تفسير إنجيل يوحنا ١٣ للقمص تادرس يعقوب
الباب الثالث
إعلانه عن ذاته لخاصته
ص 13- ص 17
أحاديث السيد المسيح الوداعية 13 – 16.
الصلاة الوداعية 17.
أحاديث السيد المسيح الوداعية يو 13 – يو 16
في الأصحاحات السابقة (١-١٢) قدم لنا الإنجيلي قصة الحب الإلهي حيث تجسد كلمة الله، وصار إنسانًا لكي يخدم البشرية الساقطة ويعلن حبه ورعايته الفائقة لكل محتاج، ويوجه أنظار البشرية إلى شخصه كمحبٍ للبشر قادر أن يجددهم ويشبعهم ويشفيهم ويهذبهم. الآن جاءت ساعة تجلي الحب الإلهي حيث يدخل المسيا طريق الآلام حتى الصلب من أجل كل نفسٍ بشرية. وقد دعا البعض الأصحاحات ١٣-١٧ حيث التقى السيد بتلاميذه في العلية لينطلق بهم إلى بستان جثسيماني بإنجيل المحبة. يروي لنا الإنجيلي خدمة غسل الأرجل التي ينفرد بها المخلص، يهبها لتلاميذه لعلهم يشاركونه حبه بغسلهم أقدام اخوتهم. كما أسس سرّ الفصح الحقيقي الذي ترقبته الأجيال، ويبقى موضوع تسبيح السمائيين، وأخيرًا قدم أحاديث وداعية هي رصيد حي للكنيسة.
استخدم الإنجيلي كلمة “محبة” كاسم أو فعل ٩ مرات في الأصحاحات ١- ٢، بينما استخدمها ٣٠ مرة في الأصحاحات ١٣-١٧. فقصة العلية طابعها الرئيسي هو الحب.
في أحاديثه الوداعية قدم السيد المسيح الكثير من أسراره لتلاميذه الخاصة بالعمل الإلهي في حياتهم، فكشف عن الآتي:
- خطته الإلهية، لكي يهيئ لهم موضعًا معه في السماء المتسعة، والتي تترقب مجيء البشرية للتمتع بشركة المجد الأبدي. كشف لهم أن كل ما يحدث له من الآلام والصلب ليس بكارثه مُرة، وإنما عطية الآب له ليحقق حبه للبشرية، فيدخل بهم إلى حضن الآب.
- شخصه الإلهي: فهو واحد مع الآب، يتمم مشيئة الآب بمسرة، ما ينطق به وما يعمله إنما هي كلمات الآب محب البشر وأعماله.
- مركزهم الجديد، كأغصان في الكرمة الإلهية. فإن كان الإنسان قد طُرد من جنة عدن، صار له مسيحه كرمة إلهية، بل صار الإنسان غصنًا يحمل ثمرًا فائقًا للطبيعة، يُسر الله بثمره الذي من عمل يديه.
- إمكانياتهم الجديدة: الحب الباذل لأجل الآخرين. حيث يحسب المؤمن نفسه غير أهلٍ أن يُبذل من أجل اخوته، مشاركًا مسيحه مجد الحب الباذل حتى الصليب.
- دورهم في العالم: يحبون البشرية، والعالم يبغضهم. إذ يقدمون ما هو لمملكتهم، مملكة النور والحب، ويقدم العالم الشرير ما لمملكته من ظلمة وبغض.
- مساندتهم الإلهية: يرسل لهم الباراقليط، الذي يسحبهم من الارتباك بالآلام التي تواجههم، ليشتموا فيها الحب لله والناس، والمجد والكرامة كشركاء للمسيح في آلامه، والتمتع برائحة قيامة المصلوب الذكية. يرفعهم الروح القدس فوق الآلام، فلن تقدر أن تحاصرهم أو تضيق عليهم، بل يرونها طريق الجلجثة الذي ينطلق بهم إلى السماوي المصلوب، فينعموا بالتمتع به في سماواته.
الأصحاح الثالث عشر
خدمة غسل الأرجل
إذ انتهى السيد المسيح من أحاديثه العامة الآن يبدأ في أحاديث خاصة مع تلاميذه قبل القبض عليه، غايتها تعزيتهم أثناء آلامه والكشف عن أسراره، وتقديم نصائح وداعية. يتحدث معهم كأب مع أولاده، يقدم لهم حكمته ميراثًا يغنيهم ويسندهم. لقد جاءت ساعة انتقاله من العالم لهذا أراد أن يدبر أمور بيته.
غسل أقدام التلاميذ ١ – ١٧.
“أما يسوع قبل عيد الفصح،
وهو عالم أن ساعته قد جاءت لينتقل من هذا العالم إلى الآب،
إذ كان قد أحب خاصته الذين في العالم،
أحبهم إلى المنتهى”. (1)
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن السيد المسيح قدم أعمالاً عظيمة منذ بداية خدمته، أما وقد جاء وقت رحيله عنهم منطلقًا إلى الآب، فقدم لهم حبًا فائقًا، خلال الصليب، ليكون سندًا لهم بعد صعوده.
ونحن أيضًا إذ لا ندرك وقت رحيلنا من العالم يليق بنا مع كل نسمة من نسمات حياتنا أن نقدم حبًا باذلاً لكل من هم حولنا، فنترك لهم ميراثًا من الحب، وتبقى ذكرياتنا لديهم هي أعمال المحبة الخالدة.
يتساءل كثير من الدارسين عن موعد الفصح اليهودي، هل كان في يوم خميس العهد حيث قام السيد المسيح، حمل الفصح الحقيقي، بتأسيس سرّ الفصح المسيحي؟ أو أنه كان في يوم الجمعة العظيمة حيث تحقق الفصح الحقيقي في ذات يوم الفصح اليهودي ليبطل الرمز؟
كثرت الكتابات جدًا في هذا الأمر، غير أن ما ليس فيه خلاف، أن بعض الجماعات كانت تمارس الفصح بتقويم يختلف عما تمارسه القيادات اليهودية الدينية الرسمية في أورشليم. لهذا يرى الكثيرون أن ما ورد في الأناجيل الثلاثة عن احتفال السيد المسيح وتلاميذه بالفصح في يوم الخميس كان بتقويم استخدمه السيد، بينما قام مجمع السنهدرين وأتباعه بالاحتفال به يوم الجمعة، غير أنه لم يكن ممكنًا ذبح خروف الفصح إلاَّ يوم الجمعة بعد عرضه على الكهنة في يوم الفصح الرسمي.
ما يشغل ذهن الإنجيلي ليس موعد تأسيس الفصح المسيحي، وإن كان قد أورد أنه “قبل عيد الفصح“، وإنما انشغاله بالفصح الحقيقي، بذبح حمل الله الذي يحمل خطية العالم على الصليب. إنه فصح الدهور كلها، لا بل والفصح الذي يشغل السماء والسائيين، فقد أُشير إلى السيد المسيح كحملٍ في سفر الرؤيا ما يقرب من خمس عشرة مرة. رأى الإنجيلي “الخروف قائم في السماء كأنه مذبوح”، ورأى الكنيسة الممجدة في السماء “امرأة الخروف”، والحياة السماوية هي “عُرس الحمل” الذي جاء وامرأته هيأت نفسها (رؤ ١٩: ٧-٨). رأى الحمل هو قدس أقداس السماء أو الهيكل الأبدي وسراجها (رؤ ٢١).
الآن يحدثنا الإنجيلي يوحنا عن “غسل الأرجل” كخدمة حب وبذل. حدث هذا أثناء الإعداد لسرّ الإفخارستيا وليس أثناء تناوله. وقد كان من عادة اليهود غسل الأقدام قبل العشاء.
لم يذكر الإنجيلي يوحنا أحداث أيام الثلاثاء والأربعاء والخميس من الأسبوع الأخير حيث أوردها الإنجيليون الثلاثة السابقون في شيءٍ من التفصيل، ولم يرد أن يتحدث عن تأسيس سرّ الإفخارستيا (مت ٢٦: ٢٦؛ مر ١٤: ٢٢؛ لو ٢٢: ١٩).
إذ هو العالم بكل شيء جاءت الساعة التي سمح فيها لعدو الخير أن يكون له سلطان أن يتحرك ويحرك أتباعه لمقاومة السيد، وكما قال: “هذه ساعتكم وسلطان الظلمة” (لو ٢٢ : ٥٣).
قوله “جاءت ساعته” لا تعني إتمام أمور محتمة لا سلطان له عليها، إنما هي ساعته التي تتحقق خلال سلطانه الإلهي لتحقيق خلاص العالم، دون أن يلزم الأشرار على ممارسة شرهم، إنما يحول شرهم للخير. إن كانت هناك حتمية لمجيء هذه الساعة، فهي حتمية حب الله الفائق الذي يطلب خلاص العالم. وبإعلانه عنها يكشف أنه جاء بإرادته من أجل هذه الساعة.
هنا يربط هذه الساعة بأمرين متكاملين، أو بأمرٍ واحد ذي وجهين، وهو انتقاله أو صعوده إلى الآب، وإعلان حبه اللانهائي لخاصته. وكأن صعوده إلى السماء ليس من أجله هو بل من أجل محبوبيه كي يتمتعوا بصعودهم أو لقائهم مع الآب.
هكذا يقبل السيد أحداث آلامه حتى الصلب بروح الحب الفائق. آلامه هي موضع سروره. “من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب، مستهينًا بالخزي، فجلس عن يمين عرش الله” (عب ١٢: ٢).
v يقول يوحنا البشير: “أما يسوع قبل عيد الفصح وهو عالم أن ساعته قد جاءت“، فهو لم يعرف ذلك حينئذ فقط، لكنه عرفها قديمًا.
وفي قوله عن السيد المسيح: “لينتقل من هذا العالم إلى الآب“، يسمى البشير هنا بصوتٍ عظيمٍ موت السيد المسيح انتقالاً.
وقوله: “أحبهم إلى المنتهى” أن السيد المسيح لبث محبًا لهم حبًا دائمًا.
v ماذا يعني: أحبهم إلى المنتهى“؟ إنه كمن يقول: “يستمر يحبهم بلا انقطاع”.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v لقد عبر (إلى الآب) لكي يطعمنا، فلنتبعه حتى نقتات.
v نتمتع في آلام الرب وقيامته بالعبور من هذه الحياة القابلة للموت إلى الحياة الأخرى الخالدة، أي من الموت إلى الحياة.
v الآن تحقق هذا الرمز النبوي في الحق، عندما اقتيد المسيح كحملٍ للذبح (إش ٥٣: ٧)، لكي بدمه الذي يُرش على قوائم قلوبنا العليا، برشم علامة صليبه على جباهنا، نخلص من الهلاك الذي ينتظر العالم، وذلك كإسرائيل وهو يخلص من عبودية المصريين ودمارهم (خر ١٢: ٢٣). والعبور الكلي التقدير الذي نمارسه بعبورنا من الشيطان إلى المسيح، ومن العالم غير المستقر إلى مملكته المؤسسة حسنًا. لذلك فإننا بالتأكيد نعبر إلى الله الدائم أبديًا…
يمجد الرسول الله من أجل هذه النعمة الممنوحة لنا، فيقول: “الذي أنقذنا من سلطان الظلمة ونقلنا إلى ملكوت ابن محبته” (١ كو ١: ١٣).
هذا الاسم “بصخة” كما قلت أنه في اللاتينية يدعى عبورًا… هكذا أنتم ترون هنا لنا بصخة وعبور. من أين وإلى أين يعبر؟ من هذا العالم إلى الآب.
لقد وُهب الرجاء للأعضاء في رأسهم، حتى أنهم دون شك يتبعونه وهو يعبر قدامهم.
وماذا عن غير المؤمنين الذين يقفون بعيدًا عن هذا الرأس وعن أعضائه؟ ألا يعبر هؤلاء أيضًا حيث أنهم لا يقطنون هنا أبديًا؟ واضح أنهم يعبرون، لكن يوجد فارق بين من يعبر من العالم ومن يعبر مع العالم. وبين من يعبر إلى الآب ومن يعبر إلى العدو. فإن المصريين أيضًا عبروا، لكنهم لم يعبروا من البحر إلى الملكوت، وإنما من البحر إلى الهلاك.
v “أحبهم إلى المنتهى” (١). هو نهايتنا، فيه نعبر… يُفهم ذلك بأن حبه ذاته هو الذي حمله إلى الموت.
القديس أغسطينوس
وقد ألقى الشيطان في قلب يهوذا سمعان الإسخريوطي أن يسلمه”. (2)
كان السيد المسيح يعلن أن لحظات قتله قد اقتربت، وأن أحد تلاميذه يخونه، والآخر ينكره، والبقية تتركه… هذا كله في عينيه عطية الآب له ليقيم الخلاص.
في نفس اللحظات كان ما يشغل الشيطان هو أن يسيطر على قلب يهوذا ليحركه نحو خيانة سيده، ظانًا أنه قادر أن يطفئ النور الإلهي، ويفسد الحب السرمدي. لكن الله الكلي الصلاح يحول حتى شر إبليس لخيرنا.
ربما يتساءل البعض: ألم يكن قد ألقى الشيطان بفكر الخيانة على يهوذا حين تحرك قبلاً والتقى مع الفريسيين واتفق معهم على ذلك؟ يرى البعض أن عدو الخير ألقى ببذار الفكرة، وكان يرويها بمياه الطمع والخيانة، لكن الآن يدخل عدو الخير إلى قلب يهوذا كصاحب ومالكٍ مستقر في موضعه، وليس كمن يثير فكره، ويحاول إغواءه. حين نفتح الباب للشر يلقي العدو بذاره كضيفٍ يحاول بوسيلة أو أخرى أن يقتحم ما ليس له. وحين نقبل أفكاره، ونبدأ في التحرك، يدخل في جسارة ليقطن كمالكٍ، وكقائدٍ يحرك عجلة القيادة دون إمكانية للمقاومة من جهتنا. لهذا كل فكر فيه نتراخى عن مقاومته إنما يفتح باب قلوبنا وأفكارنا ليجد العدو نفسه صاحب الحق في الدخول والسيطرة.
v بقي سيده إلى اليوم الأخير مستمرًا في عطائه له.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v في حالة يهوذا كُتب: “وقد ألقى الشيطان في قلب يهوذا الاسخريوطي بن سمعان أن يسلمه” (٢). لذلك يمكنكم القول عن كل الذين جُرحوا في القلب بواسطة الشيطان أن الشيطان قد ألقى في قلب هذا أن يرتكب الزنا، أو ذاك أن يرتكب الغش، وفلان أن يصير مولعًا بالشهرة… وهكذا بالنسبة للخطايا التي يلقيها الشيطان في القلب غير المسلح بدرع الإيمان الذي به يمكنه أن يطفئ ليس سهمًا أو اثنين بل كل سهام الشريرة الملتهبة نارًا (أف ٦: ١٦).
العلامة أوريجينوس
v “ألقى الشيطان في قلب يهوذا“… أي قدم اقتراحًا روحيًا، لم يدخل إليه خلال الأذنين بل خلال الأفكار، وبذلك لم يدخل بطريق جسداني بل روحي. فما ندعوه روحيًا لا يفهم دومًا بطريقة ممدوحة. فقد عرف الرسول أمورًا روحية للشر في السماويات التي يشهد أنه يلزمنا أن نجاهد ضدها (اف ٦: ١٢).
القديس أغسطينوس
“يسوع وهو عالم أن الآب قد دفع كل شيء إلى يديه،
وأنه من عند الله خرج، إلى الله يمضي”. (3)
v على حسب ظني دفع الآب هنا خلاص المؤمنين إلى السيد المسيح. فعندما يقول: “كل شيء قد دُفع إليَّ من أبي” (مت ١١: ٢٧)، يتحدث عن هذا النوع من الدفع. كما ذكر السيد المسيح نفسه في موضع آخر “كانوا لك، وأعطيتهم لي” (يو ١٧: ٦) وأيضًا: “لا يقدر أحد أن يُُقبل إليّ إن لم يجذبه الآب” (يو 6: 44). وأيضًا: “إن لم يكن قد أُعطي من السماء” (٣: ٢٧). فإن الإنجيلي يقصد هذا أو ذاك أن المسيح ليس بأقل (من الآب) بهذا العمل، حيث أنه جاء من عند الله وذهب إلى الله، ويملك كل شيء. فإذا سمعت دفع وسلم، فلا تظن ظنًا بشريًا، إنما بين إكرامه الآب وائتلافه معه، لأنه كما أن أباه دفع إليه، كذلك دفع هو إلى أبيه، وبين ذلك إذ قيل “ولكن كل واحدٍ في رتبته: المسيح باكورة، ثم الذين للمسيح في مجيئه. وبعد ذلك النهاية متى سلم الملك لله الآب” (1 كو 15: 23).
لكن يوحنا يقول هذا بطريقة بشرية مظهرًا عناية (المسيح) العظيمة بهم، ومعلنًا حبه غير المنطوق به، إذ يهتم بهم كما بنفسه، معلمًا إياهم أم كل صلاح، أي التواضع، إذ قال إنه بداية كل فضيلة ونهايتها.
ليس بلا سبب يقول: “من عند الله خرج، وإلى الله يمضى” (3)، وإنما لكي نتعلم أنه فعل ما يليق بذاك الذي جاء من هناك ويذهب إلى هناك، موطئًا بقدميه على كل كبرياء.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v إنه لم تدُفع إلى يديه بعض الأمور دون غيرها، بل “كل شيء” (٣). إذ كان داود أيضًا متطلعًا بالروح يقول عن هذا: “قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك تحت قدميك” (مز ١١٠: ١). فإن أعداء يسوع أيضًا هم جزء من “كل شيء“، الذي عرفهم يسوع بسابق معرفته أنهم قد دُفعوا إليه من الآب. ولكن لكي ندرك بأكثر وضوح ما تعنيه العبارة: “الآب قد دفع كل شيء لديه” (٣)، لننتبه إلى العبارة: “وكما في آدم يموت الجميع، هكذا في الرب يحيا الجميع” (راجع ١ كو ١٥: ٢٢).
العلامة أوريجينوس
v إذ عرف الرب ما سيفعله من أجل أصدقائه وبصبرٍ استخدم أعداءه، بهذا دفع إليه الآب كل شيء في يديه، كل من الشرير ليستخدمه، والصالحين لأجل الهدف النهائي.
القديس أغسطينوس
“قام عن العشاء، وخلع ثيابه،
وأخذ منشفة واتزر بها”. (4)
لم يقم عن تناول العشاء، إنما ترك موضعه على المائدة بعد أن جلس الحاضرون ينتظرون العشاء. خلع السيد ثوبه الخارجي أو معطفه، واتزر بمنشفة ليأخذ شخصية خادم، ولكي يتهيأ ليجفف أرجلهم بعد غسلها.
كان غسل الأرجل يتم قبل البدء في تناول الطعام، وإذ كانت الشوارع والأزقة أغلبها ترابية، والأحذية عبارة عن “صنادل مفتوحة”، ولم تُعرف الجوارب في ذلك الحين، يمكننا أن ندرك كيف كانت الأقدام متسخة، وكيف تكون رائحتها، خاصة في الحرّ أو مع السير لمدة طويلة. لهذا كان غسل الأقدام من عمل العبيد أو أقل الحاضرين كرامة.
عندما أرسل داود النبي إلى أبيجايل يطلبها زوجة، في تواضع قامت وقالت له: “هوذا أمتك جارية لغسل أرجل عبيد سيدي” (١ صم ٢٥: ٤١). يرى البعض أن السيد المسيح بدأ بغسل قدمي يهوذا، لعل ضميره يؤنبه ويندم على ما بدأ يخططه.
مسيحنا الذي في تواضعه قال ليوحنا المعمدان: “اسمح الآن لأنه هكذا يليق أن نكمل كل برّ” (مت ٣: ١٥) يكشف عن برّ التواضع الذي له قبل تأسيس سرّ الافخارستيا. فمن منا يجسر ويقترب إلى السرّ ما لم أولاً تنحني نفسه مع سيده لينال كرامة مخلصه، فيقترب إلى التناول من جسد الرب ودمه المبذولين لأجله؟ مسكين من يقترب من هذا السرّ بقلبٍ متعجرفٍ أو نفسٍ متعالية دون انحناء لغسل أقدام حتى مقاوميه ومضطهديه.
v يفهم “حين كان العشاء” أن العشاء صار مُعدًا، موضوعًا على المائدة لكي يستخدمه الضيوف.
القديس أغسطينوس
v تعال أيها الرب يسوع، ولتخلع ثيابك، هذه التي لبستها من أجلي.
لتصر عاريًا لكي تكسوني برحمتك.
لتتزر من أجلنا بمنشفة، لكي تجعلنا نتزر بعطية الخلود.
لتسكب ماءً في مغسل، فلا تغسل أقدامنا فحسب بل ورأسنا، ليس فقط لأجسادنا بل ولخطوات نفوسنا. أود أن تنزع كل دنسٍ لضعفنا…
يا لعظمة سموك! كخادمٍ تغسل أقدام تلاميذك، وكإله ترسل ندى من السماء.
ليس فقط تغسل الأقدام، وإنما تدعونا أيضًا أن نجلس معك، وبمثال كرامتك تحثنا قائلاً: “أنتم تدعونني معلمًا وسيدًا، وحسنًا تقولون لأني أنا كذلك، فإن كنت أنا السيد والمعلم قد غسلت أرجلكم، فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض” (١٣، ١٤).
إذن أود أنا نفسي أن أغسل أقدام اخوتي؛ أود أن أكمل وصية ربي، فإني لا أخجل من نفسي، ولا أستخف بما فعله ذاك أولاً.
سرّ عظيم وحسن لا يفهمه أحد!
القديس أمبروسيوس
“ثم صب ماء في مغسلٍ،
وابتدأ يغسل أرجل التلاميذ،
ويمسحها بالمنشفة التي كان متزرًا بها”. (5)
انتظر السيد حتى اتكأ الجميع حول المائدة، وكانت العادة في تلك الأيام ألا يجلس الآكلون على كراسي حول المائدة، ربما يمكن للعبد أن يجلس على كرسي حين يأكل، أما الشخص الحرّ فيتكئ على ذراعه (الكوع) الأيسر ورأسه متجهة نحو المائدة والقدمين من الجانب الآخر.
كانت العادة أن يقوم أحد العبيد بغسل الأقدام، وإذ لم يوجد بينهم عبد ربما توقع الكل أن أقلهم سنًا أو مركزًا يقوم بهذا العمل، لكن السيد قام بنفسه بهذا الدور. وهو بهذا يرفع من كرامة العبيد، إذ هم يمارسون هذا العمل قسرًا بحكم وضعهم الاجتماعي، أما السيد فقام به بكامل حريته بمسرة، خلال تواضعه وحبه. هكذا لا يعود يأنف العبد من ممارسة أي عمل، يمارسه من أجل الرب، لا خوفًا من الناس. وكما يوصيهم القديس بولس: “أيها العبيد أطيعوا سادتكم حسب الجسد بخوفٍ ورعدةٍ في بساطة قلوبكم كما للمسيح، لا بخدمة العين كمن يرضي الناس، بل كعبيد المسيح، عاملين مشيئة الله من القلب، خادمين بنية صالحة كما للرب ليس للناس، عالمين أن مهما عمل كل واحدٍ للخير فذلك يناله من الرب، عبدًا كان أم حرًا” (أف ٦: ٥-٨).
يرى العلامة أوريجينوس أن السيد المسيح لم يغسل قدمي يهوذا، إذ ليس له نصيب معه بسبب إصراره على شره. بينما يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن السيد بدأ بغسل قدمي يهوذا أولاً ليقدم له كل عمل محبة حتى اللحظات الأخيرة قبل قيامه بالخيانة، لعله يراجع نفسه ويتراجع عن شره.
v يبدو لي أنه غسل قدمي الخائن أولاً بقوله: “وابتدأ يغسل أرجل التلاميذ” (٥).
v انظر كيف أظهر السيد المسيح طريق التواضع، ليس بغسل أقدامهم فقط، لكنه أوضحه بطبيعة أخرى إذ نهض بعد اتكائهم كلهم. ثم لم يغسل أرجلهم على بسيط الحال، لكنه غسلها بعد خلع ثيابه. ولم يقف عند هذا الحد، لكنه اتزر بإزار، ولم يكتفِ بهذا لكنه ملأ المغسل بنفسه، ولم يأمر آخر أن يملأه. مارس أعمال الغسل بنفسه كلها ليرينا أن نمارس أعمالنا لا في شكليات بل بكل نشاطنا.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v لم يأخذ إبراهيم بنفسه ماءً، ولا قام بنفسه بغسل أقدامهم كغرباء جاءوا إليه، بل قال: “ليؤخذ ماء ويغسلوا أرجلكم” (راجع تك ١٨: ٤). كما لم يحضر يوسف ماءً ليغسل أقدام اخوته الإحدى عشر، إنما الرجل الذي على بيت يوسف أحضر إليهم شمعون وجاء بماء ليغسل أقدامهم (تك ٤٣: ٢٣-٢٤). أما ذاك الذي قال: “جئت ليس كمن يتكئ على مائدة بل كمن يخدم” (راجع لو ٢٢: ٢٧). وبحق يقول: “تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب” (مت ١١: ٢٩)، هو بنفسه صب ماءً في مغسل. فإنه قد عرف أنه لا يستطيع أحد أن يغسل أرجل التلاميذ مثله بطريقة بها يكون لهم نصيب معه (٨).
v الماء في رأيي هو الكلمة الذي يغسل أقدام التلاميذ عندما جاءوا إلى المغسل وجلس يسوع أمامهم.
العلامة أوريجينوس
لم يقل الكتاب “غسل أرجل التلاميذ” بل قال: “ابتدأ يغسل أرجل التلاميذ” وكما يقول العلامة أوريجينوس بأنه قد بدأ ولم يتوقف عن الغسل، إذ كانوا في حاجة إلى غسلٍ مستمرٍ، حيث تدنسوا في ذات الليلة بعد الغسل: “كلكم تشكون فيّ في هذه الليلة” (مت ٢٦: ٣١)، كما قال لبطرس: “لا يصيح الديك حتى تنكرني ثلاث مرات” (يو ١٣: ٣٨).
v ما العجب في أن يصب ماءً في مغسلٍ ليغسل أقدام تلاميذه ذاك الذي سكب دمه على الأرض لكي يغسل دنس خطاياهم؟
ما العجب في أنه مسح بالمنشفة التي اتزر بها الأقدام التي غسلها هذا الذي بجسده نفسه الذي التحف به أقام ممرًا ثابتًا لخطوات الإنجيليين الذين له؟
لكي يتزر بالمنشفة ألقى بثيابه التي كان يرتديها جانبًا، ولكنه حين أخلى ذاته (من مجد لاهوته) لكي يأخذ شكل العبد لم يلقِ بما هو لديه بل قبل ما هو ليس لديه قبلاً.
القديس أغسطينوس
“فجاء إلى سمعان بطرس،
قال له ذاك:
يا سيد أنت تغسل رجلي”. (6)
واضح أن التلاميذ كانوا في حالة شبه ذهول أمام ما فعله السيد، فلم ينطق أحد بكلمة حتى جاء دور بطرس الرسول. كثيرًا ما رأى القديس بطرس سيده يتواضع لكنه لم يكن يتصور أنه يبلغ إلى هذه الدرجة أن يقوم بدور العبد الذي يغسل الأقدام.
v كأنه يقول: هل بهاتين اليدين اللتين بهما فتحت العيون وطهرت البرص وأنهضت أمواتًا، تغسل بهما رجلى؟! ولذلك لم يتضرع إليه بقول أكثر من قوله: “أنت تغسل رجلي” لأن هذا القول كان كافيًا وحده توضيح كافة ما في ذهنه.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v واضح من قوله “فجاء إلى سمعان بطرس” أنه لم يبدأ غسل الأقدام به مما يؤكد أنه لم يكن في ذهن السيد المسيح أن يُوجد أحد رئيسًا على التلاميذ.
القديس أغسطينوس
“أجاب يسوع وقال له:
لست تعلم أنت الآن ما أنا أصنع،
ولكنك ستفهم فيما بعد”. (7)
كأنه يقول له: “اسمح لي الآن أن أفعل ذلك، وسأوضح لك قريبًا طبيعة هذا العمل وغايته”.
v ماذا يعني: “ستفهم فيما بعد”؟ متى؟ عندما تخرج شياطين باسمي، عندما تراني مرتفعًا إلى السماوات، عندما تعرف بالروح إني أجلس عن اليمين، عندئذٍ تفهم ما يحدث.
v معنى هذا انك ستعرف أي ربح عظيم تجنيه من هذا، ربح الدرس الذي تتعلمه كيف أن هذا يقودنا إلى كل تواضعٍ.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v بالنسبة لي غسل أقدامكم هو رمز لأساسات نفوسكم التي تتطهر، لكي تتجمل بالتبشير بالصالحات (رو ١٠: ١٥؛ إش ٥٢: ٧)، وتقتربون إلى نفوس البشر بأرجلكم الطاهرة. لكنكم الآن لا تعرفون هذا السرّ، إذ ليس لكم بعد المعرفة الخاصة به… عندئذٍ تفهمون هذا السرّ، وتستنيرون بمعرفة أمور ليست وضيعة ولا تافهة.
العلامة أوريجينوس
“قال له بطرس:
لن تغسل رجلي أبدًا,
أجابه يسوع:
إن كنت لا أغسلك فليس لك معي نصيب”. (8)
لم يكن ممكنًا لبطرس الرسول أن يرى سيده الذي له كل المهابة أن يحتل مركز عبدٍ ليمارس غسل الأقدام، لهذا اعترض على تصرف سيده. لم يكن يدرك الرسول ما يفعله سيده، أنه احتل مركز العبد خلال محبته الفائقة، حتى يسمح ليهوذا أن يبيعه كعبدٍ، ويسمح لعدو الخير أن يتمم خطته نحو الخلاص بالصليب.
كأنه يقول له: “لا يمكنك أن تكون لي تلميذًا ما لم أغسلك”. فإنه ما لم تمتد يد السيد المسيح لتغسل النفس الداخلية لن يستطيع الإنسان أن يتمتع بالخلاص، ولا يتأهل أن يكون تلميذًا للمخلص. المؤمن في حاجة أن يغتسل في المعمودية خلال عمل روح الله القدوس (١ كو ٦: ١١؛ تي ٣: ٥-٦)، وأن يغتسل بالدم الثمين (١ يو ١: ٧). إننا نحتاج إلى غسل أقدام نفوسنا التي تتسخ خلال سيرها في هذا العالم، هذا العمل خاص بالسيد المسيح نفسه غافر الخطايا ومخلص النفس من الفساد. نتمتع به خلال سرّ التوبة والاعتراف، بدونه لن نقدر أن نشترك في التمتع بذبيحة المسيح (سرّ الافخارستيا).
ماذا يعني: “إن كنت لا أغسلك فليس لك معي نصيب“؟ هنا يشير السيد إلى أن عملية الغسل من اختصاصه، فلن يظهر إنسان طاهرًا في يوم الرب العظيم، وينال نصيبه، أي الشركة مع المسيح في المجد، بمجهوده الشخصي، وإنما بعمل المسيح نفسه غاسل نفوسنا من أدناس الخطية.
كثيرًا ما نعترض على تصرفات الرب بسبب عمانا الداخلي، وعدم استيعابنا لحكمته الإلهية وخطته نحونا.
v لم يدرك السرّ، لذلك رفض الخدمة، إذ ظن أن تواضع الخادم سيُصاب بضررٍ، وذلك إن سمح للرب أن يخدمه.
القديس أمبروسيوس
v واضح أنه وإن كان قد قال هذا للمعلم بنية صادقة وقورة، لكنه تكلم بما يضر نفسه. الآن الحياة مملوءة بأخطاء من هذا النوع، من أناسٍ يعتقدون بما يظنونه أنه الأفضل ولكن في جهالة يتكلمون أو يعملون أمورًا تقودهم إلى اتجاه مضاد.
v كما أن بطرس القائل: “لن تغسل رجلي أبدًا” مُنع من أن يستمر فيما زعمه حتى يكون له نصيب مع يسوع، هكذا أنتم يا من تخطئون بحكمٍ متسرع وتعدون بهذا وذاك في تهورٍ يكون الأفضل لكم أن تكفوا عن الاستمرار في قراركم الخاطئ وتفعلون هكذا أو ذاك بأكثر تعقل.
v إن لم نفعل هذا (تقديم أقدامنا للسيد المسيح لغسلها) لا يكون لنا نصيب معه، ولا تكون أقدامنا جميلة. هذا على وجه الخصوص أمر مهم، متطلعين إلى أننا غيورون لنوال المواهب الأعظم (١ كو ١٢: ٣١)، ونرغب أن ننضم إلى الذين يبشرون بالصالحات.
v أتجاسر فأقول، بما يتناغم مع العبارة: “إن كنت لا أغسلك فليس لك معي نصيب”، أنه لم يغسل قدمي يهوذا، لأنه قد وضع بالفعل في قلبه أن يخون معلمه وربه. لقد وجده الشيطان غير مرتدٍ سلاح الله الكامل، وليس له درع الإيمان الذي به يطفئ سهام الشريرة الملتهبة نارًا (أف ٦: ١٣-١٦).
العلامة أوريجينوس
“قال له سمعان بطرس:
يا سيد ليس رجلي فقط،
بل أيضًا يدي ورأسي”. (9)
ربما شعر بطرس بالحاجة إلى غسل روحي كامل، لذلك اشتهى لا أن يغسل الرب قدميه بل أن يغسل كل كيانه. يرى البعض في طلب بطرس الرسول هنا نوع من التواضع، لكنه أيضًا حمل نوعًا من الكبرياء، إذ لم يقبل فكر المسيح، بل أراد أن يتمم فكره هو. أحيانًا نريد أن نقدم لله مشورتنا ليعمل حسب هوانا، حتى وإن كنا نطلب أمورًا روحية بإخلاص.
يقول العلامة أوريجينوس أن بطرس الرسول لم يكن في حاجة إلى غسل يديه، لأن رب المجد يسوع لا يطلب الحرف القاتل كغسل الأيدي عندما يأكلون خبزًا (مت ١٥: ٢). كما لم يكن في حاجة إلى غسل رأسه التي لم يرد يسوع أن تُغطى بعد إذ استقرت عليها صورة الله ومجده (١ كو ١١: ٧).
v كان بطرس الرسول شديد التسرع في استعفائه من غسل رجليه، وأشد تسرعًا من ذلك في طلبه غسل يديه ورأسه، وكلا الأمران كانا من حبه الخالص للسيد المسيح… لماذا لم يقل له أن يتمثل به بدلاً من تهديده؟ لأنه ما كان لبطرس أن يقتدي به. فلو قال له: “اسمح الآن، فإنني بهذا أحثك على التواضع”، لوعده بطرس ربوات المرات بذلك حتى لا يقوم سيده بهذا العمل. لقد نطق السيد بما يرعب بطرس ويخيفه، أن يصير منفصلاً عنه. فإنه هو الذي كان على الدوام يسأله: “أين تذهب؟” (٣٦). كما قال: “إني أضع حياتي من أجلك” (٣٧).
القديس يوحنا الذهبي الفم
“قال له يسوع:
الذي قد اغتسل ليس له حاجة إلا إلى غسل رجليه،
بل هو طاهر كله،
أنتم طاهرون،
لكن ليس كلكم”. (10)
كان من عادة اليهود أن يستحموا مرتين، لذلك أوضح السيد أن الغسل بمياه المعمودية لا يتم سوى مرة واحدة. أما غسل القدمين فيشير إلى دموع التوبة بكونها معمودية ثانية.
كان إحدى عشر منهم طاهرًا مع أنهم في تلك اللحظات الحاسمة تركوا السيد وهربوا (مر ١٤: ٥٠). دعاهم أطهارًا ولم يعاتبهم على ضعفهم، حتى حين قال: “تتركونني وحدي” لم يكن يهدف إلى عتابهم، إنما أراد أن يؤكد أنه يعالج ما يعاني منه الإنسان من الشعور بالعزلة في لحظات ضيقه، كما صرخ المرتل: “أبي وأمي قد تركاني”. ولكن واحدًا منهم غير طاهر، لأنه جاء يحمل الخيانة في قلبه. لقد غسل السيد المسيح قدميه وهو يعلم بخيانته، ليؤكد ترفقه بالخطاة واشتياقه نحو تمتعهم بعطاياه.
ليس من أحد – في العهد القديم أو العهد الجديد – بلا خطية أو بلا عيب إلا السيد المسيح، حمل اللَّه الذي بلا عيب (1 بط 19:1)… لهذا يمكننا القول بأن من أراد أن يتمتع بالتطويب لزمه أن يحمل سمات سيده القدوس، أي أن يصير مقدسًا بالتصاقه بالرب، الذي وحده يقول: “أنتم طاهرون” (يو 10:13)، لأن دمـه يطهر من كل دنس (1 يو 7:1)، هو كفارة عن خطايانا (1 يو 2:2).
v الإحدى عشر الذين اغتسلوا وصاروا طاهرين، صاروا أكثر طهارة عندما غسل يسوع أقدامهم، أما يهوذا الذي صار بالفعل نجسًا – إذ قيل: من هو نجس فليتنجس بعد (رؤ ٢٢: ١١) – صار أكثر نجاسة وعدم طهارة عندما دخله الشيطان بعد اللقمة (يو ١٣: ٢٧).
العلامة أوريجينوس
v إن كانوا أطهارًا، فلماذا غسل أقدامهم؟ لكي نتعلم أن نكون متواضعين. فإنه لهذا جاء، ليس لأي عضو في الجسد، بل ما يُحسب أكثر احتقارًا عن بقية الأعضاء.
v إنه يأتي إلى أعضاء الجسد التي يظن أنها الأكثر كرامة. هل كان التلاميذ أطهارًا الذين لم يكونوا بعد قد خلصوا من خطاياهم، ولا نالوا الروح، حيث لازالت الخطية تسود… ولا قدمت الذبيحة؟ كيف إذن يدعوهم أطهارًا؟ لكي لا تظن أنهم أطهار وقد خلصوا من خطاياهم أضاف: “أنتم الآن أنقياء لسبب الكلام الذي كلمتكم به” (راجع يو 15: 3) بمعنى “بهذه الكيفية أنتم أنقياء؛ لقد قبلتم النور، لقد تخلصتم من خطأ يهوذا”… هؤلاء قد طردوا كل شر من نفوسهم واصطحبوه بذهنٍ خالصٍ.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v “الذي عنده يُعطى ويزداد” (مت ٢٥: ٢٩). وحيث كان التلاميذ طاهرين أضاف يسوع إلى طهارتهم غسل أقدامهم. إنه لا يود أن يغسل الذين لم يغتسلوا، ولا الذين لم يكونوا طاهرين كلهم. وإنما يتحدث عن الذين هم طاهرين بهذه الطريقة، فإنه إن وُجد بين بني البشر من هو كامل إن لم يتمتع بالغسل الذي من يسوع فلا يحسب طاهرًا…
v لقد غسل أرجلهم لأنهم طاهرون حسبما هم بشر، ولكن ليس حسب الله، فإنه بدون يسوع لا يكون أحد طاهرًا عند الله حتى وإن سبق فظن أنه قد اغتسل باجتهادٍ معين.
v الروح القدس وقوة العلي يمكن أن يقطنا في أولئك الذين قد صاروا بالفعل طاهرين كما عند الناس، وكأنهم ثوب وقد اغتسلوا خلال عماد يسوع، واغتسلت أرجلهم بواسطته.
v إن كان قد جعل أرجل تلاميذه جميلة بغسلها، فماذا نقول عن الجمال الحقيقي الذي يظهر في كل الذين يعتمدون بالروح القدس ونار بواسطة يسوع (مت ٣ : ١١)؟
v الآن صارت أقدام الذين يكرزون بالأخبار الصالحة جميلة، حتى انهم إذ اغتسلوا وتطهروا ومسحوا بيدي يسوع صاروا قادرين على السير في الطريق المقدس، والعبور إلى ذاك القائل: “أنا هو الطريق” (يو ١٤: ٦). فإنه هو وحده، وكل من غُسلت قدماه بيسوع يرحل في هذا الطريق الذي هو حي، ويُحضر إلى الآب. هذا الطريق لن يضم قدمًا دنسًا وغير طاهر. لهذا خلع موسى نعليه من قدميه حيث كان المكان القادم إليه والذي يقف عليه أرضًا مقدسة (خر ٣: ٥). نفس الأمر بالنسبة ليشوع بن نون (يش ٥: ١٥).
v أما بالنسبة لتلاميذ يسوع فلكي يسيروا في الطريق الحي المفعم بالنشاط، لا يكفيهم أن يكونوا بلا أحذية في رحلتهم كما أمر يسوع تلاميذه (مت ١٠: ١٠)، بل بالحقيقة يلزم أن تغتسل أقدامهم بواسطة يسوع عندما يضع ثيابه جانبًا. ربما من جانبٍ يجعل أقدامهم الطاهرة أكثر طهرًا. ومن الجانب الآخر ربما لكي يحمل الدنس الذي في أقدام تلاميذه في جسده بواسطة المئزرة التي اتزر بها وحده (يو ١٣: ٤)، إذ هو وحده يحمل ضعفاتنا (مت ٨: ١٧؛ إش ٥٣: ٤).
v لاحظوا أنه إذ أراد أن يغسل أقدام التلاميذ لم يختر وقتا آخر سوى عندما دخل الشيطان في قلب يهوذا الاسخريوطي بن سمعان ليسلمه (يو ١٣: ٢) عند تحقيق التدبير (الآلام) من أجل البشر. فإنه قبل هذا لم يكن الوقت مناسبًا ليسوع أن يغسل أقدام التلاميذ، فإن من يود أن يغسل أقدامهم في الفترة الفاصلة حتى وقت الآلام؟ لم يكن الوقت مناسبًا… صار الوقت مناسبًا بعد تحقيق التدبير (الآلام)، فإنها ساعة الروح القدس الذي افتقد التلاميذ الذين صاروا طاهرين وقد غُسلت أقدامهم، ففي ذلك الوقت أُعدت أقدامهم وصارت جميلة لكي تبشر بالصالحات بالروح (رو ١٠: ١٥؛ إش ٥٢: ٧).
العلامة أوريجينوس
v ماذا تظنون في هذا يا اخوتي؟ إلاَّ أنه في المعمودية المقدسة يغتسل الإنسان بكليته، كل ذرة فيه. ومع هذا فإنه إذ يعيش في هذه الحياة البشرية لن يتوقف عن السير على الأرض بقدميه. هكذا فإن مشاعرنا البشرية ذاتها، التي لن تنفصل عن حياتنا المائتة على الأرض، تشبه القدمين اللتين بهما نصير في تلاقٍ ملموس بالأعمال البشرية، وهكذا يمكننا القول أننا إن قلنا أننا بلا خطية نضل أنفسنا وليس الحق فينا (١ يو 1: ٨).
ففي كل يوم ذاك الذي يشفع فينا (رو ٨: ٣٤) يغسل أقدامنا، فإننا في حاجة إلى غسلٍ يوميٍ لأقدامنا، أي تدبير طريق خطواتنا باستقامة. نعرف ذلك في الصلاة الربانية حيث نقول: “اغفر لنا ما علينا، كما نغفر من عليهم”، وكما هو مكتوب: “إن اعترفنا بخطايانا”، فإنه بالحقيقة ذاك الذي غسل أقدام تلاميذه “هو أمين وعادل أن يغفر لنا خطايانا، ويطهرنا من كل إثم” (١ يو ١ : ٩)، بمعنى يغسل أقدامنا التي نسير بها على الأرض.
v الكنيسة وهي في طريقها إلى المسيح قد تكون خائفة من تدنيس قدميها التي غسلتهما في مياه المعمودية.
القديس أغسطينوس
“لأنه عرف مسلمه،
لذلك قال: لستم كلكم طاهرين”. (11)
v فإن استخبرت: إن كان التلاميذ طاهرين فلِمَ غسل السيد المسيح أرجلهم؟ فأجيبك: إنما فعل ذلك ليعلمنا أن نتواضع.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“فلما كان قد غسل أرجلهم، وأخذ ثيابه واتكأ أيضًا قال لهم:
أتفهمون ما قد صنعت بكم؟” (12)
لقد خلع السيد المسيح ثيابه ليغسل أقدام تلاميذه، وإذ تمم مهمته ارتداها ثانية واتكأ. وإذ تشير الثياب إلى الجسد، فقد حمل هذا التصرف رمزًا بإرادته وقيامته بسلطانه الشخصي.
الآن يحقق السيد المسيح لبطرس الرسول ما وعده به وهو أن يشرح له ما وراء هذا التصرف من معنى. إنه يقدم لهم وصية في شكل سؤال.
v قول السيد المسيح لتلاميذه: “أتفهمون ما قد صنعت بكم؟” لا يوجه خطابه هذا إلى بطرس فقط لكنه يخاطب جماعتهم.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“أنتم تدعونني معلمًا وسيدًا،
وحسنًا تقولون،
لأني أنا كذلك”. (13)
هذا اللقب المزدوج “معلم وسيد” يقابل “رابي rabbi وسيد lord”، كان شائعًا بين معلمي اليهود المعتمدين.
v غسل الجالس على الشاروبيم أرجل تلاميذه، وأنت يا إنسان أرضي، رماد وغبار وتراب، أتتعالى وتترفع ترفعًا عظيمًا؟
القديس يوحنا الذهبي الفم
“فإن كنت وأنا السيد والمعلم قد غسلت أرجلكم،
فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض”. (14)
v عندما ينحني عند قدمي أخيه، فإن الشعور بالتواضع يستيقظ في القلب أو يتقوى إن كان بالفعل موجودًا.
v ليغفر كل واحد لأخيه أخطاءه ويصلي من أجل أخطاء الآخر، بهذا يغسل الواحد قدمي الآخر.
القديس أغسطينوس
“لأني أعطيتكم مثالاً،
حتى كما صنعت أنا بكم تصنعون أنتم أيضًا”. (15)
v إلاَّ أنه ليس الأمر متشابه، لأنه هو الرب والسيد وأما أنتم فعبيد رفقاء لبعضكم البعض. ماذا إذن يعني “حتى كما” أي بذات الغيرة. لهذا فقد قدم أمثلة لأعمال عظيمة لعلنا نتمم ما هو أقل. هكذا يقوم المعلمون في المدارس بكتابة الحروف للأطفال بطريقة جميلة جدًا حتى يقلدهم الأطفال وإن كان بطريقة أقل.. أين إذن أولئك الذين ينشقون عن زملائهم؟ أين هم أولئك الذين يطلبون كرامات؟ لقد غسل المسيح قدمي الخائن المدنس للمقدسات، اللص، والذي اقترب جدًا لوقت الخيانة، حالته لا يُرجى منها الشفاء، ومع ذلك جعله شريكًا معه على المائدة، فهل تتكبرون وتتغامزون؟ يقول قائل: “لنغسل أقدام بعضنا البعض”. هل هو أمر عظيم أن نغسل أقدام خدامنا؟ بالنسبة لنا “عبد” و”حر” كلمتان مختلفتان، لكن توجد حقيقة واقعية. فإنه بحسب الطبيعة هو الرب ونحن خدم، ومع ذلك لم يرفض أن يفعل ذلك… لقد جعلنا الله مدينين لبعضنا البعض، إذ قام هو أولاً بالعمل، فجعلنا مدينين بممارسة ما هو أقل.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“الحق الحق أقول لكم
إنه ليس عبد أعظم من سيده،
ولا رسول أعظم من مرسله”. (16)
لاحظ العلامة أوريجينوس أن هذه العادة الخاصة بغسل أقدام الآخرين سائدة بين البسطاء والسذج، مطالبًا المؤمنين بممارستها، سواء كانوا أساقفة أو كهنة أو أصحاب مراكز في العالم. هذا وكما نحن في حاجة إلى غسل أقدام الآخرين يلزمنا أن نقبل غسل أرجلنا من الآخرين.
v غسل يسوع أقدام التلاميذ بكونه معملهم، وأقدام الخدم بكونه سيدهم. فإن تراب الأرض الصادر عن العالم يُنظَف بالتعليم، حيث لا يبلغ الأجزاء الدنيا المتطرفة في التلاميذ. لكن الأمور التي تدنس الأقدام تنزع بربوبية (سيادة) الحاكم، إذ له سلطان على الذين لا يزالوا يتقبلون دنسًا عامًا، إذ هم لا يزالون يحملون روح العبودية (رو ٨: ١٥).
v بخصوص المخلص وهو الرب (السيد) يمكن أن ترى فيه أمرًا يفوق السادة الآخرين الذين لا يرغبون في العبد أن يكون كسيده.
العلامة أوريجينوس
v ذات الحب الذي للآب هو أيضًا للابن… وأي حب للابن سوى أنه بذل ذاته من أجلنا، وخلصنا بدمه (أف 2:5)… فالآب بذل الابن، والابن بذل ذاته… إنه بذل ذاك الذي يريد ذلك، بذل من قدم ذاته للبذل. فالآب لم يبذل الابن كعقوبة بل كنعمة.
القديس أمبروسيوس
v قال هذا لأنه غسل أقدام التلاميذ بالكلمة والمثال كسيد للتواضع. لكن يمكننا بعونه أن نمارس ما يحتاج إلى ممارسة دقيقة جدًا، إن كنا لا نتباطأ فيما هو واضح بكمالٍ.
القديس أغسطينوس
v كونوا متمثلين بي كما أنا أيضًا بالمسيح (١ كو ١١: ١). من أجل هذا أخذ جسدًا من جبلتنا حتى يعلمنا به الفضيلة. إذ أرسل الله ابنه في شبه جسدنا الخاطيء حتى تُدان الخطية في جسد الخطية (رو ١٨: ٣). كذلك يقول المسيح نفسه: “تعلموا مني، فإني وديع ومتواضع القلب” (مت ١١: ٢٩). هذا علمنا إياه لا بالكلمات وحدها وإنما بالأعمال أيضًا.
لقد دعوه سامريًا وبه شيطان ومخادعًا كما ألقوه بالحجارة، وأرسل إليه الفريسيون خدامًا ليمسكوه، ومرة أخرى لكي يجربوه، وكانوا يشتمونه، وإذ لم يجدوا فيه خطأ كان يقدم لهم خبزًا بالكلمات كما بالأعمال…
لنتطلع إلى ما يفعله الآن مع التلاميذ، وأية أعمال يظهرها نحو الخائن. لقد اختاره تلميذًا، وأشركه في المائدة والملح (الذي يمنع الفساد)، ورأى معجزات تستحق كل تقدير، ومع هذا صنع معه أمرًا أخطر من كل شيء، ليس برجمه أو سبه وإنما بالخيانة، ومع استحقاقه الكراهية عامله السيد بصداقة وغسل قدميه، إذ أراد بهذا أن يمنعه من الشر.
كان في سلطانه – لو أراد – أن يجعله يابسًا كشجرة التين، وأن يشقه إلى نصفين كما تشققت الصخور، وأن يمزقه كما انشق الحجاب، لكنه لم يرد أن يمنعه عن تحقيق خطته قهرًا إنما اختيارًا. لذلك غسل قدميه، ومع هذا لم يخجل هذا الشرير البائس.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“إن علمتم هذا فطوباكم إن عملتموه”. (17)
يتحقق التطويب الحقيقي خلال معرفة الله العملية بالطاعة له. فالإنسان لا يتمتع بالطوبى لأجل معرفته الكثيرة، وإنما خلال تمتعه بشركة الطبيعة الإلهية، حيث تتحول المعرفة إلى خبرة عمل.
v غسل الأقدام هو من تخصص السيد المسيح الذي يغسل أعماق النفس ويغفر الخطايا. فمن بالحب والتواضع يغفر لمن يخطئ إليه إنما يشترك في إحدى سمات المسيح العظمى، ويُحسب متمتعًا بالحياة الجديدة المطوبة في المسيح يسوع. قول السيد: “طوباكم” إنما يكشف عن المجد السماوي والحياة السماوية التي نختبرها بممارستنا لهذا العمل.
العلامة أوريجينوس
v “أن تعلموا” (تعرفوا) فهذا يخص الكل، أما “أن تعملوا” فهذا ليس للكل. لهذا يقول: “طوباكم إن عملتموه“. ولهذا السبب أقول دومًا وأكرر نفس الشيء مع أنكم تعرفونه، حتى أضعكم في موضع العمل. فإنه حتى اليهود “يعرفون” لكنهم ليسوا مطوبين، لأنهم لا يعملون ما يعرفون.
القديس يوحنا الذهبي الفم
حديثه عن مسلمه ١٨ – ٣٠.
“لست أقول عن جميعكم،
أنا أعلم الذين اخترتهم،
لكن ليتم الكتاب:
الذي يأكل معي الخبز رفع علي عقبه”. (18)
يكشف السيد المسيح عن خطة يهوذا في خيانة سيده. يعرفها السيد منذ البداية، لكنه ستر عليه حتى تلك اللحظات عندما بدأ في خطوات عملية جادة، والآن يكشفها لتلاميذه الذين لم يتخيلوا إمكانية حدوثها بينهم. ويلاحظ هنا في حديثه أنه لم يعمم الخطأ؛ بل يمتدح البقية كأوانٍ طاهرة مخلصة. وفي نفس الوقت لم يورد تفاصيل الجريمة ولا أفصح عن اسم مرتكبها، إنما أكد أن ما يحدث سبق فأعلنه الكتاب المقدس (مز ٤١: ٩).
لم يتحدث السيد المسيح عن دافع يهوذا لهذا العمل، حقًا لقد سبق فعلق الإنجيلي عليه عندما انتقد سكب مريم أخت لعازر الطيب على قدمي السيد: “قال هذا ليس لأنه كان يبالي بالفقراء، بل لأنه كان سارقًا، وكان الصندوق عنده، وكان يحمل ما يُلقى فيه” (١٢: ٦). أما في أمر خيانة السيد فقد أورد الإنجيليون الحقائق، وما اتفق عليه من ثمن للخيانة، وكيف رد المبلغ بعد تسليمه في يأسٍ، دون تعليق عن أعماق دوافعه. إنما قام الدارسون فيما بعد بوضع توقعاتهم وتحليلاتهم بخصوص هذا التصرف، ولم يحاول أي إنجيلي أن يقدم عرضًا كاملاً لدوافع هذا الخائن.
تحدث يوحنا الإنجيلي عن عمل الخيانة مباشرة بعد غسل السيد لأقدام التلاميذ، ليكشف عن شوق الكلمة الإلهي المتجسد للقيام بأقل الأعمال في تواضع حقيقي وبذل من أجل الجميع. حتى وإن وجد من بينهم من يخطط ضده بشرٍ عظيمٍ؛ يعمل لحساب الجميع. أما العمل المضاد فمارسه يهوذا بطريقته الخاصة في اعتدادٍ بفكره وتدبيره لحساب نفسه وهو لا يدري أنه يدمر نفسه.
يقودنا مسيحنا – الطريق الحقيقي – لندخل فيه ونعمل بروح الخضوع والتواضع في حب صادق مع وجود من يقيمنا ومن يطلب تدميرنا.
أخيرًا يؤكد السيد أنه يعلم الذين اختارهم، ولم يجهل شخصية يهوذا حين اختاره، لكن كل الأمور تسير بسماحٍ منه، فليس شر يهوذا هو سيد الموقف بل حب المسيح هو السيد، الذي يحول من الشر جزءً لتتميم خطته الإلهية لخلاص البشر. هذا يهبنا طمأنينة كاملة، أنه يوجد محب البشر، ضابط الكل يحول كل الأحداث لحسابنا، حتى مقاومة الأشرار لنا.
v ربما إذ يعرف الرب الذين هم له (٢ تي ٢: ١٩؛ عد ١٦: ٥)، لا يعرف الذين ليسوا له. وكما يقول عن البعض: “إني لم أعرفكم قط” (مت ٧: ٢٣)، لهذا يقول أيضًا عن يهوذا الذي ليس له: “إني لا أعرفك قط”. لكن لو أن يهوذا كان للمسيح ثم سقط، كان يُمكن أن يُقال له: “لست أعرف من أين أنت” (راجع لو ١٣: ٢٧)… لهذا السبب لم يقل: “أنا أعلم جميعكم”، بل “أنا أعلم الذين اخترتهم“.
v رفع يهوذا عقبه ضد المعلم عندما دخله الشيطان بعد اللقمة (٢٧).
العلامة أوريجينوس
v لم يقل السيد المسيح: “من يأكل الخبز معي يسلمني”، لكنه قال: “الذي يأكل معي الخبز رفع على عقبه“، مريدًا أن يبين طبيعة اغتياله الغاشة المستورة.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“أقول لكم الآن قبل أن يكون،
حتى متى كان تؤمنون إني أنا هو”. (19)
إنه يؤكد للتلاميذ حضوره في كل مكان، وعلمه بكل شيءٍ، فإذ يخبرهم مقدمًا عن موته والظروف المحيطة به يؤمنون بالأكثر أنه المسيا، ينمو إيمانهم به بكونه الإله العارف بكل شيء، ومخلص العالم الذي ترقبه الآباء والأنبياء.
v في الواقع اقترب الرسل مرة نحو الرب وقالوا له: “يا رب زد إيماننا” (راجع لو ١٧: ٥). لم يدينوا أنفسهم كمن هم غير مؤمنين، فإن كلمة “زد” تظهر أنه كان لهم الإيمان الذي يُمكن يزداد… ويمكن فهم الكلمة “تؤمنون” (١٩) بما يعادل: “لكي تزدادوا في الإيمان”.
العلامة أوريجينوس
“الحق الحق أقول لكم الذي يقبل من أرسله يقبلني،
والذي يقبلني يقبل الذي أرسلني”. (20)
يؤكد السيد لتلاميذه أنه مع وجود جاحدين وخائنين له يوجد أيضًا مؤمنون يقبلونه، ويُحسبون أنهم قبلوا الآب أيضًا.
v ما علاقة هذا بما قيل قبلاً: “طوباكم إن عملتموه” (١٧) حتى يضيف: “إنه يقبلكم“؟ إنه توجد علاقة قوية وتناغم قوي، فإنهم لما توقعوا أن يخرجوا إلى العالم، وأن يقاسوا شدائد كثيرة، عزاهم بأسلوبين من العزاء، الأول أوضحه لهم إذ قال: “إن علمتم هذا فطوباكم إن عملتموه” (17). والثاني بقوله: “الذي يقبل من أرسله يقبلني“، لأنه فتح لهم بيوت جميع الذين جاءوا عندهم حتى ينالوا تعزية مضاعفة.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v من يقبل من أرسله يسوع إنما يقبل يسوع الذي أرسله، ومن يقبل يسوع يقبل الآب. لذلك فمن يقبل من أرسله يسوع إنما يقبل الآب الذي أرسل يسوع.
v يمكن أيضًا على أساس هذه الكلمات أن نقبل ما هو مضاد. فمن يقبل من يرسلهم ابن الهلاك إنما يقبل ضد المسيح، ومن يقبل ابن الهلاك إذ هو يقبل ضد المسيح بكونه الكلمة التي تبدو كأنها صادقة وباطلاً تعلن أنها العدل، إنما يقبل ابن الهلاك نفسه. لنحذر إذن كصرافين صالحين، فنصّدق على خدمة الرسل الحقيقيين، ونرفض خدمة الرسل الكذبة.
العلامة أوريجينوس
لاحظ العلامة أوريجينوس أن السيد المسيح قال: “من يقبلكم” ولم يقل: “من يؤمن بكم يؤمن بي” ولا “من يراكم يراني” [إنه يريدنا أن نقبل رسله، ولكن لا يطلب منا أن نؤمن بهم أيضًا].
“لما قال يسوع هذا اضطرب بالروح،
وشهد وقال:
الحق الحق أقول لكم إن واحدًا منكم سيسلمني”. (21)
اعتاد السيد المسيح أن يتحدث عن آلامه وموته دون أن يضطرب، لكنه إذ يشير إلى خيانة تلميذه قيل: “اضطرب بالروح“، فإن خطايا المؤمنين تحزن قلب السيد المسيح الأبوي. وكما تكلم الرب قديمًا وقال: “ربيت بنين ونشأتهم، أما هم فعصوا عليّ” (إش ١: ٢). كما قيل: “في ضيقهم تضايقت… لكنهم تمردوا وأحزنوا روح قدسه” (إش ٦٣: ٩، ١٠).
اضطرب يسوع “في الروح in spirit” (٢١)، إي في روحه البشرية، إذ صار بالحق إنسانًا كاملاً، روحه تضطرب من أجل خيانة تلميذه له. ليس اضطراب الخوف من الموت أو عن جهل لما سيحدث، إنما اضطراب من أجل التلميذ الذي يتجاسر فيخون سيده وربه.
v الذي يخونني ليس غريبًا عن تلاميذي، وهو ليس واحد من تلاميذٍ كثيرين، بل واحد من الرسل الذين نالوا كرامة اختياري لهم.
يوجد كثيرون دانوا المسيح قائلين: “أصلبه، أصلبه” (لو ٢٣: ٢١)… أما خيانته فهي عمل واحد قد رآه وتعرَّف عليه. فإذ تعرَّف عليه كمعلمٍ يقدم تعاليم كثيرة وعظيمة، سمعها في جلسات خاصة مع الرسل، وإذ عرفه أنه الرب، فعندما خانه خان عظمته التي يعرفها، الأمر الذي لا يقدر من يرَ عظمته أن يمارسه…
عندما تعلم كم هو عظيم، وصار مستمعًا لعظمة الكلمة والعقل والنعمة التي فيه، عندئذ خانه، خان عظمته بقدر ما تعرف عليها. لهذا السبب كان خير له لو لم يولد (مت ٢٦: ٢٤؛ مر ١٤: ٢١)، سواء كان الميلاد يفهم على أنه التجديد (الميلاد الثاني) كما يفهمه الإنسان بمفهومٍ عميق، أو الميلاد بالمفهوم العام.
v لو أن شر يهوذا كان واضحًا لتلاميذ يسوع لعرفوا من الذي يخون المعلم عندما قال: “إن واحدًا منكم سيسلمني“، لكن تطلع التلاميذ “بعضهم إلى بعض وهم محتارون في من قال عنه” (٢2).
بالحقيقة ربما خجل الرسل من أن يتشككوا بالشر في يهوذا من أجل أعماله السابقة النبيلة. ربما لم يكن يهوذا منتميًا بالكامل للشر، حتى بعد أن دخل الشيطان في قلبه… إذ وُجدت فيه بقية من الاختيار الصالح.
عندما رأى يسوع يُدان، عندما قيدوه وسلموه للحاكم بيلاطس (مت ٢٧: ٢) ندم ورد الثلاثين من الفضة لرئيس الكهنة والشيوخ قائلاً: أخطأت إذ سلمت دمًا بريئًا” (مت ٢٧: ٤)… يهوذا الذي أحب المال ألقى بالمال ومضى وشنق نفسه (مت ٢٧: ٥). لم ينتظر حتى ليرى نهاية دينونة يسوع أمام بيلاطس.
العلامة أوريجينوس
لقد شهد المرتل أنه لم يكن يهوذا يحمل عداوة ضد المسيح (مز ٥٥: ١٣)، بل وحتى بعد تسليمه للمخلص مدح المعلم قائلاً أنه أخطأ إذ سلم دمًا بريئًا، معترفًا بذلك أمام رؤساء الكهنة والشيوخ، بجانب إلقائه بالمال على الأرض دون الاستمتاع به. كل هذه اللمسات الجميلة تكشف أنه كان يمكنه أن يقدم توبة مقتربًا نحو المخلص، لكنه للأسف فتح قلبه للشيطان للمرة الثانية لينتحر فاقدًا الرجاء في الله مخلص البشرية.
يتساءل القديس أغسطينوس لماذا اضطرب يسوع بالروح وقال: “الحق الحق أقول لكم إن واحدًا منكم سيسلمني”؟ هل لم يعرف هذا من قبل حتى يضطرب بالروح؟ ألم يقل منذ قليل: “الذي يأكل معي الخبز رفع على عقبه” (١٥)؟ أم هل اضطرب بالروح لأنه حان وقت التنفيذ للخيانة عمليًا؟ اضطرب بالروح ذاك الذي له سلطان أن يضع نفسه وأن يأخذها (يو ١٠: ١٨). لقد اضطرب ذاك القوي القدير، الثابت كالصخر، لكن ما اضطرب هو ضعف طبيعتنا التي قبلها بإرادته فيه.
يكمل القديس قائلاً: [بالتأكيد الأمر هكذا: ليت العبيد لا يعتقدون بشيء غير لائق بربهم، بل يدركون عضويتهم في رأسهم. الذي مات لأجلنا هو أيضًا اضطرب، لأنه احتل موضعنا. ذاك الذي مات في قوة، اضطرب وسط قوته. ذاك الذي سيحول جسد تواضعنا إلى شبه شكل جسد مجده قد حول أيضًا في نفسه مشاعر ضعفنا وتعاطفه معنا إلى مشاعر نفسه. تبعًا لهذا حين اضطرب ذاك العظيم والشجاع والراسخ الذي لا يُقهر، لا نخف عليه كمن يمكن أن يسقط، إنه لا يهلك بل يبحث عنا!… ففي اضطرابه نرى أنفسنا، وهكذا إذ يلحق الاضطراب بنا لن نيأس ولا نهلك. باضطراب ذاك الذي ما كان يمكن أن يضطرب بغير إرادته يهبنا راحة نحن الذين نضطرب بغير إرادتنا].
v إذ بقوته أخذ كمال ناسوتنا، بذات القوة أيقظ في نفسه المشاعر البشرية عندما حكم عليها بطريقة لائقة.
القديس أغسطينوس
يقول القديس أغسطينوس أن بقوله: “إن واحدًا منكم” (٢١) لم يقصد وحدتهم حسب الروح بل حسب الجسد، لأنه لم يكن بالحقيقة منهم، وكما يقول القديس يوحنا: “منا خرجوا، لكنهم لم يكونوا منا، لأنهم لو كانوا منا لبقوا معنا ليظهروا أنهم ليسوا جميعهم منا” (١ يو ٢: ١٩).
“فكان التلاميذ ينظرون بعضهم إلى بعض،
وهم محتارون
في من قال عنه”. (22)
واضح أن تصرفات يهوذا لم تحمل أدنى نوع من الشكوك، إذ لم يشك أحد قط فيه.
إذ سمعوا هذا التحذير، وهم يعلمون أن معلمهم لن يخدعهم، ولا ينطق بفكاهة تطلع كل واحد نحو الآخر، وكانوا يتساءلون في صمت: تُري من يكون هذا؟ نظراتهم كشفت عن اضطرابهم الداخلي.
عندما بكى داود ابنه المتمرد بكى كل تابعيه (٢ صم ١٥: ٣٠)، وهكذا إذ اضطرب يسوع حزنًا على مسلمه اضطرب معه تلاميذه. اضطراب روح واهب السلام والفرح ملأهم رعبًا. تحول العيد من الفرح إلى اضطراب ورعب.
“وكان متكئًا في حضن يسوع واحد من تلاميذه كان يسوع يحبه”. (23)
كان اليهود في ذلك الحين عند العشاء يجلسون بميل وهم متكئون على ذراعهم الأيسر فوق وسادة حول المائدة، كما كان اليونانيون والرومانيون يفعلون. على كل وسادة يتكئ آخر على ذات الوسادة. فكان يوحنا بسبب دالته يجلس بجوار السيد وتكون رأسه في حضن سيده.
“فأومأ إليه سمعان بطرس
أن يسأل من عسى أن يكون الذي قال عنه”. (24)
كان القديس يوحنا هو أنسب شخص يمكن أن يسأل السيد المسيح، إذ كانت له دالة خاصة، وقد جلس بجوار سيده واتكأ في حضنه. كان بطرس في غيرته يود أن يعرف التلميذ مسلم سيده، لكنه لم يتجاسر أن يسأله بل أومأ إلى يوحنا ليسأله.
v شوهد بطرس الرسول في كل موضع ناهضًا من زيادة شوقه للسيد المسيح، إلا أنه يظهر هنا مرتاعًا، فلم يصمت ولم يتكلم، لكنه أراد أن يعرف ذلك بوساطة يوحنا الرسول.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“فاتكا ذاك على صدر يسوع وقال له:
يا سيد من هو؟” (25)
مع الدالة الشديدة التي ليوحنا حتى اتكأ في حضن يسوع لكنه يتكلم بكل وقار: “يا سيد“. دالتنا على مخلصنا لا تنزع عنا حديثنا معه بكل احترامٍ ووقارٍ.
كان القديس يوحنا متكئًا في حضن يسوع (٢٣)، وإذ أراد أن يسأله عمن سيسلمه ارتفع برأسه ليتكئ على صدر يسوع، ويرى العلامة أوريجينوس أن العمل أعظم وأسمى من الاتكاء في الحضن.
v أعطاهم معلمهم دالة هذه مقدارها، فإن ابتغيت أن تعرف علة ذلك فمن الحب كان فعله.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v إن يوحنا الحبيب الذي اتكأ على صدر الرب أحب ثديي الكلمة (يو 25:13)؛ وإذ وضع قلبه بقرب منبع الحياة تمتع بامتصاص الأسرار الخفية التي في قلب الرب كما يمتص الإسفنج.
يعطينا يوحنا الثدي الغنى بالكلمة، فنمتلئ من الصلاح الذي أخذه يوحنا من منبع الصلاح، معلنًا عن الكلمة الأبدي. لذلك يحق لنا الآن أن نقول: “نذكر حبك أكثر من الخمر” إذا ما صرنا كالعذارى، ولم نعد أطفالاً في أذهاننا تحت نير نوع من التفاهة الطفولية، وإذ لم نتدنس بعد بالخطية فندنو من الموت في كهولتنا. لذلك دعنا نحب فيض التعليم الإلهي لأنهم “بالحق يحبونك” (نش 4:1). هذا هو التلميذ الذي كان يسوع يحبه، والمسيح هو الحق. ينسب النص هنا للمسيح اسمًا أكثر جمالاً وملاءمة للرب أفضل من داود النبي الذي قال : “أن الرب مستقيم” (مز 15:9). يسمى الرب بالحق في هذا النص. لأنه يجعل المعوج مستقيمًا. ليصير كل المعوج مستقيمًا والعراقيب سهلاً (إش 4:40) بنعمة ربنا يسوع المسيح الذي له المجد دائمًا أبديًا. آمين.
القديس غريغوريوس النيسي
v هؤلاء الذين كانوا يهودًا بالميلاد لم يستطيعوا بالإنجيل أن يستردّوا البتولية التي فقدوها في اليهودية. ومع ذلك فإن يوحنا، واحدًا من التلاميذ، يُروي عنه أنه كان أصغر الرسل، وكان بتولاً عندما تقبل المسيحية، بقي بتولاً، وعلى هذا الأساس كان محبوبًا بالأكثر من ربنا، واتكأ على صدر يسوع. وما لم يجسر بطرس، الذي كان له زوجة، أن يسأله (25) طلب من يوحنا أن يسأله. وبعد القيامة عندما اخبرَتْهما مريم المجدلية أن الرب قام (يو 4:20) جرى الاثنان نحو القبر، ولكن يوحنا سبق بطرس، وعندما كانا يتصيدا في السفينة ببحيرة جنيسارت وقف يسوع على الشاطئ ولم يعرف الرسل من هو الذي يرونه (يو 7:21)؛ البتول وحده عرف البتول، وقال لبطرس: “هو الرب”.
القديس جيروم
“أجاب يسوع:
هو ذاك الذي أغمس أنا اللقمة وأعطيه،
فغمس اللقمة، وأعطاها ليهوذا سمعان الإسخريوطي”. (26)
ظن التلاميذ أنه إذ غمس السيد القمة وأعطاها ليهوذا إنما لكي يستعجله في تنفيذ أمرٍ ما ولا ينتظر حتى يتعشى معهم.
كما همس يوحنا في أذني السيد هكذا أجابه همسًا، حتى لا يسمع بقية التلاميذ. وعوض ذكر اسمه اكتفى بتقديم علامة، حتى تدرك الأجيال القادمة أن الله يود أن نتعرف على مقاومي الحق، لا بذكر أسمائهم، وإنما خلال ثمارهم الشريرة وروحهم.
يبدو أن يهوذا في خجل لم يتجاسر ويغمس اللقمة ويأكل من ذات الصحفة التي يأكل منها السيد المسيح وتلاميذه، لكن غمس السيد اللقمة وأعطاه ليمد يده ويأكل مع التلاميذ، إذ يود السيد أن يتذكر سمو مركزه ومساواته للتلاميذ.
واضح من تصرف السيد مع يهوذا أن الأخير كان يجلس بالقرب منه، ربما لأنه كان أمين الصندوق، فكان التلاميذ يتركون له موضعًا قريبًا، حتى إن احتاج السيد إلى شيء للخدمة يكون يهوذا قريبًا منه.
حقًا كثيرون يقتربون من السيد المسيح حسب الجسد بل ويزحمونه أينما ذهب، لكن قلوبهم بعيدة عنه جدًا. وآخرون يبدون كمن هم بعيدين عنه وهم يحملونه في قلوبهم وأفكارهم، ويحملهم السيد فيه كأعضاء في جسده المقدس.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن السيد المسيح استخدم مع يهوذا كل وسيلة لعله يرتدع عما يفعله، فقد عُرف حتى بين القبائل المتبربرة أنهم لا يخونون من يأكلون معهم من طعام واحد. لذلك جعل الرب العلامة التي يُعرف بها الخائن هي أن يغمس السيد نفسه اللقمة ويعطيه ليأكل من ذات الطعام، ومع ذلك خان من قدم له الطعام.
v حتى طريقة توبيخه حُسبت بطريقة تجعله في خزي. إذ لم يحترم المائدة التي اشترك فيها بأكل الخبز، لكن ألم تقدر أخذ اللقمة من يد (السيد) أن تغلبه؟ إنها لم تغلبه!
القديس يوحنا الذهبي الفم
v ما ناله كان حسنًا، ولكن ناله لضرره، لأنه بروح شرير قبل ما هو صالح.
v الأمر الهام ليس ما هو الذي يُعطى بل من هو الشخص الذي يتقبل العطية، ليس طبيعة الشيء المُعطاة بل طبيعة ذاك الذي ينالها. فإنه حتى الأمور الصالحة ضارة، والأمور الشريرة نافعة حسب شخصية من يتقبلها… لماذا أُعطى الخبز للخائن، إلاَّ ليكون شهادة عن النعمة التي استخدمها بجحود؟
القديس أغسطينوس
“فبعد اللقمة دخله الشيطان،
فقال له يسوع:
ما أنت تعمله فأعمله بأكثر سرعة”. (27)
دخل الشيطان يهوذا لأنه سلم نفسه بالكامل له، ملك عليه بالأكثر بكونه ابن الهلاك الذي لم يفكر قط في التوبة والرجوع عما يخططه ضد سيده. يقول الرسول بولس عن الشيطان أنه “يعمل الآن في أبناء المعصية” (أف ٢: ٢)، لكنه أحيانًا يدخل بأكثر وضوح وقوة عندما يسلمون أنفسهم بالكامل تحت سلطانه.
بعد اللقمة التي أعطاها السيد المسيح له دخله الشيطان، فإن كانت اللقمة تشير إلى حنو المسيح وعطاياه، فإن من يستهين بعطاياه ويسيء استخدام حنو الله يفتح الطريق للعدو كي يدخل ويملك.
بقوله: “ما أنت تعمله فأعمله بأكثر سرعة” (٢٧) لم ينل نصيحة من الرب بل سماحًا ليتمم ما يريده. لقد نزع الرب عنه كل نعمة، لأنه مصمم على تسليم ذاته للخيانة والشر. وكأنه يقول له: “أنت مصمم على الخيانة، لم تفتح بابًا للتوبة والرجوع إليّ. اذهب افعل ما تشاء، فأنا لا أخشى الموت بل مستعد له”.
كان يهوذا قد وضع مع الأشرار خطة بزمنٍ دقيق لتسليم السيد، وقد اقتربت اللحظات التي يتمم فيها خطته، ولعله كان لا يعرف كيف يعتذر من الحاضرين ليخرج، لذا قدم له الرب سؤل قلبه، وشهوة نفسه. عندما نسمع المرتل يقول: “يعطيك الرب سؤل قلبك” يلزمنا فحص قلوبنا بروح الله القدوس، حتى ننال ما نشتهيه، إن كان رؤية الله والعشرة معه، أو حب الشر وممارسته.
ولعل السيد طلب منه أن يسرع لئلا يُفضح أمره بين التلاميذ فيلاقي إهانات منهم.
ربما يتساءل البعض: ألم يمارس يهوذا عمله الشرير قبلاً إذ تشاور مع رؤساء الكهنة والفريسيين لتسليم السيد، فلماذا قيل هنا: “فبعد اللقمة دخله الشيطان“؟ لقد صوب إبليس أحد سهامه النارية نحو قلب يهوذا فوجد استجابة داخلية، الأمر الذي فتح أبواب قلبه بالأكثر ليدخل الشيطان ويتربع فيه كملكٍ! هكذا مع كل قبول لفكرٍ خاطئٍ، وكل سلوكٍ شريرٍ، إنما يهيئ الطريق لما هو أشر.
v إذ رأى يسوع ذاك الذي دخل، وذاك الذي استقبله، وكل الخطة التي وُضعت ضده تجرد للمعركة، ولكي يغلب الشرير من أجل خلاص البشر قال: “ما أنت تعمله فأعمله بأكثر سرعة” (٢٧).
العلامة أوريجينوس
v قال يوحنا الرسول عن يهوذا: “بعد اللقمة دخله الشيطان ضاحكًا على وقاحته”. لقد نطق بهذا، ليس لكي يرعبهم بل ليعزيهم، حتى لا تحل بهم المخاطر فجأة فيزداد اضطرابهم.
v إذ كان مرتبطًا بجماعة من التلاميذ لم يجسر (الشيطان) أن يقفز إليه، إنما كان يهاجمه من الخارج، لكن عندما أعلن عنه المسيح وفصله عنهم قفز إليه الشيطان دون خوفٍ.
v “أعمله بأكثر سرعة” تعبير لا يصدر عمن يوصى بأمرٍ ما، ولا من يقدم نصيحة، بل من يوبخ ويظهر له أنه يود إصلاحه، ولكن إذ كان لا سبيل لتقويمه دعاه يذهب.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v بعد أخذه هذا الخبز دخل الشيطان في خائن الرب، إذ سُلم لسلطانه ليملك بالكامل على ذاك الذي دخله في قلبه لكي يقوده إلى الخطأ.
لسنا نفترض أن الشيطان لم يكن فيه قبلاً حين ذهب إلى اليهود ودخل معهم في صفقة بخصوص ثمن خيانة الرب، إذ يقول الإنجيلي لوقا بكل وضوح: “فدخل الشيطان في يهوذا الذي يُدعى الاسخريوطي، وهو من جملة الاثني عشر، فمضى وتكلم مع رؤساء الكهنة” (لو ٢٢: ٣-٤)… دخوله الأول عندما زرع في قلبه فكر خيانة المسيح، فإنه بروحٍ كهذا جاء إلى العشاء. أما الآن بعد الخبز دخله لا ليجرب من هو يتبع آخر بل ليملك على من هو له.
v إنه ليس كما يظن بعض القراء غير المفكرين بأن يهوذا تسلم جسد المسيح. إذ نفهم أن الرب كان قد قدم للكل سرّ جسده ودمه حين كان يهوذا أيضًا حاضرًا كما هو واضح جدًا من قصة القديس لوقا (لو ٢٢: ١٩-٢٢). وإنما بعد ذلك نأتي إلى اللحظة التي بحسب ما رواه يوحنا قدم الرب كشفًا عن خائنه بتغميس لقمة الخبز وإعطائها له، ربما ملمحًا بغمز الخبز إلى المزاعم الباطلة للآخر. فإن غمس الشيء لا يعني دومًا غسله، بل أحيانا يُغمس الشيء لكي ما يُصبغ. فإن أخذناه بالمعنى الصالح هنا للغمس فإنه جحود لما هو صالح كان يستحق الإدانة.
v “اعمله بأكثر سرعة” )٢٧(، ليس لأنك تحمل سلطانًا في ذاتك، ولكن لأن (يسوع) يريد ذلك، ذاك الذي له كل السلطة.
القديس أغسطينوس
“وأما هذا فلم يفهم أحد من المتكئين لماذا كلمه به”. (28)
حقًا يعرف السيد المسيح أعماقنا أكثر من معرفتنا نحن لأنفسنا. كما يعرف الرب شر الأشرار كيهوذا، يعرف أيضًا ضعف القديسين كبطرس الرسول.
v لم يجعل السيد المسيح ما سيفعله يهوذا ظاهرًا، لأنه لو علم تلاميذه بذلك لعلهم كانوا قد عزلوه، ولعل بطرس كان قد قتله، فلهذا السبب لم يعرف السيد المسيح أحدًا من المتكئين ولا يوحنا الرسول عنه… ولم يشأ السيد المسيح أن يشّهر بيهوذا إلى اليوم الأخير من الأيام التي لبث فيها معه، وهذا ما يجب علينا أن نعمله، فلا نشهر بخطايا الموجودين معنا، ولو كان حالهم حال من قد خاب من الشفاء.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“لأن قومًا، إذ كان الصندوق مع يهوذا، ظنوا أن يسوع قال له:
اشترِ ما نحتاج إليه للعيد،
أو أن يعطي شيئًا للفقراء”. (29)
ظن التلاميذ أن السيد قال له: “اشترِ ما تحتاج إليه للعيد” (٢٩). واضح أن ذلك حدث في الليلة السابقة للفصح، لأن التلاميذ يعلمون تمامًا أنه لا يوجد شراء أو بيع في يوم عيد الفصح. ربما ظنوا أنه يشتري حملاً ليُقدم في يوم عيد الفصح، أي في اليوم التالي.
واضح أن همسات السيد المسيح ليوحنا لم يسمعها أحد، لذا لم يشك أحد قط في يهوذا، بل ظنوا أنه يقدم خيرًا في العيد. حقًا عاش السيد المسيح كفقيرٍ، لكنه كان يقدم للفقراء من القليل الذي معه في الصندوق. وكأنه يُلزم حتى الذين يعيشون على الصدقة أن يقدموا منها صدقة للغير.
v إن سأل سائل: إن كان قد أشار إلى تلاميذه قائلاً: “لا تقتنوا ذهبًا ولا فضة ولا نحاسًا في مناطقكم ولا مذودًا للطريق ولا ثوبين ولا أحذية ولا عصا لأن الفاعل مستحق طعامه” (مت 10: 9، 10) كيف حمل يهوذا صندوقًا؟ أجبناه: لخدمة الفقراء.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“فذاك لما أخذ اللقمة خرج للوقت وكان ليلاً”. (30)
خرج من بيت عنيا إلى أورشليم وهي على بعد حوالي ميلين. أسرع يهوذا بالخروج ليحقق خطته ليلاً وسط ظلمة قلبه، في وسط الجو البارد والظلام خرج لكي لا يراه أحد وهو يمارس شرّه الذي كان أكثر من الليل الدامس.
v وأنا أسأل البشير: لِم تذكر لي الوقت؟! فسيجيبني: لتعرف قسوة قلبه، إذ أنه ولا الوقت أمسكه عن فعله.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v بالحقيقة “خرج“، إذ لم يخرج فقط من البيت الذي أُقيم فيه العشاء، وذلك حسب المعنى البسيط، إنما خرج أيضًا من يسوع بالمعنى النهائي. أظن أنه إذ دخل إبليس يهوذا بعد اللقمة لم يحتمل أن يكون في ذات الموضع مع يسوع إذ ليس اتفاق بين المسيح وبليعال (٢ كو ٦: ١٥).
v (اللقمة) بالنسبة للآخرين كانت لخلاصهم، أما ليهوذا فكانت للدينونة (١ كو ١١: ٢٧-٢٩)، لأن الشيطان دخله بعد اللقمة… إنها كما قلت كمثال، أن الخبز الذي ينعش تمامًا بالمعنى الجسماني، يزيد متاعب الحمى، وفي نفس الوقت يخزن للشخص صحة وحيوية.
v يليق بنا القول بأن نفهم الليل في ذلك الحين رمزيًا، بكونه صورة الليل الذي خيم على نفس يهوذا عندما دخله الشيطان، الظلمة التي تخيم على وجه الغمر (تك ١: ٢). إذ دعا الله الظلمة ليلاً (تك ١: ٥). هذا الليل الذي يقول عنه بولس أننا لسنا أبناء له، ولا للظلمة، فإننا يا اخوة “لسنا من ليلٍ ولا من ظلمةٍ” (١ تس ٥: ٤-٥) بل ليتنا نحن الذين من النهار نصحو (راجع ١ تس ٥: ٥).
العلامة أوريجينوس
v تحدث النهار مع النهار، بمعنى أن المسيح فعل هذا مع تلاميذه المخلصين لكي ما يسمعوه ويحبوه كأتباعٍ له. وأظهر الليل معرفة لليل (مز ١٩: ٢) بمعنى أن يهوذا فعل هذا مع اليهود غير المؤمنين لكي ما يأتوا كمضطهدين ويجعلوا من (المسيح) سجينًا.
القديس أغسطينوس
مجد ابن الإنسان ٣١ – ٣٣.
“فلما خرج قال يسوع:
الآن تمجد ابن الإنسان،
وتمجد الله فيه”. (31)
حتى هذه اللحظات لم يكن ممكنًا للتلاميذ أن يدركوا ما يدور حولهم، ولا أن يفهموا كلمات السيد المسيح عن صلبه وموته وقيامته، إنما حلّ بهم نوع من الاضطراب من جهة أحداث تبدو مجهولة بالنسبة لهم.
وسط هذا الاضطراب يعلن الإنجيلي أنه بخروج يهوذا لتتميم الخيانة تمجد ابن الإنسان، وتمجد الآب أيضًا، كيف؟
أولاً: إذ خرج العنصر الفاسد من وسط الكنيسة المجاهدة تمجد السيد المسيح واهب البرّ لشعبه. ما كان للفساد أن يبقى على الدوام وسط الكنيسة، إذ يحكم على نفسه باعتزال كنيسة المسيح الحقيقية.
ثانيًا: بخروج يهوذا سنحت الفرصة للتلاميذ الأطهار أن يسمعوا الأحاديث الوداعية الطويلة لمخلصهم، والتي قدمها لهم لمساندتهم، ليس فقط خلال أحداث الصلب، بل لتهب تعزيات إلهية للكنيسة المقدسة عبر كل الأجيال إلى حين مجيئه على السحاب. بخروج الفاسد المصمم على فساده، سنحت الفرصة ليروا السيد المسيح رئيس الكهنة الأعظم السماوي وهو يحدث الآب عن أسرار المجد الإلهي، وعن مساندة الكنيسة حتى تتمتع بشركة المجد.
ثالثًا: تمجد ابن الإنسان، لأن الآب اختاره مخلصًا للعالم، والآن يتحقق مجده بالأكثر إذ بدأ الموكب يتحرك للقبض عليه، وتسليمه للمحاكمة، والموت على الصليب. هذا هو مجد محبته الإلهية الفائقة.
يؤكد السيد لتلاميذه أن الأحداث القادمة مفرحة للغاية، إذ لا يمكن فصل دور الآب عن دور الابن في تحقيق خلاص العالم. إنها محبة الآب هي التي قدمت لنا الصليب (٣: ١٦؛ رو ٥: ٨). إنه الآب الذي في المسيح هو الذي صالح العالم معه (٢ كو ٥: ١٩). إنه الآب الذي باركنا في المسيح، إذ اختارنا قبل تأسيس العالم (أف ١: ٣-٤).
v بهذا القول أنهض السيد المسيح أفكار تلاميذه بعد سقوطها، وحقق لهم ليس فقط ألا يكتئبوا، بل أن يفرحوا.
v تكُتب هذه الأمور حتى لا نحمل حقدًا على من يضروننا، بل ننتهرهم ونبكي عليهم. فإن البكاء يليق لا على المتألمين بل على المخطئين. فالإنسان الجشع، والذي يتهم آخر باطلاً، والذي يمارس شرًا، هؤلاء يسببون لأنفسهم ضررًا أعظم، ويسببون لنا خيرًا أفضل، إن كنا لا ننتقم لأنفسنا. كمثال لذلك لو أن إنسانًا سلبك، فهل تشكر الله على ما أصابك وتمجده؟ بشكرك تقتني ربوات المكافآت، بينما يجمع هو لنفسه نارًا لا يُنطق بها.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v هذا هو السبب الذي لأجله يقول: “الآن تمجد ابن الإنسان” (٣١)، وذلك في وقت بدء تحقيق التدبير (الآلام) حيث يموت يسوع، وذلك عندما خرج يهوذا بعد اللقمة يتمم عمله ضد يسوع. وإذ لم يكن ممكنًا ليسوع أن يتمجد إن كان الآب لا يتمجد فيه، قيل: “تمجد الله فيه“.
v تحقق المجد نتيجة لموت “ابن الإنسان” عن البشر، الذي لا يخص الكلمة الابن الوحيد الذي بطبيعته لا يموت، ولا للحكمة والحق، ولا إلى أي لقب آخر يخص سمات يسوع اللاهوتية، بل يخص الإنسان، الذي هو أيضًا “ابن الإنسان” المولود من نسل داود حسب الجسد (رو ١: ٣).
العلامة أوريجينوس
v ماذا قال النهار عندما ذهب الليل؟
ماذا قال المخلص عندما رحل البائع؟
“الآن تمجد ابن الإنسان” (٣١)…
أليس ليظهر أن تواضعه العميق قد اقترب، والقيود والحكم والإدانة والسخرية والصلب والموت قد صاروا على وشك الحدوث؟
هل هذا تمجيد أم تحقير؟
عندما صنع عجائب ألم يقل يوحنا عنه: “لم يكن الروح قد أُعطي، لأن يسوع لم يكن قد تمجد بعد” (يو ٧: ٣٩)؟
وعندما أقام الميت لم يكن بعد قد تمجد، فهل يتمجد الآب وهو يقترب بشخصه إلى الموت؟
إنه لم يتمجد حينما عمل كإله، فهل يتمجد وهو في طريقه للآلام كإنسان؟…
“الآن تمجد ابن الإنسان” (٣١)، مشيرًا إلى الاعتزال الكامل لرئيس الخطاة (يهوذا) عن أصحابه، فيبقى حول (المسيح) قديسوه. إننا نحن ظل مجده، الذي سيتحقق حين ينفصل الأشرار تمامًا، ويقطن (المسيح) مع قديسيه في الأبدية.
v “ الآن تمجد ابن الإنسان” (٣١)، ربما تشير كلمة “الآن” لا إلى الآلام الوشيكة الحدوث، بل إلى ما يتبعها مباشرة من قيامته، كما لو كان الأمر قد تم فعلاً.
القديس أغسطينوس
“إن كان الله قد تمجد فيه،
فإن الله سيمجده في ذاته،
ويمجده سريعًا”. (32)
لقد تمجد السيد المسيح سريعًا عندما أُلقي القبض عليه، إذ سقط الجمع أمامه بكلمة من فمه، ولم يقدروا أن يقبضوا عليه إلاَّ بتسليم نفسه لهم (يو ١٨: ٦). مجَّده الآب في آلامه وصلبه حيث شهدت الطبيعة نفسها أنه ابن الله، وآمن قائد المائة، كما آمن اللص الذي تلامس مع محبة المصلوب.
لكن ما هو أعظم فهو تمجيد ابن الإنسان بموته عن البشرية. وبتمجيده أعلن حب الآب الذي بذل ابنه الوحيد عن العالم، فتمجد الله في ابنه. وإذ تمجد الآب بموت الابن أعلن عن مجد ابنه بالقيامة من الأموات، فتمجد في ذاته كصاحب سلطان، وأن هذا المجد يتحقق سريعًا بقيامته حتى يظهر كمال مجده حين نراه وجهًا لوجه، خاصة في يوم الرب العظيم القادم أيضًا سريعًا.
ظهر مجد الرب في خيمة الاجتماع، فلم يقدر موسى أن يدخلها بسبب السحاب الذي غطاها (خر ٤٠: ٣٤-٣٥). أيضًا عندما خرج الكهنة من الهيكل لم يستطع الكهنة أن يقفوا للخدمة، إذ ملأ مجد الرب البيت (١مل ٨: ١٠-١١). وأيضًا عندما نزل موسى من الجبل ومعه لوحا الشريعة في يديه لم يدرك أن جلده كان يلمع بالمجد، فلم يقدر هرون وكل بني إسرائيل أن يقتربوا إليه (خر ٣٤: ٢٩-٣٠). وفي التجلي انعكس مجد الرب يسوع على ثيابه التي صارت بيضاء كالنور (لو ٩: ٢٩-٣١).
في العهد القديم ظهر مجد الرب خلال السحابة أو بهاء وجه موسى، وفي العهد الجديد أثناء خدمة السيد المسيح ظهر مجده في تجليه، إذ انكشف بهاء وجهه، فكان مشرقًا كالشمس، وانعكس هذا المجد على ثيابه. أما وقد عُلق على الصليب، فقد ظهر مجد الآب والابن بالتعرف عليهما. لذا يرى العلامة أوريجينوس أن المجد هنا هو “المعرفة” التي لا يعرفها سوى الآب والابن ومن يريد الابن أن يعلنها له (مت ١١: ٢٧)، المعرفة التي لا يعلنها لحم ودم بل الآب السماوي (مت ١٦: ١٧).
في هذه العبارة قدم لنا السيد أربع حقائق هامة:
- يتمجد ابن الإنسان بالصليب كغالبٍ لقوات الظلمة، ومحققٍ الخطة الإلهية من جهة الإنسان.
- يتمجد الآب بالصليب، معلنًا حبه الإلهي نحو البشرية.
- يمجد الآب ابنه بالقيامة وصعود الابن، حاملاً كنيسته فيه إلى السماء.
- قد حان الوقت لتحقيق المجد سريعًا بلا تباطؤ.
v ماذا يعنى: “الله سيمجده في ذاته”؟ إنه سيمجده بذاته وليس بوسيلة أخرى.“ويمجده سريعًا، أي في صلبه، لأن “حجاب الهيكل قد انشق إلى اثنين، من فوق إلى أسفل، والأرض تزلزلت، والصخور تشققت، والقبور تفتحت، وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين” (مت 27: 51، 52) فهذا هو معنى “فإن الله سيمجده في ذاته“.ما يقوله هو أنه ليس بعد زمن طويل، ولا ينتظر إلى وقت القيامة، ولا سيظهره باهرًا، وإنما سريعًا على الصليب نفسه يظهر بهاؤه.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“يا أولادي أنا معكم زمانا قليلاً بعد،
ستطلبونني، وكما قلت لليهود:
حيث أذهب أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا،
أقول لكم أنتم الآن”. (33)
“يا أولادي“، أو “أولادي الصغار” أو “المحبوبون” Teknia، وهو تعبير يحمل حنوًا عظيمًا وعاطفة قوية، كحنو الأم نحو رضيعها المحبوب لديها جدًا.
الآن قد خرج يهوذا فتحدث السيد بحنو فائض نحو تلاميذه كأبناء محبوبين لديه.
الزمان القليل هنا ربما ساعات قليلة للغاية بعدها يتشتت التلاميذ، تاركين السيد المسيح وحده في المحاكمة، إذ لا يقدرون أن يذهبوا حيث هو تحت المحاكمة. فالصليب يعني عزلة السيد المسيح عن أعدائه كما عن أحبائه، إذ لا يقدر أحد أن يعبر معه الطريق، وكما سمعه إشعياء النبي يقول: “قد دُست المعصرة وحدي، ومن الشعوب لم يكن معي أحد” (إش ٦٣: ٣). تركه يهوذا ومعه الأشرار المصممون على شرهم ليروا آثار الصليب يوم لقائهم معه، فيطلبون من الجبال أن تسقط عليهم والتلال أن تغطيهم من وجه الجالس على العرش. وفي طريق الصليب تركه الأحباء، إذ لا يستطيع أحد غيره أن يساهم في ذبيحة الصليب، لكنه إذ يقوم يُصلبون معه ليتمجدوا أيضًا معه. يجدون في آلامه مجدًا وكرامة، فيحسبون آلامهم هبة إلهية لا يستحقونها، ومتعة للوجود الدائم مع المصلوب الغالب!
v قال السيد المسيح هذه الأقوال لليهود مرعبًا إياهم، وقالها لتلاميذه مشعلاً شوقهم.
v “أقول لكم أنتم الآن” (٣٣)… عندما يهرب التلاميذ، وعندما يعاني اليهود من مآسي لا تُحتمل تفوق كل وصف عندما تؤسر مدينتهم، عندما يحل بهم غضب الله من كل جانب. إذن يتحدث مع اليهود بسبب عدم إيمانهم، وأما بالنسبة لكم فلكي لا تحل بكم متاعب غير متوقعة.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v لا تخافوا من القول أن المخلص هو أب لأشخاص معينين. فقد قال للمفلوج: “لا تخف يا بني، مغفورة لك خطاياك” (مت ٩: ٢). وللمرأة نازفة الدم: “يا بنية إيمانك خلصك” (مت ٩: ٢٢). الآن يقول لتلاميذه: “أولادي الصغار” أظن إنها صيغه التصغير واضحة، تعلم صغر النفس التي للرسل حتى ذلك الحين.
v يلزمكم أن تفهموا أنه ليس مستحيلاً التغيير من كون الشخص ابنا ليسوع ليصير أخاه، حيث أنه على المستوى البشري لا يمكن للابن أن يصير مؤخرًا أخًا للشخص الذي كان له ابنا قبلاً.
v بعد قيامة المخلص، هؤلاء الذين دعاهم “أبناء صغارًا” صاروا له اخوة… كمن تغيروا بقيامة يسوع. لهذا كتب: “اذهبي إلى اخوتي وقولي لهم…” (يو ٢٠: ١٧).
ربما يُمكن أيضًا بنفس الطريقة التغيير من كون الشخص خادمًا ليسوع. كان التلاميذ قبلاً خدامًا قبل أن يكونوا أبناء صغارًا، كما هو واضح من الكلمات: “أنتم تدعوني معلمًا وسيدًا، وحسنًا تقولون لأني أنا كذلك” (يو ١٣:١٣). وأيضًا الكلمات: “ليس عبد أعظم من سيده” (يو ١٣: ١٦)، هذه التي سبقت الكلمات: “يا أولادي الصغار أنا معكم“.
لكن لتلاحظوا أن العبد أولاً يصير تلميذًا، وبعد ذلك ابنًا صغيرًا، فأخًا للمسيح ثم ابنا لله.
العلامة أوريجينوس
إنهم سيطلبونه، لكنه إذ يقضي ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ في قلب الأرض (مت ١٢: ٤٠) عندما ترحل نفسه إلى فردوس كقوله: “اليوم تكون معي في الفردوس” (لو ٢٣: ٣٤)، حيث يحمل الذين ماتوا على رجاء في الجحيم إلى الفردوس، أما التلاميذ فلا يقدرون أن ينطلقوا معه إلى فردوسه. إنهم لم يقدروا في ذلك الحين أن يتبعوه.
v لكي يحفظهم من التفكير بأن الله يمجده بطريقة بها لا يرتبط بهم في علاقات أرضية قال لهم: “يا أولادي، أنا معكم زمانًا قليلاً بعد” (٣٣). وكأنه يقول لهم: حقًا إنني سأتمجد بقيامتي، لكنني لا أصعد فورًا إلى السماء، بل “أنا معكم زمانًا قليلاً بعد“. وكما نجد في سفر أعمال الرسل أنه قضي ٤٠ يومًا معهم بعد قيامته يدخل ويخرج ويأكل ويشرب (أع ١: ٣)… لكنه لا يكون بعد معهم في شركة الضعف البشري.
القديس أغسطينوس
يرى القديس أغسطينوس أن هذا القليل الذي يبقى فيه معكم ثم يطلبونه ولا يقدرون أن يأتوا إليه، ربما يُقصد به الفترة من حديثه معهم حتى صلبه وموته وقيامته. هذا القليل الذي فيه يكون معهم في شركة الضعف البشري، ثم لا يعود يشترك معهم في هذا الضعف. أو ربما يقصد فترة الأربعين يومًا من قيامته حتى صعوده، حيث يكون معهم دون شركة الضعف البشري، إذ لا يعود بعد قابلاً للموت ثم يصعد حيث لا يكون معهم بعد جسديًا.
المحبة الأخوية ٣٤ – ٣٥.
“وصية جديدة أنا أعطيكم،
أن تحبوا بعضكم بعضًا،
كما أحببتكم أنا،
تحبون أنتم أيضًا بعضكم بعضًا”. (34)
إن وُجد بينهم يهوذا الجاحد لكن ليس الكل مثله، بل هم تلاميذ مخلصون. علامة تلمذتهم الحب المتبادل فيما بينهم. إنها وصية قديمة (١ يو ٢: ٧)، لكنها في المسيح صارت جديدة، إذ أعطاها أعماقًا أعظم، وإمكانيات للتنفيذ أقوى. تمتد ليحب الشخص حتى أعداءه ومقاوميه، مشتهيًا خلاص كل نفس. يوجد تعبيران في الإنجيل باليونانية لكلمة “جديدة” أحدهما يعني “حديثًا”، أما هنا فيحمل التعبير الانتعاش والتجديد fresh. فالوصية قديمة (لا ١٩: ١٨)، لكن الصليب قدمها لنا بأعماقٍ جديدةٍ، وهبنا انتعاشًا لإمكانية ممارستها بمفهومٍ جديدٍ.
وصية المحبة هي أغنية رائعة تملأ الكنيسة فرحًا وبهجة. وصية جديدة، وتبقى جديدة، يمارسها الكل حتى في السماء، لا تقدم ولا تشيخ (عب ٨: ١٣). يخبرنا العلامة ترتليان أن الوثنيين يقولون عن المسيحيين: “انظروا كيف يحب بعضهم بعضًا!” وجاء في تقرير فيلكسMinucius Felix تعليق كاسيليوس Caecilius الوثني عن المسيحيين: “يحبون الواحد الآخر، غالبًا قبل أن يعرف أحدهما الآخر”. هذه شهادة وثنيين مقاومين لإيمان المسيحيين ومهاجمين لهم. لوقيان الساموسطائي Lucian of Samosata الذي لم ينطق بكلمة صالحة في حق المسيحيين هاجمهم بأنهم أغبياء، لأنهم محبون بعضهم البعض، ويمكن لأي وثني أن يسيء استغلال هذا الحب، فيجمع منهم ثروات طائلة.
أشار الإنجيلي إلى أمرين جديدين، الوصية الجديدة هنا، والقبر الجديد الذي دُفن فيه السيد المسيح (١٩: ٤١). فبدخول هذه الوصية إلى أعماقنا تحول إنساننا الداخلي إلى قبر المسيح الجديد، الذي يستريح فيه السيد وترافقه ملائكته، ويشهد لقيامته المجيدة. الوصية الجديدة تحول قبرنا إلى سماء جديدة!
v كأنه قال لهم قد اضطربتم لذهابي عنكم، إلا أنه إن أحب بعضكم بعضًا ستكونون أقوى من الكل.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v إنها وصية جديدة، لأنه جردنا من القديم، وألبسنا الإنسان الجديد.
إنه بالحقيقة ليس أي نوع من الحب يقدر أن يجدد من يصغي إليه، أو بالأحرى يخضع بالطاعة لهذا الحب، إنما يتحدث عن الحب الذي يتميز عن العاطفة الجسدية إذ يضيف: “كما أحببتكم أنا” (٢٤)…
أعطانا المسيح وصية جديدة، أن نحب بعضنا البعض كما أحبنا هو.
هذا هو الحب الذي يجددنا، يجعل منا أناسًا جددًا، ورثة العهد الجديد، مسبحين بالتسبحة الجديدة.
v لنحب بعضنا بعضًا حتى بالاهتمام الشديد الذي لحبنا نكسب ما استطعنا بعضنا البعض، لكي يكون الله فينا. يُمنح هذا الحب لنا بواسطته… فإنه أحبنا بهذا الهدف أن نحب بعضنا البعض، واهبًا ذلك لنا بحبه لنا، فنرتبط بعضنا البعض في حب مشترك، ونتحد معًا كأعضاء برباط المسرة، ونصير جسدًا للرأس القدير هكذا.
v كأنه يقول: هباتي الأخرى يقتنيها معكم من هم ليسوا لي، ليس فقط الطبيعة والحياة والإدراك الحسي والتعقل والأمان الذي أهبه كنعمة للإنسان والحيوان، بل وأهبهم اللغات والأسرار والنبوة والمعرفة والإيمان والعطاء للفقراء، وتسليم أجسادهم حتى تحترق، ولكن بسبب نقص المحبة يصيرون كصنجٍ يرن، إنهم لا شيء ولا ينتفعون شيئًا (١ كو ١٣: ١-٣).
القديس أغسطينوس
“بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي،
إن كان لكم حب بعض لبعضٍ”. (35)
إن كانت الخطية تحدر النفس إلى طريق الظلم والموت فإن عمل السيد المسيح، الكلمة الإلهي المتجسد هو الإقامة من القبر، وتقديم المعرفة السماوية وتحقيق عجائب إلهية، فتحيا النفس في طريق الحق بالإيمان، وتنتقص من العار، وتتسع بالحب للَّه وخليقته السماوية وأيضًا الأرضية.
إنه يدخل بها إلى الطريق الضيق بقلبٍ متسعٍ، على عكس الخطية التي تدخل بها إلى الطريق الرحب المتسع بقلب ضيق. يقول المرتل: “في طريق وصاياك سعيت، عندما وسعت قلبي” (32).
v إن سألت: وما غرض السيد المسيح من قوله هذا؟ أجبتك: لأن هذا الحب أعظم من كل فضيلة، فهو الذي يجعل الناس قديسين، لأنه هو علة كل فضيلة.
فإن قلت: وما رأيك: هل المعجزات تظهر هذا الحب إظهارًا أليق وأوجب؟ أجبتك: لا تظهره بأية وسيلة، لأن السيد المسيح قال: “كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم يا رب يا رب أليس باسمك تنبأنا؟ وباسمك أخرجنا شياطين؟ وباسمك صنعنا قوات كثيرة؟ فحينئذ أصرح لهم: إني لم أعرفكم قط اذهبوا عني يا فاعلى الإثم” (مت 7: 22، 23).
وأيضًا لما فرح تلاميذه بأن الشياطين تخضع لهم قال: “ولكن لا تفرحوا بهذا أن الأرواح تخضع لكم، بل افرحوا بالأحرى أن أسماءكم كتبت في السماوات” (لو 10: 20) فإن كان فعل المعجزات اقتاد المسكونة إلى الإيمان، فإن الحب كان قبل هذا، فإن لم يكن الحب موجودًا لا يثبت عمل العجائب.
v يا لعظمة الحب! أقوي من النار ذاتها، يصعد إلى السماء عينها، لا يوجد من يعوقه.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v يليق بقلوبنا أن تتسع وتنفتح قدر الإمكان حتى لا تضيق عليهم في حدود الجبن الضيقة، وتمتلئ بطاقة الغضب الهادر، فنصير عاجزين عن نوال ما يدعوه النبي “الطريق الرحب” لوصية اللَّه في قلوبنا الضيقة، أو أن نقول مع النبي: “في طريق وصاياك سعيت عندما وسعت قلبي”.
الأب يوسف
v ما كان يمكنني أن أجري (في طريق وصاياك) لو لم توسع قلبي… أتستطيع أن تفعل ذلك بنفسك؟ يجيب: “لا أستطيع” إنه ليس خلال إرادتي الذاتية، كما لو كانت ليست في حاجة إلى معونتك، بل لأنك وسعت قلبي.
توسيع القلب هو بهجة ننالها في برٍ. هذه عطية اللَّه، أثرها أننا لا نتضايق من وصاياه خلال الخوف من العقوبة، بل يتسع القلب خلال الحب والبهجة التي لنا في البرّ.
القديس أغسطينوس
v الطريق الذي يؤدي إلى الحياة ضيق وكرب (مت 14:7)، وأما القلب الذي يطوف فيه بجولة حسنة، أي في طريق وصايا اللَّه، فمتسع ورحب بالكلمة الإلهية، وهو مقدس ويرى اللَّه. وعلى العكس الطريق “الواسع والرحب يقود إلى الهلاك” (مت 13:7). أما القلب (الذي يسلكه) فضيق، لا يقبل أن يقيم فيه منزلاً للآب والابن (يو 23:14)، بل يتجاهل اللَّه بسبب جهالته. هذا الإنسان يجعل قلبه ضيقًا بسبب قساوته.
لنتأمل أيضًا كيف يعلمنا سليمان أن نسجل الكلمات الإلهية على لوحي قلبنا (أم4:3؛ 3:7؛ 20:22)، معلنًا بأن “الحكمة تنادي في الخارج، في الشوارع تعطي صوتها” (أم 20:1). بقوله “الخارج” لا يقصد الحديث عن الشوارع بل عن القلوب، لكي يوسعها اللَّه…
العلامة أوريجينوس
v إن طريق وصايا اللَّه ضيقة، وأما قلب من يجري فيها فرحب ومتسع، لأنه مسكن الآب والابن والروح القدس، يسلكها جاريًا بقلب متسع… وأما طريق مساوئ الأشرار فمتسعة، وقلوبهم ضيقة، لأنه لا موضع للَّه فيها.
أنثيموس أسقف أورشليم
إنذار بطرس منكر المسيح 3٦ – ٣٨.
“قال له سمعان بطرس:
يا سيد إلى أين تذهب؟
أجابه يسوع:
حيث أذهب لا تقدر الآن أن تتبعني،
ولكنك ستتبعني أخيرًا”. (36)
سبق فقال السيد المسيح أنه حيث يذهب لا يقدرون أن يذهبوا (٣٣)، ومع هذا ففي جسارة سأله بطرس: “يا سيد إلى أين تذهب؟” دفعه حب استطلاعه إلى الدخول في حوارٍ كان في غنى عنه، لأنه انتهى بتأكيد أنه سينكر سيده ثلاث مرات، الأمر الذي لم يكن قط يقدر أن يقبله فكريًا. كان يليق به أن يخضع لكلمات السيد، ويفكر في وصية الحب عوض السؤال فيما لا يخصه.
مع هذه الجسارة أجابه الرب بصراحةٍ كاملةٍ بما يسنده ليرافقه طريق الألم وأن يموت معه وأن يشرب معه الكأس، لكن فيما بعد سينال هذه البركة. إنه لم يجبه على سؤاله بالطريقة التي أرادها بطرس الرسول، إذ كان يود أن يعرف موقعًا معينًا يذهب إليه السيد. لقد رافق سيده في رحلاته أثناء خدمته أينما ذهب ولم يكن يتوقع أنه يمكن أن يفارقه. لعل بطرس كان يظن أن السيد ذاهب إلى المجد الزمني أو السلطة الأرضية، لكن الرب أعلن له أنه الآن عاجز عن أن يرافقه في السماء، إذ لم يتمم بعد عمله على الأرض، ولا نضج لكي يرتفع معه في المجد الأبدي.
v إن الحب العظيم أشد من النار عينها، يصعدنا إلى السماء عينها، ولا يوجد مانع يقدر أن يضبط نهضته الشديدة، لأن بطرس الرسول الملتهب شوقه لما سمع السيد المسيح يقول: “حيث أذهب أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا” (23)، قال هنا: “يا سيد إلى أين تذهب؟” قال هذا القول لتوضيح حاله، ليس مريدًا أن يعرف إلى أين يمضي مثلما كان مشتهيًا أن يتبعه، وما اجترأ عاجلاً أن يقول ظاهرًا إنني أجئ معك.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v لقد أعلن تأجيل (إمكانية تبعيته) دون أن يفقده الرجاء. لم ينزع عنه هذا الرجاء، بل بالأحرى منحه إياه خلال كلماته التالية: “ولكنك ستتبعني أخيرًا” (٣٦). لماذا تتسرع هكذا يا بطرس؟ فإن الصخرة لم يجعلك راسخًا بعد بروحه. لا ترتفع بتشامخ، “لا تقدر الآن“. ولا تسقط في اليأس، “لكنك ستتبعني أخيرًا“.
القديس أغسطينوس
“قال له بطرس: يا سيد لماذا لا أقدر أن أتبعك؟
الآن إني أضع نفسي عنك”. (37)
ربما ظن بطرس أن السيد المسيح سيذهب في رحلة طويلة شاقة، وأنه لا يوجد ما يبرر عجزه عن مرافقته، لأنه مستعد أن يرافقه حتى إلى الموت. لكن مسكين بطرس، فإنه لا يعرف ضعفه وعجزه عن تبعية المسيح بدون النعمة الإلهية. لم يدرك أنه بدون المسيح لا يقدر أن يفعل شيئًا (يو ١٥: ٥).
v لما سمع بطرس الرسول قول السيد المسيح: “ولكنك ستتبعني أخيرًا” لم يضبط شوقه، لكنه أسرع فقال: “لماذا لا أقدر أن أتبعك الآن؟ إني أضع نفسى عنك“. وأنا أخاطب بطرس الرسول: ماذا تقول يا بطرس؟ قد قال السيد المسيح لك: “لا تقدر الآن أن تتبعني” أتقول أنت “لماذا لا أقدر أن أتبعك؟ ستعلم بالخبرة بعينها أن محبتك ليست شيئًا إذا لم تكن المعونة من الأعالي حاضرة معها.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v هذه التجربة هي درس لنا ألا نستهين بضعف الجسد لئلا نُجرب.
القديس أمبروسيوس
v لقد رأى الرغبة التي في ذهنه، لكنه لم يدرك قياس قوته.
افتخر الضعيف بعزيمته، أما الطبيب فعينُه على صحته. واحد وعد، والآخر سبق فعرف، الجاهل كان جسورًا، أما العارف بكل شيء فتنازل ليعلم.
يا لعظم ما تعهد به بطرس إذ تطلع فقط إلى شوقه دون أن يعلم إمكانياته.
القديس أغسطينوس
“أجابه يسوع:
أتضع نفسك عني؟
الحق الحق أقول لك، لا يصيح الديك حتى تنكرني ثلاث مرات”. (38)
v انظر إلى شدة سقوط بطرس الرسول، لأن ما أصابه هذا المصاب دفعة ودفعتين، لكنه في وقت قليل نطق لفظ الجحود ثلاث دفعات.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v يا من تظن في نفسك أنك قادر أن تموت من أجلي فلتتعلم أولاً أن تعيش لأجل نفسك، لأنه بخوفك من موت جسدك تعطي الفرصة لنفسك أن تموت. كما أن الاعتراف بالمسيح هو حياة، فإن إنكاره هو موت.
v من يتبرأ من المسيح كإنسانٍ، لا يجد مصالحة مع الله بالشفيع. فإنه يوجد إله واحد وشفيع واحد بين الله والناس الإنسان يسوع المسيح (١ تي ٢: ٥).
من ينكر المسيح كإنسان لا يتبرر، فإنه بعصيان إنسان واحد صار كثيرون خطاة، وهكذا بطاعة إنسان واحد يصير كثيرون أبرارًا (رو ٥: ١٩). من ينكر المسيح كإنسانٍ لا يقوم في قيامة الحياة، لأنه بإنسان دخل الموت، وبإنسان دخلت قيامة الأموات؛ فكما أنه في آدم يموت الجميع هكذا في المسيح يحيا الجميع (١ كو ١٥: ٢١-٢٢).
القديس أغسطينوس
من وحي يو ١٣
اسمح لي أن أتجاسر وأغسل أقدام اخوتي!
v فتح يهوذا الطمع قلبه، ليلقي الشيطان فيه بذاره.
مدّ يده للسرقة مرة ومرات فدخله العدو.
أما وقد أصرّ على خيانة سيده فملك العدو على القلب،
ودخل كصاحب سلطان ومالك بيت!
وجد مملكة الظلمة مُعدة لرئيس المملكة.
v اخترته تلميذًا، وسلمته الصندوق.
ووهبته صنع العجائب كسائر التلاميذ.
في حنوك لم تعلن عن اسمه، ولا شهَّرت به،
لعله يرجع عن شره.
بل وانحنيت لتغسل قدميه.
غمست اللقمة في الصحفة، ليأكل من يدك،
ولم يشك أحد فيه!
v بتواضعك مارست عمل العبيد.
خلعت ثيابك الخارجية، واتزرت بمنشفة.
لم تستنكف من صب الماء في المغسل بنفسك.
ولا تحرجت من غسل أقدام تلاميذك.
لقد بدأت تغسل أقدامهم المتسخة بالماء،
لكي تغسل قلوبنا وضمائرنا بدمك الطاهر.
من يجسر ويحتل مركزك يا غاسل أقدام البشرية.
v لأتجاسر وأشاركك حبك.
اسمح لي في حنوك أن أنال هذه الكرامة.
اسمح لي أن أغسل أقدام اخوتي المسيئين إليّ بفرحٍ وتهليلٍ!
قلبي بالحب يغسل كل تصرف يبدو شريرًا.
قلبي بروحك القدوس يتسع، ليضم الكل فيه.
قلبي يئن حتى يرى كل الأقدام طاهرة ومقدسة!
v طهرني بالكامل بالماء والروح الناري في مياه المعمودية.
متى أرى العالم كله طاهرًا ومقدسًا فيك؟
لتبقى يداك تغسل كل دنسٍ يومي فيّ!
لتغسل يا سيدي كل أقدام مؤمنيك!
v خرج يهوذا – صاحب القلب المظلم – ليلاً ليتمم أعمال الظلمة.
وبقي تلاميذك معك، يا أيها النور الحقيقي.
سألتهم الحب الحقيقي، مقتدين بك.
فلا يمكن للظلمة أن تقتحم قلبًا يسكنه الحب.
v اشتاق بطرس أن يتبعك أينما ذهبت،
ولم يدرك المسكين ضعف إمكانياته!
ظن أنه قادر أن يضع نفسه عنك،
ولم يدرك أنه لا يستطيع أن يبذل ما لم تبذل أنت أولاً حياتك عنه.
كشفت له ضعفه بكل وضوحٍ،
وملأت قلبه رجاءً عجيبًا.
أعلنت له أنه سيتبعك أخيرًا،
حين يُصلب أيضًا معك كل بقية حياته،
وحين يستشهد من أجل اسمك القدوس!
v أنت تعرفني يا مخلصي أكثر مما أعرف عن نفسي.
أنت سند لي،
تحقق كل شهوات قلبي!
لتمتد يدك يا رب وتغسل قلبي كل يومٍ.
فلا تقدر فخاخ الشيطان أن تحوط بي.
ولن يقدر العدو أن يملك في داخلي.
يداك تشرقان بالنور عليّ،
فلن تستطيع مملكة الظلمة أن تتسلل إلي داخلي.
تفسير يوحنا 12 | تفسير إنجيل القديس يوحنا القمص تادرس يعقوب ملطي |
تفسير يوحنا 14 |
تفسير العهد الجديد |