تفسير إنجيل يوحنا ١٢ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الثاني عشر
عشاء في بيت لحم

 

خُتم الأصحاح السابق بصورة قابضة حيث بدأت الحرب الجدية ضد يسوع من القيادات اليهودية للخلاص منه، إذ حسبه الكتبة والفريسيون خائنًا للمجمع. لكن جاء هذا الأصحاح يكشف عن وجود أناس أمناء يشهدون للحق، فيمجدون السيد ويشهدون له وسط هذا الجو من البغض والكراهية.

جاءت الشهادة لمجده على كل المستويات: المستوى الفردي كأخت لعازر، والمستوى الجماعي كموكب أورشليم، المستوى الخارجي (اليونانيون)، كما تشهد له السماء، وأنبياء العهد القديم، وبعض الرؤساء، وأخيرًا السيد المسيح يشهد لنفسه.

سكب الطيب على قدمي يسوع ١ – ١١.

“ثم قبل الفصح بستة أيام أتى يسوع إلى بيت عنيا،

حيث كان لعازر الميت الذي أقامه من الأموات”. (1)

بعد إقامة لعازر قام السيد المسيح بزيارة ودية لبيت لعازر قبل الفصح بستة أيام، وهو في بيت عنيا على مقربة من أورشليم. جاءت زيارته هذه كإعداد للاحتفال بالفصح، ليعلمنا أن نهتم بإعداد أنفسنا للمناسبات الروحية.

هذا ومن جانب آخر إذ جاءت الساعة لصلبه جاء بنفسه وهو يعلم أنهم سينصبون له الشباك، وهو قادر أن يفلت منها ويحطمها، لكنه جاء إلى العالم خصيصًا لتقديم نفسه ذبيحة حب عنا.

وهي زيارة صداقة لبيتٍ محبوبٍ لديه جدًا، “بيت لعازر ومريم ومرثا”، لأنه يعلم أنه بعد قليل سيفارقهم حسب الجسد. إنها زيارة وداعية، يترك بصمات حبه وكلمات تعزية وداعية تسندهم في يوم التجربة الذي كاد أن يحل.

أخيرًا فقد جاء إلى بيت عنيا بعد إقامته للعازر لكي يتابع آثار عمله، وكأنه جاء لكي يسقي ما قدس زرعه حتى يأتي بالثمر اللائق.

جاء السيد المسيح في السبت اليهودي حيث يُحتفل بالفصح في اليوم السادس من زيارته. كان الوقت قد أزف لتختار كل أسرة الحمل الذي يُقدم فصحًا في العيد، وكان يلزم حفظه خمسة أيام عن الحظيرة. وها هو حمل الله الفصح الحقيقي، يأتي بنفسه ليعزل نفسه، مسلمًا نفسه في أيدي محبيه لمسحه بالطيب والدموع في اليوم التالي من وصوله. بإرادته كرس حياته مبذولة فصحًا عن العالم كله. وقد جاء موكب دخوله إلى أورشليم في السبت المسيحي (أحد الشعانين) في اليوم التالي من زيارته لبيت عنيا.

“فصنعوا له هناك عشاء،

وكانت مرثا تخدم،

وأما لعازر فكان أحد المتكئين معه”. (2)

قدمت الأسرة ذبيحة شكر عملية لذاك الذي أقام رب البيت، فصنعوا عشاء، وقام الثلاثة بأدوار مختلفة. لعازر بين المتكئين يشهد للمسيح الذي أقامه من الأموات، ومرثا تخدمه، ومريم تعلن حبها له بسكب الطيب على قدميه. يرى البعض أن هذه الوليمة هي بعينها التي تمت في بيت سمعان الأبرص (مت ٢٤: ٦). لكن يرى البعض أن الوليمتين مختلفتان، فالوليمة هنا تمت في بيت لعازر وأختيه بدليل قيام مرثا بالخدمة. الوليمة المذكورة في إنجيل متى كانت في اليوم الثالث من أسبوع الفصح، أما هذه فتمت قبل الفصح بستة أيام. وأن الوليمتين تمتا في بيت عنيا، مريم سكبت هنا منًا أي حوالي الرطل من الطيب، وفي الوليمة الثانية سكبت بقيته كله (مر ١٤: ٣).

لقد خدمت مرثا المائدة تعبيرًا عن تقديرها العظيم للسيد. حسبت ذلك كرامة لها أن تخدم السيد، أيا كانت الخدمة. لقد سبق أن قارن بين خدمتها وجلسة أختها مريم عند قدميه، قائلاً لها: أنت تهتمين بأمور كثيرة، أما مريم فاختارت النصيب الصالح الذي لن ينزع عنها، مع هذا لم تترك الخدمة.

وأما لعازر فكان أحد المتكئين معه” (٢). وجوده هو برهان على حقيقة قيامته التي وهبه إياها السيد المسيح. لقد جلس يأكل مؤكدًا أن الرب أقامه فعلاً.

v إنه يتلهف أن يعيد زيارته لذاك الذي أُقيم من الأموات، ويفرح بعطية الحياة المتجددة، إنه يأتي إلى الوليمة التي تعدها كنيسته له، بمناسبة ذاك الذي كان ميتًا فوجد بين الجالسين مع المسيح.

القديس أمبروسيوس

v واضح أن الوليمة كانت في بيت مرثا، إذ أن الذين أحبوا المسيح وهو أحبهم قبلوه عندهم.

قوله: “وأما لعازر فكان أحد المتكئين معه“، كان في هذا دلالة على صدق قيامته، إذ يعيش ويأكل بعد أيام كثيرة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v كلما أقام شخصًا من الأموات أمر السيد بتقديم طعامٍ له ليأكل، لئلا يُظن أن القيامة خيال. ولهذا السبب وُصف لعازر بعد قيامته أنه كان في وليمة مع ربنا.

القديس جيروم

“فأخذت مريم منًا من طيب ناردين خالص كثير الثمن،

ودهنت قدمي يسوع،

ومسحت قدميه بشعرها،

فامتلأ البيت من رائحة الطيب”. (3)

المن: وزن يوناني وروماني يساوي نحو مائة درهم.

الناردين: نوع من الأطياب الثمينة التي تنافس بها القدماء، وذُكر في سفر نشيد الأناشيد (1: 12؛ 13:4، 14). أما كونه خالصًا فيعني أنه نقي غير مضاف إليه شموع أو راتنجات ليصير كالمرهم.

عبَّرت مريم عن حبها بسكب رطلٍ من طيب ناردين خالص كثير الثمن، حيث دهنت قدميه ومسحتهما بشعر رأسها، فامتلأ البيت من رائحة الطيب. قدمت أغلى ما لديها لتكريم السيد. إنها لم تدهن رأسه كالعادة المتبعة، بل في حبٍ عميقٍ دهنت قدميه. حتمًا إن سكب رطل طيب نقي تدفق على ثياب السيد المسيح، وامتلأ البيت كله برائحته الطيبة. وكما تقول النفس البشرية عن عريسها الملك: “مادام الملك في مجلسه، أفاح نارديني رائحته” (نش ١: ١٢).

لقد سكبت مريم طيب حبها الخالص ولازالت رائحته الطيبة تملأ بيت الرب عبر الأجيال، يشتمه الآب إذ يحمل رائحة المسيح الذكية (٢ كو ٢: ١٥)، ونشتمه نحن المؤمنون بعد كل القرون، فنشتهي أن نقدم حياتنا كلها رائحة حب خالص نحو ذاك الذي بادرنا بحبه.

v مرثا خدمت، من هذا يتضح أن الوليمة كانت في بيتها… مريم لم تخدم، إذ كانت تلميذة. هنا أيضًا سلكت بطريقة أكثر روحانية. فإنها لم تخدم كما لو كانت قد دُعيت لتفعل هذا، ولا قدمت خدماتها مشاعة لكل الضيوف بوجهٍ عامٍ، وإنما كرمت ذاك وحده. اقتربت إليه ليس كإنسانٍ بل بكونه إلهها. لهذا سكبت عليه دهن الطيب ومسحته بضفائر رأسها، لم تمارس هذه أفعال معتقدة فيه مثلما ظن الكثيرون.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v الطيب هو البرّ، كان وزنه منًا (رطلاً)، لكنه طيب من ناردين خالص كثير الثمن… أصل الكلمة “خالص” في اليونانية ندعوها “الإيمان”. أنتم تطلبون أن تصنعوا البرّ، فإن البار بالإيمان يحيا (رو ١: ١٧).

امسحوا قدمي يسوع، أي اقتفوا إثر خطوات الرب بحياة صالحة.

امسحوا قدميه بشعوركم، بما هو فائض لديكم، قدموه للفقراء بهذا تمسحون قدمي الرب. لأن الشعر يبدو كأنه أمر زائد في الجسد. لتقدموا شيئًا من الفيض الذي لديكم. إنه فائض عندكم، لكنه ضروري بالنسبة لقدمي الرب.

ربما قدما الرب على الأرض في احتياج. فإنه عن من يقول إلاَّ عن أعضائه: “ما فعلتموه بأحد اخوتي الأصاغر فبي فعلتم” (مت ٢٥: ٤٠)؟ إنكم تقدمون مما هو فائض عنكم، لكنكم تقدمون ما هو مُستحب لقدميه.

v “فامتلأ البيت من رائحة الطيب” (٣). العالم يمتلئ بسمعته الشخصية الصالحة، لأن السيرة الصالحة كرائحة طيب مبهجة. الذين يسلكون في الشر ويحملون اسم مسيحيين يسيئون إلى المسيح. عن هؤلاء قيل أنه بسببهم يُجدف على اسم الرب (رو ٢: ٢٤). إن كان بمثل هؤلاء يجدف على اسم الله، فإنه خلال الصالحين يُكرم اسم الله.

استمعوا إلى الرسول وهو يقول: “نحن رائحة المسيح الذكية في كل موضع”. كما جاء في نشيد الأناشيد: “اسمك دهن مهراق” (نش ١: ٣).

القديس أغسطينوس

v هذا العطر لا يختلف عن عطر العروس الذي أفاح رائحة العريس. “مادام الملك في مجلسه أفاح نارديني رائحته” (نش 1: 12).

جاء في الإنجيل إن سكب الطيب على رأس ربنا قد أفاح رائحة ذكية في أرجاء المنزل حيث أقيمت المأدبة. يبدو أن المرأة ساكبة الطيب قد تنبأت بسرّ موت المسيح. وقد شهد الرب لعملها هذا قائلاً، “إنما فعلت ذلك لأجل تكفيني” (مت 12:26).

المنزل الذي امتلأ بهذه الرائحة يمثل الكون بأكمله، العالم كله: “حيثما يكرز بهذا الإنجيل في كل العالم“، تنتشر رائحة عملها هذا مع الكرازة بالإنجيل، ويصير الإنجيل “تذكارًا لها“، إذ أن الناردين في نص نشيد الأناشيد يفيح رائحة العريس لعروسه، وفى الإنجيل أيضًا تصير رائحة المسيح الذكية التي ملأت كل المنزل كطيبٍ يطَّيب كل جسد الكنيسة في كل المسكونة والعالم أجمع.

القديس غريغوريوس النيسي

“فقال واحد من تلاميذه،

وهو يهوذا سمعان الأسخريوطي المزمع أن يسلمه”. (4)

v إذ فاحت رائحة المسيح الذكية صارت للبعض رائحة حياة لحياة، ولآخرين رائحة موتٍ لموتٍ (٢ كو ٢: ١٤-١٦). هذه الرائحة الذكية صارت رائحة موت ليهوذا.

القديس أغسطينوس

v في حديثه الموجه إلى الإمبراطور ثيؤدوسيوس كتب:

[لذلك أيها الإمبراطور الآن أوجه كلماتي ليس فقط عنك بل إليك، إذ تلاحظ كيف بكل حزم يريد اللَّه أن يحاكم، فإنه بقدر ما قد صرت ممجدًا بالأكثر يليق بك أن تخضع لخالقك بالكامل، إذ هو مكتوب: “عندما يحضرك الرب إلهك إلى أرض غريبة، وتأكل ثمر الآخرين لا تقل: بقوتي وبري أعطاني هذه، إنما الرب إلهك هو الذي أعطاك إياها”. فالمسيح بمراحمه وهبك هذه، لذلك فحبًا في جسده أي الكنيسة أعط ماءً لقدميه، قبِّل قدميه، فليس فقط تعفو عمن سقط في خطية بل أيضًا بواسطة حبك للسلام تصلحهم وتهبهم راحة].

اسكب دهنًا على قدميه، لكي ما يمتلئ كل البيت الذي يجلس فيه المسيح برائحة طيبك، ويُسر كل الجالسين معه برائحتك الذكية. بمعنى كرِّم المذلولين، حتى تفرح الملائكة بالعفو عنهم، إذ يفرحون بخاطئ واحدٍ يتوب (لو 10:15)، ويُسر الرسل، ويمتلئ الأنبياء بالبهجة.

القديس أمبروسيوس

“لماذا لم يُبع هذا الطيب بثلاث مائة دينار،

ويُعط للفقراء؟” (5)

وسط هذا الجو السماوي، رائحة المسيح الذكية التي تسحب القلوب نحو السماء، وُجدت رائحة نتانة الإصرار على الطمع والسرقة مع روح الخيانة تنبعث من قلب تلميذ يبدو من خاصة المسيح. لا يستطيع القلب أن يحتمل رائحة المسيح الذكية واهبة الحياة، فتصير بالنسبة له رائحة موتٍ لموتٍ (٢ كو ٢: ١٦).

لم يسترح يهوذا الخائن لهذا التصرف، وحسبه تبديدًا لمبلغٍ كبيرٍ كهذا، إذ حسب ثمن الطيب بحوالي ٣٠٠ دينارًا، كان يمكن تقديمه للفقراء، ولم يستطع أن يتلمس ثمن الحب الذي لا يُقدر بثمن. كان يهوذا رسولاً وكارزًا بالإنجيل، لكنه لا يحب روح التكريس والحب. تحولت الكرازة عنده إلى مهنة وعمل رسمي، لا تحمل رائحة طيب الحب التي تملأ بيت الرب “الكنيسة”.

لقد وجد الحجة التي يتذرع بها ليهاجم عمل المحبة، فبدا كمن هو مترفق بالفقراء. فإنه حتى الشيطان يحول نفسه كما إلى ملاك نور. استخدم الحكمة البشرية، فحسب خدمة الفقراء ضد إظهار الحب للسيد المسيح، خافيًا في أعماقه طمعه وحبه للمال، وأنه لص يسرق ما بالصندوق.

لم يكن يحتمل هذا الخائن عمل الحب، حيث تسكب مريم طيبًا يمكن أن يُباع بثلاثمائة دينارًا، بينما قام هو ببيع السيد نفسه بثلاثين من الفضة. هي وضعت الثلاثمائة دينارًا تحت قدمي سيدها وحسبت ذلك كلا شيء، أما هو فوضع سيده تحت ثلاثين من الفضة وحسب سيده كلا شيء أمام هذا المبلغ التافه.

 

“قال هذا ليس لأنه كان يبالي بالفقراء،

بل لأنه كان سارقًا،

وكان الصندوق عنده،

وكان يحمل ما يُلقى فيه”. (6)

يرى البعض أن كلمة “اسخريوطي” معناها “حامل الصندوق”.

لم يحمل يهوذا حنوًا على الفقراء، ولا اهتمامًا بهم، وإنما كانت خدمة الفقراء فرصة لسرقة المال. يتساءل البعض: لماذا عهد إليه السيد المسيح الصندوق، ولم يعهد به إلى بطرس أو يوحنا أو غيرهما ممن هم أهل الثقة؟ ربما لأن يهوذا اشتهى هذا العمل، فنال سؤل قلبه. ولعل السيد المسيح سمح له بذلك حتى لا يكون له عذر في بيع سيده، لأنه لم يكن في عوزٍ.

تبقى الكنيسة عبر كل العصور تضم قلة مقدسة تلقي بكل ما لديها تحت قدمي السماوي، فتفوح رائحة حبهم، وتملأ بيت الرب برائحة المسيح الساكن في قلوبهم. وتضم أيضًا من يختفون وراء الشكليات وصناديق الفقراء ليسلبوا حق المسيح ويبيعونه بثمن عبدٍ، ولا يقوم بفضحهم، لعلهم يرجعوا إلى أعماقهم، ويكتشفوا شرهم وتتجدد حياتهم بالتوبة وبالرجوع إلى مخلصهم.

v أطال الرب أناته على يهوذا الشيطان واللص والخائن له. لقد سمح له أن يُقبل بين الرسل الأبرياء ما يعرفه الأمناء كمكافأة لهم (يقصد جسد الرب ودمه).

v انظروا الآن وتعلموا أن يهوذا هذا لم يصر فاسدًا فقط في الوقت الذي فيه قبل رشوة اليهود وخان ربه… لم يهلك في ذلك الحين وحده، بل كان بالفعل سارقًا وشريرًا حين كان يتبع الرب، إذ تبعه بجسده لا بقلبه. لقد أكمل عدد ١٢ للرسل، لكن لم يكن له نصيب في البركة الرسولية… عند رحيله خلفه آخر فكمل العدد الرسولي.

v لماذا كان للرب صندوق، هذا الذي تخدمه الملائكة، إلاَّ ليعلن بصراحة أن كنيسته تلتزم فيما بعد أن يكون بها مستودع للمال؟

لماذا أعطى اللص هذه المسئولية إلاَّ ليعلم كنيسته طول الأناة في احتمال اللصوص؟

لكن ذاك الذي اعتاد أن يختلس مالاً من الصندوق لم يتردد في أن يسلم ربه من أجل المال.

القديس أغسطينوس

v محبة المال أمر مروع، فإنها تفسد الأعين والآذان، وتجعل البشر أردأ من الوحوش المفترسة، فلا تعطي للإنسان أن يضع في اعتباره ضميره ولا الصداقة ولا الزمالة ولا خلاص نفسه، وإنما تسحبه من هذا كله، كسيدة عنيفة تستعبد من تأسرهم…

لقد جعلت جيحزي أبرص بدلاً من كونه تلميذًا ونبيًا، وأهلكت حنانيا (وسفيرة) معه، وجعلت يهوذا خائنًا.

محبة المال أفسدت قادة اليهود… جبلت ربوات الحروب، وملأت الطرق بالدماء، والمدن بالنحيب والمراثي.

القديس يوحنا الذهبي الفم

“فقال يسوع:

اتركوها، إنها ليوم تكفيني قد حفظته”. (7)

بينما دانها يهوذا حاسبًا أنها تصرفت بغير حكمةٍ، وبددت المال فيما لا ينفع، وكان يجب تقديمه للفقراء، إذا بالسيد المسيح يعلن أنها قامت بعملٍ روحي نبوي فائق، فقد تنبأت عن تكفينه. خلال حبها تلامست مع آلام السيد المسيح وموته ودفنه، وبتصرفها أعلنت عن رائحة الخلاص الذكية.

لم نسمع قط أن أنسانًا يُكفن، ويُدهن جسده للتكفين، وهو بعد حيّ، أما السيد المسيح فحسب هذا الطيب تكفينًا لجسده الذي لن يرى فسادًا. لقد سلم جسده المبذول طعامًا روحيًا عند تأسيسه سرّ الأفخارستيا في خميس العهد، والآن إذ بذل جسده بإرادته يعلن عن تكفينه. هكذا يؤكد السيد إرادته المقدسة الحرة في قبول الموت والدفن من أجل العالم ليهبهم قوة قيامته وبهجتها.

v قول السيد المسيح عن مريم “اتركوها، إنها ليوم تكفيني قد حفظته” ذكر الدافع لما فعلته المرأة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v انظروا يا اخوة، فإنه لم يقل له: “إنك تقول هذا من أجل لصوصيتك”. لقد عرفه أنه لص. ومع هذا لم يخَوِّنه بل بالأحرى احتمله، مقدمًا لنا مثالاً للصبر في احتمال الأشرار في الكنيسة.

القديس أغسطينوس

“لأن الفقراء معكم في كل حين،

وأما أنا فلست معكم في كل حين”. (8)

حمل هذا القول إشارة خفية للعملين، فمن جهة عمل يهوذا المختفي وراء تظاهره بحب الفقراء بينما يقوم بتسليم سيده للموت في خيانة بشعة، والثاني عمل مريم الرائع حيث تلقفت هذا الجسد المُسلم للموت لتكرمه بأغلى ما لديها، الطيب الكثير الثمن. إنه يوبخ يهوذا سرًا، لأنه يدعي حب الفقراء، ويكرم مريم، لأنها وجدت فرصة لا تتكرر “لست معكم في كل حين“.

لقد كفنت مريم جسد مسيحها وهو حيّ، فنالت مديحًا من فم السيد نفسه. كفن نيقوديموس ويوسف الرامي جسد السيد بعد موته، فنالوا كرامة لكنها لا تقارن بالكرامة التي نالتها مريم. هي قدمت رطلاً من الطيب وهما قدما مائة رطل، لكن التقدمة الأولى للجسد الحي فاقت كثيرًا التقدمة الثانية.

مريم لا تزال تدعونا أن نطيب جسد المسيح الحي في أعضائه الفقراء والمساكين والمتألمين والمطرودين والذين ليس لهم من يسأل عنهم، فقد وعدنا الله: “لأنه لا تفقد الفقراء من الأرض، لذلك أنا أوصيك قائلاً: افتح يديك لأخيك المسكين والفقير في أرضك” (تث ١٥: ١١). ويدعونا نيقوديموس ويوسف الرامي أن نطيب جسده في الأعضاء التي رحلت، أي الشهداء والقديسين.

لا يمكن أن نمارس عملاً على حساب الآخر، إذ حبنا للفقراء يتناغم مع حبنا للقديسين الذين لا يزالوا أحياء يمارسون الحب لله كما لكل البشرية بالصلاة والشكر الدائم.

v أراد المسيح أن يحد من شره المتزايد، مستخدمًا تواضعًا عظيمًا نحوه. لذلك لم يذّكره بالسرقة مع أنه يعرفها، وهكذا وضع عبارة تحجز رغبته الشريرة، وتنزع عنه كل دفاع عن نفسه.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v بخصوص حضوره الإلهي معنا، فالمسيح حاضر على الدوام، وبخصوص حضوره في الجسد، بحق قال لتلاميذه: “لست معكم في كل حين” (8).

القديس أغسطينوس

فعلم جمع كثير من اليهود أنه هناك،

فجاءوا ليس لأجل يسوع فقط،

بل لينظروا أيضًا لعازر الذي أقامه من الأموات“. (9)

سمع كثير من اليهود بقصة إقامة لعازر من الأموات، إذ كانت موضوع حديث المدينة، فتقاطروا لا ليروا يسوع وحده بل وذاك الذي أقامه من الأموات. لم يأتوا ليسمعوه، بل لينظروا ويتأكدوا من قصة الإقامة من الأموات. لم يأتوا ليلقوا أيديهم عليه، ولا ليخبروا القيادات ضده، بل ليكرموه. جاء البعض لكي يثبتوا إيمانهم بالمسيح بأن يسمعوا معجزة الإقامة من فم لعازر نفسه، وآخرون بحب الاستطلاع جاءوا يتأكدون كيف يقوم إنسان من الموت، وماذا رأى في موته، وما هي أخبار العالم الآخر. صار لعازر في أيام العيد هذه عرضًا عجيبًا يريد كثيرون أن يروه ويسمعوه.

“فتشاور رؤساء الكهنة ليقتلوا لعازر أيضًا”. (10)

كتب القديس جيروم رسالة إلى مارسيللا Marcella يمتدح فيه بلاسيللا Blaesilla ابنة باولا Paula فقد انتقل زوجها بعد سبعة شهور من زواجها، وأصيبت بمرضٍ خطيرٍ دفعها إلى الإيمان وتكريس طاقاتها لحساب المسيح، فعانت الكثير من الهجوم على تصرفاتها. حسبها القديس جيروم لعازر الجديد حيث تمتعت بما هو أشبه بالقيامة من الأموات.

v كانت حياتها السابقة تتسم بنوع من الإهمال، وقد تقيّدت بأربطة الغنى، ورقدت كمن هي ميِّتة في قبر العالم. لكن يسوع تحرك في ضيق وانزعج بالروح وصرخ: “بلاسيلا، هلم خارجًا”. لقد قامت عند دعوته، وخرجت وجلست تأكل مع الرب (يو 2:12). في غضب هدّدها اليهود، يطلبون قتلها، لأن المسيح أقامها (يو 10:12). إنها تكتفي بأن يعطي الرسل المجد للَّه. بلاسيلا تعرف أنها مدينة بحياتها لذاك الذي رد لها الحياة. إنها تعرف أنها تقدر الآن أن تحتضن قدمي ذاك الذي منذ قليل كانت ترهبه كديّان لها… أيّة تعزية لها في كلماتهم (للمقاومين لها) التي هي أخف من الدخان؟

القديس جيروم

v أما كان يستطيع المسيح الرب القادر أن يقيم من الأموات أن يقيم من يُقتل (أي يقيم نفسه حين طلب اليهود قتله)؟

حينما كنتم تعدون موتًا عنيفًا للعازر، هل كنتم تجردون الرب من سلطانه؟

إن كنتم تظنون أن الميت غير المقتول فانظروا فقط إلى هذا، أن الرب فعل الأمرين، فأقام لعازر حين كان ميتًا، وأقام نفسه حين قُتل.

القديس أغسطينوس

“لأن كثيرين من اليهود كانوا بسببه يذهبون،

ويؤمنون بيسوع”. (11)

إذ التهبت قلوب الكثيرين بالشوق نحو رؤية يسوع والإيمان به تزايد بالأكثر حسد رؤساء الكهنة، وتشاوروا معًا، فلم يجدوا سبيلاً آخر للخلاص من هذا الموقف سوى قتله. لقد بذلوا كل الجهد لتشويه صورته أمام الجموع حتى يتخلى الكل عنه، لكن ذهبت هذه كلها هباءً، خاصة بإقامة لعازر من الموت. لم يكن يوجد دليل على كونه المسيا مثل إقامته الأموات، واهبًا للحياة، لأنه هو الحياة.

 

دخوله أورشليم منتصرًا ١٢ – ١٩.

“وفي الغد سمع الجمع الكثير الذي جاء إلى العيد أن يسوع آت إلى أورشليم”. (12)

“فأخذوا سعوف النخل،

وخرجوا للقائه،

وكانوا يصرخون:

أوصنا،

مبارك الآتي باسم الرب، ملك إسرائيل”. (13)

كان سعف النخيل يشير إلى النصرة، لهذا دعا شيشرون إنسانًا نال جوائز كثيرة “رجل السعف الكثير”. لقد غلب السيد قوات الظلمة بموته، لهذا استحق أن يحملوا سعف النخيل أمامه.

هذا وحمل سعف النخيل كان يمثل دورًا رئيسيًا في الاحتفال بعيد المظال، فكان علامة للبهجة بالعيد. وكأن المسيح هو عيدنا، مفرح قلوبنا.

يشبه سليمان الحكيم النفس المحبوبة لعريسها السيد المسيح بالنخلة: “قلت إني أصعد إلى النخلة وأمسك بعذوقها” (نش ٧: ٨).

اعتاد الأقباط في أحد الشعانين أن يتباروا في اقتناء السعف وجدله وتزيينه بالورود ووضع “قربان على شكل صليب” فيه… كعلامة مبهجة لاستقبال النفس لعريسها الغالب، وبهجة القلب بالملك السماوي، مخلص النفوس من الفساد. ولا يزال كثيرون يحتفظون بالسعف المجدول من أحد الشعانين حتى يحل أحد الشعانين التالي، علامة استمرارية الترحيب بالملك في القلب كما في الأسرة داخل البيت.

قدموا صرخات مستقبلية مقتبسة من مز ١١٨ : ٢٥-٢٦. هكذا جاء لقاء الشعب متناغمًا مع الفكر الكتابي، إذ لمسوا فيه أنه المسيا المنتظر، بينما أصيبت القيادات الدينية بالعمى الروحي.

مع أنه جاء فقيرًا بلا مجد زمني، لكن الشعب استقبله كملكٍ مخلصٍ لإسرائيل. أدركوا أنه الملك البار القادم باسم الرب (مز ٢: ٦). قبلوا مملكته بكل قلوبهم، عبروا عن ذلك بقولهم “أوصنا” أو “هوشعنا”، وتعني “خلصنا”.

فتح الشعب قلوبهم ليدخل فيها رب المجد، وكأنهم ترنموا مع المرتل قائلين: “ارتفعي أيتها الأبواب الدهرية فيدخل ملك المجد… الرب القدير الجبار، الرب الجبار في القتال” (مز ٢٤: ٧-٨).

v سعف النخيل هو رمز للمديح يشير إلى النصرة، إذ جاء الرب للنصرة على الموت بالموت، وبغلبة صليبه يهزم رئيس الموت.

الهتاف الذي استخدمه الشعب المتعبد هو “هوشعنا”؛ البعض ممن يعرفون العبرية يرون أنه يشير إلى الذهن في حالة من اليقين، وذلك كما في لساننا (اللاتيني) صيغ للتعجب ففي حزننا نقول: “وأسفاه”، وفي فرحنا: “ها!” وفي دهشتنا: “رائع!”، وفي تعجبنا: “ياه!” هكذا هذه الكلمة تدخل في نفس الفصيلة حيث لا توجد ترجمة لها في اليونانية أو اللاتينية، مثل غيرها: “من يقول لأخيه: رقا!” لأن هذه أداة تعجب تعبر عن مشاعر الغضب.

v “مبارك الآتي باسم الرب، ملك إسرائيل” (١٣). بالأحرى يفهم “باسم الرب” أنه “باسم الله الرب” كما يمكن أن يفهم على أنه باسمه هو، بكونه هو الرب.

v أية محنة ذهنية عانى منها رؤساء اليهود وهم يسمعون جمهورًا عظيمًا كهذا يعلنون أن يسوع هو ملكهم!

لكن أية كرامة ينالها الرب ليكون ملكًا لإسرائيل؟

أي أمر عظيم لملك الأبدية أن يصير ملكًا للبشر؟

فإن ملوكية المسيح على إسرائيل ليس بقصد نوال جزية، ولا بتقديم سيوف في أيدي الجنود، ولا لهزيمة أعدائه في حرب علنية، لكنه هو ملك إسرائيل في ممارسته سلطانه الملوكي على طبيعتهم الداخلية، وفي تدبير اهتماماتهم الأبدية، وفي جلب الذين لهم الإيمان والرجاء والمحبة متركزة فيه إلى ملكوته السماوي. لهذا فإنه بالنسبة لابن الله، المساوي للآب، الكلمة الذي به كان كل شيء، وبمسرته صار ملكًا لإسرائيل، هو عمل فيه تنازل وليس فيه ارتفاع له. إنه سمة حنو، وليس تزايد في السلطة. فإن ذاك الذي كان يُدعى ملك إسرائيل على الأرض، يُدعى رب الملائكة في السماء.

القديس أغسطينوس

“ووجد يسوع جحشًا،

فجلس عليه كما هو مكتوب”. (14)

اعتاد السيد المسيح أن يدخل مشيًا على قدميه، لكنه الآن يمتطي جحشًا في تواضع عجيب. لم يأتِ راكبًا مركبة كسليمان (نش ٣: ٩-١٠) بأعمدة من فضة وقواعد من ذهب ومغشاة بالأرجوان. لم يكن مجده ماديًا، لأن مملكته ليست من هذا العالم، لهذا لم يحمل مظهر الأبهة.

فجلس عليه“، لم يقل “ركبه”، إذ أراد الإنجيلي أن يبرز موقفه كملكٍ يتربع على العرش.

ما ورد هنا باختصار ذكره الإنجيليون الآخرون في شيء من التوسع (مت ٢١: ١-١٦؛ مر ١١ : ١-١١؛ لو ١٩: ٢٩-٤٨).

“لا تخافي يا ابنة صهيون،

هوذا ملكك يأتي جالسًا على جحش اتان”. (15)

يدعو النبي ابنة صهيون أن تتطلع إلى ملكها المتواضع والوديع الذي يملأ حياتها ببهجة النصرة، لذا يدعوها ألا تخاف، بل تفرح وتتهلل، فقد جاء لكي ينزع عنها القلق والخوف. لقد تحققت نبوة زكريا النبي: “ابتهجي جدًا (لا تخافي) يا ابنة صهيون… هوذا ملكك يأتي إليك، وهو عادل ومنصور، وديع وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان” (زك ٩ : ٩). إنه لم يأتِ لكي ينتقم من الأعداء، يهودًا كانوا أم رومانيين، وإنما جاء ليحل بسلامه السماوي ومجده العلوي عليهم. هذا ما عبَّر عنه الإنجيلي لوقا: “سلام في السماء، ومجد في الأعالي” (لو ١٩ : ٣٨). ويعلق القديس أغسطينوس على ذلك قائلاً:

v قيل لها “لا تخافي“، لتعرفيه ذاك الذي الآن تمجديه، ولا تعطي للخوف طريقًا إذ يأتي ليتألم. فإنه بسفك دمه يُمحى ذنبك، وتُرد لك حياتك. أما عن الجحش ابن الأتان الذي لم يركبه إنسان قط (كما ورد في الإنجيليين الآخرين) فيفهم شعوب الأمم التي لم تتقبل ناموس رب، وأما الأتان… فيشير إلى شعبه الذي جاء من إسرائيل وخضع لمعرفة مزود سيده.

القديس أغسطينوس

v “لا تخافي يا ابنة صهيون”، لأن ملوك اليهود كانوا غالبًا ظالمين وطامعين، إذ سلموهم لأعدائهم وجعلوهم تحت الجباية عند محاربيهم… لكن ليس هذا هو حال ذاك الوديع والمتواضع كما يظهر من ركوبه الأتان، لأنه لم يدخل المدينة يقتاد جيشًا، لكنه جلس على الأتان فقط.

القديس يوحنا الذهبي الفم

“وهذه الأمور لم يفهمها تلاميذه أولاً،

ولكن لما تمجد يسوع حينئذ تذكروا أن هذه كانت مكتوبة عنه،

وأنهم صنعوا هذه له”. (16)

لم يستطع التلاميذ إدراك حقيقة الأحداث وما وراءها، وكيف تحققت نبوات العهد القديم إلاَّ بعد أن تمجّد السيد المسيح بقيامته وفتح قلوبهم بالحب وأذهانهم بروح المعرفة، فأدركوا أنهم تمتعوا بالعهد الجديد الذي اشتهاه الأنبياء قديمًا.

يقدم لنا الإنجيلي هذه الملاحظة أن التلاميذ لم يفهموا الأحداث أنها تتمم النبوات حتى حلّ الروح القدس عليهم بعد أن تمجد المسيح بصلبه وقيامته فأدركوها. كانوا كأطفالٍ صغارٍ يتصرفون وهم لا يدركون الأمور، لكنهم إذ بلغوا النضوج عرفوا ما وراء الأحداث من أسرارٍ إلهية، وعرفوا خطة الله للخلاص.

v أرأيت كيف أن التلاميذ جهلوا أكثر النبوات عن السيد المسيح إذ لم يعلنها لهم؟ ولا حين قال: “انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه” (يو 2: 19) عرفوا ذلك. يقول إنجيل آخر: “كان هذا الأمر مُخفي عنهم” (لو ١٨: ٣٤)، ولن يعرفوا أنه كان ينبغي أن يقوم من الأموات…

انظر إلى فلسفة البشير، كيف أنه لم يخجل من إشهار غباوة التلاميذ الأولى.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v لم يخجل القديس يوحنا من الاعتراف بجهل التلاميذ، فقد عاد وأظهر معرفتهم، لأنه لم يضع في اعتباره تكريم الناس، بل كان يدعو لمجد الروح.

القديس كيرلس الكبير

اختلفت وجهات النظر نحو هذا الموكب الفريد:

  1. تطلع إليه السيد المسيح أنه موكب المجد خلال الصليب، فقد أتت الساعة ليتمجد ابن الإنسان بتقديم نفسه حمل الفصح عن العالم كله، ليعبر بالمؤمنين من عبودية إبليس إلى كنعان السماوية.
  2. وتطلع إليه رجال العهد القديم وهم في الجحيم، ليروا تحقيق الرموز والنبوات، وقد حانت اللحظات التي طالما ترقبوها بشوقٍ عظيمٍ، ليأتي من يخرج بهم إلى الفردوس، حاملاً إياهم غنائم سماوية.
  3. وتطلع التلاميذ إلى الموكب، ولم يفهموا شيئًا! دخلوا في حالة ارتباك شديد!
  4. تطلع رؤساء الكهنة والفريسيون إلى الموكب أنه دمار تام لمراكزهم ومصالحهم الشخصية.
  5. تطلعت الجموع إلى الموكب أنه دخول إلى عصرٍ جديد، حيث جاء من يخلصهم من الاستعمار الروماني، ويهبهم مجدًا زمنيًا!
  6. أخيرًا تطلع السمائيون إلى الموكب وهم يدهشون أمام تواضع كلمة الله المتجسد، وهو ملك السماء والأرض، يجلس على جحش ويزفه بشر ضعفاء… ماذا وراء تواضعه هذا وحبه للبشر؟!

“وكان الجمع الذي معه يشهد أنه دعا لعازر من القبر،

وأقامه من الأموات”. (17)

خروج هذه الجموع الغفيرة للقائه كان بسبب إقامة لعازر، وفي نفس الوقت أعطى الفرصة للحديث عن إقامة لعازر من الأموات، فتعلق به كثيرون، وتزايد بالأكثر حسد الفريسيين، وفقدوا كل أملٍ لهم في محاصرة شعبية يسوع المسيح والحدّ من سلطانه، فلم يكن أمامهم سوى الإسراع بقتله والخلاص منه. قُدمت عظات كثيرة للشعب، وصنعت آيات لا حصر لها، لكن إقامة لعازر من الأموات جذبت جماهير نحو السيد المسيح. فإنه ليس من أمر يحطم الإنسان مثل الموت، ولا ما يبهجه مثل القيامة من الموت.

v لم يرد كثيرون أن يتغيروا في الحال حتى آمنوا بالمعجزة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

“لهذا أيضًا لاقاه الجمع،

لأنهم سمعوا أنه كان قد صنع هذه الآية”. (18)

“فقال الفريسيون بعضهم لبعض:

انظروا إنكم لا تنفعون شيئًا،

هوذا العالم قد ذهب وراءه”. (19)

الآن تحققت كل مخاوف القيادات الدينية، خاصة رؤساء الكهنة والفريسيين، فقد كاد الأمر يفلت من أيديهم، إذ تحرك الشعب ككل في موكب هزَّ مدينة أورشليم. فمن جانب اكتشف الفريسيون حقيقة أنفسهم: “إنكم لا تنفعون شيئًا” (19)، ومن الجانب الآخر شعر الفريسيون كأن العالم كله ذهب وراءه، وهنا يقصد به العالم اليهودي، أي كل إنسان، قد التصق به كتلميذٍ له. وأن كل تأخير في الخلاص منه يمثل خطرًا يصعب علاجه.

v قول الفريسيين: “هوذا العالم قد ذهب وراءه” قصدوا بالعالم هنا الجمع، لأن من عادة الكتاب المقدس أن يدعو الخليقة والسالكين في شرهم عالمًا، فقد قال السيد المسيح لتلاميذه: “لا يقدر العالم أن يبغضكم، ولكنه يبغضني أنا، لأني أشهد عليه أن أعماله شريرة” (يو 7: 7).

القديس يوحنا الذهبي الفم

تكريم اليونانيين ليسوع ٢٠ – ٢٦.

“وكان أناس يونانيون من الذين صعدوا ليسجدوا في العيد”. (20)

اشتهى بعض الدخلاء من اليونانيين أن يروا يسوع. وقد جاء تصرفهم هذا ربما بعد يومٍ أو يومين من دخول السيد المسيح إلى أورشليم، إذ قضى اليوم الأول في عملٍ عام.

يرى البعض أنهم يهود، تشتتوا وارتبطوا بالثقافة الهيلينية، لهذا دُعوا يونانيين مثل خصي كنداكة وكرنيليوس. كما كان اليهود يقدرون بعضًا من الأمم الذين يميلون العبادة لله طبيعيًا، دون معرفتهم للناموس الموسوي والأنبياء، هكذا كان الأمم أيضًا يقدرون اليهود الأتقياء ويتركونهم يتعبدون في وسطهم، بل ويسمحون لهم بحضور اجتماعاتهم الدينية قدرما يُسمح لهم. هؤلاء كانوا يحسبون غرباء في نظر اليهود.

ويرى آخرون أنهم أمميون، ففي العصور المتأخرة سمح اليهود لبعض الأمم الأتقياء أن يأتوا إلى الهيكل في العيد، وكأنهم كانوا يتنبأون عن تحطيم الحجاب الفاصل بين الأمم واليهود في المسيح يسوع. هؤلاء كانوا يقدمون إلى الهيكل للعبادة دون أن يأكلوا من الفصح.

في ميلاده اجتذب المجوس من الشرق، حيث قدموا له هدايا وسجدوا له، كما شهدوا له بطريق أو آخر في القصر الملكي وبين الكهنة ورؤساء الكهنة. وعند صلبه اجتذب اليونانيين من الغرب ليتمتعوا برؤيته. وكأنه قد جاء السيد ليضم الشرق مع الغرب، ويصير الكل رعيةً واحدةً لراعٍ واحدٍ. بميلاده وصلبه فتح طريق الإيمان للأمم كي يتمتع الكل به. صار من حق الرجل المكدوني أن يتراءى لبولس الرسول في حلمٍ ليصرخ: “أعبر وأعنا” (أع ١٦: ٩).

لم يشترك هؤلاء اليونانيون في موكب دخول السيد المسيح أورشليم، ربما لأن الموكب كان قاصرًا على اليهود، لكنهم عرفوا كيف يشتركون فيه روحيًا، حين أعلنوا شوقهم الصادق لرؤيته. وكأنهم يصرخون بلغتهم مع اليهود “أوصنا (خلصنا) في الأعالي”!

مع شدة الازدحام حول شخص يسوع المسيح لم ييأس هؤلاء اليونانيون من تحقيق شهوة قلوبهم، وهي رؤية يسوع.

v إذ اقتربوا من أن يصيروا دخلاء (أي يتهودوا) جاءوا إلى العيد. وإذ بلغهم تقريرًا عنه قالوا: “نريد أن نرى يسوع” (٢١).

القديس يوحنا الذهبي الفم

“فتقدم هؤلاء إلى فيلبس الذي من بيت صيدا الجليل،

وسألوه قائلين:

يا سيد نريد أن نرى يسوع”. (21)

يظن البعض أن لهؤلاء اليونانيين معرفة سابقة بفيلبس، وأنهم عاشوا بجوار بيت صيدا في جليل الأمم. وربما حضروا بعض اجتماعات السيد المسيح هناك ورأوا فيلبس قريبًا منه.

جاءت رسالتهم لفيلبس تحمل تقديرًا خاصًا للسيد المسيح وشوقًا للقاء معه والحديث معه على انفراد. جاءوا إلى العيد ومع هذا لم تشغلهم عظمة بناء الهيكل ولا ازدحام أورشليم الشديد بالقادمين للعيد، ولا رؤية آيات وعجائب حتى بواسطة شخص المسيح، إنما يريدونه هو، يشتهون رؤيته والحديث معه.

للأسف حتى في الأعياد المسيحية خاصة الكبرى كالميلاد والقيامة كثير من المسيحيين ينشغلون بالعيد دون أن يشتهوا رؤية السيد المسيح، واللقاء معه شخصيًا.

يرى البعض أنهم من فينيقية أو سوريا، ربما من سكان ديكابوليس Dicapolis بجوار بحيرة جنيسارت وبيت صيدا.

v انظروا كيف يريد اليهود أن يقتلوه، والأمم أن يروه.

لكن وجد أيضًا من اليهود من صرخ: “مبارك الآتي باسم الرب ملك إسرائيل”.

هنا يوجد من هم من أهل الختان ومن هم من أهل الغرلة، أشبه بحائطين في بيت لهما اتجاهان مختلفان، يلتقيان معًا بقبلة السلام في الإيمان الواحد بالمسيح.

لنستمع إذن لصوت حجـر الزاوية: “قد أتت السـاعة ليتمجد ابن الإنسان” (٢٣). ربما يظن البعض أنه يتحدث عن نفسه أنه تمجد، لأن الأمم يريدون أن يروه. الأمر ليس هكذا، بل رأى الأمم من كل الدول يأتون إلى الإيمان بعد آلامه وقيامته. وكما يقول الرسول: “إن العمى قد حصل جزئيًا لإسرائيل، إلى أن يدخل ملء الأمم” (رو ١١: ٢٨). فقد انتهز الفرصة عند مجيء اليونانيين الذين يريدون أن يروه ليعلن عن ملء الأمم المستقبل، ويعد عن اقتراب الساعة التي فيها يمجد ذاته والتي عند حدوثها في السماء تأتي الأمم إلى الإيمان.

القديس أغسطينوس

“فأتى فيلبس، وقال لأندراوس،

ثم قال أندراوس وفيلبس ليسوع”. (22)

ما أروع أن يعمل الخدام معًا، فيتقدمون معًا إلى شخص السيد المسيح يقدمون النفوس المشتاقة إلى معرفته.

ربما تشاور فيلبس مع أندراوس عما يفعلاه، لأنه كثيرًا ما سمعه يقول أنه جاء لخراف إسرائيل الضالة. فاتفقا أن يقدما الأمر للسيد المسيح.

v تقدم فيلبس إلى أندراوس بكونه سابقًا له، وأخبره بالأمر. لكنه لم يتحرك بسلطانٍ إذ سمع القول: “في طريق الأمم لا تمضوا” (مت ١٠:٥) لهذا تشاور مع التلميذ وتحدث معه، وقدما الأمر للسيد.

القديس يوحنا الذهبي الفم

“وأما يسوع فأجابهما قائلاً:

قد أتت الساعة ليتمجد ابن الإنسان”. (23)

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن السيد المسيح سبق فأمر تلاميذه: “في طريق الأمم لا تمضوا” (مت ١٠: ٥)، لكن إذ حان وقت الصلب انفتح الباب للأمم. لقد أتت الساعة للكرازة الأمم.

قبل السيد طلبهما، وجاء قوله: “قد أتت الساعة ليتمجد ابن الإنسان” (٢٣)، مشجعًا الأمم أن يتقدموا للتعرف عليه والإيمان به. لقد رأى السيد الحقل قد أينع للحصاد، وجاء وقت قبول الأمم في الإيمان. إنها ساعة مجد له، حيث تُفتح أبواب كنيسته أمام كل البشرية، وإن كان هذا قد جاء كرد فعل لرفض اليهود له وخروجهم من حظيرة الإيمان. هذا يتحقق بموت السيد المسيح ودفنه وقيامته كحبة حنطة في الأرض لتأتي بثمرٍ كثيرٍ.

كان التلاميذ والرسل هم بكور اليهود القادمين للإيمان به، وجاء هؤلاء اليونانيون كبكورٍ للأمم الذين يدخلون الإيمان بعد أن شق الصليب الحجاب الحاجز بين السماء والأرض، وبين اليهود والأمم.

كان لابد للسيد أن يتمجد بموته وقيامته حتى يؤسس كنيسته المجيدة من اليهود والأمم معًا. حبه ألزمه بالموت، لكي يخلص العالم الذي دمره الفساد، يغسله من خطاياه ويبرره ويقدسه ويمجده في السماء، هذه هي الحنطة الكثيرة، حصاد عمله الخلاصي.

لقد أتت الساعة التي لن يدرك أعماقها وأسرارها سوى الله نفسه؛ هذه الساعة هي ساعة المجد للآب كما للابن. لقد مضت حوالي ثلاث سنوات يقدم فيها السيد أعماله العجيبة وكلماته مع الجموع، الآن حان للبذرة أن تقع في الأرض وتدفن وتموت. جاء وقت المعصرة، فقد سبق فرآه إشعياء النبي وسمعه يقول: “قد دُست المعصرة وحدي، ومن الشعوب لم يكن أحد معي” (إش ٦٣ : ٣).

قد أتت الساعة ليبسط يديه على الصليب، ويتمم المصالحة بين الآب وبني البشر، كما يضم اليهود والأمم معًا أعضاء في جسده الواحد.

v أتريد أن تقتنع أنه تألم بإرادته؟ آخرون لا يعلمون ماذا يحدث لهم، لذلك ماتوا بغير إرادتهم، أما هو فسبق وقال: “ابن الإنسان يُسلم ويصلبوه”. ألا تعرف لماذا؟ “صديق الإنسان” هذا لم يمنع الموت؟ لكى لا يهلك العالم كله في خطاياه. “ها نحن صاعدون إلى أورشليم وابن الإنسان يُسلم ويصلب” وأيضًا: “تقدم صاعدًا إلى أورشليم” (مت 18:20؛ لو 28:19).

أتريد حقًا أن تعرف أن الصليب مجد يسوع؟ استمع إلى كلماته لا إلى كلماتي، فإذ كان يهوذا خائن رب البيت على وشك القيام بالخيانة، وقد جلس على مائدته، وشرب كأس نعمته عوض الخلاص، تقدم ليسفك الدم البريء. “رجل سلامتي الذي وثقت به أكل خبزي، ورفع علىّ عقبه” (مز 9:41). لم يكن يده بعد قد تركت عطية نعمته، مدبرًا ثمنًا لخيانته بموته… وإذ سمع “أنت قلت” (مت 5:26) خرج. عندئذ قال يسوع: “قد أتت الساعة ليتمجد ابن الإنسان“. لترى يا عزيزي كيف عرف أن الصليب هو المجد اللائق به.

إن كان إشعياء لم يخجل من نشره إلى أجزاء، فهل يخجل المسيح من موته عن العالم؟!

“الآن يتمجد ابن الإنسان” (يو 3:13)، لا لأنه لم يكن ممجدًا من قبل، بل كان ممجدًا بالمجد الذي له من قبل كون العالم (يو 5:17). كان ممجدًا على الدوام إذ هو اللَّه، والآن يتمجد حاملاً صبره.

إنه لم يسلم حياته رغمًا عنه، ولا قبل الموت قسرًا بل بموافقته. اسمع ماذا يقول؟ “لي سلطان أن أضعها، ولي سلطان أن آخذها أيضًا” (يو 18:10). إنني أسلمها لأعدائي باختياري، وإلا ما كان يتم ذلك.

لقد جاء بغرض وضعه هو بنفسه أن يتألم، مسرورًا بعمله النبيل، مبتسمًا بتاجه، معتزًا بخلاص البشري، دون خجلٍ من الصليب إذ هو لخلاص هذا العالم. لم يكن إنسانًا عاديًا بل اللَّه المتأنس.

القديس كيرلس الأورشليمي

“الحق الحق أقول لكم إن لم تقع حبة الحنطة في الارض وتمت،

فهي تبقى وحدها،

ولكن إن ماتت تأتي بثمرٍ كثيرٍ”. (24)

مهما بلغ العالم لا يستطيع أن يدرك سرّ حصاد ثمر كثير من حبة حنطة واحدة، ولا كيف يتحول الحصاد إلى لحم ودم وعظام في أجسام البشر والحيوانات. هكذا يبقى سرّ موت المسيح وقيامته كأساس إقامة الكنيسة المجيدة فوق كل فكرٍ بشري.

لقد جاء اليونانيون ليروه، فلماذا قدم لهم مثل الحنطة؟ لقد أراد أن يؤكد لهم أنهم لا يقدرون أن يروه كما هو ما لم يعبر هو إليهم بموته وقيامته، فيدخل إلى عالمهم ويحملهم فيه. هو الطريق الذي يسحب قلوبهم إليه، يعبر إليهم، فيتحدثوا به ويعبروا معه إلى حضن الآب كثمرٍ متزايد. يصيرون “من لحمه وعظامه” (أف ٥: ٣٠).

v إن قلت وما معني قول السيد المسيح: “إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتمت فهي تبقى وحدها، ولكن إن ماتت تأتى بثمرٍ كثيرٍ“؟ أجبتك: إنه يتكلم عن صليبه، كأن السيد المسيح يقول: إن من شأن هذا الحادث أن يتحقق في الحنطة، إنها إذا ماتت تأتي بثمرٍ كثيرٍ، فإن كان هذا يحدث في البذور، فأليق وأوجب أن يكون فيّ، إلا أن تلاميذه لم يعرفوا الأقوال التي قالها.

v الحياة الحاضرة حلوة ومملوءة باللذة، لكن ليس بالنسبة للكل، بل للذين هم متمسكون بها. لذلك إذا ما تطلع أحد إلى السماء، ويرى الأمور الجميلة هناك، للحال يحتقر هذه الحياة ولا يبالي بها. وذلك كما أن جمال أي شيء يكون موضوع إعجاب من لا يرى ما هو أجمل منه، لكن إذ يظهر ما هو أفضل منه يُحتقر الأول. فإن اخترنا أن نتطلع إلى ذلك الجمال ونلاحظ سمو المملكة هناك، فإننا في الحال نتحرر من القيود الحالية، فإن التعاطف مع الأمور الزمنية هو نوع من القيود…

ماذا يقول: “إن لم تحتملوا موتي ببسالة، بل إن لم تموتوا، لا تقتنوا شيئًا”.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v صارت الحنطة في أرض يهوذا نادرة، لأن حبة القمح قد ماتت هناك، وفي بيت الأرملة الوثنية فاض الزيت كجداول.

القديس جيروم

“من يحب نفسه يهلكها،

ومن يبغض نفسه في هذا العالم يحفظها إلى حياة أبدية”. (25)

من يحب نفسه أكثر من حبه للسيد لمسيح، أو من يحب حياته الزمنية على حساب مجده الأبدي يهلك نفسه. أما من يهلك نفسه كحبة الحنطة، فيشارك السيد المسيح آلامه وموته، ممجدًا مخلصه، ينعم بالحياة الأبدية.

موت السيد المسيح غيَّر مفاهيم الموت ومعاييره كما غيَّر نظرتنا إلى الحياة، فأصبح الموت ضرورة لازمة للتمتع بالحياة المثمرة الكاملة. حيث لا موت فلا حياة صادقة. وحين يدفن الإنسان الأنا، يعلن المسيح “الحياة” ذاته فيه. وحينما يطلب الإنسان “ذاته” لا يجد المسيح له مكانًا فيه، فيفقد الإنسان مصدر حياته.

من يموت عن حياته القديمة ويُصلب عن العالم، تتجلى حياته الجديدة التي في المسيح يسوع ليختبر عربون الحياة العتيدة.

v إن سألت: وكيف من يحب نفسه يهلكها؟! أجبتك: من يتمم شهواتها الشنيعة، من يسمح لها خارج الواجب، ذاك هو الذي يحبها فيهلكها، ولهذا السبب توصينا الحكمة فتقول: “لا تكن تابعًا لشهواتك، بل عاصيًا أهواءك. فإنك إن أبحت لنفسك الرضى بالشهوة جعلتك شماتة لاعدائك” (يشوع بن سيراخ 18: 30، 31)، لأن الشهوات تحجز النفس عن الطريق المؤدية إلى الفضيلة.

وقوله “ومن يبغض نفسه في هذا العالم يحفظها إلى حياة أبدية”؛ إن قلت: وما معنى “ومن يبغض نفسه“؟ أجبتك: من لا يخضع لها، ولا يطعها متى أمرته بفعل الأفعال الضارة.

لم يقل: “من لا يخضع لها”، لكنه قال: “ومن يبغض نفسه”، لأنه كما أننا لا نحتمل أن نسمع صوت الذين نبغضهم، ولا أن نبصر وجوههم، كذلك يجب علينا أن نرجع عن أنفسنا بشدةٍ إذا أمرتنا بمخالفة وصايا الله.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v إن كنت تحب، فلتكن مستعدًا أن تُفقد. إن أردت أن تقتني الحياة في المسيح، لا تخف من الموت من أجل المسيح.

v بالتأكيد إنه إعلان عميق وغريب عن قياس حب الإنسان لحياته الذي يقوده إلى تدميرها، وبغضه لها الذي يضمن حفظها! إن كنت تحب حياتك بطريقة خاطئة بالحقيقة أنت تبغضها، أما إن كنت تحبها بطريقة صالحة فإنك فيما أنت تبغضها بالحق تحبها. يا لسعادة الذين يبغضون حياتهم فيحفظونها، فلا يسبب حبهم دمارًا لها.

القديس أغسطينوس

“إن كان أحد يخدمني فليتبعني،

وحيث أكون أنا هناك أيضًا يكون خادمي،

وإن كان أحد يخدمني يكرمه الآب”. (26)

بعد أن قدم السيد مفهومًا جديدًا للموت وللحياة من خلال صلبه وموته وقيامته، الآن يقدم لنا مفهومًا جديدًا للخدمة. فالخدمة ليست غيرة مجردة للعمل لحساب الآخرين، إنما هي اتحاد مع الخادم الحقيقي الفريد، يسوع المسيح، ومرافقته وتبعيته في طريق جثسيماني.

إن أراد أحد أن يخدم السيد المسيح ويكرز به، يلزمه أولاً أن يتبعه، أي يتتلمذ له ويتعلم منه ويطيعه ويسلك معه طريق الصلب والدفن، ليقوم معه حاملاً ثمارًا كثيرة. ليترك الخادم ملذات العالم، متطلعًا إلى السعادة الأبدية. ليتحد مع الأبدي، فينال مجدًا أبديًا يهبه له الآب القدوس نفسه.

بهذا المفهوم الجديد يجد الخادم مكافأته في الخدمة، حيث يجد نفسه في رفقة مسيحه، يشاركه آلامه كما مجده. حقًا إن من يتمتع بالشركة مع السيد المسيح ويكرس حياته للشهادة له ينال كرامة في عيني الله أكثر مما يظن في نفسه أو في عيني الناس. “والفاهمون يضيئون كضياء الجلد، والذين ردوا كثيرين إلى البرّ كالكواكب إلى أبد الدهور” (دا ١٢: ٣). وكما يقول السيد المسيح نفسه: “أيها الآب أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنا” (يو ١٧: ٢٤). في طريق الخدمة يجد الخادم فرصته الفريدة للحديث مع الخادم الحقيقي، يسوع المسيح. في الطريق يعلن المسيح عن نفسه وعن أبيه، فيتمتع الخادم بالمعرفة الإلهية.

من يحفظ كرم الله ويعمل فيه يكرمه الله نفسه، “حافظ سيده يكرمه” (أم ٢٧: ١٨).

هكذا حوَّل السيد المسيح أنظار اليونانيين القادمين لرؤيته إلى العمل لحساب ملكوته، إذ كشف لهم عن المجد المُعد للذين يخدمون في كرمه. يحول السيد الاشتياقات الجميلة لرؤيته إلى عملٍ جادٍ حتى يروه في مجده الأبدي وهم متمتعون معه بالشركة في المجد.

v إنه يتحدث بخصوص الموت ومتطلبات من يتبعه وذلك بالأعمال، فيحتاج من يخدم أن يتبع على الدوام من يُخدم… “إن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل وصليبه ويتبعني” (مت 16: 24) أي يقول: “أن يكون دومًا مستعدًا للمخاطر والموت والرحيل من هذا الموضع”. بعد أن أخبر عن المتاعب قدم المكافأة. من أي نوع؟ ” التبعية له، والوجود أينما وُجد هو، مظهرًا أن القيامة تتبع الموت”

v ولكن أين المسيح؟ في السماوات. لذلك ليتنا حتى قبل القيامة ننقل نفوسنا وعقولنا إلى هناك. لماذا يقول ذاك الذي يخدم المسيح “يكرم الآب” ، ولم يقل: “أنا أكرمه”؟ وذلك لأنهم لم يكونوا بعد قد صار لهم التفكير السليم بخصوصه، لكن كان لهم فكر عظيم من جهة الآب.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v أية كرامة يمكن أن تكون أعظم من أن يكون الابن المتبني مع الابن الوحيد؛ حقًا ليس بأن يرتفع إلى الألوهة بل شريكًا في الأبدية؟!

v لقد أراد منا أن نفهم كمن يقول: من لا يتبعني لا يخدمني. لذلك فإن خدام يسوع المسيح هم الذين لا يطلبون ما لأنفسهم، بل ما هو ليسوع المسيح (في ٢: ٢١). لأن “فليتبعني” معناها: ليسلك في طرقي، وليس في طريقه هو. وكما هو مكتوب في موضع آخر: “من قال إنه ثابت فيه ينبغي أنه كما سلك ذاك هكذا يسلك هو أيضًا” (١ يو ٢: ٩).

v كل واحدٍ هو خادم للمسيح بنفس الطريقة كما أن المسيح هو خادم. ومن يخدم المسيح بهذه الطريقة سيكرمه الآب بالكرامة الرائعة أن يكون مع ابنه، فلا يُعوزه شيء لسعادته إلى الأبد.

v حينما تسمعون أيها الاخوة: “حيث أكون أنا هناك يكون خادمي”، لا تظنوا فقط في الأساقفة والكهنة الصالحين. بل لتخدموا أنتم أيضًا بطريقتكم المسيح، بحياتكم الصالحة، وتقديم العطاء، والكرازة باسمه وتعاليمه قدر المستطاع…

القديس أغسطينوس

تمجيد السماء ليسوع ٢٧ – ٣٦.

“الآن نفسي قد اضطربت،

وماذا أقول؟ أيها الآب نجني من هذه الساعة،

ولكن لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة”. (27)

إذ تحدث عن ضرورة آلامه وموته، كابن الإنسان رفع قلبه للآب وهو يقول: “الآن نفسي قد اضطربت” (٢٧). حقًا إنها كلمات غريبة ينطق بها يسوع المسيح، خاصة وأن التلاميذ رأوا أناسًا من الأمم يطلبون أن يروه، وسمعوه يقول: “لقد أتت الساعة ليتمجد ابن الإنسان“. لكنه إذ صار إنسانًا حقيقيًا كان لابد لنفسه أن تضطرب أمام سحابة الآلام التي تحيط به. ولعله رأى خلال هذه السحابة خطايا البشرية كلها قد ظهرت أمامه لكي يحملها على كتفيه، مقدمًا نفسه ذبيحة عن خطايانا.

بينما يقول لتلاميذه: “لا تضطرب قلوبكم” (يو ١٤: ١). يقول: “الآن نفسي قد اضطربت” (27). اضطراب نفسه ينزع اضطراب نفوسنا؛ آلامه هي سرّ راحتنا الأبدية. لقد انطلق السيد المسيح بإرادته ومسرته ليحمل خطايانا، وكان لزامًا وسط مسرته أن تضطرب نفسه بسبب هول خطايانا. لقد حمل ضعفاتنا فيه ليهبنا روح القوة.

اضطراب نفسه هو حزن مقدس يولد فرحًا في قلوب البشرية المؤمنة، ومسرة للآب من أجل مصالحته مع البشرية، وتهليلاً للسمائيين. اضطربت نفسه وهو يدخل طريق الصليب الضيق حتى نشاركه آلامه وندخل معه إلى أمجاده السماوية. آلامه هي مجرد ساعة قد حلت وستعبر، لتحتل الأبدية التي لا يحدها زمن ما. يرى البعض أن الفعل هنا في اليونانية يحمل معنى الاضطراب أكثر منه الخوف.

جاء حديثه مع الآب يكشف عن مسرته بالصليب، إذ يقول: “لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة” (٢٧)، ولكي يحملنا إلى حياة التسليم والتواضع يصرخ: “أيها الآب نجني من هذه الساعة” (٢٧).

v هذه ليست أقوال لاهوته لكنها أقوال طبيعته الإنسانية التي لا تشاء أن تموت، وتتمسك بهذه الحياة الحاضرة، موضحًا بذلك أنه لم يكن خارج الآلام الإنسانية، لأنه كما أن الجوع ليس زللاً ولا النوم، فكذلك ولا الارتياح إلى الحياة الحاضرة زلل، وللسيد المسيح جسد نقي من الخطايا، وليس جسد متخلص من الضرورات الطبيعية، لذا اقتضت الحكمة أن يكون له جسد.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v لقد أخذ ضعف الإنسان لكي يعلمه عندما يكون في حزنٍ أو اضطرابٍ، فيقول: “يا أبتاه ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت” (مت ٢٦: ٣٩). فإنه هكذا يتحول الإنسان مما هو بشري إلى ما هو إلهي حينما يفضل إرادة الله عن إرادته هو.

القديس أغسطينوس

“أيها الآب مجد اسمك. جاء صوت من السماء:

مجدت وأمجد أيضًا”. (28)

إذ يخضع الابن المتجسد لإرادة الآب ويقدم نفسه ذبيحة، فإن الإعلان عن قبولها بالقيامة هو مجد لاسم الآب أيضًا. هنا يربط السيد المسيح بين الموت والمجد (القيامة)، فإن كانت نفسه قد اضطربت فهو لا يطلب إعفاءه من الموت، بل عبوره إلى القيامة التي تحمل مجدًا متبادلاً، مجد الابن ومجد الآب.

يقصد باسم الله هنا الله نفسه وأيضًا سماته، إذ يتمجد الآب نفسه، كما تتمجد حكمته ومراحمه وحبه وقداسته وبره الخ.، هذا كله يتحقق بعمل السيد المسيح الخلاصي.

جاء صوت الآب معلنًا: “مجدت، وأمجد أيضًا” (٢٨). كأنه يقول: “لقد حققت خطتي بك. أرسلتك كفارة عن خطايا العالم، وتممت عدلي الذي لن يفارق حبي ومراحمي. أتممت عملي. هكذا أنت تقدم دمك على الصليب، وأنا أقبله ذبيحة حب. موتك وقيامتك يمجداني ويتممان رسالتي نحو محبوبي، الإنسان. لقد مجدتك وسأمجدك في لحظات موتك وقيامتك”.

لقد تمجد السيد المسيح بتعاليمه وأعمال محبته من عجائب وآيات، كما تمجد في التجربة في البرية حيث جاءت الملائكة تخدمه، وتمجد في عماده حيث سُمع صوت الآب الذي يشهد له (مر ٩: ٧) والروح القدس الذي ظهر على شكل حمامة، وتمجد في تجليه حيث تكلم معه موسى وإيليا عن الخروج المزمع أن يكمله في أورشليم (لو ٩: ٣١). كما يتمجد بالأحداث المذهلة التي تتم أثناء القبض عليه ومحاكمته وصلبه، ويتمجد بقيامته، وبصعوده إلى السماء وبإرسال الروح القدس على تلاميذه، ونجاح الكرازة بهم، وانتشار إنجيله في العالم كله.

v قول السيد المسيح أيها الآب مجد اسمك! أبان بذلك أنه من أجل الحق يموت إذ سمى فعله مجدًا لله.

وقول الآب: “مجدت، وأمجد أيضًا“؛ فإن سألت وأين مجده؟ أجبتك: قد مجده في الأزمان الكائنة قبل هذه، وسيمجده بعد الصليب.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v مع أنهم لم يستطيعوا أن يقبلوا نعمة الحق، إلا أنهم اعترفوا لا إراديًا، وفي جهلهم نطقوا بأسرارٍ، فحدثت شهادة عظيمة من الآب للابن. وقد جاء في سفر أيوب أيضًا: “ومن يعرف عندما يضع قوة رعده؟” (أي14:26 LXX) .

القديس أمبروسيوس

v “وأمجد أيضًا” (٢٨)، عندما يقوم من الأموات، عندما لا يكون للموت أي سلطان بعد عليه، وعندما يرتفع فوق السماوات بكونه الله، ويكون مجده فوق كل الأرض.

القديس أغسطينوس

 

“فالجمع الذي كان واقفًا وسمع قال:

قد حدث رعد. آخرون قالوا:

قد كلمه ملاك”. (29)

يرى البعض أن الصوت كان باللغة التي يفهمها اليهود والتي لم يفهمها اليونانيون، لذلك قال الأولون إن ملاكًا كلمه، بينما ظن الآخرون أن رعدًا قد حدث. فقد شُبه صوت أحد المخلوقات الحية بالرعد (رؤ ٦: ١).

v لأن سألت: ومن أين حلّ بهم هذا الظن؟ أجبتك: لعل الصوت لم يكن واضح الدلالة، لكنه مرّ عليهم بسرعة، إذ كان بعضهم جسدانيين متوانين، والبعض الآخر منهم عرف أن الصوت كان واضحًا.

القديس يوحنا الذهبي الفم

“أجاب يسوع وقال:

ليس من أجلي صار هذا الصوت،

بل من أجلكم”. (30)

لم يكن السيد المسيح محتاجًا إلى صوتٍ من السماء ليشجعه، إنما جاء هذا الصوت من أجل الحاضرين لكي يؤمنوا أن الآب أرسله، لكي لا يتعثر فيه التلاميذ أثناء آلامه، بل يجدوا فيها راحتهم، كما يجد هو فيها مسرته.

لعل هذا الصوت كان من أجل اليونانيين الذين أرادوا أن يروه. فإنهم لم يشاهدوا آياته وعجائبه، وإنما سمعوا عنها، لذلك جاء الصوت من السماء يشهد له أمامهم.

ما هي وصية الآب للابن؟ تقديم الحياة الأبدية للبشرية، الأمر الذي لا يمكن لخليقةٍ ما في السماء أو على الأرض أن تقدمه.

v كأنه يقول: لم يصر هذا الصوت لأعرف أنا منه شيئًا كنت جاهلاً به، لأنني أعرف خفيات أبي كلها، لكنه صار لأجلكم. وقد اقتادهم السيد المسيح إلى أن يسألوه ما هو الذي قيل، إلا أنهم كانوا مندهشين ولم يخبروه.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v كما أن ذاك الصوت الذي نطق به الله لم يكن من أجله بل من أجل الآخرين، اضطربت نفسه ليس من أجله بل بإرادته من أجل الآخرين.

القديس أغسطينوس

“الآن دينونة هذا العالم،

الآن يُطرح رئيس هذا العالم خارجًا”. )31(

إنه صوت الآب الذي يعرفه الابن ويدرك أعماقه، فقد جاء الصوت ليعلن دينونة هذا العالم الشرير، وهزيمة الشيطان “رئيس هذا العالم”، وطرده خارجًا بلا سلطان. يفقد إبليس دائرة نفوذه حيث يعلن المؤمنون غلبتهم في حلبة المصارعة، ويخرج إبليس في ضعفٍ شديدٍ وهزيمةٍ منكرة، بعد كسب جولات كثيرة سابقة. هكذا يخسر إبليس جولته مع السيد المسيح، وتستمر هذه الهزيمة في صراعه مع المؤمنين، أعضاء جسد المسيح الغالب.

في يقين الإيمان يوجه الإنجيلي يوحنا حديثه للأحداث قائلاً: “كتبت إليكم أيها الأحداث لأنكم أقوياء وكلمة الله ثابتة فيكم، وقد غلبتم الشرير” (١ يو ٢: ١٤). كما كتب: “لأنه كل من وُلد من الله يغلب العالم، وهذه الغلبة التي تغلب العالم، إيماننا” (١يو ٥: ٤). كما يترنم المتمتعون بعمل الله الخلاصي قائلين: “الآن صار خلاص إلهنا وقوته وملكه وسلطان مسيحه. لأنه قد طُرح المشتكي على اخوتنا، الذي كان يشتكي عليهم أمام إلهنا نهارًا وليلاً. وهم غلبوه بدم الخروف، وبكلمة شهادتهم، ولم يحبوا حياتهم حتى الموت” (رؤ ١٢: ١٠-١١).

ماَ يخططه البشر من قتل للسيد المسيح، وما يمارسه إبليس من محاولة الخلاص من السيد، هذا كله يؤول إلى هزيمة الشر وتحطيم سلطان إبليس بالصليب، إذ لا يستطيع رئيس هذا العالم الشرير أن يقف أمام رئيس الحياة. وكما يقول الرسول: “أنتم أنكرتم القدوس البار، وطلبتم أن يُوهب لكم رجل قاتل، ورئيس الحياة قتلتموه، الذي أقامه الله من الأموات، ونحن شهود لذلك” (أع ٣: ١٤، ١٥). كما يقول الرسول بولس عن السيد المسيح: “لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت، أي إبليس” (عب ٢: ١٤).

يتحدث السيد الَمسيح بيقين النصرة حيث بموته يرد نفوس كثيرة إلى المعرفة ويحررهم من قيود إبليس.

لم تذكر كلمة “دينونة” بأداة تعريف، فهو لا يشير هنا إلى الدينونة النهائية، بل هي دينونة تبدأ بعمل المسيح الخلاصي، وذلك كقول سليمان الشيخ بروح النبوة: “ها إنه قد وُضع لسقوط كثيرين في إسرائيل، ولعلامة تُقاوم” (لو ٢: ٣٤).

v إن سألت ما هو معني هذا المجد؟ أجبتك: هو قول السيد المسيح: “الآن يُطرح رئيس هذا العالم خارجًا”.

v ما هي “دينونة العالم“؟ إنها كما يقول: “ستكون محاكمة ونقمة”. كيف وبأية وسيلة؟ ذبح إبليس الإنسان الأول، إذ جعله مجرمًا بالخطية، أما فيّ فلا يوجد ذلك. فلماذا أسلمني الموت؟ لماذا وضع في نفس يهوذا أن يحطمني؟… كيف إذن يُدان العالم فيّ؟ سيقال كما في محكمة العدالة المقاومة للشيطان: “حسنًا، لقد قتلت كل البشر، إذ وجدتهم جميعًا مسئولين عن الخطية، ولكن لماذا قتلت المسيح؟ أليس من أجل أنك قد أخطأت في ذلك؟ لذلك فيه يًنتقم للعالم كله.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v لمثل تلك الدينونات ينطق الرب هنا: “الآن دينونة هذا العالم“، بينما تبقى الدينونة النهائية محفوظة، عندما يُدان الأحياء والأموات.

لذلك فإن الشيطان قد اقتنى الجنس البشري، وأمسك به بالصك المكتوب بخطاياهم كمجرمين مذعنين للعقوبة. إنه يملك على قلوب غير المؤمنين، يخدعهم ويستعبدهم، يغويهم كي يتركوا الخالق ويعبدوا المخلوق. ولكن بالإيمان بالمسيح الذي تثبت بموته وقيامته، وبدمه الذي سفكه لغفران الخطايا ألوف من المؤمنين قد خلصوا من سلطان الشيطان، واتحدوا في جسد المسيح، وقد صاروا تحت قيادة الرأس.

هذا ما عناه عندما دعاه “دينونة“، هذا الفصل الصادق، هذا الترحيل للذين له، الذين خلصوا من الشيطان.

v الآن يخبرنا الرب مقدمًا ما يعرفه أنه بعد آلامه وتمجيده سيصير كثير من الأمم في العالم كله الذين يسكن الشيطان في قلوبهم مؤمنين، ويطرد منها الشيطان الذي يجحدونه بالإيمان.

القديس أغسطينوس

“وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب اليّ الجميع”. (32)

يُطرح إبليس خارجًا، إلى الجحيم حيث يفقد مملكته التي أقامها بين البشر على الأرض، بينما يرتفع السيد المسيح عن الأرض. بالصليب ينحدر العدو، وبه يرتفع السيد ليرفع معه مؤمنيه إلى السماء.

سبق وقرأنا أن الإنجيلي يوحنا يتطلع إلى الصليب كرفعٍ (٣: ١٤؛ ٨: ٢٨)، بكونه مجدًا له.

هنا ينسب إلى نفسه العمل “جذب النفس إليه“، وفي موضع آخر ينسبه إلى الآب (يو ٦: ٤٤). إنه يجتذب النفس ليس إلزامًا ولا بالعنف، وإنما بالحب الجذَّاب. وكما يقول في هوشع: “كنت أجذبهم بحبال البشر، بربط المحبة، وكنت لهم كمن يرفع النير عن أعناقهم، ومددت إليه مطعمًا إياه” (هو ١١: ٤).

النفس التي كانت بعيدة عنه لا تحتمل اللقاء معه بسبب ظلمتها الآن تتمتع بنوره وتنجذب إليه. إنه سيصعد إلى السماء ويسحب معه قلوب محبيه لتتمتع بالسماويات.

بقوله “الجميع” ليؤكد فاعلية الصليب في جذب السمائيين والأرضيين ليصيروا واحدًا. يُصالح به الكل لنفسه، عاملاً الصلح بدم صليبه، بواسطته سواء كان ما على الأرض أم ما في السماوات” (كو ١: ٢٠) ليجمع كل شيء في المسيح، ما في السماوات وما على الأرض، في ذلك” (أف ١: ١٠). كما يؤكد جاذبيته لكل البشرية سواء كانوا من اليهود أو الأمم، لكنه لن يجتذب أحد قهرًا بغير إرادته.

v معني ذلك أنه يجتذب حتى الذين يؤمنون من الأمم… يقول: “أجذبهم“، كمن هم محتجزين بواسطة طاغية، وغير قادرين بأنفسهم أن يقتربوا إلى (السيد المسيح)، ويهربوا من يدي الطاغية الذي يمسك بهم، في موضع آخر يدعوهم مسبيين، “كيف يستطيع أحد أن يدخل بيت القوي، وينهب أمتعته إن لم يربط القوي أولاً؟” (مت ١٢: ٢٩). قال هذا ليؤكد السيد قوته، ومن يدعوهم مسبيين يدعوهم هنا منجذبين إليه.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v إن كان المسيح صار لعنة من أجلنا لكي يخلصنا من لعنة الناموس، فهل تتعجب أنه من أجلنا يخضع للآب ليجعلنا نحن أيضًا خاضعين له، كما جاء في الإنجيل: “لا يأتي أحد إلى الآب إلا بي” (يو 6:14)، “وأنا إن ارتفعت أجذب إليّ الجميع“. فالمسيح إذن يخضع للآب في المؤمنين، إذ كل المؤمنين بل كل الجنس البشري يُحسب أعضاء جسمه. لكنه في غير المؤمنين، يُقال أنه لم يخضع، لأن هذه الأعضاء لجسده لا تخضع للإيمان.

القديس جيروم

“قال هذا مشيرا إلى أية ميتة كان مزمعًا أن يموت”. (33)

ارتفع بالصليب فصار منظرًا للعالم معلقًا بين السماء والأرض، كمن هو مستحق لهذه أو تلك.

لقد سمعت الجماهير عظاته وشاهدت آلاف من العجائب، لكن قلة التصقت به وثبتت في التلمذة له. أما وقد صُلب فجذب العالم إليه، وآمن كثيرون به، وثبتوا في محبته.

“فأجابه الجمع:

نحن سمعنا من الناموس أن المسيح يبقى إلى الأبد،

فكيف تقول أنت أنه ينبغي أن يرتفع ابن الإنسان؟

من هو هذا ابن الإنسان؟” (34)

كان الشعب يتوقع خلاف ما أعلنه، فمع سماعهم الصوت الذي من السماء وكلمات النعمة الخارجة من فمه لم يصدقوا أنه يرتفع أي يموت مع أن العهد القديم قد تنبأ عن موته، فهو كاهن إلى الأبد (مز ١١٠: ٤)، وملك أبدي (مز ٨٩: ٢٩). جاء عنه في سفر دانيال: “فأُعطى سلطانًا ومجدًا وملكوتًا لتتعبد له كل الشعوب والأمم والالسنة؛ سلطانه سلطان أبدي ما لا يزول وملكوته ما لا ينقرض” (دا ٧: ١٣، ١٤). وفي سفر حزقيال: “عبدي داود رئيس عليهم إلى الأبد” (حز ٣٧: ٢٥). تذكروا النبوات الخاصة بخلوده، ولم يتذكروا النبوات الخاصة بموته وأنه يسكب نفسه للموت (إش ٥٣: ١٢)، وأن يديه ورجليه تثقب.

من هو هذا الإنسان؟” (34) لم يسألوه لكي يتعرفوا على شخصه، وإنما لأنهم كانوا يظنون أنه المسيا الكاهن والملك إلى الأبد، وفوجئوا بأنه يجب أن يموت. لقد تشككوا في أمره بسبب إعلانه عن ضرورة موته.

v لقد عرفوا أن المسيح خالد وفيه حياة لا تنتهي. ألم يعرفوا ما قيل في مواضع كثيرة من الكتاب عن آلامه وقيامته في ذات الموضع؟

هكذا وضع إشعياء النبي الأمرين معًا، إذ قال: “ظُلم، أما هو فتذلل، ولم يفتح فاه، كشاةٍ تُساق إلى الذبح وكنعجةٍ صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه” (إش ٥٣: ٧). وداود أيضًا في المزمور الثاني ومواضع أخرى كثيرة ربط بين الأمرين. وأب الآباء (يعقوب) أيضًا بعد قوله: “ربض كأسدٍ وكلبوةٍ من ينهضه؟” (تك ٤٩: ٩) أظهر الآلام والقيامة في نفس الوقت. إلاَّ أن هؤلاء إذ ظنوا أنهم يسكتوه ويبينوا أنه ليس المسيح مستخدمين نفس هذه الظروف وهي أن المسيح يبقى إلى الأبد.

لاحظوا كيف عالجوا الأمر بمكرٍ، لأنهم لم يقولوا: “سمعنا أن المسيح لا يتألم ولا يُصلب” بل قالوا: “يبقى إلى الأبد“. ومع هذا فإن ما قالوه لا يمثل اعتراضًا حقيقيًا، فإن الآلام ليست عائقًا لخلوده. لهذا فإننا نرى أنهم فهموا أمورًا كثيرة مشكوك فيها، وقد سلكوا فيها خطأ عن عمدٍ. فقد سبق فحدثهم عن الموت. عندئذ قالوا: “من هو ابن الإنسان؟” قالوا هذا بخبثٍ. كأنهم يقولون: “نسألك ألا تظن أننا نقول هذا عنك، ولا تجزم أننا نعارضك في عداوة ضدك. وإنما نحن لسنا نعرف عمن تتكلم، ومع هذا فنحن نقول رأينا”.

القديس يوحنا الذهبي الفم

“فقال لهم يسوع:

النور معكم زمانا قليلاً بعد،

فسيروا مادام لكم النور،

لئلا يدرككم الظلام،

والذي يسير في الظلام لا يعلم إلى أين يذهب”. (35)

v قول السيد المسيح: “النور معكم زمانًا قليلاً بعد” يوضح أن موته مؤقت، لأن نور الشمس لا يبطل، لكنه يتوارى قليلاً ثم يظهر. وقوله لليهود: “فسيروا مادام لكم النور، لئلا يدرككم الظلام” قال هذا ليحثهم على الإيمان به.

وقوله: “والذي يسير في الظلام لا يعلم إلى أين يذهب“، فكم من أعمالٍ عملها اليهود الآن ولم يعرفوا ما عملوه، لكنهم كانوا كسالكين في الظلام، لأنهم ظنوا أنهم سائرون في الطريق القويمة، وهم يسلكون في الطريق المضادة، يحفظون سبوتًا ويصونون الشريعة، ويحترسون من الأطعمة، ولا يعرفون أين يمشون.

v “آمنوا بالنور، مادام لكم نور“، ولكن عن أي وقت يتحدث هنا؟ هل عن كل الحياة الحاضرة، أم عن الوقت ما قبل الصليب؟ أظن أنه عن كليهما. فإنه من أجل محبته للبشر التي لا توصف كثيرون آمنوا حتى بعد الصليب. ينطق بهذه الأمور ليحث على الإيمان.

القديس يوحنا الذهبي الفم

لتصيروا أبناء النور.

تكلم يسوع بهذا،

ثم مضى واختفى عنهم”. (36)

إذ هو منشغل بخلاصهم طلب منهم أن يهتموا بأعماقهم فيسلكوا في النور ما دام لهم النور حتى لا يصيروا أبناء الظلمة. لم يدخل معهم في حوارات جافة، بل وجههم إلى ما هو لخلاصهم وبنيانهم. طلب منهم أن يتمتعوا بنوره مادام قد تجسد وحلّ بينهم، حتى يحملهم إلى النور السماوي الأبدي.

حياتنا هي فرص قليلة، ربما لا تتكرر، لذا لاق بنا أن ننتفع بكل فرصة لأجل شركتنا مع الله. إنجيلنا هو سراج للنفس ينيرها. من لا يقبل نوره يسقط في الظلمة، وأما من يتمـتع به فيصير ابنًا للنور (لو ١٦: ٨؛ أف ٥: ٨)، وابنًا للنهار (١ تس ٥: ٥).

إنه يحذرهم بأنهم سيشتهون أن يروا يومًا من أيام ابن الإنسان ولا يروا (لو ١٧ : ٢٢)؛ وأن ملكوت الله يُنزع منهم ويُعطى للأمم (مت ٢١ : ٤٣).

v “لتصيروا أبناء النور” بمعنى تصيروا “أبنائي”. مع أن الإنجيلي في البدء يقول: “الذين ولدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد، بل من الله” (يو ١: ١٣)، أي وُلدوا من الآب. بينما يُقال هنا أنه هو ولدهم، وذلك لكي تدركوا أن عمل الآب والابن هو واحد.

v يقول يوحنا الرسول عن السيد المسيح: “ثم مضى واختفي عنهم“؛ فإن سألت: وما غرض السيد المسيح من أن يختفي؟ لأنهم لم يحملوا حجارة ليقتلوه، ولا جدفوا عليه مثلما فعلوا فيما سبق، فلِمَ اختفي؟! أجبتك: إذ يعرف السيد ما في قلوبهم من تذمرٍ مملوء بالغضب، لم ينتظر حتى يخرج هذا الغضب إلى حيز التنفيذ، لكنه اختفي ليهدئ من شرهم.

القديس يوحنا الذهبي الفم

أخيرًا إذ قدم لهم نصيحة أبوية أن ينتهزوا فرصة وجوده لكي يشرق بنوره عليهم فيبدد ظلمتهم، موضحًا أن الوقت مقصر، والزمان الذي بقي قليلاً ليتركهم، في الحال مضى واختفى عنهم، حتى لا يدخلوا في جدالٍ، بل يفكروا في جدية من جهة موقفهم منه.

 

شهادة الأنبياء لمجده ٣٧ – ٤١.

“ومع أنه كان قد صنع أمامهم آيات هذا عددها لم يؤمنوا به”. )37(

يقدم لنا يوحنا الإنجيلي شهادة إشعياء النبي لمجد السيد المسيح ورفض اليهود له، لأنهم “أحبوا مجد الناس أكثر من مجد الله” )٤٣(.

من جهة كثرة معجزاته فيقول “هذا عددها” )٣٧(، مع ذلك لم تحثهم على الإيمان به، بل على حسده ومقاومته. لم يسمعوا عنها فقط، وإنما صنعها “أمامهم“، لأنه لم يصنعها خفية بل علانية بشهود كثيرين. مع هذا لم يؤمنوا به، إذ أصيبت أعين قلوبهم بالعمى بشهواتهم التي قست قلوبهم وأفسدتها.

“ليتم قول إشعياء النبي الذي قاله:

يا رب من صدق خبرنا،

ولمن أُستعلنت ذراع الرب”. (38)

تحققت نبوة إشعياء بأنهم لن يصدقوا الشهادات النبوية والإعلانات الإلهية، ولم يقبلوا ذراع الرب الذي هو قوته وسلطانه وعجائبه.

خبرنا” هنا تشير إلى الإنجيل الذي تنبأ عنه إشعياء وغيره من الأنبياء.

v كما أنك بذراعك تعمل، هكذا كلمة الله يمثل ذراعه.

القديس أغسطينوس

“لهذا لم يقدروا أن يؤمنوا،

لأن إشعياء قال أيضًا”. (39)

يكشف القديس يوحنا الإنجيلي عن حال اليهود الذين اتسموا بالعناد والمقاومة لله ولأنبيائه، منذ نشأتهم في مصر، وعند خروجهم حيث قاوموا موسى وهرون، وفي البرية، فلم ينجُ منهم نبي. وكما قال إيليا النبي: “قد تركوا عهدك، ونقضوا مذابحك، وقتلوا أنبياءك بالسيف، فبقيت أنا وحدي، وهم يطلبون نفسي ليأخذوها” (١ مل ١٩: ١٠). ويقول الشهيد استفانوس: “يا قساة الرقاب وغير المختونين بالقلوب والآذان، أنتم دائما تقاومون الروح القدس. كما كان آباؤكم كذلك أنتم. أي الأنبياء لم يضطهده آباؤكم؟ وقد قتلوا الذين سبقوا فأنبأوا بمجئ البار، الذي أنتم الآن صرتم مسلميه وقاتليه، الذين أخذتم الناموس بترتيب ملائكة ولم تحفظوه” (أع ٧: ٥١-٥٣).

سلسلة لا تنقطع من مقاومة عمل الله واضطهاد مستمر للأنبياء، أعمت أعينهم الداخلية عن الرؤيا، وقسَّت قلوبهم، فصاروا عاجزين عن التمتع بالإيمان!

v مرة أخرى لاحظوا هنا أن “لأن” و “قال” لا تشيران إلى علة عدم إيمانهم، إنما تشيران إلى الحدث ذاته. فإنه ليس لأن إشعياء قال هم لم يؤمنوا، وإنما إذ لم يريدوا أن يؤمنوا هو قال: فلماذا لم يعبر الإنجيلي هكذا بدلاً من جعل عدم الإيمان صادر عن النبوة وليست النبوة صدرت عن عدم الإيمان؟ لقد وضع هذا الأمر بطريقة إيجابية قائلاً: “لهذا لم يقدروا أن يؤمنوا، لأن إشعياء قال” (٣٩). إنه يرغب في تثبيت عدم خطأ الحق الكتابي بطرق كثيرة، وأن ما سبق فقاله إشعياء لم يسقط بل حدث ما قاله.

v “لهذا لم يقدروا أن يؤمنوا”، وضعت عوض “لم يكونوا يريدون أن يؤمنوا”. لا تتعجب… إنه لم يقل أن صُنع الفضيلة مستحيل بالنسبة لهم، بل لأنهم لم يريدوا، على هذا الأساس لا يستطيعون.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v لا يتجاسر أحد في دفاعه عن حرية الإرادة بطريقة بها يحاول أن يحرمنا من الصلاة القائلة: “لا تدخلنا في تجربة”. ومن الجانب الآخر لا ينكر أحد الإرادة ويتجاسر فيجد عذرًا للخطية. لنلتفت إلى الرب في تقديمه الوصية، وفي تقديمه عونه، ففي كليهما يخبرنا عن التزامنا بالواجب، وعن مساندتنا في تنفيذه. فإن البعض يرتفعون إلى الكبرياء خلال ثقتهم المبالغ فيها في إرادتهم الذاتية، بينما يسقط آخرون في عدم المبالاة خلال المبالغة في عدم الثقة.

يقول الأولون: “لماذا نسأل الله ولا نسعى نحن للغلبة على التجربة ما دام كل شيء في مقدورنا؟”

يقول الآخرين: “لماذا نجاهد لنحيا صالحين مادامت القدرة على فعل هذا هي في يد الله؟”…

من جانبٍ يلزمنا أن نشكره من أجل القوة التي يمنحنا إياها، ومن الجانب الآخر يلزمنا أن نصلي لكي لا تفشل قوتنا الصغيرة تمامًا. إنه ذات الإيمان عينه العامل بالمحبة (غلا ٥ : ٦)، حسب القياس الذي يهبه الرب لكل إنسان، حتى أن من يفتخر لا يفتخر بذاته بل في الرب (١ كو ١: ٣١).

v إذن لا عجب أنهم لم يقدروا أن يؤمنوا، حيث كان كبرياء إرادتهم هكذا، إذ جهلوا برّ الله وأرادوا برّ أنفسهم، كما يقول عنهم الرسول: “لم يخضعوا لبرّ الله” (رو ١٠: ٣). إذ انتفخوا لا كما بالإيمان بل بالأعمال، وتعثروا أمام حجر العثرة. هكذا قيل “لم يقدروا“، فنفهم من ذلك أنهم لم يريدوا، وذلك بنفس الطريقة كما قيل عن الرب إلهنا: “إن كنا غير مؤمنين فهو يبقى أمينًا، لن يقدر أن ينكر نفسه” (٢ تي ٢: ١٣). قيل عن الكلي القدرة “لن يقدر“…

v هؤلاء اليهود “لم يقدروا أن يؤمنوا“، ليس أن هؤلاء الناس لا يقدروا أن يتغيروا إلى الأفضل، وإنما مادامت آراءهم تسلك في هذا الاتجاه لا يقدروا أن يؤمنوا، لهذا فهم عميان وغلاظ القلوب، لأن بإنكارهم الحاجة إلى عون إلهي لم يجدوا عونًا.

القديس أغسطينوس

“قد أعمى عيونهم وأغلظ قلوبهم،

لئلا يبصروا بعيونهم،

ويشعروا بقلوبهم،

ويرجعوا فأشفيهم”. (40)

لم يقدروا أن يؤمنوا، لأنهم لم يريدوا، ولا طلبوا عون الله ونعمته لمساندتهم. لهذا لم تفتح نعمة الله أعينهم لمعاينة الحق والتمتع بالخلاص؛ هذا ما يعنيه بقوله: “أعمى عيونهم“. مقاموتهم طمست عيون قلوبهم، فلم ينالوا الشفاء من طبيب النفوس والأجساد، فصاروا كمن أعمى الله عيونهم. الإصرار المستمر وعدم الرغبة في التمتع برؤية الحق جعلتهم عاجزين عن الإيمان الحي. هذا النص ورد في إشعياء ٦: ٩، ربما يشير إلى الحكم الذي يحل عليهم كأمةٍ.

v كما أن الشمس تبهر العيون الضعيفة ليس بسبب طبيعتها اللائقة بها، هكذا أيضًا بالنسبة للذين لا يبالون بكلمة الله. هكذا قيل في حالة فرعون أن (الله) قسى قلبه. هكذا يكون حال من هم مصرون تمامًا على مقاومة كلمات الله.

هذا هو أسلوب الكتاب، كما قيل: “أسلمهم إلى فكرٍ مرفوض” (رو ١:٢٨)… فإن الكاتب هنا لا يقدم الله بكونه هو نفسه يفعل هذه الأمور إنما يظهر أنها تحدث خلال شر الآخرين. فلكي يرعب السامع لذلك يقول الكاتب: “قسى الله”، “أسلمهم”.

ولكي يُظهر أنه لا يسلمنا ولا يتركنا إلاَّ إذا أردنا نحن ذلك اسمع ما يقوله: “أليست شروركم قد فصلت بيني وبينكم؟” (إش ٥٩: ٢ LXX). ويقول هوشع: “أنتم نسيتم ناموس إلهكم، وأنا أيضًا أنساكم” (هو ٤: ٦ LXX). وهو نفسه يقول: “كم مرة أرد أن أجمع أبناءكم… وأنتم لا تريدون؟” (لو ١٣: ٣٤)…

إذ نعرف هذا ليتنا نبذل كل الجهد ألا نترك الله، بل نتمسك بالاهتمام بنفوسنا ومحبة بعضنا البعض. ليتنا لا نبتر أعضاءنا، فإن هذا عمل من هم مجانين، بل كلما رأيناهم في وضع شرير نترفق بهم بالأكثر.

القديس يوحنا الذهبي الفم

“قال إشعياء هذا حين رأى مجده وتكلم عنه”. (41)

نطق إشعياء النبي بهذا حين رأى مجده وتحدث عنه. رأى السيد على كرسي عالٍ وأذياله تملأ الهيكل. المجد الذي رآه إشعياء هو مجد يهوه؛ هنا القديس يوحنا الإنجيلي يقول أنه مجد يسوع، حاسبًا أن يسوع المسيح هو يهوه. جاءت الترجمة الآرامية (الترجوم): “لأن عيني رأتا شاكيناه الرب” (إش ٦ :٥). ولما كانت شاكيناه هي النور الإلهي أو الحضرة الإلهية، فإن ما رآه إشعياء النبي هو نور الرب أو بهاءه، شعاع مجده ورسم جوهره (عب ١: ٣).

v إن سألت: مجد من رأى إشعياء النبي؟ أجبتك: مجد الآب. ولعلك تقول: فكيف يتحدث إشعياء النبي عن مجد الآب، ويوحنا البشير عن مجد الابن، وبولس الرسول عن مجد الروح؟ أجيبك: لم يكن حالهم حال من يجمعون الأقانيم، لكنهم قالوا هذا القول موضحين رتبة واحدة موجودة بهم، وبيان ذلك أن سمات الآب هي سمات ابنه، وسمات الابن هي سمات الروح.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v ما رآه إشعياء ليس الله كما هو، وإنما بطريقة رمزية تناسب إمكانية رؤية النبي. فإن موسى أيضًا رآه، ومع هذا نجده يقول له عندما رآه: “فالآن إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك حتى أعرفك…” (خر ٣٣: ١٣)، إذ لم يرً الله كما هو… “أيها الأحباء الآن نحن أولاد الله، ولم يظهر بعد ماذا سنكون. ولكن نعلم أنه إذ أُظهر نكون مثله، لأننا سنراه كما هو” (١ يو ٣: ٢).

القديس أغسطينوس

تمجيد بعض الرؤساء له ٤٢ – ٤٣.

“ولكن مع ذلك آمن به كثيرون من الرؤساء أيضًا،

غير أنهم لسبب الفريسيين لم يعترفوا به،

لئلا يصيروا خارج المجمع”. (42)

آمن به بعض الرؤساء مثل نيقوديموس (يو ٣)، حاسبًا إياه معلمًا من عند الله، وأيضًا يوسف الرامي الذي تقدم لبيلاطس لاستلام جسده، ونال بركة دفنه في قبره الجديد. ووُجد غيرهما ممن آمنوا به في قلوبهم، لكنهم لم يتجاسروا ويعلنوا إيمانهم علانية. وسنتحدث عن مجمع السنهدرين في نهاية هذا الاصحاح بمشيئة الرب.

ظن إيليا أنه وحده يعبد الله ولم يدرك أن سبعة آلاف رجل لم يحنوا ركبة لبعلٍ يراهم الله ولا يعرفهم العالم. هكذا في كل جيل توجد بقية أمينة خفية لها تقديرها في عيني الله لا عند الناس.

“لأنهم أحبوا مجد الناس أكثر من مجد الله”. (43)

لم يعترف البعض به خشية فقدان كرامتهم الزمنية، إذ أحبوا مجد الناس أكثر من مجد الله. وكما يقول السيد المسيح: “كيف تقدرون أن تؤمنوا، وأنتم تقبلون مجدًا بعضكم من بعض، والمجد الذي من الإله الواحد لستم تطلبونه؟!” (يو ٥: ٤٤).

v هذا ما قاله لهم السيد المسيح: “كيف تقدرون أن تؤمنوا وأنتم تقبلون مجدًا من بعض، والمجد الذي من الإله الواحد لستم تطلبونه؟” (يو 5: 44)، فلم يكونوا إذًا رؤساء، لكنهم كانوا عبيدًا، لأنهم ابتعدوا عن الإيمان لعشقهم في المجد الباطل.

القديس يوحنا الذهبي الفم

شهادة المسيح لنفسه ٤٤ – ٥٠.

“فنادى يسوع وقال:

الذي يؤمن بي ليس يؤمن بي،

بل بالذي أرسلني”. (44)

هذا هو ختام عظته الموجهة للأشرار المصممين على عدم الإيمان، وتُحسب تكملة للعظة التي قُطعت بالآية ٣٧. لقد نادى (صرخ) يسوع بصوتٍ عالٍ، مظهرًا غيرته الشديدة على خلاصهم.

هنا يؤكد وحدته الخفية مع الآب، فمن يؤمن بالابن يؤمن بالآب الذي أرسله، ومن يرى الابن يرى الآب أيضًا، من يكرم الابن يكرم الآب.

v معنى: “لا يؤمن” أي لا يكون ذلك عند حدود الشكل الجسدي، ولا عند حدود الإنسان الذي ترونه. فإنه يقرر أنه يلزمنا أن نؤمن بأنه ليس إنسانًا مجردًا، بل نؤمن بيسوع المسيح اللَّه والإنسان (في نفس الوقت).

القديس أمبروسيوس

v كأن يقول: “لماذا تخشون أن تؤمنوا بي؟ الإيمان بي يعبر خلالي إلى الآب، كما أن إنكاركم إياي يصل إليه. انظروا كيف أنه بكل وسيلة يظهر عدم الاختلاف في الجوهر.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v تكريم الابن فيه تكريم للآب، إنه لا يُنقص من لاهوته.

v الآن عندما يقول: “الذي يؤمن بي، ليس يؤمن بي، بل بالذي أرسلني” (٤٤). ماذا نفهم سوى أنه ظهر كإنسانٍ للبشر بينما بقي غير منظور بكونه الله؟ ولكي لا يظن أحد أنه ليس بأكثر مما يروه فيه يشير إلى الإيمان به كمساوٍ للآب في الشخصية والرتبة… فمن يؤمن بالآب يلزمه أن يؤمن أنه أب، ومن يؤمن بالآب يؤمن أن له ابن، وبهذا فمن يؤمن بالآب يلزمه أن يؤمن بالابن.

القديس أغسطينوس

“والذي يراني، يرى الذي أرسلني”. (45)

v ماذا إذن؟ هل لله جسد؟ لا يمكن! فإن الرؤية التي يتحدث عنها ليست بجهة من الجهات جسمًا، فالبصر هنا إنما يريد به بصيرة العقل، وفي هذه الجهة بيَّن السيد المسيح أن جوهره هو جوهر أبيه. هنا يعلن عن الشركة في ذات الجوهر.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v نطق بالكلمات السابقة (٤٤) حتى لا يؤمن أحد أنه مجرد ما يظهر عليه، أي أنه ابن الإنسان، وبالكلمات التالية (٤٥) لكي يؤمنوا أنه مساوٍ للآب…

لقد أرسل المسيح رسله… لكن لم يكن ممكنًا لأحدهم أن يقول: “من يؤمن بي ليس يؤمن بي، بل بالذي أرسلني”، فإنه ليس من أي أساس يمكن أن يقوم عليه القول: “يؤمن بي”.

نحن نصدق الرسول، لكننا لا نؤمن به، لأنه ليس من رسول يبرر الخطاة. إنما نؤمن بالذي يبرر الخطاة، إيمانه يُحسب برًا (رو ٤: ٥).

يُمكن للرسول أن يقول: “من يقبلني يقبل الذي أرسلني”، أو “من يسمعني يسمع الذي أرسلني”، إذ يقول الرب: من يقبلكم يقبلني، ومن يقبلني يقبل الذي أرسلني (مت ١٠: ٤٠). فإن السيد يُكرم في الخادم، والأب في الابن، وعندئذ الأب كما في الابن والسيد كما في الخادم.

أمكن للابن الوحيد الجنس بحقٍ أن يقول: “آمـنوا بالله، فآمنوا بي” (يو ١٤: ١). وكما يقول هنا أيضًا: “الذي يؤمن بي، ليس يؤمن بي، بل بالذي أرسلني“. إنه لا يحول إيمان المؤمن عنه، وإنما أراد ألا يقف المؤمن عند إيمانه به كعبدٍ، لأن كل من يؤمن بالآب يؤمن للحال بالابن، الذي بدونه لا يكون للآب وجود كآبٍ. وهكذا يبلغ إلى إيمانه بمساواته للآب، ذلك طبقًا للكلمات التالية لها: “والذي يراني، يرى الذي أرسلني” (٤٥).

القديس أغسطينوس

“أنا قد جئت نورًا إلى العالم،

حتى كل من يؤمن بي، لا يمكث في الظلمة”. (46)

قبل مجيء المخلص – شمس البرّ – إلى العالم كان الكل في الظلمة. بإشراقه تبددت الظلمة، لكن لم ينتفع منها إلاَّ من كانت عيناه سليمتين قادرتين على رؤية أشعة شمس البرّ هذا. أشرقت شمس البرّ على البشرية كلها لكي يجد المؤمنون فيه نورًا وراحة، حيث لا يبقى للظلمة موضع فيهم. بنوره تنتهي المخاوف واليأس، ويحل الفرح السماوي والرجاء في الأبدية.

v إذ يُدعى الآب بذات الاسم في كل موضع في العهدين القديم والجديد، يستخدم المسيح نفس الاسم أيضًا. لهذا يدعوه بولس: “البهاء” (عب 1:3)، متعلمًا أن يفعل هذا من ذات المصدر. أيضًا يظهر هنا العلاقة القوية بينه وبين الآب، وأنه لا يوجد فصل بينهما، وذلك متى قال أن الإيمان به ليس به، بل يعبر إلى الآب، ويدعو نفسه النور “لأنه يُخلص من الخطأ، ويزيل الظلمة العقلية.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v أليس بصالح ذاك الذي رفع الأرض إلى سماء حتى أن الكواكب المتلألئة المصاحبة له تعكس مجده في السماء كما في مرآة، هكذا طغمات الرسل والشهداء والكهنة يشرقون مثل كواكب مجيدة، وتهب نورًا للعالم؟

القديس أمبروسيوس

v إنه لم يقل (لتلاميذه) “قد جئتم نورًا للعالم، حتى كل من يؤمن بكم لا يمكث في الظلمة”. مثل هذا القول أقول لن يمكن قبوله بأي وضع. لذلك فكل القديسين هم أنوار، لكنهم استناروا به بالإيمان، وكل من ينفصل عنه تحوط به الظلمة. أما ذاك النور الذي ينيرهم، فلن يمكن أن ينفصل عن ذاته، لأنه غير قابل للتغيير.

القديس أغسطينوس

“وإن سمع أحد كلامي ولم يؤمن، أنا لا أدينه،

لأني لم آت لأدين العالم بل لأخلص العالم”. (47)

لم يأت السيد المسيح ليدين العالم بل ليخلصه. كلمات الأنبياء التي تنبأت عنه تدينهم.

v الآن هو زمن الرحمة، فيما بعد يأتي زمن الدينونة، إذ قيل: “اسبح لك يا رب الرحمة والحكم” (مز ١٠١: ١).

القديس أغسطينوس

“من رذلني ولم يقبل كلامي، فله من يدينه،

الكلام الذي تكلمت به هو يدينه في اليوم الأخير”. (48)

إن كان السيد المسيح يشتهي خلاص الكل لا دينونتهم، فإنه في اليوم الأخير كلماته تدين غير المؤمنين، كشاهد على جرائمهم. كل كلمة ينطق بها، وكل حنو يقدمه، وكل عطية يهبها، هذه كلها تشهد ضد من يستهين به.

v قوله: “الكلام الذي تكلمت به هو يدينه في اليوم الأخير” (٤٨) فيه الكفاية ليعلن أنه هو نفسه الديان بعد ذلك. فإنه هو نفسه الذي تكلم، وهو الذي أعلن ذلك، وهو نفسه الذي أقام نفسه كبابٍ يدخل منه كراعٍ إلى خرافه. فإنه سيُدان الذين لم يسمعوا الكلمة قط بطريقة غير الذي سيُدان بها من سمعوا واستخفوا بالكلمة. يقول الرسول: “لأن كل من أخطأ بدون الناموس فبدون الناموس يهلك، وكل من أخطأ في الناموس فبالناموس يُدان” (رو ٢: ١٢).

القديس أغسطينوس

“لأني لم أتكلم من نفسي،

لكن الآب الذي أرسلني هو أعطاني وصية ماذا أقول وبماذا أتكلم”. (49)

يقوم يسوع بكونه المسيا برسالة الخلاص التي تسلمها من الآب لينطق بها ويتممها. إنه وكالة الآب، ما يفعله لحساب الآب الذي أحب العالم وبذل ابنه الوحيد من أجله.

لقد فشل آدم الأول في رسالته، وعصى الله، ولم يكن بالسفير اللائق ليمثل السماوي، فجاء آدم الثاني بروح الطاعة يتمم العمل المُوكل إليه، عمل الحب الإلهي الفائق. فيه يمكننا أن نمارس الطاعة التي فقدناها بانتسابنا لآدم أبينا.

v حتمًا قال هذا من أجلهم… ألا ترون أنه قدم تعبيره في تواضع متزايد، حتى يجتذب هؤلاء الناس ويُسكت القادمين بعدهم؟ هذا هو السبب الذي نطق بكلمات تناسب إنسانًا مجردًا، إذ كان مدركًا أن الكلمات لا تخص طبيعته بل تناسب ضعف المستمعين.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v الابن وحده هو كلمة الآب، وحكمة الآب، فيه كل وصايا الآب. فإنه لا يوجد زمن فيه لم يعرف الابن وصية الآب، مما يجعل من الضرورة أن يقتنيها في وقت معين، تلك التي اقتناها قبلاً. ما ناله من الآب هو أنه وُلد، فاقتناها بمولده (الأزلي)… لم يقدم الآب للابن وصية لم تكن لديه، وإنما كما قلت أنه في حكمة الآب وفي كلمة الآب تقوم كل وصايا الآب.

القديس أغسطينوس

“وأنا أعلم أن وصيته هي حياة أبدية،

فما أتكلم أنا به،

فكما قال لي الآب هكذا أتكلم”. (50)

v إن كان الابن نفسه هو الحياة الأبدية، وهو وصية الآب، فماذا يعني هذا سوى “أنا هو وصية الآب“؟ وبقوله: “فما أتكلم به فكما قال لي الآب هكذا أتكلم” (٥٠).

لا يُفهم “قال لي” كما لو كان الآب يستخدم كلمات في حديثه مع الكلمة وحده، أو أن كلمة الله يحتاج إلى كلمات من الله.

تكلم الآب مع الابن بنفس الطريقة كما أعطى الحياة للابن، ليس كمن لا يعرف أمرًا، أو لم يكن له الأخرى (الحياة)، وإنما لأنه هو الابن… إنه الحقاني قد ولد الحق، فماذا يمكن أن يقول للحق؟ فإن الحق الذي ليس فيه نقص لا يحتاج إلى من يهبه حقًا إضافيًا. إذن هو تكلم مع الحق لأنه ولد الحق.

القديس أغسطينوس

 

ملحق للاصحاح الثاني عشرعن مجمع السنهدرين

إذ كثيرًا ما نسمع في هذا السفر عن رؤساء الكهنة والفريسيين ونادرا عن الكتبة، أود أن أقدم فكرة سريعة عن أعضاء مجمع السنهدرين.

كلمة Sanhedrim هي الصيغة الآرامية للكلمة اليونانية sunedrion ومعناها “مجمع” أو “جلسة اجتماع (قضائي)”.

يعتبر هذا المجمع هو الهيئة العليا لمحكمة القضاء العالي في أورشليم، تحت رئاسة رئيس الكهنة لإسرائيل، في أيام خدمة السيد المسيح ومحاكمته.

تاريخه

ترجع نشأة هذا المجمع إلى عصر سيادة الإمبراطورية اليونانية، وإن كان الربيون يجاهدون ليجدوا بدء نشأته هو مجمع السبعين شيخًا الذي أُقيم في أيام موسى النبي (عد 11: 16، 24).

أول مرة يُشار إليه تحت اسم “المشيخة” geraousia كان في أيام أفتيخوس الكبير 223-187ق.م.

خوّل الأباطرة الهيلينيون الحرية للمجتمعات المحلية في الشئون الداخلية، فكانت إسرائيل تحكم نفسها بنفسها داخليًا، خلال مجلس الشيوخ الأرستقراطي (1 مك12:6؛ 2 مك 1: 10؛ 11: 27؛ 3 مك 18)، تحت رئاسة رئيس الكهنة الذي ينال المركز وراثيًا.

عندما دخل النظام الروماني بواسطة بومبايPompey احتفظ رئيس الكهنة بمركز “حاكم الأمة”، مما يدل على بقاء مجلس المشيخة في ذلك الحين.

قام Gabinius بتقسيم الإقليم اليهودي إلى خمسة مقاطعات أو خمسة مجامع، فلم يعد مجمع أورشليم منفردًا في الحكم القضائي.

بعد عشرة سنوات أعاد قيصر تعيين هيرقانيوس الثاني Hyrcanus II إلى مركوه السابق وامتد سلطان مجمع أورشليم إلى الجليل. وهنا لأول مرة يدعى مجمع أورشليم “السنهدرين“.

بدأ هيرودس حكمه بإصدار أمره بقتل جميع أعضاء مجمع السنهدرين، وقام بتعيين أعضاء موالين له.

بعد موت هيرودس وابنه أرخيلاوس Archelaus امتد سلطان المجمع. وفي أيام السيد المسيح على الأرض، وفي عصر الرسل، كان هذا المجمع يعتبر المحكمة القضائية العليا للعدالة.

زال هذا المجمع بلاشك بعد ذلك، إذ انتهى دوره بخراب أورشليم عام 70م

أعضاؤه

1- رؤساء الكهنة: تعتبر الهيئة الأرستقراطية في أورشليم، تضم رؤساء الكهنة السابقين والعاملين مثل حنان حما قيافا وقيافا وبعضًا من الأسرة من أولادهما. انحرف هذا اللقب عن الدور الرئيسي له وهو العمل الديني البحت ليمارسوا العمل السياسي تحت ستار الدين.

2- الصدوقيون، ويدعون أحيانا الكهنة أو الشيوخ، ولم يكونوا كهنة بالمفهوم الديني كما ورد في أسفار موسى، وإنما كانوا اسبه بهيئة قضائية، وهم ملتصقون برؤساء الكهنة، يحملون عداء خفيا للفريسيين.

3- الفريسيون، يعتبرون أنفسهم حماة الناموس والتقليد اليهودي. حرفيون إلي أبعد الحدود، لهم سلطان قوي في المجامع المحلية. كانوا يندسون بين الشعب لإثارة تساؤلات واعتراضات في الحديث مع يسوع المسيح لعلهم يستطيعون أن يبلغوا مجمع السنهدرين بما يحسبونه انحرافات عن الناموس.

4- الكتبة، وهم متبحّرون في الناموس الموسوي (مت 22: 35، لو 7: 30) ويدعون معلمي الناموس nomodidashalos (لو 5: 17، 34).

بدأت هذه الفئة تظهر بعد ظهور عزرا الكاتب (نح 8-10) حيث كان يقرأ الشريعة.

تطوّر دور الكتبة كمعلمين من تفسير الشريعة إلى ممارسة العدالة، وكان يُطلب احترامهم أكثر من الوالدين، لأن الأبناء والآباء ملتزمون باحترام معلّميهم.

المجمع الأورشليمي والمجامع المحلّية

حسب التقليد اليهودي يوجد نوعان من المجامع sunedria، السنهدرين العالي في أورشليم يضم 71 عضوًا، والسنهدرين الابتدائي في البلاد الأخرى ويضم كل مجمع 23 شخصًا يعيِّنهم السنهدرين العالي.

بحسب المِشناه Mishna يضم السنهدرين العالي 70 عضوًا مع الرئيس ونائب الرئيس، وأيضًا خدّام المحكمة.

يُعتقد أن العضوية تستمر مدى الحياة، أما الأعضاء الجدد فيقوم بتعيينهم الأعضاء القائمون أو السلطة السياسية العُليا.

سلطاته

كانت سلطته القضائية في أيام السيد المسيح محدودة بالإحدى عشر منطقة لليهودية، لذا لم يكن قادرًا

على إصدار حكم جنائي ضد ربنا يسوع مادام مقيمًا بالجليل، اللهم إلا متى دخل حدود اليهودية.

قانونيًا لم يكن له سلطان على اليهود، لكن أدبيًا كانت المجامع المحلّية واليهود بوجه عام أينما وجدوا يميلون للطاعة لقرارات مجمع السنهدرين العالي. ولم تكن المجامع المحلّية ملتزمة بالرجوع إليه، اللهم إلا في الاستشارة في القضايا الخاصة بالشريعة.

اجتماعاته

عادة كانت المحاكم المحلّية تجتمع في يومي الاثنين والخميس من الأسبوع، فيما عدا أيام الأعياد، وبالأكثر لا تجتمع في يوم السبت. وكان مجمع السنهدرين يجتمع في الموضع المدعو Xystos أو Xistus وهو في الجانب الشرقي في بيت رئيس الكهنة.

الإجراءات القانونية

بحسب المِشناه يجلس الأعضاء في شبه نصف دائرة ليرى كل منهم الآخرين. ويجلس أمامهم كاتبان للمحكمة، واحد عن اليمين، والآخر عن اليسار، عملهم هو حصر الأصوات الخاصة بتبرئة المتهم أو إدانته. ويجلس أمامهم ثلاثة صفوف من التلاميذ المتعلّمين لكل منهم كرسيه. وكان المتهم أو السجين يلتزم بالظهور في ثياب متواضعة تدلّ على الحزن.

في القضايا الخاصة بالإعدام يبدأون بالأشخاص الذين يطلبون براءته ليقدموا حججهم، ولا يسمح للتلاميذ أن ينطقوا بشيء ضد المتهم، إنما إن وُجد ما هو لصالحه ينطقون به. من يقدم حججًا للبراءة لا يقدر أن يقدم ما هو ضد المتهم، بينما يسمح العكس للذين يتهمونه يمكن أن يقدموا أمورًا في صالحه.

يبدأ أخذ الأصوات بأصغر الأعضاء، وأحيانًا يُسمح بأن يبدأ التصويت بأهم الأعضاء. بالنسبة لبراءة المتهم فيكفي وجود أغلبية الأصوات، أما بالنسبة للإدانة فلابد من أن تكون الأغلبية مضافًا إليها اثنين.

هذا ولا يجوز إصدار الحكم في يوم المرافعة، إنما يلزم مناقشة الأمر وإصدار الحكم في اليوم التالي، باستثناء حالة الشخص الذي يضلل الشعب، فيمكن محاكمته في نفس اليوم أو ذات الليلة. بخلاف هذه الحالة، لم يكن ممكنًا مناقشة قضية تستوجب الموت في يوم الجمعة أو اليوم السابق للعيد، بل تُرجأ إلى ما بعد السبت أو ما بعد العيد.

كانت سلطة المجمع الدينية والمدنية والجنائية تحدّها الهيئات الحاكمة الأجنبية في أرض إسرائيل، وهي تختلف من وقت إلى آخر حسب الحاكم.

كان يُقاد الشخص وهو في طريقه للموت يتقدمه منادٍ يُعلن: “وُجد فلان بن فلان مستحقًا للموت، فإن كان يريد شخص ما أن يستوضح الأمر فليتقدم ويُعلن ذلك”.

كان يطلب من المحكوم عليه بالموت أن يعترف بجريمته حتى يتمكن من أن يكون له نصيب في الحياة العتيدة.

 

من وحي يو 12

أطيابك هي سرّ حياتي!

v هب لي أن أعبر إليك مع أحبائك مريم ومرثا ولعازر.

أدخل معهما إلى الوليمة،

فحيث حللت تُقيم وليمة سماوية مفرحة!

أسكب مع مريم طيبًا خالصًا على قدميك!

أنه ليس من عمل يداي،

ولا اشتريته بمالي الخاص!

فما أقدمه لك هو ثمر روحك القدوس.

اسكب الطيب فأشتم رائحتك الذكية.

رائحتك ملأت بيتي الداخلي، وعطّرت كل كياني.

رائحتك هي سرّ حياتي!

v نعم، اشتمّها يهوذا السارق رائحة موت لموت،

فافتقد الحب، لأنه لا يُدرك إلا الخيانة.

وحسب العطاء خسارة،

لأن محبة المال أعمته!

أما أنا فأشتمّها لأحيا بها.

اسمح لي مع مريم أن أمسح قدميك بشعر رأسي!

أقدّم كل ما يظنّه العالم مجدًا لخدمة اخوتك المحتاجين!

الفقراء والمحتاجون هم قدماك، بهما أسير إليك.

لأكرمهما فأكرم قديك.

v مع مرثا تمتد يداي لخدمة جسدك.

فكل عطاء لاخوتك تستقبله يداك!

هب لي أن أعمل،

فمع كل حركة أرى يديك تعملان بي وفيّ!

يداك في داخلي مبسوطتان للعمل بلا انقطاع!

v مع لعازر أجلس صامتًا!

حياتي المُقامة بك هي شهادة حيّة لحبك وجلالك!

صمتي أعظم، وأقوى من كل كلمة مقولة!

v هوذا اليونانيون الغرباء يطلبون رؤياك.

من يقدر أن يلتقي بك ما لم ترتفع على الصليب.

كيف نتمتع بالثمر الإلهي ما لم تُدفن،

تقوم فتقيمنا معك!

v هوذا السماء تشهد لك،

أنت موضوع كل النبوات،

أنت محقق مشيئة الآب،

أنت مخلص العالم كله!

رائحة صليبك ملأت السماء والأرض!

اشتمّها الآب رائحة سرور.

وتنسمها السمائيون فأدركوا أسرارًا خفية.

وتعرف عليها البشر فصاروا ملائكة!

أطياب صليبك هي سرّ حياتي!

فاصل

فاصل

تفسير يوحنا 11 تفسير إنجيل القديس يوحنا
القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير يوحنا 13
تفسير العهد الجديد

 

زر الذهاب إلى الأعلى