تفسير سفر الرؤيا اصحاح 5 لابن كاتب قيصر
الأصحاح الخامس
22- (1) ورأيت عن يمين الجالس على العرش سفرا مكتوب فيه من داخل ومن خارج وهو مختوم بسبعة ختوم.
السفر في عرف العبرانيين هو الدرج ، بدليل قوله : «مكتوب فيه من داخل ومن خارج» ، والرمز بالسفر على إحاطة العلم الإلهي بما في مضمونه وثباته ، على ما سيأتي بيانه ، بدليل قول ملاخي : «هذا تكلم به أتقياء الرب الرجل مع صاحبه وأنصت الرب وسمع وكتبه في سفر الذكر قدامه لخائفيه الذين يمجدون اسمه» . والمراد بالسفر إحاطة العلم وثباته وأما كونه مكتوب فيه من داخل ومن خارج فهو رمز على عظم ما فيه من جلالة وكثرة . وأما الختوم التي عليه فهي رمز على صونه وإخفائه منذ الأزل إلى حين ظهوره . وأما كون الختوم سبعة ، فلأن الأسرار التي تحتها سبعة ، وما يتفرع منها سيأتي بيانه بعد ذلك.
وأما كون السفر عن يمين صاحب العرش ، فهو ركز على جلالة السفر وشرفه واختصاصه . وأما المكتوب في السفر فهي الأسرار السبعة التي لا تزال ثابتة في العلم الإلهي ، تحت کل ختم منها سر سيذكر ويفسر في مكانه عند فتح كل ختم وكشف ما تحته ؛ فأربعة منها أفراس وفوارسها ، والخامس نفس الشهداء ، والسادس آثار علوية ، والسابع أصوات أبواق الملائكة وما يصاحبها من أحداث.
23- (2) ورأيت ملاكا قويا يكرر بصوت عظيم قائلا من يستحق أن يفتح هذا السفر ويفتح ختومه (3) فلم يستطع أحد في السماء ولا على الأرض ولا أسفل الأرض أن يفتح السفر ولا يراه (4) فبكى جميعهم لأن أحدا لم يستحق أن يفتح السفر ولا ينظر إليه (5) فأتى إلى واحد من الشيوخ وقال لي لا تبك هوذا غلب الأسد من قبيلة يهوذا من أصل داود وفتح السفر وختومه.
أما هذا الملاك القوى فهو من طغمة القوات الذين لهم هذه الخاصية. . وهی الطغمة الرابعة من التسعة والأول من المرتبة الثانية والكرازة إعلان الصوت وإشهاره ، وهذا الصوت هو الضرب الأول من الاعتبار الأول ، وقد بينا ذلك في تفسير الفص الثامن . وأما فتح السفر فهو رمز على إظهار ذلك السر ، والاطلاع السابق . وأما إتمامه ففي أوانه عند خروج ما بالقوة إلى الفعل ، وما في العلم إلى الوجود الخارجي فتلك نبوة تمت ، وسابق معرفة حضرت وظهرت.
وأما قوله : « من يستحق» ، فإن لفظة من اسم مبهم يدل على عموم من يعقل ويأتى على أربعة أوجه : الأول الشرط ، كقولك : من قام قمت والثاني الاستفهام ، كقولك : من خرج ؟ والثالث النداء ، كقولك : يا من يعز علينا أن نفارقه والرابع الإخبار ، وهو نوعان : أحدهما العدم كقولك : من يقاوم الله ؟! أي معدوم عدما محضا من يقاوم الله . والآخر الاستبعاد والاستعظام ، كقولك : من صعد إلى السماء ، أي بعيد عظيم وهو المراد هنا . لأن الاستبعاد هنا إعظاما لهذا الأمر ، وإشعارا بأنه لا يجوز أن يكون لكثيرين بل لوحيد فرد اختير وانتخب من مبدأه وله ولد وإليه آتی . كما قال له المجد : «إنى لهذا ولدت ولهذا أتيت»، والاستحقاق ملكة يتهيأ بها لذلك ، ويستعد بها للترقى إليه.
وأما كون واحد من الخلائق لم يستطع فتح السفر ولا رؤياه ، فليس لأنهم حاولوا ذلك ولم يستطيعوا ، ولكن رمز على أن تلك الملكة ليست فيهم وليس لهم استعداد ولا تهيؤ ولا قوة يترقون بها إلى إلى هذا الأمر العظيم ولهذا قال : « فلم يستطع أحد في السماء يريد الملائكة ولا على الأرض يريد البشر ولا أسفل الأرض يريد الشياطين أن يفتح السفر» ، ومراده أن يتم فيه هذا العلم . قال : « ولا ينظر إليه» ، ومراده ولا يطلع على ما فيه أويدركه فضلا عن نيله . ونقرب ذلك بمثال فنقول : إنه لو نادي ماد في أهل مدينة : من يستحق المملكة فليأت لتمتحن شجاعته أولا بمصارعة تنين عظيم ، ثم بعده امتحانات تخص هذا المنصب . فإذا غلب وظفر أقيم ملكا فمعلوم أن هذا النداء ، وإن كان عاما ، فلا يتناول إلا المستعد لهذا الشأن المترشح لترقيه . ومن جملة شروطه أن لا يطلب ذلك بل يخطب له ، كما قال بولس الرسول : «ليس أحد ينال الكرامة لنفسه وحده ليكون رئيس كهنة ، بل مجده الذي قال له أنت ابني وأنا اليوم ولدتك ».
وأما قوله : «فبكى جميعهم لأن أحدا لم يستحق أن يفتح السفر ولا ينظر إليه» ، فقد أعطى سبب بكائهم وهو عدم الاستحقاق وهذا وإن كان سببا ، إلا أنه يحتاج إلى سبب آخر أقرب منه ليبينه . لأن كونهم ليس فيهم مستحق يحتمل البكاء لأحد ثلاثة أوجه : إما حسد للمستحق ، وإما تألم على نفوسهم لكونهم لم يستحقوا ، وإما خوف أن لا يوجد مستحق أصلا . فالوجهان الأولان بعيدان ، لأن الحسد رذيلة وقد أخبرنا أنها معدومة من أهل ذلك العالم ، والتألم على أنفسهم أقرب منه ، فهو- الحسد – بعيد منهم . وأما الثالث فممكن ، وهو الخوف أن لا يوجد مستحق أصلا ، وهو القول المعتبر في هذا المكان بدليل قول أحد الشيوخ : «لا تبك هوذا غلب الأسد» ، فهذا القول تطمين وتأمين بوجود المستحق ، وهو ما ذهبنا إليه وسبب الخوف أن سعادة الأبرار وبهجتهم موقوفتان على وجوده أو إتيانه ، ولذلك أنذر به الأنبياء من قبل ، فكان المنتظر . وقد تقدم تفسير فتح السفر والنظر إليه وأما قوله : «فأتى إلى واحد من الشيوخ وقال لي لا تبك هوذا غلب الأسد من قبيلة يهوذا من أصل داود وفتح السفر وختومه » قد علمت أن الشيوخ هم الأنبياء ، والذي أتى إليه منهم هو عزرا النبي لأنه يقول في نبوته : ثم سمعت صوتا يقول لي انظر قدامك وتبحر فإن الأسد ينتبه ويخرج الغيضة يزأر ويقمقم ، ثم قال له الملاك : علمه . والأسد الذي رأيت هو الملك الذي يحفظه العلى إلى تمام الأجل ، وهو الآتي من زرع داود ، فإنه يشرق ويوافي ويعظ الناس وينهاهم عن ذنوبهم ويذكوهم بمعاصيهم وتفريطهم وتعديتهم ، ويبعثهم ليدانوا ، وينبئهم بما عملوا ، ويخلص الشعب برحمته ، وهم الذين عرفوا عجائبي ، وهو يخلصهم في راحة إلى الدهر كما قلت لك ، فهذا تفسير ما رأيت.
ولا شك أن نسب داود ينتهى إلى يهوذا بالضرورة ، والغلبة قد عرفتها.
وقول ذلك الشيخ للرسول : «لا تبك» ، فهو دليل على أن الرسول أيضا بکى مع الباكين حسبما اقتضته رؤياه ، مع إنه كان عالما بغلبة هذا الأسد قبل الرؤيا : فما وجه بكائه ؟ وأظن إن ذلك توطئة وسببا لأن يشرح له الشيخ سبب بكائهم وغلبة الأسد ، أو لأن الرسول كان في حال الرؤيا كالذاهل عن معلوماته مستغرقا في رؤياه.
24- (6) ونظرت في وسط العرش والأربعة الحيوانات وفي وسط الشيوخ إلى حمل واقف مقتول وسبعة قرون له كائنة على رأسه وسـبـع عـيـون التي هي سبع أرواح الله الذين أرسلوا أسفل على الأرض كلها (7) فأتى وحمل السفر من يمين الجالس على العرش (8) فلما أخذ السفر خرت الأربعة الحيوانات والأربعة والعشرون شيخا أمام الحمل وكانت قيثارة مع الواحد منهم ومجامر ذهب مملوءة بخورا من صلوات القديسين (9) وكانوا يسبحونه تسبحة جديدة قائلين مستحق أنت أن تأخذ السفر وأن تفتح ختومه لأنك قتلت واشتريتنا لله بدمك من كل قبيلة وكل لسان وكل شعب وكل أمة (10) وصنعتهم لإلهنا مملكة وكهنوتا يملكون على الأرض (11) ورأيت وسمعت صوت ملائكة كثيرين من حول العرش والحيوانات والشيوخ وكان عددهم ربوات ربوات وألوف ألوف (12) قائلين بصوت عظيم إن الحمل المقتول يستحق أن يأخد القوة والغنى والحكمة والمجد والكرامة والتسبيح (13) وكل المخلوقات التي في السماء وعلى الأرض والتي في البحر والذين فيهم سمعتهم يقولون للجالس على العرش السبح لك والكرامة والمجد والعز إلى أبد الأبد (14) والأربعة الحيوانات يقولون آمين والشيوخ خروا على وجوههم وسجدوا.
قوله : « ونظرت في وسط العرش والأربعة الحيوانات وفي وسط الشيوخ إلى حمل واقف مقتول» ، قد مضى البحث في وسط العرش . وأما كونه وسط الأربعة الحيوانات ووسط الشيوخ ، فظاهر إنهم حوله جميعا وهو في الوسط وأما الحمل فرمز لسيدنا المسيح له المجد ، وبه دعاه يوحنا المعمدان بقوله : « هذا حمل الله الذي يرفع خطايا العالم » ، وإنما أطلق عليه هذا الاسم لخصائص خمس : وداعة الحمل ، وسلامة قلبه من كل غل ودغل وصمته عند الذبح واستسلامه ، وهذه التشبيهات قد صرح به النبي في نبوته عليه في قوله : «كالحمل سيق إلى الذبح وكالخروف أمام الجزار»، وطهارته ، فإنه من الحيوانات الطاهرة ، وقوته في المقارعة وتصميمه في المحاربة فدلالة اسم الحمل على المسيح دلالة اسم الملزوم على لازمه . واعلم أن لفظة ( … ) في اللغة القبطية تدل بالعموم على القتل الذي هو الموت الاخترامي على اختلاف أجناسه وأنواعه ، وبالخصوص على الذبح الذي هو قطع الوريدين وإراقة دمهما بالآلة المختصة بذلك . ومراده بهذه اللفظة هنا دلالتها العامة وهي القتل . ، لأن سيدنا المسيح لم يذبح بل قتل صلبا ، ومن ترجمتها هنا بمعناها الخاص قد غلط وغلط.
وتعجب من قوله : ونظرت إلى حمل واقف مقتول ، وكيف يكون المقتول واقفا ؟ وكيف يعرف أنه مقتول وهو واقف ، وإنما يعرف المقتول بأنه میت مطروح ؟ والوجه في ذلك أنه هنا أطلق الوصف الماضي على الحاضر كما ذكر في الإبركسيس أن رؤساء الكهنة قالوا للرسل : «بأي اسم وبأى قوة أبرأتم هذا المفلوج ومن البين أن الفالج ليس هو موجود الآن مع برئه ، ولكنه وصف مضى وصف به الحاضر للتعريف المميز وإزالة اللبس ، ليتحقق أنه لا شبهه ولا غيره . وبهذا الوجه قال حملا واقفا مقتولا ، تقديره هو الذي كان مقتولا ، وبه جاز وصف المقتول بأنه واقف.
وأما كيف يعرف أنه المقتول وهو واقف ، فكما عرفه التلاميذ بعد قیامته بآثار المسامير والطعنة التي في جنبه ، فيجوز على ذلك أن يكون أي حمل مثقوب اليدين والرجلين مطعونا في جنبه مضمخا بدمه وهو واقف كما قال في مكان آخر إنه مبلول ثوبه بدمه.
قوله « وسبعة قرون له كائنة على رأسه وسبع عيون التي هي سبع أرواح الله الذين أرسلوا أسفل على الأرض كلها » ، القرون يرمز بها إلى الأنبياء على معنيين : أولهما الملوك ، كما رأى دانيال الحيوان الرابع وله عشرة قرون، وفسرها في هذا الفص بأنها عشرة ملوك في دولة اليونانيين بعد موت الإسكندر ، وكما رأى كبشا بقرنين وأراد بهما ملركا أيضا وكذلك قرون تيس المعز والثاني الممالك والأقاليم والأقطار وما يشبه ذلك، كما رأى زكريا النبي أربعة قرون وفسرت بأنها الممالك التي سبى إليها بنو يهوذا وهي بابل والموصل وفارس والأهواز . والثاني هو المراد في النص ، لأن القدماء قسموا المسكون كله من الأرض إلى سبعة أقاليم ، ويريدون بالإقليم قطعة من بسيط الأرض فيما بين دائرتين متوازيتين وموازيتين لخط الاستواء حاصرة لبعض البلاد طولها من المشرق إلى المغرب وعرض الأقاليم كلها يبتديء من إحدى عشر درجة من جانب الشمال ، مارا في الجنوب إلى ست وأربعين درجة وإحدى وخمسين دقيقة . فرمز بالقرون على الأقاليم بمعنى إن دعوته تنشر فيها ، وتتعبد له أهلها ، ولهذا قال الشيوخ في تسبحتهم : «لأنك قتلت واشتريتنا لله بدمك من كل قبيلة وكل لسان وكل شعب وكل أمة .. إلخ» .
وأما العيون ، فقد رمز بها على معنيين أيضا : أحدهما ما تقدم ذكره في الحيوانات ، وهو العلم والاطلاع والتميز والحيلة وما يشبه ذلك ، مثل ما رأی دانيال في أحد قرون الدابة الرابعة عيونا مثل عيون الإنسان في ذلك القرن ، وفسرت بالبصيرة والحيلة التي كانت في أنطياخوس المرموز عليه بذلك القرن والآخر على الأرواح القدسية السبعة المبتلة للخدمة وتنفيذ الأوامر الإلهية ، وهو المراد في في هذا الفص ، لأنه فسر ذلك فيه بقوله : « وسبع عيون التي هي سبع أرواح الله الذين أرسلوا أسفل على الأرض كلها » ، وهي بعينها النجوم السبعة التي ذكرها أولا إنها نجوم في يده ، وهنا إنها عيون في رأسه . وكذلك قال زكريا في يشوع بن بوزداق : «لأن الحجر الذي جعلت قدام يشوع على الحجر الواحد سبع أعين » التي هي أعين الرب التي تنظر إلى جميع الأرض ، أي تفتقدها ومن فيها وتنفذ الأوامر فيهم.
قوله : «فأتى وحمل السفر من يمين الجالس على العرش» ، الحمل والأخذ معناهما واحد وهو قبول العطية . وكونه حمل السفر من يمين الجالس على العرش ، ولم يذكر أنه أعطى له ، فيه إشعار بأن المعطى والمعطى له واحد في الموضوع ، كما تمنح نفس الإنسان جسده قوتها وتدبيرها وملكاتها واليمين تطلق على اليد اليمنى مجازا وعلى الجهة اليمنى حقيقة والمراد هنا الحقيقة ، بدليل قوله قبل ذلك : «وعن يمينه سفر» ، ولم يقل في يمينه ولا في يده اليمنى.
قوله «فلما أخذ السفر خرت الأربعة الحيوانات والأربعة والعشرون شيخا أمام الحمل» ، قد عرفت أن الأخذ كالحمل والمقصود بهما واحد . وأما ركوع الشيوخ أمام الحمل فأداة لفرض التعبد له ، وعلامة للاعتراف بعظمته وتقديم الكرامة والمجد له.
قوله : «وكانت قيثارة مع الواحد منهم ومجامر ذهب مملوءة بخورا من صلوات القديسين» ، إن إدراك النفوس وسائر الروحانيين المجردين المسموعات والمشمومات وغير ذلك من المدركات بالحواس غير منكر ولا مدفوع عند الشرعيين والحكماء المحققين ، فإن المدرك فينا هذه الأشياء هي النفس بعينها فأما الاعتراض بأن النفس لا تدرك شيئا من المحسوسات إلا بتوسط الحواس فذلك بشرط ارتباط النفس بالبدن . ولهذه الطائفة تبكت الأنبياء بقولهم «هل الذي خلق العين لا يبصر أو الذي خلق الأذن لا يسمع » . وإذ بان ذلك ، فالألحان والصلوات والتسابيح وأمثال ذلك مدركة للروحانيين . لكن يبقى أن مصدر الأصوات والأرابيح وغيرها ، هل يكون غير أجسام أو أجسام ، فيه نظر ، وذلك أن هذا جاء في الكتب الإلهية على ثلاثة أنحاء أولها الظاهر ، وهو أن يكون مصدر الأصوات والأرابيح وما أشبه ذلك جسم ولبيانه يستغنى عن دليل أو تمثيل الثاني أن يأتى على طريق المعجز وخرق المعتاد ، كما سمع آدم صوت الله وليس مصدره جسما ، وكذلك هابيل وقايين وشيث ونوح وإبراهيم وموسى وصموئيل وغيرهم الثالث أن يكون على سبيل التشبيه كما يسمع النائم في حلمه أصواتا ويوى أشخاصا ويشم ويذوق ويلمس وليس لشيء من ذلك وجود حقيقي في الخارج ، ولكنها رموز على معان يدركها من يعرفها ويعرفها من أدركها . وهذا النحو هو المعتبر في هذا الفص. فالقيثارة رمز على حركة النفس بأغاني الروح المنتظمة المتفقة ، وسيأتي لذلك مزيد بيان في الفص الرابع والسبعين ، والمجامر رمز على عقد النية الموهج بالتعشق . وكونها من ذهب رمز على طهارتها وإخلاصها وشرفها ، وقد تقدم مثاله والبخور قد فسر رمزه بأنه ما يرتفع من صلوات القديسين لشبهها بارتفاع البخـور وهذه القباثير والمجامر إنما كانت مع الشيوخ دون الحيوانات بدليل ما قالوه في التسبحة : «لأنك قتلت واشتريتنا لله بدمك من كل قبيلة »
وقوله : « يملكون على الأرض» ، وليس الملائكة بمترائسين ولا يملكون على الأرض.
قوله : «وكانوا يسبحونه تسبحة جديدة قائلين مستحق أنت أن تأخذ السفر وأن تفتح ختومه» ، سمى هذه التسبحة جديدة بالنسبة إلى تسبحة قبلها كانوا يسبحون بها الآب ، وقد تقدم ذكرها في الفص الحادي والعشرين ، وهي : «أنت المستحق أيها الرب إلهنا أن تقبل المجد والكرامة والقوة لأنك خلقت كل شيء وإرادتك كانت فخلقوا » ، والجديدة مختصة بالابن . والاستحقاق والأخذ والفتح والسفر والختوم قد مضى تفسيرها.
قوله : «لأنك قتلت واشتريتنا لله بدمك» ، الشراء إذا كان بوسيط يقتضى مشتر ومشترى ومشترى منه ووسيط بينهم والوسيط هو سيدنا المسيح والمشتري هو الله والمشتري هم بنو البشر ، ولهذا قال : «اشتريتنا لله بدمك» . بقى المشترى منه وهو الشيطان لا محالة لأن البشر تعبدوا له وأطاعوه فاسترقهم بخطاياهم وخطية الأب الأول ، وفي ذلك قال سيدنا : «لأن كل من يعمل الخطية فهو عبد للخطية» (١) ، وشراء سيدنا لهم بأن تحمل خطاياهم وفداهم بنفسه الشريفة وقبل عنهم ما يجب عليهم من أشنع الموت وهو القتل صلبا ، فكان سفك دمه ثمنا لهم . وقد قال بولس الرسول : « أنتم الذين اشتريتم بالدم الثمين » . والضمير في قوله واشتريتنا ، وإن كان عاما على الشيوخ ، فهو يعم سائر المؤمنين كما سنبين ذلك بعد.
قوله : «وصنعتهم لإلهنا مملكة وكهنوتا يملكون على الأرض» ، الضمير هنا في قوله وصنعتهم هو بعينه الضمير في قوله واشتريتنا ، وهو ضمير يعم الأنبياء والرسل وسائر المؤمنين ، وليس هو كالضمير الذي في الفصل الأول من الرؤيا ، الفص الثالث : « وصنعنا مملكة وكهنوتا لله أبيه الذي له المجد» ، فإن ذلك الضمير يخص الرسل ، وهذا الضمير يعم المؤمنين أجمعين ، بدليل قوله هنا : « يملكون على الأرض، ولم يقل ذلك هنالك . ولا الملك ولا الكهنوت الذي في هذا الفص هو الذي في الفصل الأول ، بدليل قوله هنا : «من كل قبيلة وكل لسان وكل شعب وكل أمة» ، لأن ذلك في حال البشرى وهذا في القيامة الأولى ، فقد بان الفرق . وأراد بالصنع الجعل ، وبقوله مملكة وكهنوتا ذوى مملكة وكهنوت فحذف المضاف ، وتقدير القول : ملوكا وكهنة ، بدليل قوله يملكون على الأرض . وإشارته بهذه المملكة على الأرض إلى القيامة الأولى : قيامة الصديقين ، وهي وليمة الألف سنة على ما سيرد في مكانه.
قوله : « ورأيت وسمعت صوت ملائكة كثيرين من حول العرش والحيوانات والشيوخ » ، أما الرؤية فالأشخاص وأما السماع فالأصوات ، وقد مضى في تفسير الفص الثامن من الضرب الأول من الاعتبار الأول . وأما تسمية الطغمات كلها ملائكة فبقول كلى مطلق . وأما كونهم من حول العرش ، وإن كان لهم مراتب وكل مرتبة لها طغمات ، فإن هذا إشعار بإجماع جميعهم الآن حول العرش للتعبد والسرور والفرح والبهجة بسلطان سيد الكل ؛ ولهذا المعنى أضاف إليهم الحيوانات والشيوخ ، وإن كان قد تقدم ذكرهم ، ليدل على اتفاق الكل على ذلك.
قوله : « وكان عددهم ربوات ربوات وألوف ألوف» ، قد تقدم القول أن كل طغمة لا تحصى عددا ، وذلك الوصف يتناول كل طغمة الطغمات لا سيما الجميع . ولكن العبارة لا تحيط بأكثر من هذا القول ، وهو إضافة من الربوات إلى الربوات والألوف إلى الألوف . وما زاد على ذلك بكثرة المضاعفة الإضافية صار أخفى عند الفهم ، وعاد مخالفا البيان الجلي . مثال ذلك قولنا ربوات ربوات ربوات دفوعا كثيرة ، لميتصور منه سوى إضافة ربوات كثيرة إلى ربوات كثيرة ، وكذلك الألف . فالذي قاله أعم وأبين وأقرب مثالا للفهم قوله : «قائلين بصوت عظيم إن الحمل المقتول يستحق أن يأخد القوة والغنى والحكمة والمجد والكرامة والتسبيح وكل المخلوقات التي في السماء وعلى الأرض والتي في البحر » ، هذه تسبحة من الملائكة والحيوانات ، وأضاف الشيوخ إليهم ما تقدم ذكره والصوت العظيم دليل على إفراط الفرح والطرب . وقد ذكر سبعة أشياء : القوة وهي إشارة إلى الملك على الكل والغني وهو دليل على التأله والحكمة وهي إشارة إلى إتقان العلوم والأعمال ، والمجد والكرامة بأن يقبل التمجيد والأدعية والقرابين المرفوعة وكذللك قبول التسبيح والاستيلاء على كل المخلوقات . وأما تفضيله المخلوقات فيشير بقوله التي في السماء إلى الملائكة وأرواح الأنبياء والرسل والشهداء ومن يستحق ذلك من الأبرار ، وبقوله وعلى الأرض إلى البشر والحيوانات والشياطين أيضا لأنهم وإن كانوا في باطن الأرض فهم عليها وبقوله والبحر إلى حيواناته ؛ ولم يبق إلا الهواء والنار وهما منضمان إلى السماء لأنهما فوق الأرض والماء .. وكل علاء يسمى سماء ، ومثل هذا في سفر الخليقة فإنه ذكر سماء وأشار بها إلى العلو وما يليه ، وأرضا وأشار بها إلى الأسفل وما يليه . والمعنى الإجمالي إن الملائكة والأنبياء والرسل شهدوا باستحقاق ذلك ، وأن يملك العلو والأسفل مخلوقاتهما أجمعين.
قوله : «والذين فيهم سمعتهم يقولون للجالس على العرش السبح لك والكرامة والمجد والعز إلى أبد الأبد» ، والضمير من فيهم وما يليها عائد على ما تقدم ذكره : السماء والأرض والبحر . وهذه تسبحة صادرة من مخلوقات العلو والسفلي إلى الآب بالسبح والكرامة والمجد والعز إلى أبد الأبد ، وهي ظاهرة . وأبد الأبد يقصد بهما عدم النهاية.
قوله : « والأربعة الحيوانات يقولون آمين» ، لفظة آمين في الكتب الإلهية تطلق على ثلاث معان أحدها نعم ، وتأتى أواخر الأخبار والتمجيدات والتسابيح لتقريرها وتثبيتها، والموافقة عليها ، كما قال في آخر بشارة مرقس : «وكان الرب يعمل معهم ويثبت القول بالآيات التي تتبعهم إلى أبد الآباد آمين» ، فلفظة آمين هنا تثبيت وتقرير لهذا الخبر ، وبهذا المعنى قال في هذا الفص «آمين» لأنه يثبت ويقرر التسبيح وموافقة عليه من الحيوانات والأربعة . والثاني الحق ويرد في الأخبار كما يقول الإنجيل في مواضع عدة : الحق أقول لكم ، والحق الحق أقول لكم ، والمراد تمكين الصدق والثالث اسم الفعل الذي هو استجب ويرد في الصلوات والطلبات والأدعية والتضرعات ، وكثيرا ما يختم بها ولكثرتها يستغنى عن التمثيل.
تفسير رؤيا 4 | تفسير سفر الرؤيا | تفسير العهد الجديد | تفسير رؤيا 6 |
ابن كاتب قيصر | |||
تفاسير سفر الرؤيا | تفاسير العهد الجديد |