تفسير رسالة فيلبي أصحاح 2 للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الثاني
فرح في الخدمة الباذلة

تكلفة الخدمة المفرحة: “أخلى نفسه”

لم يشغل السجن ولا القيود فكر القديس بولس، إنما إذ حمل في أعماقه السيد المسيح، واهب الحياة، أشع بروح الفرح على مخدوميه وسط آلامه وآلامهم. لذا تحدث عما اقتناه في داخله من حياة شكرٍ وحبٍ وفرحٍ وشعورٍ بالنصرة وتمتعٍ بالحياة الجديدة مع إدراكه لسرّ القوة، وتحديه لقوات الظلمة. وقد جاء هذا الأصحاح يكشف عن الفرح الذي تمتع به الرسول بالخدمة والبذل بروح الحب والوحدة لحساب ملكوت المسيح، بالرغم من وجود مقاومات ومتاعب كثيرة.

يا له من تخطيط إلهي فائق! من أجل البشرية أخلى الابن الوحيد الجنس ذاته وأخذ شكل الإنسان. احتل رب الكل مركز العبد وتواضع بالأكثر إذ وهو واهب الحياة أطاع حتى الموت. واجه موتًا مشينًا هو موت الصليب، كثمنٍ إلهيٍ لحياتنا الجديدة المفرحة فيه.

خلال هذه الخبرة اقتبس القديس بولس في داخل السجن تسبحة كنسية [1-11] ليتغنى بتواضع المسيح كطريقٍ ملوكي لبلوغ المجد، ويٌحتمل أنه هو واضع هذه التسبحة.

تضم هذه التسبحة ثلاثة عناصر بدائية تشير إلى استخدامها في الليتورجيا الخاصة بالعماد:

*     الاعتراف بالإيمان القائم على القيامة.

*     سمو اسم يسوع الذي هو رب الكل.

*     تشكيلنا على شبه ربنا يسوع الذي هو صورة الآب.

فاصل

1. حياة جماعية متهللة 1-4

ختم الرسول بولس الأصحاح السابق بالحث على الجهاد المشترك بروح الحب والوحدة. الآن يقدم لهم السيد المسيح نفسه، خادم كل البشرية مثالًا فريدًا في التواضع والحب الفائق، الذي تمجد ومجد الآب بتواضعه وبذله. وهو في هذا يحث الشعب على الحب العملي المشترك.

“فإن كان وعظ ما في المسيح،

إن كانت تسلية ما للمحبّة،

إن كانت شركة ما في الروح،

إن كانت أحشاء ورأفة” [1].

بقوله: “فإن” تعني أن الحديث هنا هو امتداد للحديث السابق. وبقوله: “إن كان” لا يعني هنا الشك، إنما بالعكس جاء يحمل اليقين أنه ليست “تعزية” أو “كلمة وعظ” إلا في المسيح. وكأنه طالما يوجد وعظ، يجب أن يكون في المسيح. ويقصد بالوعظ هنا التشجيع والإقناع العقلي, ليهذب نفوسنا ويثبتنا في الإيمان.

*     ليس شيء أفضل ولا أكثر رقة من المعلم الروحي، مثل هذا يفوق حنو أي أبٍ طبيعيٍ (حسب الجسد)!

تأملوا كيف يتعامل هذا الطوباوي مع أهل فيلبي فيما هو لصالحهم.

انظروا كيف يتحدث بغيرةٍ متقدةٍ وعاطفةٍ شديدةٍ!

إن كانت راحة ما في المسيح” وكأنه يقول إن فعلتم أي شيء لحسابي، وإن أظهرتم لي أي اهتمام، إن كنتم تتقبلون أي صلاح من يدي، افعلوا هذا (في المسيح)… إنه لا يذكرنا بمنافع جسدية بل روحية.

بمعنى إن أردتم أن تقدموا لي راحة في تجاربي وتشجيعًا في المسيح، وأية تعزية للمحبة، إن أردتم إظهار أية شركة في الروح، إن كانت لكم أحشاء ورأفة، فإنكم بهذا تحققون فرحي[61].

القديس يوحنا الذهبي الفم

تسلية ما للمحبة” يقصد الرسول بالتسلية التعزية والمواساة. فإن مخلصنا الصالح عندما يعزينا ينزع آلامنا الخفية مهما كانت قوتها, ويهبنا الراحة الحقيقية التي ما بعدها راحة.

شركة ما في الروح” تجمع الشركة المسيحية أبناء الله، وتربطهم بربط المحبة والبذل. إن كانت شركة بين المؤمنين فهي في الروح القدس.

إن كانت أحشاء ورأفة“… المقصود بالأحشاء والرأفة المشاعر الداخلية الدقيقة والأحاسيس المرهفة النابعة عن المحبة واللطف والوداعة والشفقة والعطف. إن كنتم تتوقعون رأفة الله ومراحمه، فلتقدموا رحمة ورأفة لبعضكم البعض.

“فتمّموا فرحي حتى تفتكروا فكرًا واحدًا،

ولكم محبّة واحدة بنفس واحدة،

مفتكرين شيئًا واحدًا” [2].

*     انظروا إنه لم يقل “اجعلوني فرحًا” بل قال: “تمموا فرحي” حتى لا تبدو الوصية كأنها مقدمة لأشخاص معيبين. إنه يقول: لقد بدأتم تغرسون هذا فيٌ، لقد قدمتم لي بالفعل نصيبًا من السلام، لكنني أود البلوغ إلى كماله[62].

القديس يوحنا الذهبي الفم

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم[63] أن أهل فيلبي يودون أن يقدموا للرسول راحة وتعزية وشركة في الروح وحنوًا ورأفة. هنا يوجههم أن يمارسوا كل هذه الأمور أولًا كما يليق في المسيح يسوع بطريقة روحية، ثانيًا أن يحملوا وحدة الروح والحب المتبادل فيما بينهم بهذا يتحقق فرحه، وينال كل ما يبغونه له.

يسألهم أن يحققوا له فرحه، الذي لن يتحقق إلا بوحدتهم وحبهم لبعضهم البعض. وكأنه يقول لهم إن كنت أكرز لكم بإنجيل المسيح لخلاصكم، فلتكونوا مصدر فرحٍ كاملٍ لي. حقًا إني مسرور بكم، لكنني محتاج إلى البلوغ إلى كمال الفرح الذي لن يتحقق إلا بأن يكون لكم الفكر الواحد، ولكم ذات الحب. هذه الرسالة هي رسالة فرح, والفرح يمثل الخط الذهبي الذي جُدلت به كلمات الرسالة، لكن كيف نتمم فرح الرسول؟

1- بالفكر الواحد: بأن يفكر كل واحد فينا فيما هو لأخيه، ونكون مستعدين للتنازل عن أفكارنا الخاصة الخاطئة، عندئذ نصل إلى الفكر الواحد. يتحدث بولس الرسول عن اتفاق تلاميذه معًا بأنه يُحسب حنوًا يُقدم له شخصيًا، مظهرًا بهذا مدى الخطورة العظيمة جدًا متى كانوا ليسوا بفكرٍ واحدٍ.

2- بمحبةٍ واحدةٍ: المحبة تستر كثرة من الخطايا، وهي رباط الكمال. عندما نحب الآخرين عندئذ نكون محبوبين منهم وتكتمل صوره المحبة التي أرادها الله لنا. كأنه يقول إن أردتم أن أنال راحة منكم، وتعزية من محبتكم وشركة في الروح معكم، وشركة معكم في الرب، وأجد رحمة ورأفة لديكم فانظروا إلى حبكم بعضكم لبعض. فإنني اقتني هذا كله أن أحببتم بعضكم بعضًا.

*     “ولكم ذات المحبة“، بمعني لا تكون الوحدة في الإيمان وحده، بل وفي كل الأمور الأخرى، فإن هذا يختلف عن أن يكون لهم الفكر الواحد وليس لهم المحبة[64].

القديس يوحنا الذهبي الفم

3- بنفسٍ واحدةٍ: النفس هي مركز المشاعر والأحاسيس. وعندما يكون لنا الفكر الواحد والمحبة الواحدة سيكون لنا المشاعر الواحدة، وبهذا تكتمل فينا صورة الملكوت.

*     صلى الرب للآب عن الذين له أن يكونوا واحدًا كما هم واحد (يو 17: 22)… الثلاثة ليسوا ثلاثة آلهة، ولا ثلاثة قديرين، بل إله واحد قدير. الثالوث كلّه هو الله الواحد، فالحاجة إلى واحد. ليس ما يحضرنا إلى هذا الواحد إلا إن كنّا نحن الكثيرون قلبًا واحدًا[65].

القديس أغسطينوس

“لا شيئًا بتحزّب أو بعجب،

بل بتواضعٍ،

حاسبين بعضكم البعض أفضل من أنفسهم” [3].

جاءت الآيتان 3 و4 مقابل 1 و2 فبعد أن حثهم بوصايا إيجابية خاصة بالتواضع والحب وشركة الروح والحنو والوحدة، حثهم على الوصايا السلبية المضادة ليتجنبوا التحزب أو الانشقاق والكبرياء والأنانية.

لا شيء بتحزب” ينشأ التحزب في الجماعة النشطة حيث يكون لكل عضوٍ طموحاته وخططه. تنشأ من اعتزاز الإنسان بذاته وبرأيه الخاص, ثم التمسك بهذا الرأي، ومحاولة فرضه على الجماعة، وينتهي التحزب بالانقسام، وقد ينتهي بالبدع والهرطقات. “أو بعُجب“… العُجب هو الخيلاء، والكبرياء هو العمل لمجد الذات، هو تجسيم وتجسيد لكلمة “أنا”.

*     “لا شيئًا بتحزبٍ أو عجبٍ“. هذا كما أقول دومًا هو علة كل الشرور. منه تصدر المحاربات والخصومات. بهذا تبرد المحبة عندما نحب مديح الناس، عندما نصير عبيدًا للكرامة التي يقدمها الكثيرون لنا. فإنه يستحيل أن يصير الإنسان عبدًا لحب المديح، ويكون عبدًا حقيقيًا لله[66].

*     ليس شيء غريب عن المسيحي مثل التعالي. أقول التعالي، وليس الجرأة ولا الشجاعة، لأن الأخيران يتناسبان مع المسيحي. التعالي شيء، والجرأة والشجاعة شيء أخر. هكذا التواضع شيء، والخسة والمداهنة والتملق شيء أخر[67].

القديس يوحنا الذهبي الفم

*     “حاسبين بعضكم البعض أفضل من أنفسهم” [3]… لم يقل أفضل من أنفسكم بل أفضل من أنفسهم… فماذا يقصد الرسول من هذا؟ إنه يقصد أن نعطي لكل واحد كرامة وتقديرًا واعتبارًا أكثر مما يستحق…

نقدر الناس بأكثر مما يستحقون…

فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح“… إنه فكر التواضع. “فليكن فيكم” أي ضرورة وجود هذا الفكر في حياتنا، لأنه هو العمود الفقري لكافة الأفكار المستقيمة, وهو الضمان الوحيد الهروب من التحزب والانقسام والخصام والعجب والكبرياء والمجد الباطل وتمجيد الذات…

لا تظن فيه أنه مجرد أعظم منك، بل هو “أفضل” منك، أي له سمو أعظم جدًا، فلا تستغرب ولا تتألم إن رأيته يُكرم. نعم، حتى وإن عاملك باستخفافٍ، احتمل هذا بنبلٍ، إذ تحسبه أعظم منك. وإن شتمك، تخضع له. وإن عاملك رديًا تحمل ذلك في صمتٍ. لأنه إذ يتأكد الإنسان تمامًا أن الآخر أعظم منه لا يغضب إن عامله رديًا، ولا يسقط في الحسد، لأنه لا يحسد أحدًا أعظم منه بكثير، بل ينسب كل شيء إلى سموه[68]

القديس يوحنا الذهبي الفم

“لا تنظروا كل واحد إلى ما هو لنفسه،

بل كل واحد إلى ما هو لآخرين أيضًا” [4].

الأنانية تقتل الحب المسيحي، إذ يليق بالمؤمن أن يحب قريبه كنفسه، ويضع نفسه في موضع قريبه، بل ويعطي الأولوية له عن نفسه.

*     لا يطلب أحد ما لنفعه، بل ما هو لنفع الآخر. لا يطلب أحد ما لكرامته، بل ما لكرامة الآخر[69]

القديس أمبروسيوس

*     قدم لنا الرب نفسه مثالًا بإرسال تلاميذه اثنين اثنين (مر 6: 7)، فكل منهما يود أن يخضع بفرحٍ وبكل قلبه للآخر، متذكرًا كلمات الرب: “من يضع نفسه يرتفع” (لو 18: 14)[70].

القديس باسيليوس الكبير

فاصل

2. المسيح القائد والمثل الأعلى  5-11

“فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضًا” [5].

ما يطلبه الرسول منهم ليس بوصايا نظرية، لكن بالشركة العملية مع السيد المسيح الذي قدم بتجسده مفهومًا فريدًا للحب والتواضع، لا لمصلحة خاصة به، بل لأجل محبوبيه.

*     ليس شيء يحث النفس العظيمة الحكيمة (صاحبة الفلسفة) علي ممارسة أعمال صالحة مثل أن تتعلم أنها بهذا تصير على شبه الله. أي تشجيع يعادل هذا؟ لا شيء! هذا ما يعلمه الرسول تمامًا عندما أراد أن يحثهم علي التواضع[71].

القديس يوحنا الذهبي الفم

*     ذاك الذي ظهر في غابة طبيعتنا البشرية بسبب حبه للبشر، أصبح تفاحة باشتراكه معنا في الجسد (اللحم والدم). وكل من هذه (اللحم والدم) يقابله أحد ألوان التفاح. فاللون الأبيض يمثل لون اللحم، أما اللون الأحمر فيمثل الدم. لذلك، عندما تفرح النفس في الأمور السماوية فإنها ترغب أن ترى تفاحًا على السقف، وهكذا ترى ما هو فوق وتركز على التفاح، فيقودها هذا إلى الطريق السماوي للحياة حسب تعاليم الإنجيل. الذي جاء من الأعالي والذي هو فوق الجميع أرانا الطريق من خلال ظهوره في الجسد، فقد كان لنا مثالاُ عاليًا لكل فضيلة وصلاح. وكما قال السيد المسيح: “تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب” (مت 29:11). وقد تكلم الرسول في نفس الموضوع عندما تحدث عن التواضع، ودعوني أقرأ النص لأوضح الحقيقة العامة: يقول بولس ينظرون إلى أعلى “فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح أيضًا. الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلًا لله. لكنه أخلى نفسه آخذًا صورة عبد” (في 5:2). لقد شاركنا حياتنا بالجسد والدم وبإرادته أخذ هذا، تقول العروس، “أنعشوني بالتفاح”، حتى أبقى باستمرار ناظرة إلى أعلى، فأرى على الدوام صور الفضيلة واضحة في عريسي. ففيه أرى الوداعة، الخلو من الغضب، التصالح مع الأعداء، حب الذين يسببون له الضيقات، مقابلة الشر بالخير، كما أرى القوة والنقاء والصبر وليس به أي أثر للمجد الباطل أو الخداع[72].

القديس غريغوريوس النيسي

“الذي إذ كان في صورة الله،

لم يُحسب خلسة أن يكون معادلًا لله” [6].

لو أن يسوع مخلوق بشري وعادل نفسه بالله لحسب مسلكه هذا خلسة، سرق مجد الله، ونسب لنفسه ما لله. لكنه إذ هو كلمة الله المتجسد، فما فعله هو من قبيل حبه وتواضعه.

إذ كان في صورة الله“… كان المستخدمة هنا تصف الإنسان الذي له مميزات وصفات معينة وهذه الصفات لا يمكن أن تتغير أو تتبدل, فمثلا زكا كان قصير القامة فهي صفة ثابتة فيه لن تتغير.

كان في صورة الله” فهو يقصد أن السيد المسيح كان ولا يزال هو الله في ذات جوهره بلا تغيير ولا تبديل. وليس معنى قول الرسول عن السيد المسيح إنه “كان في صورة الله” إنه فقد هذه الصورة عندما أتخذ صورة العبد. كلا، إنه يملك صورة الله قبل التجسد وبعد التجسد وإلى الأبد. وهنا يثور السؤال: السيد المسيح الذي له صورة عبد هل فعلًا وحقيقة صار عبدًا له جسد بشري وروح بشرية مثلنا؟ نعم وبلا شك إنه صار عبدًا حقيقيًا.

لم يحسب خلسة“: هذا التعبير معناه إن السيد المسيح ليس في حاجة إلى خطف المساواة بالله، لأنه يملكها إذ هو مساوي للآب في الجوهر, وعندما يعتبر نفسه إنه مساوٍ للآب فلا يُعد هذا سرقة أو اختلاسًا لأن مساواته للآب وأزليته مع الآب هي حقيقة صادقة.

*     ليت ذاك الذي لا يستطيع بعد أن يرى ما سيظهره الرب يومًا ما لا يطلب أولًا أن يرى ما يؤمن به. إنما ليؤمن أولًا أن تُشفى العين التي بها يرى. فإن ما يُعلن لأعين العبيد هو فقط شكل العبد، لأنه إن كان الذي “لم يُحسب خلسة أن يكون معادلًا لله” [6] يمكن أن يُرى الآن أنه معادل لله بواسطة الذين يرغب هو في شفائهم، لم تكن هناك حاجة أن “يُخلي نفسه آخذًا صورة عبد”. ولكن إذ لا يوجد طريق به يمكن رؤية الله، وإنما يمكن أن يُرى الإنسان، لهذا فإنه صار إنسانًا، حتى بهذا يُرى فيشفي ما لا يُمكن به أن يُرى. فإنه هو نفسه يقول في موضع آخر: “طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله” (مت 5: 8)[73].

القديس أغسطينوس

*     بالتدبير صار بيننا في شبهنا “وأخذ صورة عبدٍ“، ومع ذلك فهو من فوق. قال بوضوح مخاطبًا اليهود: “أنتم من أسفل أما أنا فمن فوق؛ أنا لست من هذا العالم” (يو 8: 23). وأيضًا قال: “ليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان” (يو 3: 13)[74].

القديس كيرلس الكبير

*     وإن كان مشتركًا في طبيعتنا كإنسانٍ فهو لا يزال في نفس الوقت فوق كل الخليقة كإله[75].

القديس كيرلس الكبير

*     “قد تركت بيتي. رفضت ميراثي. دفعت حبيبة نفسي ليد أعدائها” (إر 12: 7). لاحظ إذًا أن ذاك الذي هو في “صورة الله” (في2: 6) جالس في السماوات، وأنظر إلى بيته الذي يفوق السماوات، ولو أردت أن ترى أيضًا ما هو أعظم وأعلى من ذلك، فإن بيته هو الله: “لأني في الآب” (يو 14: 11). “لقد ترك أباه وأمه” (مت 19: 5). ترك أورشليم السمائية، وجاء إلى الأرض، قائلًا: “قد تركت بيتي. رفضت ميراثي”.

كان ميراثه في الواقع في الأماكن التي تُوجد فيها الملائكة والصفوف التي توجد فيها القوات المقدسة.

“دفعت حبيبة نفسي (نفسي الحبيبة) ليد أعدائها”. دفع نفسه لأيدي أعداء النفس، لأيدي اليهود الذين قتلوه، لأيدي الملوك والرؤساء المجتمعين ضده، فإنه: “قام ملوك الأرض وتآمر الرؤساء معًا على الرب وعلى مسيحه” (مز 2: 2)[76].

العلامة أوريجينوس

“لكنه أخلى نفسه،

آخذًا صورة عبد،

صائرًا في شبه الناس” [7].

وهو الكلمة الإلهي صار إنسانًا، أخذ ناسوتنا. لم يظهر في مجده، بل أخذ شكل العبد، وصار في شبه الناس، صار إنسانًا حقيقيا وهو الإله الحق.

1- أخلى نفسه من مجد لاهوته، لأنه أخفى مجد لاهوته داخل ناسوته، وحجب مجده داخل حجاب جسده, إنه أخفى لاهوته عن الشيطان ليكمل لنا الفداء، ولتدور معركة الصليب الرهيبة. أخلى نفسه، فلم يسمح للاهوته بتخفيف الآلام عن ناسوته فجاع وعطش وتعب وبكى وتألم ومات.

2- أخذ صورة عبد: ظهر في صورة نجار بسيط في أسرة فقيرة في بلد حقيرة. اتخذ صورة عبد، فصار هو العبد الوحيد الذي أرضى الله الآب.

3- صار في شبه الناس: ولكنه يختلف عن أي إنسان آخر، لماذا؟

 أ- لأنه هو الإنسان الوحيد الذي بلا خطية.

 ب- لأنه هو الإنسان الوحيد الكامل.

 ج- لأنه ليس إنسانًا كاملًا بلا خطية فقط، بل لأنه هو الله ذاته.

4- وإذ وُجد في الهيئة كإنسانٍ: التشبيه “كإنسانٍ” يعلن لنا إنه ليس مثل أي إنسان. إنه إنسان بالحقيقة، لكنه يختلف عن كل البشر.

5- وضع نفسه وأطاع مشيئة الآب.

6- أطاع حتى الموت: هو البار القدوس الذي لم يفعل خطية جاز في الموت، لأنه حمل خطايانا وآثامنا.

7- موت الصليب:وهو أشر وأقصى أنواع الموت. مات موت اللعنة, موت العار, موت السخرية, مات موت العثرة والجهل, أطاع إلى المنتهى حتى صرخ على الصليب قائلاً: “قد أكمل”. لذلك رفعه الله أيضًا، وأعطاه اسما فوق كل اسم، لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء وعلى الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كل إنسانٍ أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب”.

كثيرًا ما علق العلامة أوريجينوس علي قول الإنجيلي: “وأما يسوع فكان يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس” (لو 52:2)، مؤكدًا أنه إذ أخلى نفسه حقيقة وصار طفلًا، لا نعجب من أنه يتقدم ليس فقط في القامة جسمانيًا، بل وحتى في الحكمة. وقد استشهد بقوله النبي عنه: “عرف أن يرفض الشر ويختار الخير قبل أن يعرف الصبي أن يرفض الشر ويختار الخير علي الأرض” (إش 15:7-16)[77].

*     تعمد الكلمة القول في جسارة بأنه أخلى نفسه لكي يسلك في هذه الحياة.وبإخلائه يجعل العالم في الملء. لكن إذكان ذاك الذي سلك في هذه الحياة مخليًا نفسه، فإن هذا الإناء الخالي إنما هو الحكمة بعينه، لأن جهالة الله أحكم من الناس (1 كو25:1)[78].

*     حمل ضعف خطايانا، وحملنا. جاء إلى الذين لعنوه، وضعفت قوته بين الذين لعنوه عندما نزل من السماء، لأنه في نفس الوقت أخد شكل العبد وأخلي نفسه. هكذا يقول “قوتي ضعفت بين الذين يلعنونني” (إر10:15)[79]

*     نزل الرب لا ليهتم بنا فحسب، بل ولكي يحمل مالنا[80].

*     خُلق الإنسان علي شبه صورة (الله). ولهذا فإن مخلصنا الذي هو صورة الله، بحنوه نحو الإنسان الذي خلقه علي مثاله، إذ رآه قد ترك صورته جانبًا ولبس صورة الشرير، أخذ صورة الإنسان ونزل إليه[81].

 العلامة أوريجينوس

*     قال الرب لليهود: “ماذا تظنّون في المسيح” (مت 22: 42)؟ أجابوه: “ابن داود”، لأنهم عرفوا ذلك بسهولة إذ تعلّموه من الأنبياء. بالحقيقة كان من نسل داود، ولكن “حسب الجسد” من العذراء مريم التي كانت مخطوبة ليوسف. وعندما أجابوه قال لهم: “فكيف يدعوه داود بالروح ربًا قائلًا: “قال الرب لربّي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئًا لقدميك؟ فإن كان داود يدعوه ربًا فكيف يكون ابنه…؟

هل تتعجّبون من أن يكون ابن داود إلهًا له، عندما ترون مريم أمًا لربّها؟

إنه رب لداود “الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلًا لله” [7]، وابن داود بكونه “أخلى نفسه آخذًا صورة عبد“[82].

*     يا أيّها النبي القائل: “أنت أبرع جمالًا من بني البشر” (مز 45: 3)؟ أين رأيته؟ هناك أنا رأيته. هل تشك أن المعادل لله أبرع جمالًا من بني البشر…؟

وليسأل ذاك القائل: “رأيناه، ليس فيه حُسن ولا جمال” (إش 53: 2LXX). أنت تقول هذا، أخبرنا أين رأيته…؟ “

أخلى ذاته، آخذًا صورة عبدٍ، صائرًا في شبه الناس، وإذ وُجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب“. هنا أنا رأيته.

هكذا الاثنان في توافق مملوء سلامًا، كلاهما يتفق معًا.

أي جمال أبرع من الله؟ وأي تشويه أكثر من المصلوب[83]؟

*     لقد ترك أباه حتى لا يُظهر نفسه هنا مساويًا للآب، بل “أخلى ذاته، آخذًا صورة عبدٍ“. لقد ترك أيضًا أمه، المجمع، الذي وُلد منه حسب الجسد لقد التصق بامرأة أي بكنيسته[84].

القديس أغسطينوس

*     قد يقول أحد الحاضرين: أنا إنسان مسكين، أو قد أكون في ذلك الوقت مريضًا على الفراش، “أنا امرأة وأُخذت إلى الطاحونة، فهل أُرفض؟! تشجع يا إنسان، فإن الديان لا يحابي الوجوه. لا يقضي بحسب منظر الشخص ولا حسب كلامه[85]. لن يكرم المتعلمين فوق البسطاء، ولا الأغنياء أكثر من المحتاجين. إن كنتم في حقل تأخذكم الملائكة. لا تظنوا أنه يأخذ أصحاب الأراضي ويترك الحارثين. حتى وإن كنت عبدًا أو فقيرًا لا تتضايق. لقد أخذ شكل العبد[7]، فهل يرفض العبيد؟ حتى وإن كنت راقدًا على الفراش، إذ مكتوب: “يكون اثنان على الفراش واحد، فيؤخذ الواحد ويُترك الآخر” (لو 34:17). حتى وإن كنت مظلومًا تحت إلزام، رجلًا كنت أو امرأة، مكبلًا أو جالسًا بجوار طاحونة، فإن الذي بسلطانه يحل المقيدين لن يتجاوزك.

الذي عتق يوسف من العبودية وأخرجه من السجن إلى المملكة يفديك من ضيقتك إلى ملكوت السماوات.

يليق بك أن تفرح فرحًا حسنًا، وتعمل وتجاهد بغيرة فإنك لن تفقد شيئًا من جهادك. كل صلاة هي لك. كل مزمور تتغنى به يسجل لك. العفة من أجل الله تُحسب لك[86].

القديس كيرلس الأورشليمي

*     كما أن المسيحأخذ صورة عبدٍ” [7] وغلب الشيطان بالتواضع، هكذا فإنه في البداية سقط الإنسان عن طريق الكبرياء والمجد الباطل بخداع الحيّة؟[87]

القديس مقاريوس الكبير

*     تقارن العروس جمالها بمثل حنان الله القدوس، فتقلد السيد المسيح في عملها، فتصبح للآخرين كما كان المسيح للبشر. قلد بولس السيد المسيح بالتضحية بحياته حتى يُعطي بني إسرائيل الخلاص إزاء معاناته وضيقاته. “فإني كنت أوّد لو أكون أنا نفسي محرومًا من المسيح لأجل إخوتي أنسبائي حسب الجسد” (رو 3:9). يمكن تعديل هذه الكلمات لتناسب العروس كالآتي: هذا هو جمال روحك، وهذه هي محبة الله الذي أخلى نفسه وأخذ شكل العبد (في 7:2) وأعطى نفسه فداء عن العالم. هو الغني الذي أصبح فقيرًا من أجلنا،حتى يمكننا أن نحيا بموته، ومن أجلنا افتقر لكي نغتني، وبعبوديته نملك (2 كو 9:8)[88].

*     تصف العروس العريس بأن ظله على الفراش: “سريرنا أخضر” (نش 16:1). أي أن الطبيعة البشرية تدرك أو سوف تدرك أنك تظللها برعايتك. “لقد أتيت” قالت العروس، “أنت الجميل الذي يظلل فراشنا”. لأنه إن لم “يخيم ظلك علينا على هيئة عبد” (في7:2) عندما تكشف لنا عن أشعة بهائك الإلهي، من يستطيع أن يتطلع إلى عظمتك البهية؟ “وقال لا تقدر أن ترى وجهي. لأن الإنسان لا يراني ويعيش” (خر20:33). لقد أتيت إلينا الآن كشخصٍ رائعٍ ويمكننا استقباله. أتيت إلينا متجسدًا كإنسانٍ، لتخفي عن عيوننا أشعة ألوهيتك. كيف اتحدت الطبيعة التي تدوم إلى الأبد بالطبيعة التي تموت؟ إن ظل جسده عمل كوسيط يمنحنا النور نحن الذين كنا نعيش في الظلمة: تستعمل العروس كلمة فراش (سرير) لكي تُفسر بحاسة تصويرية اتحاد الطبيعة البشرية مع الله[89].

القديس غريغوريوس النيسي

“وإذ وُجد في الهيئة كإنسان،

وضع نفسه،

وأطاع حتى الموت، موت الصليب” [8].

قبل ناسوتنا لكي يعلن حبه بآلامه الحقيقية وطاعته عوض عصياننا، وبكامل حريته. قبل أبشع أنواع الموت وهو الصلب ليحقق مصالحتنا مع الآب. قبل عار الصليب لكي يمجدنا. مارس الحب والتواضع:

*     أخلى نفسه، وأخفى مجده الأزلي بتأنسه.

*     لم يستنكف من أن يحمل شكل الإنسان وهو الإله الحي.

*     قبل أن يحتل آخر صفوف البشرية، إذ صار عبدا للجميع، يشتهي أن يخدم الكل.

*     قبوله الألم حتى الموت.

*     اختياره عار الصليب. فالصليب هو الطريق الملوكي لبلوغ المجد: المسيح أخلى نفسه من مجده، وأطاع حتى الموت، فتمجد فوق الكل، وحملنا فيه لنشاركه مجده. أن كان المسيح هو مثالنا فإننا لا نرى صليبًا بدون إكليل.إن كنا نتألم معه فسنملك أيضًا معه.

هنا نلاحظ الآتي:

  1. يؤكد القديس بولس أن شركة الابن الكاملة في الطبيعة الإلهية ليست نوعًا من الاختلاس؛ أي لم يغتصبها من الآب، بل واحد مع الآب في أزليته، إذ هو واحد معه في ذات الجوهر.
  2. تخليه لا يعني تغير ابن الله في الطبيعة الإلهية، عندما أخذ جسدًا لأجل خلاصنا. لقد أخلى نفسه، لا بتخليه عن الطبيعة الإلهية أو انتزاعها عنه، بل بإرادته حمل ناسوتنا. يتعامل التجسد مع إرادة الابن لا مع طبيعته. لقد صار إنسانًا كاملًا، إذ بالحقيقة تجسد، مشاركًا حالنا البشري دون تغير في لاهوته.
  3. أخلى الابن نفسه لكي يملأ فراغنا. صار إنسانًا لنصيرأبناء الله. نسأله أن يملأ فراغنا بحلوله في حياتنا، فنسمعه يقول على الدوام: “وأما أنا فقد أتيت لتكون لهم حياة، وليكون لهم أفضل” (يو 10: 10).
  4. تعبير “عبد” يحمل مفارقة صارخة لكونه في شكل الله، ولقبه “رب” الذي أعلن في نهاية العبارة.
  5. اتسم القديس بولس بالجانب العملي كما بعمق الفكر. إنه لا يتركنا قط كما على سحابٍ. لا يفصل قط المعرفة عن العمل، فالمسيحية في عينيه حياة وإيمان. العقيدة الإيمانية دون الحياة لا ترفعنا إلىشيءٍ. بعد أن قدم الرسول قياس الأعالي في مجد المسيح، لم يود أن يتركنا هناك.

*     “وضع نفسه، وأطاع حتى الموت موت الصليب“. انظروا قد يقول أحد: لقد صار بإرادته مطيعًا إذ لم يكن مساويًا لمن أطاعه. يا لكم من معاندين جهلاء! هذا لن يقلل من شأنه قط. فإننا نحن أنفسنا نصير مطيعين لأصدقائنا، وهذا لا تأثير له (علي كرامتنا).

لقد أطاع بكونه الابن لأبيه، لم يسقط إلى حال العبودية، بل بهذا الفعل تظهر بنوته العجيبة فوق كل شيءآخر، بهذا يكرم بقوة الآب.إنه يكرم الآب ليس لكي تحتقروه هو، بل بالحري لكي تتعجبوا منه، وتتعلموا من هذا الفعل أنه ابن حقيقي، بتكريمه لأبيه أكثر من أي شيء أخر.

ليس من أحد يكرم الله هكذا. فبقدر علوه هكذا مارس التواضع الذي حققه. إذ هو أعظم من الكل، ليس من أحدٍ يعادله، هكذا في تكريمه لأبيه فاق الكل، ليس عن إلزام ولا بغير إرادة، بل هذا أيضًا من سموه. نعم، فإن الكلمات لا تسعفني. حقًا، إنه لأمر عظيم لا يُنطق به أنه صار عبدًا، واجتاز الموت، إنه لأمر عظيم للغاية. لكن يبقى شيء أعظم وأكثر غرابة، لماذا؟ ليس كل أنواع الموت واحدة. موته يبدو أكثرهم بشاعة من الكل، مملوء عارًا ولعنة. إذ كُتب: “ملعون من عُلق علي خشبة” (تث 23:21، غل 13:3). لهذا كان اليهود يشتاقون بكل حمية أن يقتلوه بهذه الوسيلة، ليجعلوهفيعار. فإن كان أحد لا يريد أن يتخلى عنه بسبب موته، فسيتركه بسبب طريقة موته ذاتها. ولذات السبب صُلب معه لصين وهو في الوسط، حتى يشاركهما سمعتهما الرديئة، فيتحقق قول الكتاب: “أحصي مع آثمة” (إش 12:53). مع هذا أشرق الحق بالأكثر، وصار أكثر بهاءً. فإنه إذ خطط الأعداء مثل هذه الأمور ضد مجده، أشرق مجده بطريقة أعظم مما توقعوا. ليس بقتله، بل بقتله بهذه الكيفية ظنوا أنهم يجعلوه رجسًا ليؤكدوا أنه أكثر نجاسة من كل البشر، ولكنهم لم ينالوا شيئًا![90]

القديس يوحنا الذهبي الفم

*     لو لم يكن الرب قد صار إنسانًا لما كان في وسعنا أن نُفتدى من الخطية، وأن نقوم من بين الأموات، بل لبقينا أمواتًا تحت الأرض، ولما كنا نُرفع إلى السماء، بل لرقدنا في الجحيم[91].

البابا أثناسيوس الرسولي

*     لأن الكلمة الذي هو الله أخذ جسدنا، ومع ذلك فقد بقيَ إلهًا. ولهذا يقول بولس الرسول المقدّس جدًا أنه صار في شبه الناس ووُجد في الهيئة كإنسانٍ، لأنه كان الله -كما قلت- في شكلنا البشري، مماثلًا لنا، ولم يأخذ جسدًا بلا نفس كما ظن بعض الهراطقة، بل بالأحرى جدًا تحييه نفس عاقلة[92].

*     حتى إن كان يُقال أنه تألم في جسده، فهو لم يقبل الآلام في طبيعة ألوهيّته، ولكن قبلها في جسده الخاص القابل للألم[93].

القديس كيرلس الكبير

*     يقول الكتاب في ميخا: “هوذا الرب يخرج من مكانه، وينزل ويمشي على شوامخ الأرض” (مي 3:1). لذلك يُقال أن الله ينزل عندما يتنازل ليهتم بالضعف البشري. هذا يلزم أن يظهر على وجه الخصوص في ربنا ومخلصنا الذي لم يحسب خلسة أن يكون مساويًا لله، “أخلى نفسه آخذا صورة عبد” . لقد نزل، لأنه “ليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء” (يو13:3). فقد نزل الرب ليس فقط ليهتم بنا، وإنما أيضًا ليحمل ما هو لنا، إذ “أخذ صورة عبد”، ومع أنه هو نفسه غير منظور في طبيعته، إذ هو مساوي للآب، إلا أنه أخذ شكلًا منظورًا، “ووُجد في الهيئة كإنسانٍ”. أيضًا عندما ينزل يصير أسفل مع البعض، لكنه يصعد مع آخرين ويكون أعلى[94]

يرى العلامة أوريجينوس أن السيد المسيح إذ أطاع حتى الموت، أعلن أنه لم يفعل ذلك عن ضرورة وإلزام، وإنما عن اختيار وحرية إرادة[95]

*     ما معنى: صار مطيعًا” (في 2: 8)، وسلم ذاته لأجلنا كلنا” (رو 8: 32) هذا يعني جعل الرب نفسه حملًا في المسيح، لأن “الحكمة بنت بيتها” (أم 1:9) و”أطاع حتى الموت”. إنك تكتشفأن كل ما تقرأه عن المسيح تحقق لا علي ضرورة بل بإرادته[96].

*     تمجد عندما جاء إلى الصليب وعندما قبل الموت. أتريد أن تعرف أنه تمجد؟ يقول بنفسه: “أيها الآب قد أتت الساعة. مجد ابنك، ليمجدك ابنك أيضًا” (يو 1:17). حتى آلام الصليب كانت له مجدًا، لكن هذا المجد لم يكن تشامخًا بل تواضعًا[97]

العلامة أوريجينوس

*     أن العمل في سبيل البشر كان بحسب الصلاح الذي من الآب بالابن[98].

 القديس باسيليوس الكبير

*     إذ كنا قابلين للموت، خاضعين له بسبب خطايانا، تنازل ليموت عن الخاضعين للموت حتى يرد لنا الحياة فيه[99]

القديس جيروم

“لذلك رفعه الله أيضًا،

وأعطاه اسمًا فوق كل اسم” [9].

بعد أن سجل معلمنا بولس رحلة التواضع من العرش الإلهي إلى صليب العار، يسجل له رحلة العودة من الجحيم منتصرًا ظافرًا بأعدائه إلى عرش الآب. ترتب علىذلك الآتي:

1- رفعة الله: رفعه من بين الأموات إلى أرض الأحياء، ورفعة من بين الأحياء واصعده إلى أعلى السماوات وأجلسه عن يمينه.

2- وأعطاه اسمًا فوق كل اسم: إنه اسم يسوع ومعناه “يهوه يخلص”.

3- لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة: يجثو باسمه كل كائن مهما كان. فكل مؤمن يجثو عن رضا وحب واشتياق. يجثولهمنهمفي السماء، أي الطغمات الملائكية. ومن على الأرض، أي النساك والعباد ولباس الصليب والأبرار والصديقون والعاشقون اسمه القدوس.ومن تحت الأرض، وهم هؤلاءالذينسيجثون رغمًا عنهم عندما يكتشفوا حقيقة ألوهيته وسلطانه.

4- ويعترف كل لسان أن يسوع هو رب: كلمة “يعترف” في الأصل اليونانيتحمل معنى التسبيح والتمجيد وتقديم الشكر. يعترف كل لسان, فلسان الأبرار يسبحه ويمجده ويشكره, ولسان الأشرار أيضًا سيعترف بربوبيته.

بتأنسه احتل مركزنا، وصار ممثلًا لنا حتى إذ رفعه الآب وأعطاه اسمًا فوق كل اسمٍ رفعنا معه، كأعضاء جسده المقدس.يقول الرسول: “أقامه من الأموات وأجلسه عن يمينه في السماوات، فوق كل رياسة وسلطان وقوة وسيادة وكل اسم يسمى ليس في هذا الدهر فقط، بل في المستقبل أيضًا” (أف 1: 20-21).

حمل اسم يسوع عندما تحقق تنازله بتجسده وتأنسه، وأحصى مع آثمة، لا عن خطية ارتكبها، وإنما ليحمل خطايانا وآثامنا في جسده. هذا الاسم صار سرّ الغلبة والنصرة للمؤمنين به على قوات الظلمة التي غلبها بالصليب وشهر بها.

*     كلمة “يسوع” مجيدة وتستحق كل سجود وعبادة. إنه الاسم الذي يفوق كل اسم[100].

العلامة أوريجينوس

*     “أخبرني يا من تحبه نفسي”.إنني أدعوك هكذا  (دون ذكر اسم معين) لأن اسمك فوق كل اسم (في 9:2). إنه لا يوصف، وغير مدرك بالعقل البشري. لذلك فإن اسمك يكشف عن صلاحك، علاقتي بك روحية[101].

القديس غريغوريوس النيسي

*     نرى الكتاب المقدس لا يقدم لنا الرب تحت اسم واحد، ولا تحت الأسماء المنوطة بلاهوته فقط، أو الدالة على عظمته، بل تارة يستعمل ميزات الطبيعة (خواصه الأقنومية)، فيعرف أن يقول: “الاسم الذي يفوق جميع الأسماء” (في 2: 9)، اسم الابن، والابن الحقيقي، والله الابن الوحيد، وقوة الله وحكمته وكلمته. وتارة، بالنظر إلى كثرة سبل وصول النعمة إلينا التي بصلاحه يمنحها لطالبيه حسب حكمته الكثيرة الأوصاف، يدعوه الكتاب المقدس بنعوت أخرى كثيرة، فهو يسميه تارة الراعي، وتارة الملك، ثم الطبيب،فالعريس والطريق والباب والينبوع والخبز والفأس والصخرة. هذه التسميات لا تدل على الطبيعة، كما قلت، بل على تعدد مظاهر النشاط الذي يبذله، رحمة منه بكل فرد من خليقته، وتلبية لحاجة كل من يسأله[102].

القديس باسيليوس الكبير

*     حينما قال: “دُفع إليَّ كل سلطان” (مت 28: 18)، “آخذها” (يو 10: 18)، و“لذلك رفَّعه الله [9]، فإن هذه هي الهبات الممنوحة لنا من الله بواسطته. لأن الكلمة لم يكن محتاجًا إلى أية شريعة في أي وقت[103].

البابا أثناسيوس الرسولي

*     لنرى بالحقيقة أن الابن لا الآب مُقام من الأموات، إلا أن قيامة الابن هي من عمل كل من الآب والابن. إنها من عمل الآب، إذ كُتب “لذلك رفَّعه الله أيضًا وأعطاه اسمًا فوق كل اسم” [9]. هكذا أقامه الآب إلى الحياة ثانية، رافعًا ومنقذًا إيّاه من الموت. هل أقام المسيح نفسه أيضًا؟ بالتأكيد فعل هذا، لأنه تحدث عن الهيكل كمثالٍ لجسده، قائلًا: “انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه” (يو 2: 19). فكما أن تركه للحياة يشير إلى آلامه هكذا أخذه للحياة يشير إلى القيامة… من الواضح أن الآب أعاد له الحياة، إذ يقول المزمور: “أقمني فأجازيهم” (مز 41: 10). لكن لماذا تنتظرون منّي برهانًا على أن الابن قد أعاد الحياة لنفسه؟ دعوه يتحدّث بنفسه: “لي سلطان أن أضعها” (يو 10: 18)… إنه يقول: “لي سلطان أن أضعها، ولي سلطان أن آخذها أيضًا”، “ليس أحد يأخذها مني، بل أضعها أنا من ذاتي”، “لأخذها أيضًا” (يو 10: 17-18)[104].

القديس أغسطينوس

“لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة،

ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض” [10].

صار عمله الخلاصي العجيب موضوع تسبيح السمائيين وخلاص البشريين ورعب الشياطين. أمام اسمه “يسوع” الذي يعني “يهوه مخلص”، يجثو السمائيون والأرضيون وحتى الشياطين.

يجثو السمائيون باسمه، إذ اكتشفوا سرّ الحكمة المكتومة. ويجثو البشريون إذ يشكرونه على مصالحتهم مع الآب. وتجثو الشياطين في رعبٍ ومذلةٍ، إذ فقدوا سلطانهم ومملكتهم التي في قلوب البشر.

ولعله يقصد البشر جميعًا، الذين عبروا إلى الفردوس كما إلى السماء، والذين يجاهدون على الأرض، والذين ماتوا وصاروا في القبور؛ الكل يجثون باسم يسوع الناصري.

*     عندما يأتي علنًا في مجيئه الثاني لا يكون في صمت. فإنه وإن كان قد جاء أولًا ملتحفًا بالتواضع، إلا أنه سيأتي مُعلنًا في قوة[105].

الشهيد كبريانوس

“ويعترف كل لسانٍ،

أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب” [11].

تعترف كل الخليقة وتشهد أنه الرب صاحب السلطان المطلق، وهو في هذا ليس في تضادٍ مع الآب، لأنه واحد معه في ذات الجوهر. ما يفعله هو باسم الآب أيضًا ولمجده الإلهي.

*     أيّة أقوال أوضح وأكثر بيانًا من هذه الأقوال؟ إن الرب لم يكن أصلًا في حالة وضيعة ثم رُقيَ، بل بالأحرى إذ كان إلهًا فقد اتّخذ صورة عبد. وباتّخاذه صورة العبد لم يرتقِ بل أذلّ نفسه. إذن فأين هو أجر الفضيلة في هذه الأمور؟ لأنه إن كان وهو الإله قد صار إنسانًا وبتنازله من علوّه لا يزال يُقال أنه يُرفّع، فمن أين يُرفّع وهو الله…؟ فهو ليس في حاجة إلى ازديادٍ، وليس الأمر كما يفهمه الأريوسيّون… ما هي النعمة التي ينالها واهب النعمة؟ أو كيف نال هو الاسم للعبادة، وهو الذي كان دائمًا معبودًا باسمه؟[106]

البابا أثناسيوس الرسولي

فاصل

3. أضيئوا في العالم

“إذًا يا أحبّائي كما أطعتم كل حين،

ليس كما في حضوري فقط،

بل الآن بالأولى جدًا في غيابي،

تمّموا خلاصكم بخوفٍ ورعدةٍ” [12].

لم يقدم لهم الرسول وصية جديدة، ولا يحثهم على وصية كمن قد كسروها، فهم دومًا حاملون سمة الطاعة، لكنه يطلب المزيد سواء في حضوره أو في غيابه عنهم بالجسد.

*     يليق بنا ونحن نقدم نصائح أن نصحبها بالمديح، بهذا تصير النصائح مقبولة… كما فعل بولس هنا كمثالٍ. انظروا بأي تمييز فريد يقول: “إذًا يا أحبائي“. أنه لم يقل “كونوا مطيعين” إلا بعد أن مدحهم بالكلمات: “كما أطعتم كل حين” بمعنى أنني لست أقدم أناسًا آخرين كقدوة لكم، بل أقدمكم أنتم أنفسكم مثالاً[107].

*     لماذا “الآن بالأولى جدًا في غيابي“؟ نعم، ربما يبدو أنكم كنتم تفعلون كل شيء تقديرًا لي، خشية العيب، لا يكن الأمر هكذا. فإن فعلتم هذا بوضوحفي حضوري فإنكم إذتجاهدون بأكثر غيرة وحمية في غيابي فهذا برهان واضح أن ما كنتم تفعلونه ليس من أجلي،وإنما من أجل الله[108].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“تمموا خلاصكم بخوفٍ ورعدةٍ”، فالخلاص هو حركة دائمة حية، وسلوك لا يتوقف حتى يتم حين يصيرون على قياس ملء قامة المسيح، فلا خلاص بدون مثابرة وسهر.أما الخوف والرعدةفيشيران إلى الحذر الشديد والجدية الحازمة مع النفس، وإدراك حقيقة المعركة ضد قوات الظلمة.

تمموا خلاصكم“:للإنسان دور في تتميم الخلاص, فالخلاص عمل مشترك بين الله الذي يوجد فينا الرغبة في الخلاص, ويهبنا المعونة للانتصار على الخطية, ويزرع فينا الفضيلة, وبين الإنسان الذي يتمم الخلاص بعمل الأتي:

1- يقبل الخلاص المقدم لنا على عود الصليب.

2- يقبل المعمودية كموتٍ ودفنٍ وقيامة مع المسيح.

3- يقبل سرّ الميرون، ثم ممارسة سر التوبة والاعتراف, وسرّ الإفخارستيا.

4- يترجم الإيمان النظري إلى إيمان عملي، أقصد الأعمال الصالحة، الإيمان العامل بالمحبة.

وبخوفٍ ورعدةٍ” [12]: ليس خوف المهانة والمذلة، ليس خوف العبيد، وإنما خوف الأبناء. الخوف والحذر لئلا تخدعنا الحية القديمة أو الذات الماكرة، فنسقط ونهلك ونُحزن قلب الآب علينا.

*     كان مثل هذا الخوف لدى بولس، إذ يقول: أخاف “حتى بعدما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضًا” (1 كو 27:9). فإن كان بدون عون الخوف لن تتحقق الأمور الزمنية، كم بالأكثر الأمور الروحية. فإني أود أن أعرف من تعلم الحروف (التي ينطق بها) بدون خوف؟ من صار بارعًا في أي فن بدون خوف…؟

من أين ينتج الخوف؟ إن كنا نحسب الله حاضرًا في كل مكان، يسمع كل الأشياء، ويرى كل شيء، ليس فقط ما يُمارس بالعمل وما يُقال، بل أيضًا وما في القلب وفي أعماق النفس، إذ هو يميز أفكار القلب ونياته (عب 12:4). فإن كنا ندرك ذلك، لن نفعل شيئًا أو ننطق به أو نتخيله إن كان شريرًا.

أخبرني، إن كان ييلزمك أن تقف دومًا بجوار شخص الحاكم أما تقف بخشية؟ فكيف تقف في حضرة الله وأنت تضحك أو تلقي بظهرك إلى خلف ولا تخف وترتعد؟ لا تستهن بطول أناته، فإنها لكي تجلبك للتوبة، إذ هو طويل الأناة[109].

القديس يوحنا الذهبي الفم

*     أنه ذاك الإنسان الذي تمّم خلاصه بخوفٍ ورعدةٍ. أنه ذاك الذي يسير بكل حرصٍ وسط فخاخ وشباك وشهوات هذا العالم، ويطلب نعمة الرب وعونه، ويترجّى برحمته أن يخلص بالنعمة[110].

القديس مقاريوس الكبير

*     الأراضي المنخفضة تمتلئ، والأراضي المرتفعة تجفّ. النعمة هي مطر. فلماذا تتعجّبون إذن إن كان الله يقاوم المتكبّرين، ويعطي نعمة للمتواضعين (يع 4: 6)؟ لذلك القول: “بخوفٍ ورعدة” يعني بتواضعٍ. “لا تستكبر بل خفْ” (رو 11: 20). خفْ حتى تمتلئ، لا تستكبر لئلاّ تجفْ![111]

القديس أغسطينوس

“لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا،

من أجل مسرته” [13].

إنها نعمة الله القادمة أن تقدس الإرادة، وتهب قوة لعمل الصلاح، أي تحقق الإرادة الصالحة بالسلوك العملي. فهو خالق النفس والجسد، واهب الإرادة ومعطي القوة وكل الطاقات التي للإنسان. وهو يقدم هذا من أجل مسرته بالإنسان ليكون أيقونة له.

لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا” [13] هذه الآية تطمئنا، وتوجه نظرنا لله العامل فينا. إنها تهبنا روح الرجاء فعندما نشعر أن الله القادر على كل شيء ليس ببعيدٍ عنا، وإنه قادر أن يصد عنا كل حروب عدو الخير، عندئذ تستريح قلوبنا.

من أجل مسرته” [13]: يسر بأبنائه كما يُسر بابنه الوحيد.

يتساءل القديس يوحنا الذهبي الفم كيف يقول المرتل: “اعبدوا الرب بخوفٍ واهتفوا (افرحوا) برعدةٍ” (مز 2: 11)؟ وإن كان الله هو العامل فينا، فكيف نتمم خلاصنا بخوف ورعدة؟

*     لا تخافوا حين أقول: “بخوفٍ ورعدةٍ“. فإنني لست أقول بهذا المعنى أن تتوقفوا عن العمل في يأس، وأن تظنوا أن الفضيلة أمر يصعب بلوغه، وإنما أن تقتفوا أثرها، ولا تضيعوا أوقاتكم في مساعٍ باطلةٍ. فإن كان حالكم هكذا فإن الله يعمل كل شيء. ألا ترون: “الله هو العامل فيكم”. فإن كان هو العامل، فمن جانبنا ليكن لنا فكر حازم متمسك غير متهاون[112].

القديس يوحنا الذهبي الفم

*     لا تخافوا فإنكم لستم منهزمين، فإن كلا من الرغبة القلبية والعمل هما من الله، فحيث تكون لنا الإرادة هو يزيد إرادتنا. كمثال: أرغب أن أمارس بعض الأعمال الصالحة، أنه هو الذي يعملها بذاتها، وبها أيضًا يعمل في الإرادة. يقول الرسول هذا من تقواه العظيمة إذ يحسب كل أعمالنا الصالحة هي هبات النعمة.

إذ يدعوها هبات، لا يٌضعف من حرية الإرادة، بل يمنحنا حرية الإرادة. فيقول: “العامل فينا أن تريدوا“. لا يحرمنا من حرية الإرادة، بل يُظهر أن بعملنا الصالح ذاته نزيد رغبتنا القلبية في الإرادة. فالعمل يجلب عملًا، وهكذا عدم العمل يجلب عدم عمل. هل تعطي صدقة؟ فان هذا يحثك أن تعطي أكثر. هل ترفض العطاء؟ ستصير بالأكثر غير ميال إلى العطاء[113].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“افعلوا كل شيء بلا دمدمة ولا مجادلة” [14].

يقدم لنا الرسول سبع نصائح هامة تعيننا في تتميم خلاصنا بخوف ورعدة (14-16):

 1- افعلوا كل شيء بلا دمدمة [14].

2- ولا مجادلة [14].

3- تكونوا بلا لوم [15].

4- بسطاء [15].

5- بلا عيب [15].

6- في وسط جبل معوج وملتو تضيئون بينهم كأنوار في العالم [15].

 7- متمسكين بكلمة الحياة [16].

يحثنا الرسول أن نمارس حياتنا الجديدة ونتمم الوصية بفرحٍٍ، في طاعة تنبع عن أعماق القلب، وليس بترددٍ وتذمرٍ وجدال. قدم الله وصيته لنجد فيها لذة الطاعة له كمحبوبنا، لا لتكون موضوع جدال نظري تفسد سلامنا الداخلي. فإن المنازعات والمجادلات الغبية تفسد العينين عن معاينة الحق والتمتع بعذوبة الشركة في النور.

تشير الدمدمة إلى الشكوى الخفية التي تثور في النفس والتردد. تعتبر الدمدمة المرحلة الأولى من التذمر، وتنتج من ضعف المحبة وقلة الصبر وضيق القلب.

*     ألم تلاحظوا أنه يعلمهم ألا يتذمروا (دمدمة)؟ ليُترك التذمر للعبيد الذين ليس لهم مبادئ وأردياء. اخبروني أي ابن هو هذا الذي يتذمر دومًا عندما يعمل في شئون أبيه، والذي يعمل لصالحه… لماذا يتذمر من يعمل بحرية إرادته وليس عن اضطرار؟ من الأفضل ألا يفعل شيئًا من أن يفعله بتذمر، فإن العمل نفسه يفسد[114].

*     الدمدمة (التذمر) لا تٌطاق،هي مرعبة للغاية، على حافة التجديف… المتذمر جاحد لله، ومن كان جاحدا لله يصير مجدفًا[115].

*     إذ يجد الشيطان نفسه بلا سلطان أن يسحبنا من ممارسة ما هو حق يرغب في إفساد مكافأتنا بوسائل أخرى. فانه يبحث عن فرصة لكي يدس في فكرنا الكبرياء أو المجد الباطل، وإن لم يستطع ذلك يدس الدمدمة، وأن لم يجد فيدس الريب والشك. انظروا كيف يدفع هذه الأمور بكل قوة إلى الخارج[116].

القديس يوحنا الذهبي الفم

المجادلة أي المناظرة والمناقشة بأسلوب يشوبه الكبرياء والتمسك بالرأي، وهذا ضد الحياة المسيحية المقدسة المحبة. والمجادلة هنا جاءت في اليونانية لتعني الشك (1 تي 8:2).هذا و يثور الجدال بسبب تشامخ الإنسان على أخيه.

*     ماذا يعني “ولا مجادلة“؟ أي الحوار المستمرإن كان هذا أمر صالح أم غير صالح؛ لا تدخلوا في مجادلات[117].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“لكي تكونوا بلا لوم وبسطاء،

أولادًا لله بلا عيب،

في وسط جيلٍ معوجٍ وملتوٍ،

تضيئون بينهم كأنوارٍ في العالم” [15].

إذ نقبل الإرادة المقدسة من الله، ونتممها بقوته العاملة فينا، ونحيا بلا تذمر ولا جدال، نتمتع بحياة مقدسة تنعكس على أعماقنا الداخلية كما على سلوكنا مع أقربائنا ومع الله نفسه.لهذا يقول: “لكي تكونوا بلا لوم“، أي تحملون قدسية داخلية وطهارة ونقاوة قلب، لا موضع لعيب في أعماقنا. وأما قوله: “وبسطاء” فتعني سلوكًا بسيطًا مع الغير، لايحمل أذية لأحد.ونكون “أولادًا لله بلا عيب“، أي نكشف عن تمتعنا بشركة الطبيعة الإلهية.

بهذه الحياة بجوانبها الثلاث نصير ككواكبٍ مستنيرة بشمس البرّ ومتلألئة تضيء العالم.

الكلمة اليونانية المترجمة هنا “أنوار” هنا تعني الكواكب المنيرة كالشمس والقمر والنجوم.

بسطاء: أي لا نظهر غير ما نبطن، بعيدين عن كل مكرٍ ودهاءٍ، ولا نخلط الشر بالخير.

أولاد الله هذا شرف وامتياز لنا، لكنه أيضًا مسئولية علينا، لأن الأولاد يجب أن يشابهوا ويماثلوا أباهم في الصلاح. يجب علينا أن نعيش بلا عيب لكي يكون لنا نصيبا مع مصاف القديسين.

في وسط جبل معوج وملتو، تضيئون بينهم كأنوار في العالم”: إذا كان الاعوجاج والالتواء أمر طبيعي في حياة أولاد إبليس، فإن النور والإضاءة شيء طبيعي في حياة أولاد المسيح.

*     لأن الآباء القدّيسين الذين كانوا قبلنا امتلكوا كلمة الحياة، فقد صاروا أنوارًا العالم[118].

القديس كيرلس الكبير

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن أولاد الله يضيئون وسط جيل معوج وملتوي، كما تضيء الكواكب في الليل، فيوسطالظلمة، وتُحسب بلا عيب بسبب جمالها. نعم أن الظلمة المحيطة بالكواكب تعكس بهاءً أعظم على الكواكب، هكذا من يسلك باستقامة وسط جيل معوج وملتوٍ.

يرى العلامة أوريجينوس أن أولاد الله الذين بلا عيب يسيرون في وسط جيلٍ معوجٍ وملتوٍ، كما سار بنو إسرائيل في وسط البحر الأحمر، ولم تستطع المياه أن تقترب إليهم وتغرقهم.

*     إن كنت ابن إسرائيل (الروحي) يمكنك أن تسير على أرض جافة وسط البحر. إن كنت ملتزمًا أن تسير وسط شعبٍ معوجٍ وملتو، ممسكًا بكلمة الحياة مثل نور شمس المجد، فإنه يحدث أن تسير وسط خطاة ولا يمكن لمياه الخطية أن تنسكب عليك، ولا تقدر موجة الشهرة أن ترش مياهًا عليك وأنت تعبر هذا العالم، ولا تقدر موجة الشهوة أن تلطمك. من كان مصريًا (وثنيًا) ويتبع فرعون (رمز إبليس) فيغرق في فيض الرذائل. أما الذي يتبع المسيح ويسير كما سار هو، فتصير المياه حاجزًا على اليمين واليسار (خر 22:14)، ويسير هو نفسه في الوسط على أرض جافة (خر 19:15)، لا ينحرف يمينًا ولا يسارًا حتى يبلغ إلى الحرية ويترنم بتسبحة الغلبة للرب قائلًا: أسبح الرب، لأنه بالمجد تمجد” (خر 1:15)، بالمسيح يسوع ربنا الذي له المجد والسلطان إلى أبد الأبد. آمين[119]

*     دخلت خيل فرعون بمركباته وفرسانه إلى البحر، ورد الرب عليهم ماء البحر. وأما بنو إسرائيل فمشوا علي اليابسة في وسط البحر” (خر 19:15). فإن كنت ابن إسرائيل يمكنك أن تمشي علي اليابسة في وسط البحر. إن كان يلزم أن تكون في وسط جيل معوج وملتوٍ تضيء بينهم كنور الشمس للمجد. يمكنك أن تسير وسط الخطاة، وسط ماء (سائل) الخطية دون أن يغمرك. يمكنك أن تعبر هذا العالم دون أن تنتثر أمواج الشهوة عليك، فلا تضربك موجة الشهوة[120].

العلامة أوريجينوس

*     رغم إننا صرنا ظلمة بسبب الخطية فإن الله قد أضفى علينا جمالًا وبهاءً من خلال نعمته الفائقة. عندما يسود الليل ويلف الظلامكل شيء نجد أنه رغم أن بعض الأشياء تصير مضيئة بالطبيعة، إذ حل النهار، فإن مقارنتها بالظلمة لا تنطبق على الأشياء التي كانت معتمة قبلًا بالسواد. وهكذا تعبر النفس من الخطأ إلى الحق، وتتبدل صورة حياتها المظلمة إلى نعمة فائقة. انتقل بولس الرسول عروس المسيح من الظلمة إلى النور، إذ يقول لتلميذه تيموثاوس (1 تي 13:1)، كما العروس لوصيفاتها، إنه قد صار مستحقًا إن يكون جميلًا، لأنه كان قبلًا مجدفًا ومضطهدًا ومفتريًا ومظلمًا. ويقول بولس الرسول أيضًا أن المسيح جاء إلى العالم لينير للذين في الظلمة. إن المسيح لم يدعو أبرارًا بل خطاة إلى التوبة، الذي جعلهم يضيئون كأنوار في العالم (في 15:2)، بحميم الميلاد الثاني الذي غسلهم من صورتهم السوداء الأولى[121].

*     لنشعل لأنفسنا نور المعرفة. هذا يتحقق بزرع البرّ وحصاد ثمار الحياة، فإن العمل هو ابن التأمل، الأمر الذي نتعلمه بين أمور أخرى هو ما هو النور الحقيقي، وما هو النور الباطل، فنخلص من السقوط بغير حذر في الشر كأننا ساقطون في الخير. لنصبح نحن أنفسنا نورا، كما قيل للتلاميذ من النور الأعظم: “أنتم نور العالم” (مت 5: 14). بل ولنصر “كأنوارٍ في العالم، متمسكين بكلمة الحياة”، أعني نصير قوة محيية للآخرين. لنتمسك بالألوهة، ونقتبس نورًا من النور الأبهى الأول. لنسر نحوه مشرقين، قبل أن نتعثر في الجبال المظلمة المعادية (إر 42: 16). ما دام الوقت نهار فلنسلك بأمانة كما في النهار لا بالبطر والسكر، لا بالمضاجع والعهر (رو 13: 13)، التي هي أعمال الليل الشريرة[122].

القديس غريغوريوس النزينزي

*     أرسلنا الله لكي نكون أنوار، ولكي نصير كالخميرة، حتى نعلم الآخرين، ونعيش كملائكة بين البشر، وكرجال بين أطفال صغار, وكأناس روحيين بين أهل العالم الحاضر، فيستفيدون منا، مثل بذور تنتج ثمارا وفيرة[123].

 القديس يوحنا الذهبي الفم

*     لنبعث بنورنا، حارين في الروح، مقتنين الخلاص من قوات الظلمة التي تحدرنا إلى الموت: “لأن أجرة الخطية موت” (رو 6: 23). هكذا تصير كلمات الرسول حقًا بالنسبة لنا نحن أيضًا: “قد أُبتلع الموت في غلبة، يا موت، أين شوكتك؟ يا هاوية، أين نصرتكِ؟” (1 كو 15: 54-55) ليتنا بطاعتنا لشمس العدل نستنير بنوره، ونتأهل للفهم والقوة، فنتبرر فيه. ليس فقط يليق بنا نحن نضيء أكثر من الثلج، لأن الله لا يخدع عندما يعد: “إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج” (إش 1: 18)، وإنما نشرق أيضًا بالنور للقادمين إلينا. ليتنا نعطي اهتمامًا لكلمات الرب: “أنتم نور العالم” (مت 5: 14)[124]

القديس باسيليوس الكبير

فاصل

4. حب وفرح للراعي والرعية 16-30

“متمسّكين بكلمة الحياة

لافتخاري في يوم المسيح،

بأنّي لم أسعَ باطلًا،

ولا تعبت باطلًا” [16].

سرّ الاستنارة الداخلية والإنارة للعالم هو تمسكنا بكلمة الحياة، أي بالوصية الإلهية التي هي سراج منير تحثنا على خدمة الغير بفرح.يظن البعض أن الرسول بولس هنا يشبه المؤمنين بالأبراج التي على الشواطئ في المواني حيث تُوضع نيران ترشد البحارة خاصة بالليل فلا تضل الطريق.

يقف الرسول متهللًا ومفتخرًا بعمل الله به فيهم وذلك في يوم الرب العظيم، ويحسب أن سباقه لم يضع هباء، وآلامه لم تكن باطلة. سيكونوا إكليله في ذلك اليوم. نحن نقدم كلمة الله للآخرين، واثقين إنها مبعث الفرح لهم.

*     ماذا يعني بقوله “لافتخاري“؟ إنني أشارككم في أعمالكم الصالحة. عظيمة هي فضيلتكم، ليسفقط تخلصكم، بل وتجعلني بهيًا. يا له من نوعٍ عجيبٍ من الافتخار (المجد) يا أيها الطوباوي بولس! لقد جُلدت وطُردت وأٌهنت من أجلنا. لذا يضيف: “في يوم المسيح، بأني لم اسعَ باطلًا ولا تعبت باطلًا” فإنه من حقي دومًا أن افتخر بأنني لم أسع باطلًا[125].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“لكنّني وإن كنت انسكب أيضًا على ذبيحة إيمانكم وخدمته،

أُسرّ وأفرح معكم أجمعين” [17].

اعتاد البحارة، خاصة حين يتعرضون لعواصف شديدة ويكونون في خطرٍ، عند وصولهم إلى الميناء بسلامٍ أن يقدموا ذبيحة شكر للهيكونواقد نذروها أثناء ضيقتهم. هكذا يرى الرسول شعب الله وقد بلغ إلى الميناء السماوي بسلام يقدمون ذبيحة إيمانهم، وأما هو فيكون كالسكيب من الخمر الذي يسكب داخل الذبيحة علامة الفرح وسط آلام الذبح.

*     يقول: صرت سكيبًا وذبيحة! يا لها من نفس طوباوية! يحب إحضارهم لله ذبيحة. أنه من الأفضل جدًا تقديم نفس (لله) عن تقديم ثور[126].

*     نعم إن كنت أٌقَدَمْ مع الذبيحة والخدمة، فإني أفرح وأتهلل معكم جميعًا. وبنفس الطريقة هل تفرحون وتبتهجون معي؟[127]

القديس يوحنا الذهبي الفم

كما أخلى الكلمة الإلهي ذاته من أجلنا يليق بنا من جانبنا نحن أيضًا أن نخلي أنفسنا. فالصليب أو إخلاء الإنسان نفسه هو طريق الحياة الجديدة في السيد المسيح. يقدم لنا الرسول بولسهنا أمثلة لثلاثة أشخاص أخلوا أنفسهم من أجل المسيح:

  1. القديس بولس: يشارك ذبيحة السيد المسيح بفرح.
  2. القديس تيموثاوس: يطيع ويخدمم الآخرين.
  3. القديس أبفرودتس: له الحب المقدس والعواطف المقدسة.

  1. القديس بولس:إنه يدرك تمامًا حاجة الشعب إلى َمثَلٍ. يحتاجون إلى مفسرٍ في الجسد، يوضح كيف تتحقق ممارسة الإنجيل عمليًا. لقد سكب نفسه سكيبًا على ذبيحة إيمان الناس. هكذا كان مبتهجًا وفرحًا معهم [17]. في العهد القديم كان الكاهن يسكب الخمر على الذبيحة كسكيبٍ (خر 29: 40). يشير الخمر إلى الفرح الروحي. وقد حسب القديس بولس آلامه اليومية حتى الموت هو الخمر الذي يسكبه السيد المسيح (رئيس الكهنة الأعظم) في حياة الشعب المتألم. إنه يفرح ويهب فرحًا في المسيح. صار بولس بالسيد المسيح مصدرًا للفرح. فهو مع الشعب يشاركون ذبيحة المسيح بالإيمان. وقد اعتبر بولس إيمان أهل فيلبي وآلامهم وخدمتهم ذبيحة حية, وهو ككاهن يقدمها لله.

  1. تيموثاوس[19-23]. أخلى نفسه بالطاعة وشارك القديس بولس خدمته. لقد ولد القديس بولس تيموثاوس، كأبٍ أنجب طفلًا، الآن يتبنى الطفل حياة الوالد.

يشير القديس بولس كيف يندر أن توجد مثل مجموعة السمات المتآلفة التي للقديس تيموثاوس. فبالرغم من ضعف صحته (1 تي 5: 23)، وحداثة سنه (1 تي 4: 12)، واستخفاف البعض به (1 كو 16: 10)، اتسم القديس بقوة البصيرة الداخلية، ولباقته، وحنوه، ونجاحه في مواجهة المجتمعات المتمردة.

يرى البعض أنكلمة “الطاعة” في العهد الجديد كلمة بولسية (رو 6: 17؛ 16: 19؛ 2 كو 7: 15؛ 10: 6؛ 2 تس 3: 4؛ فل 21؛عب 5: 8 إلخ.)، بينما لم توجد في الأناجيل كلها سوى خمس مرات (مر 1: 27؛ 4: 41؛ مت 8: 27؛ لو 8: 25؛ 17: 6). تجد كلمة “طاعة “جذورها في تعبير “الاستماع“، وقد أصاغ الرسول بولس تعبير “طاعة الإيمان” (رو 1: 5 ؛ 16: 26؛ راجع استماع الإيمان غل 3: 2، 5)، وقد عبر بهذا عن الانفتاح على إرادة الله حسب متطلبات الإيمان.

  1. أبفرودتس[25-30]. كان مثلًا رائعًا للعواطف المقدسة كطريقٍ للنمو في النعمة الإلهية. صار أبفرودتس أسقفًا لفيلبي، ومات شهيدًا. كان شريكًا في العمل وجنديًا مرافقًا للرسول بولس [26]. لقد التهبت عواطفه بالحب الأخوي، فحزن جدًا لحزن الشعب عليه بسبب مرضه حيث قارب إلى الموت.

وأسر وأفرح“: إنه صوت الفرح الذي بعثه الرسول من سجنه في روما. فتردد في جنبات مدينة فيلبي, ولا شك أن الفرح يهبنا القوة لمواجهة التجارب، وأن الفرح هو وصية الله لنا.

“وبهذا عينه كونوا أنتم مسرورين أيضًا،

وافرحوا معي” [18].

أنه يفرح بخلاصهم وبلوغهم الميناء السماوي بسلام، ويسألهم أن يفرحوا معه، إذ يكون كسكيب الخمر الواهب الفرح لشاربيه.

*     يقول: إنه ليس بشرٍ أن أتألم، بل بالحري أفرح بذهابي إلى المسيح، فهل لا تفرحون؟ “افرحوا معي“. ليتنا نحن أيضًا نفرح عندما نرى إنسانًا بارًا يموت، ونفرح بالأكثر حتى عندما يموت شرير ميئوس منه. فإن الأول يذهب لينال مكافأة أعماله، والآخر يتوقف إلى حد ما عن خطاياه العنيفة[128].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“على أني أرجو في الرب يسوع

أن أرسل إليكم سريعًا تيموثاوس،

لكي تطيب نفسي إذا عرفت أحوالكم” [19].

يعدهم بإرسال ابنه في الرب إليهم بسرعة إن سمح الرب لكي يعود يحمل إليه أخبارهم السارة، فيتهلل معهم ويشاركهم فرحهم.

*     انظروا كيف ينسب كل شيء إلى المسيح حتى إرساله لتيموثاوس، قائلًا: “أرجو في الرب يسوع“، بمعنى إني أثق أن الله سيسهل هذا لي، حتىإنني أتشجع عندما أتعرف على أحوالكم. إني أنعشتكم عندما سمعتم الأمور الخاصة بي والتي كنتم تصلون من أجلها، وهي أن يتقدم الإنجيل وأن يخزى أعداؤه، حيث أن الوسيلة التي ظنوا أنهم يسببون لي بها أذية صارت لفرحي. هكذا أيضًا أود أن أتعرف على أحوالكم لكي ما أتشجع عندما أعرف أخباركم. هنا يٌظهر أنهم يجب أن يفرحوا بقيوده ويستريحوا لها، إذ ولدت فيه مسرة عظيمة. فإن كلماته: “تطيب نفسي“من جهة ما أنتم عليه[129].

*     يا له من شوق عظيم نحو مكدونية! يشهد نفس الشيء بالنسبة لأهل تسالونيكي، إذ يقول: “وأما نحن أيها الأخوة، فإذ قد فقدناكم زمان ساعة واحدة بالوجه…” (1 تس 17:2). وهنا يقول: “أرجو في الرب يسوع أن أرسل إليكم سريعًا تيموثاوس” لكي أعرف أحوالكم. هذا دليل عن عنايته الفائقة. فإذ لم يكن قادرًا أن يكون معهم بنفسه أرسل تلاميذه،إذ لم يستطع أن يحتمل بقاءه ولو إلى فترة قصيرة يجهل أحوالهم، لأنه لم يعرف كل أمورهم بإعلان الروح. هذا هو عمل النفس التي تهتم بالآخرين وتفكر فيهم، وتصارع دومًا من أجلهم[130].

القديس يوحنا الذهبي الفم

*     ينتحب الراعي وسط الأجراء. إنه يبحث عن أحد ممن حوله يحب قطيع المسيح بإخلاص، فلم يجد بينهم ولا واحد! لا يعني هذاأنه لم يوجد في كنيسة المسيح سوى الرسول بولس وتيموثاوس الذين لهما اهتمام أخوي بالقطيع، لكن هذا ما حدث في ذلك الحين أثناء إرسال تيموثاوس، إذ لم يجد معه بين أبنائه سوي أجراء الذين “يطلبون ما هو لأنفسهم، لا ما هو ليسوع المسيح” (في 21:2) ومع هذا فهو نفسهمن أجلاهتمامه الأخوي نحو القطيع فضل أن يرسل ابنه ويبقي هو بين الأجراء. يوجد أجراء بيننا نحن أيضًا، والرب وحده هو الذي يميزهم. ذاك الذي يفحص القلوب يميزهم، وأحيانًا نحن أيضًا نميزهم. فليس بلا هدف قال الرب نفسه عن الذئاب: “من ثمارهم تعرفونهم، هل يجتنون من الشوك عنبًا أو من الحسك تينًا؟” (مت 16:7)[131]

 القديس أغسطينوس

“لأن ليس لي أحد آخر نظير نفسي،

يهتم بأحوالكم بإخلاص” [20].

تيموثاوس شخصية، في عيني الرسول، لا تُقارن بأحدٍ، في خدمته وإخلاصه وبذله. إنه يحمل ذات روح الرسول وقلبه.

يرى القديس أغسطينوس أن الرسول يتحدّث هنا عن كثرة وجود الأُجراء الذين يكرزون بعلّةٍ لصالحهم الشخصي، وندرة وجود الراعي الذي يكرز بالحق، فيطلب لا ما لنفسه بل ما هو ليسوع المسيح[132].

*     إنه يكرمهم بإرسال تيموثاوس إليهم… “لأن ليس لي أحد آخر نظير نفسي“، بمعنى ليس ممن يهتمون هو مثلي، ليس من يهتم حقًا بكم… تيموثاوس هو ذاك الذي معي يحبكم. كان يمكن أن أرسل آخرين، لكن لا يوجد من هو مثله. إنه نظيري[133].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“إذ الجميع يطلبون ما هو لأنفسهم،

لا ما هو ليسوع المسيح” [21].

 هنا يشير الرسول إلى كثرة الكارزين عن حسد وتحزب (15:1). ولعله قال هذا حاسبا الآخرين هكذا إن قورنوا بشخص تيموثاوس.

*     الإنسان الصالح يكرز لكم، اقطفوا العنب من الكرمة. الإنسان الشرير (الذي يطلب ما لنفسه) يكرز لكم، اقطفوا العنب من على السياج. فإن العنقود قد نما على غصن الكرمة محاط بالأشواك، لكنه لم يصدر عن الشوك. على أي الأحوال عندما ترون مثل هذا وأنتم جائعون كونوا حذرين وأنتم تقطفون العنقود، لئلاّ وأنتم تمدّون يدكم على العنب يمزّقها الشوك. هذا ما أقوله: بحكمة استمعوا إلى ما هو صالح، ولا تتمثلوا بشرّ الأشخاص[134].

*     البسوا ثوب العرس. أوجّه حديثي إليكم يا من لم ترتدونه بعد. أنتم الآن فعلًا في داخل (العرس)، ومع هذا لم تلبسوا الثوب لتكرموا العريس. إنكم تطلبون ما هو لأنفسكم لا ما هو ليسوع المسيح [21]. لأن ثوب العرس هو لتكريم الاتحاد، أي اتحاد العريس والعروس. أنتم تعرفون العريس أنه المسيح. أنتم تعرفون العروس، إنها الكنيسة. كرّموا العروس، وقدّموا كرامة للعريس. إن قدّمتم الكرامة اللائقة لكليهما تكونون أبناءهما[135].

*     يُقال على لسان الرب نفسه للروح التي تزني وراءه: “لقد كنت ترجو أمرًا أعظم بانفصالك عنّي”. لأن الخاطي في تعدّيه، أي في خطيّته يهتم بنفسه فقط، إذ يرغب في إبهاج نفسه لفائدته الخاصة، بينما يُلام الذين يطلبون ما هو لأنفسهم لا ما هو ليسوع المسيح [21]، بينما أُمر بالمحبّة التي “لا تطلب ما لنفسها” (1كو 13: 5)[136].

*     يحوي الفلك كلا النوعين، فإن كان الفلك هو رمز الكنيسة، ترون بالحقيقة في الطوفان الحاضر الذي للعالم الكنيسة تضم بالضرورة النوعين، كما تضم الغراب هكذا تضم الحمامة. ما هي الغربان؟ الذين يطلبون مالأنفسهم وما هو الحمام؟ الذين يطلبون ما للمسيح[137]

القديس أغسطينوس

“وأمّا اختباره،

فأنتم تعرفون أنه كولد مع أبٍ خدم معي لأجل الإنجيل” [22].

يدرك أهل فيلبي العلاقة القوية بين الرسول بولس وتلميذه تيموثاوس في الرب، وخلال خدمة إنجيل المسيح. لقد حسبه ابنه الخاص خدم كابنٍ لا كأجير (أع 16: 1-3؛ 17: 14).

*     قدم لهم تيموثاوس لكي مايكرموه بالأكثر. هذا أيضًا ما فعله حين كتب إلى أهل كورنثوس:”لا يحتقره أحد، لأنه يعمل عمل الرب كما أنا أيضًا” (1 كو 10:16، 11).قال هذا ليس لأنه مهتم به، وإنما من أجل الذين يستقبلونه، كي ينالون مكافأة عظيمة[138].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“هذا أرجو أن أرسله أول ما أرى أحوالي حالًا” [23].

إذ هو أسير ليس حرًا في حركته لم يستطع أن يحدد الزمن، فهو يود أن يذهب إليهم بنفسه (24)، لكن إذ يود أن يطمئن حاول الإسراع في إرسال تلميذه المحبوب.

*     سأرسله عندما أرى ما هو موقفي، وما هي نهاية أموري[139].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“وأثق بالرب إنّي أنا أيضًا سآتي إليكم سريعًا” [24].

*     لم أرسله كما لو كنت لا أريد أن آتي إليكم، وإنما لكي أتشجع عندما أعرف حالكم، وفي الوقت نفسه لا أجهل حالكم. يقول “واثق بالرب“. انظروا كيف يعتمد في كل شيء على الله، ولا يتكلم بشيء من ذهنه هو. إنه يقول: “إن شاء الرب!”[140]

القديس يوحنا الذهبي الفم

“ولكني حسبت من اللازم أن أرسل إليكم أبفرودتس،

أخي والعامل معي والمتجنّد معي

ورسولكم والخادم لحاجتي” [25].

إذ يخشى عدم إمكانية إرسال تيموثاوس بسرعة، ولكي يبعث فيهم روح الفرح، شعر بالالتزام أن يرسل أبفرودتس أخاه والعامل والجندي الرفيق في معركة الإنجيل والرسول المتخصص لخدمتهم وخدمته.

هما تيموثاوس وأبفرودتس اللذان قرر بولس أن يرسلهما إلى فيلبي. إنهما ليس من رسل يسوع, ولا هما صانعا آيات ومعجزات ولكنهما خادمان أمينان.

*     أرسله وبعث معه مديحًا كذاك الذي لتيموثاوس. فقد مدحه في نقطتين: أولًاأنه يحبهم “يهتم بأحوالكم بإخلاص” ]20[، وثانيًا أنه تزكى في عمل الإنجيل. لنفس السبب وبذات العبارات يمتدح أيضًا هذا الرجل، كيف؟ دعاه أخًا وعاملًا معه، ولم يقف عند هذه النقطة بل دعاه متجندًا معه. لقدأبرز كيف شاركه في مخاطره واختبر ما اختبره هو. فإن “المتجند معه” هو أكثر من “العامل معه“. فربما يسند في الأمور الهادئة، ولا يفعل ذلك في وسط الحروب والمخاطر. فبقوله: “المتجند معي” يظهر أنه يفعل هذا أيضًا (وسط المخاطر)[141].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“إذ كان مشتاقًا إلى جميعكم،

ومغمومًا،

لأنكم سمعتم أنه كان مريضًا” [26].

كان أبفرودتس مريضًا، وإذ سمعوا عن مرضه حزنوا، فاغتنم هو على حزنهم، إذ لم يكن يود أن يسمعوا ويحزنوا.

*     هدف بهذا إلى نقطة هامة يعلنها وهي أن أبفرودتس كان يعلم جيدًا كيف كان محبوبًا منهم. وهذا ليس بالأمر الهين بالنسبة للحب. يقول: أنتم تعرفون كيف كان مريضًا وحزن أنه بعد شفائه لم يركم لكي ينزع عنكم حزنكم عليه بسبب مرضه. هنا يقدم سببًا آخر لإرساله إليهم مؤخرًا جدًا. فإن هذا ليس عن إهمال. فقد احتفظ بتيموثاوس، إذ ليس لديه من هو مثله… وأبفرودتس بسبب مرضه[142].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“فإنه مرض قريبًا من الموت،

لكن الله رحمه وليس إيّاه وحده،

 بل إيّاي أيضًا،

لئلا يكون لي حزن على حزن” [27].

وسط آلامه في السجن وعجزه عن الحركة وافتقادهم مرض أبفرودتس حيث صار قريبًا من الموت، فرحمه الله وشفاه حتى لا تزداد أحزان بولس، إذ هو في حاجة إلى مساعدته في الخدمة.

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم قد يتساءل البعض: لماذا قال الرسول: “لكن الله رحمه” مع أن الانطلاق ليكون الشخص مع المسيح أفضل؟ يجيب علي ذلك بأنه كما شعر القديس بولس بأنه مُلزم أن يبقى من أجلهم، فإن الله رحمه لأجل الخدمة لكي يربح نفوسًا لله.

“فأرسلته إليكم بأوفر سرعة،

حتى إذا رأيتموه تفرحون أيضًا،

وأكون أنا أقل حزنًا” [28].

يكشف الرسول عن علاقات الحب العجيبة المتبادلة. فمع شدة احتياجه إلى أبفرودتس يرسله بأوفر سرعة ليرده إلى أهل فيلبي الذين حزنوا على مرضه الشديد. وإذ يفرحون يجد الرسول في فرحهم راحة له، فيخفف ذلك من أحزانه.

يرى القديس يوحنا ذهبي الفم أنهم فرحوا إذ سمعوا عن شفاء محبوبهم أبفرودتس، لكن فرحهم يزداد بالأكثر إذ يروه بعد شفائه.

لماذا يقول: “وأكون أنا أقل حزنًا”؟ يجيب القديس يوحنا الذهبي الفم: [لم يقل إنني بلا حزن، بل “أقل حزنًا“، مظهرًا أن نفسه لم تحرر من الحزن تمامًا، إذ يقول: “من يضعف وأنا لا أضعف؟ ومن يعثر وأنا لا ألتهب؟” (2 كو 29:11). متى يكون مثل هذا متحررًا من الحزن؟[143]]

“فاقبلوه في الرب بكل فرح،

وليكن مثله مكرمًا عندكم” [29].

يسألهم أن يقبلوه بكل فرحٍ ليس من أجل صداقتهم له، ولكن من أجل خدمته للرب. يكرموه كخادم أمين يختفي في الرب.

*     اقبلوه بطريقة تليق بالقديسين، إذ يلتزم قبول القديسين بكل فرح! لقد فعل هذا كله من أجلكم، وليس من أجل من يرسلهم، فإن النفع الأكبر هو للذي يعمل أكثر من الذي ينال العمل الصالح[144].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“لأنه من أجل عمل المسيح قارب الموت،

مخاطرًا بنفسه لكي يُجبر نقصان خدمتكم لي” [30].

مرة أخرى يكشف الرسول عن عواطفه المقدسة الملتهبة حبًا، فقد اشتهى كثيرون من أهل فيلبي أن يخدموه في سجنه بروما، لكن حالت الظروف عن تحقيق ذلك، وشعروا كأنهم مقصرون في حقه، لكن إذ بذل أبفرودتس كل طاقته في خدمته حتى تعرض للموت بسببه حسب الرسول أن هذا العمل قُدم من أهل فيلبي جميعهم، لأنهم صاروا كأنهم واحد مع أبفرودتس. فخدمة أبفرودتس وتضحياته حتى قرب الموت من أجل الرسول بولس هو عمل محبة، كأن أهل فيلبي قاموا به.

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم[145] أن أبفرودتس انطلق من فيلبي إلى روما حيث كان بولس في السجن، وقد تعرض لمخاطرٍ كثيرةٍ لكي يلتقي به في السجن ويخدمه ويسد احتياجاته.

فاصل

من وحي فيلبي 2

خورس كنسي عند الجلجثة!

*     تُرى هل انطلق الرسول الأسير مع الشعب،

كخورسٍ كنسيٍ متهللٍ ليستقر عند الجلجثة،

أم تحولت زنزانته إلى الجلجثة بعينها؟

*     أراه يقود خورس  كنسيًا فريدًا.

يتمتع بكلمة الوعظ، جوهرها تعزيات في المسيح لا تنقطع!

يمارس الكل روح الحب فتذوب الآلام!

وتنفتح أمام الكل  جراحات المصلوب،

 فيدخل الجميع إلى أحشاء حبه وتحننه!

*     يتغنى الرسول مع الشعب بأغنية الحب،

ويمارس الكل الوحدة،

فقد انسجمت أوتار القيثارة المتنوعة،

لتخرج سيمفونية سماوية يهتز لها السمائيون.

*     يقف الكل معًا في انسجام ينشد أغنية جديدة.

وقف الكل أمام المصلوب، وقد طارت الكلمات من أفواههم.

أي حب أنزلك إلينا يا من لا تسعك السماء؟

كيف قبلت أن تصير ابنًا للإنسان يا وحيد الأب؟

كثيرًا ما تئن نفوسنا في داخلنا:

لماذا لنا هذا الجسد الضعيف؟

هوذا خالق الكل صار جسدًا.

شاركتنا في كل شيء ماخلا الخطية!

رفعت من شأننا يا خالق السمائيين والأرضيين!

*     صرت إنسانًا، وأخذت آخر صفوف البشرية!

حبك دفعك لتصير عبدًا،

لتقيم منا نحن العبيد أبناءً لأبيك!

*     قدمت دمك ثمنًا لتقتنينا عروسًا لك!

دخلت إلى دائرة لعنتنا بالصليب،

لكي تحطم متاريس اللعنة،

وتدمر أبوابها،

وتطلقنا وتحملنا إلى فردوسك السماوي!

*     صرت قائد موكبنا يا واهب الغلبة!

اجتزت بنا وسط جيلٍ ملتوٍ،

فلم تقدر الظلمة أن تخفي نورك فينا.

أقمت منا كواكب بهية وسط ظلمة العالم!

*     لك المجد يا أيها الراعي الصالح العجيب!

أقمت منا جسدك المتهلل العجيب في حبه!

ماذا نرد لك من أجل حبك وتواضعك وقدرتك؟

فاصل

فاصل

 تفسير فيلبي 1 تفسير رسالة فيلبي تفسير العهد الجديد
 تفسير فيلبي 3
 القمص تادرس يعقوب ملطي
تفاسير رسالة فيلبي تفاسير العهد الجديد

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى