تفسير سفر الرؤيا أصحاح 20 للقمص تادرس يعقوب

الباب الثالث

مجد أورشليم السماوية

v تقييد الشيطان وتمتعنا بملكوت السماوات ص 20.

v وصف أورشليم السماوية ص 21.

v تطويب الساكنين فيها ص 22.

مقدمة

بعدما تحدث سفر الرؤيا في أسلوب رمزي عن حال الكنيسة خلال جهادها على الأرض إلى يوم لقائها بالرب يسوع عريسها بدأ يحدثنا عن بيت الزوجية السماوي، أي الملكوت الأبدي، المعد لنا منذ تأسيس العالم.

هذا الملكوت بالنسبة للمؤمن الحقيقي ليس غريبًا عنه، بل هو امتداد لما يتمتع به هنا على الأرض عربونًا، وما يحيا به في الفردوس لحظة انتقاله. لهذا بدأ السفر بالحديث عن الملكوت الذي نعيشه هنا، والسلطان الذي لنا على إبليس وجنوده، كبداية لامتداد أبدي ولقاء سماوي مع أبينا السماوي وجهًا لوجه.

 

الأصحاح العشرون
تقييد الشيطان
وتمتعنا بملكوت السماوات

يعتبر هذا الأصحاح مقدمة أو تمهيدًا للأصحاحين التاليين، ففيه يحدثنا عن “ملكوت الله الذي في داخلنا” (لو 18: 12).

تقييد الشيطان 1 – 3.

“ورأيت ملاكًا نازلاً من السماء معه مفتاح الجحيم،

وسلسلة عظيمة على يده.

فقبض على التنين الحيَّة القديمة الذي هو إبليس والشيطان،

وقيده ألف سنة.

وطرحه في الجحيم، وأغلق عليه،

وختم عليه لكي لا يضل الأمم فيما بعد

حتى تتم الألف سنة، وبعد ذلك لا بد أن يُحل زمانًا يسيرًا” [1-3].

هذا الملاك الذي نزل من السماء وله سلطان على الجحيم وقادر أن يربط الشيطان ويقيده رمز لملاك العهد، الرب يسوع، الذي نزل من السماء، وسُمر على الصليب من أجل البشر، حتى يُمزق صك الخطية، وبالتالي لا يكون لإبليس مكان أو حق فيهم، وبهذا يقدر المؤمن أن يدوس على إبليس وقوته. وكما يقول الكتاب المقدس:

“الآن يطرح رئيس هذا العالم خارجًا” (يو 12: 31).

“إذ محا الصك الذي علينا في الفرائض، الذي كان ضدًا لنا، وقد رفعه من الوسط، مسمرًا إياه بالصليب، إذ جرد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارًا، ظافرًا بهم فيه (أي في الصليب)” (كو 2: 14، 15).

“وأما عن دينونة، فلأن رئيس هذا العالم قد دين” (يو 16: 11).

“رأيت الشيطان ساقطًا مثل البرق من السماء. ها أنا أعطيكم سلطانًا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو ولا يضركم شيء” (لو 10: 19).

نجد في العهد الجديد شواهد كثيرة تطمئن نفوسنا لا أن طبع إبليس قد قُيِّد، بل سلطانه، فلم يعد قادرًا أن يملك على الإنسان مادام ليس له في قلبه شيء. أما إذا اختار الإنسان أن يُدخل في قلبه شيئًا مما لإبليس، فيكون قد سلم نفسه بنفسه للعدو. وما أكثر كتابات الكنيسة الأولى التي تهب للمؤمن رجاء وشجاعة ليحارب إبليس بلا خوف ولا اضطراب، مطمئنًا أنه بصليب الرب يقيده ويحطمه.

يقول القديس أغسطينوس: [إالملاك النازل من السماء هو السيد المسيح الذي أخرج الذين كانوا في الجحيم على رجاء الفداء، كما قُيَّد سلطان إبليس حتى لا يكون له سلطان على مؤمنيه المجاهدين مدة جهادهم على الأرض.]

أما كون الزمن 1000 سنة فيمكن أن تفهم بطريقتين:

  1. إن الكنيسة في جهادها على الأرض تعيش في يوم “الرب” أي سبت الراحة “Sabbath” هذا الذي ابتدأ بقيامة الرب ولا يغرب أبدًا حيث يبقى هكذا راحة لا نهائية بالنسبة للقديسين، إذ يعبرون من جهادهم. وأخيرًا يعيشوا في الأبدية كامتداد لحياتهم ههنا. واليوم عند الرب كألف سنة، لذلك حسب زمنه بألف سنة!
  2. إنه يشير إلى كل زمان هذا العالم (منذ الصلب أو القيامة)، إذ تشير الألف إلى كمال الزمن وكثرته. إنها الفترة منذ دخول الرب “بيت القوي ونهب أمتعته بعد ما ربطه” (مر 3: 27)، واهبًا لأولاده أن يجاهدوا ولا يكون لإبليس سلطان إلى أن يأتي ضد المسيح، ويحل إبليس حتى لو أمكن أن يضل المختارين أيضًا.

وإن كان قلة من الطوائف البروتستانتية تزدري بهذا التفسير قائلة في تهكم كيف تقولون إن الشيطان مربوط ونحن نراه يعمل ويعمل؟ وإنما سيقيَّد فيما بعده. لكني أترك إخواننا البروتستانت وخاصة اللوثريين يجيبون على ذلك:

فمثلاً يقول شارلس ايردمان أن ربنا وتلاميذه استخدموا كلمات أقوى من الربط والسجن ليصفوا أثر العمل الخلاصي للمسيح على الشيطان. إذ قال “رئيس هذا العالم قد دين”… وأورد Joseph S. Exell في مجموعة The Biblical Illustrator آراء لمفسرين كثيرين من إخواننا البروتستانت يُصِّرون بكل شدة إلا أن يقبلوا هذا التفسير، وهو أن الشيطان مقيد حاليًا بالنسبة للمؤمن الحقيقي.

القيامة الأولى 4 – 6.

“ورأيت عروشًا فجلسوا عليها، وأعطوا حكمًا،

ورأيت نفوس الذين قتلوا من أجل شهادة يسوع، ومن أجل كلمة الله،

والذين لم يسجدوا للوحش ولا لصورته،

ولم يقبلوا السمة على جباههم وعلي أيديهم،

فعاشوا وملكوا مع المسيح ألف سنة.

وأما بقية الأموات فلم تعش حتى تتم الألف سنة.

هذه هي القيامة الأولى.

مبارك ومقدس من له نصيب في القيامة الأولى.

هؤلاء ليس للموت الثاني سلطان عليهم،

بل سيكونون كهنة لله والمسيح، وسيملكون معه ألف سنة” [4-6].

هنا يحدثنا عن القيامة الأولى دون أن يذكر الكتاب المقدس في كل أسفاره عبارة “القيامة الثانية”، فماذا تعني القيامة الأولى؟

إننا نعلم أن الخطية دخلت إلى العالم، فملك الموت على كل النفوس، وصرنا نعيش بالجسد لكن نفوسنا ميتة بانفصالها عن مصدر حياتها “الله”. إذًا جاء الرب ليقدم لنا قيامة روحية لأنفسنا قبل أن تتمتع أجسادنا مع أنفسنا بالقيامة العامة يوم الدينونة. يقول الرب “الحق الحق أقول لكم إنه تأتي ساعة وهي الآن حين يسمع الأموات (بالروح) صوت ابن الله والسامعون يحيون” (يو 5: 25). هذه القيامة ليست أمرًا ننتظره بل كما يقول الرسول: مدفونين معه بالمعمودية، التي فيها أقمتم أيضًا معه بإيمان عمل الله، الذي أقامه من الأموات” (كو 2: 12).

وبالتوبة أيضًا نتذوق القيامة ونحن بعد على الأرض مجاهدين “استيقظ أيها النائم وقم من الأموات فيضيء لك المسيح” (أف 5: 14). وهي موضوع اختبار مستمر في حياة المؤمن اليومية. فالرسول القائل: “وأقامنا معه وأجلسنا معه في السماويات” (أف 2: 4-6) يقول في صيغة الاستمرار “لأعرفه وقوة قيامته وشركة آلامه” (في 3: 10).

فبكل تأكيد نقول إن الكنيسة في جهادها بالرغم مما تعانيه من آلام إلا أنها تعيش في الملك الألفي، القيامة الأولى، متذوقة عربون السماويات.

وكما يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [كان الإنسان آخر المخلوقات العاقلة، لكن هوذا قد صار القدم رأسًا. وبواسطة الباكورة صرنا إلى العرش الملكي… لقد أحضر طبيعتنا إلى العرش الإلهي، لذلك يصرح بولس قائلاً: “أقامنا معه وأجلسنا معه في السماويات، في المسيح يسوع. ليظهر في آخر الدهور الآتية غنى نعمته الفائق باللطف علينا” (أف 2: 6-7). كيف نقول ليظهر في آخر الدهور الآتية؟ ألم يظهر الآن؟ لقد ظهر فعلاً. ولكن ليس لكل الناس بل لي أنا المؤمن، أما غير المؤمن فلم يظهر له بعد هذا العجب. لكن في ذلك اليوم تتقدم كل البشرية لترى وتتعجب مما حدث. أما بالنسبة لي فيزداد الأمر وضوحًا.]

إذن هؤلاء الذين يحملون الصليب مع ربنا يسوع شاهدين له حتى الموت يتمتعون هنا بالقيامة الأولى، أما بقية الأموات بالروح الذين لا يقبلون الإيمان فلا يتمتعون بالقيامة الأولى، ويسقطون تحت الموت الثاني الأبدي (رؤ 21: 8).

نعود فنؤكد ما يقوله القديس أغسطينوس: [لن يكون هناك مجيء للمسيح قبل ظهوره الأخير للدينونة، لأن مجيئه حاصل بالفعل الآن في الكنيسة وفي أعضائنا. أما القيامة الأولى في سفر الرؤيا فهي مجازية تشير إلى التفسير الذي يحدث في حالة الناس عندما يموتون بالخطية ويقومون لحياة جديدة.]

فالحكم الألفي للمسيح على الأرض قد بدأ فعلاً بيسوع المسيح نفسه في الكنيسة والقديسون يحكمون الآن فيها.

فكرة “الملك الألفي المادي”

بعدما تعرضنا لتفسير النص السابق الذي يتحدث عن الملك الألفي أو القيامة الأولى نود أن نبين للقارئ أن هناك فكرًا جاء عرضًا بين كتابات الآباء في القرون الثلاثة الأولى وجاء بصورة عنيفة ومغايرة في بعض كتابات المحدثين. وهو تفسير النص بصورة حرفية أن الرب يملك على الأرض مع مؤمنيه مُلكًا زمنيًا لمدة ألف سنة. غير أنه يليق بنا أن نفصل بين ما جاء في الكتابات الأولى وكتابات المحدثين.

فكرة الألف سنة الحرفية في الكنيسة الأولى

نحن نعلم أن اليهود لهم فكرهم المادي، لذلك رفضوا الرب يسوع بسبب رفضه الملك الزمني. وهم لا يزالون إلى يومنا هذا للأسف ينتظرون المسيح الذي يملك ملكًا زمنيًا ويعطيهم سيطرة على العالم كله.

هذا الفكر دخل إلى الكنيسة في بدء نشأتها عن طريقين:

  1. دخول اليهود إلى المسيحية ومعهم بعض تصوراتهم المادية، فبثوا هذه الأفكار عرضًا وسط الكتابات والعظات لهذا نجد مثلاً الأب بابياس من رجال القرن الأول يتصور ملكًا زمنيًا ماديًا لمدة ألف سنة يحدث في بداية القيامة فيه تنمو كروم العنب كل كرم يحمل عشرة الآف فرع وكل فرع يحمل عشرة آلاف غصن… وإلى غير ذلك من الأمور التي تقبلها من الفكر اليهودي المادي في سذاجة.

ويقول يوسابيوس إن بابياس وصل إلى هذه الكيفية المادية بسبب قصور فهمه للكتابات الرسولية غير مُدرك أن أقوالهم كانت مجازية (روحية) وإليه يرجع السبب في أن كثيرين من آباء الكنيسة من بعده اعتنقوا نفس الآراء. ويسمي يوسابيوس هذا الأمر “خرافة”.

وقد انحرف وراء بابياس إيريناؤس وترتليان وكلتنسيوس وفيكتورينوس ويوستينوس وأغسطينوس في البداية، لكنه عاد وأدرك الخطأ.

  1. في قراءة محاورة يوستينوس مع تريفو اليهودي ندرك أن يوستين أخذته الحماسة والغيرة لتأكيد أن كل ما كان لليهود من وعود وبركات قد صارت بكاملها وتمامها لكنيسة العهد الجديد، وبهذا حاول أن يثبت أن ما جاء في (إش 65: 17-25، مي 4: 1-7) سيتحقق للمسيحيين وحدهم.

وإننا نجد نفس الأمر مع ترتليان في محاوراته مع اليهود إذ بعدما أكد نفس الفكرة أن كل ما بالعهد القديم صار للكنيسة وحرم اليهود من كل بركة عاد للأسف فحول الفكر اليهودي المادي وجعله للكنيسة.

يقظة الكنيسة

لم تكن عقيدة الألف سنة عقيدة قائمة بذاتها، ولا أعطى لها اهتمام كبير، لكن مدرسة الإسكندرية سرعان ما تنبهت لخطورة الأمر. وكأنها قد تطلعت بنظرة بعيدة المدى لترى في أيامنا هذه كيف مثلت هذه العقيدة الخاطئة فكرًا خطيرًا رئيسيًا في بعض الطوائف مثل الأدفنتست. لهذا انبرى أوريجينوس وقاوم هذا الفكر، وتلاه البابا ديوناسيوس السكندري في القرن الثالث وأدحض فكرة التفسير الحرفي لسفر الرؤيا. وقبل أن ينتهي القرن الرابع كاد هذا الفكر أن يزول تمامًا في كنيسة الإسكندرية.

أما في الخارج فقد قام القديس أغسطينوس، بعدما أدرك خطأه، وأوضح خطورة التفسير الحرفي للألف سنة مُفندًا ذلك بقوة حجة لا تقاوم واعتبر من يقول بها مهرطقًا.

فكرة الألف سنة عند بعض الطوائف البروتستانتية:

ظهرت هذه الفكرة عند بعض الطوائف البروتستانتية، وجعلت منها عقيدة أساسية، وبدأت تضع لها مواعيد محددة لمجيء المسيح ليملك ألف سنة. وهنا نجد اختلافًا للفكرة في الكتابات الأولى وبعض المحدثين.

  1. في الكتابات الأولى جاءت عرضًا وكان دافعها الرئيسي تأكيد أن اليهود الأشرار غير المؤمنين بالرب قد انتزعت عنهم كل المواعيد ويقول الشهيد يوستينوس: (إن كثيرًا من المسيحيين المعتبرين لا يأخذون بهذا التعليم ولا يقرونه).
  2. إن بعض الطوائف البروتستانتية نادت بهذه الفكرة على هذه الأسس.

أولاً: يأتي السيد المسيح ليملك على قديسيه قبل أن يأتي “إنسان الخطية” وتحل الضيقة العظمى، ثم يعود فيظهر مرة أخرى ليبيد ضد المسيح.

ثانيًا: إن إسرائيل تتوب ولكنها تبقى جسدًا متميزًا عن الكنيسة، وإن أورشليم تتسع وتتزين وتصير مركزًا للشعب اليهودي الذي يحكم العالم.

ثالثا : إعادة بناء الهيكل و تقديم ذبائح حيوانية…

وإننى في هذا المجال لا أود الدخول في مناقشات لكنني أترك إخوتي البروتستانت يردون على هذه الطوائف:

  1. يرى ايردمان أن هذه المبادئ التي تقوم عليها فكرة المُلك الألفي المادي تتناقض مع بعضها البعض وتبتعد عن روح الكتاب المقدس.
  2. يرى راى سمرز صاحب كتاب “مستحق هو الخروف” أنه لا يليق أن تُبنى أنظمة شاملة تخص الأمور الأخيرة واللاهوت وفلسفة التاريخ على ثلاث آيات (4-6 من الأصحاح 20) بتفسير حرفي غير مستقر.
  3. H. Monod يرفض التفسير الحرفي للملك الألفي معللاً ذلك بالآتي (بتصرف):

أولاً: أن التفسير الروحي والرمزي يتفقان مع اتجاه الأنبياء عامة وخاصة في سفر الرؤيا. فنجد فيها الكنيسة منارة والخدام كواكب فلا نقبلها بحرفيتها.

ثانيًا: لاحظ أيضًا أن القديس يوحنا يتحدث فقط عن (نفوس) [4] تنتعش وتملك مع المسيح، أي لم يقل “نفوس وأجساد”.

ثالثًا: أن التفسير الحرفي لا يتفق مع النصوص الأخرى الواردة في الكتاب المقدس التي تتحدث عن القيامة العامة. فلم يحدثنا قط عن قيامة تحدث مرتين أو في فترتين مختلفتين. إنما يظهر بوضوح من (إش 12: 2، يو 5: 28، 1 تس4: 16، 17) أن قيامة الأموات – بالنسبة للأبرار والأشرار – يتبعها فورًا الدينونة والحياة الأبديّة.

رابعًا: يستحيل أن نفهم كيف تهب العودة إلى الأرض سعادة للأبرار الذين ماتوا في الإيمان وقد اجتمعوا في الراحة التي لشعب الله؟! إن خطأ اليهود متمثل في رغبتهم أن يملك المسيا مُلكًا زمنيًا، ويختلف الألفيّون عنهم في ذلك.

خامسًا: لو أخذنا بالتفسير الحرفي، ماذا يكون حال الذي يولدون أثناء الحكم الألفي؟ حاليًا بالموت (جسديًا) يخلص المؤمنون: إذ يموتون في سلام تاركين التجارب والبؤس ليرحلوا إلى الرب، لكن هذا لا يحدث للمولودين في المُلك الألفي. أكمل حديثه قائلاً: كيف يحمل المولودون أثناء المُلك الألفي – ما دام هو مُلك زمني مادي فيه يزوِّجون ويتزوَّجون – الصليب مع الرب يسوع؟ وكيف يسيرون في الطريق الضيق؟

سادسًا: هذا النص هو العبارة الوحيدة في الكتاب المقدس التي فيها يقال أن القيامة الأولى تكون قبل نهاية العالم، بينما عدد كثير من النبوات تتحدث عن القيامة دون أن تتحدث عن قيامة للأجساد بالصورة المادية الحرفية. أيهما أصح أن نفسر الكتاب كله وخاصة هذه النبوات على ضوء هذا النص الغامض، أم نشرح النص الغامض على ضوء نبوات الكتاب الكثيرة الواضحة؟

وأخيرًا يختتم معاتبًا الألفيّين الماديّين فيقول: “ليته يدرك ذلك العدد الضخم من النفوس في كنيسة أنفسهم أن هذا الملكوت المسيحي هو هكذا سلطان وهكذا لطيف وعذب ومجيد !”

ويخرج H. Monod بهذه النتيجة: [أن المسيح يسوع يستمر في أن يملك بأن يجلس إنجيله على العرش في داخل الإنسان الذي يقبل الإيمان المسيحي، عندئذ لا تكون الديانة المسيحية أداة للسياسة في يد الحكومات إنها ستكون تعبيرًا مخلصًا لطريقة الحياة.]

  1. يرفض J. Gible فكرة الملك الألفي الزمني، مُدحضًا فكرة قيامة الأجساد ليملكوا مُلكًا جسديًا منظورًا. كما يقول أن نفوس الشهداء حية وهي تمارس نوعًا من القيامة إذ يذوقون نوعًا من الراحة وحالة من السلطان والحيوية. وهم يمارسون نوعًا من المِلكيّة مع الرب قدر الآلام والأتعاب التي احتملوها في فترة جهادهم، من أجل الرب. وأن قديسي الرب يسوع يملكون معه بطريقة مجيدة غير مادية تفوق إدراكنا الحالي. وهو يُسمي الألفيّون بالماديّين والمتشكّكين. كما يطالبنا أن يكون لنا رجاء محدد لا رجاءً ماديًا في أمور باطلة. إنه أفضل للإنسان أن يطلب كل شيء للمسيح ليربح المسيح ويوجد فيه لينتفع بالملكوت السماوي… عالمين أن الصليب هو طريق الإكليل… لا أن نطلب أمور مادية.

وأخيرًا يقول بأن عدم قبول المُلك الألفي الزمني يبعث في المؤمنين تعزية، حينما يخلعون خيمتهم الأرضية. إنهم يعرفون أن نفوسهم لا تنام في حالة من الظلمة بلا إحساس، بينما تكون أجسادهم في التراب، بل يكون الموت بالنسبة لهم ربحًا.

هذه بعض آراء لقليل من إخوتنا البرتستانت، إذ يهاجمون فكرة المُلك الألفي الزمني بعنف.

حل الشيطان في آخر الزمان 7 – 10.

ثم متى تمت الألف سنة، يُحل الشيطان من سجنه” [7].

أي متى جاء الزمان الذي فيه يأتي ضد المسيح الذي يُوهب له سلطان إبليس وقوته ليقوم ويخرب، حتى ولو أمكن أن يضل المختارين. لهذا يُقال إن الشيطان يحل من الجحيم سجنه ليظهر عاملاً بقوة لم نرَ مثلها من قبل.

“ويخرج ليضل الأمم الذين في أربع زوايا العالم،

جوج وماجوج ليجمعهم للحرب الذين عددهم مثل رمل البحر.

فصعدوا على عرض الأرض،

وأحاطوا بمعسكر القديسين وبالمدينة المحبوبة،

فنزلت نار من عند الله من السماء وأكلتهم.

وإبليس الذي كان يضلهم طُرح في بحيرة النار والكبريت،

حيث الوحش والنبي الكذاب،

وسيعذبون نهارًا وليلاً إلى أبد الآبدين” [8-10].

وهنا نجد تفسيرين لهذا النص:

التفسير الأول: أن قبائل معينة خاضعة لأحد الملوك العشرة التي تعاصر ضد المسيح يجتمعون بمدينة أورشليم لمقاتلة إيليا وأخنوخ والباقين من الكنيسة في أورشليم ولكن الله يرسل نارًا ليحرقهم. ويرى البعض أن “جوج وماجوج” لا تعني قبائل معينة بل كل الشعوب المنحرفة التي يجتمع جنودها لمقاومة الكنيسة لكن الله يؤدبهم بنار سماوية.

التفسير الثاني: للقديس أغسطينوس. يرى أن الحرب هنا حرب روحية وليست مادية. يستخدم ضد المسيح وأنصاره “جوج وماجوج” كل طرق القسوة والعنف والخداع والتضليل للفتك بالقديسين لكي ينحرفوا عن الإيمان، لكن الله يسند الشاهدين الأمينين إيليا وأخنوخ بنار الروح القدس السماوية التي تحرق الأضاليل وتنزع الخوف وتسند الإيمان.

بهذه النار يثبت المؤمنون في أيام الشاهدين، وبالأكثر بعد استشهادهما وقتل ضد المسيح، إذ يبكت الروح القدس كثيرين من الأمم واليهود الذين انحرفوا وراء ضد المسيح، وقاوموا الكنيسة، لكي يتوبوا ويرجعوا عن شرهم. أما بالنسبة لإبليس فإن نهايته ستكون مع الوحش والنبي الكذاب إذ يُلقى الأشرار في البحيرة المتقدة بالنار.

الدينونة 11 – 15.

“ثم رأيت عرشًا عظيمًا أبيض،

والجالس عليه والذي من وجهه هربت الأرض والسماء،

ولم يوجد لهما موضع” [11].

بعدما حدثنا عن ملكوت الله الذي في داخلنا ونتمتع به، والسلطان الذي لنا، وما سيحل بالكنيسة من ضيق من جراء حلّ الشيطان في آخر الأزمنة دون أن يتركنا الرب بل يعمل بروحه في الكنيسة، عاد ليطمئن أولاده أنه يعقب هذا بقليل مجيء الرب للدينونة.

وهنا يظهر الرب جالسًا على عرش أبيض إشارة إلى السلام، أو لا يعود يحارب ولا يدافع، لأن الكنيسة كلها صارت في أمان، ويأتي عدوها “إبليس” مقيدًا ليُطرح في النار، وقد هربت من أمامه الأرض والسماء الماديتان! لا يأتي في فمه سيف، لا يظهر هنا كفارس ليحارب، ولا كأسد ليطمئن نفوسًا خائرة، بل جالسًا على العرش لكي يهب للغالبين شركة الأمجاد السماوية.

أما وصفه بأنه “الذي من وجهه هربت الأرض والسماء، ولم يوجد لهما موضع“، فذلك لكي يطمئننا أننا لا نعود بعد إلى الحياة المادية القديمة، فلا نكون في حاجة إلى أرض بما عليها من بحار ومواد طبيعية وغير طبيعية، ولا نحتاج إلى كواكب وأفلاك.

إنه بهذا ينزع من أمامنا كل ذكريات قديمة لحياة امتلأت بالتجارب والأتعاب. معارك كانت بيننا وبين إبليس، بل هي بين الله وإبليس. فأمجاد الأبدية تبتلع الصور القديمة وتنزعها من ذاكرتنا!

“ورأيت الأموات صغارًا وكبارًا،

واقفين أمام الله،

وانفتحت أسفار وانفتح سفر آخر هو سفر الحياة،

ودين الأموات مما هو مكتوب في الأسفار بحسب أعمالهم.

وسلم البحر الأموات الذين فيه،

وسلم الموت والجحيم الأموات الذين فيهما،

ودينوا كل واحد بحسب أعماله” [12-13].

في لحظة واحدة يُدان الأبرار صغارًا مع كبار المكتوبين في سفر الحياة بحسب أعمالهم، ويُدان الأشرار ساكنو الجحيم، الأموات روحيًا أيضًا حسب أعمالهم، لأنه ليس عند الله محاباة.

وهنا نجد:

  1. فتح أسفار… ويرى القديس أغسطينوس أنها رمز إلى فتح سرائر كل البشرية، أي قلوبهم وضمائرهم، حتى يدرك الكل عدل الله.
  2. انفتاح سفر الحياة… الذي هو كشف شخص الرب يسوع وعمله كشجرة حياة، من يأكلها في أيام جهاده على الأرض يعيش إلى الأبد. إنه السفر المفتوح، فيه يقرأ المؤمنون برهم الذي ليس لهم من ذاتهم، بل في شخص الرب يسوع، عندئذ يتهللون قائلين: “إذًا لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع، السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح. لأن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني من ناموس الخطية والموت” (رو 8: 1، 2).
  3. سلم البحر الأموات الذين فيه، وإذ يرمز البحر للعالم لهذا يرى القديس أغسطينوس أن الإشارة هنا إلى الأشرار الذين يأتي عليهم يوم الرب ولم يكونوا قد ماتوا وانتقلوا إلى الجحيم. البحر الذي غرقوا فيه وفي ملذاته سيسلمهم للدينونة الأبديّة.
  4. سلم موت الروح والجحيم من بهما، فدينوا أيضًا على أساس عادل حسب أعمالهم الشريرة.

“وطرح الموت والجحيم في بحيرة النار.

هذا هو الموت الثاني.

وكل من لم يوجد مكتوبًا في سفر الحياة

طرح في بحيرة النار” [14-15].

هذه هي نهاية موت الروح والجحيم، أي نهاية السالكين حسب الجسد، حسب موت أرواحهم والذين صار نصيبهم بعد موتهم بالجسد الجحيم ينقلون إلى الموت الثاني، النار الأبديّة.

ويرى القديس أغسطينوس أن هذا إشارة إلى الشيطان الذي هو رئيس الموتى بالروح، وزعيم سكان الجحيم، لقد طرح في البحيرة المتقدة.

بهذا انتزعت صورة الشر تمامًا ليسجل لنا الرسول في الإصحاحين التاليين الصورة المبهجة لبيت الزوجية السماوي المملوء أمانًا واطمئنانًا، إذ طرح الشرير إلى الأبد بعيدًا.

 تفسير رؤيا 19 تفسير سفر الرؤيا تفسير العهد الجديد
 تفسير رؤيا 21
 القمص تادرس يعقوب ملطي
تفاسير سفر الرؤيا تفاسير العهد الجديد

 

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى