تفسير رسالة رومية أصحاح 1 للقمص أنطونيوس فكري

الأصحاح الأول

رو 1: 1-7

آية(1): “بولس عبد ليسوع المسيح المدعو رسولاً المفرز لإنجيل الله.”

بولس= هي كلمة  لاتينية معناها الصغير، فمن عادة العبرانيين تسمية الشخص بإسمين. وبولس كان إسمه أيضا شاول وتعني مطلوب من الله. ويقول أغسطينوس أن بولس كان نحيف الجسم قصير القامة. وهو فضّل استخدام إسم بولس من قبيل التواضع ومشيراً لأنه أصغر الرسل.

عبد ليسوع المسيح= كان معلمي اليهود يتفاخرون بألقاب مثل سيدي أو معلمي واليهود عموماً يتفاخرون بيهوديتهم والأمم بفلسفاتهم، أما بولس فيعلمهم أنه يفتخر بكونه عبداً للمسيح. وإذا كان الكل عبيداً للمسيح فلماذا يتفاخر اليهودي علي الأممي أو الأممي علي اليهودي. وهو عبد للمسيح لأن المسيح إفتداه وإشتراه بدمه وفكه من الأسر وصار ملْكاً لهُ. ونفهم أن العبودية للمسيح تحرر، ولا يمكن أن يكون الإنسان عبداً للمسيح حقيقة ما لم يختبر في الوقت نفسه الحرية الحقيقية. إن عبد المسيح لا يستعبد لأي إنسان آخر ولا حتي لشهوات جسده الخاصة، ولا يستطيع أحد أن يبعده عن تأدية واجبه، ولا تسيطر عليه عادة معينة، ولا يستطيع العالم أن يغريه بمفاتنه أو أن يجذبه إليه. أنه يعيش في الأرض كإنسان سماوي، وبعد أن كان عبداً للخطية صار كاهناً وملكاً. هو يعيش في الجسد ولكن يسلك في الروح ليسوع المسيح. وهذا ما جعل حتى إخوة المسيح بالجسد يفتخرون بأنهم عبيد له، ولم يفتخروا بكونهم أقرباء له بالجسد (يه1 + يع1:1). فبولس بعد أن ظهر له المسيح في الطريق شعر أنه صار مكرساً للمسيح يسوع من كل قلبه ونفسه وجسده.    المدعو رسولاً= كأن لا فضل له في إيمانه ولا إرساليته بل هي دعوة من الله. وهو يسمي نفسه رسولاً مثل الإثني عشر. وتظهر أهمية هذه العبارة خصوصاً في الرسائل التي حاول أهلها ان يتنكروا لأحقية بولس الرسول في الخدمة وبهذا يشككوا في تعاليمه. وكان بولس مضطراً لأن يثبت أنه مرسل من الله لإثبات صدق تعاليمه لتثبيت المؤمنين.

المفرز لإنجيل= مفرز تعني بريسي بالآرامية ومنها فريسي (فريزي) أي مختار أو معين. أي أن بولس إنتقل من فريسيته اليهودية إلي فريسية أخري بنعمة الله، هي فريسية الإنجيل، أي أن الله إختاره وأفرزه لكي يبشر بالإنجيل. وكان الفريسيون اليهود مفروزون لدراسة الناموس، وكلمة فريسي تناظر دكتوراه في اللاهوت. وكان بولس أحد هؤلاء الفريسيين. والله بسابق علمه أفرزه وعينه للتبشير بالإنجيل. وكانت تلمذته لغمالائيل نوع من الإعداد، ولكن الله سبق وأفرزه من البطن (غل15:1 + أع2:13 + أر4:1 ،5) لإنجيل الله= إنجيل تعني بشارة مفرحة. وهنا يقول إنجيل الله. وفي مواضع أخري يقول إنجيل يسوع المسيح (رو9:1 إنجيل ابنه). فالله هو مصدر الخلاص بيسوع المسيح، جوهر الإنجيل أو جوهر البشارة المفرحة هي في مجيء الرب يسوع وفدائه للبشرية. الله قد سبق منذ القديم وأعد برنامج الخلاص المفرح للبشر الذي تحقق بمجيء المسيح له المجد.

والقديس إمبروسيوس لاحظ أن اسم المسيح في هذه الآية قد استخدمه الرسول قبل إسم الله في الترتيب، وإستخدم هذا في الرد علي آريوس أن الله والمسيح متساويان. وهذا يتضح أيضاً من كون أن الإنجيل هو إنجيل الله وإنجيل ابنه في نفس الوقت (آية1، آية9).

 

آية (2): “الذي سبق فوعد به بأنبيائه في الكتب المقدسة.”

الكتاب المقدس موحى به من الله. وهذه الكرازة بالخلاص سبق الله فوعد بها في القديم بواسطة الأنبياء، فقبل أن يعمل الله أعمالاً عظيمة يسبق ويهيئ لها زماناً طويلاً، هذا بالإضافة إلي أن نبوات الأنبياء عن الخلاص بالمسيح تشير لأن هذا الخلاص هو خطة أزلية، وأن الله قد أعد خلاص البشر منذ الأزل. وبولس هنا يطمئن سامعيه أن إنجيله الذي يبشر به قد وضعت أساساته منذ البدء. وأن كرازة بولس لا تتعارض مع الكتاب المقدس لليهود بل هي تفسره وتشرحه.

 

آية (3): “عن إبنه الذي صار من نسل داود من جهة الجسد.”

عن إبنه= عن راجعة للآية السابقة، فوعود الأنبياء كانت عن المسيح ابنه. الذي صار من نسل داود= وقارن مع (رو3:8) لنرى سبق وجود الإبن قبل التجسد. ويلاحظ في كلمة إبنه انها في أصلها اليوناني مسبوقة بأداة تعريف، إشارة إلي بنوة المسيح الوحيدة الفريدة، التي بالطبيعة وليست بالتبني مثلنا. وهذا الإبن الأزلي الذي هو إبن الله صار إبناً للإنسان = من جهة الجسد= فالمسيح له بنوتان، بنوة لله وبنوة للإنسان هو إبن الله وإبن الإنسان. من نسل داود= فالعذراء مريم من نسل داود. وقيل عن المسيح أنه من ذرية داود (رؤ16:22).

صار= أخذ حالة جديدة علي حالته، إتحد لاهوته بناسوته كإتحاد الحديد بالنار، ولكن لاهوته لم يتأثر ولم يتحول إلي ناسوت، وناسوته كان ناسوتاً كاملاً، شابهنا في كل شئ ماعدا الخطية وحدها. لقد إنتقل من حالة إبن الله غير المنظور (بلاهوته) إلي حالة إبن الله المنظور في الجسد. ولم يظهر للناس سوي أنه إنسان عادي. حينما أخذ جسداً أخفي لاهوته، ولكن لاهوته ظل كاملاً دون أن يزيد أو ينقص، فهو كامل مطلق لأنه الكل. ولكن بقيامته ظهر أنه إبن الله.

 

آية (4): “وتعين ابن الله بقوة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات يسوع المسيح ربنا.”

تَعَّينَ= أي ظهر ما كان مخفياً. هذه لا تعني أنه صار فيما بعد إبن الله. بل لقد ظهرت لنا بنوته لله بواسطة قوة فائقة للطبيعة ويشهد لهذه البنوة قيامته من الأموات. كلمة تعَّين تعني أتضح انه /ظهر/ شُهِدَ لهُ/ صدق علي أنه/ تبين أنه/ إعترف بأنه/ تحقق بأنه ابن الله.

بقوة= الإعلان عن بنوة المسيح لله وإثبات لاهوته جاء بقوة. فالقيامة كانت بقوة بالقيامة من الأموات= فالقيامة من الأموات والإنتصار علي الموت عمل قوي جداً. من جهة روح القداسة= روح القداسة ليس هو الروح القدس. فالروح القدس لم يكن هو الذي أقام المسيح، لأن المسيح كان لاهوته متحداً بناسوته، والذي أقامه هو لاهوته. ولماذا قال روح القداسة؟ هذا يعني أن سبب قيامة المسيح هو إنتصاره علي الخطية، إذ كان بلا خطية، فالخطية هي التي تأتي بالموت، ولأن المسيح كان بلا خطيةمن منكم يبكتني علي خطيةولأنه إنتصر علي إبليس في حروبه ولأنه قالرئيس هذا العالم يأتي وليس له فيَّ شئلهذا انتصر علي الموت بسبب قداسته. المسيح كان وهو علي الأرض مخفياً لاهوته في ناسوته، ولم يظهر لاهوته إلا في أنتصاره علي الموت وعلي الجحيم الذي فتحه واخرج منه نفوس الأبرار. فقوله روح القداسة هذا يشير لأن الذي أقام المسيح لاهوته، ولكن ذلك راجع لقداسة المسيح بالجسد وكلمة تعيَّن هنا هي في مقابل كلمة صار في الآية السابقة.

 

آية (5): “الذي به لأجل اسمه قبلنا نعمة ورسالة لإطاعة الإيمان في جميع الأمم.”

الذي به لأجل إسمه= قارن مع (أف5:1،6،12). الذي به= نحن لا نحصل علي شئ من الآب إلا من أجل المسيح. لذلك يطلب منا المسيح أن نطلب من الآب بإسمه (يو24:16،26). ولذلك تضيف الكنيسة علي الصلاة الربانيةبالمسيح يسوع ربنافنحن لا يمكن قبولنا أمام الآب ولا قبول طلباتنا إلاّ بالمسيح. ومعني كلام الرسول هنا أنه أخذ ما أخذ من خلاص ورسولية بالمسيح. وما الهدف؟ لأجل إسمه= أي ما أخذنا فلنعمل به ونتاجر به لأجل مجد اسمه. وماذا أخذ بولس الرسول؟ نعمة ورسالة= نعمة (إرجع للمقدمة) ورسالة= أي إرساليته كرسول للأمم.

نعمة= هنا بولس يشير لعمل النعمة فيه التي حولته من مضطهد للكنيسة إلي مسيحي حصل علي الخلاص، بل وإلي رسول. إن الله دعاه ويداه ملوثتان بالدماء ليغير طبيعته فيصير في المسيح خليقة جديدة (2كو17:5). وعمله كرسول كان من أجل الأمم ليطيعوا الإيمان: لإطاعة الإيمان= نري بولس الذي يشعر بنعمة الله التي غيرته، يري أن الله قادر أن يغير الأمم أيضاً فيؤمنوا ويطيعوا الله. إطاعة الإيمان= تعني أننا يجب أن نتقبل قضايا الإيمان وحقائقه بكل خضوع، فحقائق الإيمان هي أمور موحى بها وليست للمناقشات العقلية، علينا ان نخضع الذهن لإعلانات الله بالصلاة في جميع الأمم= الرسالة هي لكل الأمم بلا إستثناء.

 

آية (6):”الذين بينهم أنتم أيضاً مدعوو يسوع المسيح.”

 ومن بين هؤلاء الأمم فإنكم يا أهل رومية مدعوين لكي تكونوا من خاصة المسيح. ولا فضل لأحد في هذه الدعوة بل هي نعمة الله المجانية التي لو قبلها أحد لآمن بالمسيح. وهذه النعمة هي به ولأجل اسمه (آية 5).

 

آية (7): “إلى جميع الموجودين في رومية أحباء الله مدعوين قديسين نعمة لكم وسلام من الله أبينا والرب يسوع المسيح.”

مدعوين قديسين= المسيحية عند بولس هي قداسة، والإيمان بالمسيح هو تقديس، والمؤمنين بالمسيح قديسين، أي مفروزين عن العالم ليلتصقوا بالله، ويكونوا مخصصين له. وقد قبلوا روح الله ليعينهم علي ذلك، وعلي أن يحيوا بالتقوي والطهارة والقلب العابد. والقداسة هي سلم نصعد عليه فليس الكل قد وصل للكمال، بل القداسة درجات. وقوله مدعوين= إذاً هم مثله، فهو أيضاً مدعو (آية1). فهو يفتخر بخدمة أحباء الله المدعوين.

نعمة لكم وسلام= كلمة نعمة هي تحية اليونانيين وكلمة سلام هي تحية اليهود، فهو يكتب للإثنين. ولكن بمعني آخر فالنعمة هي عمل الروح القدس في المؤمن والذي نتيجته السلام، لذلك فالنعمة تسبق السلام رو 1:5 والنعمة هي أعمال رحمة الله عموماً، الفداء وإرسال الروح القدس، وكل الخير الذي أعطاه الله لنا، والخير الأعظم هو إرسال الروح القدس، ومن نعمة الله غفران خطايانا ومنحنا رتبة البنوة. ومن الله أبينا والرب يسوع المسيح= هذه تشير لتساوي الآب والإبن فالنعمة والسلام يصدران عن كليهما.

 

 

رو 1: 8-17

آية (8): “أولاً أشكر الهي بيسوع المسيح من جهة جميعكم أن إيمانكم ينادى به في كل العالم.”

الرسول يبدأ بالجانب الإيجابي ليشجعهم، فهو هنا يمدح إيمانهم قبل أن يبدأ الهجوم. وبولس لم يراهم، ولكنه فرح بنمو الكنيسة في كل مكان، لذلك علينا ان نصلي لنمو الكنيسة وإنتشار الإنجيل. ولنتعلم من بولس أن نبدأ دائما بالشكر علي ما يعطيه لنا الله، وما يعطيه من خير للآخرين كأنه أعطاه لنا. إلهي= جميل جداً أن يقول إلهي. هذه مثلأنا لحبيبي وحبيبي ليهو يشعر بالعلاقة الخاصة التي تربطه بالله، هو إلهي وقد إمتلكني، وأنا عبده الذي يشعر بمحبته فأسلم نفسي له كعبد لثقتي في محبته. والله يرد في المقابل ويقول أنا إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب.

بيسوع المسيح= فنحن غير مقبولين أمام الآب إلا بالمسيح موضع سروره. إيمانكم= هم لهم إيمان ولكننا سنري أن بولس يريد أن يصحح مفاهيمهم ويخلصهم من تعاليم الناموس. ولكن واضح أن إيمانهم ذاع وانتشر في كل العالم.

 

آية (9): “فان الله الذي أعبده بروحي في إنجيل إبنه شاهد لي كيف بلا انقطاع أذكركم.”

أعبده بروحي= وقارن مع عبادتكم العقلية (رو1:12). وطالما نسمع هنا عن عبادة بالروح، فقطعاً توجد عبادة بالجسد. هذه هي عبادة الفروض والواجبات، هي ممارسات بدون قلب. كمن يصوم ويتباهي أمام الناس أو حتى أمام نفسه بأنه صام أكثر من الجميع، وهكذا في مطانياته وصلواته ولكن مثل هذا يُعِّرفْ شماله ما تفعله يمينه. وخطورة هذا النوع من العبادة أنه لو صادفت هذا الإنسان تجربة، سريعاً ما يلوم الله أنه سمح له بهذه التجربة، ولم يذكر له خدمته وعبادته وأصوامه وصلواته.. وهذه جربها بولس الرسول في يهوديته (فهذه طريقة الفريسيين في العبادة) ولم تشبعه ولم تعطه فرحاً وسلاماً.

أمّا العبادة بالروح، فهي عبادة يقودها الروح، هي عبادة في القلب، ولا تظهر أمام الناس، بلا مظاهر ولا إدعاء، بل في إنسحاق للقلب وخضوع لصوت الروح القدس، والروح القدس لا يجبر أحد علي شئ، بل هو يقنع الإنسان المؤمن إقناعاً عقلياً بكل ما سيقوم به في عبادته (لذلك فلقد سميت عبادة عقلية رو1:12) وبهذا تكون العبادة بحرية الإرادة أي بكامل حريتنا، وبإرادتنا، وبإختيارنا، من كل القلب وبكل رغبة وشوق ويضع الإنسان كل طاقاته الروحية والنفسية والجسدية في خدمة الله والروح يقود كل شئ، والإنسان يكرس كل شئ لله.

فمثلاً يفتح الروح عيني المؤمن علي صورة المسيح المصلوب، ويقنع المؤمن قائلاً هل تتمتع بالطعام اللذيذ والمسيح متألم، هنا يقدم الإنسان صوماً لا ليتباهي به بل ليشترك مع المسيح في ألمه، هنا يكون كأم رفضت أن تأكل لمرض إبنها، وذلك عن حب، ليس طمعاً في أجر ستحصله منه لذلك فمن يقدم هذا النوع من العبادة، لن يطالب الله حين وقوعه في تجربة، بأن يرفع عنه التجربة مذكراً الله بأعماله. فمن يعبد بالروح هو يقدم عبادته لله عن حب ليس طمعاً في اجر. ومثل هذا يتلذذ بعبادته وتشبعه عبادته، فالحب مشبع. وهكذا في الصلاة، فالإنسان يبدأ بأن يغصب نفسه (جهاد) تم تبدأ النعمة عملها فيتلذذ الإنسان بصلاته ولكن في مرحلة التغصب، يسمع المؤمن صوت الروح القدس، معلناً له حب المسيح له، لقد بذل المسيح لأجلك، أفلا تقف للصلاة وتفرح قلب الله بك. ولو إستجاب وإقتنع بصوت الروح القدس لوجد لذة في صلاته. فهل لو كان يتلذذ في صلواته سيطالب الله بأجر مع أن الله قد أعطاه هذه اللذة. لاحظ أن بولس الرسول في مسيحيته قد إختبر هذا النوع من العبادة، فإختبر الفرح والسلام الذي يفوق كل عقل. بل أن الروح القدس في هذا النوع من العبادة يعطي للمؤمن أن يشعر بمشاعر وأحاسيس حب الله فيبادله حباً بحب، وربما لا يجد كلمات يعبر بها عن هذا الحب الذي ملأ قلبه فيئن فقط (رو26:8). والعبادة بالروح لا تكون بالضرورة باللسان فقط، بل في شركة عميقة مع الله، هي شركة بلا إنقطاع تنفيذاً لقول الرسولصلوا بلا إنقطاع” (1تس17:5). هي شركة في الإستيقاظ وهي في النومأنا نائمة وقلبي مستيقظ” (نش2:5) وهي في المنزل وفي الكنيسة، في العمل وفي الطريق.

ولكن من قصة إيليا (امل12:19،13) نسمع أن إيليا إستمع لصوت الله في الهدوء، فكيف نسمع صوت الله وسط ضجيج العالم. لابد لنا من وقفة هادئة في المخدع يومياً، في صلاة وفي تأمل للكتاب حتى نسمع صوت الروح القدس في داخلنا. وكيف نسمع صوت الروح القدس ونحن غارقين في الخطايا التي تغلق حواسنا الروحية، إنما لأنقياء القلب فقط إمكانية رؤية الله وسماع صوته (مت8:5) فلن نسمع صوت الروح في داخلنا ما لم نقدم توبة أولاً. وكيف نسمع صوت الروح القدس إن كنا في صلاتنا نتكلم طوال الوقت، لذلك علينا ان نصمت بعض الوقت لنعطي فرصة للروح القدس أن يتكلم. وحساسية أذاننا تزداد مع الوقت، وتضيع الحساسية إذا عاندنا صوت الروح القدس، وتزداد الحساسية حين نخضع لصوته. وإذا استمعنا لصوته يعطينا الإقناع العقلي. إذاً العبادة بالروح هي عبادة عقلية.

ومن يقدم عبادة بالجسد لا يري في نفسه غير أنه كامل، إذ أنه يفعل كذا وكذا، أما من يقدم عبادة بالروح، فإن الروح القدس يفتح عينيه علي خطاياه وعدم إستحقاقه، لذلك يقول بولس الرسولالخطاة الذين أولهم أنا” (1تي15:1). وبينما من يقدم عبادة بالجسد نجده يلوم الله إذا وقعت له تجربة، نجد من يعبد الله بالروح، إذا جاءت عليه تجربة يقول أنا أستحق هذا وأكثر، لأنه يري خطاياه، بل سيشعر بفرح لأنه طالما أن الله يؤدبه، إذاً هو يحبه (عب6:12). بل إن أتاه خير يشعر بأنه لا يستحقه، كما صرخ بطرسأخرج يارب من سفينتي” (لو8:5) إذ شعر بأنه خاطئ لا يستحق كل هذه الخيرات.

بلا إنقطاع أذكركم= الذي يصلي بالروح لا يهتم بنفسه بل هو مشغول بالآم وخلاص نفوس الآخرين، يشكر علي توبة فلان، ويبكي علي خطية فلان، لأنه سيهلك بسببها، ويصرخ لشفاء فلان، يطلب السلام للعالم المضطرب المتألم. مثل هذا سيتشبه بالله في إهتمامه بالناس.

في إنجيل إبنه= هذه العبادة بالروح تظهر أيضاً في كرازتي وخدمتي وتبشيري بإنجيل المسيح.

 

آية (10): “متضرعاً دائماً في صلواتي عسى الآن أن يتيسر لي مرة بمشيئة الله أن آتي إليكم.”

هو يشعر بالمسئولية تجاه روما، فهو خائف علي الكنيسة من التهود. ولكن لنتعلم أن ليس كل ما نريده يوافق مخططات الله.

 

آية (11): “لأني مشتاق أن أراكم لكي أمنحكم هبة روحية لثباتكم.”

أمنحكم هبة= سؤال.. هل لو كان بطرس موجوداً في روما منذ 16 سنة وقد أسس كرسيها كما يقول الكاثوليك، هل كان يصح أن يقول بولس هذا وأين بطرس؟ ولماذا لا يمنحهم بطرس هذه الهبة؟. والهبة التي يريد بولس أن يمنحها هي هبة روحية= لأنها من عمل الروح القدس، وهي تثبيتهم في الإيمان الصحيح وإبعادهم عن التهود، وهي أيضاً البركة الرسولية.

 

آية (12): “أي لنتعزى بينكم بالإيمان الذي فينا جميعا إيمانكم وإيماني.”

نلاحظ هنا رقة وإتضاع بولس الرسول، فهو يظهر هنا إحتياجه لهم، وأنه سيتعزي بإيمانهم (فالمروِي هو أيضاً يروَي أم25:11) وهم سيتعزون أي يفرحون بإيمانه. ولكننا نلمح هنا أن الرسول يقول أن إيمانهم مختلف عن إيمانه، فإيمانهم إستلموه من مسيحيين من أصل يهودي ومتأثرين بيهوديتهم. لذلك ففي (15:1) يقول أنه مستعد لتبشيرهم أي تصحيح إيمانهم. فحتي الأمم منهم إستلموا الإيمان علي يد يهود، وهو يريد أن يصحح الإيمان ويلغي ما هو متهود فيه مثل لزوم الختان للخلاص.. الخ.

 

آية (13): “ثم لست أريد أن تجهلوا أيها الإخوة أنني مراراً كثيرة قصدت أن آتي إليكم ومنعت حتى الآن ليكون لي ثمر فيكم أيضاً كما في سائر الأمم.”

الرسول لا يريد الخدمة السهلة، بل هو يريد أن يذهب ليصحح لهم إيمانهم. ولنلاحظ أنه كثيراً ما نطلب طلبات جيدة، كما طلب الرسول هنا والله يؤجل الإستجابة لوقت مناسب يراه الله (هذا أسماه ملء الزمان) ثمر= حيثما يزداد الشر يريد الرسول أن يذهب ليكون له ثمر أي مؤمنين إيماناً صحيحاً، وهذا لكي تعلن قوة الإنجيل بالأكثر.

 

آية (14): “أني مديون لليونانيين والبرابرة للحكماء والجهلاء

الرسول يشعر أن الله وكّله علي وكالة وأعطاه نعمة لأجل كل الأمم، وهو شعر بأن هذا دين في رقبته يود لو صفي حسابه معهم بأن يجعلهم يؤمنون. وهو شعر بأن هناك ديناً في رقبته:

1.  فهو مقدِّر لعظمة ما أخذه من نعم. 

2. لمحبته لكل الناس وإشتياقه لخلاصهم.

3. هو يشعر بأن ما أخذه لا يستحقه إذ يشعر ببشاعة ماضيه ومع كل هذا أخذ. لذلك شعر بنوع من الإلتزام نحو الذين لم يتذوقوا حريته التي في المسيح والمجد الذي أخذه. لذلك قالإذ الضرورة موضوعة عليَّ فويل لي إن كنت لا أبشر” (1كو16:9). البرابرة= كان اليونانيين والرومان يعتقدون انهم هم الحكماء وباقي الناس برابرة.

عموماً فمن يتذوق يشعر بأنه يريد أن الكل يتذوق. بل يشعر بحزن إن حُرِمَ أحد من نعمة اللهمن يعثر وأنا لا ألتهب، من يضعف وأنا لا أضعف“.

 

آية (15): “فهكذا ما هو لي مستعد لتبشيركم أنتم الذين في رومية أيضاً.”

ما هو لي: أي أنني مكلف بهذا، أن أكرز بالإنجيل بين الأمم، ما هو لي أي أن هذا هو عملي الذي خلقني الله لأجله. أنتم الذين في رومية= هو يريد ان يبشر في روما مركز الوثنية والخطية ومستعد لإحتمال أي ألم في سبيل ذلك. أيضاً= هو تعبير يشير لصعوبة التبشير في روما التي تمجد القوة، وهو سيذهب ليبشر بنجار مصلوب وهو موت العبيد الذين إرتكبوا أبشع الجرائم، قال أحد فلاسفة الرومان: “أتمني أن لا تخطر فكرة الصلب علي بال إنسان روماني شريف

لتبشيركم= إذا فإيمانهم محتاج لمراجعة جذرية، بسبب التقاليد اليهودية التي دخلت لإيمانهم. ولشعوره بالدين نحوهم هو مستعد للذهاب إليهم.

 

آية (16): “لأني لست استحي بإنجيل المسيح لأنه قوة الله للخلاص لكل من يؤمن لليهودي أولاً ثم لليوناني.”

لست أستحي= قال في غلاطية حاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع.. (غل14:6). والرسالة هنا موجهة للرومان أغني وأعظم دولة في العالم. وهم في رومية يفتخرون بالقوة والعظمة ويعيشون في زهو وكبرياء. لكن بولس لا يستحي بالإنجيل الذي يبدو في ظاهره ضعفاً، هو لا يستحي بأن يبشر بأن نجاراً مات مصلوباً بين لصين، وهذا يدعو لإشمئزاز الرومان، وربما كان مسيحيو روما يشعرون بالإستحياء من هذه الفكرة شاعرين بالزهو أنهم من سكان روما القوية سيدة العالم والرسول أراد ان يكسر من زهوهم، وحتي لا يستحوا قال: لا أستحي وهو لا يستحي لأنه شاعر بقوة عمل الله. أما أهل غلاطية فهم بؤساء وفي مذلة لذلك يقول لهم أفتخر. عموماً فالطريق الذي يبدأ بلا أستحي ينتهي بأفتخر. ولو سألني أحد أتعبد المصلوب؟ أقول نعم فهذا الصليب علامة محبته الإلهية غير المتناهية لي وعنايته بي.

لأنه قوة الله للخلاص= هو لا يخجل من إنجيل الله لأنه يشعر بقوة هذا الإنجيل. فالإنجيل ليس رسالة نظرية أو فلسفة فكرية تعليمية، إنما هو عمل إلهي جبار، وحركة حب إلهي لا تتوقف لتبلغ بالإنسان إلي شركة الأمجاد الإلهية. هو قوة يشعر بها بولس الرسول وسيشعر بها كل مؤمن. هو قوة مجالها خلاص الإنسان، قوة تعمل في الفكر والإرادة والنفس والشعور والجسد. بعظة واحدة من بطرس آمن 3000 لأن الكلمة لها قوة جبارة غيرت الدولة الرومانية نفسها للمسيحية. فالإنجيل قائم علي عملية تغيير كبري بواسطة المسيح، تعطي الخلاص وتهبه للذين يؤمنون بالمسيح. لليهودي أولاً= زمنياً فقط، فاليهود كانوا أسبق في إرتباطهم بالله. وقد أخذوا المواعيد بالخلاص وأئتمنوا علي ناموس الله أولاً. ولهذا فعليهم واجبات أكثر فلا محاباة، هم عليهم الإيمان بالمسيح أولاً ثم أن يبشروا هم الأمم ثم لليوناني: فالأمم أيضا مدعوين.

 

آية (17): “لأن فيه معلن بر الله بإيمان لإيمان كما هو مكتوب أما البار فبالإيمان يحيا.”

فيه معلن بر الله= هذا الإنجيل الذي أبشر به هو قوة الله للخلاص (آية 16) وكيف يخلص؟ بأن يجعل المؤمن باراً. وهل يستطيع كل مؤمن أن يصبح باراً؟ قطعاً فعمل نعمة الله التي تبرر عمل قوي جداً جداً. الله يعطي للمؤمن المعمد والممسوح بزيت الميرون، أن يحل عليه الروح القدس الذي له قوة جبارة في تغيير حياة المؤمن، من حياة الخطية إلي حياة البر، وتغيير شاول الطرسوسي نفسه إلي بولس الرسول خير شاهد لذلك (راجع معني التبرير في المقدمة). ولنفهم أنه علينا أن نغصب أنفسنا كمؤمنين لنفعل البر (جهاد إيجابي) والنعمة تعطينا أن نتلذذ ونتعزي بعمل البر. ولاحظ أننا نصير أبراراً بحياة المسيح فينا. ولاحظ أن بر الناموس كانإعمل فتحياأمّا في المسيحية فالتبرير يبدأ بالإيمان بالمسيح فلا بر خارج عن الإيمان بالمسيح. ثم يأتي دور المعمودية التي فيها نموت ونقوم مع المسيح بحياته. ويأتي بعد ذلك دور حلول الروح القدس الذي يثبتنا في المسيح، وبقدر ما نثبت في المسيح ننمو في البر. ونحن نثبت في المسيح بقدر ما نصلب أنفسنا مع المسيح ونجاهد (جهاد سلبي وجهاد إيجابي) لذلك فمدخل التبرير في المسيحية هو الإيمان معلن بر الله بإيمان. بإيمان لإيمان= الإيمان ينمو ويزداد (2تس3:1+ لو5:17). والله قسم لكل منا قدر من الإيمان (رو3:12) ونحن أمّا ننمي هذا القدر أو ننقصه وكل إيمان نبلغه يعبِّر عن مستوانا الروحي الذي وصلنا إليه، وطوبي للجياع والعطاش إلي البر .. (مت6:5). مثل هؤلاء ينمو باستمرار مستواهم الروحي وبالتالي ينمو إيمانهم من إيمان لإيمان أعمق وأعلي وهذا متوقف علي جهادنا (سلبي وإيجابي) وعلي خضوعنا وتسليمنا الحياة بين يدي الله بشكر وبلا تذمر، بهذا ينمو الإيمان، بل ننمو في المجد، ومن مجد إلي مجد (2كو18:3). وقطعاً فكلما نزداد في درجتنا الإيمانية سنزداد في عمل البر وحياة البر. ولاحظ أن الإيمان هو ثمرة للإمتلاء من الروح القدس (غل22:5، 23) والإمتلاء من الروح يأتي بالجهاد (راجع المقدمة).

أما البار فبالإيمان يحيا= هذه من نبوة حبقوق 4:2. وكان حبقوق يقصد بها أن بابل ستؤدب شعب الله فقط لكنها لن تبيده لسبب بسيط هو أن هذا الشعب شعب الله. والذين عبدوا الأوثان ستبيدهم بابل، أمّا الأبرار الذين يؤمنون بالله فسيحيون، بابل ستؤدبهم فقط لَيكْملوا، لكنها لا تستطيع أن تبيدهم. لكن بولس فهم الآية أن البر يكون بالإيمان وليس بالأعمال (أعمال الناموس) كما فهم اليهود. وبولس عاش في يهوديته يمارس أعمالاً جيدة لكنه لم يتذوق حياة البر النابعة عن إصلاح الداخل الذي حدث له بالإيمان. خلال أعمال الناموس كان يشعر بفساد الداخل، وأنه يعمل أعمالاً صالحة ولكن مع وجود كبت، وحنين للخطية. أما في ظل الإيمان فوجد نفسه يعمل البر بسهولة وبرغبة صادقة.

تأمل:- في الآية كما قصدها حبقوق وبنفس مفهومه، فمن يقع في تجربة الآن. عليه أن ينظر لله بإيمان بأن الله سيرحمه ويتحنن عليه، ويحول الضيقة لخيره فهو صانع خيرات. وهذا عكس من يخاصم الله وقت التجربة. في هذه الآية نجد أن المؤمن ينمو بإستمرار في بر المسيح، ولكن هذا لا يعني أننا نصير بلا خطية، فطالما نحن في الجسد فنحن معرضون لأن نخطئ ولكن التوبة والإعتراف يغفران الخطية.

 

رو 1: 18-32

آية (18): “لأن غضب الله معلن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم الذين يحجزون الحق بالإثم.”

لأن: هذه تعني أن هذه الآية  متعلقة بما قبلها. والمعني ان خطايا الناس أغضبت الله=  غضب  الله معلن من السماء= لذلك كان هذا التبرير بالإيمان ضرورياً. هذا الغضب ظهر ضد كل من لا يسلك في صلاح ووقار من نحو الله. وضد من خالف الناموس الطبيعي الأخلاقي ولكل من تنكر للحق وضل وراء العبادة الوثنية وحياتها وممارساتها الفاجرة. وبولس هنا يرسم في الآيات التالية صورة للعالم بدون بر الله أي بدون المسيح، والإنحدار الذي وصلت إليه البشرية مما إستوجب غضب الله. وكانت البشرية بحالها هذا تستحق الإفناء كما حدث في الطوفان، ولكن الله وعد نوح بأنه لا يكرر الطوفان إذ هو يريد حياة العالم. والرسول بدأ بشرور الأمم في هذا الإصحاح قبل أن يذكر شرور اليهود حتى لا يُتهَم بأنه معادي لليهود. 

لكن كان الأمم قد كسروا الناموس الطبيعي واليهود قد كسروا الناموس الموسوي لذلك صار الكل في حاجة لتدخل إلهي كي يتبرروا بالإيمان بالمسيح. وبهذا صار هناك طريقين للبشر، إمّا الإيمان بالمسيح للتبرير والنهاية مجد، أو السير في خطايا تغضب الله والنهاية هلاك (أنظر الرسم). الله أعلن البر في المسيح ليبطل الغضب. ومن يؤمن يتبرر ومن لا يؤمن ينصب عليه الغضب. وكان البر بالمسيح معلن في الكتاب (آيات 16، 17).

الذين يحجزون الحق بالإثم= هذه الخطايا التي كان الوثنيون يمارسونها حجزت الحق أي جعلته غير ظاهر ولا واضح، تعبدهم للأوثان الباطلة وعدم تعبدهم لله الحق عطل ظهور الحقيقة، وهذه عكسليري الناس أعمالكم الصالحة فيمجدوا أباكم الذي في السموات“. عموماً طريق الخطية يقود للعمي أمّا طريق النقاوة فهو طريق الإمتلاء من الروح القدس الذي يفتح الحواس الروحية، ومن حواسه الروحية مفتوحة فهو حي، والعكس. لذلك قيللك إسم أنك حي وأنت ميت” (الخطية أغلقت حواسك الروحية) (رؤ1:3) وعكس ذلك إذ عاد الإبن الضال تائباً قيلابني هذا كان ميتاً فعاش“. والروح القدس أيضاً هو روح النصح (2تي37:1). وهو الذي يعلمنا كل شئ (عب11:8) لذلك حين جاء المسيح وهو الحق لم يعرفه اليهود بسبب خطاياهم، لكن كان هناك من عرفه. فحب المال والحسد أعمي عيون رئيس الكهنة. وما يقال علي العينين يقال علي بقية الحواس. وفي قصة القديس أغسطينوس، يقول في إعترافاته انه في خطيته قبل أن يؤمن وجد الكتاب المقدس، كتاباً عادياً أقل من باقي الكتب (كانت عينه مغلقة عن رؤية الحق، كانت خطاياه تحجز عنه رؤية الحق). أما بعد الإيمان والتوبة كان يقرأ الكتاب المقدس وهو يبكي. والسيد المسيح يقول تعرفون الحق والحق يحرركم (يو32:8). فمن لا يختار المسيح الحق سيختار العالم والخطية أي الباطل، ويكون مستعبداً له، يكون هذا الباطل سيداً وإلهاً له (كالمال مثلاً). أما من عرف المسيح تنفتح عينه علي مجد المسيح فيحسب كل الأشياء التي في العالم نفاية (في8:3) والبداية نقاوة القلب بالتوبة. والعكس فمن ملأت الخطية قلبه ورفض الله ينحدر لمستوي متردي، فالمصريين وغيرهم عبدوا الحيوانات واليونانيون عبدوا الأمراض.

 

آية (19): “إذ معرفة الله ظاهرة فيهم لأن الله أظهرها لهم.”

إنهم يحجزون الحقيقة بسبب إنكارهم لله وعبادتهم الفاجرة للأوثان فهل لهم أن يعتذروا بأنه لم يكن لهم ناموس؟ الإجابة لا عذر لهم.

لأن المعرفة الحقيقية عن الله يستطيع العقل البشري أن يتوصل لها. فالله أعد عقول البشر ليهتدوا إليه، الله غرس بذرة الإيمان في كل إنسان. والله أعطي أيضاً لكل إنسان ضمير يعرف به الحق (رو14:2،15). فمجرد التأمل في خلقة الإنسان أو العالم أو الكون يثبت ضرورة وجود هذا الإله. وكثيرون من الفلاسفة شعروا بهذا وقالوا أن الإوثان خرافة وانه لابد أن يكون هناك إله وراء هذه الطبيعة ينبغي أن نعبده. وهذا الشعور بوجود إله ندركه من خلال أعماله هو ما يميز الإنسان عن الحيوان. ولاحظ قبول الأطفال لله ومحبتهم له وتصديقهم للحقائق الإلهية. إذاً إن كان الله قد أعطي لليهود ناموس موسي، فهو أعلن عن نفسه للوثنيين خلال الطبيعة المنظورة (مز1:19) فالله لا يبقي نفسه بلا شاهد.

 

آية (20): “لأن أموره غير المنظورة تُرى منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته حتى أنهم بلا عذر.”

أموره غير المنظورة= invisible nature أي قدراته الإلهية. فالله أظهر قوته في خليقته التي صنعها من أجل محبته لنا. لكن تظل طبيعته الإلهية غير منظورة للإنسان، ولا يمكن بعيوننا الجسدية أن ندرك كماله، ولكن يمكن ان ندركه من خلال أعماله: المصنوعات السرمدية= أزلية أبدية، أي بلا بداية ولا نهاية، والمعني ان الله لم يخلقه أحد، هو واجب الوجود، هو القوة وراء كل المخلوقات والمصنوعات حتي أنهم بلا عذر= هذه عن الوثنيين. وهم بلا عذر لأنه إذا كان يمكن إدراك الله بعقولنا فلا عذر لهم ولا لأي إنسان يُنكر وجود الله. ونلاحظ أن بولس الرسول كرر هذه القول بالنسبة لليهود في الإصحاح الثاني، فلا عذر للوثنيين ولا عذر لليهود. لا عذر للوثنيين الذين عبدوا المخلوق وتركوا الخالق، ولا عذر لليهود الذين أخطأوا في حق الله. وكم وكم نحن بلا عذر نحن المسيحيين ونحن هياكل للروح القدس.

 

آية (21): “لأنهم لما عرفوا الله لم يمجدوه أو يشكروه كإله بل حمقوا في أفكارهم وإظلم قلبهم الغبي.”

هم بلا عذر لأنهم علي الرغم من أنهم بواسطة ما في المصنوعات وما في الخليقة من عجائب، وهذه أعطتهم أن يدركوا ويعرفوا أن وراء كل هذا لابد من وجود إله= لأنهم لما عرفوا الله. = كلام الرسول يعني انهم أو أن الإنسان أولاً عرف الله، وأدرك وجوده، وعرف حكمته التي خلق بها هذه الأشياء. فما الذي حدث؟ كيف بدأ الإنهيار؟ لم يمجدوه أو يشكروه= من أجل هذه المراحم العديدة التي وهبها لهم. فشكر الله وتمجيده يرفعني في طريق النمو والعكس فالتذمر وتمجيد النفس (الذات) عوضاً عن تمجيد الله تجعلني أنحدر. ويظل الإنحدار حتى يصل الإنسان لظلام القلب= إظلم قلبهم الغبي. ومن هنا تظهر أهمية التسابيح الكثيرة في الكنيسة وكثرة ترديد صلاة الشكر في كل الأوقات وكل المناسبات. وكما يقول ماراسحق السريانيكل عطية بلا شكر هي بلا زيادة“. وحينما شفي المسيح العشرة البرص عاد واحد منهم فقط ليشكر، فقال المسيح فأين التسعة (لو12:17-19). ولاحظ ان المسيح لم يكن يريد عودتهم لأنه محتاج لشكرهم بل حتى يعطيهم ما هو أكثر، كما حدث مع هذا الأبرص الذي عاد، إذ حصل علي الخلاص الروحي. بجانب الشفاء الجسدي. فالله يفرح بمن له روح الشكر ليزيده من بركاته. والعكس فالتذمر أهلك اليهود في برية سيناء. الشكر يجعل القلب طيعاً في يد الله، فيسهل علي الله أن يتعامل معه ويعطيه إستنارة ليعرف أكثر فيمجد أكثر وهكذا. أما التذمر فهو يقسى القلب فلا يعود يري الله، ويظلم هذا القلب، ومثل هؤلاء فهم يسيروا وراء الأكاذيب ومن ثم يتشبثوا بالباطل، ويفقد القلب وعيه ويصير بلا تمييز ويغيب عنه نور الله. فالله يعطي المعرفة بطرق شتي لتنتهي إلي شكره وتمجيده علي مراحمه. وعدم الإحساس بمراحم الله هو أصل كل الشرور. فإن لم يكن للمعرفة ثمر يرفع الله هذه المعرفة، فيكون هذا وبالاً علي الإنسان، فيبدأ يمجد نفسه عوضاً عن أن يمجد الله. بل إنحدر الإنسان فصار يمجد العجول والقرود والفئران والآن هناك من يمجد المال والشهوات.

 

آية (22): “وبينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء.”

بينما هم يعتقدون في أنفسهم أنهم حكماء، فإنه لسبب عدم إدراكهم الحقيقة إدراكاً صحيحاً قد أصبحوا أغبياء وجهلاء. فالمصريين أصحاب كل علم عبدوا العجل. واليونانيين عبدوا الأمراض والشهوات البشرية بل أن هناك الآن من يعبد الشيطان. ولاحظ أن هذا الكلام موجه لمن آمن من الوثنيين وظل يفتخر بفلسفات الوثنيين، وكأن الرسول يقول لهم إلي أين قادتكم فلسفاتكم؟ لقد قادتكم للإنحطاط. 

 

آية (23): “وأبدلوا مجد الله الذي لا يفنى بشبه صورة الإنسان الذي يفنى والطيور والدواب والزحافات.”

من يعبد الله يكون له كرامة ويقابل هذا، الهوان لمن يعبد الأوثان والحيوانات. فعوضاً عن الإلتصاق بالله الذي له كل المجدوهذا يقود الإنسان للخلودإنحط الإنسان وعبد الفانيات فصار مصيره الزوال.

 

آية (24): “لذلك أسلمهم الله أيضاً في شهوات قلوبهم إلى النجاسة لإهانة أجسادهم بين ذواتهم.”

ولأجل أنهم سلكوا هذا السلوك المشين وأهانوا الله لذلك فقد نزع الله منهم نعمته وتركهم ليسلكوا بحسب شهواتهم الرديئة في كل نجاسة. أسلمهم الله من يده لشهواتهم. الله لم يجعلهم يفعلون هذا. بل هو تركهم وتخلت نعمته الحافظة عنهم فإنحطوا لهذه الدرجة، هم صاروا كمريض رفض علاج الطبيب فتدهورت حالته. الله أسلمهم أي تركهم لما إشتهته قلوبهم ولما أرادوا أن يعملوه، رفع الله عنهم يده فأكملوا شهوة قلوبهم في النجاسة = أي عدم الطهارة في العلاقات الجنسية والتي تصل للشذوذ الجنسي فأهانوا أجسادهم. ولنلاحظ أن الخطية لها أضرار بدنية فضلاً عن الأضرار الروحية.

 

آية (25): “الذين استبدلوا حق الله بالكذب واتّقوا وعبدوا المخلوق دون الخالق الذي هو مبارك إلى الأبد أمين.”

أستبدلوا حق الله= هؤلاء إستبدلوا الإله الحقيقي الحق الذي أستعلن لهم في وعيهم العام بالآلهة الوثنية الكاذبة غير الحقيقية. ثم كرسوا قلوبهم ووجهوا عبادتهم إلي الخليقة والمخلوقات. وهكذا بدلاً من أن يكرموا ويعبدوا الخالق الذي خلق وكوَّن كل المخلوقات، والذي يلزم أن نقدم له التمجيد إلي الأبد، عبدوا المخلوقات. لقد ظهر تقدير الله للإنسان في أنه خلقه علي شبهه وعلي صورته بينما ظهرت حماقة الإنسان وظلام قلبه في أنه صنع الله علي حسب صورٍ فانية. ولاحظ انحدار الإنسان الذي جعل آلهته بهذه الصور، فإذا كانت هذه صورة الآلهة فكم تكون قيمة الإنسان الذي يعبدها. ولاحظ أنه يطلق علي الآلهة الوثنية الكذب فهي شخصيات وهمية غير حقيقية، بل هي تخفي الحق ولا تفيد ولا تضر. وأنظر لمن يتصور أن أي شهوة خاطئة قادرة ان تشبعه فيجري وراءها العمر كله ولكنه لا يشبع، كمن يبحث عن ماء لا يروي أو عن آبار مشققة لا تضبط ماء تاركاً الله المشبع ينبوع المياه الحقيقي (أر13:2) فهذه المياه التي لا تروي هي الكذب.

الذي هو مبارك= حينما ذكر إهانات الوثنيين لله لم يحتمل إهانتهم له وبارك الله.

 

آية (26): “لذلك أسلمهم الله إلى أهواء الهوان لأن إناثهم استبدلن الإستعمال الطبيعي بالذي على خلاف الطبيعة

من أجل أنهم عبدوا المخلوقات دون الخالق فقد منع الله نعمته عنهم إذ هم لا يستحقونها. لاحظ قول المزمورالرب يعطك حسب قلبك” (4:20) فالله نزع عنهم حمايته بسبب قساوة قلوبهم فتسلطت عليهم الأهواء الجسدية المخجلة غير الشريفة. أهواء الهوان= كل إنحرافات الشهوة، شهوات الخزي والعار، الذي وصل للزنا مع الحيوانات، وهذا ما حذَّر الله الشعب منه (خر19:22) (إذ هو منتشر في كنعان) قبل أن يدخلوا كنعان. غالباً كان هذا ما يقصده الرسول هنا وإستحي من ذكره.

 

آية (27): “وكذلك الذكور أيضاً تاركين استعمال الأنثى الطبيعي اشتعلوا بشهوتهم بعضهم لبعض فاعلين الفحشاء ذكوراً بذكور ونائلين في أنفسهم جزاء ضلالهم المحق.”

الفحشاء= الفعل القبيح كالشذوذ الجنسي. ونلاحظ أن الشذوذ الجنسي لا ترتكبه الحيوانات. نائلين في أنفسهم جزاء= هم ضروا أنفسهم وإنحدرت كرامتهم، وهم يستحقوا هذا فهم الذين إختاروا طريق الإنفصال عن الله. ونري الآن وباء الإيدز يحصد هؤلاء الشواذ جنسياً.

 

آية (28): “وكما لم يستحسنوا أن يبقوا الله في معرفتهم أسلمهم الله إلى ذهن مرفوض ليفعلوا ما لا يليق.”

هم لم يرغبوا أن تكون لهم المعرفة الحقيقية عن الله، لذلك تركهم الله فصار عقلهم عاجزاً عن أن يميز بين الحق والكذب. وكان نتيجة ذلك أن فعلوا ما لا يجب وما هو غير لائق أخلاقياً. إن النعمة هي عطية الله للإنسان فإذا أساء الإنسان التصرف وأفسد سلوكه إستحق ان يرفع الله عنه نعمته ويسلمه إلي أهوائه وفضائحه. والمسئولية لا تقع علي الله بل علي الإنسان، كالمريض الذي رفض الإنصياع لنصائح طبيبه واختار أن يعالج مرضه بنفسه علي الرغم من جهله بذلك. فإذا ساءت حالة المريض لا يلام الطبيب. وكما يتخلي الطبيب عن تقديم النصائح لمريض يخالفه دائماً هكذا يتخلي الله عن الخاطئ المصِّر علي خطيته.

 

آية (29): “مملوئين من كل إثم وزنا وشر وطمع وخبث مشحونين حسداً وقتلاً وخصاماً ومكراً وسوءاً.”

الإثم= الشر علي وجه العموم، كما يشار بكلمة البر للصلاح علي وجه العموم. 

شر= يشار هنا إلي الإضرار بالغير دون ان يحصل المرء علي كسب شخصي.

خبث= الميل النفسي الآثم نحو الآخرين. حسد= يقود للقتل (قايين وهابيل)

الخصام= هو الإضرار بالغير دون أن يصل الأمر للقتل بل السعي لتكدير الآخرين.

ثالبين = من ثلب = عاب شخصاً في غيابه وشهَّر به ليفسد سمعته.

 

الآيات (30،31): “نمامين مفترين مبغضين لله ثالبين متعظمين مدّعين مبتدعين شروراً غير طائعين للوالدين. بلا فهم ولا عهد ولا حنو ولا رضى ولا رحمة.”

مدّعين = أي متعاظمين في أقوالهم ينسبون لأنفسهم ما ليس لهم.

مفترين= المفتري هو مختلق الكلام. مبتدعين شروراً= يبتكرون أنواع جديدة من الشر. والمبتدع هو من يأتي ببدع جديدة في الشر كالهرطقات. 

لا فهم = يرفضون كل نصيحة. لا عهد= لا يلتزمون بعهودهم مع الآخرين.

 

آية (32): “الذين إذ عرفوا حكم الله أن الذين يعملون مثل هذه يستوجبون الموت لا يفعلونها فقط بل أيضاً يسرون بالذين يعملون

الرسول هنا يشير إلي الأمميين الذين عرفوا أن حكم الله هو بموت من يفعل هذه الخطايا. ومع هذا فهم يرتكبونها. وهذا دليل علي قساوة القلب، بل هم يفرحون بأن غيرهم يرتكبها، وهذا الفرح هو فرح بنمو مملكة الشيطان. وهم يفعلون هذه الخطايا بكل رغبة وشوق ورضي، إذاً فخطأهم خطأ متعمد يصدر عن نية وقصد لا عن غفلة وجهل. هنا نري أن الإنسان إستمر في الإنحدار والإنحطاط لدرجة تشبّه فيها بالشيطان الذي يفرح بأن يخطئ إنسان ما. بل صار الآن بعض الناس يعبدون الشيطان.

تعليق: قيل إن من أعظم الفلاسفة اليونان من كانوا يرتكبون الشذوذ الجنسي، بل أن منهم ما جعله شريعة محرماً إياه علي العبيد، كأن فيه فضل يمتاز به الأحرار دون العبيد. إلي هذا المدي إنحدر هؤلاء الفلاسفة ولم تنفعهم فلسفتهم.

هذا الإصحاح نري فيه أن الإنسان إما ينمو في الروح أو ينحدر لأسفل.

1. من ينمو في الروح:- هذا من يجاهد فينمو إيمانه، وينتقل من درجة إيمانية لدرجة أعلي (آية17) هو يعبد الله بالروح (آية9) وهو يعمل أعمال بر (آية17). ونهاية هذا الصعود، نجد الإنسان يتشبه بالله الذي يفرح بإيمان وبر أولاده. وهنا نجد الرسول يفرح ويشكر الله علي إيمان أهل رومية (آية8)

2. الإنحدار: حالة الإنسان كمن يصعد علي منحدر في سيارة، فهو إما يصعد، وإما ينحدر لو ترك السيارة (هذا هو من أهمل جهاده). 

 

والإنحدار هنا يصل بالإنسان لأحط الدرجات (آية27) وهؤلاء يظلم قلبهم (آية21) وينحدروا إلي مستوي أقل من الحيوانات وفي النهاية نجد هؤلاء وقد تشبهّوا بالشيطان.

 

ملحوظة: هو نوع من خداع النفس أن يتصور إنسان أنه وصل إلي مرحلة روحية معقولة، وأنه أحسن من كثيرين فيكفّ عن جهاده، مثل من تصور وهو يقود سيارته أنه وصل علي المنحدر لإرتفاع معقول، فيرفع قدمه عن البنزين ويكفّ عن القيادة، مثل هذا لابد وأن يبدأ في الإنحدار سريعاً.

بإيمان لإيمان:- هذا هو النمو (أية17) فالإيمان ينمو كما قلنا. ولكنه كيف ينمو؟

1. بالعشرة مع الله، وتطبيق وصاياه فنعرفه (مت24:7-27). وكلما عرفناه وإختبرناه يزداد إيماننا به. والعشرة هي بالصلاة والتسبيح ودراسة الكتاب.

2. بالشكر وسط الضيقات التي يسمح بها الله لنري يده ونعرفه (كو7:2) كما سمح الله لبني إسرائيل في سيناء ببعض التجارب كالماء المّر حتى يروا يده.

 

مقدمة تفسير رسالة رومية تفسير العهد الجديد
تفسير رومية 2
 القمص أنطونيوس فكري
تفاسير رسالة رومية تفاسير العهد الجديد

 

زر الذهاب إلى الأعلى