تفسير الإنجيل بحسب القديس لوقا أصحاح 20 للأنبا غريغوريوس

الفصل العشرون

لو20: 1-8 بأي سلطان تفعل هذا:

وإذ كان ربنا يسوع المسيح في أحد الأيام القليلة الباقية على صلبه يعلم الشعب في الهيكل ويبشر بالإنجيل، اشتد الخيط برؤساء الكهنة والكتبة والشيوخ من أعضاء مجلس السنهدريم، وقد بلغ حلقهم ذروته، فجمعوا شعلهم واتجهوا إليه في تحفز وتهجم واستفزاز، وخاطبوه قائلين وقل لنا بأي سلطان تفعل هذا؟ أم من الذي أعطاك هذا السلطان؟.. وقد كانوا يعلمون كل العلم وحق العلم بأي سلطان يفعل ما يفعله. وكانوا يعلمون كل العلم وحق العلم من الذي أعطاه هذا السلطان، إذ كان واضحاً وضوح الشمس في وقت الظهيرة من تعاليم الرب فادينا التي كان ينادي بها ومن معجزاته التي كان يصنعها، ومن الموعد الذي ظهر فيه، ومن كل الظروف التي أحاطت بحياته على الأرض، أن هذا هو المسيح ابن الله الذي تنبأ كل أنبيائهم بمجيله، وبموعد مجيله، وبما سيقول وبما سيفعل، وبكل صفاته وكل تصرفاته وكل حقائق حياته بين الناس، ودقائق تلك الحياة، مما لا يدع مجالاً لأى شك أو محلا لأى سؤال. ولكن أولئك الكهنة والكتبة والشيوخ كانوا قد أغمضوا أعينهم لكي لا يروا، و وصموا آذانهم لكي لا يسمعوا، وأغلقوا قلوبهم وعقولهم لكي لا تعلم أو تفهم أو تدرك أن هذا هو المسيح الحقيقي، لأنهم كانوا يعلمون ويفهمون ويدركون أنه سيفضح ما تزخر به نفوسهم من شر ومكر ورياء وكبرياء، ومن ثم سيقضى على مكانتهم التي أخذوها بغير إستحقاق، ويحرمهم كل ما كانوا يستأثرون به من مناصب دنيوية، ومن مكاسب مادية، وما كانوا يتمتعون به ويحرصون عليه من ملذات جسدية وشهوات بهيمية، ومن نفوذ وسيطرة وسلطان ووجاهة وجـاه وهيلمـان. ولذلك أنكروه وأصروا على إنكاره ، وتتكروا له واستمروا في تنكرهم، بل استنكارهم لكل ما قال وكل ما فعل، محرضين عامة الشعب على أن يشايعوهم ويتابعوهم في أفكارهم وتنكرهم واستنكارهم. ولذلك لم يشأ مخلصنا أن يجيبهم عن سؤالهم الذي كان يعرف أنهم يعلمون إجابته، وإن تظاهروا بأنهم يجهلونها ويفهمون الحقيقة بشأنها وإن تغافلوا عنها وهم في أعماق نفوسهم لا يغفلونها. فلا جدوى وهذه حقيقة حالهم من الإجابة عن سؤالهم، ولا سيما أنهم لم يوجهوه إلى الرب يسوع إلا وهم يضمرون له الشر، آملين أن تكون في إجابته عنه ما يعتبرونه تهمة يتهمونه بها ويقتلونه بسببها. وقد علم له المجد بما يضمرونه ويدبرونه فلم يجبهم عن ذلك السؤال إجابة مباشرة، وإنما وجه هو إليهم سؤالاً لو أنهم أجابوه عنه لكان في ذلك إجابة عن سؤالهم . ولكنه كان واثقاً من أنهم لن يجرؤوا على الإجابة عنه، وبذلك يتفادي الفخ الذي نصبوه له، فيجعلهم يقعون فيه هم أنفسهم، ومن ثم يفضح رياءهم ويكشف عن فجورهم، ويرد كيدهم إلى نحورهم، إذ أجاب وقال لهم ، وأنا كذلك أسألكم قولاً واحداً فأجـيـبـوني: أكانت معمودية يوحنا من السماء أم من الناس؟.. ويوحنا هنا هو يوحنا المعمدان الذي وضح للناس جميعاً من سيرته وتعليمه ـ أنه نبي من عند الله، وقد أتى ليعمد الناس مبشراً إياهم ومنذراً لهم باقتراب ملكوت السماء، ولكن رؤساء الكهنة والكتبة وشيوخ اليهود، بسبب شرهم فعلوا معه ما فعلوه مع فادينا نفسه، إذ أنكروا أنه نبي من عند الله، وأن معموديته لیست من الأرض وإنما من السماء، حسداً له أيضاً وحقداً عليه، وخوفاً على أنفسهم من إلتقاف الشعب حوله. ومن ثم فإنهم حين سمعوا سؤال الرب إياهم عما إذا كانت معمودية يوحدا من السماء أم من الناس، تداولوا فيما بينهم قائلين إذا قلنا من السماء يقول لنا فلماذا إذن لم تؤمنوا به؟ وإذا قلنا من الناس يرجعنا الشعب كله، لأنهم كانوا يؤمنون بأن يوحنا نبيه ، ثم أجابوا في تخاذل واستخذاء بأنهم لا يعلمون من أين كانت. فقال لهم فادينا ولا أنا أقول لكم بأى سلطان أفعل هذاه ، مبرهنا لهم من إمتناعهم عن الإجابة عن سؤاله أنهم قوم فاسقون منافقون، يعلمون الحق وينكرونه، ويفهمون الحقيقة ويمارون فيها، فهم لا يستحقون منه إجابة عن سؤال يسألونه في لؤم وخبث ورياء، بل لا يستحقون منه إلا الإستنكار والإزدراء .

لو20: 9-19 مثل الكرم والكرامين :

بيد أن الرب يسوع المسيح وإن كان قد رفض أن يجيب رؤساء الكهنة والكتبة وشيوخ اليهود عن سؤالهم الذي لم يكونوا في حاجة إلى الإجابة عنه، ! لأنهم يعرفونها، ولأنهم ما وجهوه إليه إلا عن مكر وشر، أراد أن يفضح مكرهم وشرهم، ويوضح للشعب حقيقة حالهم ونتيجة أعمالهم، فأخذ يخاطبهم بهذا المثل قائلاً وغرس رجل كرما وسلمه إلى كرامين، ورحل زماناً طويلاً. وفي أوان الثمر أرسل إلى الكرامين خادماً ليعطوه من ثمر الكرم، ولكن الكرامين ضربوه وصرفوه فارغ اليدين. فعاد وأرسل خادماً آخر فضربوه أيضاً وأهانوه وصرفوه فارغ اليدين. ثم عاد فأرسل ثالثاً، فطرحوا هذا أيضاً في الخارج جريحاً، ومن ثم قال رب الكرم: ماذا أفعل؟ أرسل ابنى الحبيب لعلهم إذا رأوه يهابونه. ولكن الكرامين حين رأوه تأمروا فيما بينهم قائلين: هوذا الوارث، هلم نقتله فيصير الميراث لنا. ومن ثم طرحوه خارج الكرم وقتلوه ، فماذا يفعل رب الكرم؟ إنه يأتي فيهلك أولئك الكرامين ويعطى الكرم لآخرين.. وواضح أن ربنا يرمز بالرجل الذي غرس كرماً وسلمه إلى كرامين، إلى الله الآبب الذي غرس مبادئ شريعته في الأرض وسلمها إلى اليهود الذين أعلن لهم تلك الشريعة وكلفهم برعايتها كما يرعى الكرامون أشجار الكرم ويداومون العمل فيه حتى يأنى بأكبر قدر من الثمر وأجوده ثم تركهم الزمن الكافي لأن تثمر أشجار الكرم، حتى أن أوان الثمر، فأرسل الله الآب إلى اليهود نبياً يرمز إليه ذلك الخادم الذي أرسله رب الكرم، ليعطوه ما يرمز إليه الأمر من فضائل أثمرتها الشريعة في قلوب اليهود، ولكن اليهود كانوا ـ وقد أهملوا الشريعة . قد عاشوا في الأرض فساداً، وبدلاً من أن يتخذوها ترية لرعاية تلك الشريعة ومراعاتها والحصول على أكبر وأجود الفضائل منها، اتخذوها مرتعا للشرور والآثام والفـجـور وعـبـادة الأسلام، ومن ثم حين جـاء النبي الذي أرسله الله إليهم مضربوه واضطهدوه وطردوه ، فعاد إلى الله فارغ اليدين من أي ثمر أثمرته الشريعة في الأرض نتيجة لإهمال الكرامين ونذالتهم وخيانتهم للأمانة التي إئتمنهم الله عليها، بيد أن الله بسبب رحمته وطول أناته منح اليهود فرصة أخرى عساهم أن يتوبوا إلى رشدهم ويتوبوا عن شرهم. ثم عاد فأرسل إليهم نبياً آخر ليحصل منهم على ما لم يحصل عليه النبي الأول، ولكنهم ضربوا هذا أيضاً وأهانوه واضطهدوه وطردوه فعاد فارغ اليدين كذلك. بيد أن الله أجزل لهم مزيداً من رحمته، وبذل لهم مزيداً من طول أناته، فمنحهم فرصة أخرى، ثم عاد فأرسل إليهم نبياً ثالثاً، ولكنهم هذه المرة لم يضربوه أو يهينوه فحسب، وإنما أصابوه بجراح من فرط قسوتهم عليه، ولم يطردوه فحسب، وإنما طرحوه وهو مثخن بجراحه خارج أرضهم. وهكذا كانوا كلما أرسل الله إليهم نبياً من أنبيائه إزدادوا إيذاء له واعتداء عليه وعنفاً في طردهم له ونبذهم إياه ، ومع : فإن الله الذي ليس لرحمته نهاية، ولا لطول أناته حد، لم يشأ أن يترك سبيلا إلا إنتهجه لتقويم إعوجاج اليهود، وتقديم كل عون لهم لينتزع الشر والرذيلة من قلوبهم، ويستحثهم للعمل على الإنتفاع بشريعته، والإستمتاع بثمرتها، ليجنوا منها الصلاح بدلاً من الشر، والفضائل بدلاً من الرذائل، وإذ لم يتمكن أنبياؤه من ذلك على مـدى أزمان طويلة، قرر الله آخر الأمر أن يرسل إليهم ابنه الحبيب ذاته، الذي هو واحد معه، والذي هو من ذات جوهره ، والذي هو كلمته، ومن ثم فهو قادر على أن يكلمهم بكلمة الله، أ ، لعلهم إذا رأوه يهابونه ويرهبونه، متأثرين بجلاله الذي هو جلال الله ذاته، وبهيبته التي هي هيبة الله ذاته، وبقدرته التي هي قدرة الله ذاته، ولكن اليـهـود كـان قـد بلغ بهم الشـر والضـلال مـا أعـمى أبصارهم وبصائرهم، وطمس أفكارهم ومشاعرهم، وأظلم عقولهم وقلوبهم. وقد تحكم الشيطان فيهم حتى لقد دفع بهم لأن يتبعوه في ذات الطريق التي سلكها هو من قبل، إذ تمرد على الله، فتمردوا هم أيضاً عليه تعالى ولم يعودوا يهابونه أو يهابون ابله، ولم يعودوا يرهبونه أو يرهبون ابنه، ولم يعودوا يطيعونه أو يطيعون ابنه ، ولم يعودوا يستمعون إليه أو إلى كلمته. ومن ثم فإنهم حين جاء إليهم فادينا ابن الله وكلمته ، لم يهابوه أو يرهبوه أو يطيعوه أو يستمعوا إلى كلمته، وإنما على العكس تأمروا ضده قائلين فيما بينهم إن هذا هو وارث الكرم الذي يرمز إلى مملكة الله وملكوته، فيقتلوه ليستولوا لأنفسهم على الكرم الذي ظنوه مملكة أرضية لا ملكوتا سـمـاوياً، فيظلوا هـم مـالكـيـه ومـلـوكـه، وحـاكـمـيـه والمتحكمين فيه، والمنتفعين به والمستمتعين بما فيه من مناصب أرضية، ومكاسب دنيوية، وملذات جسدية. وشهوات بهيمية. ومن ثم أمسكوا ابن الله وطرحوه خارج الكرم الذي يرمز هنا بالتخصيص إلى مدينة أورشليم، وقتلوه خارج أسوارها. فماذا . أن يكون جزاؤهم على هذه الجريمة الشنيعة البشعة التي ارتكبوها ؟. هذا هو التساؤل الذي طرحه الرب يسوع في المثل الذي ضربه لكي يرتب عليه النتيجة الطبيعية التي لابد أن تترتب عليه، إذ قال فماذا يفعل بهم رب الكرم؟.. ثم أجاب قائلاً إنه يأتى فيهلك أولئك الكرامين ويعطى الكرم لآخرين،، أي أن الهلاك هو الحكم الذي استحقه أولئك الذين فعلوا ذلك من اليهود، ومن ثم سيهلكهم الله، ويعطى شريعته لشعب آخر غير الشعب اليهودي، ويعطى مسئولية الكرم لوكلاء آخرين، ليكونوا هم الكرامين في كرمه، والخادمين لشريعته، والأمناء على كنيسته، وهؤلاء هم تلاميذ المسيح الإثنا عشر ورسله السبعون، ومن يقيمونهم من بعدهم خلفاء عنهم ووكلاء أسرار الله في الأرض.

قلما سمع رؤساء الكهنة والكتبة وشيوخ اليهود هذا المثل الذي ضربه ربنا ومعلمنا، أدركوا أنه إنما يعنيهم بهذا المثل، فقالوا في فزع (معاذ الله، أي انعوذ بالله مما تقول،، ولكنه أكد لهم معنى هذا المثل ومغزاه ومرماه، والنتيجة التي رتبها عليه، مستشهداً في ذلك بما جاء في نبوءات أنبيائهم هم أنفسهم، المكتوبة في كتبهم إذ نظر إليهم وقال فما هو ذلك المكتوب: إن الحجر الذي نبذه البناؤون هو الذي أصبح رأس الزاوية، وكل من سقمل على هذا الحجر تهشم. أما من سقط هو عليه فإنه يسحقه»، مشيراً بذلك إلى ما جاء في نبوءات المزامير إذ تقول إن الحجر الذي رفضه البناؤون قد صار رأس الزاوية، (مز 117: 22). أي أن السيد المسيح الذي رفضه اليهود أصبح هو حجر الأساس في بناء كنيسة العهد الجديد، وهو الصخرة التي تقوم عليها هذه الكنيسة، التي هي ملكوت الله على الأرض وفي السماء. ومشيراً بذلك كذلك إلى ما جاء في نبوءات دانيال النبي وهو يفسر للملك نبوخذ نصر، ملك بابل حلما رأى فيه تمثالاً ضخماً من ذهب وفضة ونحاس وحديد وخزف، يمثل ممالك العهد القديم، ثم رأى حجراً يسقط على هذا التمثال فيحطمه، إذ قال دانيال للملك ، كنت تنظر إلى أن قطع حجر بغير يدين، فضرب التمثال على قدميه اللتين من حديد وخزف فسحقها، فانسحق حينئذ الحديد والخزف والنحاس والفضة والذهب معاً، وصارت كعاصفة البيدر في الصيف، فحملتها الريح فلم يوجد لها مكان . أما الحجر الذي ضرب التمثال فصار جبلا كبيرا وملأ الأرض كلها، (دا 2: 31-35). وقد كان هذا الحجر الذي حطم ممالك العهد القديم ثم ظل يتعاظم حتى ملأ الأرض كلها، رمزاً للسيد المسيح الذي هو حجر الأساس في كنيسة العهد الجديد. وقد قرر له المجد أن كل من سقط على هذا الحجر، أي لم يؤمن بالسيد المسيح يهلك. وأما كل من عاداه وعانده عن عمد وفي إصرار، فإن غضب السيد المسيح ينقض عليه إنقضاض ذلك الحجر فيسحقه سحقاً، ومن ثم يكون هلاكه أشنع وأبشع. وقد كان هذا هو ما فعله رؤساء كهنة اليهود وكتبتهم وشيوخهم إذ عادوا الرب يسوع وعاندوه، متعمدين ذلك تعمداً ومصرين عليه إصراراً، ومن ثم تأكدوا أنه قال هذا المثل عليهم، وعندئذ هموا بأن يقبضوا عليه في تلك الساعة ليقتلوه، ولكنهم خافوا من الشعب الذي كان في ذلك الحين ملتفة حوله، متعلقاً به، تواقاً لأن يستمع إليه، ويتمتع بكلمات النعمة التي تخرج من بين شفتيه

لو20: 20-26 اعطوا ما لقيصر لقيصر:

بيد أن زعماء اليهود ـ وقد طالما لفحمهم بحجته القوية، وأحبط مكايدهم ضده بحكمته التي تفوق كل حكمة بشرية ـ لم يملوا أو يتخلوا عن مؤامراتهم للتخلص منه بكل حيلة ووسيلة. ومن ثم راحوا يلاحقونه ويراقبونه ويتجسسون عليه، حتى تفتق تفكيرهم الخبيث الماكر وتدبيرهم الشرير الغادر عن مكيدة جديدة كانت تنطوي في الواقع على فكرة شيطانية يتجسم فيها كل خيثهم ومكرهم، وشرهم وغدرهم. إذ أرسلوا إليه جواسيس يتظاهرون بأنهم أبرار، مدعين البراءة وحسن النية وسلامة الطوية والرغبة الصادقة في الاستئناس برأيه والانتفاع بتعليمه، في موضوع جاءوا يعرضونه عليه، وكأنهم مختلفون فيما بينهم بشأنه. غير أنهم كانوا في الحقيقة يعمرون أن يصطادوه بكلمة في إجابته تثير ضده الوالي الروماني صاحب السلطان الأعلى في البلاد، فيقتله بموجب سلطانه، بعد أن أخفقوا هم في الحكم عليه بموجب شريعتهم، فقد سأل أولئك الجواسيس الرب يسوع قائلين يا معلم، نحن نعلم أنك بالإستقامة تتكلم وتعلم، ولا تحابي وجـه إنسان، وإنما تعلم طريق الله بالحق. أيحل لنا أن نعملى جزية لفيسر أم لا يحل ؟ . وقد خاطبوه بذلك اللقب الجليل قائلين ، يا معلم، كما كان يخاطبه تلاميذه والمؤمنون به، ولم يكن اليهود يطلقون هذا اللقب إلا على أكبر علمائهم وفقائهم وأصحاب المكانة فيهم، وعلى الرغم من أن فادينا هو حقا المعلم الأول، بل الأوحد، فإن أولئك الجواسيس اللؤماء لقبوه به، لا إجلالاً حقيقياً له، وإنما عن نفاق وخبث وتملق مقصود، متوهمين أنهم بذلك سيكسبون رضاه عنهم. وإطمئنانه إليهم. . كما أنه على الرغم من أنه بالحقيقة كان بالإستقامة يتكلم ويعلم ولا يحابي وجه إنسان. وإنما يعلم طريق الله بالحق، فإنهم قالوا له ذلك، لا تقديراً حقيقياً له، وإنما تماديا في ظنهم بأنهم بذلك المديح سيتملقونه ويخدعونه عن سوء قصدهم وحيث تدبيرهم. وبالفعل فإنهم لم يلبثوا أن نصبوا له فخاً ذا وجهين، حتى إذا نجا من أحدهما وقع في الآخر، فيتمكنوا على الحالين من إصطياده والإيقاع به في حبائل مكيدتهم، إذ سألوه عما إذا كان يجوز لليهود أن يؤدوا الجزية لقيصر الرومان الذين كانوا يحتلون بلادهم. فإذا أجاب بأنه يجوز ذلك أغضبوا عليه اليهود الذين كانوا يكرهون الرومان، ويتطلعون إلى التحرر من عبوديتهم، ومن ثم ينفض من حوله حتى الذين آمنوا بأنه هو المسيح الذي ينتظرونه، لأن اليهود كانوا يعتقدون أن المسيح لن يجيء إلا ليحررهم من العبودية ويجعلهم سادة العالم كله، وبذلك تتاح الفرصة لزعماء اليهود . وقد أثاروا الشعب ضده ـ أن يقتلوه بغير خوف من ذلك الشعب الذي يحبه ويلتف حوله ویریده ملكاً عليه . وأما إذا أجاب مخلصنا بأنه لا يجوز أن يؤدي اليهود الجزية لقيصر الرومان،، أغضب ذلك عليه الرومان وعلى رأسهم قيصرهم، فاعتبروه متمرداً على سلطتهم، وقتلوه كما قتلوا كل من فعل ذلك من قبله . وبذلك يتحقق لزعماء اليهود ما تصبو إليه نفوسهم وينصب عليه كل تفكيرهم وتدبيرهم، وتهدف إليه كل مؤامراتهم ومكايدهم، بيد أن مخلصنا فطن لخبثهم، لأنه كان كما جاء عنه في إنجيل القديس يوحنا يعرف الجميع، ولأنه لم يكن محتاجاً أن يشهد أحد عن الإنسان لأنه علم ما كان في الإنسان، (يو 2: 24 و25) ، فقال الرب يسوع لأوللك اللكام المخادعين المتآمرين الماكرين ولماذا تجربونني؟ أروني ديناراه ، فأروه ، فقال لهم لمن هذه الصورة التي عليه وهذه الكتابة ؟، . فأجابوا وقالوا إنهما لقيصر ، فقال لهم وأعطوا إذن ما لقيصر لقيصر وما لله لله،، ومن ثم فضح رياءهم وأحبط مكيدتهم، بمنطقه الساطع الوضوح، الواضح البساطة ، ذلك. لأن اليهود إن كانوا قد ارتضوا أن يتعاملوا فيما بينهم بالعملة الرومانية التي تحمل صورة قيصر الرومان على أحد وجهيها، وتحمل أسمه على الوجه الآخر، فإن هذا في ذاته يتضمن رضاءهم بسلطان قيصر الرومان عليهم. وإن كانوا قد ارتضوا سلطان قیصر الرومان عليهم كشعب خاضع له، فقد ارتضوا تبعا لذلك أن يدفعوا الجزية التي يفرضها كل حاكم على الشعوب الخاضعة له. فليعطوا إذن ما لقيصر لقيصر من جزية هم مدينون له بها بمحض رضاءهم. بيد أن خضوعهم لقيصر الذي هو صاحب السلطان عليهم في حياتهم الدنيوية والمادية، وإعطائهم إياه ما له عليهم من حق دنيوي مادي، لا ينبغي أن يحول بينهم وبين خضوعهم لله الذي هو صاحب السلطان عليهم في حياتهم الدينية والروحية، وإعطائهم إياه ما له عليهم من حق ديني روحي، وذلك بعبادته والولاء له والعمل بوصاياه ، فلئن كـان قيصر هو الذي يملك السلطان على الجسد والجسديات، فإن الله هو الذي يملك وحـده السلطان على الروح والروحيات.

وبهـذه الإجابة التي تتضمن الصـدق والحكمة معاً، لم يغضب فادينا اليهود عليه، كما أنه لم يغضب الرومان، إذ أعطى كل ذي حق حقه . فلم يستطع أعداؤه أن يأخذوا عليه كلمة أمام الشعب، وتعجبوا من إجابته السليمة السديدة، التي أفحمتهم وألجمتهم، فخجلوا وخرسوا، وأغلقوا أفواههم وصمتوا .

 ثم إن إجابة الرب يسوع على اليهود قد أرست مبدأ أساسياً في فصل الدين عن الدولة، وعدم الخلط بين السلطة الدينية والسلطة الزمنية، إذ قال «أعطوا إذن ما لقيصر لقيصر، وما لله لله .. هذا المبدأ هو الذي يميز رسالة كنيسة المسيح في العهد الجديد. إنها رسالة روحية خالصة، ولا تقحم نفسها في أمور زمنية ومادية عابرة، إذ أن رسالتها عبر الزمان والمكان، هي رسالة الخلاص لكل إنسان في كل زمان ومكان . وإنطلاقاً من هذا المبدأ فإن قادة الدين المسيحي لا يدعون لذواتهم سلطاناً زمنياً، بل يحترمون الحكومات الشرعية القائمة، ولها عليهم وعلى شعبهم الولاء والخضوع، وعلى رجـال الدولة من المسيحيين ألا يقـحـمـوا أنفسهم في الشئون الدينية الروحية، بل يتركوها لرجال الدين، لأنها من صميم إختصاصاتهم، ويحترموا الشريعة المسيحية وقوانينها ورجالها، ولا يتجاوزوا حدود إختصاصاتهم وسلطاتهم الزمنية إلى السلطة الروحية.

لو20: 27-40 ليس الله إله أموات وإنما إله أحياء:

وإذ أخفق أعداء مخلصنا من الفريسيين والكتبة في مكايدهم المتكررة ضده ليصطادوا منه كلمة تدينه أمام فقهاء الشريعة اليهودية، يتهمونه فيها بمخالفة شريعتهم، أو تدينه أمام السلطات الرومانية، ينهمونه فيها بالتمرد على الرومان، فيقضى أولئك أو هؤلاء عليه، تصدت له طائفة أخرى من طوائف اليهود الدينية، وهي طائفة الصدوقيين التي كانت تضم رؤساء كهنة، والتي اشتقت أسمها من اسم صادوق سليل فنحاس الذي مارس الكهنوت حين إنتهى نسل أولاد هارون الذين كانت تنحصر فيهم رئاسة الكهنوت، والتي كانت بينها وبين الفريسيين خصومة دائمة. إذ كان الصدوقيون لا يعترفون إلا بأسفار موسى الخمسة ويرفضون غيرها من الأسفار، في حين كان الفريسيون يؤمنون بجميع تلك الأسفار التي كتبها النبي موسى ومن جاء بعده من الأنبياء اللاحقين، فضلا عن أنهم كانوا يتمسكون بتقاليد الآباء وتعليقاتهم على الشريعة، ويعدونها في حكم الشريعة، بل يعدونها فوق الشريعة. وكان الصندوقيون متهاونين ومتساهلين حتى في تطبيق الأحكام المكتوبة للشريعة، فكانوا قوماً ماديين دنيويين لا يؤمنون بالقيامة ولا بالأرواح ولا بالملائكة، ومن ثم أقبلوا على الدنيا، يحيون فيها حياة التنعم والرفاهية، متكالبين على جمع المال بكل الوسائل والأساليب، حتى أثروا ثراء فاحشاً، وحتى تحالفوا مع المستعمرين الرومان مد شعبهم اليهودي ليعاونوهم في الاحتفاظ بوظائفهم الكهنوتية العليا التي كانوا يستغلونها في جمع المال من الشعب، في حين كان الفريسيون يتظاهرون بالتزمت في الصلاح والتقوي، وفي مقاومة السلطة الرومانية. بيد أن الصدوقيين على الرغم من تلك الخصومة التي كانت قائمة بينهم وبين الفريسيين، إنضموا إليهم في عدائهم لمخلصنا وتدبير المكايد له للتخلص منه، لأن تعاليمه كانت تهدد أولئك وهؤلاء على السواء فيما لهم على الشعب من نفوذ وسلطان، ومن ثم جاء إليـه قوم من الصدوقيين، ليتـهـكـمـوا على تعليـمـه بصدد القيامة التي كانوا ينكرونها، وليصطادوا هم أيضاً منه كلمة يدينونه بها ويهلكونه بسببها، وتقدموا إليه قائلين ، يا معلم قد كتب لنا موسى أنه إن مات رجل متزوج بغير ولد فليأخذ أخوه زوجته لتقيم نسلاً لأخيه. وقد كان ثمة سبعة إخوة، فتزوج الأول ثم مات بغير ولد، فتزوجها الثاني، ثم مات بغير ولد فتزوجها الثالث – وهكذا السبعة، ولم يخلفوا نسلاً وماتوا. ثم آخر الكل ماتت الزوجة أيضاً. ففي القيامة لمن منهم تكون زوجة، لأن السبعة قد تزوجوها، . وقد ظن الصدوقيون بهذا الافتراض السخيف الذي ساقوه إلى الرب يسوع أنهم سيريكونه، لأنه إن كانت ثمة قيامة بالمعنى الذي فهموه ، متوهمين أن القيامة في الحياة الأخرى تتلوها حياة شبيهة بالحياة على الأرض وتكون إستمراراً لها، فإن تلك المرأة التي تزوجت سبعة إخوة في حياتها على الأرض سيتعذر في الحياة بعد القيامة أن يختص بها واحد منهم، كما سيتعذر أن تكون لهم جميعاً، ومن ثم يكون هذا دليلا في نظرهم على أن القول بالقيامة بعد الموت أمر غير ممكن أو معقول وقد برهنوا بذلك على أنهم لم يكونوا ينكرون القيامة إلا لأنهم لم يكونوا يفهمون معناها على وجهها الصحيح، مع أنها كانت أحد الأسس التي تقوم عليها شريعتهم ذاتها. ومن ثم صحح لهم مخلصنا هذا الفهم للقيامة قائلا لهم إن أبناء هذا الدهر يتزوجون ويتزوجن. أما الذين استحقوا أن ينعموا بالشهر الآتي وبالقيامة من الأمـوات، فلا الرجال يتزوجون، ولا النساء يتزوجن. ذلك أنهم لا يمكن أن يموتوا ثانية، لأنهم مساوون للملائكة، وهم أبناء الله، لكونهم أبناء القيامة. أما أن الموتى يقومون فقد دل عليه موسى في كلامه عن العليقة، إذ يقول إن الرب هو إنه إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب، فالله ليس إنه أموات وإنما إله أحياء، لأن الجميع لديه أحياء . أي أن الحياة على الأرض بالجسد الأرضي تنتهى بالموت في أجل محدود، وقد اقتضى ذلك وجوب التزاوج بين الرجال والنساء ليتوالدوا فيجيلوا برجال ونساء آخرين بدلاً من الذين ماتوا حتى تستمر بهم الحياة على الأرض إلى اليوم الذي عينه الله لنهاية هذه الحياة الأرضية. ولما كانت الأرواح تنفصل بالموت عن الأجساد. ثم لما كانت الأرواح ذات طبيعة تختلف عن طبيعة الأجساد فإنها بعد الموت لا تتوالد . ومن ثم لا يغدو الزواج بينها ممكناً، ولا تغدو له في التدبير الإلهي ضرورة، لأن أرواح الذين ماتوا لا تموت ثانية في العالم الآخر، فلا يعود ثمة موجب للاستعاضة عنها، وإنما تظل هناك إلى يوم القيامة الذي يقوم فيه جميع الذين ماتوا، ولكن أجسادهم التي يقومون بها تختلف في طبيعتها عن الأجساد الأرضية، لأنها تغدو أجساداً سماوية . وكذلك الذين يكونون أحياء على الأرض في ذلك اليوم تتحول أجسادهم الأرضية إلى أجساد ذات طبيعة أخرى غير أرضية. وفي ذلك اليوم يقف الجـمـيـع أمـام الديان لـيـؤدوا حـسـاباً عن حـيـاتهم التي عـاشـوها على الأرض بأجسادهم الأرضية، وعندئذ يفرز الديان بين الأبرار والأشرار، فأما الأبرار الذين يستحقون أن ينعموا بالحياة الأبدية في فردوس النعيم، فإنهم يصبحون مساوين للملائكة، ولما كان الملائكة بطبيعتهم أرواحاً لا يموتون، ومن ثم لا يتزوجون، هكذا يكون الأبرار بطبيعتهم الروحانية لا يموتون، ومن ثم لا يتزوجون، وقد استحقوا أن يكونوا أبناء الله، وتكون قيامتهم مشابهة القيامة المسيح ابن الله، وأما الأشرار فإنهم لا يستحقون بمقتضى العدل الإلهي إلا الهلاك . فهناك إذن مرحلتان لأرواح البشر بعد موتهم، إحداهما مرحلة يكونون فيها أرواحاً في إنتظار يوم القيامة الذي هو يوم الدينونة، والثانية هي المرحلة التي تجيء بعد ذلك اليـوم الذي فـيـه يفرز الديان بين الأبرار والأشرار، فيحيا فيها الأبرار حياة أبدية بإعتبارهم أبناء الله. وأما الأشرار فيهلكون بإعتبارهم أبناء الهلاك. بيد أنه في المرحلتين لا يكون ثمة مساواة بين حياة البشر في الجسد على الأرض قبل الموت، وحياتهم بعد أن تفترق بالموت أرواحهم التي تبقى، عن أجسادهم للتي تفني. فلا الرجال يتزوجون في المرحلتين ولا النساء يتزوجن، ويبرهن ذلك على ضلال الصدوقيين في إعتقادهم أن الحياة تنتهى بالموت، وقد أعطاهم فادينا دليلا على ذلك من أسفارهم المقدسة ذاتها التي يؤمنون بها.. ولم يأت لهم إلا بما جاء في أحـد أسفار موسى الخمسة، إذ جاء في سفر الخروج أن موسى نبيهم حين كان يرعى الغنم في صحراء سيناء وظهر له ملاك الرب بلهيب نار من وسط عليقة، وأنه ناداه من وسط الطليقة .. ثم قال أنا إنه أبيك، إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب، (خر 3: 2-6) . ولما كان الله لا يمكن أن ينسب نفسه إلى أموات وإنما إلى أحياء، دل ذلك على أن إبراهيم وإسحق ويعقوب كانوا حين كلم الله موسى أحياء في العالم الآخر، ولم تنته حياتهم بموتهم، ولذلك قال الله إنه في الحاضر إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب، ولم يقل إنه كان في الماضي إنه إبراهيم وإنه إسحق وإله يعقوب، ومن ثم فأولئك جميعاً أحياء لديه، لأن الجميع أحياء لديه . وهذا دليل على أن هناك حياة أخرى بعد الموت تواصل فيها الأرواح حياتها بعد إنفصالها عن أجسادها. وهذا بالتالي دليل على أن ثمة أرواحا في العالم الآخر على نقيض ما كان الصدوقيون يزعمون، إذ ينكرون وجود الأرواح ويذكرون وجود العالم الآخر، مخالفين بذلك الإنكار حتى ما ورد صراحة في أسفارهم المقدسة، وهم رؤساء الكهنة الذين كان المفروض أن يكونوا هم أعلم الناس بما ورد في تلك الأسـفـار، وأجـدر الناس بتعليم الناس إياها. وهكذا أفحم فادينا الصدوقيين بتلك البراهين الساطعة التي ساقها إليهم، حتى أن قوماً من الكتبة الذين كانوا من أشد أعدائه لم يسعهم – إذ كانوا يؤمنون بالقيامة والحياة الأخرى – إلا أن يبدوا تأييدهم له وإستحسانهم لما قاله، قائلين يا معلم حسناً قلت، . ومنذ ذلك الحين لم يجرؤ أحد من زعماء اليهود على أن يسأله عن شيء، بقصد إحراجـه أو إستدراجه إلى ما يعتبرونه خطأ يلومونه عليه في حق شريعتهم، ويتخذونه ذريعة للتخلص منه.

لو20: 41-47 السيد المسيح هو ابن داود وربه :

بيد أن ربنا يسوع المسيح وإن كان بعض الكتـبة قد أيدوه وإستحسنوا ما قاله للصدوقيين خصومهم حين برهن لهم على ضلالهم إذ ينكرون القيامة التي كان الكتبة يؤمنون بها ـ قد أراد له المجد ألا يتخدع تلاميذه بتأييد الكتبة المعلمهم وإستحسانهم لتعليمه بشأن القيامة، فيظنون فيهم الصلاح والمعلم بالشريعة فينساقون لتعاليمهم. ومن ثم فإنه لكي يفضح فساد الكتبة وجهلهم بالشريعة التي يدعون العلم بها وجه إليهم هذا السؤال قائلاً «كيف تقولون إن المسيح هو ابن داود، في حين أن داود نفسه يقول في سفر المزامير: قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك تحت قدميك، فداود يدعوه ريه، فكيف يكون أبنه ؟. . ونعلم من إنجيل القديس متى أنهم عجزوا عن الإجابة عن هذا السؤال وسكتوا (مت 22: 46). وبذلك برهنوا على جهلهم المطبق بما ورد في أسفارهم المقدسة التي تتضمن شريعتهم ومزاميرهم ونبوءات أنبياءهم، والتي تتضمن الإجابة الواضحة كل الوضوح عن ذلك السؤال الذي وجهه الرب يسوع إليهم، وهي أن المسيح هو ابن داود بناسوته، لأنه من جهة الجسد كإنسان سيولد من نسله، وأما بلاهوته فهو رب داود وإلهه، لأنه ابن الله الآب الذي هو في نفس الوقت رب داود وإلهـه. لذلك قال داود بروح النبوة قال الرب لربى أجلس عن يميني، أي قال الرب الآب الذي هو ربي، للرب الابن الذي هو ربی، اجلس عن يميني.. ولكـن الكـتـبة ومعهم الفريسيون وأمـثـالـهم مـن فقهاء اليهود كانوا لا يفهمون ما جاء في شريعتهم إلا فهماً سطحياً دنيويا يبعد كل البعد عن إدراك ما تتضمنه من المعاني العميقة السماوية، فراحوا يرددون كالببغاوات فيما بينهم وعلى مسامع الشعب أن المسيح هو ابن داود فحسب، وأنه لن يجيء إلا ليعيد لهم مجد مملكة داود الأرضية، ليحققوا بها مطامعهم في السيطرة والسلطان والسيادة على كل بنى الإنسان، وما يتضمنه ذلك من منافع مادية يتطلعون إليها، ويسعون بكل حيلة روسيلة إلى تحقيقها والإستمتاع بها إستمتاعاً جسدياً أرضياً بعيداً كل البعد في معناه عن أي معنى روحى أو سماوى. وإذ أوضح السيد المسيح جهل الكتبة على هذا الوجه الواضح الفاضح لشريعتهم، حذر تلاميذه منهم على مسمع من كل الشعب قائلاً لهم «أحذروا من الكتـبة الذين يشتهون المشي بالحثل الضـافـيـة، ويحـبـون التـحـيـات في الأسواق، والمجالس العليا في المجامع، والمقاعد الأولى في الولائم. أولئك الذين يأكلون بيوت الأرامل بزعم أنهم يطيلون صلواتهم لذلك سينالون دينونة أعظم، . فقد كان الكتبة والفريسيون وأمثالهم من الفقهاء والعلماء الدينيين. لشغفهم بمظاهر العظمة والكرامة الدنيوية، وكبريائهم، وإشـتـهـائهم التعظيم والتكريم من الناس، يرتدون أفـخـر الأردية وأفـخـمـهـا، والحلل الضـافـيـة الفضفاضة، والعمائم الكبيرة ذات الطلبات الكثيرة، ليتميزوا بها عن سائر الفقهاء والبسطاء، فيخدعونهم بذلك ويدفعونهم إلى الوقوف لهم والإنحناء بين أيديهم، وإلقاء تحيات الإجلال والإكبار إليهم، وهم يتهادون في الطرقات والأسواق بينهم، متبخترين منتفخى الأوداج في خيلاء وإستعلاء، ويستأثرون بالمجالس العليا في صدر المجامع، والمقاعد الأولى المخصصة في الولائم للعظماء والكبراء. كما أنهم لجشعهم وطمعهم وتكالبهم على جمع المال الحرام ولو من الأرامل والأيتام، يتظاهرون بالورع والتقوى والتزمت في شئون الدين، فيميلون صلواتهم على مرأى من الناس ليخدعوهم بذلك ويدفعوهم إلى الثقة فيهم والإطمئنان إليهم وإنتمائهم على ما لديهم من حطام الدنيا، فبدلاً من أن يحافظوا عليه لهم، ويستثمروه نيابة عنهم، يسلبونه منهم ويحتفظون به لأنفسهم بأساليب الغش والاعيب الصيارف والمرابين. وبدلاً من أن يعيدوه إليهم مع ربحـه، يودعونه في جيوبهم، ويأكلونه في بطونهم، مبرهنين بذلك على لوم تفكيرهم، وخبث شعورهم، وموت ضميرهم. ولما كانوا هم رجال الدين الذين هم أعلم الناس بوصايا الدين، وهم الأمناء على الشريعة الذين هم أدرى الناس بأحكام الشريعة، ينالون لدي العدالة الإلهية دينونة أعظم من سائر الناس الجاهلين بالدين غير العارفين بالشريعة، الذين إن ارتكبوا الخطأ فقد يكون لهم بعض العذر في إقتراف خطيئتهم، فيخفف ذلك لدي الرحمة الإلهية من دينونتهم. وأما هم فلا عذر لهم في خطئهم أو خطيئتهم، فهم من ثم لا يستحقون أي رحمة، وإنما تحق عليهم الدينونة كاملة وعادلة .

زر الذهاب إلى الأعلى