تفسير الإنجيل بحسب القديس لوقا أصحاح 14 للأنبا غريغوريوس
الفصل الرابع عشر
لو14: 1-6 شفاء المصاب بداء الاستسقاء :
وقد حدث أن دعا أحد رؤساء الفريسيين مخلصنا لتناول الطعام في بيته في يوم سبت. وقد كان أولئك الفريسيون لا يفتأون يحاولون بغير كلل وبكل ما في طاقتهم من جهد أن يستدرجوا مخلصنا إلى الفخاخ التي ينصبونها له، عساهم أن يمسكوا عليه خطأ في تطبيق الشريعة اليهودية أو مخالفة لأحكامها يستوجب الحكم عليه بالموت، ليتخلصوا منه ومن تأثيره العظيم العجيب في الشعب الذي كانوا يحتكرون لأنفسهم الرئاسة والتسلط عليه. بيد أن مخلصنا قبل دعوة ذلك الرجل على الرغم من علمه بريائه في تظاهره بتكريمه، وعلى الرغم من إدراكه كل الإدراك لخبيلة نفسه ونفوس كل شيعته. ومن ثم راح هؤلاء يراقبونه ليتصيدوا ذلك الاتهام الذي كانوا يتحفزون لإقتناصه من أي قول يقوله أو عمل يعمله، ولا سيما أنهم تعمدوا أن تكون هذه الدعوة له في يوم سبت، لأن أهم إتهام كانوا يوجهونه إليه أنه يصنع معجزاته في ذلك اليوم الذي نقضى شريعتهم بعدم القيام فيه بأى عمل، وكانوا هم يلزمون الناس بذلك في شكلية وحرفية مطلقة، بعيدة كل البعد عن روح : تلك الوصية المتعلقة بالسبت والحكمة الأساسية منها. وقد علم مخلصنا بما يدور في نفوس أولئك الفريسيين المنافقين بهذ الشأن. واتفق أن رأى عندئذ أمامه رجلا مصابا بداء خطير، هو داء الاستسقاء، ومن ثم أراد أن يحبط ما يدبرونه له من مكيدة . وأن يكشف لهم في الوقت نفسه عن سواد قلوبهم وجهلهم لروح شريعتهم وغباوتهم في تطبيقها. فالتفت إلى علماء الشريعة والفريسيين الموجودين في الحفل وخاطبهم قائلاً أيحل الإبراء في يوم السبت أم لا يحل؟ ، وقد خافوا أن يجيبوه عن تساؤله لأنهم كانوا يعرفون قوة حجته ويخافون من أن يفحمهم فيهزمهم أمام الحاضرين. كما أنهم كانوا لا يريدون أن يحرجهم هو، وإنما أن يحرجوه هم. ومن ثم صمتوا فأمسك مخلصنا الرجل المريض وأبرأه وصرفه، ثم قال لهم ليخجلهم ويخرسهم من منكم يسقط حماره أو ثوره في بدر فلا يسارع إلى إنتشاله في يوم السبت؟». فخجلوا وخرسوا بالفعل، ولم يستطيعوا أن يجيبوه عن هذا المنطق الصادق والحجة الدامغة. لأنهم إن كانوا لا يمتنعون في يوم السبت عن إنقاذ حيوان هدده ضرر أو خطر. فكم بالأحرى لا يجوز أن يمانعوا في ذلك اليوم في إنقاذ إنسان كان مرضه الخبيث الخطير يهدده بأشد أنواع الضرر والخطر.
لو14: 7-11 توبيخه لإختيار المتكآت الأولى :
وبعد أن وبخ مخلصنا أولئك الفريسيين وأدعياء العلم بالشريعة على ريائهم وغبائهم، أخذ يوبخهم على أنانيتهم وكبريائهم، شأن المعلم الصريح الصادق. الشجاع في الحق، الجرىء في مجابهة أعظم العظماء بما فيهم من شر وشراهة وصلف وغرور، لتعليمهم وتقويمهم، إذ لاحظ في تلك الوليمة أن كلا من المدعوين كان يتهافت على المقاعد الأمامية الأولى، مدعياً لنفسه الأفضلية على غيره، والأحقية دون سواه في التعظيم والتكريم، وقد سبق أن وصفهم قائلاً عنهم في إستياء إنهم يحبون المجالس الأولى في الولائم، والمقاعد الأولى في المجامع، والتحيات في الأن أسواق، وأن يدعوهم الناس: يا معلم يا معلم، (مت 23: 6 ، 7) . وويخهم في موضع آخر قائلاً لهم «الويل لكم أيها الفريسيون، لأنكم تحبون المقاعد الأولى في المجامع والتحيات في الأسواق، (لو 11: 43) ، ثم عاد هنا فصاغ توبيخه لهم في صورة نصيحة قائلا إذا دعاك أحد إلى وليمة عرس، فلا تجلس في المقعد الأول، لئلا يجيء من المدعوين من هو أكثر منك منزلة فيأتي الذي دعاك وإياه ، ويقول لك: أعط المكان لهذا، فتقوم عندئذ وأنت خجل وتأخذ المقعد الأخير، وإنما إذا دعيت فامض واجلس في المقعد الأخير، حتى إذا جاء الذي دعاك يقول لك: يا صدیقی قم اجلس في المكان الأعلى، فعندئذ تنال كرامة في أعين الجالسين معك. لأن كل من رفع نفسه اتضع، ومن تواضع ارتفع، . فكان هذا أبلغ درس في التنديد بالكبرياء والدعوة إلى التواضع لأنه لا يصح : كما أنه لا يستطيع إنسان أن يحكم على قدره ومكانته بين الناس بنفسه، وإنما فليترك للناس أنفسهم أن يحكموا بما له من قدر ومكانة لديهم. وإلا عرض نفسه للحرج والمهانة إذا تعاظم فجعل نفسه في المكان الأول، لأنهم قد يجـيـلـون هم ويضعونه في المكان الأخير، فينحط بذلك قدره وتنخفض مكانته. في حين أن الأحرى به والأكرم له أن يتواضع فيجعل نفسه في المكان الأخير، لأنهم قد يجيدون هم ويضعونه في المكان الأول، فيزداد بذلك قدره وترتفع مكانته . وهكذا الأمر بالنسبة للذي يتعاظم أمام الله، فإن الله يخفضه. وأما الذي يتواضع أمام الله فإنه يرفعه.
لو14: 12-14 دعوته للإحسان إلى الفقراء والضعفاء
وقد انتهز مخلصنا فرصة هذه الوليمة ليلقن الحاضرين فيها من عظماء اليهود وأثريائهم ووجهائهم درسا آخر لا يقل شأناً عن الدرس السابق الذي دعاهم فيه إلى التواضع، إذ لاحظ أن رئيس الفريسيين قد دعا إلى تلك الوليمة أصدقاءه وإخوانه وأقرباءه وجيرانه الأثرياء المترفين المترفهين. فقال «إذا أولمت وليمة غداء أو عشاء، فلا تدع أصدقاءك ولا إخوانك ولا أقرباءك ولا جيرانك الأثرياء، لئلا يدعوك هم أيضا، فتكون قد نلت منهم المكافأة . وإنما إذا أولمت وليمة فادع الفقراء والضعفاء والمقعدين والعميان، فتكون مغبوطاً لأنهم لا يملكون ما يكافئونك به، ومن ثم تنال مكافأتك عند قـيـامـة الأبرار، . وذلك أن أولئك القـوم وأمثالهم من ذوي الثروات الطائلة والمناصب الرفيعة في المجتمع قد درجوا على أن يدعو بعضهم بعضاً إلى ولائم فخمة فاخرة ، يقدمون لهم فيها أثمن ما يستطيعون من أطايب الطعام والشراب، وينفقون في ذلك الأموال الطائلة، لا لشيء إلا الرغبة في التفاخر والتظاهر بالمكانة العظيـمـة والجـاه العريض. وهم يتنافسون في ذلك، فلا يفتأ كل مدعو إلى إحدى تلك الولائم يقيم لمن دعاه إليها وليمة يجتهدأ أن تكون أفخم وأفخر منها، ليثبت أنه أعظم مكانة وأعرض جاهاً، وبذلك يكون قد نال مكافأته عن طعام أرضى بطعام أرضى مثله، فيظل فضله فضلا أرضيا مجرداً عن أي فضيلة ينال بها مكافأة في السماء. في حين أن كل من وهبه الله مالاً أو جاها في هذه الدنيا ينبغي أن يجعل من ذلك المال ومن ذلك الجاه وسيلة يدخر بها لنفسه في السماء المكافأة التي ينالها الأبرار عند قيامتهم في يوم الدينونة العظيم، وذلك بأن يتصدق مما وهبه الله من نعمة في الأرض على الفقراء الذين لا مال لهم، والضعفاء والمقعدين والعميان الذين يعجزون – بسبب ما يعانون من ضعف، أو مرض أو عاهة . عن اكتساب المال، لأنه بذلك، وإن كان لا يسترد في حياته على الأرض ما أنفق على هؤلاء البؤساء من مأكل أو مشرب، سينال في السماء ما هو أثمن من كل مأكل أو مشرب، بل ما هو أثمن من كل ما في الأرض من ثروات ومقتنيات ومشتهيات فانية زائلة، وهو النعيم في الحياة الأبدية الخالدة .
لو14: 25-35 شروط التلمذة الحقيقية :
وحدث أن كانت ت جموع عظيمة تسير مع معلمنا، وكان أغلبهم يريد أن يكونوا له تلاميذاً، إذ سحرهم بتعاليمه، وبهرهم بمعجزاته. كما أن بعضهم خدعه الفهم الخاطئ الذي كان يسود اليهود لرسالة المسيح الذي ينتظرونه، إذ توهموا أنه سيقيم مملكة أرضية، ومن ثم راودت ذلك البعض الآمال الكاذبة بأنهم إن تتلمذوا له فستكون لهم المناصب العليـا في تلك المملكة . ولذلك أراد مخلصنا أن يوضح لهم الشروط التي ينبغي أن تتوافر في تلاميذه، ويصحح فهمهم لرسالته، وللآثار التي تترتب على تلمذتهم له، إذ إلتفت وقال لهم من يأتى إلى ولا يبغض أباه وأمه وزوجته وأبناءه وإخوته وأخواته، ونفسه أيضاً، لا يستطيع أن يكون لي تلميذاً، ومن لا يحمل صليبه ويتبعني لا يستطيع أن يكون لي تلميذاً، ، أي أنه على الذي يريد أن يتبع مخلصنا ويصبح تلميذاً له، أن يجعل محبته له مقدمة على محبته لأبيه وأمه وغيرهم من أقرب الناس إليه، بحيث إذا ازدادت محبته لهؤلاء عن محبته لمخلصنا حتى شغلته عنه، لا يستطيع أن يصبح تلميذاً. وإذا تعارضت محبته لهم عن محبته لمخلصنا حتى حالت بينه وبين معلمه لا يستطيع أن يصبح له تلميذاً. وإذا منعته محبته لهؤلاء عن الاعتراف بمحبته لمخلصنا لا يستطيع أن يصبح له تلميذاً، وليس معنى ذلك بطبيعة الحال أن يبغض أباه وأمه وأقرب الناس إليه، لأن من التعاليم الأساسية لمخلصنا أن يحب الإنسان حتى أعداءه، فكم بالأحرى أحباءه وأقرباءه، ولكن معناه أنه مهما كانت محبة الإنسان لهؤلاء شديدة وقوية وعميقة، فلتكن محبته لمخلصنا أشد وأقوى وأعمق، لأن صلته بهولاء على أي حال صلة جسدية موقوتة بحياته على الأرض. وأما صلته بمخلصنا فهي صلة روحية خالدة في السماء. بل إن على الذي يريد أن يتبع مخلصنا ويصبح تلميذاً له أن يبغض حتى نفسه، مع أن من طبيعة الإنسان أن يحب نفسه أكثر من كل شيء ومن كل شخص سواه . ولكن إن زادت محبته هذه لنفسه عن محبته لمخلصنا أو تعارضت معها أو حالت بينه وبين مخلصنا، فلينتزع هذه المحبة لنفسه من نفسه، مهما كانت عزيزة عليه وأثيرة لديه، وليوجهها كلها إلى محبة مخلصنا، وليحتمل في سبيل ذلك كل ما لابد أن يؤدى إليـه ذلك من ضـيـقـات وإضطهادات، وإهانات وإزدراءات، ومصاعب ومـصـائب، وأوجاع وتعذيبات، ولو بلغت حد الموت في أشنع صوره بشاعة وأفظع أساليبه عاراً، لأنه بذلك يحمل الصليب الذي حمله مخلصنا نفسه وهو في طريق الآلام إلى الموضع الذي بذل فيه دمه فداء عن البشر.
وقد أوضح مخلصنا بذلك للذين كانوا يسيرون معه ويريدون أن يتبعوه ويتتلمذوا له، الثمن الغالي الذي يقتضيهم ذلك أن يدفعوه ، والطريق الشائك الشاق الذي عليهم أن يقطعوه – إن كانوا صادقين في رغبتهم ومصممين على عزمهم – لكي لا يسيروا معه مخدوعين بأمال كاذبة، أو يتبعوه مدفوعين بأوهام زائفة، أو بعواطف عابرة سرعان ما تتبين لهم حقيقتها فيتم منعون ويـتـراجـعـون مـخـذولين فاشلين، مدحورين مقهورين، فلا ينالهم إلا الهزء ولا تلحق بهم إلا السخرية ـ إذ قال لهم مخلصنا “فمن منكم إذا أراد أن يبني برجا، لا يجلس أولا ويحسب النفقة وهل يملك ما يكفي لإتمامه، لئلا يضع الأساس ثم لا يقدر أن يكمل، فيأخذ كل الذين أبصروا ذلك يسخرون منه قائلين: إن هذا الرجل قد شرع يبني ولم يقدر أن يكمل. أو أي ملك ذهب ليحارب ملكاً آخر، ألا يجلس أولا ويشاور نفسه فيما إذا كان يستطيع بعشرة آلاف أن يلاقي ذلك الذي يأتي إليه بعشرين ألفاً؟ وإلا فإنه مادام هذا بعـيـداً يرسل سفراء عنه ويسعى في طلب الصلح ؟ هكذا فإن أيا منكم لا ينبذ كل ما يملك لا يمكنه أن يكون لي تلميذا، لأنه كما أن الذي يعتزم أن يقيم بناء ينبغي أن يجلس أولاً و ويحسب ما سيكلفه هذا البناء من نفقة، وإلا بدأ في البناء ثم يعجز عن إتمام ما بدأ فلم ينل إلا سخرية الناس. هكذا الذي يريد أن يتبع مخلصنا فليفكر جيداً فيما يقتضيه ذلك منه، وإلا بدا في حياة الإيمان ثم عجز عن المضى فيما بدأ فيجلب على نفسه السخرية أيضاً. وكما أن الملك الذي يعتزم شن الحرب على ملك آخر يجلس كذلك ليفكر، وإذ يجد أنه لا يستطيع مواجهة خصمه بعدد من الجنود أقل من عدد جنوده ، يسعى إلى الصلح معه، وإلا أتاح له أن يهزمه. هكذا الذي يريد أن يتبع مخلصنا فليفكر جيداً فيما إذا كان يملك من قوة الإرادة وصدق العزيمة وعمق الإيمان ما يؤهله لذلك وإلا لم ينل إلا الهزيمة هو أيضاً. وهكذا فليعلم كل العلم أولئك الذين يتطلعون لأن يتبعوا مخلصنا ويطمعون في أن يكونوا تلاميذه أن ذلك يتطلب منهم أن ينبذوا كل ما يملكون في هذا العالم من ممتلكات، ويتخلوا عن كل ما يتعلق به من إهتمامات، وينذروا أنفسهم لخدمة مخلصنا نذراً كاملاً، فلا يملكون إلا محبته، ولا يهتمون لا بأن يدخلوا ملكوته السماوي .
وأما ذلك الإنسان الذي يتبع مخلصنا على هذه الشروط، ويصبح صالحاً ومفيداً للناس، كما أن الملح الصالح مفيد للتربة، فينبغي أن يستمر في طريقه التي اختارها بمحض إرادته، فلا يتضعضع أو يتزعزع أو يتراجع أو يرتد، لأنه كما أن الملح الذي فقد ملوحته ففسد لا يمكن إعادة ملوحته إليه، ومن ثم لا يعود ذا فائدة للتربة ولا صالحاً للسماد، فيطرحه الناس بعيداً كشيء يضر ولا ينفع، هكذا الإنسان الذي فقد إيمانه بمخلصنا وإرتد عنه، فقصد بذلك، لا يمكن بعد ذلك إصلاحه، ومن ثم لا يعود ذا فائدة لنفسه ولا لغيره من الناس، فيطرحه الله خارج ملكوته، بإعتباره إنساناً شريراً لا خير فيه. وهذا ما عناه مخلصنا إذ قال بعد ذلك الذين كانوا يسيرون معه إن الملح جيد، ولكن إذا فسد الملح فأي شيء يرده ملحاً من جديد ؟ إنه لا يعود يصلح للتربة ولا للسماد، فيطرحه الناس خارجاً.
ثم ختم مخلصنا تعليمه بتلك العبارة التي كثيراً ما كان يختم بها تعاليمه، إذ قال من له أذنان للسمع فليسمع، ، أي أن الله قد وهب الإنسان أذنين ليسمع بهما ويستفيد في حياته بهذه الموهبة الغالية، فليفعل ذلك أولئك الذين كانوا يسمعون حينذاك تعاليم مخلصنا، وليستفيدوا بما سمعوا، لا أن يفعلوا كما قال حزقيال النبي عن اليهود وهو يندد بهم إنهم الهم آذان ليسمعوا ولا يسمعون، لأنهم بيت متمرده (حز 12: 2).