العظات الخمسون للقديس أنبا مقار

المسيح مُنقذ النفس وفاديها

العظة الحادية عشر من العظات الخمسون

[ في أنّ قوة الرُوح القدس في قلب الإنسان هي كالنًار. وعمًا يُعوِزنا لكي نُمَيًز الأفكار التي تنبع من القلب. وعن الحيًة المائتة الًتي صَلَبَها موسى على قمًة الخشبة، والتي أضحت رمزاً للمسيح. العظة تحوي أيضا مناظرتين : الأولى بين المسيح والشيطان الخبيث ، والثانية بين الخطاه والشّيطان ]

                                      + + + + +

[أ] الرًوح القدس المحيي يَسكن قلوبنا

 1 – ان نار اللاهوت السماوية التي يقبلها المسيحيون الآن في هذا الدهر ، في داخلهم ، في قلوبهم ، هذه بعينها التي تخدم في قلوبهم ، سوف تندفق إلى خارج حينما تنحل أجسادهم ، فتجمع الأعضاء مرة أخرى ، منشئة قيامة في الأعضاء التي كانت قد انحلت . فكما أن النار التي كانت تخدم في المذبح في أورشليم صارت مدفونة في جب في زمان السبي[انظر 2مك1: 18-33] ، وهي بعينها قد تجدّدت وخدمت كالعادة حين عمّ السلام وعاد المسبيون ؛ كذلك أيضا الآن أجسادنا الملازمة لنا ، والتي بعد انحلالها تستحيل طينّا ، ستعمل فيها النارالسماوية وتجددها وتقيمها من بعد فساد . وهكذا فإن النار الساكنة الآن في داخلنا ، في قلوبنا ، سوف تندفق إلى خارج منشئة قيامة الأجسادنا[1].

 ۲ – فإن نار الأتون أيام نبوخذنصر لم تكن إلهية بل مخلوقة[[انظر دا3: 19]]، أما الفتية الثلاثة الذين من أجل برهم  طرحوا في تلك النار المنظورة ، فقد كانوا حائزين في قلوبهم على النار الإلهية السماوية والتي لم تبرح خادمة داخل أفكارهم وفاعلة فيهم ، حتى إنها هي بعينها ظهرت خارجهم ووقفت في وسطهم . حائلا دون أن تحرق النار المنظورة الأبرار أو تضرهم شيئا . بالمثل كذلك شعب إسرائيل ، فعندما عقدوا العزم بعقلهم وفكرهم أن ينأوا عن الله الحي وينعطفوا نحو عبادة الأوثان ، اضطر هارون أن يقول لهم أن يحضروا آنيتهم الذهبية وځليّهم ، والتي لما طرحوها بعد ذلك في النار استحالت صنما ، وكأنما النار قد حاکت نيتهم ، وكان هذا أمرا يُتعجب له[[انظر خر32: 2]. فإنهم لما رغبوا ، في نيتهم الخفية وفي أفكارهم ، أن يعبدوا الأوثان ، أحالت الناز كذلك آنيتهم التي طرحوها فيها صنما ، وفي النهاية عبدوا الوثن الذي ظهرلهم . فكما أن الفتية الثلاثة الذين أضمروا البر في فكرهم قد قبلوا في نفوسهم نار الله وسجدوا للرب بالحق ، كذلك أيضا النفوس الأمينة تقبل ځفية ، الآن في هذا الدهر ، تلك النار الإلهية السماوية والتي بدورها تصوغ صورة سماوية على طبيعتهم البشرية.

 3 – إذا ، فكما أن النار قد شكلت الآنية الذهبية وأحالتها صنما ، هكذا أيضا يُحاكي الرب  نيات النفوس الأمينة الصالحة ويُشكِل – وفقا لمشيئاتها – صورة جديدة في النفس ، سوف ستعلن عند القيامة خارجا عنها وتمجد أجسادها من الداخل ومن الخارج . غير أنه كما أن أجسادها تفسد وتموت وتنحل طالما هي في هذا الدهر ، هكذا أيضا بنفس الطريقة تفسد أفكار البعض بواسطة الشيطان ، فتموت عن الحياة وتدفن في الطين والأرض وتهلك نفوسهم . فكما أن الإسرائيليين قد ألقوا آنيتهم الذهبية في النار فاستحالت صنما ، هكذا الإنسان الآن أيضا قد سلم أفكاره النقية الصالحة للشر ، فدفنت في حماة  الخطيئة واستحالت صنما ، وأني  لأحد أن يجدها ويميزها ويخرجها من ناره ( التي ألقاها فيها ) ! وهنا تحتاج النفس إلى مصباح إلهي – مصباح الروح القدس الذي يرتب البيت المظلم ، وإلى شمس البر[انظر ملا4: 2] الساطعة التي تضيء القلب وتشرق فيه ، وإلى سلاح ذاك الغالب في الحرب[انظر رؤ5: 5].

 4 – فإن الأرملة التي أضاعت درهمها[انظر لو15: 8] أوقدت أولا المصباح ثم رتبت بيتها ، وهكذا إذ رُتب البيت وأوقد المصباح عثر على الدرهم مدفونا في الزًبل والوسخ والتراب ؛ هكذا أيضا الآن لا تقدر النفس من ذاتها أن تعثر على أفكارها الخاصة وتميزها ، ولكن متى أوقد المصباح الإلهي فانّه ينير البيت المظلم ، وحينذاك تبصر النفس أفكارها كيف أما مدفونة في وسخ الخطيئة وطينها ؛ فما إن تشرق الشمس حتى تبصر النفس آنذاك هلاكها وتشرع تدعو إليها أفكارها التي كانت قد امتزجت بالنيل والوسخ ، إذ قد أضاعت النفس صورها بمخالفتها للوصية.

[ ب ]  المسيح يرد آدم إلى رئاسته

5 – كأنما ملك له مقتنيات وخدم  تحت إمرته يقومون على حاجته ، ثم حدث أنه أمسك من أعدائه وسيق إلى السبي ، فلما أمسك وسبي ، تبعه بالضرورة خدامه والقائمون على حاجته ؛ هكذا آدم أيضا : فإنه څلق نقيا بواسطة الله لكي يخدمه ، وأعطي هذه المخلوقات لتقوم على حاجته إذ قد أقيم سيدا لجميع الخلائق وملگا عليها . غير أنه مذ دنت منه الكلمة الخبيثة وتحادثت معه ، اقتبلها إليه أولاً من الخارج بواسطة السمع ثم تفذت عبر قلبه فملكت كل كيانه ، وهكذا في النهاية لما أمسكت معه أيضاً الخليقة التي تخدمه وتقوم على حاجته[انظر رو8: 20-22] . فإنه بواسطته قد ملك الموت على كل نفس وشوَّه كل صورة آدم بسبب تلك المعصية[انظر رو5: 14] ، حتى إن البشر انعطفوا وجنحوا نحو عبادة الشياطين ، وإذا بثمار الأرض التي خلقها الله حسنا يقدمونها للشياطين ، ويضعون خبرا وخمرا وزيتّا وحيوانات على مذابحها ، وليس هذا فحسب بل لقد ذبحوا بنيهم وبناتهم للشياطين[انظر مز105: 37 س] !

6 – من ثم فإن ذاك الذي جبل الجسد والنفس يأتي الآن ، يأتي هو نفسه وينفض كل الانقلاب الذي صنعه الشرير وكذا أعماله التي تكمُل في الأفكار ، فيجدد الصورة السماوية ويشكلها ويجعل النفس جديدة ، لكي يصير آدم ملكّا على الموت مرة أخرى وسيدا على الخلائق . فكما أن موسی قد دعي – تحت ظل الناموس[2]  مُخلصَّا لإسرائيل لأنه أخرجهم من أرض مصر، هكذا أيضا الآن المسيح ، الفادي الحقيقي[3] ، ينفذ إلى خبايا النفس ويخرجها من ظلمة مصر ومن النير الشديد الثّقل ومن العبودية المرة . من أجل ذلك فقد أوصانا أن نخرج من العالم ونتجرد من كل ما هو منظور ولا يكون لنا أي اهتمام أرضي، بل ليلاً ونهاراً نقف على الباب مترقبين الوقت الذي فيه يفتح الرب قلوبنا الموصدة ويسكب علينا عطية الروح القدس.

[ج ] لننبذ حُطام الدنيا ونشخص إلى المصلوب

 7- لأجل هذا فقد أهاب بنا أن نترك الذهب والفضة والأقارب ، ونبيع كل ما نملك ونعطيه للفقراء فنكنزه لنا في السماوات ونلتمسه هناك ، إذ قال : « حيث يكون گنژك ، هناك سيكون قلبك أيضا » ( مت6: 21) . فإن الرب قد عرف أنه بواسطة هذه الأمور يقوى الشيطان على أفكارنا ليخدرها إلى الاهتمام بالأمور المادية الأرضية . لذا ، فإذ قد سبق الله وعُني بنفسك ، أوصاك بأن تترك كل شيء ، لكي تطلب – وإن كَرهّا – الغنى السماوي ، ويكون قلبك عند الله[4]. لأنه حتى وإن أردت أن تنكُص على أعقابك نحو المقتنيات ، فستجد ذاتك غير مالكٍ لأي من الأمور المنظورة . وهكذا سواء أردت أو لم ترد ، فسوف تكون مضطرا لأن ترفع عقلك إلى السماء[5] ، هناك حيث كنزت هذه الأشياء وذخرتها لنفسك ، لأنه « حيث يكون گنزك، هناك سيكون قلبك أيضا»[انظر مت6: 21].

 8- فلقد أمر الله موسى في الناموس بأن يصنع حية نحاسية ويرفعها ويصلبها على قمة الخشبة ، وكل من كان تلدغه الحيات ويلتفت إلى الحية النحاسية يبرأ[انظر عد21: 8]. وكان هذا تدبيريا ، لكي بمثل هذه الطريقة يمكن للمكبلين بالاهتمامات الأرضية وبعبادات الأوثان وبملذات الشيطان وبكل ضروب عدم التقوى – يمكن لهم أن يرفعوا رؤوسهم ، ولو جزئيا ، إلى ما هو فوق . وهكذا إذ يستريحون مما هو أسفل يلتفتون إلى الأمور السامية ، ومنها يتقدمون أيضا إلى ما هو أعلى ، وهكذا شيئا فشيئا إذ يتقدمون إلى صاحب الجنس الأسمي والأعلى ، يدركون أن هناك من يفوق كل الخليقة علوّا. هكذا قد أوصاك أنت أيضا بأن تصير فقيرا وتبيع كل شيء وتعطيه للفقراء ، لكي بهذا ، حئى وإن رغبت في أن تميل لأسفل نحو الأرض ، لا تستطيع . فافحص قلبك إذا وابتدئ في أن تحاجج أفكارك قائلا : ” حيث إننا لا نملك شيئا على الأرض ، فلنسع حثيثا نحو السماء حيث نقتني گنزنا وحيث قد باشرنا تجارتنا » . حينئذ يبتدئ عقلك يرتفع نحو العلو ، ملتمسا الأمور الأكثر سؤا ومتقدما في هذا .

 9 – ولكن ما عسى أن يكون هذا : أن تشفي الحية المائتة المصلوبة على قمة الخشبة أولئك الذين قد لدغوا ؟! لقد كانت الحية المائتة تغلب الحيات العائشة ، حئ إنها صارت رمزا لجسد الرب ؛ إذ إن الجسد الذي أخذه من مريم قد اصعده[6] علي  الصليب وعلقه وصلبه على الخشبة – هذا الجسد المائت قد غلب الحية التي تعيش وتزحف في القلب وقتلها ، فيا له عجبا عظيما جدا ، كيف أن حية مائتة كانت تقتل أخرى لا تزال تحيا ! ولكن على غرار المثال الذي صنع به موسى شيئا جديدا – إذ قد صنع شيئا شبيها للحية العائشة – هكذا أيضا قد صنع الرب من مريم شيئاً جديداً ولبسه[7] ، غير أنه لم يأتي بجسده من السماء . فالنفخة السماوية التي كانت قد دخلت في آدم ، شكلها الرب ووحدها باللاهوت ، ولبس جسدا بشريا صؤره في بطن ( العذراء ) . فكما أنه لم يصدر أمر من قبل الرب بظهورحية نحاسية في العالم حتی زمان موسی ، كذلك أيضا لم يظهر في العالم جسد جديد بلا خطيئة حتى مجيء الرب . فبمخالفة آدم الأول للوصية ملك الموت على ذريته بأسرها ، وفي مقابل ذلك غلب جسد مائت الحية العائشة .

10- وهذا الأمر العجيب إنما هوعند اليهود عثرة وعند اليونانيين جهالة ، لأنه ماذا يقول الرسول ؟ « ولكننا نگرز بيسوع المسيح وإياه مصوبا ، لليهود عثرة ولليونانيين جهالة ، وأما لنا نحن المخلصين فبالمسيح قوة الله وحكمة الله » ( قارن : 1کو1: 23 ، 24 ، 1کو1: 18) ، لأنه في الجسد المائت قد وجدت الحياة ! هنا الفداء ! هنا النور ! هنا الرب يتقدم نحو الموت ويحاججه ويأمره بأن يخرج النفوس من الجحيم ومن الموت ويردها إليه . ولهذا فإن الموت يضطرب إزاء هذا ويدخل إلى خدامه ويحشد كل قواته ، ثم إن رئيس الشر يأتي بصكوكه قائلا : ’’ أنظر هؤلاء الذين قد أطاعوا كلمتي ! أنظر كيف أن البشر قد سجدوا لنا ! » . أما الله ، فلكونه الديان  العادل ، فإنه يظهر آنذاك عدله قائلا له : لقد أطاعك ’ آدم[8] حتى إنك استأثرت بكل القلوب ، وقد أطاعتك البشرية ، ولكن ماذا يعمل جسدي أنا هنا ؟ إنه بلا خطيئة . فإن الذي استدين لك هو ذاك الجسد الذي لآدم الأول ، وبعدلٍ تمسك أنت عليههذه الصكوك ، وأما أنا فالجميع يشهد لي أني ما أخطأت[انظر يو8: 46] ، وعلى هذا فإني لست مدينا لك بشيء . فإني أنا هو ابن الله ، والكل يشهد لي بذلك : فقد شهد صوت من فوق السماوات نازلا على الأرض : « هذا هو ابني الحبيب ، له اسمعوا » ( مت 16:3،  17) ، ويوحنا شهد قائلا : « هو ذا حمل الله الذي يحمل خطيئة العالم » ( یو1: 29) ، وأيضا الكتب تقول : « الذي لم يصنع خطيئة ولا وجد فيه غش » ( إش 9:53 ؛ 1بط2: 22) ، وأيضا : « رئیس العالم يأتي ، ولن يجد في شيئا » ( يو30:14 حسب النص ) . بل إنك أنت نفسك ، أيها الشيطان ، تشهد لي قائلا : « أنا أعرفك من أنت ، ابن الله » ( مر1: 24 ؛ 3 : 11 ) ، وأيضا : « ما لنا ولك يا يسوع الناصري ، أتيت قبل الوقت لتعذبنا» ( مت8 :29 ) ، وهكذا فإن ثلاثة يشهدون لي : ذاك الذي أطلق صوتا من فوق السماوات ، وأولئك الذين على الأرض ، ثم أنت نفسك . فإني أنا أفتدي الجسد الذي بيع لك بواسطة آدم الأول ، وأبطل صكوكك ، لأني قد وفيت ڈیون آدم لما صلبت ونزلت إلى الجحيم ، ولهذا فإني أمرك ، أيها الجحيم والظلمة والموت ، أن تخرج نفوس’’ آدم ‘‘ المغلق عليها . وهكذا في النهاية ، إذ ترتعد القوات الشريرة فرقا ، ترد إليه نفوس ” ادم ” المغلق عليه .

 [ د ] الرب ينقذ النفس من براثن الموت

 11- ولكن حين تسمع أنه في ذلك الزمان قد أنقذ الرب النفوس الجحيم ومن الظلمة ، وأنه قد نزل إلى الجحيم وصنع عملا مجيدا ، لا تظن أن هذه الأمور بعيدة عن نفسك أنت . ذلك أن الإنسان له أن يفسح للشرير وله أن يقبله ، فلقد قبض الموت على نفوس ’’ آدم ‘‘ ، وأغلق على أفكار النفس في غُور الظلام . وكذلك حين تسمع عن القبور ، فلا تعتبر تلك الظاهرة وحدها ، بل إن قلبك أنت أيضا هو قبر ورمس، لأنه حين يكمن هناك رئيس الشر وملائكته ، وحين تقام هناك الطرق والدروب حيث تجعل منها قوات الشيطان ما إلى عقلك وإلى أفكارك ، أفلا تمسي أنت آنئذٍ جحيما وقيرا ومسا ؟ أولا تمسي مائتا بالنسبة إلى الله ؟ فإنه هناك قد سلك الشيطان فضته المغشوشة ، وفي هذه النفس قد ألقى بذورا مرة ، فتخمرت بخميرة عتيقة وتدفق هناك ينبوع وحلٍ[انظر إش57: 20]. إلا أن الرب يأتي إلى النفوس التي تطلبه ، يأتي إلى عمق جحيم القلب ، وهناك يأمر الموت قائلا : ” أخرج النفوس المغلق عليها ، التي تطلبني ، تلك التي تحتجزها بقسوة ، ثم إنه يشق الحجارة الثقيلة الجاثمة على النفس ، ويفتح القبور ، ويقيم الميت الحقيقي ، ويخرج من غياهب السجن النفس المغلق عليها

 12- كمثل أن يكون هناك إنسان مربوطه يداه ورجلاه بسلاسل ، ثم يأتي أحد ويفك قيوده ويطلقه حرّا يسير بلا أغلال ؛ هكذا النفس الراسفة في قيود الموت يحلها الرب من أصفادها ، ويغفر لها ويعتق ذهنها لكي ينطلق في راحة بلا عناء نحو الأجواء الإلهية . وكمثل أن يكون هناك إنسان وسط نهر في ملء فيضانه ، فيغرق في مياهه ويرقد مائتا ومختنقا ومكتنفا بوحوش مفزعة ، فإن حدث أن إنسانا آخر لا خبرة له بالسباحة أراد أن ينقذ ذاك الذي قد سقط ، فسوف يهلك هو نفسه معه ويختنق . فإن الحاجة ههنا إلى سباح خبير بارع ، لكيما يدخل إلى عمق لجة المياه ويغوص ثم يصعد ذاك الذي قد غرق وصار في وسط الوحوش ، وأما المياه نفسها ، فحينما ترى خبيرا بالسباحة وعارفا لها ، فإنها تعينه وترفعه إلى أعلى ؛ هكذا النفس أيضا ، فإنها لما أغرقت في هؤة الظلمة وفي عمق الموت ، اختنقت وباتت مائتة بالنسبة إلى الله ، مكتنفة بوحوش مفزعة ؛ فمن ذا الذي يستطيع أن ينزل إلى تلك المواضع الخفية وإلى أعماق الجحيم وإلى الموت ، إلا الخالق البارع نفسه ، ذاك الذي جبل الجسد ؟ فإنه هو يأتي إلى كلا الموضعين : إلى عمق الجحيم ، وكذلك إلى عمق غور القلب ، هناك حيث النفس ممسوكة من الموت مع كل أفكارها ، ويصعد من العمق المظلم ” آدم ” الذي كان قد مات ، وأما الموت فإنه إزاء هذا الصنيع[9] يصير هو نفسه عونا للإنسان ، كما المياه للسباح .

13- لأنه لماذا يعد أمراً عسيراً على االله أن يدخل إلى الموت ، وأيضا إلى عمق غور القلب ، لكي يدعو مرة أخرى من هناك ’’ آدم ‘‘ المائت ؟ ففي هذا العالم المنظور توجد مساكن وأبنية حيث يقطن بنو البشر ، وتوجد كذلك مواضع حيث تأوي وحوش وأسود أو تنانين ووحوش سامة أخرى ، فإن كانت الشمس ، وهي مجرد خليقة ، تنفذ إلى كل صوب عبر المنافذ والگوى ، إلى عُرُن الأسود کما إلى جحور الزواحف ، ثم تخرج لا يعوقها شيء ؛ فكم بالأحرى جدا إله الجميع وسيدهم ، يدخل إلى الأوجرة وإلى المواضع حيث ينصب الموت خيمته ، وكذا إلى النفوس حيث ينقذ ’’ آدم ‘‘ ، دون أن يتضرر من الموت في شيء ؛ فالمطر أيضا الذي يهطل من الماء يبلغ في نزوله أقسام الأرض السفلی ، وهناك يرطب الجذور اليابسة ويجددها ، فينشئ هناك نبتا جديدا .

( هـ ) مناظرة بين الشيطان والإنسان الخاطئ

 14 – فذاك الذي يكون له جهاد وضيق وحرب مع الشيطان إنما هو إنسان مغاير ؛ إذ يقتني له نفسا منسحقة ، كونه في هم وحزن ودموع . مثل هذا يثبت من وجهتين ( الأولى أنه يجاهد ، والثانية أن الرب يعضده ) ، فإن كان هو يتجلد إزاء مثل هذه الأمور ، فإن الرب يكون معه في الحرب ويحرسه ، ذلك لأنه يسأل باجتهاد ويقرع الباب حئى يفتح له ، وإن كان يبدو لك أنه أخ صالح فذلك لأن النعمة تثبته . أما من كان لا أساس له ، فإنه لا يجوز في نفسه مثل ذلك الخوف من الله ، ولا يقتني قلبا منسحقا ، ولا يكون في خشية ، ولا يكون قلبه وأعضاءه لكي لا تسلك بلا ترتیب ، مثل هذا لا يزال ذا نفسٍ سائبة لأنه لم يدخل بعد في الجهاد . إذا فذاك الذي له جهاد وضيق إنما هو مغاير تماما لمن لا يعلم الحرب ، ما هي ! لأنه حتی البذار حين تلقي في الأرض ، فإنها تحتمل ضيقا من الصقيع ومن الشتاء ومن الأهوية قارصة البرودة ، ثم في الرمان المعين يحيا النبت مجددا.

 15 – لكن يعرض أن يلاججك الشيطان في قلبك قائلا : ’’ انظر کم من شرور صنعت ؟ أنظر كم من جهالات قد امتلأت بها نفسك ؟ وها أنت تنوء بحمل خطاياك ، وعلى هذه الحال فلا يمكنك أن تخلص ‘ . فهو إنما يفعل مثل هذه الأمور لكيما يأتي بك إلى اليأس وإلى الظن بأن توبتك غير مقبولة ، لأنه منذ أن دخل الشر بواسطة المعصية ، والشيطان لا يتم من أن يتحاجج مع النفس كل ساعة مثل إنسان يتحاجج مع إنسان آخر . أما أنت فرد عليه جواب هكذا : ” إن عندي شهادات الرب مكتوبة : إني لا أشاء موت الخاطئ مثل أن يتوب ويرجع عن طريق الشر ويحيا “ ( قا : حز33: 11) . لأنه لأجل هذا قد نزل هو ، لكي يخلص الخطأة[انظر 1تي1: 15] ويقيم الموتی ويحيي الذين قتلوا ويضيء على الذين في الظلام ، لأنه بالحقيقة لما جاء دعانا إلى التبني ، وإلى مدينة مقدسة تفيض سلاما – مدينة حية لن تموت أبدا ، وإلى مجد لا يفسد . فقط لنضع نحن خاتمة صالحة لما بدأنا به ، ولنثبت في الفقر والغربة والمذلة والشؤال إلى الله قارعين الباب بلجاجة[انظر لو11: 8] . لأنه كما أن الجسد هو قريب من النفس ، هكذا الرب أيضا ، بل إنه أقرب ، حتى إنه يأتي ويفتح أبواب القلب الموصدة ويغدق علينا غناه السماوي ، فإنه صالح ومحب للبشر ومواعيده غير كاذبة ، إن كنا فقط نصبر في طلبنا إياه حتى المنتهي[انظر مت10: 22 ، مر13: 13] ” . فالمجد لرأفات الآب والابن والروح القدس إلى دهور الأهور ، آمين .

  1. هذه الفقرة نجدها مُبلورة في رو8: 21: « وإن كان روح الذي أقام يسوع من الأموات ساكناً فيكم ، فالذي أقام المسيح من الأموات سيُحيي أجسادكم المائتة أيضاً بروحه الساكن فيكم» ۔ 
  2. أي إبان الناموس الذي له ظل الخبرات العتيدة لا حقيقتها ( انظر : عب 10: 1) .
  3. المسيح هنا هو الفادي الحقيقي الذي كان يرمز إليه موسى . ويجدر الذكر هنا أن كلمة الفادي هذه لم ترد في العهد الجديد كله سوى مرة واحدة فقط ، على لسان ق . استفانوس في أع 7 : 35 ، واصفاً بما موسی کفادٍ لإسرائيل ، ظلا ورمزاً للفادي الحقيقي – المسيح .

  4.  في الأصل اليوناني هذه الجملة على وزن ما نردده في القداس الإلهي : ” هي ( قلوبنا ) عند الرب ( حرفياً = نقتنيها عند الرب).

  5. حرفياً:=إلى السماوي ، ويمكن أن تشير إلى العالم السماوي ، أو الكنز السماوي  

  6. = يُصعد ( ذبيحة ) ، وقد ورد هذا المعنى ، على سبيل المثال ، في : عب7: 27 ، 9: 28 ، وتُرجم قدَّم 

  7. أي جسده الخاص . 

  8. على مدار هذه الفقرة وما يليها ، يستعيض أنبا مقار ” آدم” عن “البشرية”.
  9.   الكلمة التي نترجمها هنا الصنيع ،  تعني عملاً بطولياً عظيماً ، وهي من أصل = عار ، مُجرد ، على أساس أن البطل يصل إلى أن يتعرى من ثيابه ليحقق العمل البطولي الذي يبتغيه . وغالباً كان عالقاً في ذهن أنبا مقار وهو يختار هذه الكلمة أن المسيح تعرف على الصليب لأجلنا ، ليحقق هذه السطوة العظيمة على مملكة الشيطان وينقذنا منها . ( عن أحد آباء الدير)

 

زر الذهاب إلى الأعلى