تفسير سفر الرؤيا اصحاح 9 لابن كاتب قيصر

الأصحاح التاسع

الفصل التاسع

44 – (1) وبوق الملاك الخامس فرأيت نجما سقط من السماء إلى الأرض وأعطى مفاتيح بئر العمق (2) فصعد دخان البئر مثل دخان أتون عظيم وأظلمت الشمس والجو من دخان البئر (3) وأتى جراد على الأرض من الدخان وأعطى سلطانا كالعقارب التاي لها سلطان على الأرض (4) وقيل لها لا تضرى أعشاب الأرض ولا كل الشجر ولا كل شیء ء أخضر إلا الناس الذين ليس رسم الله على جباههم (5) وأمرت أن لا تقتلهم بل تعذبهم خمسة أشهر ووجع عذابها يكون مثل ألم العقارب إذا لدغت الإنسان.

هذه هي الآية السادسة ، وهي الخامسة من آيات الأبواق .

قوله : «فرأيت نجما سقط من السماء إلى الأرض» ، يريد بالنجم ملاك هبط . والسقوط نزول مسرع كالبرق . وأما مفاتيح العمق فقد تقدم في الفص التاسع إن المراد بالمفاتيح الحكم المطاع طاعة القفل لمفتاحه ، وإن العمق هو الغور الأسفل من الأرض ، وتقدم أيضا في الفص المذكور إن هذا الحكم لسيد الكل لقوله : « ومفاتيح العمق كائنة عندى والجحيم». فعندما أراد إظهار هذه الآية ولى هذا الملاك عليها بأن يطيعه ويفعل بقوله ومراده. وهذا معنى ومراده. وهذا معنى ومراده وهذا معنى قوله : «وأعطى مفاتيح بئر العمق» والبئر أعم من العمق ولذلك أضافها إليه ليخصص بها قوله : « فصعد دخان البئر مثل دخان أتون عظيم» ، ليس المماثلة بين الدخانين في الكثرة ، بل ثلاثة أشياء : الماهية والصعود شيء إثر شيء وكمودة اللون(شدة السواد).

 قوله : « وأظلمت الشمس والجو من دخان البئر» ، هذا يدل على مدد عظيم وكثرة هائلة أظلمت منها الشمس والجو . وكثافة شديدة وكمودة عظيمة لا ينفذ منها الشعاع ولا يحللها ؛ ولم تظلم الشمس في ذاتها ، بل حجب هذا الدخان عنا ضوءها لانبثاثه في الجو وتراكمه . وإذ بلغ هذا المبلغ ، يلزم أن تظلم الدنيا على أهلها أشد من ظلام الليل لأن الليل يخلخل ظلامه أنوار القمر والكواكب ، وليس ههنا ضوء البتة.

قوله : « وأتى جراد على الأرض من الدخان» ، في هذه الجملة بحثان البحث الأول : هل المراد بهذه الجملة ظاهرها على شكل ما وحلاه وصفاته وتشبيهاته التي سترد عليك من العجائب المستغربة والبدائع المقتضبة؟ أم أنها معنوية ترمز على أن هذا الجراد جيش عظيم وعسكر غريب شبه بالجراد وأطلق اسم الجراد على الجيش كما أطلق في نبوة يوئيل النبي اسم الجيش على الجراد ، لأنه نقل عن الله تعالى في معنى الجراد الذي صار على بني إسرائيل في أيامه ، فقال : «وجيشي العظيم الذي أرسلت عليكم»؟

فأما ما يستدل منها على أن هذه الآية على ظاهرها ، فهي ستة مواضع ، الأول : لو كانت معنوية لما ذكر كيفية تولد الجراد بفتح بئر العمق وطلوع الدخان الذي هو مادة الجراد الثاني : ولا كان يقول : « وأتى جراد على الأرض من الدخان» ، وهذا تصريح بين الثالث : قوله إنه : « يشبه الخيل المعدة للحرب »، والناس لا تشبه الخيل . الرابع : قوله : « ووجوهها كوجوه الناس» ، ولا يشبه الشيء بنفسه . الخامس : قوله : « وأجنحتها مثل جواشن » ، ولا أجنحة للناس ، فإن قيل إن أجنحتها هي الجواشن ، كان تمثيل الشيء بنفسه السادس : قوله إن لأجنحتها صوت . فهذه أدلة كونها على ظاهرها.

أما الاستدلال على أنها معنوية ففي سبعة مواضع ، الأول : قوله : « وقيل لها يعنى الجراد لا تضرى أعشاب الأرض» ، والجراد لا يكون محلا للخطاب والقول ، إذ لا يعقل الثاني : قوله : «إلا الناس الذين ليس رسم الله على جباههم» ، وليس للجراد هذا التمييز ولا للناس فضلا عن الجراد الثالث : قوله : « وأمرت أن لا تقتلهم بل تعذبهم» ، وهذا لا يكون إلا لمن يعقل ويميز ويختار . الرابع : قوله إن على رأسه إكليلا ولا يكلل إلا البشر في الغالب. الخامس : قوله إن وجوهها تشبه وجوه الناس ، وليس الجراد كذلك السادس : قوله إن لها شعر وإنه يشبه شعور النساء ، وهذا يشبه أن يكون جيش الترك . السابع : قوله إن عليها ملك واسمه المهلك ، وأشخاص الجراد لا تسمى ، فليست إذن جـرادا.

البحث الثاني : في كيفة توالد هذا الجراد ومدته ، وذلك أن حرارة الشمس إذا ما برحت الهواء وعملت في رطوبة هذا البخار الدخاني ، عفنت منه هذا الحيوان ، الذي هو الجراد ، بالمشيئة الإلهية وعند تهيؤ المادة تفاض عليها الصورة الغريبة العجيبة التي سنصفها بعد ذلك ، فيتحرك طالبا الأرض إلى حيث بعث بسوق الرياح له حتى تلقيه على الأرض ، ولذا قال : « وأتى جراد على الأرض من الدخان» . وأما المدة التي يمكن فيها توالده فقد ذكر في التوراة أن الجراد الذي كان في ضربة فرعون وآله توالد في يوم واحد وهو نهار وليلة ، وذكر مع ذلك في كيفية توالده ما يقرب منه ما ذكرناه ، وهو : «فأهب الرب ريح السموم على الأرض جميع ذلك النهار وتلك الليلة ، وبالغداة احتملته ريح السموم بامتزاج حرارة الشمس بالهواء»  وريح السموم الفاعل والمنفعل هو المادة الدخانية ، والصورة مفاضة.

قوله : «وأعطى سلطانا كالعقارب التي لها سلطان على الأرض» ، في هذه الجملة تقديم وتأخير تقديره هكذا : وأعطى الجراد سلطانا على الأرض كالعقارب التي لها سلطان . سلطان العقارب الذي لها ، هو أن تكسب وتلقى فيما تكسبه سمها المبرح الألم الشديد الأعراض ، وهي تسعة : لدغ قوى والتهاب شديد ، وكرب مفرط ، وغشى الأطراف ، وسقوط القوة وإدرار العرق ، والخدر لفرط الألم ، وتواتر النفس . وجملة التشبيه هنا بينها وبين العقارب في الكسب الذي هو سلطانها . 

قوله : « وقيل لها لا تضرى أعشاب الأرض ولا كل الشجر ولا كل شيء أخضر» ، يريد بالقول ههنا المنع وعدم التمكين . وتقديره إن الملاك المتولى عليها والمدبر لها لا شك في طاعتها له بالإلهام ، كما يطيع الدب والقرد والأنعام وغيرها من الحيوان أمر المتسلط عليها من الناس ، ووضوح ذلك وشهرته تغنى عن بيانه ، لا سيما مع الأمر الإلهي . والحاصل أن المتسلط عليها يمنعها أن تقرض شيئا من النبات مع أنه قوتها وقوتها وتسلطها عليه ، ويجوز أن يكون قوتها في مدة هذه الضربة التراب كبقية الحشرات المتقوتة به ليكون سمها أشد وألمه أعظم .

قوله : «إلا الناس الذين ليس رسم الله على جباههم» ، هذا الاستثناء منقطع . والعجب من هذا الجراد إن النبات الذي اعتاد أن يتقوت منه ومسلط عليه منع منه ، والناس المتسلطون عليه وعلى سائر الحيوان في أصل الخليقة متسلط عليهم حسب الأمر الإلهي . والناس الذين ليس رسم الله على جباههم هم الكفار والأشرار ، والمميز لهم من سواهم هو الملاك المتولى على الجراد . والرسم هو الختم ، وقد تقدم الكلام فيه في الفص الثاني والثلاثين.

قوله : « وأمرت أن لا تقتلهم بل تعذبهم خمسة أشهر» ، الأمر هنا لها يريد به طبعه لسمها الذي في حمتها ، على أن تبرح في الألم ولا تقتل ، بل تحصل معه الآلام التسعة المتقدم ذكرها . وهذه اللفظة وهي قوله وأمرت ، مستعارة من اللغة القبطية من العطاء والتسليم ، وهي …فاعلم ذلك . وقد صرح بمدة العذاب للناس ، وهذه شدة وبلوي لم يسمع بأشد منها. 

‏ قوله : « ووجع عذابها يكون مثل ألم العقارب إذا لدغت الإنسان» ، آلم لسع العقارب هو تفرق اتصال وسوء مزاج لما يثبت من سمها الذي تصبه عند كسبها ، ويتبعه تسعة أعراض ، وهي : لدغ قوى ، والتهاب شديد ، وكرب مفرط ، وغثى(۱) وغشى ، وبرد الأطراف ، وسقوط القوة ، وإدرار العرق ، والخدر لفرط الألم ، وتواتر النفس

45 – (6) وفي تلك الأيام يطلب الناس الموت فلا يجدونه ويتمنون الموت والموت يهرب منهم .

إن أياما تطلب الراحة من شدائدها بالموت لرديئة جدا . وقد قيل في أمثال الحكماء : «أشد من الموت ما نتمنى من أجله الموت» . وبالواجب ذلك ، فإن في الموت ، وإن كان صعبا ، راحة من بلايا تتواتر ، تقوم كل بلوى منها مقام الموت في كل ساعة . ولهذا المعنى بعينه قالت امرأة أيوب الصديق له في بلواه : «قل كلمة في الرب لتموت وتستريح» ، وقال الملاك لدانيال النبي : « وأنت يا دانيال انطلق إلى الأجل واسترح». ولعمري إن هذه الضربات والشدائد التي في أيام نبوة الشاهدين لم تكن إلا على الفجـار والكفـار والأشرار ، ولا عملت إلا أدبا لهم ، وإشفاقا عليهم ، وطلبا لرجعتهم ومصلحتهم . وإذا كانت هذه شدائد الإشفاق والتأديب ، فما ظنك بشدائد الغضب والانتقام ؟! وتلك هي شدائد الدجال ، وهي ضربات الجامات. والحقيقة إن هذه وتلك بالنسبة إلى عقاب الخطاة في الآخرة كلا شيء. أعاذنا الله منه وأدركنا ورحمته بتوبة قبل الموت لندرك مغفرة وسلامة وراحة في دار القرار ومنازل الأبرار ، إنه سميع مجيب . من لطفه

46- (7) وشكل الجراد يشبه الخيـل المعدة للحرب وإكليل على رأس الواحد والواحد منها بلون الذهب ووجوهها كوجوه الناس (8) وأسنانها تشبه أسنان الأسد وشعر مثل شعر النساء (9) وأجنحتها مثل جواشن حديد وصوت أجنحتها كصوت مراكب خيل مستعدة للحرب (10) ولها أذناب وشوكات تشبه أذناب العقارب وسلطانها في ذنبها لتعذب الناس خمسة أشهر.

هذا الفص مقصور على شكل الجراد وحلاه وصفاته ، وقد ذكر ثمانية أشياء ، وهي : الشكل ، والإكيل ، والوجه ، والأسنان ، والشعر ، والأجنحة وأصوات الأجنحة ، والأذناب مع شوكها . فمن ذلك قوله : « وشكل الجراد يشبه الخيل المعدة للحرب» ، الجراد يشبه الخيل من سبعة أوجه ، أولها : نصبته فإنها تشبه منسج الفرس وثانيها : : انضمام ر م رأسه نحو صدره وثالثها : صدره ، فإنه يشبه صدر الفرس ورابعها : عينيه ، فإنها جاحظة تشبه عيني الفرس ، وقوة نظرها كنظره وخامسها : صلفه وتيهه وتواثبـه. وسادسها : سرعة حركته . وسابعها : شجاعته كشجاعة الفرس ، لأنها ترى الحرب فتطلبها ولا تصبر عنها ، وهكذا قال يوئيل النبي في الجراد الذي جاء في أيامه : « ومنظره مثل منظر الفرس ».

قوله : « وإكليل على رأس الواحد والواحد منها بلون الذهب» ، يا لهذا المنظر العجيب والزي الغريب : إن شكل إكليل على رأس كل واحد منها من جملة جسمه ، لكن الإكليل بمفرده بلون الذهب ؛ وقد نرى ذكور الطواويس تميل خضرة ريشها إلى الذهب لكن في ضوء الشمس . والحيوان المسمى سراج القطرب يشبه الدودة ويطير في الليل فيرى كشرارة نار ، وأما في النهار فإنه دودة خضراء تميل إلى ذهبية يسيرة . وأما هذا الإكليل فأجل من ذلك لظهوره وقوة شبهه بالذهب الأبريزي.

قوله : « ووجوهها كوجوه الناس» ، أي ليست مستطيلة بل مائلة إلى استدارة غير محكمة ، وأنف قائم ، وخطان كحاجبين ؛ ودود القز  فيه شيء من هذا الشبه.

قوله : «وأسنانها تشبه أسنان الأسد» ، ذلك لتكون مخوفة مرعبة ووجه التشبيه أن لها أنيابا ثم أسنانا محددة . ولم يذكر مع ذلك بأن لها تصرفا بهذه الأسنان أصلا ، حيث لا سلطان لها على خظم رطبة ولا قصم يابسة ، ومأكلها التراب لا النبات . وقد قال يوئيل النبي في ذلك الجراد : « وأسنانه مثل أسنان الأسد وأنيابه مثل أنياب شبل الليث »، لكن ذاك كان سلطانه في أسنانه ، يطرح الكرم ويقطع شجر التين قطعة قطعة ، ويهلك الزيتون والنخل والرمان ، ويستهلك الحنطة والشعير وغير ذلك ، لأنه قال فيه إن الأرض تكون بين يديه مثل فردوس عدن ، وإذن جاز تركها تربة . وكذلك الجراد الذي كان في أيام فرعون ، فإن التوراة تذكر عنه أنه أكل جميع عشب الأرض وجميع الشجر والأغصان والورق.

قوله : « وشعر مثل شعر النساء» ، هذا أيضا من الغرائب ، حيث لم يسمع أن جرادا له شعر طويل كشعر النساء . ولئلا يظن إنه كالجراد المعتاد قال : « وأجنحتها مثل جواشن حدید » ، الجواشن الحديد تنقبض وتنبسط ، فإذا انضمت ركبت صفيحة منها صفيحة أخرى بمسامير تدور عليها ، وإذا انبسطت امتدت كلها فيبقى طرف صفيحة على طرف أخرى تحتها كما يركب قشر السمك قشرة على قشرة أخرى ليبصر الكل كالأجزاء المتصلة . كذلك أجنحة هذا الجراد أجزاء رفيعة لحمية ولذلك شبهها بالحديد ، فإذا انقبضت ركب جزء جزءا منها وإذا انبسطت عند الطيران لم تتراكب الأجزاء إلا بأطرافها لا غير ، والجامع بينها أجزاء عصبية لينة سلسلة بينها كأجنحة الخفاش ، فهذا بيان التشبيه قوله : « وصوت أجنحتها كصوت مراكب خيل مستعدة للحرب» ، یعنی أن هذا الجراد عند اجتماعه وطيرانه من مكان إلى مكان ، يكون لأجنحته حفیف في الهواء كحس صوت الخيل المثابر للحرب ، وهذ هو استعداده قوله : «ولها أذناب وشوكات تشبه أذناب العقارب» ، هذه أيضا غرائب هذا الجراد ، يعني الأذناب والشركات ، وهي الزباناء والخمة والإبرة ويقال بأن رأس هذه الشوكة ، مع دقته ، فيه ثقب يخرج منه السم . وقيل بل للسم مسام في ظاهر الشوكة ينصب منها . وقيل بل السم غشاء على الشوكة . ثم إن هذا الحيوان لا يمكن التحذر عنه ولا الحذر منه ، لأنه طيار سريع الحركة ، كثير العدد ، مسلط من الله تعالى . فهذه هي السبعة أشياء التي ذكرها.

قوله : « وسلطانها في ذنبها لتعذب الناس خمسة أشهر» ، فقد قلنا بأن أسنانها التي وصفها بأنها كأسنان الأسد ، لا يستعملها في شيء ، وأن هذه الحمة هي المستعملة في عذاب الناس بها خمسة أشهر.

47- (11) والرئيس عليهم ملكهم ملاك العمق الذي اسمه بالعبرانية ماكادون وتفسيره باليونانية المهلك (12) الويل الأول مضى وهوذا يأتى الويل الثاني

سقط من قد صرح ههنا برئاسة ملاك العمق على الجراد ، وهو الذي دعاه نجما السماء كمصباح النار ، وإنه ملك جيوش الجراد والمسلط عليها بالأمر الإلهي لإطاعتها له والهلاك يطلق على الموت لغة ، وفي العرف العام على الوقوع في الأمور الصعبة الشديدة ؛ كما يقال : هلك فلان بالفقر أو بالحرب أو بالمرض الفلاني . ولا يراد إنه مات ، بل قاسي صعوبة منه . وبهذا العرف سمى هذا الملاك ماكادون الذي تفسيره المهلك ، أي إنه الذي أوقع الناس بجلب هذا الجراد ، في شدة عظيمة وصعوبة مفرطة ، وقال أن لغة هذا الاسم عبرانية والأصل يونانية . وقد استوفى في هذا الفص ما قصد إبداءه من ولاية هذا الملاك على جيوش الجراد ، واسمه ولغته واشتقاقه. وسمى هذه الضربة الويل الأول من الثلاثة ، وأنذر بالويل الثاني.

48- (13) وكان من هذه بوق الملاك السادس فسمعت صوتا من قرون المذبح الذهب الكائن أمام عرش الله (14) يقول للملاك السادس الذي معه البوق حل الأربعة الملائكة المقيدين عند نهر الفرات العظيم (15) فانفك الأربعة الملائكة المعدين للساعة واليوم والشهر والسنة لكي يقتلوا ثلث الناس (16) وعدد عسكر الفرسان ربوات ربوات لأنى هكذا سمعت عددهم (17) ورأيت في الرؤيا الخيل والركاب عليها وعليهم جواشن نار ودخان وكبريت.

من هذه هي الآية السابعة ، وهي السادسة آيات الأبواق.

والسؤال هنا هو : هل هي على ظاهرها أم هي متأولة بجيش عظيم من الناس يقتل الثلث ، ويعاقب الثلثين عقوبة شديدة رمز فيها بالنار والكبريت والدخان على الحرق والقتل والهلاك ، ونهش الحياة على السهام والحراب المسمومة والأعوان الأشرار كشر الحيات وما يشبه ذلك من التأويلات المناسبة ؟ وقد اعتبرت ألفاظ هذه الآية ومعانيها ومقاصدها وسياقها وقرائنها ، فلم أجد ما يتمسك به حجة على أنها متأولة ، أي معنوية ، إلا غرائبها . فإن كان الصواب قد خفى على لضعف في النظر أو تقصير في القدرة ، فالعذر مبسوط مع الاجتهاد.

وأما ما يتمسك به في أنها على ظاهرها ففيه وجوه : منها أن الآية المتقدمة في الفص الرابع والأربعين مناسبة لها . ومنها إن الأصل هو الحقيقة والتأويل مجاز ، فلا يجوز المصير إلى التأويل إلا بدليل ، إما مقتضى وإما مانع ، وإذا لم يتوافرا ، فالعمل على الحقيقة ومنها إن الظاهر والمتأول إذا تعارضا ولم يترجح أحدهما على الآخر ، كانت العمدة على الظاهر لأنه أقوى. فالعمدة هنا ظاهر الآية . وبالجملة هذا الذي رجحته ورأيته ، وهو أن هؤلاء الملائكة الأربعة مقدمو جيوش عظيمة من الملائكة ، يظهرون بهذه الصفات التي ستذكر ، ويتهيأون إلى الأمر المبرم والقضاء المقدر.

قوله : « فسمعت صوتا من قرون المذبح الذهب الكائن أمام عرش الله يقول للملاك السادس الذي معه البوق حل الأربعة الملائكة المقيدين عند نهر الفرات العظيم» قرون المذبح يريد بها رؤوس أركانه الأربعة من فوق ، وكونه ذهب وكونه أمام العرش قد مضى الكلام فيه في الفص السابع والثلاثين ، . وكون الصوت موجها نحو الملاك السادس الذي معه البوق لكي يحل الملائكة الأربعة ، يريد أن إطلاق فعلها موقوف على الإذن لها وحينئذ يبرز فعلها الذي أمرت به في وقته.

‏ قوله : « وعدد عسكر الفرسان ربوات ربوات لأني هكذا سمعت عددهم » ، هؤلاء الفرسان ركاب الخيل لا يتعدون ثلاثة أقسام : إما أن يكونوا من البشر بني آدم ، وإما أن يكونوا أشباحا خيالية ، وإما أن يكونوا ملائكة . ولا يمكن أن يكونوا من البشر لأن البشر لا تلبس جواشن نار ودخان وكبريت وليس للبشر مثل هذه الخيل الموصوفة ولا يقدرون على ركوبها . ولا يمكن أيضا أن يكونوا أشباحا خيالية ، لأن الأفعال الصادرة عن هذه حقيقية ، وهي قتل الناس وعذابهم ، والأشباح الخيالية لا يصدر عنها فعل حقيقي ، ولو كانت الأفعال خيالية لبطلت الآية ، إذن ليست هذه الفرسان أشباحا . فبقى أن تكون ملائكة ، وذلك أيضا فيه عدة مسائل : 

الأولى : هل جرى مثل هذا ، أن تظهر الملائكة بين العالم الأشرار والفجار وتقيم خمسة أشهر كما ذكر ؟ والجواب : إن الكروبي الذي معه حربة من نار أقام بالفردوس على طريق شجرة الحياة يحرسها لئلا يذهب إليها آدم وحواء ويأكلا منها ، وكانا يشاهدانه من بعيد وهما من خارج الفردوس ، ولولا مشاهدتهما له هناك ، لذهبا إلى شجرة الحياة كما ذكرت التوراة . وجواز هذا الظهور في ملاك واحد يدل على الجواز في ملائكة أكثر.

والثانية : ما الحاجة إلى ظهور الملائكة جيوشا وربوات ، وملاك واحد يقدر على قتل الناس جميعا وعقابهم ، كما رؤى ملاك واحد في الوباء الذي صار في أيام داود النبي ، وكما رؤى ملاك آخر وهو ميخائيل قد قتل خلقا من عسكر سنحاريب ، فإن كلا منهما إنما رؤى بمفرده يحرك سيفا في الهواء فيكون ما قضى به على يده ، ولم يحتج إلى عسكر ولا إلى خيـل بهذا العدد العظيم ؟ والجواب : إن المشيئة الإلهية إذا انتهى البحث إليها ، فلا جواب عليه إلا : هكذا أراد . وأما إنه قد جرى مثل ذلك ، فقد قال زكريا إنه رأى فارسا على فرس أشقر وخلفه خيل شقر وبلق وشهب وكثرة مطلقة ، والكل ملائكة ، فهذا دليل ظهور الكثرة ونظير له .

الثالثة : لم يسمع بمزاولة الملائكة الأفعال ومباشرتها في الأشخاص من عقاب وقتـل وغيرهما . والجواب : إن مثل هذا كثير في العتيقة والحديثة . أما العتيقة ، فملاك الفتية الذي عصمهم من الإحراق في أتون  النار ، والملاك الذي حمل حبقوق من أورشليم إلى جب دانيال ببابل ومعه العدس مطبوخا ، والملاك الذي ضرب القوم الذين هاجموا لوط بضربة العمي.

وأما الحديثة ، فقوله : « ودحرج الملاك الحجر عن فم القبر » ، وقول الإبركسيس في فصل مائة وأربعة: « وملاك الرب حرك جنب بطرس وأيقظه» ، وفصل مائة سبعة وستين عن هيرودس : « وللوقت ضربه ملاك لكونه لم يمجد الإله ولما صار ذلك دود ومات ».

قوله : « ورأيت في الرؤيا الخيل والركاب عليها وعليهم جواشن نار ودخان وكبريت» ، قال أولا إنه سمع أن عدد عسكر الفرسان ربوات ربوات ثم قال هنا إنه رأى في الرؤيا الخيل والركاب عليها ولباسهم ، في هذه الجملة مسائل :

الأولى : كيف تلبس الملائكة أو تركب وهي عقول مـجردة ؟ والجواب : إنها ما رؤيت إلا بهيئة جسمانية ، فيجوز عليها اللباس والركوب والحركات الجسمانية

الثانية : كيف يمكن أن تلبس جواشن النار والدخان والكبريت ، لا سيما والفص لم يخرج ذلك مخرج التشبيه ؟ والجواب : إن الملائكة ، إذا ظهرت بحركة جسمانية ، ففي قوتها أن تتدرع بهذه الثلاثة الأجسام وتشتملها ملابس ، بخلاف قوى البشر ، لطاعتها لها بالتسخير الإلهي.

الثالثة : إن الجواشن والدروع وغيرها لا تلبس إلا جنة ، وهذه الجواشن لا تقى بل يتوقى منها ، والملائكة لا تحتاجها ، فما القصد بلباسها وما حكمته ؟ والجواب : أما أنها لا تقى فصحيح ولم تلبس للوقاية ، وأما أنها يتوقى منها البشر فلكونها من نار ودخان وكبريت ، وأما الملائكة فأعلا من ذلك . وأما القصد في لباسها وحكمة ذلك ، فهو الإرهاب والتخويف ، لأن هذه الأشياء كلها تحسن في التأديب لتقى في الحقيقة من الغضب والرجز الإلهي

الرابعة : لم اقتصر على أن تكون هذه الجواشن من نار ودخان وكبريت ؟ والجواب : لتكون الصورة الظاهرة دالة على أنواع ما بها من العذاب

الخامسة : هل منها جواشن نار وجواشن دخان وجواشن كبريت ، أم كل جوشن بعضه نار وبعضه دخان وبعضه كبريت : إن كان الأول ، فما علة التخصيص ؟ وإن كان الثاني ، فكيف لا يشتعل الكبريت بمقارنة النار والدخان ؟ والجواب : إن الأرجح هو الثاني لأن سياق اللفظ يقتضيه ، ولو أراد الأول لقال إن جواشـن منها نار وجواشـن منها دخان وجواشـن منها كبريت ، ولما لم يقل ذلك علمنا إن المراد هو الثاني . وأما علة كون الكبريت لا يشتعل بالنار ، فإن القوة التي ادرعت(۱) النار لباسا منعتها أن تفعل فعلها الطبيعي ، كما منعتها أن تحرق الفتية في الأتون ، أو عصمتهم ومنعت الكبريت أن يشتعل.

49- (بقية عدد 17) ورأس الخيل مثل رأس أسود يخرج من أفواهها نار ودخان وكبريت (18) من هذه الضربات مات ثلث الناس من النار والدخان والكبريت الخارج من أفواههن (19) لأن سلطان الخيل كان في أفواهها وأذنابها لأن أذنابها كانت تشبه حيات وكان للحيات رؤوس وبهذه كانت تعذب الناس خمسة أشهر

لما فرغ من وصف الخيالة ولباسها ، أخذ في وصف الخيل ، وينبغي أن نقدم قبل الكلام فيها مباحث :

البحث الأول : هذه الخيل مثل ركابها لا تعدو ثلاثة أقسام : إما أن تكون خيلا حقيقة من الحيوان ، وإما أشباح خيل متخيلة ، وإما ملائكة ولا يصح أن تكون خيلا حقيقية من الحيوان ، لأن الخيل الموجودة ليست لها هذه الصور ، ولا يصدر عنها مثل هذه الأعمال . ولا يصح أن تكون أشباحا متخيلة ، إذ لو كانت كذلك لكانت أفعالها غير حقيقية ، لكن أفعالها حقيقية ، فليست إذن أشباحا ، فبقى أن تكون ملائكة.

البحث الثاني : إذا كانت الخيالة ملائكة والخيل ملائكة ، فقد ركبت الملائكة ملائكة ، وهل يجوز وقوع هذا في الملائكة ؟ والجواب : أما الدليل الأول على أن الملائكة ظهرت بصور الخيل فقد ذكر ذلك زكريا في نبوته بقوله : «رأيت رجلا راكبا فرسا أشقر وهو قائم بين الشجر يستظل بأفيائها  وخلفه خيل شقر وبلق وشهب » ، ثم قال : « وقلت لصاحب الفرس ما هؤلاء فقال هؤلاء أرسلهم الرب ليسيروا في الأرض »  ، وإنما ترسل الملائكة لا الخيل وادليل الثاني هو قول زكريا بعد ذلك عنهم : «فأجابوا الملاك الواقف بين الشجر »  ، والخيل لا تنطق ، فدل على إنهم ملائكة . فإن قال مماحك إنه إنما أراد بالخيل الخيالة كما في العرف ، قلنا : قد قال ديونوسيوس الكبير معلم المسكونة في كتابه في الملائكة : «إنها ظهرت بصورة الخيل ، واستشهد بهذا الكلام نفسه . ولعله تعلم ذلك من معلمه بولس الرسول لأنه كان تلميذه . وإذ ظهر إنها تظهر بصور الخيل ، لم يمتنع ركوبها من ملائكة أخرى أعلى من طبقتها بالأمر الإلهي.

البحث الثالث : هل الملائكة تباشر الأفعال في الأشخاص ؟ وقد مضى الكلام فيه.

البحث الرابع : لم اختصت الخيـل بـصـدور الأفعال دون الخيالة ؟ والجواب : إن فعل الخيل قد بين . ولأن الإرهاب بالفارس وفرسه أعظم من أن يكون براجل أو بفرس من غير فارسه ، وحينئذ فلنفسر هذه الجملة فنقول : علة كون رؤوس الخيل مثل رأس أسود ليرعب منظرها . وأما خروج النار والدخان والكبريت من أفواهها وأن به مات ثلث الناس وعد ذلك في الرؤيا ثلاث ضربات ، فيظهر أن هذه الثلاثة تحرج من أفواهها في دفعة واحدة فتحصل ثلاثة أشياء : الإحراق بالنار والإشعال ، وعسر النفس برائحة الكبريت ، وفساد مزاج الروح الحيواني بالدخان ، لأن التنفس إنما هو إخراج الفاضل الدخاني عن القلب وإدخال الهواء البارد الصافي لتعديل مزاج الروح وإذا كان الذي يعبر بخار کبریتی ودخان ، وهو أشد رداءة مما خرج بكثير ، فسد الروح الحيواني وهلك ذو الروح.

قوله : «لأن سلطان الخيل كان في أفواهها وأذنابها » ، أما ما يخرج من أفواهها فقاتل مهلك كما بين ذلك بقوله : «من هذه الضربات مات ثلث الناس من النار والدخان والكبريت» ، وأما نهشها الناس بأذنابها فللعقوبة خمسة أشهر ، وقد أعطى علة ذلك بقوله : «لأن أذنابها كانت تشبه حيات وكان للحيات رؤوس» ، يريد مع أن لها أذناب تشبه جثث الحيات ، ففي أطرافها رؤوس كرؤوس الحيات تنهش الناس بها فتؤلم الألم الشديد المبرح ؛ ويتبع ذلك الأعراض التسعة التي تقدم ذكرها في الجراد ، وتزيد هذه على تلك بأن ألم هذه أشد وأعراضها أقوى ، وتزيد أيضا بظلمة البصر واختلاط الذهن ، وهذا النهش معذب لا قاتل . وقد تقدمت علة ذلك في كسب الجراد ، ودليل كونها معذبة لا قاتلة قوله : « وبهذه كانت تعذب الناس خمسة أشهر »

50- (20) وبقية الناس الذين لم يموتوا بهذه الضربات فلم يتوبوا أعمال أيديهم أن يسجدوا للجن والأوثان الذهب والفضة والنحاس والخشب والحجارة التي لا استطاعة لها أن تنظر ولا أن تسمع ولا أن تمشى (21) ولم يتوبوا من قتلهم ولا من أدوية سحرهم ولا من زناهم ولا سرقتهم.

تلك هذه البقية هي الثلثان اللذان عوقبا بأذناب الخيل التي لها رؤوس حيات مدة خمسة أشهر بعد الثلث الأول الذي مات بالثلاث الضربات التي تخرج من أفواه الخيل وهي النار والدخان والكبريت . ولم تعتبر البقية المذكورة لا بموت من مات ولا بما أصابها من العقوبة الشديدة ، ولم تتب مع هذه المبالغة في التأديب ، وهذه المصائب التي تفوق الوصف ، والعجائب التي تحرك الجماد ولهؤلاء عقوبة أشد قسوة من آل فرعون ، فإن هذه الآيات أعظم وأغرب من ، وهو يشير بأعمال أيديهم إلى جميع الخطايا الفكرية والفعلية : النفسية والجسمية ، فعبر عن العام بالخاص وهو أعمال اليد ، لأن ألم الأعمال باليد يعبر بها عن الجميع ، ثم عدد المشهور منها وهي سبعة أشياء : السجود للجن ، وعبادة الأوثان ، والقتل ، والسحر ، والزنا ، والنجاسة ، والسرقة ؛ فقوله : «أن لا يسجدوا للجن والأوثان الذهب والفضة والنحاس والخشب والحجارة» ، أخذ يصف كل الأفعال التي كانوا يعتمدونها :

وأولها : السجود لأرواح الجن ، وذلك من مقدمات الأعمال السحرية ومبادئها

وثانيها : عبادة الأوثان ، على أن عبادة الأوثان السجود ، وهو راجع في الحقيقة إلى السجود للجن ، ولكن الفرق بينهما أن السجود للأوثان بواسطة وللجن بغير واسطة ، وعدد المواد التي تعمل منها الأوثان في الأكثر وهي ستة : ذهب وفضة ونحاس وخشب وحجارة وخزف ، وقوله : «التي لا استطاعة لها أن تنظر ولا أن تسمع ولا أن تمشى» يريد إنها من الجماد لا تحس بحاسة ، وأطلق الخاص على العام ، فعبر عن الحواس كلها بهاتين الحاستين وهما النظر والسمع لأنهما الأقوى ، وكذلك عن الحركات الطبيعية كلها بالمشي لأنه أقواها ، والآذان لا تتحرك حركة طبيعية بل تتحرك بالعرض حركة مكانية.

وثالثها : القتل على أنواعه

ورابعها : أدوية السحر التي هي البخورات والقرابين والعقاقير المختصة بكل كوكب وكل روح من الأرواح التي يخدمونها

وخامسها : الزنا على أنواعه

وسادسها : النجاسة التي تعم أنواعها الكذب وشهادة الزور والحسد والرياء والنفاق إلى غير ، فعبر عن هذه بلفظ عام هو النجاسة وسابعها : السرقة على أصنافها من اختلاس وغصب وظلم وغدر فانظر إلى قوم هذا استفحال خطاياهم ، وتلك العقوبة المدهشة حلت بهم ، فلم ينتقلوا عن سيرتهم ، ولم يتوبوا عن خطاياهم ، ولذلك قال : «ولم يتوبوا من قتلهم ولا من أدوية سحرهم ولا من زناهم ولا سرقتهم».

 تفسير رؤيا 8 تفسير سفر الرؤيا تفسير العهد الجديد  تفسير رؤيا 10
ابن كاتب قيصر
تفاسير سفر الرؤيا تفاسير العهد الجديد

 

زر الذهاب إلى الأعلى