من كل شر, يبارك الغلامين …» (تك15:48-16). وقد دخل الكنيسة منذ البدء كدعاء رسمي سجلته لنا الديداخي, والديداخي هو كتاب تعليم الرسل الاتني عشر(100م – 150م) اكتشف سنة 1883م, في الصلاة الليتورجية على القربان الباب العاشر البند الخامس: [أذكر يا رب كنيستك, وأنقذها من كل شر، واجعلها كاملة في حبك].
وفي قول المسيح سابقاً: «احفظهم في اسمك»، وقوله هنا : «احفظهم من الشرير» ترابط شديد. فالاسم القدوس يحيط النفس بجو القداسة, وبستار الطهارة يخفي عن عينها الشر، ويبطل قوة العدو وسهامه فلا تصيبها. ولكن «احفظهم من الشرير» لا ينحصر المعنى في الحماية, بل ويمتد ليشمل المقاومة حتى الموت، لأن الأخطر أن ينهزم الإنسان أمام سطوة الشرير فيضع حداً لجهاده المرير ضد الشر، فيقبل غوايته منهزما، ويخضع لمطالبه. لذلك, فدعاء المسيح لتلاميذه بالحفظ من الشرير يؤمن شهادتهم للمسيح، حتى ولو بلغ الضيق حد الموت: «لم تقاوموا بعد حتى الدم، مجاهدين ضد الخطية» (عب4:12). فكلما تعاظم الضيق، تعاظمت الشهادة: «فلما سمعنا هذا، طلبنا إليه نحن والذين من المكان أن لا يصعد إلى أورشليم. فأجاب بولس: ماذا تفعلون؟ تبكون وتكسرون قلبي؟ لأني مستعد ليس أن اُربط فقط بل أن أموت أيضاً في أورشليم, لأجل اسم الرب يسوع» (أع12:21-13)، «وفي الليلة التالية وقف به الرب وقال: ثق يا بولس، لأنك كما شهدت بما لي في أورشليم, هكذا ينبغي أن تشهد في رومية أيضاً.» (أع11:23).
وقد كان, وأصبحت المصادمة مع الشر فرصة عظمى للشهادة.
هـ – المسألة المطلوبة من أجلهم:
16- لَيْسُوا مِنَ الْعَالَمِ كَمَا أَنِّي أَنَا لَسْتُ مِنَ الْعَالَمِ.
هذا تكرار يقصد به التعقيب على الآية السابقة والتمهيد للآية القادمة: فاحفظهم من الشرير، لأنهم ليسوا من العالم, كما أنا, ولأنهم ليسوا من العالم، قدسهم في الحق، حتى يحفظوا من الشرير، ويغلبوه كما غلبت!
وهنا «ليسوا من العالم» تعني أن حياتهم ورجاءهم وحبهم وفكرهم الشاغل أصبح من الله، وفي الله، وليس من العالم، أو في العالم. هنا أصبح الحفظ حقاً لهم، والتقديس جزاء واجباً يستحقونه. وقوله أنهم «ليسوا من العالم كما أني أنا لست من العالم» يوضح أنهم استمدوا من المسيح هذا الكيان الفائق، أنهم أغصان مثبتة في الكرمة, وهو تلميح للاتحاد الكائن في المسيح بالتجسد, كيف حصل فيه الإنسان على الانتماء الكلي للاهوت!!؟
وهكذا انفتح الباب أمام البشرية أن تتحد بالله وتنجو من التبعية للعالم كياناً وفكراً وعملاً وهدفاً: «فإن سيرتنا نحن هي في السموات» (في20:3)، «فإن كنتم قد قمتم مع المسيح، فاطلبوا ما فوق» (كو1:3)، «لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح، ذاك أفضل جداً.» (فى23:1)
17- قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ. كلاَمُكَ هُوَ حَقٌّ.
«قدسهم في الحق»: الترجمة العربية جاءت بتصرف، فالأصل اليوناني هو: «قدسهم في الحق»، وليس «قدسهم في حقك»، أي دون إضافة.
الطلبة الأولى التي طلبها المسيح للتلاميذ كانت: «احفظهم في اسمك» و«أن تحفظهم من الشرير»، على أساس أنهم ليسوا مم العالم، وهم باقون في العالم. هذه الطلبة في حدود العالم: «لست أسأل أن تأخذهم من العالم، بل أن تحفظهم من الشرير.» (يو15:17)
الطلبة الثانية: «قدسهم في (حقك) الحق». هنا الطلبة جاءت خارج حدود العالم. الحقيقة هنا عميقة وممتدة، فالمسيح يطلب لتلاميذه من الآب النقلة العظمى لكيانهم الشخصي، من تبعيتهم للعالم إلى تبعيتهم لله، لتنقل حياتهم وأفكارهم ورغباتهم وتعلقاتهم من عالم الشهوات والماديات التي كانوا مرتبطين بها ومنفعلين لها، إلى حياة «الحق», التي منها وبها تتغذى الأفكار والرغبات والتعلقات لخدمة الله، حيث يتصفى الجسد بتقديس الروح ويتنحى من القيادة العشوائية, ليعطي للنفس المتحررة من ربقة العالم والماديات القدرة على السيادة والحركة والانطلاق لتكميل خدمة المسيح الكفارية، بالبذل على مستوى المحبة المتطهرة.
المسيح يدرك عمق وخطورة هذه الطلبة التي نوه عنها فيما يخص نفسه قائلاً: «فالذي قدسه الآب وأرسله إلى العالم، أتقولون له إنك تجدف، لأني قلت إني ابن الله» (يو36:10). لقد قدسه الآب قبل أن يرسله, بأن أعطاه اسمه القدوس، وبالمعنى اللاهوتي الكامل أعطاه وجوده وحضرته بالكامل: «الآب الحال في» (يو10:14)», «أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم, مثلك، وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به. ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه.» (تث18:18-19)
وها هوذا نفسه يطلب لتلاميذه أن يقدسهم الآب!! فلننتبه إلى علو وخطورة هذا الطلب: «قدسهم في حقك»، ثم يردف الطلبة حالاً بالإرسالية على مستوى تقديسه وإرساله هو: «كما أرسلتني إلى العالم أرسلتهم أنا إلى العالم.» (يو18:17)
هنا يربط المسيح بين تقديس الآب له، وتقديس الآب لهم؛ هذا التوازي يحمل معاني كبرى؛ كذلك فهو قائم على أساس إرسال الآب له كما على إرساله لهم!! وهنا التوازي في الارسالية خطير، بل ويزيد الأمر ربطاً وانسجاماً وخطوره حينما يضيف أيضاً ومباشرة قائلاً: «ولأجلهم أقدس أنا ذاتي ليكونوا هم أيضاً مقدسين في الحق» (يو19:17). الآب يقدسهم بالروح وهو يقدسهم بالدم!! أما تقديس المسيح لهم بالدم فمعروف، أما تقديس الآب فهو سر من الأسرار العالية.
والأمر يا قارئي العزيز تتعدى أهميته وخطورته حدود تلاميذه، فهو إنما يعلن بهذا قداسة الكنيسة وإرساليتها في العالم على أساس تقديس الآب والابن لها، فهو يطلب لها تقديس الآب من فوق من الأعالي لتصير كنيسة السماء على الأرض متغربة ولكن محفوظة بالدم، على أساس تقديس نفسه لها, حتى تبقى في العالم، وهي ليست من العالم، ويكون لها قوة وسلطان الله الآب والابن في تقديس أولادها واحداً فواحداً وواحدة فواحدة, لحفظهم من الحياة بحسب دنيا الغرور والشروو والماديات والشهوات والجسد، ثم نقلهم إلى الحياة بالروح في تقديس الحق.
ما هو تقديس الحق: إن صلاة المسيح لدى الآب من أجل تقديس التلاميذ, والكنيسة بالتالي, هي مبتدأ الأسرار, فهذا هو سر التقديس الأعظم الذي انحدرت منه وبمقتضاه كل الأسرار.
والتقديس في الحق هو بحد ذاته التخصيص لله وللحياة الأبدية، أو هو الانتقال من الخضوع والانفعال لأعداء الحق الثلاثة: العالم والجسد والخطية، ورأسها الشيطان أبو التزييف والكذب، إلى الحرية، حرية أولاد الله, من كل صور وخداعات العالم المتركزة في الخطية المتسيطرة بالغش على الجسد, بتزييف أوهام يغرسها الشيطان في الفكر والتصور والعاطفة, لينخدع لها الإنسان ويقبلها، فينطوي تحتها كعبد: « إن كل من يعمل الخطية هو عبد للخطية.» (يو34:8)
الحق: الله هو الحق الكلي، والمسيح هو الحق, والروح القدس هو روح الحق. الحق واحد, بسيط، لا ينقسم أبداً, ولا يُرى منقسماً على ذاته.
العالم: «العالم كله قد وُضع في الشرير» (ايو19:5). وهكذا بسبب تزييف الشيطان لكل ما هو حق فيه, لأنه لا يملك العالم بالحق, ولكن يملكه بالغش, ويملك الغش الذي فيه!!, لذلك جعله مركزا لانقسام والازدواج الصارخ فأصبح الخداع يحيط العالم، ويتغلغل أجمل ما فيه. فالجمال مثلاً: كل جمال تتربص به الخديعة لاصطياد الجهال. والفرح؛ كل فرح سرعان ما ينقلب إلى حزن، والفرح الذي لا يدوم هو خداع، والفرح الذي ينقسم على ذاته ويتحول إلى حزن يكشف عنصر الخداع في الفرح والحزن كليهما. لذلك يقول المسيح، فاضحاً عنصر الخداع في الفرح الذي يعطيه العالم, هكذا: «ولكني سأراكم أيضاً فتفرح قلوبكم, ولا ينزع أحد فرحكم.» (يو22:16). وعلى مستوى الفرح، يعطي المسيح السلام: «سلامي أعطيكم، ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا.» (يو27:14)
هنا يكشف المسيح الازدواج المؤلم في السلام الذي يعطيه العالم, فهو سرعان ما ينقلب إلى قلق واضطراب وضيق يخنق النفس. وهكذا فالسلام الذي يمكن أن ينقلب إلى كآبة، هو خداع، السلام والكآبة كليهما.
والجسد: هو ملتقى الخداع الذي يبثه تزييف رئيس هذا العالم: «فإني أسر بناموس الله، بحسب الإنسان الباطن، ولكني أرى ناموساً آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني، ويسبيني إلى ناموس الخطية الكائن في أعضائي. ويحى أنا الإنسان الشقي من ينقذني من جسد هذا الموت؟» (رو24:22)
وبنظرة واحدة مرتفعة عن العالم، نرى كيف ينتهي الجسد ويؤول إلى فساد وتراب، فيتضح مدى الخداع الذي عاش فيه بين الصحة والمرض، والغنى والفقر، والشبع والجوع ، والعطش والإرتواء، والعلم والجهل، والمتعة والحرمان, والرضى والغضب، والاطمئنان والخوف، والنور والظلمة وأخيراً الحياة والموت؛ فبنظرة من الأعالى, ترى الروح وهي في مقرها السماوي مدى زيف هذا الازدواج المؤلم الصارخ الذي يعبث بالانسان ويظنه الإنسان، وهو واقع تحته، أنه حق, وهو الخداع والسراب, عين الخداع وعين السراب!!
ولكن ليس وحدها العين الروحية للنفس وهي في السماء تكتشف هذا الخداع، بل وعين الإنسان الذي تقدس بالحق هنا على الأرض، ودخل مجال تقديس الآب والمسيح، فقد أعطي له أن يرى مهزلة هذه الازدواجية، ولكن أعطي أن يعيش فوقها، ويراها، ولكن لا يُمسك منها؛ يعيشها، ولكن لا تعيش فيه، لأنه يحيا الحقيقة, يحيا النور الدائم والفرح الدائم والسلام الدائم، يأكل الخبز السماوي الباقي إلى الآبد، «المأكل الحق» فلا يجوع أبداً، ويشرب ماء الحياة ودم الخلاص المحيي فيرتوي أبداً ولا يعطش أبداً لأنه «المشرب الحق». ويحيا حياة الأبد، لا يخشى الموت وما يؤدي إلى الموت، فلا يموت أبداً «فقد انتقل من الموت» الخادع «إلى الحياة» الحقيقية التي ليس فيها موت أو خداع. والحق يعلو الزمن, وكل ما يغيره الزمن، وكل ما يفنيه الزمن. وهذا تاج الإنسان الذي قبل تقديس الآب والمسيح.
المسيح حينما أكمل كرازته, وضمن خلاص الإنسان وتحريره من الخطية وخداع العالم، قال قولته الغالية: «الآن دينونة هذا العالم، الآن يُطرح رئيس هذا العالم خارجاً» (يو32:12). دينونة العالم يعني الحكم على الخداع والتزييف الذي فيه، بظهور الحق الإلهي، وبدء عمله على مستوى الإنسان. أما طرح رئيس العالم خارجاً، فهو بعينه عزل قوة التزييف، واستعلان قوة الحق التي بدأت تفرز الكذب والغش الذي يلف به الشيطان الخطية، والتي بها قتل الانسان لذلك دعاه المسيح : «قتالاً للناس من البدء.» (يو44:8)
وهكذا, وبعد أن قال المسيح: «ثقوا، أنا قد غلبت العالم» (يو33:16)؛ صلى إلى الآب قائلاً: «العمل الذي أعطيتني لأعمل، قد أكملته» (يو4:17), وعليه فقد استطاع أن يتقدم بطلبته العظمى الآن: «قدسهم في حقك»، بمعنى أن يملك الحق فيهم، فلا ينجذبوا قط إلى العالم، بل بالحري يكونون نوراً للعالم يبدد ظلمته الخادعة, ومصدر توبيخ يفضح أكاذيبه: «ولا تشتركوا في أعمال الظلمة غير المثمرة, بل بالحري وبخوها.» (أف11:5)
تقديس الحق: ليس هو إجراء ظاهرياً, بل هو انفتاح الوعي الداخلي للانسان بقوة الروح الذي يسكبه الآب على التلاميذ، والذي كان يوم الخمسين قمة استعلانه. الوعي المسيحي بعمل الروح القدس يعمل على رفع رؤية الإنسان وإدراكه. فهو بسهولة يكشف كل خداع العالم والشيطان: «لأننا لا نجهل أفكاره» (2كو11:2)، وبالتالي, فهو يصبح قادراً على أن يتعامل مح الظلمة بكل أفكارها وأدواتها, يدركها منذ أول حركتها, ويطاردها, ويطردها، لأنه يكشف زيفها وخطورتها وعدمها: «قاوموا إبليس، فيهرب منكم» (يع7:4), هروب الظلمة أمام النور. لذلك، فالذي يسلك في الحق، يغلب العالم! «فرحت جداً لأني وجدت من أولادك بعضأ سالكين في الحق, كما أخذنا وصية من الآب.» (2يو4)
القديس يوحنا أدرك قوة الحق وفعله ودخوله إلى العالم بالمسيح: «لأجل هذا أظهر ابن الله، لكي ينقض أعمال إبليس.» (1يو8:3)
«النور»: وهو التعبير عن الحق في أوسع معانيه، مُشخصاً في المسيح يسوع، وقد جاء إلى العالم، فارتكز الحق على الأرض ارتكازاً أبدياً مشخصاً ومستعلناً في المسيح وكلمته وأسراره وإنجيله وكنيسته.
ولكن الحق ليس كالكذب, وليس كالخداع الذي يغوي الجهال، فالحق لا يستهوي إلا من انفتحت بصائرهم, فاستحلت النور في مصدره, أما الذين يستهويهم الزيف والوهم والكذب والحق المغشوش، فلا يرون في النورنوراً بل حرماناً لملذات وهمية مائتة: «النورقد جاء إلى العالم، وأحب الناس الظمة أكثر من النور» (يو19:3). فالإنسان الأعمى لا يرى إلا ما هو تحت رجليه!!
وليس الانجذاب إلى الخداع هو قطيعة مح النور فحسب, بل إنه ولكي ينفضح عنصر الكذب والكذاب الذي فيه، فإن محب الظلمة تجده باغضا للنور أيضاً: «لأن كل من يعمل السيئات يبغض النور, ولا يأتي إلى النور (الصلاة, الكنيسة، خدام الله) لئلا توبخ أعماله.» (يو20:3)
ولا يمكن أن يتقابل الحق مع الكذب والخداع, أو صاحب هذا مع صاحب ذاك، فهذا كأس حياة وهذا كأس موت, ولا يمكنك أن تجمع النور مح الظلمة؛ ليس لأن الظلمة شيء أو لأن الكذب شيء، بل لأنه هو اللاشيء, وحتماً يؤول إلى العدم. الظلمة والكذب تأخذ وجودها الكاذب خلف الحق، فهي قائمة لأنها تزيف الحق وتزيف النور، ولولا النور ما كانت ظلمة، ولولا الحق ما كان كذب. فإذا عم الحق والنور يوماً، تلاشى الكذب والظلمة حتماً!!
«الله نور، وليس فيه ظلمة البتة» (1يو5:1). هذا يقيناً، فهو الحق كل الحق. فالنور والحق ليسا صفات لله بل هما طبيعة قائمة فعالة فيه. فلا وجود للحق بدون الله، فهو صاحبه الوحيد. فالحق والنور قوى إلهية لا تُدرك قط في طبيعتها، لأن من ذا الذي يدرك طبيعة الله؟ وإنما نحن ندرك فعلها في الإنسان: في فكره، فينعكس النور على عقل الإنسان الواعي للمعرفة الفائقة فيخشع الإنسان أمام الله؛ وفي قلبه وروحه، فتنطبع المحبة, التي هي محصلة فعل النور مع الحق, فينجذب قلب الإنسان نحو الله. لذلك «إن قلنا إن لنا شركة معه, (ومسيرة ومعرفة لله), وسلكنا في الظلمة, نكذب ولسنا نعمل الحق» (ايو6:1), «من قال إنه في النور, وهو يبغض أخاه، فهو الى الأن في الظلمة… وفي الظمة يسلك, ولا يعلم أين يمضي، لأن الظمة أعمت عينيه.» (ايو9:2و11)
ثم ما هو سلام الله الكامل؟ إلآ حينما يملك الحق بالكامل؟ وما هو الإتضاع الحقيقي إلا حينما يُستعلن النور في قمة قوته؟ ثم ما هي القداسة أو التقديس إلا حينما تُستعلن طبيعة الله بمفاعيلها، فتحول طبيعة الإنسان القابلة للخداع والتزييف، إلى طبيعة محصنة بالحق وقوته، وبالنور وقوته، فلا يعود الإنسان يُحتل بكل ريح، بل يثبت في الله: «الله محبة، ومن يثت في المحبة، يثبت في الله والله فيه.» (ايو16:4)
أما الحق، وأما النور، فقد استعلنا للعالم في شخص يسوع المسيح: «أنا هو نور العالم» (يو12:8)، »أنا هو… الحق…» (يو6:14)، بالقوة في الأعمال الإلهية، وبالفعل في حياة شخصية ملؤها الحب الذي بلغ قمته في الصليب وفي أعمال المسيح وحبه المبذول، استعلنت أبوة الله فيه واستعلنت بنوته الفريدة لله، فكانت قمة الحق الذي عرفناه فتحررنا من الخطية التي ملكت علينا، ومن الشيطان الذي أفسد وعينا، ومن العالم الذي زيف الحق في أعيننا، هذا عندما فدانا الابن بدمه، وكفر عن كل ذنوبنا، وجمعنا في جسده, ووحدنا وقدمنا إلى الله أبيه، فتبنانا.
ومن جهة هذا التحصيل الحاصل, يقول القديس يوحنا: «إننا نحن من الله, والعالم كله قد وضع في الشرير. ونعلم أن ابن الله قد جاء وأعطانا بصيرة لنعرف الحق، ونحن في الحق في ابنه يسوع المسيح» (ايو19:5-20). هنا يكشف القديس يوحنا قطبي الحق والخداع, في مواجهة. ثم يختم على استعلان معرفة يسوع المسيح هكذا: «هذا هو الإله الحق والحياة الأبدية» (ايو20:5). نعم, فقد وضح أن المسيح هو الإله الحق بسبب الحق الذي استعلن فيه لنا, إذ لم يوجد به غش، واذ قام من الأموات ونلنا منه خلاصاً ونصرة على العالم: «من هو الذي يغلب العالم إلا الذي يؤمن أن يسوع هو ابن الله» (ايو5:5). والحق الذي استعلنه المسيح وعاشه، أعطاه كما عاشه، فأثبت بالفعل أنه هو الإله الحق, لذلك يضع القديس يوحنا مقابل المسيح الألهة الكاذبة بغشهم المفسود: «ونحن في الحق في ابنه يسوع المسيح… أيها الأولاد، احفظوا أنفسكم من الأصنام آمين» (ايو20:5-21)، وما الأصنام إلا أدوات عبادة الشيطان: المال بأمجاده الكاذبة، والملذات، والشهوات التي حللتها العبادة المغشوشة.
عبد الخطية المتعبد لملذات الجسد وشهوات النفس الجسدية، العائش في دنيا الأوهام، يشعر بنفسه شعوراً محدوداَ ضيقاً وكأنه محصور في الجسد ودنيا الأطماع والجسديات. أما الذي تقدس بالروح لله وعبادته واستعلن له الحق، فإنه يشعر وكأن نفسه وروحه قد تحررتا من ضيق الجد وانحصار أطماعه ورغباته وملذاته الكاذبة، فلا يعود للجسد وجوده الطاغي وكأنه كل شيء، بل وتفقد الأمال والأطماع والملذات والشهوات جمالها المخادع، وتنحط قيمتها وتنحصر في عين الروح, وتنحط حتى تصير تحت قدميه، فتبدو مبتذلة يحيطها الندم، وتسرح الروح حرة في عالم الله الواسع، يقودها روح الله من حق إلى حق ومن سمو إلى سمو، فتكبر النفس مع الحقيقة وتتسع مع الحق، فلا تعود الدنيا تسعها باتساع آفاقها، إذ يبدأ الخلود ينبض في القلب فترتفع مدركات الروح، وتدخل في غبطة استعلانات الله, وهي تمتد نحو مصدر الخلود والحياة الحقيقية. وهكذا تبدأ النفس تخلع أردية أوهامها السابقة، وتندم وتتأسف على المشاعر الكاذبة التي لصقت بها، وتخلع أرديتها المزيفة من القلق والضيق والغضب والحسد والحقد والنقمة والخصام والتهديد والوعيد والحزن والكآبة مع الفرح الكاذب والتهليل المصطنع والآمال الترابية، التي هي كلها أبناء الزنى الروحي والجسدي ومخلفاته المخزية:
+ «لأنكم لما كنتم عبيد الخطية, كنتم أحراراً من البر، فأي ثمر كان لكم حينئذ من الأمور التي تستحوم منها الآن. لأن نهاية تلك الأمور هي الموت. وأما الأن، إذ أعتقتم من الخطية, وصرتم عبيداً لله, فلكم ثمركم للقداسة, والنهاية حياة أبدية.» (رو20:6-22)
وبعد أن قال المسيح عن تلاميلأء إنهم ليسوا من العالم كما أنه هو ليس من العالم, عاد وقال: «أما هؤلاء، فهم في العالم، وأنا أتي إليك» (يو11:17)، ثم عاد وقال: «ولست أسال أن تأخذهم من العالم، بل أن تحفظهم من الشرير.» (يو15:17)
واضح هنا أن التلاميذ كانوا قد بدأوا في الانسحاب من مظاهر العالم الكاذب، فلم تعد هذه المظاهر مصدر انفعال وقبول وحوارو تملك، ولم تعد حواسهم تعمل وفق العالم في غياب الله والحق؛ »وقد حفظوا كلامك» (يو6:17), فصار كلام الله حافظاً لهم، حارسأ لانفعالاتهم، متدخلاً إزاء طغيان العدو إذا طغى. هنا تنبري قوة الحق في كلام الله، تعمل بسلطانها في قلب الإنسان، لضبط القوة المخادعة الشريرة التي دأبت على تخريب طبيعة الإنسان, لضمها إلى سلطان رأس التخريب والخراب.
وهكذا يأتي طلب المسيح من أجل تقديسهم في الحق: «قدسهم في حقك»، لكي يصيروا مكرسين للحق وخدمته، يمسكون بالحياة الأبدية فيصيرون في مأمن من مزيفات عدو الحق. يعيشون في العالم خارج مظاهر العالم وأغلفته الكاذبة، لأنه حينما يتحررون من كذب العالم وخداعه، لا يكون من داع بعد لأخذهم من العالم، بل بالأولى بالعمل فيه بروح الله، وهوروح الحق، لإبطال خداعه: «يبكت العالم على خطية، وعلى بر، وعل ديونة» (يو8:16)
«كلامك هو حق»: كلام الحق، أو الكلام الذي هو حق، ليس حروفاً مكتوبة، ولا منطوقة أو مسموعة، ولا مصورة في الذهن, بل هو استعلان للوعي الداخلي للانسان. وما «الكلمة» إلا مرشد وقائد ومشير للروح الأمينة المصدقة لله، المفتوحة العينين، المستعدة للمقابلة!
«الكلمة» تقود الذهن الملتهب بالحب والوقار لتدخله إلى حضرة الله الآب، فترتسم على صفحة النفس صورة الله ينقشها شعاع نور الحق، فتتعدل النفس، وتتبدل وتتصحح وتتقدس، حيث تحترق منها كل شوائب الخداع والظنون والجهالة، وكل صور العالم الكاذبة، وتنطبع فيها ملامح الله في القداسة والحق! «كما هو حق في يسوع، أن تخلعوا من جهة التصرف السابق الإنسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور(الخداع), وتتجددوا بروح ذهنكم, وتلبسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق.» (أف21:4-24)
«كلام الله» هو واسطة الدخول إلى الله، «الكلمة» هي باب ينفتح على طبيعة الله القدوسة. لا أحد يدخل عبر«الكلمة الحق» إلى الله إلا ويتقدس. ولكن العبرة ليست في «الكلمة» في حد ذاتها، تلك المكتوبة أو المقروءة، ولكن العبرة في النية والقصد والضمير التي بها نقترب «للكلمة» كما يكون الاقتراب إلى الحق. فإن لم يكن القصد هو الدخول إلى الله، وان لم يكن القصد من الدخول إلى الله هو كشف الحال وتغيير الأحوال، ونوال التغيير، والتقديس حسب الوعد، فالكلمة تفوتنا، ونحن نفوتها: «لذلك يجب أن ننتبه أكثر إلى ما سمعنا لئلا نفوته» (عب1:2). فلنعلم، بكل يقين الإيمان والاختبار، أن الكلمة في الإنجيل كانت ولا تزال إلى الأبد مصدر تقديس ملايين من نفوس أولاد الله، الساعين لمعرفة الحق وخدمته: فقد فتحوا الإنجيل برعدة الخطاة، واقتربوا من الكلمة وكأنها كنز الحق، فانفتح لهم الكنز، فاغترفوه ، وصاروا قديسين بالحق والعمل والشهادة.
كل هذا، كان السبب فيه ومنشأه وقوته صلاة المسيح من نحو تلاميذه والكنيسة: «قدسهم في الحق. كلامك هو حق»! فصار التلاميذ قديسين مقدسين في الحق. نطقوا الحق، وعلموه, ثم كتبوه، فكان لنا إنجيلاً ناطقا بقداسة هؤلاء التلاميذ وبالحق الذي قدسهم.
18- كَمَا أَرْسَلْتَنِي إِلَى الْعَالَمِ أَرْسَلْتُهُمْ أَنَا إِلَى الْعَالَمِ.
تقديس التلاميذ الذي يطلبه المسيح من الآب، يطلبه ليس لكي يترفع به التلاميذ وينعموا، بل ليقتحموا به ظلمة العالم، وليحطموا به أعظم بناء بنته الآلهة الكاذبة لأكبر إمبراطورية ظهرت في العالم, والتي استولى عليها الشيطان كملك وجلس في هياكلها كإله. قداسة التلاميذ لم تزدهم مجداً في عين العالم, بل سخرية وشقاء وبلاء وسجنا وسيفاً وقبر شهادة. كانت إرساليتهم إرسالية آلام. ولكن آلام هؤلاء القديسين كانت كفيلة بأن تهدم حصون الشر. وعلى أنقاض أعمدة الباطل وقبابه، قامت كنيسة الله, عمود الحق وقاعدته.
المسيح الكلمة, قدسه الله, وأرسله إلى العالم (يو36:10) ليشهد لحق الآب، فشهد وذُبح. «هكذا» أرسل المسيح تلاميذه إلى العالم، ليشهدوا وهم تحت حد السيف وعلى الصليب عينه.
«كما أرسلتني… أرسلتهم»: «كما» = «كاثوس» وهي هنا لا تفيد المشابهة، بل تفيد الشرح والتوضيح، حتى إنه لا يصح أن نفصل أبداً إرسال الآب للمسيح عن إرسال المسيح لتلاميذه، فالثانية مشروحة ومستمدة من الاولى. وكما كان لا بد من تقديس المسيح مُسبقاً لكي يُرسل إلى العالم: «الذي قدسه الله، وأرسله إلى العالم…» (يو36:10)، كذلك فإن تقديس الآب للتلاميذ كان ضرورة حتمية، حتى يستطيع المسيح أن يرسلهم إلى العالم: «كانوا لك, فقدسهم في حقك، لكي إذا ما أعطيتهم لي، أرسلهم».
كان نظر المسيح مثبتاً نحو إرساليته التي قدسه الآب لها، وكان ينظر إلى استمرارها. لهذا أعد منذ البدء الذين سيرسلهم، اختارهم، وتلمذهم، وأعلنهم بكل ما عند الآب، وأسماهم أحباء، لأنه أخذهم من يد الآب: «كانوا لك، وأعطيتهم لى» (يو6:17)، كانوا عبيد يهوة الأتقياء، المختارين من نسل المختارين! وصاروا مسيحيين. لقد قدمهم إلى الآب أبيه، كأولاد وليس بعد عبيداً، جاهزين للتقديس، لأنه كان قد أعد لهم موطناً آخر، الموطن الذي منه أتى: «هؤلاء (أصبحوا) ليسوا من العالم كما إني لست من العالم». ونجح أن ينقل قلوبهم، فلم يعودوا يطلبون وطنهم الأول بل وطناً أفضل أي سماويا. ولما أتت الساعة، وتحتم الفراق والانطلاق، أوصى الآب أن يقدسهم تقديس من يرسلهم.
ولينتبه القارىء إلى تسلسل الأفكار. فإن تقديس الآب المُسبق للمسيح، أهله أن يقول: «أنا لست من العالم»، وهذا آهله للرسالة. وليس التلاميذ كالمسيح، إذ تحتم أن يصيروا أولاًد«ليسوا من العالم»، ليتأهلوا للتقديس، ثم الإرسال.
19- وَلأَجْلِهِمْ أُقَدِّسُ أَنَا ذَاتِي لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً مُقَدَّسِينَ فِي الْحَقِّ.
ليس إنسان قط بمستطيع أن يقول: «أقدس ذاتي»، بل ولم يُعط للانسان قط أن يُقدس تقديساً، فالتقديس هو عمل الله وحده؛ لأن التقديس هو أن يصير الإنسان من خاصة الله. فالله وحده هو من يعين خاصته, ويقيمهم تحت ولايته وخدمته ونعيمه. وللانسان فقط أن يطلب التقديس، ولكن لا يعطيه قط. هو يطلب أن يكون من خاصة الله، ويظل يرجو ذلك رجاءً.
أما المسيح، فهو يرد على تقديس الله له بأن يستجيب بنفس القدر والقصد» فيقدس ذاته للآب تقديساً, وهنا, تقديس الآب للابن يتساوى مع تقديس الابن نفسه للآب, فهذا بحد ذاته إعلان مساوته في الألوهية: بمعنى أنه بقدر ما اختار الآب أن يخصص الابن المتجسد ليمثله في العالم تمثيلاً، بقدر ما استجاب المسيح وقطع على نفسه أن يحيا ويموت له وحده خاصة، وقد أكمل، حتى بحياته يتقدس تلاميذه لله أبيه، باتباع تعاليمه ووصاياه التي أخذها من الآب وأعطاها لهم، وبموته يموتون هم أيضاً عن العالم موتاً، فيتقدمون كذبائح لله وللحق: «وأما من جهتى فحاشا لي أن افتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح، الذي به قد صُلب العالم لي، وأنا للعالم» (غل14:6).
في العهد القديم الذي جاء المسيح ليكمله ثم يستوفي قصده, كان التقديس لله هو من نصيب البكر. والسيح هو بكر، بحكم مولده البشري، وبكر بحكم قيامته من الأموات حياً بالروح القدس، أي بكر الخليقة الجديدة: البكورية الاولى وضعته تحت حكم التقديس، والبكورية الثانية آهلته أن يقدس هو الناس. كما أنه هو بكر الله لأنه الابن الوحيد للآب ليس عن ولادة ولكن بالطبيعة، فالوحيد (المونوجانيس) بالطبيعة هو بكر بالتسمية أو اللقب: «هو يدعوني أنت أبي، إلهي وصخرة رجائي. وأنا أيضاً أجعله بكرا أعل من ملوك الأرض» (مز26:89-27)؛ «وأيضاً متى أدخل البكر إلى العالم يقول ولتسجد له كل ملائكة الله.» (عب6:1)
والمسيح، باعتباره البكر المقدس لله يقول عنه سفر العبرانيين إنه دخل العالم ليصنع مشيئة الله حياً ومذبوحاً: حياً بطاعته الكلية، ومذبوحا لتقديس الإنسان:
+ «عند دخوله إلى العالم [«متى أدخل البكر إلى العالم» (عب6:1) _ يقول ذبيحة وقرباناً (حيوانياً) لم تُرد ولكن هيأت لي جسدا. بمحرقات وذبائح للخطية لم تسر. ثم قلت (أنا) هأنذا أجيء، في درج الكتاب, (مز6:40), مكتوب عني لأفعل مشيئتك يا الله. إذ يقول آنفاً إنك ذبيحة وقرباناً ومحرقات وذبائح للخطية لم ترد ولا سررت بها، التي تقدم حسب الناموس. ثم قال: هأنذا أجيء، لأفعل مشيئتك يا الله: ينزع الأول لكي يثبت الثاني: فبهذه المشيئة نحن مقدسون بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة.» (عب5:10-10)
فإذا فحصنا هذه الإشارات معأ بترتيب، يتضح من تقديس البكر لله حسب العهد القديم وتعبيره: «إنه لى» (خر2:13)، أن المسيح يكشف سرا كان مكنوناً في الأزلية وخطيراً! وهو أن الله سبق أن قدسه بالمشيئة وأرسله للعالم. ذلك كله في المشورة الآزلية ليكون الابن المتجسد «مخصصاً لله في العالم» كمرسل، وذلك لتقديس البشرية. هذا هو المعنى: «فبهذه المشيئة نحن مقدسون بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة».
ثم أن النبوة تأتي في (مز6:40), لتكشف التمهيد لهذه المشيئة الآزلية: أن الله رفض الذبائح والقرابين، ولم يسر بالمحرقات؛ إذ صارت مشيئة الآب متركزة في تقديم المسيح الذي سبق فخصصه، أي قدسه, لتكميل هذه المشيئة، فهيأ له جسداً يُكمل به هذه المشيئة.
ثم يعود المسيح ويكشف كيف طابق مشيئة الآب بمشيئته الخاصة الحرة، كابن في الأزلية، وذلك في نفس المزمور 8:40 بقوله مجيباً لمشيئة الآب هكذا: «أن أفعل مشيئتك يا إلهي سررت». أي أن مشيئة الآب، من نحو تقديم المسيح ذبيحة عوض كل الذبائح المرفوضة التي لم تكمل مسرة الآب، طابقت تماما وفي الآزلية أيضأ مشيئة الابن الشخصية في تقديم جسده بمسرة, كذبيحة خطية من أجل العالم. بمعنى أن مشيئة الآب صدرت للابن، كوصية منذ الآزل، وقبلها الابن في الأزلية, ونفذها بالجسد في ملء الزمن كيسوع المسيح.
وهكذا، وفي إنجيل القديس يوحنا، يكشف المسيح عن التطبيق العملي لنبوات العهد القديم التي التقطت صورة مسبقة لما دار بين الآب والابن في الأزلية، عما سيحدث حتماً في الزمن, وذلك حسب قول المسيح نفسه عن نفسه، أنه حان الزمن ليكمل الوصية, هكذا: «لأجلهم أنا (الآن) أقدس ذاتي». ويجيء سفر العبرانيين ليكشف هذه الدراما، في صورتها الأزلية وفي توقيعها العملي على مسرح الزمن, ثم ينتهي بذلك إلى مفهوم التقديس في العهد الجديد: «فبهذه المشيئة نحن مقدسون»!! سواء المشيئة بصورتها الأزلية أو بتطبيقها العملي: «بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة» (عب10:10). وقول سفر العبرانيين هذا، يوضح بأجلى بيان ما قاله بولس الرسول أيضاً من جهة هذه المشيئة الأزلية في رسالته إلى أفسس: «كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم, لنكون قديسين, وبلا لوم قدامه في المحبة، إذ سبق فعيننا للتبني، بيسوع المسيح لنفسه حسب مسرة مشيئته.» (أف4:1-5).
كما عاد وأوضحها، بقوة، في رسالته إلى تيموثاوس: «الذي خلصنا، ودعانا دعوة مقدسة, لا بمقتضى أعمالنا، بل بمقتضى القصد والنعمة التي أُعطيت لنا في المسيح يسوع, قبل الأزمنة الأزلية» (2تي9:1)
«ليكونوا هم أيضأ مقدسين في الحق»: يلاحظ أن كلمة «الحق» جاءت في اليونانية في هذه الآية بدون «أل» التعريف، فهي تترجم ليس «الحق» بل «حقا» أو «بالحق». يعني ليس تقديساً اسمياً، كما كان يجري في العهد القديم بإجراء ظاهري، ولكن تقديس إلهي من عمل الله نفسه. وتقديس التلاميذ الذي يهدف إليه المسيح هو على مستوى تقديس ذاته هو: «ولأجلهم أقدس أنا ذاتي، ليكونوا هم أيضاً مقديسين بالحق»؛ لأن تقديس المسيح لذاته هو صميم الحق. والمعنى ها عميق وخطير، وهو يرمي إلى أن المسيح قدس حياته تقديسا روحيا لله أبيه؛ وقدس موته: أي أن ذبيحة نفسه قدمها لله خاصة، لا على مستوى الظاهر كذبائح الحيوانات التي كانت تقدم قديماً على مذبح المحرقة المصنوع بالأيدي، بل ذبيحة فائقة في طبيعتها وجوهرها، إلهية، دمها دم أزلي، حي بروح أزلي. لذلك كان تكفيرها مطلقا غير محدود، من جهة فعلها، على مستوى المكان والزمان والحياة. هذا هو تقديس المسيح لذاته في حياته ومماته. وهكذا هو يطلب لتلاميذه أن يكوذ تقديسهم لله من داخل فعل تقديسه، ليس بالمظاهر والاسم، ولكن بأن يشملهم تقديس ذبيحته، ليحسبوا أمام الله الآب مقدسين بالحق وقديسين بلا لوم (أف4:1)، لهم رائحة المسيح الذكية لدى الآب (2كو15:2)، والتي «اشتمها أبوه وقت المساء عل الجلجثة» (التسبحة اليومية, ثيئوتوكية الأحد)، رائحة حياة لحياة (2كو16:2)
ومرة أخرى، يلزم التفريق بين تقديس المسيح لذاته، فهو ( ), هو«الحق»: هو «الله». أما تقديس التلاميذ فهو بالحق, أو حقاً, فهو إنعام إلهي. وبالمعنى العملي, فإن ذبيحة المسيح أعلنت لاهوته بالقيامة من الأموات, لأنها لم تكن ذبيحة ميتة قابلة للفساد، بل ذبيحة لم تر فساداً، حية بلاهوتها للحياة, لذلك صارت مُحيية. أما ذبائح التلاميذ, في حياتهم بالكرازة وفي موتهم بالاستشهاد, فهي ذبائح ناطقة شاهدة بموتهم للأب والمسيح. «دماء الشهداء بذار الكنيسة».
ذبيحة المسيح ذبيحة الحق المحيي التي فتحت الطريق إلى الحياة الأبدية. وذبائح التلاميذ والشهداء والكنيسة ذبائح مؤهلة للحياة الأبدية، وخدمتها، أي الكرازة بها. ذبيحة المسيح هي ذبيحة تقديس البكر، بكر الإنسان وبكر الله. فكان هو البكر الذي دخل إلى العالم: «متى أُدخل البكر إلى العالم، يقول ولتسجد له كل ملائكة الله» (عب6:1)؛ والبكر القائم من الأموات: «الذي هو البداءة» بكر من الأموات, لكي يكون هو متقدماً في كل شيء» (كو18:1). فلذلك، أصبح التلاميذ والكنيسة المنتصرة كنيسة أبكار بالضرورة: «ربوات هم محفل ملائكة، وكنيسة أبكار، مكتوبين في السموات» (عب22:12)؛ لأن قداسة بكورية المسيح الإلهية شملت, إخوته في الموت, أحباءه الذين أحبوه وماتوا من أجله كما مات هو من أجلهم: «لأن الذين سبق فعرفهم، سبق فعينهم، ليكونوا مشابهين صورة ابنه، ليكون هو بكرا بين إخوة كثيرين.» (رو29:8)
والسؤال في الختام, هل صرنا مقدسين في حق المسيح, في ذبيحته وقيامته وحياته؟ إنها لا زالت طلبة المسيح من أجلك ومن أجلي. إنها عطية تُسأل, فتُعطى, وتُدرك بالكلمة والسر والإنجيل, فتٌعاش. والحق لا يصير حقاً فينا، إلا بالتقديس. والقداسة سيرة، قوامها جحد العالم والالتصاق بالله: «نظير القدوس الذي دعاكم, كونوا أنتم أيضاً قديسين في كل سيرة.» (ابط15:1)
تذكرة: «المكسور لأجلكم» (1كو24:11) ….. «يٌسفك من أجل كثيرين.» (مت28:26)
هذا الدعاء لتقديس التلاميذ: «قدسهم في حقك … من أجلهم أقدس أنا ذاتي»، ينسحب على الماضي القريب، عل ما تم في سر العشاء، والحبيب جالس وسط أحبته، يطعمهم لحم آلامه، خبز السماء الذي تشتهي الملائكة أن تطلع عليه, أو يسقيهم دم تقديسه بيديه! وبشيء من التعمق في المعاني والمقاصد، نجد أن كل ما صلى به المسيح في يو 17، إنما هو تفسير مستيكى لما جرى على العشاء الأخير، في نفس الليلة، فالربط الروحي الخفي بينهما وثيق!
أما كلمة «السر» التي تصل الفعل التقديسي بالدعاء، فهي «لأجل» و«من أجل». فالجسد المكسور بالنية أمامهم ولأجلهم أخذه بالروح وأعطاهم بالسر، كسر آلام ذبيحته، الآلام الشافية والمُحيية، وبالروح أيضاً سقاهم دمه المسفوك لأجلهم، وروحه الأزلى فيه قائم للتقديس، وهذا وذاك قال لهم إنه يُقدم »لأجلكم».
فتقديس المسيح سلمه لنا في ذبيحته تسليماً، أكلاً وشرباً: «مآكل حق ومشرب حق» (يو55:6)
ولكي ينالنا ما نالهم ويكون التقديس لنا كما كان لهم، قال في دعائه الممتد عبر الدهور: «أنا أقدس» بالفعل الحاضر الدائم ولم يقل «قدست». فالأمر لم يكن محصوراً في تمثيل السر أو إعطاء نموذجه مرة، بل سرء قائم دائم فيه وفينا، فهو «مكسور» بصيغة الفعل الدائم: «هذا هو جسدي المكسور»، نعم، المكسور مع كل نفس مكسورة، و« هذا هو دمي الذي يُسفك»، أو «المسفوك» بفعل مضارع ممتد، مسفوك مع كل نزف ينزفه الإنسان إزاء آلام الزمان الحاضر من أجله: «إن كنا نتألم معه، لكي نتمجد أيضاً معه.» (رو17:18)
وتقديس المسيح أو قداسته هو مثل مجده ومثل بنوته لله، فهذه وان كانت كلها أزلية إلا أنها أستعلنت لنا «لأجلنا» لتكون لنا كما كانت له وسواء كانت قداسته، أو كان مجده أو بنوته لله فهذه كلها ليست صفات إلهية جامدة فيه، ولكنها صفات استعلنت استعلاناً، كعمل بالنسبة للعالم والإنسان، وكانت بقصد أن ننال نصيباً فيها. فتجسده وميلاده، كبشر، أعلن اتضاعه الفائق على كل اتضاع «من أجلنا». وموته الفدائي العجيب أعلن حبه التقديسي والأزلى الفائق والمتعظم على كل حب «من أجلنا». وقيامته أعلنت مجده العالى فوق أعلى السموات «من أجلنا». وهذا كله ليشمل الإنسان بكل شمائله وينقلنا إلى مستوى بنوته ليقدمنا إلى أبيه، لتحيا وتتجلى خليقتنا مقدسة في الله من جديد.
ولكن هل هذا كله محبوس ومقصور فقط للعصر الاخروي القادم، الذي نتحرق إليه شوقاً من خلف ستار الموت الكثيف.
إننا مدعوون إليه الآن لنحياه كما سنحياه هناك، هنا في وسط ضيق العالم الحاضر الخانق، كسبق مذاق أو عربون؛ وإلا فلماذا التقديس؟ والتقديس لا يُرى إلا على ضوء هذا العالم, لأن التقديس لا يعني لنا الأن إلا جحداَ لهذا العالم بكل شروره وأباطيله ووسائله المملوءة غشاً وكذباً ورياءً: «لست أسأل أن تأخذهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرير.» (يو15:17)
القسم الثالث: المسيح يصلى من أجل الكنيسة (يو20:17-26)
هنا يرتفع المسيح بصلاته من الواقح التاريخي، التلاميذ، إلى الأفق الممتد عبر الدهور؛ ومن الوحدة المحدودة للاثني عشر (آية 11)، إلى الوحدة التي بلا حد : «ليكون الجميع واحداً»؛ ومن المعرفة المعلنة للتلاميذ بحضوره، إلى المعرفة المستعلنة بالروح والممتدة عبر العالم كله.
20- وَلَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ هَؤُلاَءِ فَقَطْ بَلْ أَيْضاً مِنْ أَجْلِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِي بِكلاَمِهِمْ.
نظرة المسيح للكنيسة القامة لا تخرج عن حيز الفعل المضارع الحاضر الممتد: «الذين يؤمنون» وليس «الذين سيؤمنون», وهكذا لم يجعل الكنيسة تحت رحمة الزمن المترامي، بعيداً عن عينيه المرفوعتين نحو السماء، ولا كأنها غائبة عن حضوره. فكما أنه يرى التلاميذ أمامه، ويسمعهم صوته، ويسأل لهم وعنهم, هكذا يرى كنيسة الألفي سنة الآن، وكأننا حاضرون نسمع له، تحت بركة يديه الموضوعتين على رؤوس تلاميذه.
«يؤمنون بي بكلامهم»: الترجمة العربية تصرفت, والأصل اليوناني: «يؤمنون بي بكلمتهم = اللوغس» . وفرق بين الإيمان بالكلام والإيمان «بالكلمة». فـ«الكلمة» في المفهوم الروحي الخالص «اللوغس» هي التعبير عن «الحق». لذلك جاء هنا التعبير عن الإيمان «الكلمة» وليس بـ«الكلام»، فهي ليست مسألة صياغة حديث أو كثرة ألفاظ، بمعنى أن الإيمان ليس منطوق كلمات، بل إن جوهره كلمة واحدة، وتعني الحق. وهذا المعنى مُضمر في الكلمة التي قبلوها من المسيح، والتي هي التعبير عن طبيعة «اللوغس». لذلك فـ«الذين يؤمنون بي بكلامهم» تفيد الذين يعيشون في الإيمان الحق, أو يعيشون في بالايمان!! وكأن المسيح يرى، على امتداد الدهور، الذين له, أمام عينيه, ويصلي من أجلهم!!
وهكذا، يكفينا أن نكون تحت مرمى ناظريه: «ولكني سأراكم أيضاً، فتفرح قلوبكم.» (يو22:16)
21- 23 لِيَكُونَ الْجَمِيعُ وَاحِداً كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً وَاحِداً فِينَا لِيُؤْمِنَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي. وَأَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمُ الْمَجْدَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي لِيَكُونُوا وَاحِداً كَمَا أَنَّنَا نَحْنُ وَاحِدٌ. أَنَا فِيهِمْ وَأَنْتَ فِيَّ لِيَكُونُوا مُكَمَّلِينَ إِلَى وَاحِدٍ وَلِيَعْلَمَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي وَأَحْبَبْتَهُمْ كَمَا أَحْبَبْتَنِي.
يُلاحظ أن المسيح تدرج في صلاته من أجل التلاميذ، من الحفظ في اسم الآب, إلى التقديس في الحق، ثم إلى الوحدة في الآب والابن.
هذا في الواقع تدرج منهجي؛ لأننا إذا حُفظنا في اسم الله, ونحن في العالم، فإننا نتأهل للتقديس في الحق, وإذا تقدسنا في حق الله، نتأهل لهذا الاتحاد في الله، الفائق الوصف.
موضوع الوحدة أو الاتحاد بالآب والابن في الأصحاح السابع عشر
أولا: الوحدة كما سبق وعلم بها المسيح تلأميذه قبل أن يجعلها موضوع صلاته لدى الآب: لقد وردت هذه الآيات المتوالية في الأصحاح السابع عشر، للتعبير عن الوحدة أو الاتحاد بالله في صلاة المسيح كالآتي:
1- فى الآية 11: «أيها الآب القدوس، احفظهم في اسمك الذي أعطيتني، ليكونوا واحداً كما نحن».
2- فى الآية 21: «ليكون الجميع واحداً, كما أنك أنت أيها الآب في وانا فيك, ليكونوا هم أيضاً وحداً فينا».
3- الآية 22: «وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني، ليكونوا واحداً كما أننا نحن واحد.»
4- الآية 23: «أنا فيهم وأنت في، ليكونوا مكملين الى واحد».
وبالعودة إلى الأصحاحين العاشر والرابع عشر، نجد أن المسيح علم تلاميذه، كاشفاً سر الوحدة بينه وبين الآب، ثم مُعلناً عن قصده المبيت في نفسه، من جهة وحدة التلاميذ والكنيسة به هكذا:
1- يو38:10: «ولكن إن كنت أعمل، فإن لم تؤمنوا بي، فآموا بالأعمال، لكي تعرفوا وتؤمنوا أن الآب في وأنا فيه». وهذا هو المقابل لآية الصلاة في يو23:17.
2- يو20:14: «في ذلك اليوم، تعلمون أني أنا في أبي, وأنتم في, وأنا فيكم». وهذا هو القابل لآية الصلاة في يو23:17.
ومن هاتين الأيتين، يتضح لنا منهج المسيح في بلوغ الوحدة:
+ فمن الآية (38:10)، يقدم المسيح موضوع الوحدة بينه وبين الآب، أنه مطلب أساسي يتحتم أن نبلغه. أولاً بالمعرفة وثانيا بالإيمان. «لكي تعرفوا وتؤمنوا أن الآب في وأنا في الآب». أي أن يتم ذلك على أساسين:
الأول: الإيمان التصديقي بالروح، بدون برهان: «تؤمنوا بي».
والثاني: برهان الأعمال التي عملها المسيح، ولم يعملها أحد غيره: «فآمنوا بالأعمال».
وقد كانت هذه الآية هي التمهيد والسبب في الآية الثانية:
+ يو20:14: والتي فيها يضيف المسيح على استعلان وحدته بالآب استعلان وحدتنا في المسيح والمسيح فينا, وبالتالي نحن (في المسيح) في الآب: «تعلمون أني أنا في أبي، وأنتم في وأنا فيكم».
وقد قدم المسيح هذه الحقيقة الإيمانية العظمى: «إني أنا في أبي، وأنتم في وأنا فيكم»، كاستعلان سيتم في وقته: «في ذلك اليوم, تعلمون», وهو اليوم الذي فيه تحقق التلاميذ بالفعل من قيامة الرب وصعوده وجلوسه عن يمين الآب مُمجداً؛ و«ذلك اليوم» نحن نعيشه الآن، وكل يوم، متحققين من، ومُستعلنين بالروح والإيمان، الوحدة التي أكملها المسيح فينا ولنا مع الآب.
ثانياً: العلاقة الوطيدة بين «المعرفة» ووحدة الوجود المتبادل (الاتحاد) في إنجيل يوحنا:
على أساس ما سبق أن أوضحه المسيح من جهة استعلان الوحدة القائمة بين الآب والابن، نسوق إلى القارىء هذه العلاقة بين «المعرفة المتبادلة» و«الاتحاد المتبادل» كما يؤكدها إنجيل يوحنا.
1- «الآب يعرفني, وأنا أعرف الآب» (يو15:10) = المعرفة المتبادلة.
«ألست تؤمن أني أنا في الآب والآب فيّ» (يو10:14) = الاتحاد المتبادل.
واضح هنا أن المعرفة المتبادلة في ذات الله، قابلها وجود متبادل، أي اتحاد.
هنا يلزمنا أن ننتبه، ونحن بصدد الحديث عن طبيعة اللاهوت، أننا نتعامل مع المطلقات. فمعرفة الآب للابن معرفة مطلقة، لذلك يقابلها حتمتً معرفة الابن للآب معرفة مطلقة. وهاتان المعرفتان، اللتان هما معرفة واحدة بالضرورة، يقابلهما الوجود الكياني الكلي أو المطلق المتبادل بين الآب والابن, فالآب موجود كلياً في الابن، والابن موجود كلياً في الآب. وهذا الوجود هو مطلق، بحكم الجوهر الإلهي الواحد, لذلك فهو وجود كياني واحد: «أنا والآب واحد.» (يو30:10)
ثم يعود إنجيل يوحنا، ويعطينا هذه المماثلة في الآب والابن على مستوى الإنسان والله، أي أن معرفة الانسان للآب والابن تنشىء وجوداً في الآب والابن، ولكن، بسبب أن معرفة الإنسان محدودة جداً, فوجوده في الآب والابن محدود بمعرفته.
2- «لوكنتم قد عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً، ومن الآن تعرفونه وقد وأيتموه» (يو7:14) = معرفة الإنسان للآب والابن.
«ليكونوا هم أيضاً واحدتً فينا» (يو21:17) = اتحاد في الابن والآب. وعلينا أن ندرك: ما هو مستوى المعرفة هذه التي يقصدها المسيح؟
لأننا هنا بصدد معرفة توصل إلى الاتحاد, أومنبثقة منه, فهي ليست معرفة فكر؛ ويكفينا أن ندرك أنها معرفة تقابل أو تماثل على وجه ما، معرفة المسيح للآب: «أبي هو الذي يمجدنى، الذي تقولون أنتم إنه إلهكم، ولستم تعرفوه, وأما أنا فأعرفه» (يو54:8-55). ونحن نعلم تماما أن هؤلاء الفريسيين يتقنون معرفة الله بالفكر, ويفتخرون بتفوقهم في المعارف الإلهية. ولكن المسيح يعتبر أنهم: «لستم تعرفونه»! إذن, هى معرفة كشف الحق, أو استعلان الحقيقة الإلهية الغائبة عن اليهودى وأهمها وأخصها هي أن الآب والابن واحد، وأن الآب في الابن والابن في الآب. ومن قوله: «لو كنتم عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً»، يتضح أن المسيح يقصد بـ«معرفته»: استعلان بنوته للأب, وبالتالي فإن معرفته توصل حتماً لمعرفة الآب.
هنا «المعرفة» التي يقصدها المسيح هي استعلان الحقيقة الإلهية! وهذا بحد ذاته «سر الله». وسر الله لا يستعلن إلا للمدعوين للاشتراك فيه, أي الاشتراك في هذا السر، أي الشركة في حقيقة الآب والابن: «إن السيد الرب لا يصنع أمراً، إلا وهو يعلن سره لعبيده الأنبياء» (عا7:3). «سر الرب لخائفيه.» (مز14:25)
القديس يوحنا يربط ربطاً مباشراً بين استعلان سر الله المخفي في الله، وبين الشركة في حقيقة هذا السر هكذا: «وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية, التي كانت عند الآب وأظهرت لنا. الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به، لكي يكون لكم أيضاً شركة معنا، وأما شركتنا نحن, فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح» (1يو2:1-3).
وبولس الرسول يربط أيضاَ بين سر الله، واستعلان هذا السر المخفي، ونوال الشركة في مضمون هذا السر, أي الشركة في المسيح هكذا: «الذي في أجيال أخر لم يُعرف به بنو البشر، كما قد اعلن الآن لرسله القديسين وأنبيائه بالروح, أن الأمم شركاء في الميراث والجسد ونوال موعده (الروح القدس), في المسيح, بالإنجيل» (أف5:3-6)؛ «وأنير الجميع فيما هو شركة السر المكتوم منذ الدهور في الله.» (أف9:3).
إذا، فكل من يُستعلن له سر الله الآب والابن، فإن هذا يعني أنه صار شريكاً في ميراث البنوة والحياة الأبدية, أي أنه يكون قد دخل في شركة مع الآب وابنه يسوع المسيح، بالروح.
ثالثاً. مستويات الوحدة التي يطلبها المسيح لتلاميذه والكنيسة
يو 21:17-23
لو دققنا في عرض المسيح لطلبته التشفعية لدى الآب، من جهة «الوحدة المسيحية» نجدها على ثلاثة مستويات، في ثلاث طلبات، جاءت في الأصحاح السابع عشر مماثلة للثلاث صلوات, مع السجدات الثلاث التي قدمها في جثسيماني, كما جاءت في الثلاث أناجيل الأخرى:
المستوى الأول للوحدة: «ليكون الجميع واحداً».
المستوى الثاني للوحدة: «ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا».
المستوى الثالث للوحدة: « ليكونوا مكملين إلى واحد»
المستوى الأول للوحدة: «ليكون الجميع واحداً».
لا يقصد المسيح هنا أن يجتمعوا معاً في وحدة أو اتحاد مظهري تحت اسم، تجمعهم أهداف واحدة، أو تجمعهم الأخلاق الواحدة أو الاسم الواحد أو حتى منطوق الإيمان الواحد! لأنهم هم مؤمنون جاهزون. لأن المسيح الآن يطلب من أجل «الذين يؤمنون بي بكلامهم»، أي يطلب الوحدة للذين هم جاهزون في الإيمان الواحد بالكلمة! لذلك يلزمنا أن نلاحظ أن الوحدة التي يطلبها المسيح تأتي هنا أعلى من الإيمان، ومكملة له. فهي وحدة داخلية جوهرية حقيقية بالروح، مثلها المسيح تمثيلاً بالوحدة الكائنة في الآب والابن!! والتي هي ليست وحدة إيمان ولكنها وحدة «ذاتية», أي وحدة «كيان واحد وطبيعة», وحدة ليس فيها ثنائية ولا كثرة.
ويلزما أن ننتبه أن المسيح يطلب هنا الوحدة، بعد أن أكمل طلبته لهم سابقاً أن «يحفظهم في اسمه القدوس» في العالم، ثم «يقدسهم في الحق»؛ والآن يطلب لهم، بعد أن تأهلوا بالحفظ في الاسم القدوس وتقدسوا في الحق، أن يبلغوا «الوحدة».
فلو انتبهنا أيضاً إلى ما حدث للإنسان بعد أن أخطأ آدم، كيف تفتت وتحطمت فيه صورة الله، وفقد وحدانيته التي كان يتراءى بها في حضرة الله؛ لفهمنا لماذا الآن يطلب المسيح للجميع هذه الوحدة؛ لكي، مرة أخرى، يتراءى بها أمام الله في هيئة «كنيسة واحدة» مقدسة بلا عيب!! هذا نفهمه بكل يقين من شرح القديس بولس الرسول في قوله: «وهو أعطى البعض أن يكونوا رسلاً، والبعض أنبياء، والبعض مبشرين، والبعض رعاة ومعلمين، لأجل تكميل القديسين لعمل الخدمة، لبنيان جسد المسيح (الكنيسة)، إلى أن ننتهى جميعنا إلى وحدانية الإيمان, ومعرفة ابن الله, إلى إنسان كامل, إلى قياس قامة ملء المسيح.» (أف11:4-13)
يلاحظ هنا هذا التدرج التكاملي: «وحدانية الإيمان», ثم «معرفة ابن الله»، إلى «إنسان كامل», إلى «دقياس قامة ملء المسيح», وكل من هذه التأهيلات، حتمي لبلوغ الغاية، ولكن التدرج هام للغاية، فوحدانية الإيمان توصل إلى معرفة ابن الله، أي استعلان سر الله، أي سر علاقة الآب بالابن والحياة الأبدية. واستعلان سر الله بالمعرفة الروحية، يوصل إلى «الإنسان الكامل», وهو قصد المسيح من صلاته من أجل الوحدة، أي الإنسان الغير منقسم على ذاته, الإنسان الجديد المنطبعة فيه صورة الله الواحد، المعبر عنه بـ«جسد المسيح السري»، أي الكنيسة، كنيسة الإنسان في المسيح، والمسيح في الإنسان، والتي لها بالضرورة «قياس قامة ملء المسيح».
هنا نفهم أن الله قسّم في الكنيسة المواهب على قدر استعداد وإيمان كل عضو فيها: «كما قسم الله لكل واحد مقداراً من الإيمان» (رو3:12), لكي تعمل المواهب في الأعضاء، والأعضاء بالمواهب, لتكميل «وحدة الكنيسة» في كل شيء، حتى نبلغ في النهاية إلى صورة المسيح الكاملة، التي يعبر عنها بولس الرسول هكذا: «إلى قياس قامة ملء المسيح» (أف13:4). ولكن على الأعضاء من جهتهم أن «يجدوا للمواهب» (اكو31:12). فمسئولية الوحدة, بعد أن أعطى الله كل إمكانياتها للكنيسة, أصبحت واقعة عليها وأصبحت الكنيسة مسئولة عنها: «مجتهدين أن تحفظوا وحدانية الروح برباط السلام, جسد واحد وروح واحد, كما دُعيتم أيضاً في رجاء دعوتكم الواحد: رب واحد, إيمان واحد, معمودية واحدة» (أف3:4-5). وهنا أيضاً نلاحظ أن بولس الرسول يلح في طلب «الوحدة» للكنيسة، بممارسة التصالح الذي لا يهدأ لكي تكون الوحدة مماثلة (= «كما دُعيتم») للايمان الواحد الذي أخذوه!! أي أن الوحدة مطلوبة كضرورة حتمية، لأنها مطلب الإيمان، الأعظم، والأول والأخير.
وعلينا أن نلاحظ أن الأساس الأول، الذي بمقتضاه يطلب المسيح الوحدة عبر الدهور، هو من أجل «الذين يؤمنون بي، بكلامهم»؛ هذا الأساس يجعل الوحدة مؤسسة على الإيمان, أي أصالة «الكلمة» المسلمة من المسيح للرسل، ومن الرسل للذين على بعد. بالتقليد والتسليم الرسوليين وهذا ما عبر عنه بولس الرسول: «مبنيين على أساس الرسل والأنبياء, ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية.» (أف20:2)
المستوى الثاني للوحدة: «ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا
هنا ينتقل المسيح في سؤاله من أجل وحدة الكنيسة في ذاتها، إلى الوحدة «فينا», أي: في المسيح والآب!
واضح هنا أن بلوغ الكنيسة حالة الوحدة في ذاتها، هو الذي يؤهلها للاتحاد بالمسيح والآب، وهذا ظاهر من تسلسل الارتقاء بمفهوم الوحدة: «ليكون الجميع واحداً, ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا».
فالطلبة بدأت أولاً بأن: «يكون الجميع واحداً»، كعطية من لدن الآب، يهبها للكنيسة بسكب مواهب الروح في أعضائها، هذا «ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا»، فوحدتهم في ذاتهم تصير سبباً ومناسبة لكي يصيروا واحداً في المسيح والآب، أي توحدهم في الابن والآب.
ولكن المسيح يعطى نوعية خاصة للوحدة التي يطلبها للكنيسة في ذاتها، لتحياها في الآب والابن، وهي وحدة: «كما أنك أنت أيها الآب فيّ وانا فيك»، «ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا» !!!
هنا يلزمنا أن نفهم الآتى: حدود التشبيه بين الوحدة الالهية القائمة بين الآب والابن, وبين الوحدة المطلوبة للكنيسة المتحدة لتحياها في الآب والابن.
أولاً: ماهية النموذج الذي يقدمه المسح: «كما أنك أنت أيها الآب فيّ وانا فيك».
يُلاحظ من هذا التصريح الإلهي أن المعنى ينصب في أن الكيان الذاتي للآب قائم في الابن، كما أن الكيان الذاتي للابن قائم في الآب. هذا يمكن فهمه بصورة أوضح، حينما ندرك أن «الأبوة» في الله هي خاصة بـ «البنوة». وكذلك البنوة في الله خاصة بالأبوة. بمعنى ان الآب آب للابن وحده, وان الابن ابن للآب وحده. كذلك أيضاً نفهم أن الابن ليس ابناً لنفسه, بل هو كله للآب؛ والآب ليس آباً لنفسه, بل هو كله للابن. هذا الوجود الكياني المتبادل كليا، يجعل للآب والابن «كياناً واحداً ذاتياً». وهذا يعني أن «الله واحد أحد»، أو أن الله ذات واحدة آب وابن.
هذه الخاصية الإلهية، لو أردنا تشبيهها مجرد تشبيه بما يمكن أن يكون لدى البشر من تشبيه، لتصوير الوحدة، فهي تعني أن لا يكون الإنسان لنفسه, وأن يكون قادرا على أن يعطي نفسه أو يبذلها لله، أو للآخرين من أجل الله. وهذا أكمله ابن الله المتجسد، كإنسان، حينما وضع نفسه لله، وأسلمها له حتى الموت، طاعة له وحباً، مبرهناً، على مستوى الناس، أن الابن كله للآب بالحقيقة!!! وكان ذلك نموذجأ لنا في كيف نطيع الله ونحبه, ونبذل النفس حتى الموت, فيصير الإنسان كلة لله! وهذه صورة عملية لبلوغ حقيقة الوحدة مع الله.
بولس الرسول بلغ هذه الصورة عملياً، وعبر عنها بقوله: «فأحيا، لا أنا، بل المسيح يحيا في، فما أحياه الآن في الجسد، فإنما أحياه في الإيمان، إيمان ابن الله، الذي أحبني, وأسلم نفسه لأجلي» (غل20:2)، «كي يعيش الأحياء فيما بعد، لا لأنفسهم، بل للذي مات لأجلهم وقام» (2كو15:5), «ولكنني لست أحتسب لشيء ولا نفسي ثمينة عندي.» (أع24:20)
بولس الرسول بلغ الوحدة السرية في المسيح، وبالتالي في الآب، من واقح الحياة والاختبار الشخصي، قبل أن يطرح ذلك كعقيدة: «جسد واحد وروح واحد، كما دُعيتم أيضأ في رجاء دعوتكم الواحد.» (أف4:4)
ثانيا: ماهية النموذج الذي يقدمه المسيح في قوله مخاطبا الآب: «كل ما هو لى فهو لك, وما هو لك فهو لى».
هنا يمهد المسيح، في صلاته، لمعنى الوحدة وكيفيتها بالنسبة للكنيسة. فكما عبر عن تبادل الوجود الكلي الذاتي بين الآب والابن لتصوير أعلى نموذج عن الوحدة في صورتها الإلهية المطلقة, يعود ويعبر عن هذه الوحدة ذاتها بتبادل «كل» مخصصات الآب للابن والابن للآب، كنتيجة حتمية لتبادل الوجود والكيان. فهي ليست وحدة ذات وكيان فحسب، بل وحدة مخصصات وامكانيات أيضاً. وهذه الخاصية الإلهية، لو اردنا تشبيهها مجرد تشبيه, بما يمكن أن يكون لدى البشر لتصوير الوحدة, هي تعني أن لا يكون لأحد شيء لذاته: «من سألك فأعطه, ومن أراد آن يقترض منك فلا ترده» (مت42:5). وقد بلغت الكنيسة الاولى هذا الحد من الوحدة العملية بالفعل: «وجميع الذين آمنوا, كانوا معاً، وكان عندهم كل شيء مشتركاً. والأملاك والمقتنيات، كانوا يبيعونها ويقسمونها بين الجميع، كما يكون لكل واحد احتياج, وكانوا، كل يوم، يواظبون في الهيكل بنفس واحدة» (أع44:2-46), «وكان لجمهور النين آمنوا قلب واحد ونفس واحدة, ولم يكن أحد يقول إن شيئاً من أمواله له، بل كان عندهم كل شيء مشتركاً» (أع32:4)؛ ولكن يلزم أن نفهم ذلك على المستوى الروحي.
ثالثاً: ماهية النموذج في محبة الآب للابن والابن للآب, الذي يقدمه المسيح ليكون معبراً عن الوحدة التي يطلبها من أجلنا في قوله: «ليفهم العالم أني أحب الآب» (يو31:14), ومن قوله: «الآب يحب الابن, وقد دفع كل شيء في يده» (يو35:3), كذلك: «كما أحبني الآب, كذلك أحببتكم أنا» (يو9:15), وأخيراً: «ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به» (يو26:17)؟
المحبة المتبادلة بين الآب والابن, صفة جوهرية, أي هي من صميم طبيعة الله؛ لذلك فهي تبرز لتكون برهاناً على الوحدة المطلقة في الآب والابن. فالمحبة في الله ليست وليدة إرادة أو عاطفة أو انفعال, من واقع الصلة بين الآب والابن, ولكنها متجذرة أزليا في طبيعة الله، فهي صفة ملازمة حتماً للوحدة. لذلك، فحينما نأخذها نموذجاً لنا لتكون قرينة للوحدة المطوبة، فلا يجب أن نحسب أنها معيار أخلاقي يُحتذى به ليؤهل للوحدة، ذلك لأنها أعطيت لنا على مستوى التشبيه والتشبه، لأن حرف «كما» الذي يأتي دائماً للتشبيه هو على مستوى الشرح لا على مستوى المطابقة: «كما أحبني الآب» (يو9:15), «كما أحببتني» (يو23:17)؛ وأيضاً تشديد المسيح على التمثيل بالمحبة الأزلية الكائنة بين الآب والابن: «لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم» (يو24:17)، لا يقتصر فيها على التشبيه وإنما يقصد به أن هذه المحبة ستكون لنا مصدر انسكاب قوة محبة, عاملة فينا، وعلى مستوانا البشري. وهذا صار واقعاً بالفعل: «لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا، بالروح القدس المُعطى لنا» (رو5:5). هاا الحب المنسكب علينا من الآب بالروح القدس, هو أعظم برهان على حدوث وحدة حقيقية مع الآب والمسيح. وهذا جاء نتيجة لصلاة المسيح وتشفعه بالكلمة والدم!
ومن هذا نفهم أن المحبة التي يحثنا المسيح أن نحب بها، سواء بعضنا لبعض أو نحبه هو أو الآب, للتدليل على صدق بنويتنا لله أو وحدتنا في المسيح به، ليست على مستوى الأخلاق ولا العاطفة كإرادة تحضر وتغيب, ذلك لأن هذه المحبة هي محبة مُشابهة بل ومستمدة من محبة الآب للابن ومحبة الابن للآب، فهي محبة من طبيعة الروح لا الجسد، أي محبة فائقة للطبيعة البشرية, أو بالمفهوم الإلهي هي «موهبة» كما سبق وقلنا: «لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا».
من هنا تنقشع الغمامة التي تعتم الفكر، حينما يسأل الإنسان متحيراً: كيف نقيم حد الوصية: «أحبوا أعداءكم» (مت44:5(!! هنا استحالة أن يكون ذلك على مستوى الإرادة أو العاطفة!! ولكن هذا يمكن إتمامه فقط في حالة واحدة وهي أن تكون المحبة هي «محبة الله», المحبة الروحية الفائقة، الموهوبة لنا، والعاملة بالروح القدس، لتذليل كبرياء الإنسان، واعلاء لإتضاع المسيح. هذه المحبة التي سبق وأن عملت فينا ونحن أعداء الله وخطاة : «الله، الذي هو غني في الرحمة, من أجل محبته الكثيرة التي أحبنا بها, ونحن أموات بالخطايا أحيانا مع المسيح، بالنعمة أنتم مخلصون» (أف4:2-5 وراجع رو8:5و10). هذه هي المحبة القادرة بالفعل أن تحب حتى الأعداء، والتي سماها بولس الرسول بالمحبة الفائقة المعرفة: «وتعرفوا محبة المسيح الفائقة المعرفة, لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله» (أف19:3)، والتي تكون أقوى دليل على أن الإنسان بلغ الوحدة مع الله, الذي أحب العالم, وهو يشرق شمسه على الأشرار والأبرار سواء بسواء.
المحبة أحد إلتزامات الوحدة: واضح أن المحبة كوصية أولى وعظمى، كما طلبها المسيح لنا من الآب، وكما طلبها منا مرارا، ليست مفروزة كعمل أخلاقي كما سبق وقلنا، لأن العمل الأخلاقي يعجز عن أن يلغي الذات في وصية محبة الأعداء؛ كما أن العمل الأخلاقي يقصر عن أن يقدم الذات فيدية من أجل الآخرين. فالمحبة هبة روحية وعطية؛ وعلى هذا الأساس يطالبنا بها المسيح، إذ كما أخذناها كهبة نعطيها كهبة أيضاً بل بالمقابل: «الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي» (غل20:2)، ويقابلها: «بهذا قد عرفنا المحبة، أن ذاك وضع نفسه لأجلنا, فنحن ينبغي لنا أن نضع نفوسنا لأجل الاخوة» (1يو16:3)
من هنا جاءت وصية المحبة كحالة التزام: «هذه هي وصيتي أن تحبوا بعضكم بعضاً كما أحببتكم» (يو12:15). والتزام المحبة حتمي، لا مفر منه, في اللاهوت المسيحي: «أيها الأحباء لنحب بعضنا بعضاً، لأن المحبة هي من الله, وكل من يحب فقد وُلد من الله ويعرف الله. ومن لا يحب, لم يعرف الله, لأن الله محبة» (1يو7:4-8)
المحبة هنا ثمرة حتمية للعلاقة الإيمانية التي تربطنا بالله، وغيابها يعني غياب الإيمان المسيحي كله, وغياب الله من حياتنا. أما حضور المحبة ونشاطها وفرحها بالبذل من أجل الأخرين, فهذا يعني حضور الله في روح الإنسان وقلبه، واعلاناً عن إيمان حار وفعال.
القديس يوحنا يجعل ثبوت المؤمن في المحبة دليلاً قاطعأ على الثبوت في الله، وثبوت الله فيه, أي دليل حالة اتحاد: «الله محبة، ومن يثبت في المحبة، يثبت في الله، والله فيه.» (1يو16:4)
صحيح أن المحبة، هبة عظمى مجانية، ولكننا لا نأخذها إلا لنعطيها. وعطاؤها هو هو بذل النفس وانكارها حتى الموت. ومن لا يتشجع ويعطيها, تُسحب منه، فيبيت بلا محبة، وبمسى غريباً عن صليب المسيح. أما الذي تشجع «وأبغض ذاته» «وأهلكها» بمعنى أهلك كبرياءها وجعلها تحت أقدام الآخرين، حباً لهم وللمسيح، وذلك حسب الوصية, أي من أجل المسيح والإنجيل، فقد عاش بل وقد انتقل من الموت إلى الحياة: «نحن نعلم أننا قد انتقلنا من الموت إلى الحياة, لأننا نحب الإخوة. ومن لا يحب أخاه يبقى في الموت.» (1يو14:3)
إذن، فالوحدة التي وهب لنا الله أن نبلغها في المسيح في الله، ليست بدون مقابل أو التزام؛ فالذات أو الذاتية في الإنسالأ يلزم أن تكون «الأنا» هي ضحيتها الاولى، «مع المسيح صُلبت، فأحيا، لا أنا, بل المسيح يحيا فىّ» (غل20:2). فإن كانت «الأنا» التي فيّ قد ماتت، فقد انفتح لى باب الحب على مصراعيه، فأحب أعدائي، حتى صالبيّ، وأبارك من يلعن ذاتي، لأني قد دفنتها في قبر المسيح، أصلى لمن يُسىء إلى نفسي، ويطاردها، فنفسى لم يعد لها حساب عندي بعد (راجع أع24:20)، إنها ليست هنا!!!
رابعاً: الفرق بين «الوحدة في الله», وبين الوحدة المطلوب أن تكون لنا فيما بيننا, أو بيننا وبين الآب والابن: وحدة الله في ذاته: «أنا والآب واحد»، «أنا في الآب، والآب فىّ»، «كل ما هو لى فهو لك, وكل ما هو لك فهو لى»؛ هذه الوحدة الإلهية الفائقة تقوم على أساس التساوي المطلق بين الآب والابن في الذات وفي كل منهما، حتى إن كلمة «التساوي» هنا هي أضعف من أن تعبر عن الحقيقة، لأن لفظة «تساوي» هي وليدة القياس والله لا يُقاس؛ والأصح أن نقول أنهما واحد، لأن الله مُطلق في صفاته، فوحدته مطلقة، وبلا قياس، ومنزهة عن مفهوم العدد. لذلك ، يستحيل أن يكون للوحدة في الله شبيه في الإنسان، وإنما ساقها المسيح للشرح والتمثيل وليس للطباق أو المساواة، لأنه إذا استحال حتى القياس بالتساوي بين إنسان وإنسان، فكيف يمكن أن يبلغا اتحاداً على مستوى الله؟
فالاتحاد, أو الوحدة التي يطلبها لنا المسيح فيما بيننا ثم فيما بيننا وبين الآب, هي وحدة تتناسب قبل كل شي ء مع تفردنا واختلاف أجناسنا وتباين طبائعنا. فنحن لسنا متساوين في كياننا الداخلي، في أي شيء البتة، إلا في الخطية والعجز والقصور الروحيين.
لذلك, فالوحدة التي يطلبها لنا المسيح, لا تقوم البتة على ماهية أشخاصنا أو ما هو لنا, بل على أساس أن نتساوى فيه والآب، وليس تساوينا في ذواتنا. فبقدر ما تنسكب فينا قوة وحدة المسيح في الآب, سواء من جهة الحب بينهما أو من جهة الحق أو القداسة، بقدر ما نبتدىء نحن نتساوى ونتقارب ونتحد بهذه القوة الخارجة عنا والآتية إلينا من لدن الله. فمحبة الله تحصرنا، فتلغي عداواتنا وتُنهي على انقساماتنا؛ وحق المسيح والآب يصهر أفكارنا وقلوبنا، فيبدد جهالاتنا، ويوقف حماقاتنا ويقدس أرواحنا وأجسادنا: «ولأجلهم أقدس أنا ذاتي، ليكونوا هم أيضاً مقدسين في الحق» (يو19:17)؛ ونور معرفة المسيح والآب ينسابان في طبائعنا الروحية ووعينا «بالكلمة», فتُستعلن لنا الوحدة الكائنة في المسيح والآب بقوة تُدخلنا في الإحساس والوجود الفعلي في حضرة الآب والابن بلا أي عائق فكري. وهكذا نتحد فيما لله، وليس فيما لنا، ونصير واحداً بسبب الروح الواحد الذي نستقي منه (1كو13:12)، والجسد الواحد الذي نغتذي عليه: «كأس البركة التي نباركها أليست هي شركة دم المسيح؟ الخبز الذي نكسره أليس هو شركة جسد المسيح؟ فإننا نحن الكثيرين خبز واحد، جسد واحد، لأننا جميعنا نشترك في الخبز الواحد.» (1كو16:10-17)
فإن فسرنا معنى قول المسيح مراراً: «أنتم في وأنا فيكم»، عمليا في حياتنا اليومية، يكون المعنى هو التبادل الغير عادل بالمرة بين ما له وما لنا، كقول الآبصلمودية السنوية: «هو أخذ الذي لنا، وأعطانا الذي له، فلنسبحه نمجده ونزيده علواً» (مرد ثيئوطوكية الجمعة). نعم، فالوحدة التي سعى إليها المسيح نحونا هي تبادل القوة والطاقة. ولكن للأسف, أو يا للسعادة، فهو تبادل ليس على مستوى التساوي كما للآب والابن، بل على أساس تغطية عجزنا بكماله وجبران نقصاننا بملئه. فهو فينا بملئه وكماله، ونحن فيه بعجزنا ونقصاننا؛ هو فينا بقداسته الكلية، ونحن فيه بلا قداسة بالكلية, ولكننا بالنهاية صرنا مملوئين فيه، أحباء وقديسين وبلا لوم أمام الله.
الوحدة والملء: القديس بولس يعبر عن أسمى صورة للاتحاد بالمسيح بقوله: «فإن فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً، وأنتم مملوؤون فيه» (كو9:2-10). فما هو«ملء اللاهوت»؟ وما هو «ملء اللاهوت جسدياً», أما «ملء اللاهوت» فهو للابن قبل تجسده، وهذا هو الذي عبر عنه المسيح بقوله: «الآب فّي», وهذا ليس ليس لنا أن نقربه، أو حتى تطع عليه؛ أما «ملء اللاهوت جسدياً», فهو ملء اللاهوت الذي صار في الجسد من أجلنا, منظوراً وملموسأ ومُشاهدا، كما يقرر القديس يوحنا: «االذي كان من البدء, الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدنا، ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة؛ فإن الحياة أُظهرت، وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية، التي كانت عند الآب وأُظهرت لنا… وأما شركتنا نحن, فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح.» (1يو1:1-3)
فملء اللاهوت جسديا هو ملء الله، الذي جعله في متناول أخذنا!! «ومن ملئه نحن جيعاً أخذنا، ونعمة فوق نعمة» (يو16:1). أخذنا من ملئه الإلهي القداسة، الحياة الأبدية، والحب، والوداعة، وتواضع القلب، والنور, والخبز الحقيقي، وماء الحياة، أخذنا قدوسيته برضاه: «من أجلهم أقدس أنا ذاتي، ليكونوا هم أيضاً مقدسين في الحق» (يو19:17). كل هذا واكثر عبر عنه المسيح بقوله: «أنا فيهم». وبقوله: «أنا فيكم», «وأنتم في», يكون المسيح قد عبر تعبيرا مزدوجاً عن اتحاد غير منفصم . وهكذا صارت طرق الله التي كانت في القديم تعلو عن طرقنا (إش9:55, رو33:11) علو السموات عن الأرض, صارت هي نفسها لنا طريقاً وباباً : «أنا هو الطريق والحق والحياة» (يو6:14), «أنا هو الباب» (يو9:10). وفكر الله الذي كان يعلو عن أفكارنا, صار هو هو بذاته «فكرنا». فما هو فكر الله إلا «الكلمة», كلمة الله الفائقة عن الإدراك, الخالقة السموات والأرض وكل ما فيهما، أتتنا على الأرض متجسدة ومتأنسة في هيئة إنسان، لنسمعها من فم الله, سمع الاذن، ونراها رؤيا العين, ونلمسها لمس اليد. فأدركناه، بل وصار لنا فكره: «وأما نحن فلنا فكر المسيح» (اكو16:2). والنور الذي لم يعرفه العالم سابقاً، عرفناه. والقداسة والبر الإلهي, أمور الله غير المقترب إليها حتى بالفكر، صارت كلها في متناول حياتنا: «الذي صار لنا حكمة من الله وبرا وقداسة وفداء» (1كو30:1). نعم لقد أسس المسيح, بسر تجسده وصليبه، أسس الاتحاد المقدس.
الوحدة كعطاء ونعمة: وقد صور المسيح في سفر الرؤيا هذه الوحدة العملية التي يسعى إليها من نحونا هكذا: «هأنذا واقف على الباب وأقرع. إن سمع أحد صوتي وفتح الباب (باب الحب)، أدخل إليه, وأتعشى معه, وهو معى» (رؤ20:3). هو يتعشى من صحن هموم الإنسان وأوجاعه وأنينه, يتعشى متقاسماً معه لقمة الشقاء والتغرب. والإنسان يتعشى معه, بالنعمة, من صحن أفراحه وبهجة خلاصه، ويتناول من يده خبز حبه وختم استيطانه!!
إن وحدة الآب والمسيح تقوم على التساوي كلياً وفي كل شيء, فهي وحدة ذات وكرامة ومجد وكمال مطلق. فالوحدة بين المسيح والآب هي طبيعة جوهرية، أما الوحدة التي لنا في المسيح والآب فهي نعمة ورحمة، هي تفضل، هي هبة، هي مجرد إشعاع فعال لوحدة المسيح والآب، حتى لا تبقى الوحدة في الله بلا عمل فـ«نحن عمله» (أف10:2), ولكن يلاحظ أن المسيح لم يطلب الوحدة لتلاميذه، إلا بعد أن قدم شهادته للآب أنهم: «قد حفظوا كلامك» (يو6:17)» وأنهم أصبحوا : «ليسوا من العالم» (يو14:17)، فهي ليست بلا ثمن كلية.
المستوى الثالث للوحدة: «ليكونوا مكملين إلى واحد»: المسيح هنا يسمو بالوحدة التي يطبها لنا، أولا فيما بيننا، وثانيا فيما بيننا وبينه والآب, ثم أخيراً إلى تكميلها إلى الكمال.
والإنجيل يعبر عن «التكميل» بكلمة ( )، وهي لا تعني تكميل الناقص، بل تكميل الكمال، وتترجم بالإنجليزية: perfected. فالذين اتحدوا بالابن والآب، لم يعودوا ناقصين محتاجون إلى التكميل بل هم مهيأون لقبول الكمال. فالمسيح سبق ومنحهم خصائصه بقوله: «وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني… ليكونوا مكملين إلى واحد»، أي ليبلغوا «كمال» الوحدة. هذا الكمال عبر عنه بولس الرسول بقوله: « لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله» (أف19:3)، حيث يستخدم الكلمتين: «تمتلئوا»، و«الملء» وهي المرادف تماما لتكميل الكمال. كما عبر عنها القديس يوحنا بقوله: «مملوءاً نعمة وحقاً … ومن ملئه نحن جميعا أخذنا، ونعمة فوق نعمة» (يو14:1-16). وبولس الرسول يستخدم مرة أخرى كلمة «الملء» فيما يخصنا من ملء لاهوته، وذلك على مستوى الملء الذي له، ولكن على قدر ما تتسع له طبيعتنا العاجزة: «فإنه فيه يحل كل ملء اللاهوت جسديا, وأنتم مملوؤون فيه» (كو10:2). حيث لا يتحول الملء الإلهي الذي له إلينا، ولكن نصير باتحادنا به مملوئين فيه! وهذا أوضحه بولى الرسول أيضاً في قوله: بسبب هذا أحني ركبتى لدى أبي ربنا يسوع المسح, الذي منه تُسمى كل عشيرة (أبوة = fatherhood) في السموات وعلى الأرض، لكي يعطيكم, بحسب غنى مجده, أن تتأيدوا بالقوة، بروحه في الإنسان الباطن، ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم, وأنتم متأصلون ومتأسسوذ في المحبة، حتى تستطعوا أن تدركوا مع جميع القديسين ما هو العرض والطول والعمق والعلو، وتعرفوا محبة المسيح الفائقة المعرفة، لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله. والقادر أن يفعل فوق كل شيء أكثر جداً مما نطلب أو نفتكر، بحسب القوة التي تعمل فينا» (أف14:3-20). ولكي ننبه ذهن القارىء إلى محور القوة في هذه الآيات نوجز الخلاصة كالآتي:
+ «يعطيكم… غنى مجده… بروحه… ليحل المسيح… في قلوبكم… تدركوا مع جميع القديسين (الكنيسة)… تمتلئوا إلى كل ملء الله… بحسب القوة التي تعمل فينا».
ومرة أخرى نختصر المعنى لتبرز القوة كالآتي:
«يعطيكم… مجده… المسيح فى قلوبكم… تدركوا… ملء الله… بحسب القوة التى تعمل فيكم»
وهذا هو روح كلمات المسيح يذكرها القديس يوحنا: «أنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني… ليكونوا مكملين إلى واحد». واضح أن عطية المجد التي يعطيها الآب للمسيح لحسابنا، والتي سلمها لنا المسيح، تكون سر الملء لبلوغ كمال الوحدة في المسيح والآب.
ولكن ما هو المجد الذي أعطاه الآب للمسيح, فأعطاه المسيح لنا؟
قطعا ليس هو مجد الإلوهية الذي «للكلمة الله» المساوي للآب, فهذا المجد ليس مُعطى للابن، بل هو من خصائص لاهوته. ولكن المقصود هنا هو المجد الذي أُعطي للابن حال تجسده لحسابنا. فهو مجد فائق, وانما على مستوى إدراك الإنسان ليبلغ به الإنسان في النهاية كمال الشركة في المسيح والآب. فما هو هذا المجد المُعطى؟ والذي هو لنا وتحت حسابنا؟
توجد آيات بسيطة غاية البساطة تشير إلى هذا المجد مئل: «… لأن يسوع لم يكن قد مُجد بعد» (يو39:7)، أي لم يكن قد صُلب. فهل آلام الصليب هي المجد الذي أعطي للمسيح ليكمله لحسابنا؟ ثم قول المسيح ليلة العشاء الأخير، وهو يقسم جسده مصلوباً بالنية قبل أن يُصلب بأيدي الأثمة: «قال يسوع: الآن قد تمجد ابن الإنسان وتمجد الله فيه. إن كان الله قد تمجد فيه، فإن الله سيمجده في ذاته, ويمجده سريعاً.» (يو31:13-32)
واضح أن المسيح يتكلم عن مجد الصليب، إذ ينعته زمنياً: «سريعاً» ، وأن بالصليب سيتمجد المسيح، وسيُمجد الله الآب . فإن الأنبياء سبقوا وتنبأوا بآلام المسيح والمجد المتأتي منها: «باحثين أي وقت، أو ما الوقت الذي كان يدل عليه روح المسيح الذي فيهم، إذ سبق فشهد بالآلام التي للمسبح والألمجاد التي بعدها.» (1بط11:1)
وقد حدث بالفعل، إذ قد «رُفع (المسيح) في المجد» (اتي16:3) من بين الأموات! «ودخل إلى مجده» (لو26:24)، و«جلس في يمين العظمة في الأعالى» (عب3:1)، مسبباً مجداً لله الآب من كل لسان وشعب وأمة في كل زمان ومكان وإلى أبد الآبدين، وهكذا صار الصليب بما يحتويه من جوهر الاستعلان: «متى رفعتم ابن الإنسان، فحينئذ تفهمون أني أنا هو» (يو28:8), وبما يؤدي إليه, مجداً، ومؤدياً إلى مجد، وممجداً الآب، وسبباً للمجد لكل من يحمل أو يتحمل عاره!!
وهذا المجد عينه، مجد الاستعلان لحقيقة الله الخلاصية، وما يؤدي إليه من احتمال الآلام, ببذل الذات حتى الموت، موت الصليب، شهادة للابن والآب؛ قد تحول بجملته لحساب الإنسان، لكل من يتألم من أجل اسم المسيح: «… أنتم الذين ثبتوا معي في تجاربي، وأنا أجعل لكم كما جعل لي أبي ملكوتاً، لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي، وتجلسوا على كراسي تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر.» (لو28:22-30)
وبولس الرسول يقولها واضحة مختصرة: «إن كنا نتألم معه لكي نتمجد أيضاً معه» (رو17:8). ثم يشرحها بوضع يفوق التساوي والتعادل بقوله: «فإني أحسب أن آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا» (رو18:8). وبطرس الرسول يقول بنفس القول: «إن عُيرتم باسم المسيح فطوبى لكم، لان روح المجد والله يحل عليكم» (ابط14:4)
هذا هو المجد الذي أعطاه الله الآب للابن حال تجسده، أي «آلام الصليب»، لكي يفتح به المسيح طريق المجد للإنسان، ثم يسلم هذا الصليب عينه لكل من أحبوه وآمنوا به. لكي يبغ الإنسان، بنفس الآلام التي كان قد وُضع تحتها بسبب خطيئته, بعد أن حولها له المسيح إلى آلام من أجل اسمه، طاعة لله وحباً للآب والمسيح، فصارت له سسب مجد, بعد أن كانت بسبب خطيته. وهكذا، ومن نفس عقوبة الإنسان الاولى, أصبح له المسيح إكليل مجد لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمعل، محفوظاً له في السموات! وهذا هو المجد، الذي إذ نتحصل عليه، نصير مؤهلين لشركة «الوحدة» وسرها.
وهكذا أيضاً، وبالتال، فكما فتتت الخطية الإنسان, بآلامها المتنوعة التي كانت على مستوى اللعنة، ومزقته تمزيقاً، وشوهت صورة الله فيه، استطاع المسيح أن يحول هذا التفتت، بهذه الآلام عينها، وبجسد الخطيئة نفسه وبلعنة الآلام عينها, يحوله إلى وحدة!!! إذ بجسده الممزق، جمع شمل البشرية الممزقة، ووحدها في نفسه وفي جسده وفي روحه!!! «لأنه جعل الذي لم يعرف خطية, خطية لأجلنا، لنصير نحن بر الله فيه» (2كو21:5)، «المسيح افتدانا من لعنة الناموس، إذ صار لعنة لأجلنا، لأنه مكتوب: ملعون كل من علق على خشبة.» (غل13:3)
هكذا صار الصليب هو المجد، وروح المجد، وإكليل المجد، الذي وُهب للانسان أن يتقلده، كمثل المسيح، كأعلى وسام للكمال يدخل به إلى شركة المجد والوحدة مع المسيح والآب. والآن، تصبح آية صلاة المسيح ساطعة بنور أخاذ: «وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني … ليكونوا مكملين إلى واحد»!
علاقة كمال الوحدة بتكميل الآلام: وهكذا لاق بنا أن نبلغ كمال الوحدة بجد الآلام، كما لاق به هو أن يبلغ الكمال بالآلام: «لأنه لاق بذاك الذي من أجله الكل وبه الكل، وهو آت بأبناء كثيرين إلى المجد, أن يكمل رئيس خلاصهم بالآلام» (عب10:2)، «وإذ كمل، صار لجميع الذين يطيعونه سبب خلاص أبدي» (عب9:5). هنا علاقة سرية وطيدة بين كمال المسيح الذي بلغه بالآلام، وبين أن نكمل نحن إلى واحد. فهنا شرح عملي لعلاقة الآلام وسموها بمجد الخلاص بالصليب. هذا الصليب الذي تأهل به «ابن الانسان»، بنوع ممتاز كابن الله، المستأمن على كل سر الله، ليصنع صلحاً وسلاماً أبدياً بين الخليقة وخالقها، وليكشف بواسطته عن سر وحدته مع الآب، هذا السر بكل عمقه وسره وسموه، سلمه المسيح لخواصه, لا ليتصالحوا فقط مع الله بدم صليبه بل ليتحدوا أيضاً به، ليصالحوا الآخرين بالله: «ولكن الكل من الله، الذي صالحنا لنفسه بيسوع المسيح, وأعطانا خدمة المصالحة. أي إن الله كان, في المسيح, مصالحاً العالم لنفسه, غير حاسب لهم خطاياهم, وواضعأ فينا كلمة المصالحة. إذا، نسعى كسفراء عن المسيح، كأن الله يعظ بنا, نطلب عن المسيح: تصالحوا مع الله» (2كو18:5-20)، «من غفرتم خطاياه, تُغفر له» (يو23:20)
واضح هنا مبدأ التكميل بالآلام الذي بلغه المسيح، فبلغ به المجد، وأعلن به عن وحدته بالآب، وكيف سلمه لنا خلاصأ. فصرنا, بتكميل الآلام عينها من أجل اسمه، شركاء مجد ووحدة وعلاقة سرية معه ومع الآب، وسفراء لله فوق العادة.
نعم، فليس في كل ما يعمله الإنسان ما هو مثل الألام التي للشهادة، إذ لها قدرة أن توحد الإنسان في نفسه والآخرين والله، وتورث مجد الحياة الأبدية: «أطلب إلى الشيوخ الذين بينكم، أنا الشيخ رفيقهم، والشاهد لآلام المسيح, وشربك المجد العتيد أن يُعلن …» (1بط5:1)
الوحدة المسيحية أعظم شهادة لرسالة المسيح في العالم, وأوثق برهان لمحبة الآب الخالصة
23- أَنَا فِيهِمْ وَأَنْتَ فِيَّ لِيَكُونُوا مُكَمَّلِينَ إِلَى وَاحِدٍ وَلِيَعْلَمَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي وَأَحْبَبْتَهُمْ كَمَا أَحْبَبْتَنِي.
حينها يُستعلن المسيح فينا فنتوحد معاً فيه, وتوحدنا شركة آلامه, حينئذ تصير وحدتنا وتصير شركة آلامنا مصدراً دائماً ومستمراً، يدرك منه العالم صدق رسالة المسيح؛ كما ينبع من وحدتنا فيه ومن شركة آلامه, شهادة صادقة لمحبة الآب لنا، كما نبع من الصليب الشهادة لحب الآب للمسيح حينما استعلن مجد الله فيه.
إن أشد ما يتأثر به العالم ويقنعه برسالة المسيح المصلوب، هو استعلان سر الصليب في المسيحيين، وذلك حينما يتألمون من أجل اسمه، شاكرين، فرحين، متحدين، كقول بطرس الرسول: «إن عيًرتم باسم المسيح فطوبى لكم، لأن روح المجد والله يحل عليكم» (ابط14:4)
هنا يبرز عاملان يسندان طلب المسيح للوحدة المسيحية: الأول أن يؤمن العالم برسالة المسيح, والثاني: إمكانية انسكاب محبة الله الأبوية في قلوب المؤمنين.
إذن، واضح، وللأسف الشديد، أن في غياب الوحدة المسيحية ضياع الفرصة من العالم لكي يؤمن برسالة المسيح، وضياع الأمل من الكنيسة لانسكاب محبة الآب؛ وإن كانت هناك نماذج قليلة وفردية لا تزال تبث رسالة المسيح في العالم بنموذج وحدتهاه حيث تشهد لها محبة الآب التي تلهب قلوب متقيها.
والوحدة المقدسة، أو الاتحاد المقدس في المسيح والآب، هي في اللاهوت المسيحي «هبة» جعلها المسيح في متناول سؤالنا وإلحاحنا وسعينا المقدس بالروح. وهي هبة سماوية، لا تتطلب إلا أن يخضع لها الموهوب بالشكر, ويثبت استحقاته لها بالطاعة الروحية الباذلة للجسد ومشيئته حتى الموت والمحبة الصادقة عديمة الغش، حتى يستعلن الله ذاته ووجوده بلا مانع في القلب. وإن الرب يسوع المسيح جعل هذا «الاتحاد المقدس» موضوع اهتمامه حتى آخر لحظة من حياته على الأرض، وختمه بدمه على الصليب، وفتح الباب للدخول فيه بإرساله الروح القدس الذي يقودنا نحوه بالصلاة.
والاتحاد المقدس بالمسيح والآب هبة, وهي التي سنكتسب بها الخلود, وقد مُنحت لنا بمقتضى صلاة المسيح، الذي عضدها بصليبه، وأحدرها لنا من علو سمائه بدمه. فهي فائقة حقاً، ومتعاظمة في المجد» بحسب علو مجد معطيها. ونحن ننظر إلى هذه الهبة ونرتعب, بسبب عدم لياقة خساسة طبيعتنا, ولكن عندما ننظر إلى علو سخائه في المجد وعظمة قدرة محبته الفائقة نحونا، ونتمعن في استحقاق الثمن المدفوع لعطائها، نقول: نعم نشكرك، أيها الآب، لأنك أعطيتنا هذا الاتحاد المقدس في المسيح، لنحيا معك، استجابة لدعاء ابنك الوحيد ودمه الذي به اشترانا من الأرض لك.
24- أَيُّهَا الآبُ أُرِيدُ أَنَّ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي يَكُونُونَ مَعِي حَيْثُ أَكُونُ أَنَا لِيَنْظُرُوا مَجْدِي الَّذِي أَعْطَيْتَنِي لأَنَّكَ أَحْبَبْتَنِي قَبْلَ إِنْشَاءِ الْعَالَمِ.
كلمتان تتصدران هذه الأية، لتعطيها ثقلاً روحياً؛ الكلمة الاولى: «أريدء». فالمسيح هنا لا يتوسل، بل يريد، لأنه إذ يختم توسلاته التي قدمها للآب من أجل الوحدة, وهو على الأرض, وذلك من منطلق ما قبل الصليب، بدأ يتكلم ويطب من منطق, مجد, ما بعد الصليب: «اريد»!!
المسيح هنا يكشف عن دالة البنوة عند الابن, الذي يكون قد أكمل مشيئة الآب، إنه يضع على الآب تكليفاً يتوازن مع التكليف الذي وضعه الآب عليه!!!
علماً بأننا لا نستطيع أن نفرق كثيراً بين أن يطلب المسيح, أو أن يطالب، أو بين أن يصلي, وأن يتوسل، وأن يريد، لأنه ضامن الاجابة: «وأنا علمت أنك في كل حين تسمع لي» (يو42:11). كما يعلم أن إرادته هي إرادة الآب، وإرادة الآب هي إرادته» فهو لا يملي إرادته على الآب, بل يعبر بإرادته عن إرادة الآب!! ولكن هي لغة الدالة حينما تبلغ أقصى وثوقها .
ونلاحظ أن المسيح استخدم سابقاً كلمة «أنا أسأل»، وهي أيضاً لغة الدالة التي لم يستخدمها أحد في مخاطبة الله إلا المسيح. ولكن هنا ينتقل إلى التعبير الأعلى والأكثر وثوقاً بوحنا فى الاستجابة: «أريد»، كمن يتكلم بسلطان؛ ليس سلطانه لدى الأب، ولكن بالسلطان الذي أعطاه إياه الأب: «إذ أعطيته سلطاناً على كل جسد، ليعطي حياة أبدية لكل من أعطيته.» (يو2:17)
ويطيب لنا أن نقارن بين «أريد» هنا، فيما بعد الصليب بالنسبة لأحبائه، وبين «لا أريد» وهو تحت الصليب بالنسية لنفسه!! «يا أبا الآب، كل شيء مستطاع لك، فأجز عني هذه الكأس, ولكن ليكن، لا ما اريد أناء بل ما تريد أنت.» (مر36:14)
أما الكلمة الثانية: ذات الثقل العالي، فهي أن هؤلاء «يكونون معي» حيث أكون أنا! فهذا هو مجد الوحدة وإكليلها الفاخر.
لقد مبق وأعلن المسيح عن هذه الإرادة التي تلح في داخله من أجل أحبائه: «إن كان أحد يخدمني، فليتبعني، وحيث أكون أنا, هناك أيضاً يكون خادمي, وإن كان أحد يخدمني يكرمه الآب» (يو26:12). وواضح أنه إن كنا نتبعه هنا على درب الصليب, فسوف نتبعه هناك في دروب أمجاد العلا: «هؤلاء هم الذين يتبعون الخروف حيثما ذهب, هؤلاء اُشتروا من بين الناس، باكورة لله وللخروف، وفي أفواههم لم يوجد غش، لأنهم بلا عيب قدام عرش الله.» (رؤ4:14-5)
ولقد عبر المسيح مرة عن هذه الإرادة المحببة إليه، أن يكون أحباؤه معه حيثما يكون، وذلك بتأكيد في صورة وعد: «وان مضيت وأعددت لكم مكاناً، آتي أيضاً وآخذكم إلي، حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً» (يو3:14). ولقد أفصح المسيح مرة أيضاً لبطرس الرسول أنه (أي بطرس) سيتبعه من فوق ذات الصليب إلى هناك في ذات المجد: «حيث أذهب لا تقدر الأن أنذ تتبعني، ولكنك ستتبعني أخيرأ.» (يو36:13)
ولكن ما لنا نبتعد كثيراً عن سر «هؤلاء الذين أعطيتني»؟ أليسوا هم هم العروس؟ الكنيسة المفدية، المغسولة، والمطهرة، التي بلا عيب ولا دنس، كيف لا تكون حيث يكون، وكيف لا تبقى من قرب، بل وأقرب المقربين، لترى مجده، بل تقاسمه إياه؟ ثم أليس هو الوعد الذي وعد ليوحنا، في رؤياه، كاخر ما يقوله الروح للكنائس السبع: «من يغلب، فساعطيه أن يجلس معي في عرشي، كما غلبت أنا أيضاً، وجلست مع أبي في عرشه» (رؤ21:3). وعجيب أن يطابق هذا الوعد، بحروفه، مع آخر كلمة قالها المسيح في كل تعاليمه التي جاءت في نهاية الأصحاح السادس مشر: «… ولكن ثقوا أنا قد غلبت العالم.» (يو33:16)
ولكن السؤال الذي يتحتم الاجابة عليه هو: ما الفرق بين المجد الذي سبق أن رآه التلاميذ في المسيح وهو معهم. «وحل بيننا ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً» (يو14:1)، والمجد الذي عاد المسيح يطلب من الآب أن يراه هؤلاء التلاميذ وهم معه: «أريد أن هؤلاء … يكونون معي حيث أكون أنا لينظروا مجدي» (يو24:17)؟
القديس يوحنا في الآية 14:1 يتكلم عن المجد الذي استطاع أن يستوعبه من خلال حجاب الجسد, سواء جسد المسيح وهو في حالة الإخلاء، أو جسد التلاميذ الذي لا يستوعب إلا جزئياً، وكما من خلال مرأة، كما في لغز، ولا بيلخ إلا إلى «بعض المعرفة.» (1كو12:13)
ولكن المسيح هنا يتكلم عن رؤيا مجده، وهو في كامل استعلان لاهوته في السماء مع الآب، وهي رؤيا لا يحجز عنها الجسد شيئاً من جلالها, بل رؤيا الكل والكمال، التي عبر عنها القديس يوحنا أيضاً في رسالته هكذا: «لأننا سنراه كما هو.» (ايو2:3)
والذي نلحظه بوضوح أن حالة «يكونون معي حيث أكون أنا»، هي حالة أشد استعلاناً وعلانية من: «أنا فيكم وأنتم في» والتي تمثل الوحدة في مفهومها الحاض! لأن المسيح يكون فينا، ونكون فيه الآن «بالإيمان» فقط: «ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم» (آف17:3). والوحدة المتأتية من ذلك هي وحدة «سر» أو سرائرية غير منظورة: «من يأكل جسدي ويشرب دمي، يثبت في وأنا فيه» (يو56:6). وهذه الوحدة بالحلول وبالسر يعوقها الجسد، ويحد من فاعليتها واستعلانها، وينقص من بهجتها، بسبب عجزه وقصوره ورغباته المعاكسة. لذلك حق للمسيح أن يطلب لنا ما فوق الحلول والسر، يطلب التواجد معه في حالة استعلان ورؤية كاملة، ترتقي إليها الروح، بعد أن تطرح عنها الفاسد وتلبس عدم الفساد.
ولكن المسيح كعادته أحجم عن ذكر ماذا سيراه المؤمنون هناك، فهو يسكت دائماً عن ذكر ما لا طاقة لنا بمعرفته: «إن كنت قد قلت لكم الأرضيات، ولستم تؤمنون، فكيف تؤمنون إن قلت لكم السمويات» (يو12:3)، أو كما حاول بولس الرسول أن يصفها: «ولا يسوغ لانسان أن يتكلم بها» (2كو4:12)» إذ أنها «لا تخطر على قلب بشر» (1كو9:2).
ولكن الذي نعرفه والذي نثق فيه بالروح، أننا سنستوعب من مجده الأسنى قدر ما تستطيع الروح أن تستوعب، في غيبة جسدنا المعتم هذا، وسنرى العلاقة الأزلية بين الآب والابن، وسينفذ فينا شعاع مجد لاهوته لينطبع علينا بهاء صورته ولن تُمحى منا إلى الأبد: «ولكن نعلم أنه إذا أُظهر نكون مثله، لأننا سنراه كما هو» (1يو2:3)، «متى أُظهر المسيح حياتنا، فحينئذ تظهرون أنتم أيضاً معه في المجد.» (كو4:3)
لأنه إن كان قد أعطي لنا الآن أن نكون «نحن جميعاً ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف، كما في مرآة، نتغير إلى تلك الصورة عينها، من مجد إلى مجد، كما من الرب الروح» (2كو18:3)؛ فماذا حينما لا تكون مرآة، بل يكون هو هو بملء لاهوته، وقد تخلى عن إخلائه، واسترد جلال جوهر مجده، والجسد فيه يتلألأ بضياء نور الآب، الذي ليس فيه ظلمة البتة. فإذا كانت صورته في المرآة تنطبع علينا لنتغير إليها من مجد إلى مجد، فماذا يكون حينما ندخل الأقداس العليا لنتراءى معه أمام أبيه لنستأمن سر الأزل، ونور الخلود، وحب الآب للابن، وشركة ميراث الوحيد المحبوب؟
ولكن يُستدل من قول المسيح، أنه «يريد» أن يكون المؤمنون به معه حيث يكون، أن الموت هنا في فكر المسيح غير محسوب البتة وكأنه لا يكون. فقد ألغى المسيح الموت بالنسبة للذين يؤمنون به، كما ألغى الحياة بصورتها المادية المتعارف عليها: «أنا هو القيامة والحياة. من أمن بي ولو مات فسيحيا.» (يو25:11)
«لينظروا مجدي الذي أعطيتني، لانك أحببتني قبل إنشاء العالم»: المجد هنا ليس هو مجد «الكلمة» ولكنه مجد الكلمة المتجسد: «وإذ وُجد في الهيئة كإنسان، وضع نفسه، وأطاع حتى الموت، موت الصليب. لذلك رفعه الله أيضاً، وأعطاه اسماً فوق كل اسم, لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء، ومن على الأرض، ومن تحت الأرض، و يعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب. (في8:2-11)
ومعلوم في اللاهوت المسيحي، أنه يمتنع أن يُقال عن «مجد» الابن قبل تجسده، أنه «مُعطى», بل هو مجد واحد للآب والابن سواء بسواء، فهو حقه الأزلي. أما المجد «المُعطى»، فهو المجد الذي اكتسبه المسيح بطاعته للأب بآلامه الطوعية حتى الصليب: «ولكن الذي وُضع قليلاً عن الملائكة، يسوع، نراه مكللا بالمجد والكرامة، من أجل ألم الموت, لكي يذوق بنعمة الله الموت لأجل كل واحد» (عب9:2). وعلينا أن نمعن النظر في الرباط الوثيق بين غاية المسيح في التجسد وبين طلبته هذه: أن نكون شركاء مجده الذي حازه بالصليب؛ لأنه إن كانت غاية التجسد هي الصليب، وغاية الصليب هي أن يمنح لنا تطهيراً، فغاية التطهير الذي نلناه هو أن يؤهلنا لأن نرتفع إليه ونبقى معه حيث هو: «بعد ما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا، جلس في يمين العظمة في الأعالى صائرا أعظم من الملائكة، بمقدار ما ورث اسماً أفضل منهم» (عب3:1-4)؛ ثم لمن أعد هذا المكان: «في يمين العظمة في الأعالى» إلا لنا؟ «وإن مضيت وأعددت لكم مكاناً، آتي أيضأ وآخذكم إلي. حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً.» (يو3:14)
هذا المجد هو مجد مصالحة الله مع الإنسان، أو هو عودة مجد الانسانأ المتصالح مع الله الذي استرده المسيح للبشرية، بالثمن الذي دفعه بالصليب غالياً، لذلك حق له ولنا أن يعطيه لنا كما أُعطى له: «وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتنى (يو22:17). هذا مجد المصالحة مع الله، الذي دخلنا فيه، فاتحدنا في ظل حب الله الذي انسكب علينا كبنين، بنفس حب الآب للمسيح كقوله: «وأحببتهم كما أحببتني.» (يو23:17)
حب الله الآب للابن أزلي هو, وليس مستحدثاً قط: «هذا هو ابني الحبيب، له اسمعوا» (مت5:17). وحب الله الآب للابن الوحيد لم يتغير بالتجسد، ولم يتناقص، بل امتدت مجالاته نحو العالم بالتجسد: «هكذا أحب الله العالم، حتى بذل ابنه الوحيد, لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية» (يو16:3). لقد امتد مجال حب الله الأبوي لابنه الوحيد، فشمل كل الذين آمنوا به وقبلوه، إذ أعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله. لقد نلنا بالتبني عينة من حب الله الآزلي للابن: «لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم», و «أحببتهم كما أحببتني». المسيح هنا يستشهد بحب الآب له قبل إنشاء العالم، ليدعم طلبه أن تصير محبة الآب بالمثل وعلى مستوى الزمن والدهر لأخصائه الذين أحبوه، وامنوا به، وحملوا صليبه. فشركاء آلامه كيف لا يكونون شركاء مجده وحب الآب له؟
لقد حق للمسيح أن يطالب الآب, وليس يطلب فقط (أيها الآب أريد…)، أن نكون معه، نتأمل مجده الذي اكتسبه لحسابنا، ونحيا في مجال حب الله الأزلى له, لأنه اشترانا بدمه لحساب الآب وأدخلنا عهد التبني، وأكمل لنا المصالحة مع أبيه بجروحه النازفة, وشوك لعنة الأرض، الذي أدمى أقدام الإنسان، لبسه عوضاً عنا كإكليل فوق رأسه: «فكيف لا يهبنا أيضاً معه كل شي ء.» (رو32:8)
25- أَيُّهَا الآبُ الْبَارُّ إِنَّ الْعَالَمَ لَمْ يَعْرِفْكَ أَمَّا أَنَا فَعَرَفْتُكَ وَهَؤُلاَءِ عَرَفُوا أَنَّكَ أَنْتَ أَرْسَلْتَنِي.
تعقيب بديع على بنود الصلاة كلها، يُبرز سببها، ويسند ضرورتها. وكأنه يريد أن يقول: «أيها الآب البار، أنا طلبت طلباتي هذه كلها على أساس يرك الفائق قبل كل شيء! ثم أنا طلبت، وأطلت طلباتي، وعمقتها، لا لشي إلا لأن العالم لم يعرفك بعد. والآن، وقد أرسلتني إلى العالم، وأنا وحدي الذي أعرفك، لذلك توسلت إليك من أجل الذين اجتذبتهم أنت إلّي من العالم. وهؤلاء عرفوا يقيناً أنك أنت الذي أرسلتني، لذلك أسألك من أجلهم، وأنت أصلاً المتكفل بهم، لأنهم لك وقد أعطيتهم إلي».
«أيها الآب البار»: هي المقابل المساوي لقول المسيح في آية سابقة: «أيها الآب القدوس» (يو11:17) ولكل صفة يذكرها المسيح للآب يلحقها بما يناسبها من الطلب: «أيها الآب القدوس, احفظهم في اسمك (القدوس)… ليسوا من العالم كما أني أنا لست من العالم. قدسهم في حقك» (يو11:17-17). المقارنة هنا قائمة بين العالم والتلاميذ، والطلب أن يحفظهم من العالم الشرير بأن يقدسهم في الحق الإلهي.
أما في هذه الآية: «أيها الآب البار, إن العالم لم يعرفك، أما أنا فعرفتك, وهؤلاء عرفوا أنك أنت أرسلتني»:
«الآب البار»: « البار» هنا صفة تشل العدل والرحمة معاً، وقد تُترجم بالعادل فقط، كما أوردها القديس يوحنا: «إن اعترفنا بخطايانا، فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا» (ايو9:1)، وهكذا وضع صفة العادل في الله على مستوى غفران الخطية في الإنسان، وهذا أعلى مستوى لمفهوم العدل الرحيم أو «البر» الذي يفوق تصور الإنسان.
وهكذا يستعلن لنا المسيح صفة العدل «البار» في الأبوة، ليعبر بها عن الحب المتفجر من قلب الآب، الذي يتجاوز حدود العالم الضيق في ذاته.
المقارنة هنا أيضاً بين العالم الذي لم يعرف الآب، والتلاميذ الذين عرفوه, عبر المسيح, ولكن هنا لا يطلب المسيح شيئاً، ولكن يقرر حقيقة واقعة، أن هؤلاء إذ قبلوا الإيمان بإرسالية الآب للمسيح, وعرفوا «اسم» الآب، حق لهم كبنين عند بر الآب, أن يكون فيهم حب الآب للابن! ذلك من واقع بر الله الآب, إذ ليس من المعقول أن يكون نصيبهم كنصيب العالم الذي لم يعرفه.
وكأننا، مرة أخرى، أمام إبراهيم وهو يحاجج الله: «حاشا لك أن تفعل مثل هذا الأمر، أن تُميت البار مع الأثيم, فيكون البار كالأثيم، حاشا لك. أديان كل الأرض لا يصنع عدلاً.» (تك25:18)
«إن العالم لم يعرفك, أما أنا فعرفتك, وهؤلاء عرفوا أنك أنت أرسلتني»: المعرفة هنا تقع في ثلاثة أوضاع: العالم «لم يعرفك», أنا «عرفتك», هؤلاء «عرفوا أنك أنت أرسلتني». أما معرفة العالم, فهي الجحود والإنكار، أما معرفة المسيح فهي «الاستعلان». وأما معرفة المسيح, والذين أمنوا بإرسالية المسيح، فهي هي الحياة الأبدية التي اُستعلنت:«هذه هي الحياة الأبدية، أن يعر فوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته.» (يو3:17)
ومرة أخرى نكرر: إن «معرفة الله»، في المفهوم الروحي الاختباري، هي شركة، لأن الحق الإلهي لا يُستعلن إلا لمن استحق أن يقبله.
واضح هنا أن المسيح يدين العالم، في ختام صلاته، وفي قرارة قلب المسيح مرارة، لأن عدم معرفة العالم للمسيح والآب تأتي بلا سبب: «أبغضوني أنا وأبي… أبغضونى بلا سبب» (يو24:15-25). وبولس الرسول أكد هذا مراراً: «لأنه إذ كان العالم في حكمة الله، لم يعرف الله بالحكمة» (1كو21:1)، «حتى إنهم بلا عذر، لأنهم لما عرفوا الله، لم يمجدوه أو شكروه كإله.» (رو20:1-21)
ولكن يعود المسيح ليطيب قلب الآب: «أما أنا فعرفتك». والمسيح هنا يتكلم بفم الإنسان الجديد، بفم الكنيسة التي اشتراها من بين كل شعوب الأرض طرا والتي لقنها «علم معرفته».
26- وَعَرَّفْتُهُمُ اسْمَكَ وَسَأُعَرِّفُهُمْ لِيَكُونَ فِيهِمُ الْحُبُّ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي بِهِ وَأَكُونَ أَنَا فِيهِمْ
التعريف باسم الله جاء هنا على مستوى استعلان الله الله في ذاته, اي استعلان ابوته القائمة في الابن الذي أرسله, وهو هو استعلان الحق ذاته. والحق ليس إلا الله في ذاته، وكل ما عداه هو حق فقط، بمقدار خضوعه وانسجامه مع الله. واسم الله ، معرفته هي هي الحياة الأبدية.
أن يعرف المسيح الناس «باسم الله الآب» هو أن يعرفهم بالحق الإلهي، لينفضوا عنهم كل ما هو مزيف وزائل ومنته بالموت. فإن كان اسم الله هو الحق الأليثيا، نكل ما عداه هو التزييف. والمسيحيون المؤمنون حقاً، يدعوهم القديس يوحنا في رسالته الثانية: «الذين قد عرفوا الحق.» (2يو1:1)
وأن يُعرف المسيح الناس باسم الله الآب, فلا يكون هذا من على بعد، ولا كأنه على مستوى الفكر؛ بل يعني أنه استودع الاسم قلوبهم، ليعيشوا ويخلصوا به؛ ليستنيروا بنوره، لا كمعرفة بعد، بل كقوة حياة لا تزول.
والتعريف باسم الله الآب، ليس عملاً يمكن أن يُكمل أو يمكن أن ينتهي، بل هو عمل الابن منذ أن تجسد وإلى أبد الآبدين، عمل يغطى الزمن، ويمتد في الأبدية. فالله مُدرك كامل، يُدرك، ولكن لا يُدرك كماله. لذلك أردف المسيح القول: «عرفتهم اسمك» بقوله: «وسأعرفهم». فهو عمل المسيح حتى وإلى ما بعد الصليب. لقد وعد بذلك، حينما وعد بإرسال الروح القدس: «فهو يرشدكم إلى جميع الحق» (يو13:16). ولكن معرفة الله في المستقبل، تقوم فقط وتمتد عل أساس المعرفة في الحاضر الزمني، فالذي أسقط من حسابه التعرف على اسم الله الآب هنا بسبب مشقة الصليب، ظالم هو، إذ ظن أنه يعوض ما فاته هناك! ولكن معرفة اسم الله الآب في الحاضر مهما كانت شاقة، ويكتنفها الآلام، فهي تبدو جليلة وعظيمة القدر، حينما تكمل وتمتد هناك.
فإذا سكن اسم الآب في قلوب متقيه عن وعي, فقد سكن الحب الأبوي حتماً وبضمان سكنى المسيح: «وأكون أنا فيهم». لكن حب الآب، يستحيل أن نذوقه في غيبة الابن المحبوب. لذلك صح القول: «ومن ملئه نحن جيعاً أخذنا» (يو16:1)، والمسيح يوجه نظرنا إلى أصل ومنبع حب الآب هكذا: «لأن الآب نفسه يحبكم، لأنكم أحببتموني» (يو27:16). هذا الحب الأبدي الذي يتفجر من قلب الآب، كالنور الذي يتفجر من قلب الشمس، استطاع المسيح، بالروح القدس، أن يحوله في أمواجه الجارفة نحو قلوبنا. ولكي يضمن سخاء انسكابه, أمن على ذلك بوجوده الدائم: «وأنا فيهم».
لهذا كان شغل المسيحي الشاغل، أذ يحوز على حلول المسيح في القلب: «لكي يعطيكم، بحسب غنى مجده, أن تتأيدوا بالقوة بروحه في الإنسان الباطن، ليحل المسح بالإيمان في قلوبكم, وأنتم متأصلون، ومتأسسون في المحبة.» (أف16:3-18).
تفسير يوحنا 16 | تفسير إنجيل القديس يوحنا الأب متى المسكين |
تفسير يوحنا 18 |
تفسير العهد الجديد |