تفسير الإنجيل بحسب القديس لوقا أصحاح 5 للأنبا غريغوريوس

الفصل الخامس

5: 1- 11 السيد المسيح يختار تلاميذه الأوائل :

وحـدث أن كانت الجموع تتزاحم حـول فـادينا لسماع كلمة الله. وكان واقفاً عند بحيرة جنیسارت. التي كانت تسمى أيضاً بحيرة طبرية، كما كانت تسمى بحر الجليل. وقد أمثلاً الساحل بتلك الجـمـوع الزاخرة التي كانت تبلغ عـدة آلاف، حتى لم يعد من الممكن أن يروه جميعاً وهو يعلمهم، وعندئذ رأى سفينتين راسيتين عند شاطئ البحيرة، وقد . خرج الصيادون منها يغسلون شباكهم، فاعتلى إحدى السفينتين، وكانت لسمعان بطرس، وطلب إليه أن يبتعد بها قليلا عن البر ليتفادي ازدحام الجموع من حوله، ثم جلس يعلمهم من موضع فوق السفينة كان يتاح لهم منه أن يروه جميعاً. كما كان يتاح لهم أن يسمعوه جميعاً، لأن صوته وإن كان رقيقاً عميقاً، فقد كان كذلك قوياً جهورياً، حتى إذا فرغ من الكلام والتعليم، قال لسمعان متقدم إلى العمق وألقوا شباككم للصيد، فأجاب سمعان وقال له يا معلم قد تعبنا الليل كله ، فلم نحصل على شيء. ولكننا على كلمتك سنلقي الشباك ، وكان قوله هذا دليلاً على إيمانه بأن المعلم قادر أن يحقق لهم بقدرته الإلهية ما لم يستطيعوا هم تحقيقه الليل كله بمجهودهم البشري. إذ كان سمعان من أوائل الذين سمعوا بشهادة يوحنا المعمدان عنه أن هذا هو المسيح ابن الله، فذهب إليـه وتحدث معه، وقد أطلق عليه مخلصنا عند ذاك لقب بطرس، الذي اشتهر به. إذ جاء في إنجيل القديس يوحنا أنه في الغد كان يوحنا (المعمدان) واقفاً هو واثنان من تلاميذه، فنظر إلى يسوع ماشياً، فقال هوذا حمل الله، فسمعه التلميذان يتكلم فتبعا يسوع.. كان أندراوس أخو سمعان بطرس واحدا من الاثنين اللذين سمعا يوحنا وتبعاه. هذا وجد أولا أخاه سمعان فقال له : قد وجدنا مسيا الذي تفسيره المسيح، فجاء به إلى يسوع، فنظر إليه يسوع وقال : أنت سمعان بن يونا. أنت تدعى صفا الذي تفسيره بطرس، (يوحنا 1 : 35- 42) ومن ثم أطاع بطرس وزملاؤه من الصيادين أمر مخلصنا، فتقدموا إلى العمق وألقوا شباكهم، وعندئذ امتلأت الشباك بعدد عظيم من السمك، حتى لقد أخذت شباكهم تتمزق. فأشاروا إلى رفاقهم الذين كانوا في السفينة الأخرى ليأتوا ويعاونوهم، فأتوا وملأوا السفينتين من السمك حتى كادتا أن تغرقا. وعندئذ أثمرت تلك المعجزة التي صنعها السيد المسيح ثمرتها التي كان يهدف إليها، وهي أن يؤمن به كل الذين شهدوها، ولا سيما أولئك الصيادين الذين كان قد وقع اختياره عليهم ليكونوا تلاميذه ، إذ ما رأى سمعان بطرس ذلك الذي حدث حتى خر عند ركبتي مخلصنا قائلاً أمض من عندي يارب، لأننى رجل خاطئ، فقد توطد إيمانه عندئذ بأن هذا هو المسيح ابن الله الذي سبق له أن سمع شهادة يوحنا المعمدان عنه، ومن ثم أحس بما يحسه كل إنسان أمام العزة الإلهية من أنه : خطاياه البشرية لا يستحق أن يقترب من الله القدوس الطاهر طهارة مطلقة. وقد ارتعب بطرس كما ارتعب كل الذين كانوا معه لكثرة السمك الذي حصلوا عليه ، وكان منهم يعقوب ويوحنا أبنا زبدي اللذان كانا رفيقين لسمعان في مهنة الصيد، فقال فادينا لسمعان ، لا تخف وإنك منذ الآن ستكون سياد بشره ، معلناً بذلك أنه اختاره ضمن تلاميذه الأقربين إليه، فلن يعمل بعد اليوم في أصطياد السمك ليأكله الناس، وإنما سيعمل في اصطياد الناس أنفسهم، ليدخلوا ملكوت السماوات الذي فتح السيد المسيح للناس أبوابه. وإذ كان في السفينة عند ذاك بطرس وأخـوه اندراوس، ويوحنا وأخوه يعقوب، جاءوا بسفينتهم إلى البر ثم تركوا كل شئ وتبعوه فكانوا من أوائل تلاميذه ومن أقربهم إليه. وقد رحلوا عن أهلهم وديارهم وتخلوا عن كل ما يملكون في الدنيا ولازمـوه ملازمة كاملة، مكرسين حياتهم كلها لخدمته والاستماع إلى تعاليمه والانصياع لوصاياه . والتبشير به بعد ذلك في كل أنحاء الأرض.

16-12:5 معجزة شفاء الأبرص :

ودخل سيدنا إحدى المدن – وهي كما نعلم من إنجيلي القديسين متى ومرقس مدينة كفر ناحوم – فإذا رجل يملأ البرص جسده، وقد اشتدت عليه وطأة ذلك المرض البشع حتى شمله كله من قمة رأسه إلى أخمص قدميه، فأصبح شفاؤه متعذراً، بل مستحيلاً في تلك الأيام. بيد أنه حين رأي فادينا خر على وجهه أمامه وتوسل إليه قائلاً ، يا رب إن كنت تريد، فأنت قادر على أن تطهرني، . فعلى الرغم من علمه بخطورة مرضه، واستحالة شفائه منه، كان يؤمن بأن السيد المسيح بسلطانه الإلهي قادر على أن يشفيه بمجرد أن تتجه إرادته إلى ذلك، لأنه كثيراً ما سمع أن السيد المسيح إذا أراد شفاء مرض من الأمراض مهما بلغت خطورته أو استعصاؤه على الشفاء، فعل ذلك على الفور، بقدرة لا يمكن أن يعوقها عائق أو يحول دونها حائل، لأنها قدرة الله ذاته القادر على كل شئ. فلما رأى مخلصنا ذلك الإيمان العميق الذي أيداه الرجل، وتلك الضراعة التي توسل بها إليه، وذلك الانسحاق الذي عبر عنه بسجوده أمامه، استجاب له على الفور ومد يده ولمسه قائلاً «أريد فاطهر، . ففي الحال ذهب عنه البرص. فبرهن السيد المسيح بذلك على أنه فعلا يصنع معجزاته بإرادته وحدها، وأن هذه الإرادة قادرة على أن تحقق ما تتجه إليه مهما بدا للناس تحقيقها عسيراً أو مستحيلاً، وقد كانت الشريعة اليهودية تعتبر! الأبرص نجساً، وتعتبر أن الذي يلمسه يصبح نجساً كذلك. بيد أن السيد المسيح مع ذلك لمسه لأنه طاهر طهارة كاملة، فلا يمكن أن تعلق به النجاسة أبداً، بل إنه هو وحده القادر على أن نجاسة البشر ويطهرهم منها. ولكن مخلصنا على الرغم من عظمة هذه المعجزة قد شاء تواضعه ألا يفخر بها، كما شاءت حكمته ألايعلم الناس أمرها، فأوصى الرجل قائلاً «لا تقل لأحد، . إلا أنه كان حريصاً على العمل بشريعة موسى. وكانت تلك الشريعة تقضى على الأبرص إذا تطهر من برصه بأن يتقدم إلى الكاهن ليقوم بالطقوس التي قررتها الشريعة لإعلان طهارته، وبأن يقدم القربان الذي قررته الشريعة كذلك تعبيراً عن شكره لله وعرفاناً بفضله عليه (اللاويين 14 : 1 – 32)، ومن ثم قال فادينا للرجل وإنما أذهب إلى الكاهن أره نفسك، وقدم عن تطهـيرك القريان الذي أمر به موسى، شهادة لديهم،، أي ليعلم الكاهن وزملاؤه من الكهنة ورجال الدين أنه قد جاء إليهم وإلى العالم كله ذلك القادر على تطهير الأبرص، لا بسلطان شريعة موسى، وإنما بسلطانه هو، وأن تلك الطقوس الموسوية التي وإن كان قد أخضع لها نفسه، لم يعد لها بعد مجيئه ضرورة ولا جدوى، لأنها إنما كانت كلها ترمز إلى تجسده وتقديم نفسه ذبيحة عن البشر لغفران خطاياهم . وإذ تحقق المرمـوز له، لم يعد ثمة ضرورة للرمز. بيد أن الرجل الذي أسبغ عليـه مخلصنا نعمة الشفاء من مرضه الشنيع الذي كان يائساً من الشفاء منه، لم يستطع أن يسكت عن أن يتحدث للناس عن تلك النعمة التي أسبغها عليه على الرغم من أنه قد أوصاه بألا يقول لأحد. كما أن الكهنة الذين أراهم نفسه وأخبرهم بأمر شفائه على يد ذلك الشافي الإلهي تحدثوا ولا شك إلى غيرهم عنه ومن ثم ازداد أمر مخلصنا ذيوعاً فتوافدت جموع عظيمة ليستمعوا إلى تعاليمه التي كان لا يفتأ ينادي بها، ويروا معجزاته التي لا يفتأ يصنعها، وينالوا الشفاء به من أمراضهم. وأما هو فكان ينتهز كل فرصة ليعتزل في القفار ويصلي مناجيا أباه السماوي الذي كان دائم الاتصال به، ليعطى الناس مثلاً أنهم مهما كانت مشاغلهم ومهما كان ثقل الأعباء الملقاة على عوائقهم ينبغي أن ينتهزوا كل فرصة تتاح لهم للاختلاء بأنفسهم والتأمل في نعمة الله عليهم والعمل بالصلاة إليه على ألا تنقطع صلتهم به أو صلته بهم، لأن هذا هو خبزهم الروحي الذي لا يغنيهم الخبز المادي عن الحياة بدونه. حياة روحية حقيقية خالدة، لا حياة مادية زائفة زائلة، ولعل في اعتزال السيد المسيح في القفار للصلاة والتأمل تأسيساً للرهبنة المسيحية وإعلاء لقيمتها الروحية .

5: 17- 26 معجزة شفاء المفلوج :

وفيما كان مخلصنا يعلم ذات يوم في أحد بيوت كفر ناحوم، كان ازدحام الجموع شديداً في البيت وخارجه، حتى لم يعد ثمة موضع لقدم (مر2: 1 و2). وقد جاءوا ليستمعوا إلى تعاليم ذلك المعلم العظيم ويروا مـعـجـزاته الرائعة. وقد كان ضمن هؤلاء بعض الفريسيين ومعلمى الشريعة الذين جاءوا من كل بلاد الجليل واليهودية وأورشليم، ليتـحـقـقـوا مما سمعوه عنه، متجسسين عليه، ملتمسين فرصة ـ في غيرتهم مما أصبح له من مكانة لدى الشعب تهدد مكانتهم ـ ليسمعوا منه قولاً أو يروا فعلاً يتهمونه فيه بمخالفة شريعتهم، ويتخذونه ذريعة لمحاكمته والحكم بالموت عليه، بيد أن قوة الرب قد حلت حينذاك أمام أعينهم، فشفي مخلصنا الذين قدموهم إليه من المرضى. وإذا رجال قد جاءوا يحملون مفلوجاً على فراش. وكان الفالج يومذاك من الأمراض الخطيرة المستعصية التي يتعذر شفاؤها. ومن ثم حاول أولئك الرجال أن يدخلوا بالمريض ليضعوه أمام فادينا داخل البيت، مؤمنين بأنه هو الوحيد القادر بقوته الإلهية على أن يشفيه كما شفى غيره من المصابين بأمراض تشبه في خطورتها مرضه. فلما لم يجدوا وسيلة للدخول به بسبب شدة الزحام عند الباب صعدوا إلى السطح ونزعوا بعض قوالب القرميد التي السقف ودلوه مع فراشه من الفتحة التي نقبوها، مفسحين له مكانا أمام مخلصنا في وسط الجموع التي كانت تزخر من حوله. فلما رأى مخلصنا إيمانهم الذي برهنوا عليه بما فعلوا، قال للمفلوج «أيها الرجـل مـغـفـورة لك خطاياك، وقد أراد مخلصنا بذلك أن يبرئ الرجل من أمراضه الروحية التي نشأت عن خطاياه ، والتي هي العلة في أمراضه الجسدية، فيبرته بذلك روحاً وجسداً، بيد أن الفريسيين والكتبة معلمي الشريعة الذين كانوا جالسين متخصصين عليه، متربصين له، ليقتنصوا تهمة يدينونه بها، وجدوا فيما قاله عندئذ بغيتهم التي يسعون إليها. غير أنهم إذ كانوا يتظاهرون عندئذ بأنهم جاءوا، لا كأعـداء محاربين، وإنما كأحباء معجبين، لم يجرؤوا على المجاهرة بالاتهام الذي أضمروه عندئذ له، فراحوا يدبرون إنهامهم في الخفاء وهم يفكرون في أنفسهم قائلين من هذا الذي يجدف ؟ فمن يقدر أن يغفر الخطايا إلا الله الواحـد وحـده ؟؟ . وهكذا كانت التهمة التي أعدوها ليدينوه بها هي التجديف على الله، إذ زعم لنفسه سلطان غفران الخطايا الذي لا يملكه إلا الله وحده ، مساويا نفسه بالله، معتدياً بذلك على جلاله وقدسيته. وتلك جريمة عقوبتها في الشريعة هي الموت. بيد أن مخلصنا علم أفكارهم على الرغم من أنهم لم يجاهروا بها، وأجاب قائلاً لهم لماذا تجول هذه الأفكار في قلوبكم ؟ أيهما أيسر : أن يقال مغفورة لك خطاياك، أم أن يقال قم وامش؟ ولكن لكي تعلموا أن لابن الإنسان السلطان على الأرض أن يغفر الخطاياء . ثم قال للمفلوج ولك أقول قم واحمل فراشك واذهب إلى بيتك، . ففي الحال قام أمامهم وحمل ما كان راقداً عليه وذهب إلى بيته وهو يمجد الله. وهكذا أثبت السيد المسيح لأولئك المتلصصين المتربصين أنهم أشرار وأنهم في نفس الوقت جهلاء حتى بشريعتهم التي يدعون العلم بها ويتظاهرون بالدفاع عنها. لأنه جاء في نبوءات الأنبياء التي تتضمنها أسفار شريعتهم أن المسيح الذي ينتظرونه – وإن كان سيتخذ طبيعة الإنسان وابن الإنسان – هو ابن الله، وهو الله ذاته، ومن ثم فإنه يملك سلطان غفران خطايا البشر. فلئن كانوا قد أنكروا على مخلصنا هذا السلطان، فذلك لأنهم يجهلون هذه الحقيقة، أو لعلهم يتجاهلونها متعمدين ، ليتخلصوا ذلك الذي جاء ليخلصهم، غيرة منه وحقداً عليه، وخوفاً من سلطانه الذي سيزعزع سلطانهم، ومن مكانته التي ستقضى على مكانتهم. ولكن فادينا أفحمهم بطريقة عملية، مثبتاً لهم أن الذي يستطيع أن يقول للمفلوج قم احمل فراشك واذهب إلى بيتك فيتحقق ذلك على الفور، يستطيع بالأحرى أن يغـفـر الخطايا، لأن السلطان في الحالتين واحـد ولا يمكن أن يكون هذا السلطان إلا سلطان الله وحده . 

ولعل مما يستلفت النظر أن المفلوج وقد ظل سنوات طويلة لا يستطيع أن يحمل نفسه ويقف على قدميه، استطاع بكلمة واحدة من السيد المسيح أن يحمل نفسه وأن يحمل فراشه أيضاً ويذهب على قدميه إلى بيته. ومن ثم ذهل الحاضرون كلهم ومجدوا الله وهم يقولون وقد ملأهم الخوف واستولت عليهم الرهبة وقد رأينا اليوم عجائب، . ولعل الفريسيين ومعلمي الشريعة – على الرغم مما يضمرونه من شر ومكر وغدر. كانوا ضمن الذين ذهلوا من روعة تلك المعجزة، وخافوا مما تتضمنه من سلطان يمتلكه ذلك الذي يناصبونه العداء وجاءوا ليعلنوا الحرب عليه، وقد استولت عليهم الرهبة كما استولت على سائر الحاضرين من عامة الشعب، لأنهم رأوا هم أيضاً عـجـائب تفوق مداركهم، ورأوا مظهرا من مظاهر القوة والسطوة لدى عدوهم، لا يملكون إزاءها إلا استشعار الضعف والتخاذل أمامه، والخوف والخزى منه.

5: 27- 32 دعوة لاوى المعروف بمتى العشار تلميذا له :

وخرج معلمنا بعد ذلك فرأى عشاراً، أي جابيا للعشور وهي الضرائب، اسمه لاوي، وهو الذي كان معروفاً أيضاً باسم منى، والذي كتب فيما بعد البشارة التي تحمل اسمه من بشائر الإنجيل. وقد كان اليهود يكرهون العشارين ويحتقرونهم ويعتبرونهم في حكم الخطاة والزناة، لأنهم كانوا يعاونون السلطات الرومانية في جباية ما تفرضه على اليهود من الضرائب التي هي رمز عبوديتهم للرومان، ولأنهم كانوا يجبون من أبناء جنسهم ما يزيد على ما هو مفروض عليهم، ليـسـتـبـفـوا الزيادة لأنفسهم، مكتنزين بذلك من الأموال المنهوبة نهباً ما جعلهم من الأثرياء المتعجرفين، ومستخدمين في ذلك من العنت والعنف والتجبر ما جعل اليهود يحقدون عليهم وينفرون منهم وينعتونهم بأقبح النعوت. بيد أن معلمنا لم يجد غضاضة في أن يضم إلى تلاميذه واحداً منهم توسم فيه الاستعداد لأن يتجدد ويتجرد من نقائص طائفته، ويغدو تربة صالحة ليغرس فيها غراسه، فتجود بأطيب الثمرات، ومن ثم فإنه نظر إلى لاوى فيما كان جالساً في مكتب جباية الضرائب، وقال له «اتبعني، وقد تحقق على الفور ما توسمه معلمنا فيه، لأنه ترك كل شئ وقام وتبعه، متخلياً عن وظيفته التي تدر عليه أموالا طائلة، ومتخلياً عما كان قد جناه فعلاً من تلك الأموال، مستجيباً لدعوة ذلك الذي بكلمة واحدة استطاع أن يغير حياته تغييراً كاملاً، وينتقل به في لحظة من الانغماس في اهتمامات هذا العالم وتطلعاته وشهواته، إلى التماس أقداس ملكوت السماوات وأمجاده وبركاته، ومن ثم كرس نفسه منذ تلك اللحظة لملازمته وخدمته والاستماع إلى تعاليمه، ثم المناداة بتلك التعاليم في كل أنحاء الأرض.

وقد أراد لاوى أن يحتفل بميلاده ميلاداً جديداً، وأن يدعو زملاءه من العشارين عسى أن تتجدد قلوبهم حين يرون ويسمعون ذلك الذي جدد قلبه، فينالوا النعمة التي نالها هو، ومن ثم صنع لمعلمه وليمة عظيمة في بيته، ودعا إليها جمعاً كبيراً من المشارين وغيرهم، فجلسوا مع المعلم وتلاميذه إلى المائدة. بيد أن أعداء السيد المسيح من الفريسيين والكتبة معلمي الشريعة اليهودية لم يفهموا ما ينطوي عليه ذلك الاحتفال من معنى نبيل، وما يهدف إليه من غاية سامية، فتذمروا قائلين لتلاميذه وما بالكم تأكلون مع العشارين والخطاة ؟.. وهكذا لم يذكروا العشارين إلا وهم يقرنونهم بالخطاة كعادتهم. وعندئذ أفحمهم السيد المسيح وأفهمهم ما لم يكونوا يفهمون من حكمته ومن حقيقة رسالته، إذ أجابهم قائلاً لهم ، لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب، بل المرضى، فما جئت لأدعو أبراراً بل خطاة إلى التوبة، فالخطاة ما هم إلا مرضى يكمن مرضهم في أرواحهم، وإن لم يكمن في أجسادهم. وهم الذين يحتاجون إلى الشفاء من مرضهم الروحي. وقد جاء هو ليشفيهم من ذلك المرض، داعياً إياهم إلى النوبة التي هي السبيل إلى الشفاء من ذلك المرض، فلا مناص لكي يفعل ذلك من أن يقترب منهم ويدعوهم لأن يقتربوا منه، شأن الطبيب الذي يسعى إلى المريض أو يسعى المريض إليه ليفحصه ويشخص داءه ويقرر له دواءه ليشفيه. وأما الأصحاء فلا حاجة بهم إلى ذلك. وقد جاء مخلصنا لا ليدعو الأبرار إلى التوبة، لأنهم لا خطايا لهم تستوجب هذه الدعوة، وإنما ليدعو الخطاة، لأنهم في حاجة إلى التوبة التي بغيرها لا يمكن خلاصهم، بل يظلون غارقين في خطاياهم، مـسـتـحـقين الهلاك لدى العدالة الإلهية من جراء تلك الخطايا.

5: 33- 39 السيد المسيح يفصل بين العهد القديم والعهد الجديد :

غير أن أعداء مخلصنا من الكتبة والفريسيين كانوا كلما أبكمهم بإجاباته المفحمة عما كـانـوا يوجـهـونـه إليـه من عبارات التهجم عليـه والتنديد بأقواله وأعماله، أزدادوا حـقـداً عليـه وإلحاحاً في ملاحقته بمـا تنفثه صدورهم من عداوة لـه وضراوة في محاربته، فلم يلبثوا أن جاءوا إليه وقالـوا لـه الماذا يصوم تلاميذ يوحنا كثيراً ويصلون، وكذلك تلاميذ الفريسيين، وأما تلاميذك فيأكلون ويشربون؟، وقد قصدوا بذلك أن يتهموه بأنه يتهاون في تعليم تلاميذه ذلك المظهـر مـن مظاهر التـقـوى وهـو الصوم الذي كانوا هم ـ في ريائهم . يتخذونـه برهاناً أمام الناس على تقواهـم، ليخدعوا به النـاس عـن شرهم ومكرهم وسواد قلوبهم، وابتعادهم كـل الإبتعاد عن التقوى بمعناها الحقيقي، كما قصدوا أن يتهموه بأنه مادام يتهاون في تعليم تلاميذه أن يكونوا أتقياء، فذلك دليل على أنه هو نفسه غير نقي. فأوضح لهم مخلصنا حكمته في ذلك، كما سبق أن أوضح لهم حكمته في مخالطة العشارين والخطأة، قائلا لهم أيمكنكم أن تجعلوا بني العرس يصومون مادام العريس معهم ؟ لكن ستأتي الأيام حين يرفع العريس من بينهم، فعندئذ يصومون في تلك الأيام، أي أنهم مادام هو معهم، ينبغي أن يكونوا فرحين كمـا يفرح أهل العريس مادام العرس قائماً، وإذ كان الصوم من مظاهر الحزن، لا يليق بهم الآن أن يحـزنوا، كـمـا لا يـليـق ذلك بأهل العـريـس. بيـد أنهم إن لم يصـومـوا الآن في فـرحـهـم، فإنهم تنتظرهم أحـزان ليس أقـسى ولا أشـد مـرارة منها حين يرتفع هو عنهم. فيكابدون عندئذ من ألوان التنكيل والتعذيب، والمطاردة والتشريد، ما يجعلهم صائمين دائماً، صوم الحزائي، وصـوم المتألمين، وصـوم المجاهدين المستشهدين. ثم أوضح معلمنا لأعـدائـه الحاسدين الحاقدين حكمة أخرى ينطوي عليـهـا مـسلكه مع تلاميذه، فضرب لهم مثلاً قائلاً مـا مـن أحـد يقطع رقـعـة مـن ثوب جديـد فيجعلها في ثوب قديـم، وإلا يـكـون الـجـديـد قـد تمـزق ولا تـلائـم الرقعـة المأخـوذة مـن الجديـد التـوب القديـم ومـا مـن أحـد يضع خـمـراً جـديـدة فـي زقاق عـنـيـقـة. وإلا فـإن الخـمـر الجـديـدة تـشـق الـزقاق، فـالـخـمـر تـراق والزقـاق تتلف، وإنمـا يجب أن توضـع الـخـمـر الجـديـدة فـي زفـاق جديـدة، فتكـون كلهـا مـصـونـة. ومـا مـن أحـد كذلـك بـعـد أن يشرب الخمـر المـعـتـقـة يريد على الفور أن يشرب الخمر الجديدة، لأنه يقول إن المعتقة هي الأطيب، فقد جاء معلمنا بعهد جديد غير العهد القديم، يتضمن تعاليم جديدة غير تعاليم العهد القديم . ولذلك لم يشأ أن يخلط بين تعاليم العهدين في أذهان التلاميذ، لأنه اختارهم من القوم البسطاء الأبرياء الذين يشبهون الأطفال في بساطتهم وبراءتهم، فهو لا يريد أن يضع على كواهلهم أعباء لا يطيقونها دفعة واحدة وإلا عجزوا عن حملها، وإنما يريد أن يدربهم على احتمال تلك الأعباء خطوة خطوة ، ومرحلة بعد مرحلة، بحيث يتقدمون بالتدريج نحو الهدف الذي رسمه لهم. فلو أنه أجبرهم الآن على الصوم الذي كان معلمو اليهود يعتبرونه طقساً من طقوس ديانتهم، ويتزمتون في تطبيقه تطبيقاً شكاياً محضاً، دون نظر إلى غايته أو الحكمة منه، لكان كمن يضع رقعة جديدة في ثوب قديم، فيفسد بذلك الثوب الجديد والذوب القديم معاً، ولكان كمن يضع خمراً جديدة في زقاق عتيقة، فالزقاق تتلف والخمر تراق، ففي حين كان يلقنهم تعاليم العهد الجديد، ما كان ينبغي أن يضع تلك التعاليم في قوالب تعاليم العهد القديم. وإلا فسدت في أذهانهم تعاليم العهدين معاً. أو ربما ثقل عليهم الخلط بين تعاليم العهدين، فأكتفوا بتعاليم العهد القديم التي عرفوها وألفوها، وزهدوا في تعاليم العهد الجديد التي جاء السيد المسيح بها. ومن ثم فإنه كما يجب أن توضع الخمر الجديدة في زقاق جديدة فتكون كلها مصونة، يجب أن توضع تعاليم العهد الجديد أمام التلاميذ في قوالب جديدة، ليعرفوها ويألفوها ويحافظوا عليها ويصونوها، بيد أنه ليس معنى هذا أن السيد المسيح لم يكن يوصى بالصوم، لأنه هو نفسه بدأ حياته التعليمية بأن صام أربعين يوماً كاملة، وكانت حياته كلها صوماً متواصلاً، فضلاً عن أنها كانت صلاة متواصلة، وقد أعطانا نفسه مثالاً حياً في كل ما قال وفعل، وإنما الذي كان يعنيه هذا أنه لم يلزم تلاميذه بالصوم في بداية تعليمه لهم ـ كما سبق أن قلنا ـ ليتدرج بهم في حياة التقوى تدرجاً، وهو عالم أنهم سيصلون في النهاية إلى أقصى غاياتها ويصبحوا بصـومـهم وصلاتهم أعظم القديسين في تاريخ البشر.

زر الذهاب إلى الأعلى