تفسير سفر الرؤيا اصحاح 6 لابن كاتب قيصر

الإصحاح السادس

الفصل السادس

25- (1) وبعد هذا رأيت عندما فتح الحمل واحدا من الختوم وسمعت واحدا من الأربعة الحيوانات يقول كمثل صوت رعد تعال وانظر (2) فنظرت ها هوذا فرس أبيض والراكب عليه بيده قوس أعطى إكليلا وخرج متغلبا فغلب.

هذا هو السر الأول من الأسرار السبعة تحت الختم الأول من الختوم السبعة.وهو متسق مع ما قبله في اللفظ ، وأما في المعنى فإنه أول فصوص البناء الثالث من القسم الثالث عشر في وليمة الألف سنة. وهذان النسقان من مشكلات الكتاب ، وكذلك بقيته.

 قوله : « وبعد هذا رأيت عندما فتح الحمل واحدا من الختوم» ، أي بعد هذه الأشياء المتقدمة رأيت هذا ، وقد سلف لنا تفسير الختم وإنه رمز على صون المختوم عليه وحفظ سره . وإن فتح الختم هو إظهار مصونه للعلم وإن تمامه في أوانه هو خروجه من القوة إلى الفعل . وقد كمل الظهور والتمام جميعا في هذا السر.

وقوله : «وسمعت واحدا من الأربعة الحيوانات يقول كمثل صوت رعد تعال وانظر » ، أما الرؤية فلفتح الختم ، وأما السماع فللصوت . وأما هذا الصوت الذي كان كالرعد لأي حيوان من الأربعة ، فهو للحيوان الأول الذي يشبه الأسد ، بدليل قوله بعد ذلك : «سمعت الحيوان الثاني يقول» فدل على أن هذا هو الأول . وزئير هذا الحيوان الذي هو الأسد يشبه الرعد حقيقة لزجله(صوت يدوي) وجهارته(تفخيمة) . وقول هذا الحيوان الأول للرسول تعال لكى يقرب فإن القرب يزيده كرامة وبصيرة وتنبها ليقبل على تأمل ما يرى ويبعثه على فهمه واستبتاته.

وقوله : « فنظرت ها هوذا فرس أبيض» الفرس رمز على الملك والسلطان والاستيلاء ، وكونه أبيض رمز إلى العدل والخير والظفر والهدوء كما أن الأحمر رمز إلى الشر والقلق وسفك الدم.

قوله : « والراكب عليه بيده قوس» ، الراكب على الفرس الأبيض رمز به إلى سيد الكل ، وإنما قلنا رمز به ولم نقل هو سيد الكل نفسه ، لأن ذلك هو الفاتح للختم الكاشف للرمز ، ولا يكون الرمز هو المرموز إليه ، فافهم ذلك. ولا هذا الراكب ملاك أيضا ، لأن الملاك لا يتشبه بسيده لكنه شبح وصورة . والقوس يدل على الغلبة والظفر.

قوله : «أعطى إكليلا» ، قد عرفت فيما مضى المعاني التي يرمز إليها بالإكاليل ، والمراد منها هنا الملك والسلطان والقهر ، بدليل قوله : « وخرج متغلبا فغلب» . والغلبة جاءت على نحوين أحدهما : جسمانی محسوس كقهر الملوك ملوكا آخرين في الملاحم ومعاركات الحروب والآخر : روحانی ، بینه بولس الرسول بقوله : «إن حربنا ليست مع لحم ولا دم ، لكنها مع سلاطين الظلمة وملوك الهواء»، وهو غير ما قاله السيد لرسله : « ثقوا أنا غلبت العالم» ، يقصد إنه غلب شهوات العالم . وقد تقدم لنا تعريف هذه الغلبة بمجموع أمور ثلاثة في الفصل الثاني [فص ۱۱] بقوله : «ومن يغلب أعطه أن يأكل من شجرة الحياة » ، وإما اعتبار الغلبة هنا خاصة فبالمعنيين معا . أما الروحاني ، فإن الشيطان لما قهر آدم وذريته بالخدع للمعاصي قهرا مطردا ، قهره سيد الكل بسيرته العالية بالجسد الإنساني نفسه ، ولم يصدر عنه مع ذلك زلل بالفعل ولا بالقول ولا بالفكر بعد اجتهاد المجرب في الجهاد والتجارب بأنواع الخدع واللبس كما تشهد بجميعه الأناجيل المقدسة في فصول التجربة وغيرها من قوله لليهود : « من منكم یوبخنى على خطية»  ، وقوله لرسله : «إن رئيس هذا العالم يأتي وليس له في شيء». وأما الجسماني ، فإن السيد يأتي في دولة الدجال بملوك من المشرق فيهلكون كل من مع الوحش من الملوك والجند الساجدين له والمؤمنين به ، ويلقى الوحش في بحيرة النار والكبريت كما سيأتي ذلك في مكانه . فهذا حل رموز هذا الفص ، وأما مقصده فإنه كشف أمرين أحدهما : إعطاء الآب ، له المجد ، لسيد الكل ، أي للابن ، كل سلطان في السماء وعلى الأرض كما قال للملائكة عند أخذ الحمل للسفر إن الحمل المقتول يستحق أن يأخد القوة والغني والحكمة والمجد والكرامة والتسبيح وكل المخلوقات التي في السماء وعلى الأرض والتي في البحر ، وقد كشف لأشعياء النبي ، فقال : «من أجل مولود ولد لنا وابن أعطيناه سلطانه على منكبيه ودعى اسمه عجيبا ومشيرا الله جبار العالمين أب الدهر العتيد ورئيس السلامة بعظم سلطانه ولا يكون لسلامته منتهى على كرسى داود أبيه وعلى ملكه ليصلحه ويدعمه بالبر والعدل من الآن وإلى دهر الدهرين». ثم کشف لدانيال بعده ، فقال : «وكنت أرى على مزن السماء مثل ابن البشر أقبل فانتهى إلى عتيق الأيام وإياه أعطى السلطان والملك والكرامة وإن جميع الشعوب والأمم واللغات إياه يعبدون سلطانه سلطان الأبد وملكوته لن يفسد » . ثم خرج ذلك إلى الوجود ، كما حكاه متى الإنجيلي إن الرب قال للرسل بعد قيامته : « أعطيت كل سلطان في السماء وعلى الأرض» والأمر الآخر : قهر الحمل والعسكر الذي معه بخيل بيض ، الدجال ومن معه فلذلك قال في هذا الفص : « وخرج متغلبا فغلب» ، وهذا كالعنوان والإنذار بما سيأتي في هذا المعنى مفصلا.

26- (3) ولما فتح الختم الثاني سمعت الحيوان الثاني يقول تعال وانظر (4) فنظرت فخرج فرس بلون النار كله والراكب عليه أعطى أن ينزع السلامة من على الأرض كلها ليقتل بعضهم بعضا وأعطى سيفا عظيما.

هذا هو السر الثاني من الأسرار السبعة التي تحت الختم الثاني من الختوم السبعة وهو في النسق المعنوي أول البناء الثاني من القسم الثاني عشر في الوحش الصاعد من البحر.

قوله : « ولما فتح الختم الثاني سمعت الحيوان الثاني يقول تعال وانظر » قد مضى تفسير الفتح والختم . وقوله : «الحيوان الثاني» ، فهو الذي يشبه العجل.

 قوله : «فنظرت فخرج فرس بلون النار كله » قد تقدم أن ذكر النظر والسماع وغيره من الإحساس والحواس في الرؤيا ، إنما يراد به إدراك العقل ذلك به محسوسا كان أو معقولا والنظر هنا لسببين أحدهما : فتح الختم والثاني : خروج الشبح من تحته وقد مضى تفسير الفرس فأما لونه بلون النار كله إشعار بأنه لا يشوبه خير ولا يقصر عن غاية الشر.

قوله : « والراكب عليه أعطى أن ينزع السلامة» ، هذا الراكب يرمز إلى الوحش البحرى ، ويجوز أن يكون هذا الشبح ملاك الدولة الدجالية فإنه بصورة ملكها ، ويجوز أن يكون شبحا وصورة كما تقدم. وهو يجرى هنا مجری العنوان ، وسيأتي ذكر الوحش وأحواله ودولته مفصلا في مكانه.

 وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن هذا الراكب هو الشيطان، ، معتمدا على كون لون فرسه كالنار ، وكون التنين الذي هو الشيطان بلون النار أيضا . ولو كان كذلك ، لكانت الفرس أولى أن تكون رمزا للشيطان لأنها ذات اللون . وإذا كان كذلك ، صار ما قلناه من أن الراكب هو الوحش البحرى لا التنين . ومع هذا ، فالشيطان لم يعط له سيف بل الوحش ، وإلا تجدد الإعطاء للشيطان أن ينزع السلامة من على الأرض كلها ، لأنه كذلك منذ أول الخلق 

وقوله : «من على الأرض كلها » ، أي لا يفوته مكان من المعمورة حتى لا يسرى إليه فساده وفتنته.

وقوله : « وأعطى سيفا عظيما» ، السيف آية الاستيلاء والتسلط والقهر وشعار الفتن وسفك الدماء . وكونه عظيما رمز على حدة أمره ونفاذه في الأقطار.

27- (5) ولما فتح الختم الثالث سمعت الحيوان الثالث يقول تعـال وانظر فنظرت هوذا فرس أدهم الراكب عليه في يده ميزان (6) وسمعت صوتا شديدا في وسط الأربعة الحيوانات كصوت نسر يقول مد قمح بدينار وثلاثة أمداد شعير بدينار والزيت والخمر فلا تضر بهما.

هذا هو السر الثالث من الأسرار السبعة تحت الختم الثالث من الخنوم السبعة وهو متسق في المعنى على الفص الرابع والخمسين من القسم التاسع في هبوط الشاهدين العظيمين أخنوخ وإيليا.

قوله : « ولما فتح الختم الثالث سمعت الحيوان الثالث يقول تعال وانظر » الحيوان الثالث هو الذي يشبه وجه إنسان ، وبقية الفص قد مضى تفسير مثله.

 قوله : «فنظرت هوذا فرس أدهم الراكب عليه في يده ميزان» ، الرمز بالفرس قد تقدم ذكره ، وكونه أدهم ، أي أسود ، رمز على الحزن والكآبة والبلوى والخوف . والراكب هو ملاك الغلاء أو شبح رمز به للغلاء والأول أولى والميزان رمز على القحط وعزة القوت ، لأن الوزن والتحريز دليل التقتير وعدم البسط في العطاء . وكون الميزان في اليد رمز على قيام القحط ودوام مدته المقضية المقدرة ، كما أن وضع الميزان انحطاط الغلاء.

قوله : « وسمعت صوتا شديدا في وسط الأربعة الحيوانات كصوت نسر يقول» قد تقدم الشماع والصوت . وأما كونه شديدا فرمز على قوة هذا الأمر الذي هو عزة القوت وارتفاع سعره وأما كونه كصوت نسر فيظهر منه صوت الحيوان الرابع لأنه يشبه نسرا طائرا . وهذا الطائر المشبه به ، في صوته حدة وعلو وصرصرة ، لأنه أقوى من أصوات بقية الطيور ، فيكون المستدعى للرسول هو الحيوان الثالث والقائل بعده هو الحيوان الرابع . وقد يجوز إن هذا الصوت متميز من غيره.

قوله «مد قمح بدينار وثلاثة أمداد شعير بدينار والزيت والخمر فلا تضر بهما » ، تختلف المكاييل في عرف أهل الأقاليم ، فالمد عند المصريين هو الكيل الصغير ، ويسمونه أيضا قدحا . واللفظ الدال عليهما في اللغة القبطية واحد ، والمد كيل أكبر في عرف الشاميين وغيرهم ، ومقداره ستة أقداح مصرية . فإن كان المد المذكور في الرؤيا هو قدحا مصريا ، كان سعر الإردب من القمح ستة وتسعين دينارا ، وسعر الإردب من الشعير اثنين وثلاثين دينارا.وإن كان المد شاميا ، كان سعر إردب القمح اثنين وثلاثين دينارا ، والشعير سعر الإردب عشرة دنانير وثلثای.

 وفي قوله : « والزيت والخمر فلا تضر بهما » دليل على ثلاثة أشياء أولها : إن هذا الراكب الفرس الأدهم ملاك الغلاء كما قلنا ، لأنه المخاطب من ذلك الصوت والثاني : أن صنفى القمح والشعير يعطب ما يزرع منهما في الأقاليم التي تزرع بالسيح أو بالسقى كالبلاد المصرية والعراقية وغيرهما . وأما الأقاليم التي تزرع على المطر فلا زرع فيها أصلا لعدم الغوث (المساعدة) بالغيث(المطر) ، ولذلك لا يعطب الزيت ولا الخمر ، لأن الكرم البعلى والزيتون يكتفيان بالطل وما يمتصانه من تحلب (جريان ) رطوبات الأرضين والمسقاوي منهما يجزيه السقى فلا ينضر لعدم المطر فهذا حل رموز هذا الفص .

فهذا حل رموز الفص. وأما مقصده فإنه كشف سر الغلاء الواقع في أيام نزول النبيين أخنوح وإيليا عند تبكيتهما العالم على الخطايا وإنذارهما بمجيء الدجال . وتلك المدة اثنان وأربعون شهرا كما بين ذلك في الفص الرابع والخمسين من هذه الرؤيا ، فقال : « وأعطى شاهدي أن يتنبأ ألف ومائتين وستين يوما.. ولهما سلطانا أن يغلقا السماء أن لا تمطر على الأرض في أيـام نبوتهما ولهما سلطان أيضا على المياه أن يقلباها دما » . وهذا الغلاء أول حادث يقع في أيامهما فإنهما يعزيان المؤمنين الأبرار ويعظان وينذران ويرعبان ويرهبان . فإذا لم يصغ إليهما ولا يقبل منهما ، فعلا آية فترتاع الناس وتذهل ويتوب قوم ويعتبرون ويربحون أنفسهم ، ويقسو قوم آخرون ولا يعتبرون كما قسا فرعون ، فيعاودوا الوعظ والإنذار وعمل آية أخرى . فهذا تفسير السر الثالث.

 

28- (7) ولما فتح الختم الرابع سمعت صوت الحيوان الرابع يقول تعال وانظر (8) فرأيت ها هوذا فرس أخضر الراكب عليه اسمه الموت والجحيم كله يتبعه وأعطى سلطانا على ربع الأرض أن يقتلوا بالسيف والجوع والوباء ووحوش الأرض

هذا هو السر الرابع من الأسرار السبعة تحت الختم الرابع من الختوم السبعة . وهو متسق في المعنى مع الفص السادس والعشرين من البناء الثاني من صفة الوحش البحرى ودولته.

قوله : « ولما فتح الختم الرابع سمعت صوت الحيوان الرابع يقول تعال وانظر » ، الفتح والختم والسماع وتعال مضى تفسيرها والحيوان الرابع هو الذي يشبه نسرا طائرا.

وقوله : « فرأيت ها هوذا فرس أخضر الراكب عليه اسمه الموت » الفرس قد فسر المعنى المرموز عليه . وكونه أخضر لون يدل على أربعة ألوان مختلطة يرمز بها على أربع صفات : السيف والرمز عليه بحمرة الدم ، والجوع والرمز عليه بالسواد المحزن كما تقدم ، والوباء والرمز عليه بالصفرة والسواد كالأنمر  والأغبش لأن أكثر ألوان الوحش الكاسر كذلك ؛ وهذه الألوان إذا اختلطت كانت منها الخضرة العميقة إلى السواد والراكب على هذا الفرس أظنه ملاك دولة الدجال ، وهو ملاك الموت نفسه للتصريح بأن اسمه الموت وبدليل قوله : « والجحيم كله يتبعه» ، والجحيم هنا قبور الأموات وذلك لكثرة الفتن والحروب والموت بهذه الأنواع .

 وقوله : «وأعطى سلطانا على ربع الأرض أن يقتلوا بالسيف والجوع والوباء ووحوش الأرض» ، مراده بربع الأرض ربع أهل الأرض ، فحذف المضاف لدلالة ما بقى على ما أبقى . وهذا القدر ، وهو الربع من الناس ، هم الذين ثبتوا على الإيمان ، ولا يطيعون الدجال ، ولا يؤمنون به والبقية يطيعونه ويؤمنون به فيهلك هذا الربع بالأنواع الأربعة المذكورة ، ولذلك قال : « أن يقتلوا بالسيف والجوع والوباء ووحوش الأرض» . وأما مقصده ، فإنه كشف سر المؤمنين بالمسيح له المجد في دولة الدجال إذ لم يطيعوه ولم يؤمنوا به . أما موتهم فبهذه الأنواع الأربعة : من أقام قتل بالسيف ، ومن اختفى بالبيوت والجذر هلك بالوباء والجوع ، ومن هرب إلى الكهوف والمغاير والجبال مات جوعا ، ومن هرب إلى البراري والقفار افترسه الوحش ومات يؤيد هذا قوله فيما بعد : «من إلى السبي فليمض ، ومن يقتل بالسيف فسيقتل بالسيف، ومن له صبر وأمانة القديسين فطوباه » ، ومثل هذا بعينه أنذر به حزقيال النبي ، فقال : « أربع قضايا سواء : أبعث على أورشليم الجوع والحرب ودابة سوء والموت » ، وقال فيه : من كان بعيدا مات ، ومن كان قريبا فبالحرب يسقط ، ومن ينجو منه ويبقى فبالجوع يموت . ومنه أيضا : الحرب في السكك والجوع والموت في البيوت ، والذي في الحقل بالجوع والدابة السوء . وسيرد عليك فصل مزيد من تفصيل هذه المجملات في مكانه بمشيئة الله تعالى. 

 

 29- (9) حينئذ ولما فتح الختم الخامس رأيت من أسفل المذبح أنفس الناس الذين قتلوا من أجل كلمة الله والشهادة التي كانت عندهم (10) وصرخوا بصوت عظيم قائلين إلى متى يا مالكنا القدوس الصديق لا تقضي وتنتقم لدمائنا من السكان على الأرض (11) فأعطى للواحد منهم حلة بيضاء وقيل لهم أن يستريحوا هم زمانا آخر يسيرا حتى يكمل أصحابهم العبيد وإخوتهم الذين يقتلون أيضا مثلهم .

 قوله : «وحينئذ ولما فتح الختم الخامس » هذا هو السر الخامس من الأسرار السبعة تحت الختم الخامس من الختوم السبعة وهو متسق في المعنى مع الفص السابع والستين من القسم التاسع من هبوط الشاهدين وحوادثهما.

وقوله : «رأيت من أسفل المذبح أنفس الناس الذين قتلوا أجل من كلمة الله والشهادة التي كانت عندهم» ، قد علمت الرؤية ، وإن الرؤيا إدراك عقلی ، وهي هنا دليل على ما ذهبنا إليه من ذلك وتحقيق له ، فإنه قال : رأيت أنفس الناس الذين قتلوا . وكيف ترى الأنفس لولا إنه أراد الإدراك العقلي ، وهذا صريح جلى . وأما هذا المذبح فلم يتقدم له ذكر ، فيكون الألف واللام فيه للعهد السابق ، وليس القصد به معنى الجمع فتكون الألف واللام للاستغراق والعموم ، كقولك الإحراق عن نار ، أي كل إحراق عن نار فبقى أن تكون هذه الألف واللام دالة على مجرد الماهية المعلومة ، وسيذكر في الفص السابع والثلاثين بعد ذلك إن هذا المذبح من ذهب ، وإنه كائن أمام العرش الأعظم ، وإنه مذبح لرفع البخور لا الذبيحة . ونحن نبحث عنه هنا لأنه أول موضع ذكر ليفهم عنه ما يأتى ذكره بعد ذلك . فنقول ، أولا : إن المذبح والهيكل يرد ذكرهما واحد وعشرون مرة في أربعة عشر فصا ؛ أما المذبح فثماني مرات في سبعة منها ، أولها في هذا الفص التاسع والعشرون ، والسابع والثلاثون مرتين ، والثامن والثلاثون والثامن والأربعون والثالث والخمسون ، والثاني والسبعون ، والتاسع والسبعون وأما الهيكل فثلاثة عشرة مرة في سبعة منها أيضا ، أولها في الخامس والثلاثون ، والثالث والخمسون مرتين ، والثامن والخمسون مرتين ، والحادي والسبعون والخامس والسبعون [4 مرات] والسادس والثمانون ، والمائة والخامس والعشرون [مرتين] وثانيا : هل المذبح يريد به الهيكل ؟ والجواب : إ المراد بهما واحد ، وهو الهيكل الذي يرفع عليه البخور وثالثا : هل لهذا المذبح المسمى بالهيكل وجود في السماء أم هو رمز على شيء آخر ؟ والجواب : إن مثل هذا لا يطلع عليه حقيقة إلا بالوحي ، وإما بقوة الحدس وغلبة الظن وإشارات الدلالة . ويظهر لى إن للهيكل والقبة وجود في السماء إذ لم يدرك من قرينة لفظية أو معنوية استدلال على أن ذلك رمز ، وكذا لم تدرك استحالة وجودهما في السماء ، بل وجدنا أماكن تدل على الوجود ، منها كون المذبح أمام العرش ، فقد قال إنه ذهب ، فهل هو ذهب ؟ لأننا لم تدع إنه مذبح أرضي خشب أو بناء ، بل شيء آخر روحاني يشبه الأرضى أو يشبهه الأرضى . وكذلك لا نقول إنه ذهب من نوع الذهب بل شيء آخر مشبه بالذهب لمعانا ، وقد ذكرناها وسنذكرها . ومنها أن الله تعالى قال لموسى النبي عندما عمل البيت ، أن يعمل على ما يراه في السماء ، فظهر المجموع إن له وجود في السماء . وإن موسى لم يعمل البيت على شكل رؤيا مضمحلة ، بل شكل ثابت الوجود في السماء والله وأعلم.

وأما هذه الأنفس فإنها أنفس الشهداء المسفوكة دماؤهم من أجل كلمة الله والشهادة له بأنه مخلص العالم المستحق التعبد له ، بدليل قوله : « من أجل كلمة الله والشهادة التي كانت عندهم» . أما من أجل كلمة الله فمن أجل إيمانهم بها ، وأما من أجل الشهادة فلأنهم شهدوا للرب يسوع إنه المسيح المنتظر كلمة الله له المجد . وأما قوله التي كانت عندهم فاستدللنا منه على أن الإشارة إلى السهداء منذ دعوة سيد الكل وإلى آخر دولة الدجال التي يكملون بكمالها من اليهود وسائر الأمم ، وسيأتي تفصيلهم في الفصول الآتية اللائقة.

قوله : «وصرخوا بصوت عظيم قائلين إلى متى يا مالكنا القدوس الصديق لا تقضى وتنتقم لدمائنا من السكان على الأرض» ، الصراخ والقول للتعبير عن المقصود ، كما أن السماع إدراك له وهو رمز على حركة أنفسهم لطلب الانتصاف ممن ظلمهم وأراق دماءهم ظلما وعدوانا ، واستبطاء لأخذ حقهم منه . وتأمل أن الدماء لا يقضى لها بل لأصحابها ! فقد حذف الضمير المضاف وألحقه أخيرا بالمضاف إليه ، وتقدير القول : إلى متى يا مالكنا لا تقضى لنا من دمائنا ؟ ولما وقع الفعل على غير من هو له أوهم إطلاق الاسم على غير مسماه . وههنا سؤال ، وهو : كيف جاز لهم أن يسألوا الانتقام ممن ظلمهم أو يستبطئوا ذلك ؟ وعلى هذا آراء ثلاث :

الرأى الأول : أن هذا يناقض فصوصا كثيرة من شريعة الفضل ، منها قوله : « أحبوا أعداءكم وباركوا على لاعنيكم وأحسنوا إلى من أساء إليكم» ، فكيف أحب هؤلاء أعداءهم أو باركوا على لاعنيهم أو أحسنوا إلى للمسيء إليهم ؟ ومنها قوله : «طوبی لفاعلي السلامة فإنهم بنى العلى يدعون » ، وقوله : «طوبي للنقية قلوبهم فإنهم يعاينون الله » ، وقوله : «لا تقاوموا الشر البتة»  . وأين طلب السلامة من طلب الانتصاف ؟  وأين   نقاء القلوب وعدم مقاومة الشر من التظلم وطلب الانتقام ؟ ومنها قوله : «صلوا على من يطردكم ويحزنكم لكي تكونوا بني أبيكم الذي في السموات »  ، وقوله : «وإن لم تغفروا للناس خطاياهم ولا أبوكم السماوي يغفر لكم» . وكيف تجتمع الصلاة عليهم والتظلم منهم ؟ أو كيف يمكن الغفران لهم ولم يغفروا لمن أساء إليهم ؟ فهذه النصوص وما شابهها تناقض طلبهم الانتقام عن دمائهم أو يلزم النقيض . فإن قيل لي إن هذه الأوامر إنما يعمل بها في هذا العالم ليجازي العامل بها أحسن الجزاء . فأما من فارق هذا العالم فلا يلزمه بها بعد المفارقة ، والدليل على ذلك؛ قول الإنجيل : « لتكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات المشرق شمسه على الأخبار والأشرار والممطر على الصديقين والظالمين »  ، وهذا عمل الله في هذا العالم لا في عالم المجازاة ؛ فإنه هناك لا يشرق شمسه على الأشرار ولا يمطرهم بل يعذبهم بأفعالهم ، فهو وصف مشترك بينه وبين خلقه ، أعنى عملهم بشريعة الفضل هو في هذا العالم خاصة . قبل في جوابه : هذه الوصايا لا تخلو أن تكون فضيلة للنفس أو رذيلة . فإن كانت فضيلة وجب العمل بها هنا وهناك ، وإن كانت رذيلة وجب تركها هنا وهناك ، ولا خلاف في بطلان هذا ، فثبت الأول وأما الآب السماوي له المجد ، فليس تحت شريعة لا هنا ولا هناك ، تعالى  عن ذلك.

الرأي الثاني : هذه النفوس الطالبة للانتقام ، إن كانت صفحت عمن ظلمها في هذا العالم قبل خروجها منه ، فما لها تعاود المطالبة بما غفرته ؟ وإن كانت لم تصفح ولم تغفر ، فقد أثمت وخالفت هذه النصوص كلها ولم تعمل بواحدة منها .

الرأي الثالث : إن كانت هذه النفوس تجازي بأحسن المجازاة من الله تعالى عن قبولها ظلمها وصبرها في حياة الدنيا ، فلم يبق لها أن تطلب الانتقام ممن ظلمها ، لأنها تصل إلى أضعاف حقها من فضل الله تعالى . وإن كانت لا تجازي ، فما فائدتها في الانتقام ، وأي عائد يعود عليها ، أو أية رأفة تصل إليها من ذلك ؟ وهو أمر قد سلف ومضى.

 فهذه الآراء الثلاث ، والجواب عنها أن طلب هذه النفوس الانتقام ممن ظلمها : إما أن تراد بها الحقيقة أو لا . فإن أريد بها الحقيقة ، وهي طلب الانتقام ممن ظلمها على ظاهره ، فالآراء المذكورة واردة عليه والجواب عن الأول منها أن النصوص ربما أطلقت عامة وأريد بها الخصوص . فما كل عدو يحب أو يبارك عليه أو يحسن إليه ، كالشيطان وأنبياء الكذب وأرباب البدع والمتشككين والدجال ومن يجرى مجراهم ؛ فإن سيمون الساحر مثلا لم يحتمله بطرس الرسول ، ولا أحبه ، ولا أحسن إليه ، ولا بارك عليه ، بل أهلكه هلاكا أبديا . وكذلك حنانيا وامرأته ، وكذلك المعاند الذي أعماه بولس والسبب أن هؤلاء الأشخاص يعظم فسادهم وقحتهم ، فيرجح جانب التخلص منهم على استعمال الرأفة بهم ، كما يرجح طلاق الزانية على مقارنتها ، وإن كان الأصل عدم الطلاق ، بدليل قوله : «وما يزوجه الله لا يفرقه إنسان » وكما منع المغفرة عن المجدف على روح القدس ، ومنع من مخالطة الوثني والعشار ، فهؤلاء الظالمون من هذا القبيل.

وهذا الجواب يصلح أن يكون جوابا أيضا على الرأي الثاني ، لأن المختار فيه أن المظلومين من غفروا لظالميهم وإلا خالفوا تلك النصوص ، لأن هؤلاء الظلمة ليسوا ممن يغفر لهم.

أما جواب الرأى الثالث ، فإن قبول هذه النفوس المجازاة من الله بالحسنى على صبرها ، لا يمنع طلبها الانتصاف لتغاير المعنيين وكونهما فير ممنوع اجتماعهما. 

أما أخذ هذه النفوس بقصاص من ظلمها ، فله فوائد كثيرة ، أولها : أن دماءها لم تهدر والثاني : أن الله انتصر لها ونظر إليها ، وبذل يظهر عدله في تساوي الظالم بالمظلوم في الألم ، وبه يعلم الظالم سوء عاقبة ظلمه، وأن تعديه لم يذهب جزافا. ويجوز أن يكون طلب هذه النفوس الانتقام بإيعاز إلهي ، كما جرى في حل السبت عندما طاف بنو إسرائيل حول أريحا مع يشوع ابن نون سبعة أيام ولم يأخذوا بحله فلم ينكر ذلك عليهم ، بل كان المتنكر لو خالفوا الأمر . أو بإطلاق إلهى كما ترك بنو إسرائيل الختان في اليوم الثامن مدة أربعين سنة في البرية ، مع التأكيد في حفظه والتوعد بالهلاك على تركه ، ثم لم يؤاخذوا عن وهذا في هذا العالم .

وإن لم يقصد الظاهر بل المجاز مما لم ترد عليه الآراء المذكورة ، فالمجاز يعني أن يطلق لفظا ولا يراد به معناه الدال عليه بل معنى يؤخذ من عرضه ، مثال ذلك في الحديث العادي ، يقول الفقير لمن يستجدى منه : إننى مضرور وإن حالي قد رق وإن حاجتى قد مست . بمعنى : أعطنى ما أستعين به . وإذ بان معنى التعريض ما هو ، فمن المعلوم أن الله تعالى يجازي الظالمين بأعمالهم سواء طلب المظلومون ذلك أو لم يطلبوا . فهذا ما يمكن قوله في هذا السؤال والله أعلم بالحق اليقين ، ومن يفيضه عليه من المتقين.

والقدوس من أسماء الله تعالى ، وهو على وزن فعول من القدس، وهو الطهارة لغة، والصديق ، بالتشديد ، هو الدائم الصدق الذي يصدق فوله بفعله والسكان على الأرض لا يريدون بهم العموم بل من ظلمهم فقط.

قوله : «فأعطى للواحد منهم حلة بيضاء» ، الحلة رمز على المدح والثناء والتعويض . وكونها بيضاء فهذا رمز على الفرح والبهجة ، لأن النفوس لا تلبس . ولكن لما كان ذوو الأجساد يتجملون بالثياب ويبتهجون بالملابس الجميلة ، استعير المدح من الثياب ، والفرح من بياضها . وهذه بلاغة ليست لبشر ، لكنها من تعليم الروح الذي نطق في هذا الرسول وكشف له عن هذه الأسرار الغامضة . وباستحقاق منح الشهداء هذه النعم الإلهية ، لأنهم أحبوا كثيرا وصبروا عظيما . وذلك أن الذين دعوهم إلى الكفر كانوا يدعونهم بطريقتين إحداهما : الترغيب ببذل المال والملابس والملاذ والجواهر والذخائر والجاه والقرب من المملكة والتقدم في الدولة والرئاسة الدنيوية ، فإذا أبوا ذلك وأعـدوه كالزبل وما لا يلتفت إليه ، أخذوهم بالطريقة الثانية : وهي الترهيب بأن يخيفوهم ويهددوهم ويعاقبوا غيرهم قدامهم . فإن أصروا ، بسط عليهم أليم العذاب بكل نوع يجزع ذكره ، لا سيما مباشرته واحتماله ، فإن أصروا أيضا ، فالسيف والنار والتغريق والرجم وغير ذلك . فهذا الصبر لهؤلاء القوم يتجاوز طاقة الحديد بل الماس ، فضلا عن البشر ، فلا جرم أن مجازاتهم تفوق الوثف . ولكن عبر لنا عن بعضها بما يطيق المدقق في الفكر والنظر أن يفهم ظاهره.

قوله : «وقيل لهم أن يستريحوا هم زمانا آخر يسيرا حتى يكمل أصحابهم العبيد وإخوتهم الذين يقتلون أيضا مثلهم» ، الراحة من تعب المطالبة بالقصاص. والزمان اليسير يشير به هنا إلى ثلاث سنين ونصف ، بدليل إشارته إليه في معان أخرى : زمانا وزمانين ونصف زمان وتعريف الزمان وأقسامه وأجزائه قد مضى بيانها في الفص الثالث . وأما من هم العبيد ومن هم الإخوة فيحتمـل أربعة وجوه ، الأول : أن يكون العبيد هم الذين باشروا امرأة ثم استشهدوا ، والإخوة هم الأبكار الذين لم يتدنسوا بامرأة الثاني : أن يكون العبيد والإخوة وصفان لهم ، فكلهم عبيد وصلحاء ، وكلهم إخوة في الإيمان والشهادة ، وتكون الواو للجمع لا للعطف والثالث : : أن يكون العبيد هم المستشهدون من الأمم ، والأخوة هم المستشهدون من بنى إسرائيل ، كقول بولس الرسول : «المدح والكرامة والسلم لكل من عمل الصالحات من اليهود أولا ثم من سائر الأمم». والرابع : أن يكون العبيد هم المعترفون الذين لم تكمل شهادتهم ، والإخوة هم الذين كملت شهادتهم وأظن الأرجح هو الأول والله أعلم وأما مقصده ، فإنه كشف عن أن أنفس الشهداء سوف تطالب بالعدل وتطلب الانتصاف والانتقام ممن ظلمها . وذلك إنما يكون عند قيام دولة الدجال ، بدليل قوله لهم أن يستريحوا هم زمانا آخر يسيرا حتى تكمل بقيتهم ، والزمان هو مدة تلك الدولة الملعونة وهي نصف أسبوع[1] ، وعن إعطائهم الحلل البيضاء وعن استمهال الله لهم ، فحتى تتم العدة بالمدة.

 

 30 – (12) ونظرت لما فتح الختم السادس فكانت زلزلة عظيمة والشمس اسودت مثل مسح شعر والقمر كله صار دما (13) والنجوم تساقطت من السماء على الأرض مثل شجرة التين إذا ریح عظيمة أسقطت أوراقها (14) والسماء طويت كالسجل وكل جبل وكل جزيرة تحركت من مواضعها (15) وملوك الأرض جميعهم وقواد الألوف والأغنياء والأقوياء والعبيد كلهم والأحرار جميعهم اختفوا في المغائر وشقوق الصخور (16) ويقولون للصخور والجبال أسقطى علينا وأخفينا من وجه الجالس على العرش ومن قدام غضب الحمل (17) لأنه أتى يوم الغضب العظيم ومن الذي له استطاعة أن يقف أمامه.

 هذا هو السر السادس من الأسرار السبعة ، تحت الختم السادس من الختوم السبعة وهو في النسق المعنوي أول منصوص عن القيامة العامة فقوله : « ونظرت لما فتح الختم السادس فكانت زلزلة عظيمة» وما يتلوه إلى آخر الفص جميعه على ظاهره لا تأويل له ولا تأول فيه ، خلا موضعين أحدهما : الختم وقد مضى تفسيره والآخر : مخاطبة الجماد بلسان الحال ، وسيأتي تقريره.

وأما مقصده من کشف سر القيامة العامة ، كما كانت بداية هذا العالم  بالمشيئة الإلهية ، وقوله ليكن فكان ، كذلك تكون نهايته بالمسيئة الإلهية أما المبدأ فقال : «في البدء خلق الله السماء والأرض وقال ليكن جلد ولتظهر اليابسة . وقال ليكن نيران عظيمان الأكبر لسلطان النهار والأصغر لسلطان الليل مع النجوم» . ثم قال في المنتهى الذي هو فساد العالم أن السماء تطوى كالسجـل ، وأن الأرض تزول بعد الزلزال العظيم ، وأن الشمس تسود ، وأن القمر يصير كالدم ، والنجوم تتساقط . فإذا سمعت هنا فكانت زلزلة عظيمة، فلا تتوهم أنها كالزلازل التي سلفت في الوجود ، فإن تلك تحدث ، كما تزعم الفلاسفة ، عن ثلاثة أسباب:

 السبب الأول : تولد بخار دخانی حـار جـدا غزير المدد في باطن الأرض ، فإذا كان وجه الأرض متكاثفا عديم السمام وحاول ذلك البخار الخروج فلم يتمكن منه لكثافة وجه الأرض واستحصافه ، فحينئد يتحرك في ذاته ويحرك الأرض ، وربما قوى فشق الأرض ، وربما انفصل نارا محرقة وحدثت عنه أهوال هائلة.

السبب الثاني : أن يكون في باطن الأرض أغـوار عظيمة فتسيل إليها مياه كثيرة ، فتهتز الأرض لثقلها.

السبب الثالث : أن تسقط على الأرض جبال لتخلخلها وكثرة الأمطار والسيول المتواصلة عليها ، وتنهدم قطعة عظيمة منها ، فيقلقل الهواء الذي تحت الأرض فتتزلزل.

أما هذه الزلزلة فليس لها سبب طبیعی ، بل مجرد الأمر الإلهي فقط الآذن بفناء العالم ، إذ يأمر ملائكة الريح في الأقطار الأربعة فتطلق العواصف المحيطة بالمياه ، فيرتج البخار وتنقلب الأعماق وتنقض) الأرض فوقها بالزلزلة كالعصفور ، أو تتهيأ أسباب الزلزلة فتحدث ، ولذلك كانت عظيمة في نفسها ولا نسبة لغيرها إليها.

وإذا سمعت أن الشمس اسودت مثل مسح شعر والقمر كله صار دما ، فلا تظن أن ذلك كسوف الشمس أو خسوف القمر ، لأن كسوف الشمس الكامل هو توسط جرم القمر بينها وبين الأرض ، بحيث يكون وجه القمر المظلم مما يليها فيحجب ضوءها عن أبصارنا لأن فلكه دون فلكها ، وشرط هذا الكسوف أن يكون القمر على مسامتة الشمس في إحدى نقطتي الرأس والذئب ، لأن جرم القمر يبقى في وسط مخروط الشعاع الخارج من الشمس فيحجب الجرم أبصارنا . وأما جرم الشمس فإنه لم يفارقه شعاعه ، لأن العارض ليس في الشمس نفسها بل بسبب المتوسط بينها وبين الإبصار ويختلف بحسب أوضاع المواقع ، ففي بعض هذه المواقع لا ينكسف البتة وأما الخسوف الكامل للقمر فسببه توسط الأرض بينه وبين نور الشمس في إحدى نقطتي الرأس والذنب ، لأن نوره من نورها ، فيقع [أعنى القمر في ظل ، ويعم خسوفه جميع المواقع فإن قيل إن قطر الشمس أعظم من قطر القمر بكثير ، فكان ينبغي أن لا ينكسف من الشمس إلا مقدار ما يستره منها القمر . والجواب : إن الخطوط الشعاعية التي تخرج من دائرة صفحة الشمس إلى الأرض ليست بخطوط متوازية ، بل شکل مخروطی قاعدته جرم الشمس ، فتنحصر الأشعة وتضيق فتستغرق بسترها جرم القمر ، وكذلك الحال في خشوف القمر.

فأما هذا الحادث في الشمس والقمر فليس كذلك من وجوه ، أولها: هذا عام ، والكسوف كما قلنا ليس بعام . الثاني : إن القمر يرى في هذا أحمر كالدم ، فليس وجهه المظلم لما يليمنا بل الوجه الذي كان نيرا. الثالث : إن القمر يرى في هذا خارجا عن موازاة الشمس ، ولو كان كسوفا أو خسوفا لستر أحدهما جرم الآخر . الرابع : أن هذا الحادث يجب أن يكون نهارا ولا يجوز أن يكون ليلا ، وإلا لما كان جرم الشمس فوق الأرض ولما كان من الممكن رؤيته. لكن خسوف القمر لا يمكن أن يرى نهارا ، ولذلك لم يكن هذا الحادث كسوفا ولا خسوفا ، ولكنه تعالى يأمر فتسلب الشمس نورها الذي هو صورتها وكمالها ، وبهذا يفسد كونها . فذلك صار جرمها بلون الشعر سوادا ، أي لا يشوبه لون آخر . وكذلك ذهب نور القمر ؛ وأما مصيره كالدم ، فهو أمارة الانتقام من الأشرار بالقضاء العادل.

 وإذا سمعت أن النجوم تساقطت فلا تحسب إنه كتساقط الكواكب المنقطة والشهب والصواعق ، فإن تلك أبخرة دخانية فيها فضل دهنية ولزوجة، ولا تبلغ إلى السماء ولا تصل إليها ، بل إلى كرة النار فيسعى الاشتعال فيها من فوق إلى أسفل أولا أولا ، فترى كوكبا منقضا . ولكن هذه الكواكب السبعة المعروفة بالحائرة والثابتة التي في فلك البروج ، يأمر فتصير من الوجود إلى العدم ، كما أمر أولا فخرجت من العدم إلى الوجود ؛ وحقق أنها الحائرة والثابتة بقوله من السماء وسقوطها لفسادها وفساد ما كانت تتعلق به وهو جوهر السماء. وكل نجم يقدر بحجم الأرض عدة مرات ، وأظنه يريد أن النجوم، عند فسادها في الفضاء المحيط واضمحلالها ، تظهر لرأى العين كالساقطة نحو الأرض ، لا أنها تصل إليها أو تقع عليها ، فتلك الشهب التي ينتهى اشتعالها ترى كأنها ساقطة.

 

وإذا سمعت قوله أن السماء طويت كالسجل لا تظن أنها تطوى وجرمها باق ، بل طويت هنا بمعنى فسدت وعدمت ، كما يقال انطوت أخبار فلان وانطوت تلك الأمور ، وطويت أيامه بمعنى عدمت ومضت على طريق تشبيه الزوابع .

 وقال وقد ذهب جمهور من العلماء المتشرعين إلى أن وقت القيامة العامة يكون في نصف الليل ، تمسكا بقوله في مثل العذاري : « وفى نصف الليل جاء الصوت قائلا ها هوذا العريس قد أقبل اخرجن للقائه». وتقدم لنا أن هذه الحوادث العلوية لا يمكن أن تكون ليلا بل نهارا لثرى . فكيف الخلاص هذه الحيرة والجمع بين شقى هذا التباين ؟ والجواب : أظن أن المباديء كحدوث الزلازل وحركة الجبال والجزائر وهيجان البحر وغير ذلك ، يبتدىء من نصف الليل ويصل الأمر حتى تطلع الشمس وتكون هذه الحوادث العلوية ؛ وحينئذ يتم ما قاله الرسول بطرس : «اليوم الذي تتحرك فيه السماء بسرعة، والنجوم تنحل بالاحتراق والأرض وجميع ما فيها من الخلائق تحترق » أيضا فيها : «وتبطل السموات والأرض تحترق وتنحل ونترجى سماء جديدة وأرضا جديدة»  ، فقد أعطى هذا الرسول سبب فساد السماء وكواكبها الأرض وما فيها من المعدن والنبات والحيوان ، آفة الاحتراق . ولعل النيرين والكواكب نفسها هي سبب الإحراق والاحتراق بأن تجفف المياه التي فوق السماء ثم يشتعل الكل ، وأن تلك المياه تصير ريحا ثم نارا ، كما ترى العناصر تتبدل بعضها إلى بعض ، فيصير الماء بالتبخير هواء ، والهواء نارا ، وغير ذلك الأمور التي تسببها المشيئة الإلهية.

وأما ترتيب هذه الحوادث فهو على هذه الصورة ، الأول : أن تكون الزلزلة العظيمة المرجفة للأرض الثاني : بسبب استمرار الزلزلة تزول الجبال من أماكنها . الثالث : اسوداد الشمس . الرابع : احمرار القمر . الخامس : تساقط الكواكب . السادس : طي السماء كالسجل .

هو من وأما اختفاء الملوك جميعا وقواد الألوف والأغنياء والأقوياء والعبيد والأحرار في المغائر وشقوق الصخور فهو من لوازم الحادث الأول وهو الزلزلة ؛ فإنها أولا تهدم القلاع والمدائن والبلاد فينقرض أمر الملوك والممالك ، وتهرب الناس فتعتصم بالجبال والمغائر وشقوق الصخور ، ظنا بأنها تعصمهم ، وخوفا مما أشد ذلك . والصعب يسهل عند حمل الأصعب.

 وبعد ذلك تزول الجبال ، وتغوص الجزائر في البحار ، ويرتج البحر الأعظم ويرتفع عجيجه ، وتخرج نفوس كثيرين من صوت البحر ، وانتظار ما يأتي على المسكونة كما يقول الإنجيل المقدس ، وتموت ضعاف الحيوانات أثناء هذه الوقائع الهائلة.

وأما قول الناس للجبال والصخور أسقطى علينا وأخفينا ، فهو قول بلسان الحال ، فالجماد لا يخاطب.

وقد ذكرت هذه الحوادث في عدة أماكن من العتيقة والحديثة ؛ أما داود النبي عليه السلام فقال : «من البدء وضعت أساس الأرض والسماء هي صنعة يديك هما يزولان وأنت باق وكلها تبلى كالقميص وتطويها كطى الرداء وهم يبيدون وأنت كما أنت وسنوك لا تفنى». وأما أشعياء النبي فقال : « هذا يوم الرب الآتي ليس فيه حيلة حقد وأحمى رجزه ليجعل الأرض خرابا بسخطه ويبيد الخطاة ولا تضىء نجوم السماء ولا تعطى قوتها ولكن تظلم الشمس والقمر لا يعطى ضوءه » ، وموسى بن ميمون من علماء اليهود ، يذهب إلى أن هذا الفص قاله أشعياء في انتقاض دولة بابل وهلاك سنحريب ، ووهم بوروده في نبوة أشعياء على بابل ، ولم ينسبه إلى أن النبي يستعير المكان كما يستعير اللفظ ، وليس هذا موضع الرد على منكري الميعاد ، بل ليسلم ذلك هنا وبرهانه في العلم المتكفل به وبأمثاله . ومنه [أشعياء) : «من أجل ذلك سخط الله من السماء وتزلزلت الأرض من رجزه وبانتهاره زالت الأرض عن مكانها يوم شدة غضبه »، وقال هذا النبي أيضا : « وتفسد قوات السماء وتنطوي السماءكالسجل وجميع قواتها تسقط كفج التين إذا انتثر »

وزعم ابن ميمون أن هذا الفص في هلاك الآدميين ، والعلة واحدة.

وأما يوئيل النبي فقال : «ارتجفت الأرض وتزعزعت السماء وأظلمت الشمس والقمر وغابت الكواكب »، وقال أيضا : « وأصنع عجائب في السماء والأرض دما ونارا ودخانا ومراوحا تنقلب الشمس إلى الظلمة والقمر إلى الدم قبل أن يأتي يوم الرب العظيم المرهوب وكل من يدعو باسم الرب يخلص » وادعى ابن ميمون في هذا الفص إنه قيل في دولة المنتظر ، وليس كذلك وأما بولس الرسول فقال في العبرانيين : « ذاك الذي زلزل الأرض صوته وقال إنى مزلزلها مرة أخرى ليس الأرض فقط بل والسماء أيضا » 

وأما بطرس الرسول فقال في رسالته الثانية ما تقدم ذكره

وأما الإنجيل المقدس فإنه صرح في فصول الانقضاء بهذه الحوادث من جملة غيرها ، فقال متى : « وللوقت من بعد ضيق تلك الأيام الشمس تظلم والقمر لا يعطى ضوءه والكواكب تتساقط من السماء وقوات السماء ترتج »

وفي لوقا يقول : «ويكون على الأرض ضر الأمم بغتة من صوت البحر  والزلازل وتخرج نفوس أناس منهم من الخوف وانتظار ما يأتي على المسكونة لأن قوات السماء تضطرب ».

فهذا ما في هذا الفص . وفي القيامة أمور أخرى كثيرة سترد في أماكنها هذه الرؤيا ، ونبين ما فيها بعون الله تعالى . 

  1. الأسبوع هنا هو أسبوع السنين ، فقد قال الله لحزقيال النبي عن الأزمنة الخاصة بالنبوات التي أعلنها له ، إنه جعل له اليوم عوضا عن سنة (حز4: 6) أما عندما يكون المراد بالأسبوع سبعة أيام عادية ، فإن الكتاب المقدس ينص على ذلك ، فقد ذكر في موضع آخر أن دانيال قال : « في تلك الأيام أنا دانيال كنت نائحا ثلاثة أسابيع أيام» (دا 10: 2) ؛ فالمقصود هنا ثلاث سنين ونصف وليس ثلاثة أيام ونصف .

تفسير سفر الرؤيا – 5 سفر الرؤيا – 6 تفسير سفر الرؤيا تفسير العهد الجديد تفسير سفر الرؤيا – 7
ابن كاتب قيصر
تفاسير سفر الرؤيا – 6 تفاسير سفر الرؤيا تفاسير العهد الجديد

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى