تفسير الإنجيل بحسب القديس لوقا أصحاح 22 للأنبا غريغوريوس
الفصل الثاني والعشرون
لو22: 1-2 تأمر رؤساء اليهود على المسيح ليقتلوه :
ولم يلبث أن اقترب موعد عيد الفطير، المسمى الفصح، والفصح لفظ عبرى معناه العبور. وقد سمى العيد بهذا الاسم لأنه تقرر تذكاراً لعبور الملاك المهلك، عن أبواب البيوت الملطخة عتباتها العليا وقائمتاها بالدم (الخروج 12: 22- 27) ثم عـبـور اليهود البـحـر الأحمر أثناء خروجهم من مصر (الخروج 14 : 15- 22و29). وسمى كذلك بعيد الفطير لأنهم أكلوا خبزهم ليلة الخروج قبل أن يختمر، أي أكلوه فطيراً. وكانوا أثناء الاحتفال بهذا العيد يأكلون فطيراً كذلك. وكانت الاحتفالات بهذا العيد تستمر سبعة أيام، وتبدأ من اليوم الخامس عشر من الشهر الأول من شهور السنة العبرية وهو شهر أبيب، الذي أصبحوا يسمونه بعد السبى نيسان. وكان ذلك اليوم هو الذي خرج اليهود فيه من مصر، وتنتهي في مساء اليوم الحادي والعشرين من الشهر المذكور. وكان اليهود يقيمون في أول أيام هذا العيد محفلاً مقدساً يمتنعون فيه عن العمل، وفي آخر أيامه محفلاً مقدساً يمتنعون فيه عن العمل كذلك. وكانوا طوال السبعة الأيام يأكلون فطيراً بدلاً من الخبز المختمر، ويمارسون الطقوس المقررة لذلك العيد إبتداء من عشية اليوم السابق عليه، وكانوا يسمونه يوم الاستعداد، وهو اليوم الرابع عشر من شهر أبيب أو نيسان، وهو الذي نسميه اليوم أبريل. وكان أول هذه الطقوس وأهمها أن تذبح كل عائلة يهودية في عشية يوم الاستعداد خروفاً، وتلطخ بدمه قائمتي باب البيت وعتبته العليا، وتشويه بأكمله دون أن تكسر عظمة منه، ثم تأكل لحمه داخل البيت مع الفطير وبعض الأعشاب المرة، وما بقى منه إلى الصباح تحرقه بالنار. ويرمز ذلك إلى الخروف الذي ذبحته كل عائلة يهودية ليلة خروج اليهود من مصر وأطخت بدمائه قائمتي باب بيتها وعتبته العليا. حتى إذا أهلك ملاك الله في تلك الليلة أبكار المصريين تجاوز بيوت اليهود الملطخة بالدماء قلم يهلك أبكارهم، وكان اليهود يأكلون لحم ذلك الخروف ليلة الفصح في عجلة، وأحقاؤهم مشدودة، وأحذيتهم في أرجلهم، وعصيهم في أيديهم، كما فعلوا ليلة خروجهم من مصر، وكان ذبح ذلك الخروف هو محور طقوس ذلك العيد كلها، حتى لقد أصبحوا يسمون الخروف نفسه بالفصح. ويرمز دم الخروف إلى الغداء والخلاص الذي أنعم الله به على اليهود في تلك الليلة, وترمز الأعشاب المرة إلى ما كان اليهود يلقونه من عبودية في مصر، وأما الفطير فكان المقصود به تذكير اليهود بعبوديتهم في مصر وطردهم منها، إذ جاء في سفر الخروج ، فحمل الشعب عجينهم قبل أن يختمر ومعاجلهم مصرورة في ثيابهم على أكتافهم. وخبزوا العجين الذي أخرجوه من مصر خبز ملة فطيراً، إذ لم يختمر، لأنـهـم طـردوا مـن مـصـر مـصـر ولـم يـقـدروا أن يـتـأخـرواء فـلـم يـصـنـعـوا لأنـفـسـهم زاداً. (خر 12: 24-39) . كما يرمز الفطير إلى طهارة القلب التي يريد الله من المؤمنين به أن يكونوا متصفين بها، مبتعدين عن الفساد الذي يرمز إليه الخمير. وقد إهتمت الشريعة اليهودية إهتماماً كبيراً بعيد الفصح وشرحت طقوسه شرحاً دقيقاً مفصلاً كي يلتزمها اليهود إلتزاماً كاملاً، إذ جاء في سفر الخروج «كلم الرب موسى وهارون في أرض مـصـر قائلاً: هـذا الشهر (الذي خرج فيه اليهود من مصر) يكون لكم رأس الشهور. هو لكم أول شهور السنة. كما كلم جماعة إسرائيل قائلاً: في العاشر من هذا الشهر يأخذون لهم كل واحد شاة بحسب بيوت الآباء. شأة للبيت .. تكون لكم شاة صحيحة ذكراً ابن سنة، تأخذونه من الخرفان أو من الماعز، ويكون عندكم تحت الحفظ إلى اليوم الرابع عشر من هذا الشهر. ثم يذبحه كل جمهور جماعة إسرائيل في العشية. ويأخذون من الدم ويجعلونه على القائمتين، مشوياً بالنار مع فطير، على أعشاب مرة يأكلونه. لا تأكلوا منه نيئاً أو طبيخاً مطبوخاً بالماء بل مشوياً بالنار. رأسه مع أكـارعه وجوفه، ولا تبقوا منه إلى الصباح، والباقي منه في الصباح تحـرقـونه بالنار، وهكذا تأكلونه، أحقاؤكم مشدودة، وأحذيتكم في أرجلكم، وعصيكم في أيديكم، وتأكلونه بعجلة، هو فصح الرب.. ويكون لكم هذا اليوم تذكاراً تعيدونه عيداً للرب. في أجيالكم تعيدونه فريضة أبدية، سبعة أيام تأكلون فطيراً. اليوم الأول تعزلون الخمير في بيوتكم. فإن كل من أكل خميراً في اليوم الأول إلى اليوم السابع تقطع تلك النفس من إسرائيل، ويكون لكم في اليوم الأول محفل مقدس. وفي اليوم السابع محفل مقدس. لا يعمل فيهما عمل ما إلا ما تأكله كل نفس فذلك وحده يعمل منكم.. في بيت واحد يؤكل.. لا تخرج من اللحم من البيت إلى الخارج. وعظماً لا تكسروا منه . كل جماعة إسرائيل يصنعونه، (خر 12: 1-47). وجاء في سفر التثنية ولا يحل لك أن تذبح الفصح في أحد أبوابك التي يعطيك الرب إلهك، بل في المكان الذي يختاره الرب إلهك ليحل اسمه فيه. هناك تذبح الفصح مساء نحو غروب الشمس في ميعاد خروجك من مصر، (التثنية 1:16 – 6). هكذا نرى أن الشريعة كانت تقضي أولاً بأن تذبح كل عائلة خروف الفصح في بيتها. ثم قضت بعد ذلك بأن يكون ذلك في المكان الذي يختاره الرب، أي في خيمة الاجتماع، أو في هيكل أورشليم بعد إقامة ذلك الهيكل. غير أن اليهود ظلوا، ولا سيما في نهاية عهد أمتهم – يذبحون الفصح في بيوتهم. وقد غيروا بعض الطقوس التي نصت عليها الشريعة، فأصبـحـوا يأكلونه متكئين لا واقفين (مت 26: 17 – 20) ؛ (مر 14: 12-19) ۱ (لو 22: 7 – 14) ؛ (يو 13: 1 و 12). فكان رب البيت يأخذ كأس خـمـر يمزجها بقليل من الماء ويقول فليكن الرب مباركاً الذي أبدع ثمر الكرمة، ثم يأخذ منها رشفة، وهكذا يفعل مثله كل أهل البيت.
وكانوا يسمون هذه الكأس كأس المرارة رمزاً لما ذاقه الإسرائيليون من مرارة العبودية قبل أن يعبروا إلى أرض فلسطين. حتى إذا فرغوا من ذلك جاءوا بطست من الماء فيغسلون أيديهم وينشفونها بالمنشفة، وذلك إشارة إلى عبور الإسرائيليين البحر الأحمر، ثم يضعون على المائدة خروف الفصح مـشـوياً وعلى جوانبه الأعشاب المرة والفطير والمرق المصنوع من البلح واللوز والزبيب والتين والخل والقرفة وغيرها من الأفاويه، يسمونه الشاروسیٹ، ، ثم يغرس رب البيت بعض الأعشاب المرة في صحـفة من الشاروسيت ويأكلها، وهو يبارك الرب علي خيراته، ثم يوزع منها على الجميع . وبعد ذلك يتناول كأساً أخرى من الخمر يسمونها كأس الفرح . ثم يتجه أصغر الموجودين سنا إلى رب البيت ويسأله عن معنى الفصح، فيشرحه له كما ورد في الشريعة، مبيناً له أن الأعشاب المرة ترمز إلى مرارة العبودية التي عانوها في مصر، مر، وأما المرق فيرمز بلونه إلى طين فيثوم ورعمسيس المدينتين اللتين أجبر فرعون مصر الإسرائيليين على بنائهما بالقهر والقسر، وأما الصحفة بشكلها وطولها فتشير إلى اللبن الذين كانوا يصنعونه ويستعملونه في البناء. ثم يترنمون بصلاة يسمونها والتهليل، ، وكانت تتضمن المزمورين 113 و114، ثم يشرب رب البيت كأساً ثالثة من الخمر يسمونها كأس البركة، يتلوها بصلاة وترتيل قاتلين وليس لنا يارب، ليس لنا ولكن لاسمك أعط مجداه . ثم يكسر رب البيت الفطير ويباركه ويوزعه على أهل البيت، فيأكل كل منهم كسرة منه بعد أن يغمسها في صحفة الأعشاب المرة، ثم يتناول رب البيت خروف الفصح ويوزع منه على الجميع بحيث لا يبقى منه شيء. ثم يشرب كأساً رابعة يسمونها كأس التهليل، ثم يترنم الجميع بباقي صلاة التهليل، وكانت تتضمن المزامير من 115 إلى 118، وبذلك ينتهى الحفل. وكان اليهود في أواخر عهد أمتهم قبل خراب أورشليم يحتفلون بهذا العيد إحتفالاً صاخباً زاخرا بالرقص والغناء والموسيقى، حيث يحتشد مئات الألوف منهم في هيكل أورشليم من جميع أنحاء العالم المعروف في ذلك الحين. وقد كانت ذبيحة الفصح بكل طقوسها التي وردت في الشريعة، رمزا لفادينا الحبيب الرب يسوع المسيح الذي كان مقرراً في التدبير الإلهي أن يقدم نفسه ذبيحة على السليب لخلاص البشر وفداء عنهم، بنفس الطريقة المقررة لذبيحة الفصيح وفي نفس الموعد وفي نفس المكان وعلى مقتضى كل التفصيلات المرسومة لتلك الذبيحة، خطوة خطوة ، ومرحلة : بعد مرحلة، كما سيتبين لنا فيما يلى مما وقع من أحـداث سبقت تقديم فادينا الحبيب نفسه ذبيحة على الصليب، أو صاحبت ذلك، أو جاءت بعده .
وقد كان رؤساء الكهنة والكتبة قد ملأهم الغيظ من ربنا يسوع، واستبد بهم الحقد عليه بسبب إلتفاف الشعب حوله وتعلقهم بالإستماع إلى تعليمه وهو لا يفنأ كل يوم من الأيام السابقة على العيد يعظ في الهيكل فيفتن القلوب بحديثه الرقيق، ويخلب الألباب بمنطقه العميق، وحكمته السماوية السامية. فكان أولئك الأعداء لا ينقطعون عن التشاور والتآمر فيما بينهم، باحثين عن الوسيلة التي يقتلونه بها بعيداً عن أعين ذلك الشعب الذي كانوا خائفين من ثورته عليهم وفتكه بهم . لو أنهم تعرضوا علانية لمعلمه الذي يحبه، وزعيمـه الروحي الذي ينضوي تحت لوائه، متطلعاً لأن يكون هو الملك الموعود به لينقذه من ربقة الرومان أعدائه الألداء، ويعيد إليه مملكة داود، على مقتضى فهمه لنبوءات الأنبياء.
لو22: 3-6 يهوذا الإسخريوطي يخون معلمه :
وقد كان الذي حدث بعد ذلك لا يمكن أن يخطر على بال أعداء فادينا ، بل لا يمكن أن يخطر على خيال أحد من أعدائه أو أحبائه على السواء. إذ فيما كان رؤساء الكهنة وقواد الجند يتباحثون معاً فيما يمكن أن يفعلوه ليقبضوا على المخلص في الخفاء بعيداً عن أعين الرقباء تقدم إليهم واحد من أقرب الناس إليه، والصـفـهم به، لأنه كان واحداً من تلاميذه الإثنى عـشـر الذين اصطفاهم دون الناس جميعاً ليكونوا هم صفوة خلصائه والصف الأول من مريديه، وأسبغ عليهم عطفه وحنانه، وعنايته ورعايته، وخصهم بما يخص به الوالد أبناءه من حب وحدب، وما يخسر به المعلم تلاميذه من تعليم وتقويم، وأشركـهـم مـعـه في أخص خصوصيات حياته، بإعتبارهم أسرته، ينامون ويصحون معه حيث ينام ويصحو، ويأكلون ويشربون معه مما يأكل ويشرب، ويصلون معه حين يصلى، ويصومون معه حين يصوم، ويفرحون معاً ويحزنون معاً، ويقيمون معاً ويرحلون معاً، ويقتسمون معاً سراء الحياة وضراءها، شأن أحب الأحباء، وأصدق الأصدقاء، وأخص الأخصاء، ذلك خانه بغير سبب على الإطلاق، ومضى يتحدث . أولئك الرؤساء والقواد من أعدائه بشأن الوسيلة التي بها يسلمه إليهم ليقتلوه ، وكان ذلك هو يهوذا الملقب بالإسخريوطي، وقد دخل الشيطان قلبه في لحظة من لحظات الحـقـد الأسود والغـيـرة القاتلة، مبرهنا بذلك على ما يمكن أن ينطوي عليه قلب الإنسان من شر حتى نحو أولئك الذين يقدمون إليه كل الخير، ومن كراهية حتى نحو أولئك الذي يكنون له كل الحب، ومن غدر حتى نحو أولئك الذين يضمرون له كل الوفاء، ومبرهنا بذلك كذلك على أنه بين أقدس القديسين وأبر الأبرار يمكن أن يظهر أخطر الخاطئين وأشر الأشرار. وقد تحققت بهذه الخيانة الشنيعة البشعة تبوعة داود النبي حين صرخ في ألم ومرارة بلسان السيد المسيح قائلاً «رجل سلامتي الذي وثقت به، آکل خبزی رفع على عقبه، (المزمور ٩:٤١). وقد فرح أعداء فادينا بهذا الخائن الذي لم يكن ليخطر لهم على بال، بل لم يكن ليخطر لهم على خيال، وقد ساقه إليهم الشيطان حليفه في مؤامرتهم ضد عدوه وعدوهم، ومن ثم اتفقوا معه على أن يعطوه مبلغاً من النقود الفضية، يذكر لنا الإنجيل للقديس متى أنه كان ثلاثين قطعة من العملة اليهودية المسماة بالشاقل، وهو مبلغ يساوي نحو أربعة جنيهات مصرية. وقد كان هذا هو الثمن المتعارف لشراء عبد حسب الشريعة اليهودية (الخروج ٣٢:٢١) . وهكذا ارتضى ذلك الخائن الخسيس أن يبيع ربه ومربيه ومعلمه وصاحب الفضل عليه الذي اختاره ضمن أعظم الرسل في تاريخ البشرية واصطفاه ليكون سيداً من أرفع وأسمى السادة في كل الأرض، نظير قدر من المال ياليته كان كبيرا تنهار أمام إغرائه عزيمة الرجال، ولكنه كان تافها ضئيلاً لا يتعدى ثمن عبد!. فما أدنا وأحقر الخيانة وما أدناً وأحقر الخائن وبئس ما اقترف على مر العصور والأجيال. وقد فرح الخائن الخبيث بالقدر الضئيل الذي عرضه عليه أعداء سيده من المال، فواعدهم، وأخذ يترقب فرسة ليسلمه إليهم تحت جنح الظلام في المكان الذي كان يعرف أنه يختلى فيه بتلاميذه، بعيداً عن أعين الشعب الذي كان أولئك الأعداء يخافونه ويخشون ثورته عليهم وفتكه بهم لو أنهم قبضوا على معلمه وزعيمه البار علانية على رؤوس الأشهاد وفي وضح النهار.
لو22: 7-18 إرساله تلميذين ليعدا الفصح :
ثم جاء يوم الفطير الذي كان ينبغي أن يذبح فـيـه الفصح، وكان في تلك السنة يوافق يوم الخميس الثالث عشر من شهر نيسان أي أبريل، وهو الذي درج المسيحيون بعد ذلك على تسميته بخميس العهد، لأن فيه ـ كما سنرى – أعطى السيد المسيح تلاميذه وسائر المؤمنين به العهد الجديد الذي حل محل العهد القديم الذي أعطاه الله لموسى النبي وللشعب اليهودي في صحراء سيناء بعد خروجهم من مصر. وإذ كان فادينا قد أخضع نفسه بإرادته لكل طقوس الشريعة اليهودية، خضع لهذا الطقس الذي كان أهم تلك الطقوس، بيد أنه بخضوعه له هذه المرة قد ختمه وأنهاه، لأن ذبيحة الفصح التي كان ينبغي تقديمها لم تكن إلا رمزاً للذبيحة الحقيقية وهي الرب يسوع نفسه. وإذ كان يعلم أنه سيصلب في اليوم التالي بإعتباره ذبيحة كفارة، فقد تحقق بذلك المرموز إليه، وحل المرموز إليه محل الرمز.
وقد احتفل الرب يسوع بالفصح قبل إحتفال اليهود به بيوم واحد، بدليل قول الإنجيل للقديس يوحنا وهو يتحدث عما حدث في اليوم التالي الذي صدر فيه الحكم بالصلب على مخلصنا وثم جاءوا بيسوع من عند قيافا إلى داخل دار الولاية، وكان ذلك في الصباح. ولما هم فلم يدخلوا دار الولاية مخافة أن يتنجسوا، فيأكلون الفصح، (يو 18: 28) ، أي أن اليهود في صباح يوم الجمعة الذي صلبوا فيه السيد المسيح لم يكونوا قد أكلوا الفصح بعد. كما يدل على ذلك قول هذا الإنجيل وهو يتحدث عن محاكمة فادينا أمام بيلاطس ، وكان ذلك اليوم يوم تهيئة الفصح، والساعة نحر السادسة، (يو 19: 14) أي أن يوم الجمعة كان هو يوم الاستعداد والتهيئة للفصح ولم يكن هو عيد الفصح، ويدل على ذلك أيضاً قول هذا الإنجيل بعد أن تحدث عن تنفيذ حـكم الصلب في مخلصنا ثم إذ كان ذلك اليـوم يـوم الـتـهـيـئـة، فلكي لا تبقى الأجساد على الصليب في السبت، لأن يوم السبت ذاك كان عظيماً، سأل اليهود بيلاطس أن تكسر سيقانهم، (يو 19: 31)، مما يدل على أن يوم الجمعة الذي صلب فيه الفادى كان سابقاً على عيد الفصح عند اليهود، ولذلك سمى بيوم التهيئة أو الاستعداد، ويدل قوله إن يوم السبت ذاك كان عظيماً، على أن عيد الفصح وقع في يوم السبت، فأضاف إلى أهمية يوم السبت سبباً جديداً لأن يجعله عظيماً أكثر من أي يوم سبت آخر. كما يدل على ذلك أيضاً قول هذا الإنجيل بعد أن تحدث عن دفن المخلص في القبر وكان في الموضع الذي صلب فيه بستان، وفي البستان قبر جديد لم يدفن فيه أحد قط، فوضعا يسوع فيه، لأن القبر كان قريباً منهم، لأنه كان التهيئة لليهود، (يو 19: 41 و42).
أي أن يوم الجمعة كان يوم التهيئة للفصح وللعيد. فإذا كان عيد الفطير قد وقع تلك السنة في يوم السبت، وكان يوم ذبح الخروف هو مساء الجمعة، فلماذا باشر الرب يسوع الفصح في مساء الخميس، أي قبل موعده بيوم واحد؟ الواقع أن هذا كان في ظاهر الأمر فقط، والحقيقة أن الرب يسوع قد باشر الفصح في موعده الحقيقي، وفي نفس اليوم الذي كان ينبغي على اليهود أن يذبحوا فيه خروف الفصح ويأكلوه، ولكنهم لمكرهم وغدرهم قد تعمدوا في تلك السنة أن يؤخروه عن موعده الحقيقي يوماً واحداً حتى يفرغوا من قتل المسيح. وقد قال بهذا عدد من المؤرخين منهم يوسـيـفـوس اليهودي، كما قال به بعض آباء الكنيسة منهم القديس يوحنا ذهبي الفم (المقال 83 من تفسيره لإنجيل يوحنا)، ومنهم مار أفرام، وهيبوليطوس، وأوسابيوس، ويوحنا أسقف دارا وأكثر المعلمين. (أنظر كـتـاب الـدر الفـريد في تفسير العهد الجديد، للعلامة مار ديونيسيوس يعقوب ابن الصليبي السرياني مطران مدينة أمد وهي ديار بكر. الجزء الثاني) .
وإذ لم يكن للرب يسوع بيت يسكنه على مقتضى الفقر الإختياري الذي ارتضاه في حياته بطبيعته الناسوتية على الأرض رأى أن يحتفل بالفصح في منزل أحد أحبائه، فأرسل تلميذيه بطرس ويوحنا قائلاً لهما ،اذهبا أعدا لنا الفصح لنأكله، فقالا له وأين نريد أن نعده، . قال لهما حينما تدخلان المدينة يلقاكما رجل يحمل جرة ماء فإتبعاه إلى البيت الذي يدخله وقولوا لرب البيت يقول لك المعلم أين القاعة التي فيها سأكل الفصح مع تلاميذي ولسوف يريكما قاعة عليا مؤثثة. فأعداه هناك. . وما من شك في أن فادينا كان يعرف مكان ذلك البيت وكان يمكنه أن يحدد مكانه لتلميذيه. بل إن الراجح أن تلميذيه كانا يعرفان مكان ذلك البيت لو أن معلمهما ذكر لهما اسم صاحبه الذي كان ضمن السبعين رسولاً. ولكن الرب يسوع إذ كان يعلم بالمؤامرات التي تجرى في الخفاء للقبض عليه وقتله، أراد – لكي لا يتم ذلك قبل الموعد المقرر في التدبير الإلهي – أن يظل ذلك البيت سرا إلى اللحظة الأخيرة. حتى بالنسبة لباقي تلاميذه . لأنه كان يعلم أن أحدهم وهو يهوذا الاسخريوطي متواطؤ مع أعدائه على تسليمه إليهم في أول فرصة تسنح له. وقد كان الرب يسوع يشاء ألا يتم تسليمه لليهود قبل أن يتمم الفصح القديم، ويتمم الفصح الجديد، وما صحب كل ذلك من إجراءات ووصايا ونصائح وتعاليم. بيد أن الوسيلة التي أوضح بها له المجد لتلميذيه كيف يهنديان إلى البيت الذي لم يحدد لهما مكانه، هي دليل واضح من الأدلة الكثيرة التي مرت بنا على علمه الإلهي بالغيب، لأن بطرس ويوحنا حين أطاعا أمره وانطلقا إلى أورشليم ودخلاها لقيا بالفعل رجل يحمل جرة ماء فتبعاه إلى البيت الذي دخله، وهناك قالا لرب البيت ما طلب إليهما معلمهما أن يقولاه، فأراهما بالفعل قاعة مؤثثة فأعدا الفصح هناك على مقتضى ما تقضي به الشريعة من ترتيبات وإجراءات وطقوس.
ولما حان الوقت الذي ينبغي فيه بدء الاحتفال بالفصح جلس الرب يسوع إلى المائدة مع تلاميذه الاثني عشر. وتلاحظ أنه على الرغم من أنه كان يعلم أن يهوذا الاسخريوطي قد خانه وقد أتفق مع أعدائه على تسليمه إليهم ليقتلوه، سمح له أن يجلس معه على المائدة مع باقي تلاميذه، معتبرا إياه حتى ذلك الحين واحدا منهم، ربما ليفتح له باب الندم والتوبة إلى آخر لحظة، أو ربما لأن خيانته كانت في الخفاء فلم يشأ أن يدينه عنها إلا بعد أن تتحقق علانية، أو بعد أن يعترف بها الخائن بنفسه أمام زملائه، كي يعلمنا بذلك نحن المؤمنين به – ونحن بشر. ألا ندين أحداً عن أمور منسوبة إليه ولكنها ما زالت في طي الخفاء، عسى أن ينكص عنها أو أن يكون بريئاً منها، فلا نحرمه قبل الأوان شركته ومحبتنا له ومحبته لنا. أو لعله . له المجد – سمح للخائن له أن يأكل ، معه لكي تتحقق نبوءة داود النبي عن ذلك بحذافيرها حين هتف بلسان فادينا قائلاً «أكل خبزی رفع على عقبه، (المزمور ٩:٤١).
وقد بدأ مخلصنا الحديث مع تلاميذه حين جلسوا معه جميعاً إلى المائدة قائلا لهم اشهوة إشتهيت أن أكل فصحى هذا معكم قبل أن أتألم، لأني أقول لكم إني لن أكله بعد الآن حتى يتم في ملكوت الله، ، أي أنه تاقت نفسه لفرط محبته لتلاميذه أن يأكل هذا الفصح اليهودي الذي يأكله لآخر مرة معهم، والذي دعاه فصحه هو، لأنه سيكون بعد ذلك هو نفسه ذبيحة الفصح التي سيقدم فيها نفسه بنفسه بعد أن يذوق أشد الآلام وأفظعها وأبشعها، ثم لن يأكله بعد هذه المرة حتى يتم في ملكوت الله، أي أن هذا هو الفصح الأخير الذي يأكله الرب يسوع مع تلاميذه قبل أن يذهب عنهم ويصلب ويموت. فهذا الفصح لن يتكرر، لأنه هو الفصح الذي ختم به رب المجد يسوع المسيح العهد القديم. ولذلك قال «إنى لن آكلهُ بعد الآن؛ أى لن يكون هناك فصح آخر بعد هذا فهو الفصح الختامى بالنسبة للعهد القديم. وبعد ذلك يصير بإتمامه تنفيذ شريعة العهد القديم – وأما قوله “حتى يتم فى ملكوت الله” فليس معناه أنه سيأكله مرة أخرى فى ملكوت الله فقد كان مثل هذا التعبير مألوفا فى اللغة العبرية لتوكيد حكم ما بعد لفظ حتى؛ لما
هك قطعاً كقول الكتاب المقدس “لم تلد ميكال حتى ماتت” ( 2صم 6: 23)؛ (أى أنها لم
تلد أبدا وكقوله “لا يغفرن لكم هذا الإثم حتى تموتوا” (إش 22: 14 ) أى أنه لن يغفر لكم هذا الإثم أبداً. وأما أنه يتم فى ملكوت الله؛ فمعناه أنه يصير تمامه أو وفاؤه فى العهد الجديد بموت المسيح لأنه هو الفصح الحقيقى . والمعنى الشامل لهذه العبارة أن هذا هو الفصح الأخير الذي آكله معكم ولن آكل غيره معكم لانه بإتمامه يصير وفاؤه وإنقضاؤه وإنتهاؤه وبعد ذلك أدخل معكم فى العهد الجديد بدمى وهذا هو ملكوت الله.
ثم تناول – له المجد كأس وشكر على مقتضي الطقوس المعمول بها فى الاحتفال بالفصح
بإعتباره هو رب البيت. وقال لتلاميذه الذين هم أسرته خَذُوا هذه اقتسموها بينكم فاني أقول لكم إننى لن أشرب من عصير الكرمة بعد الآن حتى يأتى ملكوت الله؛ أى أن هذه آخر مرة يشرب فيها۔ له المجد الخمر الأرضية التى هى نتاج الكرمة المادية كجزء من ممارسات وطقوس الفصح القديم. وبهذا يختم السيد المسيح العهد القديم ويفتح العهد الجديد فى ملكوت الله بفصح جديد هو سر جسد المسيح ودمه. ولهذا سمى اليوم الذى تم فيه هذا فى المصطلح الكنسى خميس العهده أى العهد الجديد الذى أعطاه الرب يسوع۔
لو22: 19-20 العشاء الربانى:
وقد كان ما قاله الرب يسوع لتلاميذه عقب أن ناولهم الكأس ختاما للاحتفال بالفصح
اليهودى على مقتضى العهد القديم . وقد أكل فيه معهم ذبيحة ذلك العهد التى لم تكن إلا رمزاً لذبيحة العهد الجديد ثُم بدأ بعد ذلك العشاء الربانى للذي افتتح به الرب العهد الجديد. إذ أخذ خبزا وشكر وقسمه وناولهم قائلا “هذا هو جسدى الذى يبذل عنكم، اصنعوا هذا لذكرى». وقد كان تقسيمه للخبز فى هذه المرة تعبيراً عن تقسيم جسده هو بإعتباره الذبيحة المرموز لها التى بذل بها فادينا نفسه عن تلاميذه وعن كل الذين يؤمنون به فى كل العصور. وقد منح الرب لهم أن يتناولوا من هذه الذبيحة التى هى جسده هو ذاته ! لتكتمل بذلك الشركة الروحية التى كانت لهم معه. كى يكون هو واحدا معهم؛ ويكونوا هم وكل الذين يؤمنون به واحدا معه ومع أبيه السماوى الذى هو واحد معه؛ مصداقاً لقوله كما ورد قى الإنجيل للقديس يوحنا وهو يرفع صلاته في تلك الليلة إلى الآب، الـسـمـاوي الست أسـأل من أجل هؤلاء فقط، بل أيضاً من أجل الذين يؤمنون بي بكلامهم، ليكون الجميع واحداً كما أنك أنت أيها الآب في وأنا فيك ليكونوا هم أيضاً واحـداً فينا .. وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني، ليكونوا واحداً كما أننا نحن واحد. أنا فيهم وأنت في ليكونوا مكملين إلى واحـده (يو 7: 20 -22)، ثم طلب ـ لـه المـجـد ـ إلى تلاميذه وإلى كل الذين يؤمنون به أن يفعلوا في كل حين ما فعله هو في تلك الليلة . فليأخذ خـدامـه من الكهنة الذين أنابهم عنه في الأرض خبزاً، وليتلوا عليه الصلوات لاستدعاء الروح القدس عليه فيتحول إلى ذات جسد الرب يسوع ويقسموه ويناولوه للمؤمنين به كما فعل هو، فيمتزج بـهم روحاً وجسداً، وتمتزج أرواحهم به ويصيروا بفعل السر المقدس – سر التناول – واحداً معه. وفعلا لقـد درج تلاميذه على ممارسة هذا السر بعد إنسكاب الروح القدس عليهم (أع 42:2و 46) . وكذلك ناول ريدا تلاميذه الكأس بعد أن ناولهم من الخبز السماوي، قائلا لهم وهذه الكأس هي العهد الجديد بدمي الذي يسفك عنكم، . وقد تحولت الخمر التي في الكأس عندئذ إلى الدم الحقيقي الذي لا يتم التكفير عن خطايا البشر إلا به، ولأن الدم يكفر عن النفس، – (اللاويين 17: 11) . ومن ثم كانت هذه الكأس التي تحول ما بها من الخمر إلى دم الفادي الإلهي الذي سفكه عن البشر لمغفرة خطاياهم، إذ كان الدم في كل العصور هو أصدق ما يكرس به مانح المعهد عـهـده . وفي كل مرة يتلو خدام السيد المسيح من الكهنة وهم وكلاؤه على الأرض، المسنوات على الخمر ويستدعون الروح القدس عليها تتحول إلى ذات دمه، ويناولونها للمؤمنين به، يكون ذلك تجديداً وتثبيتاً لذلك العهد الجديد الذي قطعه فادينا بدمه مع البشر، ليكونوا واحداً معه ويكون هو واحداً معهم، وحدة روحية خالدة أبدية موشحة بكل ما لدم المسيح من نعمة وبركة ومجد سماوي خالد أبدى.
لو22: 21-23 إنباؤه بأن واحد منهم سيسلمه:
ثم لم يلبث فادينا أن أماط اللثام عن السر المؤلم المرير الذي لم يكن يعلمه أحد إلا هو، إذ قال في ألم ومرارة إلا أن يد الذي سيستمني ها هي ذي معي على المائدة . إن ابن الإنسان ماض كما هو مقرر، ولكن الويل لذلك الذي يسلمه، . وعلى الرغم مما في هذه الخيانة الخسيسة التي ارتكبها أحد تلاميذه من الشناعة والبشاعة ما يدعو إلى فضح صاحبها والتشهير به، فإن المخلص لم تشأ له وداعته وسماحته أن يطن اسم مرتكبها، وإن كان قد أعلن رأيه فيه وحكمه عليه. إن كان تسليم الرب يسوع وموته على الصليب قد تقرر في التدبير الإلهي، لأنه سلم ومات على الصليب “بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق” (أع 2: 23) فإن هذا لا يعفي الذي خانه وسلمه من عقوبة جريمته النكراء، لأنه ارتكبها لا بإرادة الله حتى يعفيه الله من جريرتها وإنما بمحض إرادته هو، وبكامل إختياره ، عمداً ومع سبق الإصرار والترصد على حد تعبير القوانين الحديثة فيما يتعلق بجرائم القتل، ولم يفعل ما فعل بقصد نبيل أو نافع للناس، وإنما إشتهاء للمال الذي أعطاه اليهود إياه . ولما كانت عقوبة القاتل في هذه الحالة هي الهلاك في القوانين السماوية والأرضية على السواء، حقت على ذلك الخائن القاتل تلك العقوبة التي تتضمن الويل في أشد درجاته وعلى مقتضى أقوى مبرراته ، وقد جزع التلاميذ من ذلك التصريح المفزع الشروع الذي فاجأهم به معلمهم، فيما عدا يهوذا الاسخريوطي بطبيعة الحال، وإن كان الغالب أنه قد تظاهر بالجزع هو أيضاً. وأما الباقون فقد أخذوا يتساءلون فيما بينهم: من منهم الذي سيفعل ذلك. وقد بدأ كل منهم يشك في نفسه، خشية أن تخـور عزيمته في لحظة من لحظات الضعف البشري فيرتكب هذه الجريمة النكراء. بيد أن يهوذا ـ على الرغم من تظاهره أولا بالجزع – لم يلبث أن أدرك أن سره قد انكشف لدى معلمه الذي لا يخفى عليه شيء. وقد أراد أن يتأكد من ذلك، فقال له كما جاء في الإنجيل للقديس متى ، هل انا هو يا معلم؟ فقال له: نعم أنت هو، (مت 26: 25). وقد كانت الفرصة عندئذ وحتى هذه اللحظة مـنـاحـة لـيـهـوذا ليخجل ويندم ويرجع إلى صوابه وينكص عن إرتكاب جريمته، ولكن الشر كان قد أعمى بصره وأغلظ قلبه وأنام ضميره، فخرج في التو لينفذ تلك الجريمة التي أصبح بها مضرب الأمثال في الخيانة والخسة على مر العصور.
لو22: 24-30 العظمة الحقيقية :
وقد ظل تلاميذ الرب يسوع حتى هذه اللحظة التي أوشك فيها أن يتم رسالته الخلاصية التي جاء من أجلها إلى العالم، يتوهمون أنه سيقيم مملكة أرضية، يكونون هم فيها الأمراء والوزراء. ولذلك فإنهم فيما هم مجتمعون معه بعد العشاء، حدث بينهم نزاع فيمن ينبغي أن يعد الأعظم فيهم، ليحتل المنصب الأعلى في المملكة التي يتوهمونها. فقال لهم فادينا وإن ملوك الوثنيين يسودونهم، والمتسلطين عليهم يحسبون ذوى الفصل فيهم. أما أنتم فلا ينبغي أن يكون هكذا فيما بينكم، وإنما الأعظم فيكم فليكن كالأصغر، والرئيس كالذي يخدم. لأنه من هو الأعظم: أهو الذي يجلس إلى المائدة أم الذي يخدم ؟ أليس الذي يجلس إلى المائدة ؟ ولكنني بينكم كالذي يخـدم . وقد أوضح المخلص بذلك لتلاميذه مفهوماً جديداً للعظمة صحح به المفهوم الخاطئ الذي كان يسود المجتمع الإنساني كله حتى ذلك الحين. فقد كان الناس يعتبرون العظيم هو الذي يسودهم ويتسلط عليهم ويستذلهم ويستغلهم ويستولى لنفسه على جهدهم وثمرة تعبهم، معتبراً نفسه مالكاً لهم، لا يملكون إزاءه إلا السمع والطاعة. وأما في المفهوم المسيحي فعظيم القوم هو خـادمـهم الذي يقوم على رعايتهم والعناية بهم وبذل كل ما يملك من جهد لإسعادهم وتوفير أكبر قدر من الراحة والطمأنينة لهم، بحيث يعيشون في محبة وسلام. وقد ضرب الرب يسوع في المثل بنفسه في ذلك، فكان بين تلاميذه وهو سيدهم يبدو وكأنه خادمهم، من فرط رعايته لهم وعنايته بهم وسهره على راحتهم وطمأنينتهم وسلامهم.
ثم قال له المجد لتلاميذه وأنتم الذين ثبتم معي في تجاربي، قد عينت لكم ملكوتا، كما أنّ أبي عين لي ملكوناً، لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي، وتجلسوا على عروش لـتـدينوا أسباط إسرائيل الإثني عشر،. أي أنهم إن كانوا لن ينالوا المناصب العليا التي يتطلعون إليها في المملكة الأرضية التي يحلمون بها على مقتضى فهمهم الخاطئ، فإنه سيكافلهم على إيمانهم به وتخليهم عن كل ما يملكون ليتبعوه ويشاركوه في آلامه، مكأفاة تفوق في المجد كل ما في الأرض من أمجاد، إذ جعل لهم لا مناصب في مملكة أرضية زائلة، وإنما مناصب خالدة في ملكوت السماوات، الذي هو ملكوت أبيه، والذي هو ملكوته هو في نفس الوقت لأنه وأحـد مـع أبيـه . فكما يملك هو في ذلك الملكوت مع الآب، هكذا سيجعلهم شركاء له في ذلك الملكوت، يتناولون مما تزخر به مائدته من أطايب لا تتمثل في طعام وشراب مادي، وإنما في فيض من النعمة الروحية التي لا حدود لها، ويجلسون حول المسيح الديان في يوم الدينونة على عروش تمثل القوة والسلطان، ليشاركوا في إصدار الحكم بالإدانة على أسباط إسرائيل الإثني عشر، وهم الآباء الأوائل لليهود الذين نقضوا عهد الله وخالفوا شريعته وقتلوا أنبياءه وأنكروا خلاصه الذي جاءهم به ابنه الحبيب يسوع المسيح، وتنكروا له وصلبوه ، فحق عليهم غضب الله، واستحقوا حكمه عليهم بالهلاك الأبدي.
ولا بد أن يكون قوله وتأكلون وتشريون على مائدتي في ملكوتي، منطوياً على الإشارة إلى مائدة الرب، في العهد الجـديد، وملكوت السماوات على الأرض وهي الكنيسة، تلك المائدة التي منها يأكلون ويشريون غذاء لأرواحهم وقوتة لنفوسهم، لأنها بعينها المائدة السماوية التي سلمها إليهم في خميس العهد، وليلة آلامه، وهي سر القربان والتناول وفصح العهد الجديد. ولعلها هي المائدة التي تنبأ عنهـا داود النبي بقوله «هیأت قدامي مائدة قبالة الذين يحزنونني (مز 22: 5)، والتي تحدث عنها بولس الرسول في رسالته إلى العبرانيين إذ قال لنا مذبح لا يحق للذين يخدمون المسكن أن يأكلوا منه، (عب 13: 10).
وأما قوله وتجلسون على عروش لتدينوا أسباط إسرائيل الإثني عشره، فليس المقصود منه أن الرسل الإثنى عشر سيشاركون المسيح له المجد في الدينونة الأخيرة، فالمعروف والمقرر أن المسيح وحده هو الديان لأن الآب لا يدين أحداً، بل جعل القضاء كله للابن، (يو 5: 22 ، 27، 30) ؛ (مت 16: 27 ؛ 25: 31 – 46) ؛ (أع 10: 42 ، 17: 31) ؛ (رو 2: 16 ، 14: 10) ؛ (2كو 5: 10) ؛ (2تي 4: 1) ؛ ( 1بط 4: 5)؛ (رؤ 2: 23 ؛ 22: 12)، ولكنه بقوله له المجد لتلاميذه ، وتجلسون على عروش لتدينوا أسباط إسرائيل الإثنى عشر، يؤكد على السلطان الذي منحه إياهم في كنيسته التي هي ملكوته على الأرض، وبهذا السلطان يدبرون الكنيسة ويحكمون المؤمنين، فقد جعلهم ملوكاً وكهنة لله (رؤ 1: 6)، وجعلهم يملكون على الأرض (رؤيا 5: 10) بما وهبهم من سلطان روحی، وملكوتهم هو الكنيسة . وبهذا السلطان عينه يدينون اليهود أيضاً من أسباط إسرائيل الإثني عشر، لأن رسل المسيح مع أنهم أصلاً من بين اليهود، ولكنهم إذ آمنوا بالمسيح وتبعوه، سيوبخون اليهود ويخجلونهم ويحكمون على قلة إيمانهم وسوء معاملتهم للمسيح له المجد. ولقد قال الرب عن ملكة الجنوب وأهل نينوى إنهم سيدينون اليهود أيضاً، بمعنى أن ملكة الجنوب ستقوم في يوم الدينونة مع أناس هذا الجيل وتدينهم، لأنها أنت من أقاصي الأرض لتسمع حكمة سليمان، وهوذا أعظم من سليمان هنا. وأهل نينوى سيقومون في يوم الدينونة مع هذا الجيل ويدينونه، لأنهم تابوا عندما أنذرهم يونان. وهوذا أعظم من يونان هنا، (لو 11: 31و 32) ؛ (مت 12: 41 و42). غيرا أنه له المجد خص الرسل الإثني عشر بأنهم يجلسون على عروش ليدينوا، في حين أنه لم يقل ذلك عن ملكة الجنوب ولا عن أهل نينوى. وذلك بيـانـاً لما للرسل من مكانة وسلطان خاص في كنيسة المسيح، بإعتبارهم وكلاء أسرار الله وسفراء عن المسيح، ورؤساء كهنة العهد الجديد. وقد ورد هذا التعبير عينه عن الرسل في الإنجيل للقديس متى، إذ قال لهم مخلصنا الحق أقول لكم إنكم أنتم يا من تبعتموني، متي جلس ابن الإنسان على عرش مجده عند تجديد كل شيء، ستجلسون أنتم أيضاً على اثنى عشر كرسياً، وتدينون أسباط إسرائيل الإثني عشر، (مت 19: 28). وقد يثور التساؤل: كيف يكون يهوذا الإسخريوطي معدوداً بين الرسل وهو الذي خان سيده ومعلمه وارتكب أشنع جريمة وأبشعها إذ باع مخلص العالم بثلاثين من الفضة؟. بيد أن الحقيقة أن هذا التصريح من رب المجد يدل على الكرامة التي كان قد أعطاها ليهوذا، إذ جعله بين تلاميذه ورسله، ثم إذ برهن يهوذا على أنه لم يكن مستحقاً لهذه الكرامة، سحبت منه وأعمليت للرسول الآخر الذي حل محله وهو متياس الرسول (أع 1: 26).
لو22: 31-38 السيد المسيح يتنبأ بإنكار بطرس له :
ثم قال الرب لتلميذه بطرس «سمعان سمعان هوذا الشيطان قد سعى جاهداً لأن يغربلكم كالحنطة. ولكنني دعوت ألا يفنى إيمانك . فمتى اهتديت فشجع إخوتك، . وقد كان المخلص يطم أن تلاميذه في تلك الليلة نفسها سيتركونه جميعاً حين يرون الخطر يهدده ويهربون. كما كان يعلم أن بطرس بالذات سينكره ويذكر أنه يعرفه، إذ سيـحـاول الشيطان أن يهزهم هذا عنيفاً كالحنطة في الغربال، ليطيح بالشجاعة من قلوبهم، ويتركهم فريسة الفزع والجزع، عسى أن يطيح ذلك بإيمانهم، فلا يعود للمسيح الرب أحـد يؤمن به أبدأ. ومن ثم أراد فادينا أن يشجع تلاميذه لكي لا يسقطوا في هذه التجربة، وأراد أن يشجع بطرس بالذات لأنه سيكون أشدهم خوفاً وسيكون إيمانه أشد تعرضاً للإهتزاز والتزعزع والإنهيار، فأنبأه بأنه صلى من أجله لكي لا يفنى إيمانه، وطلب إليه متى اهتدى وهدأت عاصفة فزعه وجزعه أن يشجع زملاءه . ولكن بطرس وهو لا يعلم مدى ضعفه قد ساءه أن يقول عنه معلمه ذلك فقال يارب إنني مستعد أن أمضى معك ولو إلى السجن وإلى الموت، . فأجابه الرب قائلاً «أقول لك يا بطرس إنه لن يصيح الديك اليوم حتى تكون قد أنكرت ثلاث مرات أنك تعرفني. أقول ذلك لتعلم، ، أي أنه يقول ذلك لبطرس ليتذكره حين يتحقق بالفعل، فيعينه ذلك على إسترداد صوابه وإستعادة إيمانه بمعلمه.
ثم خاطب الرب تلاميذه قائلاً لهم «عندما أرسلتكم بغير كيس ولا حقيبة زاد ولا حذاء، هل أعوزكم شيء؟» . قالوا ولاه . فقال لهم أما الآن فمن منكم له كيس فليحمله. وكذلك حقيبة زاد. ومن منكم ليس لديه سيف فليبع ثوبه وليشـتـر سيفاً، لأني أقول لكم إنه ينبغي أن يتم في هذا المكتوب: قد أحصى مع أثمة لأن كل ما يخص بي لابد أن يتم»، أي أنه حين كان معهم لم يكونوا يحتاجون إلى أي شيء، مع أنهم كانوا بغير كيس للنقود، ولا حقيبة للزاد، ولا حذاء للقدمين، لأن مجرد وجوده معهم كان كافياً لأن يشعرهم بالطمأنينة وعدم الحاجة إلى أي شيء، ولكن الأمر لن يلبث منذ تلك اللحظة أن يتغير، لأنه سيؤخذ منهم، ليتم فيه كل ما ورد في النبوءات التي جاءت في الكتب المقدسة عنه، والتي ينبغي أن تتم بحذافيرها، ولا سيما نبوءة إشعياء النبي التي تتحدث عن موته وهو معلق على الصليب بين الصين فتقول إنه قد أحصى مع أثمة (إش 53: 12). ولسوف يعاني تلاميذه منذ تلك اللحظة من ألوان الضيق والعنت والمعسف والهـوان والمطاردة من مكان إلى مكان، ما لم يسبق لهم أن رأوه من قبل وهو معهم. فعندئذ سيشعر من ليس له كيس للنفود منهم بأنه محتاج في هربه إلى كيس للنقود، ومن ليست له حقيبة للزاد بأنه محتاج في غربته إلى حقيبة للزاد، ومن ليس له سيف يدافع به عن نفسه ضد قوات الشر التي تطارده بأنه محتاج لأن يبيع ثوبه ويشترى بثمنه سيفاً. ولم يكن فادينا يتحدث هنا عن السيف المعدني، فإنه لم ينصح بإستعماله قط، وإنما عن سيف الروح الذي هو كلمة الله (أفس 6: 7)، والذي هو أقوى وأمضى من كل السيوف المعدنية وكل أسلحة الأرض. غير أن تلاميذه لم يفهموا حقيقة قصده فقالوا يارب هوذا هنا سيفان، . ويقول القديس يوحنا ذهبي الفم إنهما لم يكونا سيفين عاديين وإنما كانا سكينتين كبيرتين من سكاكين الفصح حملهما التلاميذ معهم للدفاع عن أنفسهم وعن معلمهم بعد أن سمعوا أن اليهود أتون لقتالهم. وإذ وجد مخلصنا أن تلاميذه قد أخطأوا الفهم قال لهم «كفاكم» ، أي: كفوا عن هذا الفهم الخاطئ، فما تكلمت عن هذا النوع من السيوف.
لو22: 39-46 السيد المسيح يصلي في جبل الزيتون :
ثم خرج الرب يسوع ومضى إلى المكان الذي إعتاد أن يختلى فيه بتلاميذه، وهو بستان يقع عند سفح جبل الزيتون، يدعى بستان جلسیمانی (مت 26: 36) ، وتبعه تلاميذه إلى هناك. فلما وصل إلى ذلك الموضع قال لهم وصلوا ليلا تدخلوا في تجربة،، إذ كان يعلم أية محنة قاسية سيتعرضون لها بعد لحظات قصيرة، فكانت الصلاة هي العاصم الوحيد لهم من أن يفشلوا في مجابهة هذه المحنة فيتبدد إيمانهم. وأما هو فإذ كان يعلم أية محنة أشد قسوة سيتعرض لها هونفسه منذ هذه اللحظة، نأى عن تلاميذه نحو رمية حجر، وخر على ركبتيه وصلي قائلاً يا أبتاه إن شئت فجلبي هذه الكأس. لكن لتكن لا مشيلتي بل مشيئتك.. فعلى الرغم من أنه بلاهوته بإعتباره ابن الله قد ارتضى بمحض إختياره أن يموت فداء عن البشر لمغفرة خطاياهم، لم يلبث حين اقتربت اللحظة التي يزمع أن يقدم فيها نفسه ذبيحة، أن ثقلت عليه بناسوته بإعتباره ابن الإنسان وطأة الألم من عار الصليب، ومن ثم تضرع إلى أبيه السماوي أن يعفيه من وصمة ذلك العار التي لا يمكن أن يحتملها إنسان، فبرهن بذلك ـ له المجد، على أنه إنسان كامل كما أنه إله كامل. فضلا عن أن بقوله ذلك دلل على وطأه تلك الآلام التي كابدها، وأنها كانت آلاماً شديدة وحقيقية. وفي هذا رد كاف على بعض الهراطقة الذين أنكروا أن المسيح قد جاء في الجسد (2يو7)، ومنهم الغنوسيون، كما أن منهم أتباع أوطاخي الذين أنكروا حقيقة ناسوت المسيح، وأنكروا بالتالي أن تكون آلامه حقيقية بدعوى أن ناسوته قد ذاب في لاهوته، وأن اللاهوت قد امتص الناسوت، فضاع الناسوت في اللاهوت كما تضيع نقطة من الخل في المحيط، بيد أن فادينا حتى بناسوته أظهر خضوعه التام لمشيئة الله الآب، ففوض أمره إليه، ولو أدى ذلك إلى تجرعه تلك الكأس المريرة التي تفيض بأقسى ألوان الألم والعذاب، وهنا . فيما يبدو – بيان لمشيئتين، هما مشيئة الابن ومشيئة الآب، ولكن في قول المسيح له المجد التكن لا مشيئتي بل مشيئتك، إيضاح للوحدة بين أقنومي الآب والابن في المشيئة، فهما واحد معاً ومع الروح القدس في الجوهر وفي الطبيعة وفي المشيلة المقدسة وسائر الكمالات الإلهية. كما يبدو في قول السيد المسيح تصريح بإختلاف بين مشيئتين في طبيعة الإله المتجسد، هما مشيئة إلهية ومشيئة إنسانية، إذ قد يدل على ذلك ظاهر اللفظين مشيلتي.. ومشيلتك ، وهذا ما يستند إليه القائلون بأن في السيد المسيح طبيعتين ومشيئتين. وأما الواقع والحق فهو أن السيد المسيح هنا ينفي الإثنينية مبيناً الوحدة التامة في المشيئة بين الناسوت واللاهوت. فالناسوت وإن كان طبيعياً أن ينفر من الألم، ل ، لكنه قبل مشيئة اللاهوت في الخلاص، ولم يفترق عنها، ومن ثم صارت مشيئة الناسوت هي بعينها مشيئة اللاهوت، فهي مشيئة واحدة بغير إفتراق، وذلك بطبيعة الاتحاد الحقيقي التام بين الناسوت واللاهوت في الطبيعة، وبالتالي في المشيئة. على أننا نجد في صلاة الرب يسوع في بستان جنسيماني صورة مثالية للإنسان المؤمن الذي يخضع خضوعاً ناما لمشيئة الآب السماوي، ومهما بدت له رغبته الخاصة قوية، ومهما كان إقتناعه بها، فإنه لفرط إيمانه بصلاح الله، وثقته في حكمته، يسقط رغبته أمام مشيئة الله، عن رضى وتسليم مطلق، عالماً أنه إذ يسقط هذه الرغبة يلحقه عن هذه الفضيلة خير عظيم. فهو إذن بإرادته يسقط إرادته، وبمشيئته يسلم لله مشيئته. وهذا ما يعرف باتحاد الإرادة بين الإنسان والله، وهو أسمى مـا يبلغ إليه المؤمن الحقيقي في مراحل الروحانية العالية، إذ تصبح إرادة الله إرادته ، ومشيئة الله مشيئته، أي يصبح مع الله إرادة واحدة ومشيئة واحدة.
وفي هذه اللحظة التي رفع مخلصنا إلى أبيه السماوى صلاته، ظهر له ملاك من السماء يقول له ولك القوة، ، مسجداً بذلك لاهوته، ليتقوى بذلك ناسوته أمام تلك المحنة الطاحنة، وإذ كان يكابد آلاما عنيفة تحت وطأة خطايا البشر التي حملها في تلك اللحظة كلها ليطهرها بدمه، مصداقاً لنبوءة إشعياء النبي إذ قال إن «الرب وضع عليه إثم جـمـيعنا، (إش 53: 6)، أخذ يصلى بأشد حرارة وهو جاث على ركبتيه، وكان عرقه كقطرات الدم يتساقط على الأرض، مما يدل على أنه قد بدأ يموت منذ تلك اللحظة، لأن الحزن العنيف قد أفسد دمه فتسمم. وقد عبر المجد عن ذلك بقوله إن نفسي حزينة حتى الموت، (مت 26: 38) . ولولا مساندة اللاهوت للناسوت لكان المسيح قد مات في بستان جشسيماني قبل صلبه .. حتى إذا نهض من الصلاة جاء إلى تلاميذه فوجدهم نائمين من فرط الحزن، بعد أن استمعوا إلى كلمات الوداع المؤثرة التي ودعهم بها معلمهم، فقال لهم ما بالكم نائمين؟ انهضوا وصلوا لثلا تدخلوا في تجربة، . وهكذا كانت نصيحته الدائمة لهم لكي لا يدخلوا في تجربة، أو بالأحرى لكي لا يسقطوا في الخطيئة إذا دخلوا في تجربة، هي أن يصلوا مبتهلين إلى الآب السماوي أن يساندهم ويعضدهم ويقويهم أمام المحن ويأخذ بأيديهم ليجتازوا التجارب ويتغلبوا على الصعاب ويحتملوا كل ألوان الألم والعذاب.
لو22: 47-62 القبض على السيد المسيح وإنكار بطرس :
وفيما كان المخلص يتكلم إذا جماعة من الغوغاء مقبلة يتقدمها المدعو يهوذا الاسخريوطي، أحد تلاميذه الإثنى عشر، وقد اقترب من معلمه ليقبله، فقال له المعلم معاتباً في مرارة «يا يهوذا أبقبلة تسلم ابن الإنسان، . وهكذا بلغت الخسة بهذا الخائن أنه جعل من القبلة التي هي أبلغ مظاهر المحبة والخلاص أداة لأدنأ صـور الـحـقـد وأحـقـر ألوان الخيانة . وقد كان تلاميذ فادينا عندئذ يحيطون به، فلما رأوا ما يحدث احتدموا غضباً وقالوا له يارب أنضرب بالسيف ؟،، ثم استل واحد منهم سيفه، وهو تلميذه بطرس (يو 18: 10)، وضرب عبد رئيس الكهنة الذي كان ضمن الغوغاء فقطع أذنه اليمنى، فانتهر الرب تلميذه قائلا له وكفى، كف ولا نزده . ثم لمس أذن العبد فأبرأها، فكان هذا أسطع برهان على قدرته الإلهية التي لو شاء لاستخدمها في تشتيت شمل أولئك المتهجمين عليه، ولكنه لم يشأ، لأنه كان ماضياً بمحض إختياره في تنفيذ التدبير الإلهي الذي كان يقتضى أن يقطع الطريق إلى نهايته نحو الصليب ليموت معلقاً عليه، إتماماً لعمل الفداء الذي جاء من أجله إلى العالم. كما دلل بذلك على حنانه ورأفته بالبشر، وتسامحه حتى في الوقت الذي تجمهروا عليه ليعتقلوه ويقتلوه . فأي تسامح وأي حب أعظم من هذا؟ ومن من الناس صنع مثل هذا الصنيع من قبل فأحسن إلى من أساء إليه ؟. وهكذا عمل له المجد بما علم به إذ قال «أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، (مت 5: 44). بيد أنه له المجد مع ذلك اشتد في توبيخ أولئك المقبلين عليه من رؤساء الكهنة وقواد جند الهيكل والشيوخ أعضاء مجلس السنهدريم الذين لم تمنعهم شيخوختهم ولا هيبة مناصبهم من أن ينضموا إلى الرعاع في التسلل إليه في خلوته ليقبضوا عليه تحت جنح الظلام، قائلا لهم ،كأنكم على لس خرجتم بسيوف وعصى، حين كنت معكم كل يوم في الهيكل لم تمدوا على يداً، ولكن هذه هي ساعتكم وسلطان الظلمة»، فإنهم كانوا يعرفونه كل المعرفة، وقد كان معهم كل يوم في الهيكل، وكان يمكنهم أن يقبضوا عليه هناك في وضح النهار بغير حاجة إلى التريس له هكذا في الليل كأنه لص، وبغير حاجة إلى مهاجمته بهذا الجمع الصاحب المسلح بالسيوف والعصي، كأنه سيصدهم بجيش جرار، مع أنهم يدركون كل الإدراك أنه وديع ومسالم ولا يحمل أي سلاح ولا يحتمى بأى جيش. وقـد كـان أبلغ دليل على ذلك أنه وقف الآن أمامهم أعزل وديعاً هادئاً لا يقاوم، وحين أراد أحد الذين معه أن يقاوم انتهره ليكف عن ذلك. ولكنهم ما كانوا ليدركوا ذلك كله، لأنهم كانوا قد أعـمـتـهم الفرحة بالظفر به بعد أن حاولوا ذلك طويلاً. وقد جاءت الآن ساعتهم ليتلذذوا بتعذيبه والتنكيل به، كما جاءت ساعة الشيطان سلطان الظلمة الذي يحركهم ويحرضهم كي يتلذذ بالانتصار عليه وهو عدوه الأكبر. ولكنها ساعة واحدة لن تطول ولن تتكرر، ثم يأتي بعد ذلك النصر النهائي الأبدي لرب الخلاص والحياة والنور.
وقد أمسك أولئك الأجلاف سيدنا وساقوه وجاءوا به إلى دار رئيس الكهنة، حيث كان أعداؤه مترصدين ليجمعوا ضده الأدلة التي تصلح لأن تكون سنداً عاجلاً للحكم عليه بالموت، لتقديمها في الصباح إلى مجلس السنهدريم.
ولئن كانت قصة خيانة يهوذا تتضمن طعنة أليمة تلقاها مخلصنا من واحد من أقرب الناس إليه، وكانت من أسباب أساه ومرارته، لقد كانت دار رئيس الكهنة مسرحا لقصة أخرى تتضمن طعنه أشد إيلاماً تلقاها ـ له المجد . من واحد آخر من أقرب الناسن إليه كذلك، بل من ألصق الناس به وحماساً في حبه. وذلك هو تلميذه بطرس الذي قال له في تلك الليلة نفسها ويارب إننى مستعد أن أمضى معك ولو إلى السجن وإلى الموت، . إذ ما أمسك رؤساء اليهود بالرب يسوع حتى إمتلأ بالخوف قلب بطرس، وإذ كان يحبه بالفعل تبعه ولكن من بعيد، وحين دخلوا به دار رئيس الكهنة دخل هو بعده . وأثناء محاكمة الفادي داخل الدار كان البرد قد اشتد في الخارج بعد منتصف الليل، فأضرم العبيد والخدم والجند ناراً في فناء الدار وجلسوا حولها يستدفئون، فجلس بطرس بينهم كأنه واحد منهم، وإذ رأته جارية على ضوء النار تفرست فيه وقالت إن هذا أيضاً كان معها . وعندئذ إنهارت شجاعته تماما، واستولى الخوف إستيلاء كاملا على قلبه، فأنكر معلمة قائلاً للجارية ولست أعرفه يا امرأة.. ثم بعد قليل راه آخر ممن كانوا في الغلاء فقال «أنت أيضاً منهم، ، أي من أتباع يسوع الناصري الذي تجري محاكمته داخل الدار. فقال بطرس الست منهم يا رجل، . ثم بعد نحو ساعة قال آخر مؤكدا الحق أن هذا أيضاً كان معه، فإنه جليلي كذلك، . فقال بطرس الست أدرى يا رجل عم : تتحدث . وفي الحال وهو يتكلم صاح الديك، وكان المخلص عندئذ في موضع قريب من بطرس فتلفت ونظر إليه نظرة تفيض بالألم الممض وبالعتاب المرير، وإن كانت تغيض مع ذلك بالإشفاق الأبوى على ما إنتاب هذا التلميذ الشجاع المخلص من ضعف بشرى أمام المحلة المفاجئة. فتذكر بطرس عندئذ كلمة الرب إذ قال له الن يصيح الديك اليوم حتى تكون قد أنكرتني ثلاث مرات،، فمضى بطرس إلى الخارج وبكى بكاءاً مرأ، وقد غسل بدموع ندمه وتوبته ما وقع فيه من خطيئة كادت أن تطيح بإيمانه وتؤدي به إلى الهلاك. ولقد برهنت هذه الواقعة على ضعف الإنسان أمام المواقف الصعبة مالم يكن متسلحاً برصيد وافر من الإيمان بالله وبالحياة الأخرى. فالمحبة المخلصة وحدها لا تكفى، لأن القديس بطرس عندما قال لمعلمه ويارب إنني مستعد أن أمضى معك ولو إلى السجن وإلى الموت، إنما قال ذلك عن حب وإخلاص، ولم يخطر على باله أن يخدع سيده ومعلمه بقوله هذا. كما برهنت هذه الواقعة نفسها على أن المؤمن الحقيقي لا يرتمي بقلبه على إيمان كامل بالناس مهما تكن صداقتهم ومحبتهم، فقد تخونهم صداقتهم وقد تخونهم محبتهم في اللحظة الحرجة. ولذلك يقول الكتاب المقدس وهكذا قال الرب: ملعون الرجل الذي يتكل على الإنسان، ويجعل البشر ذراعه، وعن الرب يحـيـد قلبه، (إر17: 5). لقد طلب يوسف الصديق من رئيس السقاة أن يذكره بالخـيـر أمـام فـرعـون ليخـرجـه من السجن .. ولكن لم يذكر رئيس الشفاة يوسف بل نسيه (تك 40: 23) . ثم إن موقف بطرس يستحق الرثاء لأنه يرينا خطأ الاعتماد المطلق على الذات، وشر الغرور بالنفس، والاعتقاد المصحوب بالوهم في أنه أفضل من غيره. فقد قال بطرس وإن شك فيك الجميع فلن أشك أنا أبداً، (مت 26: 33)، ولكنه كان هو أسبق من غيره في الشك في سيده ومطلعه، بل إنه لمن وحلف أنه لا يعرفه (مت 26: 74) . وذلك فضلاً عن أن بطرس أخطأ بإنضمامه في ساعة التجربة إلى زمرة المستهزئين من العبيد والخدم والجند، ومشاركتهم مجلسهم. فما كان أليق به أن يهرب من مثل هذا الوسط الردئ، لأنه ” طوبى للرجل الذي.. في مجلس المستهزئين لم يجلس” (مز 1: 1 ).
لو22: 63-65 اليهود يهزأون بالسيد المسيح :
وكان الرجال الذين قبضوا على فادينا يهزأون به ويضربونه بعد أن وقع فريسة في أيديهم، وقد غطوا عينيه وأخذوا يلملمونه على وجهه، ثم يسألونه قائلين وتنبأ لنا من هو الذي لطمك ؟،، ساخرين بذلك مما كان قد ذاع عنه من أنه نبي يعلم الغيب، ووجهوا إليه إهانات أخرى كثيرة ، مجدفين عليه، موسعين إياه طوال الليل ضرباً ولطماً وبصقاً وهزءاً وسخرية، وهو صامت لا يتكلم، صابر لا يحتج ولا يشكو، تاركاً قوى الشر تصنع أقصى ما عندها وهي تجـود بآخـر أنفاسها، لأن هذا كان جزءا من الآلام التي يتعين عليه في الترتيب الإلهي أن يعانيها قبل أن يقدم نفسه ذبيحة لغفران خطايا البشر، وقبل أن ينتصر على الشر، وعلى الشيطان مصدر الشر، الإنتصار الحاسم الأبدى.
لو22: 66-71 محاكمة السيد المسيح أمام مجلس السنهدريم :
وما إن طلع النهار حتى أجـتـمـع شيوخ الشعب ورؤساء الكهنة وساقوا مخلصنا إلى مجلس السنهدريم. وإذ كانوا قد أخفقوا طوال الليل في إختلاق تهمة يلصقونها به ليقدموها إلى ذلك المجلس كي يستند إليها في الحكم عليه بالموت، راحوا أثناء إنعقاد المجلس في الصباح يحاولون أن يتصيدوا تهمة من فمه هو تصلح للإستناد إليها في قتله، فقالوا له وأنت المسيح؟ قل لناء . وقد كانوا يعلمون أنه وإن صمت وامتنع عن الإجابة عن كل أسئلتهم، لن يصمت ولن يمتنع عن الإجابة عن هذا السؤال. وفعلا لقد قال لهم إن قلت لكم فلن تصدقوا، وإن سألتكم فلن تجيبوا إن ابن الإنسان منذ الآن سيكون جالساً عن يمين قدرة الله، ، فقالوا «أفأنت إذن ابن الله: . قال «نعم أنا هو كقولكم، . فقالوا وما حاجتنا بعد إلى شهود؟ فإننا قد سمعنا من فمه هوه . وهكذا نجحوا في التوصل إلى إعتراف منه بأنه هو المسيح ابن الله، وقد اعتبروا ذلك جريمة تستحق الموت، فلا حاجة بهم لأن يتعبوا أنفسهم في البحث عن شهود زور يشهدون ضده، ولا حاجة بهم إلى أي دليل آخر يفتعلونه إقتعالاً ويلفقونه تلفيقاً. فها هوذا يشهد على نفسه بنفسه، ويقدم الدليل بذات فمه على أنه يقول إنه ابن الله . وهذا يكفيهم ليشفوا منه غليلهم وينفذوا فيه حكم الموت الذي طالما إشتهره وسعوا بمؤامراتهم إليه.