تفسير سفر الرؤيا اصحاح 20 للأنبا بولس البوشي
الأصحاح العشرون
رؤ20: 1-6
«ورأيت ملاگا آخر منحدرا من السماء ومعه مفتاح العمق وسلسلة كبيرة في يده، وأخذ التنين الحية القديمة، الذي هو الشيطان إبليس، فربطها إلى ألف سنة، وألقاه في العمق، وأغلق عليه وختم من فوق لئلا يضل الأمم حتى تنقضي الألف سنة. وبعد ذلك مزمع أن يخلى مدة يسيرة.
ورأيت كراسي والجلوس عليها قد أعطوا الحكم. ورأيت النفوس الذين قتلوا لأجل شهادة يسوع المسيح، ولأجل كلمة الله، والذين لم يسجدوا للوحش وصورته، ولم يرسموا اسمه وعلامته على جباههم وعلى أيديهم، قد عاشوا وملكوا مع المسيح ألف سنة. هذه هي القيامة الأولى وأنهم لا يعاينون الموت الثاني، بل يكونوا كهنة الله ومسيحه(تأتي في النص – خطأ ومسبحيه.) ويملكون معه ألف سنة» (رؤ20: 1-6).
التفسير: عني بالقيامة الأولى إقامة العقل الذي للقديسين وهم بعد في الجسد قبل القيامة الجامعة. وذكر أنها تكون ألف سنة، لأن من مجيء الرب إلى آخر الزمان ألف وخمس مائة سنة، فذكر القوة للأكثر، وهو الألف لأن الرب جاء في الألف السادس وفعل الخلاص، فذكر ما بعده وهو الألف الأخير كمال العالم. ويضاف إليه من بدء القيامة التي لربنا المقدسة التي هي أربون(أربون أي عربون، من الكلمة اليونانية) حياتنا المؤبدة وإقامة أوليائه معقولاً قبل القيامة المحسوسة.
وذلك أن أبانا آدم قال الله له: «في اليوم الذي تأكل فيه من عود المعصية تموت موتاً»(تك2: 15). فأكل ولم يمت ذلك اليوم. بل بعد سبعمائة وثلثين سنة، فعني به الموت المعقول أولاً قبل الموت المحسوس. لأن كما أن الموت المحسوس افتراق النفس من الجسد لأنها سبب حياته البشرية، وهكذا بافتراق الروح القدس من نفس الإنسان يكون الموت المعقول. لأن الروح سبب حياته مع الله، فمات آدم أولاً معقولاً يوم أكله من الشجرة المنهي عنها، بافتراق روح الله نفسه، ثم حكم عليه بعد ذلك بالموت المحسوس[1].
ولذلك الرب له المجد جعل الشفاء قبالة المرض، والحياة عوضاً من حكم الموت. فأحيا المؤمنين به أولاً معقولاً بحلول الروح القدس فيهم أولاً، ثم أقام عقل أصفيائه الذي كان ميتا ساقطا. كما بين ذلك القديس اغريغوريوس الثائولوغس قائلاً: إن العقل إذا صفا من كدر الذنوب يتراءى الله له كمثل برق لامع. ثم يخفي عنه بتدبير. فإذا شاهده ذاك العقل الذي اشتاق إليه لكونه من جوهر الملائكة العلويين، فيسعى في طلبه بمحبة واجتهاد، كمثل الطفل الذي يطلب حضن أمه لكونه يستمد منها حياته الزمنية.
وهكذا بالحقيقة عقل الأطهار أضعاف ذلك يشتاق إلى مجد الله، فحينئذ يرفض عنه جميع العوائق العالمية، وكل شيء يصده عن ذلك القصد الفاضل، فينظر الله كنه محبته فيه وأنه لم يؤثر على محبته شيئا آخر. حينئذ يظهر له بالكمال بحلول الروح القدس في نفسه، بذلك الروح القوي المتساوي مع الآب والابن في الجوهر، يصير الإنسان محلاً لله بالروح، ويتم عليه المكتوب: طوبي للنقية قلوبهم فإنهم يعاينون الله.
وهذه هي الملكوت التي قال الرب إنها داخلكم، وهذه صفة إقامة العقل المائت والذهن الساقط، لأنه صار شبيه الروحانيين وهو باقي بعد في الجسد، وسعيه في السماء، وهو ماكث بعد على الأرض، وهو يسعى بقوة الرجاء ويقطع منه بسيف الروح كل ما يعوقه عن ذلك، لأنه قد قام وحيا مع الله قبل القيامة الجامعة للكل بحفظ أوامره، وصار ابنًا وارثا لملكوته الأبدية، الذي ولده بالروح لحياة مؤبدة لا تفنى، والموت الزمني لمثل هذا هو انتقال فاضل، كقول ربنا إنهم لا يعاينون الموت، أعنى البعد من الله، بل ينتقلون من الموت إلى الحياة.
وهكذا يتنعمون معه إلى حين القيامة الجامعة، فتقوم أجسامهم كنحو بهاء أنفسهم، فإن الرب قال إن الصديقين يضيئون مثل الشمس في ملكوت أبيهم. والرسول الإلهي بولس يقول: إنه يغير جسد تواضعنا، فيصيره شبيها بجسد مجده، كفعل يده القوية، الذي له يتعبد كل شيء.
فطوبى بحق لمن له حظ في القيامة الأولى، يعني يتحد مع الله محيي الكل، ويستمد الحياة المؤبدة منه كما قلنا عن الطفل، أنه يستمد الحياة الزمنية من والدته، وهكذا يستريح ويتنيح في حضنه التي هي ملكوته المؤبدة، ويفرح ويستريح مع نظرائه وأقرانه في القيامة الروحانية، الذين هم الأطهار الأفاضل.
فأما الذين لم يصلوا إلى هذا الحد بل هم مؤمنين عاملين على الرجاء، ولم يبلغوا قامة الكمال، بل الرذيلة بعد باقية فيهم تقاتل الفضيلة، وهم لا يهوون ذلك ولا إكمال الرذيلة بالفعل، متألمين وهم يطلبون من الله النجاة منها، ثم يموتون على هذا الحال، فإن الله يقبلهم لكونهم مع تعبهم لم يرجعوا إلى ورائهم بل ينال كل واحد منهم كنحو استحقاقه بقدر ما يجاهد على تنقية قلبه. وهذا المدحة والكرامة والتقرب إلى الله خالقه.
ويجري الأمر في ذلك مثل ما جرى في أمر داود الملك، عندما مضى إلى محاربة الأعداء وتبعه جمع كبير، وأن قوما منهم ضعفوا وتخلفوا في وادي بصران، وأما البقية ذهبوا مع الملك داود النبي، ولم يفارقوه محتفلين به متسلحين. وهكذا حاربوا بشجاعة وهزموا الأعداء، وأخذوا غنائمهم ونهبوا كل ما لهم. وأما أولئك القوم المتخلفين بقوا في الوادي ولم يرجعوا، بل كانا متألمين كيف لم يلحقوا برفقتهم وهم ناظرين الطريق، فلما عاد عليهم أولئك الذين كسروا أعداءهم، ونهبوا ما لهم، استحوا أن يطلبوا منهم مواساة بشيء مما نهبوا من الأعداء، فأمر داود الملك أن يعطوهم أسهمة من النهب. فقال أولئك الحربية كيف نعطيهم ولم يحاربوا معنا ولا ساعدونا، بل تخلفوا. فحكم داود بينهم قائلاً: لو كانوا لما ضعفوا رجعوا إلى ورائهم لم يجز أن تعطوهم شيئاً، والآن فقد ثبتوا يرصدون الطريق، فيجب أن نعطيهم أنصبة من الغنائم. وهكذا قسم عليهم ما يخصهم من النهب.
فأما الذين لا يحفظون أنفسهم بهواهم وشهواتهم لفعل الرذيلة بمحبة ورغبة من غير تورع، مثل القوم الغير مؤمنين، فإن هؤلاء يموتون موتين. الموت الأول الطبيعي، ثم الموت الثاني بعدهم من الله تعالى، ويفرقوا من الحياة المؤبدة ويذهب بهم إلى العذاب الدائم.
وهكذا يجري الحال في رباط الشيطان أنه يوثق إلى آخر الزمان، وعند مجيء الدجال فیقيم كثرة الحروب والفتن، كما يقول الرسول بولص، إذا أخذ من الوسط الذي كان ممسكاً فقط، فخينئذ يظهر المنتهى، ويخرج إنسان الخطية ابن الهلاك الضد، الذي يبيده ربنا بروح فيه، ويبطله بقوة مجيئه[2] . فيعني الممسك في الوسط الشيطان الكبير رئيس جماعة الشياطين، فإذا أُطلق من وثاقه يظهر الدجال الكذاب القائل عن نفسه أنه المسيح، وهو الذي كله خطية وإثم، ابن الهلاك المضاد الذي يبيده الرب القادر.
من الرؤيا: «وإذا كملت الألف سنة، يحل الشيطان من وثاقه، فيخرج ويضل المسكونة ويجمع جوج وماجوج من أربع زوايا الأرض إلى القتال وهم كثير مثل رمل البحر، فيصعدون على سعة الأرض ويحوطون بعسكر القديسين، وبالمدينة الجديدة، فتنزل نار والشيطان الذي أضلهم يلقيه في بركة النار الموقدة بالكبريت، الموضع الذي فيه الوحش والنبي الكذاب، يعذبون ليلا ونهارا، ولا يجدون نياحًا إلى السماء من من عند الله، فتأكلهم، الأبد».
رؤ20: 7-15
«ورأيت كرسيا عظيما أبيض والجالس عليه قد فرّت السماء والأرض هاربين منه، ولم يجدوا لهم موضعا. ورأيت الأموات الكبار والصغار قياما أمام الكرسي، وصحفا قد فتحت، وفتح أيضا صحف الحياة، ودينوا الأموات بما في تلك الصحف كقدر أعمالهم. وألقى البحر أيضا الموتى التي فيه. ودينوا كل واحد واحد كقدر عمله. والذي للموت والجحيم ألقوا في بركة النار المملوءة كبريتاً. هذا الموت الثاني بحياة النار. فكل من لا يوجد اسمه مكتوبا في سفر الحياة، ألقي في بركة النار. (رؤ20: 7-15).
ورأيت سماء جديدة وأرضا جديدة، لأن السماء الأولى والأرض الأولى ذهبا، ولا يوجد البحر أيضا» (رؤ21: 1).
التفسير: هذا بأسره يكون بالحقيقة في القيامة الجامعة العامة للكل.
- يفسر بعض الآباء، ويوافقهم في ذلك الأسقف بولس البوشي، أن الموت الروحي الذي ماته آدم، كان هو مفارقة الروح القدس للإنسان، يقول القديس كيرلس الكبير:
من اللائق ان نقول بأي طريقة أعيد خلق الطبيعة الانسانية الى حالتها الأولى؟ الإنسان الأول، ترابي من تراب الأرض، وكان في قدرته الاختيار بين الخير والشر، لأنه يميل الى الخير أو الشر. ولكنه سقط بمكر وخدعة لثيمة، ومال الى العصيان، فسقط الى الأرض، الأم التي خرج منها، وساد عليه الفساد والموت، ونقل العقوبة الى كل الجنس البشري كله. ونما الشر وكثر فينا وانحدر ادراكنا الى الأسوأ وسادت الخطية، وبالإجمال ظهر أن الطبيعة الإنسانية تعرت من الروح القدس الذي سكن فيها، “لأن روح الحكمة يهرب من الخداع” وكما هو مكتوب “ولا يسكن في الجسد الخاضع للخطية (حكمة1 : 4 سبعينية) ولأن آدم لم يحتفظ بالنعمة التي أعطاها الله له، قرر الله الآب أن يرسل لنا آدم الثاني من السماء. فنزل إلى شكلنا، ابنه الوحيد، الذي هو بالطبيعة بلا تغيير أو اختلاف، بل لم يعرف الخطية مطلقاً، حتى كما “بعصيان” الأول خضعنا للغضب الالهي (رو5: 19)، هكذا بطاعة الثاني نهرب من اللعنة وكل شرورها تنتهي. ولكن حينما صار كلمة الله انسانا، قبل الروح القدس من الآب كواحد منا، ولم يقبله كأقنوم في ذاته، لأنه كأقنوم هو واهب الروح، وإنما الذي لم يعرف خطية، عندما يقبل الروح كإنسان، يحفظ الروح لطبيعتنا، لكيما تتأصل فينا النعمة التي فارقتنا. لذلك السبب أعتقد أن المعمدان القديس أضاف “رأيت الروح نازلاً من السماء واستقر عليه”. لقد فارقنا الروح بسبب الخطية، لكن الذي لم يعرف خطية، صار كواحد منا لكيما يتعود الروح القدس على السكن فينا، بدون مناسبة للمفارقة أو الانسحاب منه. لذلك أخذ الروح القدس فيه، ليجدد، الصلاح الأول لطبيعتنا (شرح إنجيل يوحنا للقديس كيرلس الكبير، ترجمة الدكتور نصحي عبد الشهيد، الجزء الأول 2013، ص 162). - تس3: 7-8: «لأن سر الإثم الآن يعمل فقط، إلى أن يرفع من الوسط الذي يحجز الآن». اختلف المفسرون حول معنى: الذي يحجز الآن. فالبعض قالوا إن المقصود الإمبراطورية الرومانية (مثل ترتليانوس، ويوحنا ذهبي الفم)، والبعض قال المقصود الروح القدس (مثل سفريان أسقف جابالا)، ويرى بولس البوشي أن المقصود إبليس أو رئيس الشياطين.
تفسير رؤيا 19 | تفسير سفر الرؤيا | تفسير العهد الجديد | تفسير رؤيا 21 |
الأنبا بولس البوشي | |||
تفاسير سفر الرؤيا | تفاسير العهد الجديد |