تفسير رسالة رومية اصحاح 12 للقديس يوحنا ذهبي الفم
تفسير رسالة رومية – الاصحاح الثاني عشر
عظة 21: رو12: 1-3
فأطلب إليكم أيها الاخوة برأفة الله أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله عبادتكم العقلية ” (رو1:12)
1. بعدما تكلم كثيرا عن محبة الله نحـو البشر، وأظهـر عنايته التي لا يعبر عنها ، وصلاحه غير الموصوف الذي لا يمكن فحصه، أخذ يستفيض في عـرض ذلـك الصـلاح، لكي يقنـع أولئـك الـذيـن نـالوا إحسـانات الله، بأن يظهروا سلوكا يليـق بهـذه العطيـة. وبـرغم أنـه رسـول عـظـيـم ولـه مكـانـة كبيرة، إلا أنه لا يتوانى عن أن يترجاهم. مع أن كل ما كان يرجوه منهم ، لا يتعلق بشيء سيحظى به هو شخصيا ، بل يرتبط بما يمكن أن يحصل عليه هؤلاء الأخوة. وما الذي يدهشك ويجعلك تتعجـب أنه لا يتوقف عن التوسل عندما يتحدث عن رأفات الله؟ حسنا لأنـه يقـول مـن هـنـا تـأتي الخيرات غير المحدودة لكـم، أي مـن رأفـات الله، فلتقـدروا هـذه الرأفات، ولتشعروا بالخجل كذلك، فإن هذه الرأفات تحمل معنى التضـرع الـذي يمنعكم عن إظهار أي شيء لا يليق بها.
هكذا يقول لهم أطلب إليكم برأفة الله التي بها خلصتم، لأنه أراد أن يؤنب الذين نالوا إحسانات كثيرة . فهو يقول لهم إني أطلب برأفة الله، رغبة منه أن يقدم لهم الله الرؤوف ذاته، أخبرنـي يـا بولس ماذا تطلب؟ يطلب ” أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله عبادتكم العقلية ” ولأنه تكلم عن “ذبيحة”، ولكي لا يعتقد أحد أنه يأمر أن يقدموا أجسادهم ذبائح، أضـاف كلمـة “حيـة”. بعـد ذلـك يميـز هـذه الذبيحـة عـن الذبيحـة اليهودية، بقوله: “مقدسـة مرضية عند الله عبـادتكم العقلية “. خاصة وأن الذبيحة اليهودية جسدية وليست مرضية تماما. لأن النبي يقـول: ” مـن طـلـب هـذا مـن أيـديكم”. وفي مواضع أخـرى كثيرة جدا يتضح أن الله كـان يرفض هذه الذبائح، لكنه لم يرفض هذه الذبيحة العقلية، وحتى إن كانت الذبيحة اليهودية ما زالت تقدم، فإنه طلب هذه الذبيحة العقلية. ولهذا قال: “ذابح الحمـد يمـجـدنـي”. وأيضا “أسبح اسم الله بتسبيح وأعظمه بحمد. فيستطاب عنـد الـرب أكثـر مـن ثـور بـقـر ذي قـرون وأظـلاف “. وفي موضع آخر من الكتاب نراه يرفض هذه الذبيحة الحيوانية، قائلا: “هل أكل لحم الثيران وأشرب دم التيوس. إذبح لله حمدا وأوف العلى نذورك “. هكذا فإن الرسول بولس هنا يأمر أن يقدموا أجسادهم ذبيحة حية. وكيف يمكن أن يصير الجسد ذبيحة؟
يحدث ذلـك عنـدمـا لا تـرى العين أي شيء خبيـث ، فتكـون قـد صـارت ذبيحة، وألا يتفوه اللسان بأي شيء مقزز، فيكون قد صار تقدمه، وألا تمتد الأيدي إلى أي شيء مخالف، فتكون قد صارت ذبيحة مكتملة.
أو من الأفضل أن نقول إن هذا لا يكفي، بل من الضروري بالنسبة لنا فعل الخير أيضا، حتى أن اليد تقدم عمل الرحمة، والفـم يبـارك مـن يسيئون إلينا، والأذن تنشغل دوما بسماع كلام الله. لأن الذبيحة لا يكون فيها شيئا دنسا، الذبيحة هي باكورة للأعمال الأخرى الصالحة. إذا فلتقدم نحن أيضا لله، باكورات الأيدي والأرجل والفم، وكل أعضاء جسدنا الأخرى. هـذه الذبيحة هي ذبيحة مرضية، بينما ذبيحة اليهود كانت دنسة. لأن ذبائحهم ” كخبـز الحـزن كـل مـن أكـل يتنجس”””. لكـن ذبيحتنـا ليسـت هـكـذا. فالذبيحة الحيوانية المقدمة تُعرض ميتة، بينمـا هـذه الذبيحة (التي يتحدث عنها ق. بولس) تُقدم حية. إذا حين لميت أعضاءنا ، سنستطيع عندئذ أن نحيا. لأن ناموس هذه الذبيحة هو ناموس جديد ، ولهذا فإن طريقة النار هي عجيبة. لأنه لا تحتاج إلى خشـب ومـواد أخرى لإشعالها ، بل أن نارنـا هـذه تشتعل مـن ذاتها، ولا تحرق الذبيحة، بل تحييها بالأكثر. هذه الذبيحة هي التي طلبها الرب منذ البداية. ولهذا قال النبي : “ذبائح الله هـي روح منكسرة “. وهـذه الذبيحة قد قدمها الثلاثة فتية، قائلين: “ليس لنا في هذا الزمان رئيس ولا نبي ولا قائد ولا محرقة ولا ذبيحـة ولا تقدمـة ولا بخـور ولا موضـع لتقريـب البواكير أمامك .. ولكن لانسحاق نفوسنا وتواضع أرواحنا اقبلنا”
۲ ـ لكن، لاحظ كيـف أن القديس بولس يستخدم كل كلمـة بدقة شديدة. لأنه لم يقل اجعلوا أجسادكم ذبيحة، بل قال “قدموا”، كأنه يقول، ينبغي ألا يكون لكـم بعـد شيئا مشتركا مـع هـذه الأجساد ، بـل قـدموها لآخر. كذلك أيضا الذين يقدمون خيول الحرب، لا يكون لهم فيما بعد أي علاقة معها. وأنت أيضا قد قدمت أعضاءك في الحرب ضد الشيطان، وفي هذه المعركة المخيفة لا تستدعي هذه الأعضاء لخدمتك الذاتية. وهـو يظهر، بالإضافة إلى ذلك، إنه يجب أن نجعلها (أي أعضاؤنا) مدربة أو مجربة، طالما أننا ننوي تقديمها. لأننا لا تقدمها إلى واحد من البشر الأرضيين، بل لله ذاته ، ملك الجميع، لا لكي تحارب فقط، بل لكي يجعلها الملك ذاته عرشا يجلس عليـه، لأنه لا يرفض أن يجلس أو يحـل في أعضائنا ، بل بالحري يريد ذلك بشدة، فالذي لا يفضله الملك الأرضـي الـذي هـو إنسان مثلنا ، يفضله ملك الملائكة.
وعندما يكونوا مستعدين أن يقدموا أنفسهم ذبيحة، فيجب أن يتحرروا مـن كـل ضعف، فـإن كـان لـديهم أي ضعف ، فلن يستطيعوا أن يقدموا أنفسهم ذبيحـة. فـلا العين يمكن أن تقـدم نفسها ذبيحة، عندما تنظر إلى أشياء خبيثة، ولا اليد حين تسرق وتكون جشعة، ولا الأرجل عندما تسير بإعوجاج وتتجه نحو اللهو، ولا البطن عندما تصير عبدة للمتعة وتشعل شهوات اللذات، ولا القلب عندما يكون فيه غضبا وعشقا للزنا، ولا اللسان عندما يتكلم بكلام بذئ. ولهذا ينبغي أن نفحص جسدنا من كل جوانبه، حتى لا تكون به عيوبا.
إذن طالمـا أن أولئـك الـذين قدموا الذبائح القديمـة، كانوا يلتزمـون بالناموس ويفحصـون كـل شـيء، ولم يكـن يسمح لهـم بـأن يقدموا ذبيحـة مقطوعـة الأذن، أو مقطوعـة الـذيل، ولا حيوانـات مريضـة بـالجرب، ولا حيوانات بها جروح‘‘، فبالأولى جدا نحن الذين لم تقدم خرافا غير عاقلة ، بل قدمنا أنفسنا، أن تظهر حرصا أكبر على أن نكون أنقياء من كل جهة ، لكي نستطيع بحسـب الـرسـول بـولس أن نقـول “أنا الآن أسكب سكيبا ووقـت إنحلالـي قـد حـضـر ” 4. بالحقيقة لقـد كـان أكثـر نقـاء مـن كـل ذبيحة، ولهذا دعى نفسه سكيبا أو مسكوبا، هذا سيحدث لنـا حين ثميـت إنساننا العتيق، وأعضاءنا التي على الأرض، وحين يصلب العالم لنا.
هكذا لن نحتاج بعد إلى سكين، ومذبح، ونار. أو من الأفضل أن نقـول إننا سنحتاج لكل هذه، لكن ليست المصنوعة باليد، بل إن كل هذه ستأتي إلينا من السماء، النار والسكين ستُعطى لنا من السماء، والمذبح بالنسبة لنا هو السماء الواسعة. وإن كان إيليا قدم ذبيحة مادية، ونزلـت نـار مـن السماء وأكلت كل شيء، الماء والخشب والحجارة، فبالأكثر جدا سيحدث هذا معك . وإن كنت تشعر بشيء من التراخي، ومنشغل بهموم الحياة، ومع ذلك تقدم ذبيحة بإرادة مستقيمة، فبعدما تنزل نـار الـروح، ستأكل هذا الشيء ، وكـل التقدمـة سـوف تقـدم في النهاية. لكـن مـا هـي العبادة العقلية؟ هـي الخدمة الروحية، هي الحياة التي تتفق مع تعاليم المسيح، تماما مثل الخادم والكاهن في بيت الرب، أيا كان هو، حين يكون في وقت تقديم الذبيحة ، يصير أكثـر وقـارا وورعا، هكـذا نحـن أيضـا ينبغي أن نسـلك كـل أيـام حياتنا، كما لو كنا تقدم عبادة، وأن نكون كهنة. وهـذا سيحدث، إن كنت تقدم لـه كـل يـوم ذبائح، وتصير كاهنًا لجسدك، ونفسك. أي حين تقدم تعقلا، ورحمة، ورأفة، وتسامحاً.
إذن عندما تفعل كل هذا ، فأنت تقدم العبادة العقلية، أي العبادة التي ليس فيها شيئا جسديا، أو شيئا دهنيا ، أو شيئا ماديا.
3 ـ إذن بعدما رفع المستمع عاليا بهذه الأوصاف، برهن على أن كل واحد يعتبر كاهنًا لنفسه، من خلال سلوكه في الحياة، والطريقة التي يمكن بها تحقيق كل هذا. فما هي هذه الطريقة؟
” ولا تشاكلوا هذا الدهر. بل تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم لتختبروا ما هي إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة ” (رو2:12)
طالما أن شكل هذا الدهر هو زائل ووقتي ولا يمثل شيئا، وليس فيه شيئا ساميا ولا دائما، ولا مستقيما ، بل إن كـل شـيء فيـه هـو فـاني. إذا إن كنت تريد أن تسلك بطريقة صحيحة، فلا تُشاكل الحياة الحاضرة، لأنه لا يوجد شيء في هذه الحياة ثابت ودائم. ولهذا فقد إستخدم كلمة “شكل” لوصـف هذا الدهر. وأيضا يقول في موضع آخر “هيئة هذا العالم تـزول “. لأن هيئة هذا العالم ليس فيها شيئا دائما ثابتا ، بل كل ما فيها هو وقتي. ولهذا قال: ” هذا الدهر” لكي يعلن بهذا أنـه فـاني، بينما يعلن “بالشكل”، أن ليس له كيان حقيقي. لأنه سواء تكلمت عن الغني، أو المجد، أو جمال الجسد، أو المتع، أو أي شيء آخر من تلك الأمور التي تعتبر كبيرة، فهي فقط شكل وليست حقيقة الشيء، هي عرض وقناع، وليست كيانا يبقى للأبد.
لكن أنت لا تُشاكل هذا الدهر، بل كما يقول الرسول بولس “تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم “. لم يتكلم هنا عن التغيير الخارجي، بل عن التجديد والتجلي الذهني، لكي يظهر أن الشكل يخص العالم، بينما فيما يختص بالفضيلة، فالأمر لا يتعلق بالشكل، بل بالصورة الحقيقية التي لها جمال طبيعي، دون أن تحتاج للمساحيق الخارجية التي تظهر وفي نفس الوقت تختفي. والواقع إن كـل هـذه الأمور تظهر أولاً ثم تتحلل. إذا لـو أنـك ألقيت عنك الشكل الذي ينتمي إلى هذا العالم، فستصل سريعا إلى الصورة الحقيقية. لأنه لا يوجد شيئا أضعف من الشر، ولا شيء يشيخ بسهولة أكثر مـن الشـر. بعـد ذلـك ولأن الناس بشـر، وبسبب طبيعتهم فهـم معـرضـون أن يخطئوا كل يوم، فإنه يعزي المستمع، قائلاً له، جدد نفسك كل يـوم. ولأننا نمارس التجديد داخل بيوتنا، حيث تصلح دائما ما أصابه القدم، فهذا عينـه اصنعه في نفسك. هل أخطأت اليوم؟ هل أصابت الشيخوخة نفسك؟ لا تيأس، ولا تفقد شجاعتك بل جدد نفسك بالتوبة، بالدموع، بالاعتراف وفعل الخير، ولا تتوقف أبدا عن فعل ذلك.
وكيف نستطيع أن نفعل ذلك؟ بأن ” تختبروا مـا هـي إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة ” إما أنه يقصـد : تجددوا لكي تعرفوا إرادة الله الصالحة المرضية، وإما : أنكم تقدروا على أن تتجددوا إن عرفتم أين هي منفعتكم، وبالأولى ما هي إرادة الله الصالحة المرضية. لأنه إن عرفت هـذا ، وتعلمت أن تميز طبائع الأشياء، تكون بهذا قد وصلت إلى الطريق الذي يقود إلى كل فضيلة. وهل هناك من لا يعرف ما هو الصالح بالنسبة له، وما هي إرادة الله؟ إن أولئك الذين يتأثرون بالأشياء الحاضرة، ويعتقدون أن الثراء يثير فيهم الغيرة ويحتقرون الفقر، والذين يسعون نحو السلطة، وسلّموا أنفسهم للمجد العالمي، أولئك الذين يؤمنـون بـأنهم عظمـاء، هـؤلاء يبنـون مـنـازل فاخرة ، يشترون قبورا فخمة، يمتلكون كثير من العبيد ، ويتجول معهم عدد كبير من الخصيان. هـؤلاء يجهلون أيـن هـي مصالحهم، وما هي إرادة الله. خاصةً وأن الاثنين هما واحد ، لأن الله يريد تلك الأمور التي هي لمصلحتنا، وما يريده يحقق لنا الفائدة.
إذا ما هـو الذي يريدها الله لنا؟ أن نحيا بفقر، بإتضاع، باحتقار للمجد الباطل، بعفـة وليس بتمتع، بألم وليس بتنعم، بـل بحـزن، وليس باللهو واللعب، بل بالصلاة والسلوك بإستقامة، يريدنا أن نحيا ملتزمين بكل الأمور الـتـي شـرعها لنـا. لكـن الكثيرين يعتبرون أن هـذه الأمـور هـي مـن أمـور الشعوذة، وبهذا يبتعدون جـدا عـن معـرفـة مصلحتهم ومعرفة إرادة الله. إذا فالذين لا يعرفون ما هي الفضيلة، بل عوضا عنها يبتهجون بالشر، ويأتون بالزانية إلى فراشهم بدلاً من الزوجة المتعقلة، فمتى يتمكنون من الإبتعاد عن هـذا الـدهر؟ ولهذا فقبـل كـل شـيء يجـب أن يكـون حكمنـا علـى الأمـور واضحا. فحتى وإن كنـا لا تُمارس الفضيلة بعـد ، لكـن يجـب أن نمتـدح الفضيلة، وإن كنا لا نتجنب الشر، إلا أنه من الواجب أن تُدين الشر، لكي يكون لدينا قبل كل شيء أحكاما أو قرارات غير مدانة. وهكذا إذ نتقدم رويدا رويدا ، سيمكننا أن نصل إلى الأعمال. ولهذا تحديدا، فإن الرسول بولس يعطي أمرا أن نتجدد ” لنختبر مـا هـي إرادة الله “. ولكن يبدو لـي هـنـا أنه يدين اليهود ، الذين تمسكوا بالناموس. لأن إرادة الله بالتأكيد تشمل الحياة القديمة أيضا ـ على ألا تكون أولا ـ وقد سمح بها بسبب ضعفهم، أما الكمال والأمر المرضي لدى الله، فهو الحياة الجديدة.
4- ” فإني أقول بالنعمة المعطاة لي لكل من هو بينكم أن لا يرتئي فوق ما ينبغي أن يرتئي بل يرتئي إلى التعقل. كما قسم الله لكل واحد مقدارا من الإيمان ” (رو۳:۱۲).
فبعدما قال قبلاً “أطلب إليكم أيها الاخوة برأفة الله “، يتكلم هنـا مـرة أخرى “عن النعمة” لاحظ إتضاع المعلم، ولطفه. لا يحسب نفسه مستحق أن يوجه مثل هذه النصيحة وهذه المشورة، بـل مـرة يعتمد على رأفة الله، ومرة أخرى على نعمة الله. هكذا يوضح أنه لا يتحدث بكلامه الشخصي، بل بكلام الله، ولم يقل، إنني أكلمكـم باسـم حكمة الله، وباسـم نـاموس الله، لكنه قال: “بالنعمة المعطاة لي ” لكي يذكر على الدوام بإحسانات الله، لكي يجعلـهـم بـالأكثر ممتنين لله، وأن يظهـر بهـذه الطريقـة أنهـم مسئولون عن الطاعة لكل ما يقال.
“لكل من هو بينكم “. وليس لهذا وذاك فقط، بل للرئيس، وللمواطن، وللعبد والحر، وللبسيط والحكيم، وللمرأة والرجل، وللشاب والشيخ، لأن هذا الناموس هو واحد للجميع، لأنه ناموس الرب. وهكذا لا يجعل كلامه مزعجا، طالما أنـه يقـدم التعاليم للجميع، ولأولئك الذين ليسوا مسئولين، لكي يتقبل المسئولون بأكثر سهولة هذا التوبيخ وهذا الاصلاح. أخبرني ماذا تقول؟ “أن لا يرتئي فوق ما ينبغي أن يرتئي “. إنه يعرض هنا لتاج الصالحات، أي الإتضاع، متمثلاً بمعلمـه. لأنـه مثلمـا أن سيده صعد إلى الجبـل وألقـى الموعظة هناك، وكانت هذه هي البداية، وقد وضع هذه الأساسات، قائلاً: ” طوبى للودعـاء، هكـذا بولس أيضا، بعدما إنتقـل مـن العقائد ، إلى الموضوعات الأخلاقية والروحية، علم بشكل عام عن الفضيلة، طالبا منا الذبيحة المرضية، لكنه يريد أن يصفها بشكل منفصل، يبدأ من الإتضاع، هكذا بدأ من الأهم، إذ يقول: “أن لا يرتئـي فـوق مـا ينبغي أن يرتئي “، لأن هذه هي إرادة الله، “بل يرتئي إلى التعقل”.
مـا يقـولـه يعـني الآتي: لقد وهبنا عقلاً، لا لكي نستخدمه بتباهي، بل بتعقل. ولم يقل بوداعة، بل قال “بتعقل”، قاصدا بالتعقل هنا، ليس الفضيلة الـتـي هـي عكـس الفجـور، ولا التحـرر مـن الفسـق، بـل اليقظـة الروحيـة ، والصحة الذهنية. كذلك فإن الإعتدال يدعى تعقلاً، من حيث إنه صحيح ومنطقي، لكي يبرهن على أن ذاك الذي ليس معتدلاً، لا يمكنه أن يقتني التعقل، أي لا يمكـن أن يكون متوازنـا بشكل جيد، وأن يحكـم علـى الأمور بشكل صحيح، بـل يكـون إنسـان بـلا منطق ومصاب بجنون، وهـو أكثر من مختل العقل، لذا يعتبر الرسول بولس التواضع تعقلاً.
إذن فنظرا لأن منح المواهـب دفع الكثيرين للإفتخار، فعليك أن تلاحظ الطريقة التي أوضح بها للكورنثيين سبب المرض، وكيـف حاصره تدريجيا. لأنه بعدما قال إنه ينبغي أن يكون التفكير بتعقل، أضاف: “كما قسم الله لكل واحد مقدار من الإيمان “. داعيا الموهبة هنا، إيمائًا. ولكن بقوله كما قسم، يكون قد عزى من نال القليل، وضبط الذي تمتع بالكثير.
إذن إن كـان الله هـو الـذي قسم، وأن مـا تحقـق هـو ليس منك، فلماذا تفتخر؟ لكـن لـو أن الإيمـان هـنـا لا يدعى موهبة، فهذا أيضا يظهـر بدرجة كبيرة، كيف أنه يجعل المفتخرين متضعين. إذا فإن كان سبب الموهبة، أي الإيمان الذي به تحدث المعجزات، يأتي من الله، فأين الإفتخار؟ بالتأكيد لو لم يكن رب المجد قد أتى وصار إنسائا، فإن أمـور الإيمـان مـا كـان لها أن عطائه تتقدم. وبناء على ذلك فإن بداية كل ما يتعلق بالأمور الصالحة تأتي من هنا. ولكن إن كان رب المجد يهب ويمنح، فهو يعرف كيف يقسم. لأنه هو خالق الجميع، ويعتني بالجميع بنفس القدر. وكما أن سبب . هـو محبتـه للبشر، هكذا أيضا مقدار العطيـة هـي بسبب محبته للبشر. لأنه لم يكن ممكنا أن يظلمك في القدر الذي يعطيك إياه، طالما أنه قد أظهـر صـلاحه للأمم، بل والأكثر أهمية، هو منحه للمواهب. لأنه، لو كان يريد أن يقلل مـن شـأنك مـا كـان لـه أن يعطيك البداية، أما إن كان قـد حـرص على أن يخلصك ويكرمك، خاصة أنه لهذا قد أتى، وقسـم كـل هـذه الخيرات ، فلماذا تقلق، وتضطرب، وتستخدم العقل في الحماقة، فتهين نفسك، أكثر من الأحمق بالطبيعة؟ لأنه أن يكون أحد بطبيعته أحمق، فهذا ليس إتهاما ، ولكـن أن يصير أحمقـا في طريقة تفكيره، يكـون قـد حـرم نفسـه مـن التسامح، وهكذا ينال عقابا شديدا.
5 ـ مثل هؤلاء، هم الذين يفتخرون بالحكمة (العالمية) ويسقطون في أسوأ أنواع الكبرياء. لأنه هكذا يصف النبي الشخص البربري بقوله : ” لأن اللئيم يتكلم باللؤم “. ولكـي تعـرف حماقتـه مـن كـلامـه، اسمـع مـاذا يقـول: “أصعد إلى السموات أرفع كرسي فوق كواكب الله .. أصير مثل العلي”^ إذا هل هناك حماقة أكثر مـن هـذا الكلام؟ وكـل كـلام الكبرياء يجلب علـى الفـور هـذه الإدانـة. وإن أوردت كـل كـلام يقولـه المتكبرون، فلـن يمكنك أن تُميز أيـا مـن الكلام يتعلق بمتكبر وأي كلام يتعلـق بـأحمق. هكذا فإن النقص أو العيب هو واحد هنا. وقـد يقـول بـربـري آخر: ” قلـت أنـا إله ، يقـول آخر: ” مـن هـو الإلـه الـذي ينقذكم مـن يـدي “. ومن ناحيـة أخرى يقول فرعون:” من هو الرب حتى اسمع لقوله فأطلق إسرائيل. لا أعرف الرب وإسرائيل لا أطلقه . والجاهـل الـذي أشار إليه النبي هـو مثل ذلك، عندما قال في قلبه “ليس إله”، وقايين أيضا هو هكذا، إذ يقول “أحارس أنا لأخي”
تُرى، هل يمكنك أن تُميز أيا من الأمرين، هل تميز ما إذا كان الكلام هو للمتكبرين أم للجهـال؟ لأن الشخص القاسي يفقد المعيار المتعارف عليـه الذي يأتي من الذهن، كذلك فإن رأس الحكمة مخافة الله. وبناء على ذلك فإن رأس الحماقة هو الجهل بالرب. فإذا كانت المعرفة حكمة، فإن الجهل يكون حماقة، وهنا الجهل يأتي من الكبرياء. لأن رأس الكبرياء هو الجهل بالرب. إذا فالكبريـاء هـو أسوأ حماقة. مثلمـا كـان نابال‘‘‘، وإن لم يكن هكذا أمـام الـرب، فكـان هـكـذا أمام إنسان، بعدما صـار أحمق بسبب كبرياءه، لكنه مات في النهاية كما ينبغي له أن يموت. لأنه حين يفقد المرء معيار التعقل، يصبح على التو جبانا ووقحا، بعدما تمرض نفسه. فكما أن الجسد حين يفقد صلابته ويصير ضعيفا، تسود عليه كل الأمراض، هكذا النفس أيضا، عندما تفقـد تعقلها وتواضعها، وتعتاد علـى قبـول الأمراض، تصير جبانة، ووقحة، وحمقى، وتجهل بالأكثر ذاتها.
والذي يجهل ذاته، كيف سيعرف الأمور التي هي أسمـى منـه؟ لأنه مثلما أن الذي يصاب بمرض عقلي، عندما يجهل ذاته، لا يعرف ولا حتى الأمـور التي هي أمام قدميه، والعين أيضا عندما تُصاب بالعمى، يحدث لها نفس الأمر، فتُصبح كـل أعضاء الجسد الأخـرى في ظلام، هكـذا يحدث مع الكبرياء. ولهذا فإن أولئك الذين هم بالطبيعة هكذا، يكونوا أكثر بؤسا وتعاسـة مـن المجانين والحمقى. كذلك فإن أمثال هـؤلاء يثيرون السخرية ، ويسببون إنزعاجا. وهم بكل تأكيد مجانين، تماما مثل هؤلاء، لا يستحقون الرأفة، وبينما يحملون نقائص الاثنين (أي المتكبرين والمخبولين)، لكنهم لا يلقون أي تعاطف، ويكونوا موضع سخرية، ليس فقط حين يتكلمون، بل بمجرد بحضورهم أيضا.
إذن أخبرنـي لمـاذا ترفـع قامتـك بخيلاء؟ لماذا تنتفخ ؟ إنك لا تستطيع أن تجعل شعرة واحدة بيضاء أو سوداء، وتتخيل أنك تسود على كل شيء. ربما تريد أن تزرع لنفسك أجنحة، لكي لا تمشي على الأرض، ربما تشتهي أن تكون مخلوقا عملاقا. فبينما أنت إنسان، تحاول أن تطير؟ أو من الأفضل أن نقول إنك بعدما تطير في داخلك، تشتعل من كل جانب؟ ماذا أدعوك لكي أنزع عنك الافتخار؟ هل أدعوك ترابـا ورمادا ودخائا وغبارا؟ مـن ناحيـة فـإنـي أرجـع افتخـارك إلى تفاهتـك، لكنني مـن ناحيـة أخـرى لم أدرك بالضبط الصـورة الـتي أريدها، حيث إنني أريد أن أعرض تلهفهم، وكـل مـجـدهم الباطل. إذا ما هي الصورة التي يمكن أن نرسمها وتتناسـب مـع هـؤلاء؟ يبدو لـي أنهـم يشبهون الرماد، خاصة وأن المتكبر الذي يكون منتفخا ، واقفا منتصبا ، ، بمجرد أن يتعرض للمسة بسيطة من الأيدي يسقط كله إلى أسفل، ويصير أكثر تفاهة من أي رماد.
هكذا تكون نفوس هؤلاء المتكبرين. لأن أي ضربة بسيطة يمكنها أن تهين انتفاخهم الباطل وتفتته. إذ هـم حتما مرضى. لأن الكبريـاء لـيس مـن سمات الصحة الجيدة، فكما تنفجر فقعات | الصابون بسهولة، هكذا هؤلاء المتكبرين، ينهارون بسهولة. لكن إن لم تصدق، قدم لي شخصا متكبرا ووقحا ، وستراه يصير أكثر جبنا من الأرنب، أمام أبسط شيء. لأنه كما أن الشعلة التي تنتج عن احتراق قطع صغيرة من الخشب، تشتعل سريعا ثم تتحول إلى رماد ، بينما الخشب الصلب لا يشتعل بسهولة، بل ويبقى مشتعلا لفترة طويلة، هكذا النفوس القوية، فهي بكل تأكيد قوية، لا تشتعل ولا تُطفئ بسهولة، أما هؤلاء المتكبرون فهم يعانون الأمرين في أقل من لحظة.
إذن ونحـن نطلـع علـى هـذه الأمور، علينا أن نحيـا حيـاة الإتضـاع. لأنه لا يوجد شيئا أكثر قوة من الإتضاع، فالإتضـاع هـو أكثر قوة من الصخرة ، وأكثر صلابة من الماس، ويجعلنا في أمان أكثر من الحصون، ومن المدن، ومـن الأسـوار، طالما أن الإتضـاع يصبح أكثر علـوا مـن كـل آلات الشيطان الحربية. إذا فكما أن الكبرياء يجعلنا عرضة للهزيمة بكل سهولة، حتى أمام الأمور العارضة طالما أنه ـ كما قلت ـ ينفجر بسهولة أكثر من فقاعات الصابون، ويتمزق بـأكثر سرعة مـن خيـوط العنكبوت، ويضمحل بأكثر سرعة من الدخان.
فلكي نكون إذا مستندين على صخرة ثابتة، علينا أن نهجر الكبرياء، ولنفضل الاتضاع. لأنه هكذا سنجد الراحة في الحياة الحاضرة، وسنتمتع في حياة الدهر الآتي بكل الخيرات، بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنـا يسوع المسيح الذي يليق به مع الآب والروح القدس المجـد والقوة والكرامة إلى دهـر الدهور آمين.
عظة٢٢: رو12: 4-13
” فإنه كما في جسد واحد لنا أعضاء كثيرة ولكن ليس جميع الأعضاء لها عمل واحد. هكذا نحن الكثيرين جسد واحد في المسيح وأعضاء بعضا لبعض كل واحد للآخر” (رو12: 4-5).
1. مرة أخرى يستخدم نفس المثال الذي إستخدمه لأهل كورنثوس، لكي يحارب نفس المرض تحديدا. خاصة وأن قـوة الـدواء كبيرة، كما أن لهذا المثال تأثير قوي في علاج مرض الكبرياء. إذا لأي سبب تفتخر أنت؟ أو لماذا يهين الإنسان نفسه ؟ ألسنا جميعا جسدا واحدا ، كبارا وصغارا؟ إذا طالما أن هنـاك ضـرورة لأن نكـون أعضـاء بعضا لبعض، فلمـاذا تعـزل نفسـك بالكبرياء؟ لماذا تحتقر أخاك؟ لأنه تماما كما أن ذاك هو عضو لك، هكذا أيضا أنت عضو له، ومـن جهـة هـذا الأمر فإن مساواتكم في الكرامـة هـي شيء عظيم. إذا فقد أشرت إلى أمرين لهما القدرة على تحطيم كبريائكم، إننا أعضاء بعضا لبعض، ليس الصغير للكبير فقط، بل الكبير للأصغر أيضا، وأننا جميعا نكـون جسـدا واحـدا. لا تتكبر إذا ، لأن الموهبـة قـد أعطيـت لـك مـن الله، لم تجتهـد أنـت حتى تنالها. ولهذا حين تكلمـت عـن المواهب، لم أقل أن الواحد أخذ أكثر، والآخر أقل، لكن ماذا قلت؟ ” لنا مواهب ” ليست أكثر وأقل، بل “متنوعة”.
كان من الضروري أن يوصيك الرسول بولس بهذه الأمور إذ أن الجسد له نفس مكانة النفس. قد بدأ الرسول بالمواهب وإنتهى إلى التحقيق العملي. لأنه بعدما أشار إلى النبوة والخدمة وكل الأمور المماثلة، انتهى إلى عمل الرحمة ، والنية الصادقة، والمساعدة، ولأنـه كـان مـن الطبيعي أن يسـلك الـبعض بالفضيلة، دون أن يكون لديهم موهبة التنبؤ، فإنه يظهر أن هذا الأمر أيضا موهبة، بل وأكبر بكثير من النبوة، تماما كما أظهر في رسالته إلى أهـل كورنثوس، حيث أظهر أنها عظيمة بقدر ان الواحدة لها أجر، بينما الأخرى ليست لها أي مكافأة، طالما أن كل هذه المواهب، هـي عطية ونعمة. ولهذا يقول:
” ولكن لنا مواهب مختلفة بحسب النعمة المعطاة لنا. أنبوة فبالنسبة للإيمان ” (رو6:12).
بعدما عزاهم بالقدر الكافي، أراد أن يضعهم في حيرة، ويجعلهم أكثر استعدادا ، مبرهنا على أن هؤلاء اليهود المتكبرون هم أنفسهم الذين يحددون ما إذا كانوا سيحصلوا على موهبة أكبر أو أقل. لكن الرسول بولس يشير إلى أن هـذا قـد أعطـى مـن الله : ” كمـا قسـم الله لـكـل واحـد مقـدارا مـن الإيمان “. وأيضا “بحسب النعمة المعطاة لنا “، ذلك لكي يضبط جماح المتكبرين، ولكنـه يقـول إنـه مـن قبـل هـؤلاء اليهود صارت البداية، لكي يحفز غير المبالين، الأمر الذي فعله في رسالته إلى أهل كورنثوس متحدثا عن الاثنين (المتكبرين وغير المبالين).
فعنـدمـا يقـول ” جـدوا للمواهـب” يبين كيـف أن هـؤلاء هـم المعنيين بالمواهب المختلفة التي أعطيت، لكن عندما يقول: “هذه كلها يعملها الـروح الواحد بعينه قاسما لكل واحد بمفرده كما يشاء ، يبين أنه لا ينبغي أن يفتخر أولئك الذين أخذوا الموهبة، فيلطف من حدة هذا الأمر، تماما كما فعل هنا. أيضا ولكي يشدد اليائسين يقول: إن كان لدينا نبوة فلنستخدمها بحسب إيماننا. لأنه وإن كانت تعتبر نعمة، إلا أنها لا تعطى جزافا ، بل هناك شروط لابد أن ينفـذهـا مـن يأخذها. فمقـدار النعمة الذي يسكب، يتوقف على سعة وعاء الإيمان الذي يستقبلها.
” أم خدمة ففي الخدمة ” (رو7:12).
هنـا هـو يشير إلى أمر عام، إذ يدعو العمل الرسولي خدمة. وكـل عمـل روحي خدمة، إن هذه التسمية تتعلق بالطبع بعمل يتسم بعناية خاصة، لكنه يذكر هنا بصفة عامة “أم المعلم ففي التعليم “. لاحظ الطريقة التي يشير بها إلى هذه الأمور، فهـو يشير أولاً إلى الأبسط، ثم إلى مـا هـو أعظم، لكي يركز تعليمه على موضوع واحد، وهو ألا يتباهوا ، أي ألا يتفاخروا.
” أم الواعظ ففي الوعظ “(رو8:12).
وهذا أيضا نوعا من التعليم. “إن كانت عندكم كلمـة وعـظ للشعب فقولوا “١٨. ثم لكي يظهر أن ممارسة الفضيلة لا تفيد كثيرا ما لم تكن مرتبطة بقانون خاص لـذلك يضيف “المعطـي فبسخاء “. لأنه لا يكفي أن تعطي، بل ينبغي أن يكون العطاء بسخاء. لأننـا نحـن نـعـرف هـذا في كل موضع، لأن العذارى أيضا كان لديهم زيئا، ولكن لأنه لم يكن كافيا ، فقدوا كل شيء، إذ يجب أن يكون “المدبر فباجتهاد”. لأنه لا يكفي أن يكون مدبرا.” الراحم فبسرور. لأنه لا يكفي المرء أن يرحم، بل يجب أن يفعل هذا بسرور وبرغبـة وبـدون حـزن، أو من الأفضل أن نقول، ليس فقط برغبة حـزن، بل وبشكر وبفـرح أيضا. لأن عدم الحـزن ليس معناه الفرح. وهذا تحديدا قد شدد عليه بدقة، عندما كتب إلى أهل كورنثوس حاثا إياهم على السخاء، قائلاً: “إن من يزرع بالشـح فبالشح أيضا يحصد ومن يزرع بالبركات فبالبركات أيضا يحصد ” ثم يصحح الرغبة، فيضيف “ليس عـن حـزن أو اضـطـرار “١٩. لأن مـن يـرحـم يجـب أن يتحلى بالشكر والسخاء معا.
إذا لماذا تحزن حين تُقدم على عمل الرحمة؟ ولماذا تتضايق عندما ترحم، وتخـون هـكـذا ثمر عملـك الـذي تحقق، لأنك إذا تضايقت، لا تكـون بهـذا المسلك راغبا في عمل الرحمة، بل تصبح قاسيا ومتوحشا. لأنه إن تضايقت، كيف تستطيع أن تساند الحـزين؟ لأن مـن الـضـروري ألا يتشكك مـن هـو حزين، بسبب وجود مشاعر غير صريحة، ولذلك فعليك أن تعطي بفـرح. لأنه لا شيء أمام البشر يبدو بهذا القدر من القبح، سوى أن يأخذوا مـن الآخرين وهم متشككين في رغبة المعطي، فيجب أن ثلاشي التشكك بفرح فائق يصاحب هذا العطاء، وما لم تُظهر أنك تأخذ أكثر من كونك تعطي، إن لم تفعل هذا فإنك تحقر من شأن الذي يأخذ، أكثر من أن تجعله يستريح ويهدأ. ولهذا يقول: “الراحم فبسرور “. لأن هل يمكن أن يأخذ أحد مملكة ويظل عابسا؟ أو مـن يـنـال غفران للخطايا ، ويبقى متجهما؟ إذا لا تدقق في إتفاق الأموال، بل في الربح الـذي يـأتـي مـن وراء النفقات. لأنه إن كـان الـذي يزرع يشعر بفرح، على الرغم مـن أنـه يـزرع دون أن يرى ثمارا ، فبالأولى جدا ينبغي أن يفرح ذاك الذي يزرع في السماء. هكذا سيكون عطاءك كثيرا إن أعطيت بسخاء، حتى لو كان مقدار العطاء قليلا، أيضا ستجعل العطاء الكثير قليلاً إن أعطيت بوجه عابس. فإن المرأة صاحبة الفلسين، تفوقت على عطاء الكثيرين، لأنها أعطت بسخاء.
ولكن كيف يمكن للمرء أن يعطي بفرح وسخاء، إذا كان يعيش هو في أسـوأ درجـات الفقـر ويـحـرم مـن كـل شـيء؟ اسـأل الأرملة وستسمع منهـا الطريقة، وستعرف أن الفقر لا يصنع التعاسة، بل الرغبة هي التي تصنع هذا أو عكسه. لأنه يمكن للمـرء وهـو ف الفقـر أن يكون كريم النفس، وفي الغنى يمكن أن يكون تافها. ولهذا فإن الرسول بولس يطلب السخاء في عمل الصلاح، وفي عمـل الـرحمـة يطلـب الفـرح، وفي الدفاع (عـن الإيمـان) يطلـب الغيرة. لأنه لا يريد أن تساعد من هم في احتياج بالأموال فقط، بل وبالكلام أيضـا (أي بالتبشير)، وبالجسـد (أي بالجهـد الجسـدي)، وبكـل الأمـور الأخـرى. وبعـدما تكلـم عـن الحمايـة أو الوقاية الأولى التي تتـوفـر بـالتعليم وبالنصيحة (لأن هذه هي ضرورة ملحة، طالما أنها غذاء النفس)، ينتقل إلى الحماية عن طريق المال وغيره. ثم لكي يظهـر بعـد ذلـك كيـف يمكن أن يحققوا كل ذلك، أخذ يعرض لنا نبع الصالحات، أقصد “المحبة”.
” المحبة فلتكن بلا رياء ” (رو9:12).
الذي يعنيه هنا، هوا أنك لو كنت تمتلك هذه المحبة، فلن تُعطى أهمية لما ينفـق مـن المال، ولا لمتاعب الأجساد ، ولا للجهد الذي يبذل في الإقناع، ولا للإرهاق والخدمة، بل ستتحمل كـل هـذه الأمـور بنبـل وشهامة، سواء كان ذلك بالجهد الجسدي، أو بالمال، أو بالكلام، أو بأي شيء آخر، فيكون الشيء الأهم هو مساعدة القريب. وهكذا كما أنه لم يطلب فقط مجرد نشـر الصـلاح، بـل نشـره بسخاء، ولم يطلب فقط الحماية، بل الحماية من خلال الآخر، ولم يطلب فقط عمل الرحمة، بل طلب عمـل الرحمة بفرح، هكذا فإنه لا يطلب فقـط المحبة ، بل يطلب محبـة بـلا رياء، لأن هـذه هـي المحبة، وإن وجدت هذه المحبة، فإن كل الأمور الأخرى ستتبعها. كذلك فإن من يقدم عمل الرحمة بفرح، هو يعطي لذاته (فرحا)، ومن يحمي، يجب أن يحمي أو يدافع بغيره، لأنه يساعد نفسه، وذاك الذي يعطي شيئا، يجب أن يصنعه بسخاء، لأنه يعطي ذاته.
٢ ـ بعد ذلك، ولأن هناك محبة لأشياء شريرة، مثل محبة الفجور، محبة المال، السرقة بهدف السكر وإقامة الموائد، ولكي ينقي المحبة التي تحدث عنها ، وعن هذه الصور من المحبة، يقول: “كونوا كارهين للشر”، ولم يقل ابتعدوا عـن الشـر، بـل قـال ” كـارهين للشـر”، وليس فقـط كـارهين، بل ارهين بشــــــــدة. لأن الأداة الــــــــتي تصـــــاحب الفعـل تجعلـه يأخـذ معنـى “كـارهين”، ومـرات كثيرة تضيف على الفعـل معـنـى القـوة عنـدما تضـاف إليـه، مثلمـا يقـول (-CTO KapaSokias) أي اقتنـــــــاص الفرصة المناسبة بقـوة (QTEKSEXóvo) أي منتظرين بلهفـة، (aToorpaon) أي التحرير التام.
ونظرا لأن الكثيرين، وإن كانوا لا يرتكبون الشر، إلا أنهم يرغبون في ممارسته، قال “كارهين الشر بشدة “. لأن الرسول بولس يريد أن يجعل فكرنا نقيا، وأن نواجـه الشـر بـالرفض والبغضـة الشديدة والمقاومة، إذا لا تعتقدوا لأنني قلت، إنه يقول “أحبوا بعضكم بعضا “، أنني أقصد التوقف عن هذا الحد، حتى تظنوا أنه يمكن أن تتعاونوا في الشر، بل على العكس تماما، يجب أن تكون غريبا وبعيدا ، ليس فقـط عـن مجـرد إرتكاب فعل الشر، بل عن الرغبة في الشر أيضا، وليس هذا فقط، بل أن تتحول عنـه وتكرهـه بشدة. ولا يكتفى بهذا فقط، بل ويحدد عمل الفضيلة، قائلاً:
” ملتصقين بالخير“. هـذا هـو مـا أعلنـه، بـأن يطلـب أن يكونوا ملتصقين. وهكذا فإن الله عندما وحد الرجل بالمرأة، قال: “ويلتصق بامرأته . وبعد ذلك يشير إلى الأسباب التي لأجلها ينبغي على الواحد أن يحب الآخر.
” وادين بعضكم بعضا بالمحبة الأخوية ” (رو10:12).
هنا يقول أنتم اخوة، وولدتم بنفس الآلام التي تحدث في الولادة، وبناء على ذلك، ومن أجل هذا السبب، سيكون أمر مبرر أن يحب الواحد الآخر. نفس الأمـر قـالـه مـوسـى لأولئك الذين كانوا في مصـر “أنتم اخـوة. فلماذا يظلـم الواحد الآخر؟ “، وعندما يأتي ذكر غير المسيحيين، يقول الرسول بولس “إن كان ممكنا فحسب طاقاتكم سالموا جميع الناس”. لكـن عنـدمـا يتكلم مع المؤمنين يقول: ” وادين بعضكم بعضا بالمحبة الأخوية “. في الآية الأولى يطلب ألا يتشاجروا ، ولا أن يكرهـوا ويبتعدوا عـن هـؤلاء، أما الآية الثانية فيطلب أن يحبـوا أيضا، وليس فقط أن يحبـوا ، بـل وأن تكـون لهم مشاعر الحنو. لأنه لا ينبغي أن تكون المحبة بلا مودة، بل وأن تكون قوية، وفعالة وحارة.
لأنه ما فائدة المحبة عندما تكون بلا رياء، لكنها بلا بحرارة؟ ولهذا قال: “وادين بعضكم بعضا “، أي أن تحب، وأن تحـب بحـرارة. ألا تكتفـي بـأن تكون محبوبـا مـن الآخـر، بـل نفس الشيء أن تسـرع نحـوه وتبـادر أي تبـدأ بالمحبة. لأنه هكذا ستربح أجر محبته. إذا بعدما تكلم عن السبب الذي مـن أجله يجب أن نحب بعضنا بعضا، تكلم عن الطريقة التي بواسطتها ستصير هذه المحبة ثابتة. ولهذا أضاف: “مقدمين بعضكم بعضا في الكرامة ” لأنه هكذا يجب أن تكون المحبة، وعندما تصبح على هذا النحو فستظل دائمة. ولا يوجد شيئا يجعل الإنسـان قـادرا على أن يصـنـع لـه أصـدقاء، أكثـر مـن محاولته أن يجعل قريبـه يتقدمه في الكرامـة. ويقـال عـن هـذا إنهـا كـرامـة عظيمة وليس فقط محبة. لأن كل ما سبق ذكـره يـأتـي مـن المحبـة، بل إن المحبـة تصير بالكرامة، تماما كمـا أن الكرامـة تصير بالمحبـة. ولكـي يوضح بعد ذلك أنه لا يجب علينا فقط أن نقدم بعضنا بعضا في الكرامة ، فهو يطلب شيئا أكثر من هذا، قائلا:
” غير متكاسلين في الاجتهاد ” (رو11:12).
لأن هذا الأمر بالحقيقة يلد محبة عندما تظهر من جهة شخص ما، فيجب أن يضيف الإجتهاد إلى جانب الكرامـة. كذلك لا يوجـد شـيء يمكـن أن يساهم في أن يصير الشخص محبوبا، أكثـر مـن تقديم الكرامة والعناية والإجتهاد. لأنه لا يكفي أن يحب، بل هو يحتاج إلى أن يقدم كرامة وعناية. أو من الأفضل أن نقول إن المحبة تؤدي إلى إظهار هذا أيضا، كما أن المحبة تصـبـح بـذلك أكثـر حـرارة. فالخطوة الأولى تؤدي إلى الثانية، خاصة وأن كثيرين ممن يحبون، يحبون بفكرهم، لكنهم لا يمدون يد المساعدة. ولهذا فإنه يبني المحبة من كل جهة. وكيف يكون ممكنا ألا نصير متكاسلين في الاجتهاد؟ بأن نكون ” حارين في الروح “. لاحظ أنه في كل موضع يطلـب الحماس والحرارة في التطبيق. لأنه لم يقل فقط أن تعطوا شيئا، لكن أن تعطوا بسخاء، ولا أن تكونوا متسلطين، بل خادمين بغيرة، ولا أن تقدموا عمل الرحمة فقط، بل أن تقدموه بفرح، ولا أن تقدموا بعضكم بعضا في الكرامة، بل أن تقدموا الآخرين في هذا العمل، ولا أن تحبوا ، بل أن تحبوا بلا رياء، ولا أن تبتعدوا عـن الشـرور، بـل أن تكرهـوا الشر، ولا أن تحبـوا فقط، بل أن تحملوا أحشاء رأفة، ولا أن يكون لديكم رغبة في الاجتهاد ، لكن يجب أن تكونوا غير متكاسلين، ولا أن تكونوا حاملين للروح فقط، بل أن تكونوا حارين في الروح، وفي يقظة.
إذا إن كنت تمتلك هذه الأمور التي سبق الاشارة إليها، فإنك ستجذب الروح، وإن ظل الروح فيك فإنه سيجعلك تركض نحو هذه الأمور، وكل ما يأتي بواسطة الروح والمحبة سيكون أمورا سهلة، فطالما أنه يأتي مـن الـروح والمحبة، فستكون حارا. ألا ترى كيف أن الثيران التي تحمل على ظهورهـا الشعلة حيوانات مخيفـة بالنسبة للجميع؟ هكـذا أنـت أيضا ستصير غير محتمل بالنسبة للشيطان، إن أخذت الحرارة من الجانبين (الروح والمحبة) ثم يضيف “عابدين الرب”. أي أنه من خلال كل هذه الأمور، يكون ممكنا لك أن تعبد الرب، لأن كـل مـا تصنعه لأخيـك يذهب إلى إلهك، وحين يقـدر لـك هذا الصنيع، فإنه على الفور يقرر لك الأجر. أرأيت إلى أين ستؤول أمـور ذاك الذي يفكر في صنع هذه الفضائل؟ وبعد ذلك، ولكي يبين كيف يمكن أن تلتهب شعلة الروح، يقول:
” فرحين في الرجاء. صابرين في الضيق مواظبين على الصلاة ” (رو12:12).
لأن كل هذه الأمور هي مادة لاشعال نار الروح، لأن إلهك قد طلب أن تقدم أموالاً، وجهداً جسدياً، وحماية وغيرة وتعليما، وعليك أن تبذل كل الجهود الأخرى، ثم يقدم وعود أيضا للمجاهـد بالمحبة، وبالروح، وبالرجاء، لأنه لا يوجد شيئا يجعل النفس سخية ، وجريئة بهذا القدر، إلا الرجاء الصالح. بعد ذلك وقبـل الخيرات المنتظـرة يعطـى مكـافـأة أخـرى. أي لأن الرجـاء يتعلـق بالمستقبل، يقول: “صابرين في الضيق “. لأنه قبل أن تنـال الأمور المستقبلية ، ستربح في الحاضر عطية حسنة جدا، بسبب الصبر على الضيق، وذلك عندما تصير صبورا ومختبرا، بالإضافة إلى ذلك، يقدم عونا آخرا ، قائلا: “مواظبين على الصلاة “. إذا عندما يصبح كل شيء سهلا بالمحبة، ويعطي الروح عونا ، ويكون الرجاء ممكنا، ويجعلك الضيق مختبرا وقادرا على أن تحتمل كل شيء بنبل، وعندما يكون لديك بالإضافة إلى كـل هـذا سلاحا آخرا قويا جدا ، ا، وهو الصلاة، والمعونة التي تأتي من التضـرع، فهل بعد ذلك سيكون هناك ما هو صعب، بالطبع لا. أرأيت كيف أنه يسند الذي يجاهد بالروح من كل الإتجاهات، ويظهر أن كل المتطلبات تعـد أمـورا يسيرة وهينـة؟ انتبـه أيضا، كيف أنه ينشغل بعمل الرحمة، أو من الأفضل أن نقـول ليس فقـط بعمل الرحمة، بل بعمل الرحمة تجاه المؤمنين. لأنه بقوله فيما سبق “الراحم فبسرور”، يكون قد فتح اليد للجميع، لكنه هنا يتحدث عن عمل الرحمة تجاه المؤمنين. ولهذا أضاف قائلاً:
” مشتركين في احتياجات القديسين ” (رو13:12).
لم يقـل أن تسددوا إحتياجاتهم، لكـن ” مشتركين في إحتياجاتهم “، مظهرا بأن الأعظم أن يشتركوا لا أن يعطوا ، وأن الأمـر هـو عمـل مشـترك، لأنه مختص بالشركة. هـل ثقـدم أموالاً؟ إن كنت تفعل ذلك، فإن أولئك سيجعلون لـك دالـة أمام الله . ” عاكفين علـى إضـافة الغرباء”. لم يقـل أن تمارسوا ، بل أن “تعكفوا”، معلما إيانا ألا ننتظر أبدا أن يأتي إلينا من هـم في احتياج، بل أن نركض خلفهم ونسعى إليهم.
هذا ما صنعه كل مـن لـوط، وإبراهيم. فإن إبراهيم قد بذل الكثيري انتظـار هـذا الصيد الحسن، وعندما رآه قفـز وركض لملاقاته وسجد إلى الأرض، وقال: “إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك فلا تتجاوز عبدك وليس مثلنا نحن الذين عندما نرى شخصا غريبا أو فقيرا، تخفيض عيوننا ، ولا نعتبر الفقراء مستحقين شيئا، ولا حتى للتحية. وإن كنـا نـرق ونلين بعـد الكثير من التضرع والرجاء، ثم بعد ذلك نصدر أمرا للخادم أن يعطي قليلاً من المال، فإننا نظن أننا أنجزنا الكثير. أما إبراهيم فلم يسلك هكذا ، بل أخذ مكان الخادم الذي يترجى، وإن كان بالطبع لم يعرف أولئك الذين ينوي استقبالهم. ولكننا ، نحـن نـعـرف جيدا أننا نستقبل المسيح، إلا أننا ولا بهذا نترفـق بـالفقراء. ولكـن إبراهيم أخذ يترجى ويتضرع، ويسجد ، بينما نحن نُهين الذين يقتربون منا، وهو (أي ابراهيم) حقق كل شيء وحـده برفقة زوجته، بينما نحن لم تُحقق شيئا، ولا برفقة خدامنا.
لكن إن كنت تريد أن ترى المائدة التي أعدها، سترى هنا أيضا سخاء كثيرا. لكن السخاء لا تصنعه وفرة الأموال، بل غنى الإرادة. حسنا كـان يوجد كثير من الأغنياء في ذلك الوقت، إلا أنه لم يصنع أحد منهم شيئا مشابها لما صنعه ابراهيم. كم عدد الأرامل الذين وجدوا في إسرائيل، ولكن ولا واحدة منهم استضافت إيليا (سوى أرملة صرفة صيدا). أيضا كم عدد الأغنياء الذين وجدوا في عصر إليشع؟ لكن المرأة الشنومية وحـدهـا هـي الـتي جنت ثمر الضيافة. وهذا ينطبـق بـالطبع على إبراهيم في ذلك الوقت، وهـو يستحق المدح لوفرة الخيرات، التي قدمها، وبشكل خاص لأجـل هـذه النية ، أى أنـه صـنـع كـل هـذا ، بـرغم أنه لم يكـن يعـرف هـويـة الزائرين . إذا لا تفحص كثيرا أنت أيضا عن هوية الشخص، لأنك تستقبله لأجل المسيح. وإن كنـت تـريـد أن تفحص بالتدقيق وبشكل دائم، عـن هـويـة مـن تـرغـب في مساعدته، فإنك ستفقد الأجـر بسـبـب هـذا. إن كـان بـالطبع مـن يسـتقبل شخص غير معروف الهوية، لا يدان، بل ويأخذ أجرا “من يقبل نبيا باسـم نـبـي فـأجـر نـبـي يأخـذ “، بينمـا ذاك الذي يتطرف في الفحص، قـد يجهـل مـن يستحق التقدير، بل ويدان أيضا.
إذن لا تفحص كثيرا طرق معيشة الشخص وعمله، لأن هذا يعتبر أسـوء أنواع السلوك بأن تفحص بالتفصيل حياة الشخص بكاملها من أجل إعطاءه رغيفـا مـن الخبـز . وسـواء كـان هـذا قاتلاً، أو لصا، أو أي شيء آخر، ألا يستحق قطعة خبز أو قليلا من المال؟ إن سيدك يشرق شمسه علـى هـؤلاء، بينما أنت تعتبرهم غير مستحقين للطعام اليومي! لكنني أحدثك عـن أمـر آخر: حتى لو كنت تعرف جيدا أن ذاك المحتاج ملئ بشرور لا تُحصى، فإنه ولا حتـى هـذا يعطيـك مبررا لعدم الإحسان إليه، طالما أنـك تحـرمـه طعامـه اليومي. لأنك عبد لذاك الذي قال “لستما تعلمـان مـن أي روح أنتما “. أنت خادم لذاك الذي شفى الذين أهانوه، لذاك الذي صـلب مـن أجـل هـؤلاء . ولا تقل لي أن ذاك المحتاج قد قتل شخصا آخر، لأنه وحتـى لـو كـان ينوي قتلك أنت، فلا يجب أن تتركه يعاني الجـوع. خاصة وأنك تلميذ ذاك الذي طلب الخلاص لصالبيه، وهو الذي قال على الصليب: “يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون”.
أنت عبد لذاك الذي شـفـى مـن لطمـه، ومن وضع إكليـل الشـوك علـى رأسه، ومن أهـانـه وهـو على الصليب، فهل هناك ما يمكن أن يوازي هـذه المحبة؟ كذلك فإن اللصين (المصلوبين معه) قد أهاناه في البداية، لكنه فتح الفردوس لواحد منهما. وبكي لأجل الذين كانوا يشرعون في قتله، وانزعج عندما رأى يهوذا الخائن، لا لأنه سوف يصلب، بل لأن يهوذا قد هلك. إذا فقد إنزعج لرؤية المشنقة، لرؤية الجحيم الذي أتى بعد المشنقة . وبرغم من أنه كان يعرف الشر الذي يضمره، إلا أنه إحتمله حتى آخر لحظة، ولم يبعده ، بل قبل الخائن . إن سيدك يقبل ذاك الذي كان ينوي أن يساعد في سفك دمه الكريم بعد لحظات، بينما أنت لا ترى أن الفقير مستحق ولا حتى للخبز؟ ولا تحترم القانون الذي حدده المسيح؟ لأنه قد أظهر بهذا السلوك أنه لا ينبغي أن نتحول عن الفقراء، ولا حتى نتحول عن الذين يقودوننا للمـوت . إذا لا تقـل لـي إن هذا سبب لي شرا، لكن فكر فيما صنعه المسيح قبل صلبه بقليل، وفي القبلة التي سلم بها . لقـد فـعـل هـذا لـكـي يرجع الخائن إلى صوابه. وانظـر كيف يراجعه، يقول له: “يا يهوذا أبقبلة تُسلم ابن الإنسان “. ومن هو الذي لا يرق لهذا الصـوت؟ أي وحـش هـو وأي متحجر المشاعر هـذا؟ للأسـف هـذا التيس لم يلن. إذا لا تقل لي أن هذا قتل ذاك، ولذلك فإنني أتحـول عنـه، لأنه حتى وإن كان بعد يريد أن يخرج سيفه في وجهك ويضعه على رقبتـك بيـده اليمنى، فعليك أن تقبل هذه اليد ، لأن المسيح قبل ذاك الذي سبب لـه الذبح. إذا فأنت أيضا ينبغي ألا تكره، بل أن تبكي وأن تتراءف بذاك الذي يريد أن يصنع بك شرا. لأن هذا مستحق أن نتراءف به وأن نبكي عليه. إذا فنحن خدام ذاك الذي قبل الخائن (ولن أتوقف على أن أكرر هذا الأمر باستمرار).
بل إن الـرب قـال كـلام أكثـر رقـة مـن القبلـة: لأنه لم يقـل أيهـا الـدنس، والخبيث، والخائن، هل هـذا هـو جـزاء إحساناتي الكثيرة لك؟ فماذا قال؟ قال “يهوذا” مشيرا إلى الاسم الأساسي، وكانت بالأكثر هـي كلمـة الـذي يريد أن يوقظه ويعيده إلى مكانته، أكثر من كونها كلمة غضب. ولم يقل أنا معلمك، وسيدك، والمحسـن لـك، لكنـه قـال: “ابن الإنسان”. إذا إن لم يكن معلما ، ولا سيدا ، فهل تسلم ذاك الذي تعامل معك بكل هذه الرقة ، وكل هذه الصراحة، حتى أنه في لحظة الخيانة يقبلك، خاصة حين كانت القبلة علامة الخيانة؟ مبارك أنت أيها الرب! كـم هـو عظيم تواضعك، كم هو عظيم مثال التسامح الذي تعطيه لنا!.
لكنه تكلم بهذه الطريقة في مواجهة يهوذا ، فهل يتكلم بهذا الأسلوب أيضا مع الذين أتوا بعصي ومشاعل ليقبضوا عليه ؟ وهل هناك كلام أكثر رقة من الكلام الذي تحدث به معهم؟ فبينما كانت لديه القدرة أن يفنيهم جميعا، إلا أنه لم يصـنع شيئا مثـل هـذا ، بـل حـدثهم بهـدف أن يضـبط سلوكهم، قائلاً: “كأنـه علـى لـصـ خـرجتم بسيوف وعصـي “٢٩). وبعـدما طرحهم على الأرض، وظلوا متجمدي المشاعر، سلم نفسه بإرادته، وإرتضى أن يضعوا سلاسل في يديه الطاهرتين، على الرغم من أنه، كان بإستطاعته أن يزلزل كل الأشياء، إلا أنك ورغم كل ذلك، تسلك بوحشية تجاه الفقير. لكنني أقول لك، حتى وإن كان مذنبا لأجل شرور كثيرة قد صنعها، فإن الفقر والجوع، يقدران على تليين تلك النفس التي لم تصل إلى هذه الدرجة مـن فقـدان الإحسـاس . لكنـك لازلـت مـصـرا علـى أن تكـون قاسيا، وأن تُحاكي غضب الأسود، وإن كانت الأسود لا تأكل أبدا أجسادا ميتة، إلا أنك لا ترحم الفقير، مع أنـك تـراه محاطا بهذا القدر الكبير من الآلام، بل وأيضا تدوسه بينما هو في وضع سيء، وتُمزق جسده بالإهانات، وتجمع عليـه نكبـات فـوق نكبـات. وذاك المحتـاج الـذي لـجـأ إليـك كـمـا لميناء، تجعلـه يصطدم بصخرة في الماء، وتُسبب له غرقا خطيرا ، أكثر من هؤلاء الذين هـم في البحر. وأنا بدوري أسألك ماذا ستقول عندما تقف أمام الله؟ هل ستقول ارحمني؟
وكيف تطلب غفرائا للخطايا، عندما تُهين ذاك الذي لم يخطئ إليـك مطلقا، وتُعاقبـه بـأن تتركه للجوع، وللإحتياج الشديد، وأنت بهذا المسلك تفـوق جميـع الـوحـوش في القسـوة؟ لأن هـذه الوحـوش تأكل الطعام المعتـادة عليه، لأن البطن تُرغمها ، بينما أنت دون أن يحرضك أحد، ولا أن يجبرك أحد، تأكـل أخيك، وتفترسه، وإن لم يكـن بالأسنان، فبكلام أكثر فتكا من الأسنان. إذا كيف ستقبل العطية المقدسة، وفمك مخضب باللون الأحمر، بدماء الناس ؟ كيـف تلقـي تحيـة سـلام بفم مملوء عداوة؟ وكيـف ستستمتع بطعامك وفمك مملوء بهذا القدر من السموم؟ ألا يجب أن تخفف من ظاهرة الفقر؟ ولماذا تُثيرها؟ ألا يتعين عليك أن تريح شخصا يعيش في حالة تعاسة، ولماذا تُهينه وتحتقره؟ ألا يجب أن تنزع عنه الضيق، فلماذا تُزيـده ؟ أليس من الواجب عليك أن تعطي أموالاً، فلماذا تتطاول عليه بالكلام؟ ألم تسمع كم يعاقب كل من لا يقدم طعاما للفقراء؟ وبأي العقوبات يدانون؟ يقول: “اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته” لكـن إن كـان الذين لا يطعمون الفقير يعاقبون هكـذا ، فما هي عقوبة أولئك الذين بالإضافة إلى ذلك، يهينونه أيضا؟ أي جحيم كبير، وأي جهنم مفزعة سيعانون؟ إذا حتى لا نجلب على أنفسنا الكثير من الشرور، علينا أن تعالج هـذا المرض بقدر استطاعتنا، ولنضع لجاما على اللسان. ومـا ينبغي علينا فعله، ليس فقط ألا نشتم، بل وأن تُعـزي بالكلام وبالأعمال، حتى ندخر لأنفسنا رحمة أكثر من ذي قبل، لننال الخيرات التي وعدنا الله بها ، والتي ليتنا ننالها جميعا بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي يليق به مع الآب والروح القدس، المجد والقوة والكرامة إلى أبد الدهور آمين.
عظة 23: رو12: 14-23
” باركوا على الذين يضطهدونكم. باركوا ولا تلعنوا ” (رو14:12).
١ـ بعدما علمهم كيـف يجب أن يسلكوا فيما بينهم، وبعدما وحد بين الأعضـاء بإحكـام، يكـون بهـذا قـد قـادهم إلى التعامل المستقيم خـارج الكنيسة، وهكذا يصير الأمر أكثر سهولة، إذ قد سبق وصنعه داخل الكنيسة. لأنه كما أن من يفشل في تسديد احتياجات أقربائه، يصعب عليـه أن يفي بالتزاماته نحـو الغرباء، هكذا فإن من درب نفسه جيدا علـى هـذه الأمور، فإنـه مـن السهل أن يفـي بالتزاماتـه نـحـو الغرباء أيضا. ولهذا فإن القـديـس بـولس يتقـدم رويـدا رويـدا، ويقـول: “بـاركوا عـلـى الـذين يضطهدونكم “. لم يقل لا تنسوا الإساءة، ولا قـال يجب أن تحاربوهم، بل طلب ما هو أفضل بكثير من ذلك كله، لأن هذه بالتأكيد هي سمة الإنسان الحكيم، بل هي بالأكثر صفة الإنسان الملائكي. فبعدما قال: “باركوا ” أضاف ” ولا تلعنـوا ” حتى لا نفعـل هـذا ونترك تلك، بل نفـعـل شـيئا واحـدا ، نبارك ولا نلعن، خاصة أنه د ، بسبب هؤلاء الذين يضطهدوننا، ننال المكافأة. أما إن كنت يقظا، فستُعد لنفسك مكافأة أخرى، مـن خـلال الـذي يضطهدك. لأن ذاك سيعطيك مكافأة من خلال إضطهاده لك، بينما أنت ستُعطي لذاتك المكافأة من خلال مباركتك له، مظهرا قدرا عظيما من محبتك للمسيح، فإن من يلعن المضطهد لا يشعر بالفرح، لأنه بهذا يكون قد رفض الألم لأجل المسيح، لكن الذي يبارك هو الذي يظهر محبته الكبيرة نحو المسيح.
إذن لا تُسيء إلي من يلعنك، لكـي تـربـح لنفسك مكافأة عظيمة، هذا الأمر لا يضع عليك إلتزام بأن تباركه، بل هو بمثابة احتفاء واحتفال، وليس نكبة، ولا ضيقة. ولهذا فإن المسيح له المجـد قـال أيضا : ” طـوبـي لـكـم إذا عيروكم وطردوكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة من أجلي كاذبين” ولهذا فإن الرسل رجعوا فرحين، ليس لأنهم أهينوا فحسب، بل لأنهم جلـدوا.
لأنه بالإضافة إلى ما سبق ستربح مكافأة أخرى كبيرة، أن تجعل أعداءك هكذا يتحيرون ويندهشـون، وأن تعلمهـم بالأعمال، أنك تسير نحو حيـاة أخرى، لأنه إن رآك تفرح، بل وتقفز من الفرح، فلماذا يسيئ إليك، سيعرف جيدا أن لديك رجاء آخر أعظم من مجرد الرجاء في الأمور الحاضرة. أما إذا بكيت وتذمرت، فمن أين سيعرف، أنك تنتظر حياة أخرى؟ لكن بالإضافة إلى كل هذا فإنك ستُحقق شيئا أخر، لأنه إن لاحظ أنك لا تتضايق بسبب الإهانات، بل وتبارك، فسيتوقف عن إضطهادك. إذا لاحظ مقدار المزايا التي تـأتـي مـن وراء ذلك، فإن المكافأة ستصير أكبر بالنسبة لك، والتجربة ستصير أقل، والذي يضطهدك سيوقف إضطهاده، والله سيتمجد، وإيمانك سيتحول إلى تعليم عن التقوى، لمن يعيش في الضلال . ولهذا فقد أوصانا أن تحسين ليس فقط للذين يهينوننا ، بل وللذين يسيئون إلينا ، وذلك مـن خـلال الأعمال.
” فرحاً مع الفرحين وبكاء مع الباكين” (رو15:12).
إذن لأنـه مـن الممكـن أن تُبـارك ولا نلعـن، بسبب المحبة، فهـو يريد أن نشتعل تماما بالمحبة. ولهذا أضاف” فرحا مع الفرحين وبكاء مع الباكين”، حتى أننا لا نبارك فقط، بل وأن نشارك في الحـزن وفي الألم، إن رأينا الناس في نكبة في وقت ما. فمن حيث مشاركة الذين يبكون أحزانهم، فهذا أمـر صائب، ولكن لماذا أوحي بالجانب الأخر إذا كان لا يعتبر أمرا مهما؟ لأن الفرح مع الفرحين يحتاج إلى نفس حكيمة، أكثر من البكاء مع الباكين. لأن البكاء مع الباكين بالتأكيد ثمليه علينا الطبيعة ذاتها، ولا يوجد أحد جامدا مثل الصخرة، حتى لا يبكي مع من يواجه كارثة، لكن الذي يفـرح مع الفرحين يحتاج إلى نفس سخية جدا، حتى أننا ليس فقط يجب علينا ألا نحسد من هو في حالة يسر ورخاء، بل وأن نفرح معه. ولذلك فقد ذكـر هـذا أولاً “فرحا مع الفرحين”. لأنه لا يوجد شيئا يقوي المحبة بهذا القدر الكبير، سوى أن نشترك فيما بيننا في الفرح وفي الحزن.
إذن ينبغي ألا تبقى بلا إحساس لأنك بعيد عن النكبات، ولا تحتاج لأن يرثي لك أحد. لأنه حين يصاب القريب بمكروه، فأنت مدين أن تشاركه الألم. فلتشارك في البكاء، لكي تُخفف عنه الحزن، وأن تشارك في الفرح لكي ثمكن له الابتهاج، وتؤصل المحبة، وتنفع نفسك. لأنه بالبكاء تجعل نفسك مشاركة في الحزن، بينما بواسطة الشركة في الفرح، تنقيها تماما من الحسد والغيرة. لاحظ أن الرسول بولس لا يشعر مطلقا بأي ضجر أو سأم. لأنه لم يقل، عليك أن تمنع الكارثة، حتى لا تقول وتكرر أن هذا مستحيل، لكنه أوصى بما هو أكثر سهولة، أوصى بمـا هـو في استطاعتك أن تفعله. لأنه إن لم تستطع أن تزيل الكارثة فعلى الأقـل شـارك في البكاء، وبهذا تكـون قـد محـوت الجـزء الأكبر، وإن لم تستطع بعـد أن تعطي السعادة ، فعلى الأقل شارك في الفرح، وبهذا تزيد الفرح جداً.
ومن أجـل هـذا ينصح، ليس فقـط بـألا نحسد، بل ينصح بمـا هـو أكثر بكثير مـن هـذا ، أي أن نفـرح مـعـه. لأن هـذا يعتبر أعظـم كـثيـرا مـن عـدم الحسد.
۲۔ ” مهتمين بعضكم لبعض اهتماما واحدا غير مهتمين بالأمور العالية بل منقادين إلى المتضعين” (رو16:12).
مرة أخرى يعطى اهتماما كبيرا لفضيلة التواضع، من حيث بدأ حديثه. خاصة وأنه كان من الطبيعي، أن يكـون لـدى هـؤلاء فكرا متعاليا بسبب تواجدهم في المدينة، ولأسباب أخرى كثيرة. ولهذا فإنـه يقـوض هـذا المرض بصفة دائمة، ويقلل من لهيبه. لأنه لا يوجد شيئا يقسم جسد الكنيسة بهذا القدر، سوى التباهي. وما معنى “مهتمين بعضكم لبعض اهتماما واحدا “؟ هل أتى إلى بيتك أحد الفقراء، فليصر اهتمامك به واحدا ، ولا تنتفخ أكثر، بسبب الغنـى. لا يوجـد غـني وفقيري المسيح، لا ترفضـه بسـبب مظهـره الخارجي، بل بالحري إقبله بسبب إيمانه الداخلي. وعندما ترى شخصا يئن، فلا تعتبره غير مستحق تعزيتك. ولا حين ترى شخصا في رغد وابتهاج، تخجل من مشاركته الفرح، بل تفرح معه، وتظهـر لـه نفـس الإهتمام الذي تحمله لنفسك. لأنـه يقـول: “مهتمين بعضكم لبعض اهتماما واحدا “. على سبيل المثال، هل تعتقد أنك عظيم؟ إذا فليكن لك نفس الفكر نحـو الآخر. هـل تفترض أن الآخر متضع وبسيط؟ إذا فليكن لديك نفـس الـرأي عن نفسك، ولتبعد عن ذاتك كل ما يتعلق بعدم المساواة.
لكن كيف يمكن أن يحدث هذا؟ يتحقق ذلك إن ابتعدت عـن محبـة المجـد الباطل. ولهذا أضـاف: “غير مهتمين بالأمور العاليـة بـل منقـادين إلى المتضـعين “. أي أن تنـزل إلى مستوى إتضـاع الفقـراء، أن تمتثـل لحـالتهم، وتُخالطهم. لا تتضع في الفكر فقط، بل عليك أن تساعد ، وتقدم بسخاء، ولا تعطي في معيـة آخرين، بـل علـى إنفراد ، مثل أب يعتني بابنه، كـرأس للجسد، الأمـر الـذي قـالـه في موضع آخـر: “اذكـروا المقيدين كـأنكم مقيدون معهم , لكنه لا يقصد بالمتضعين هنا الخاشعين فقط، بل الفقراء والمهمشين. ” لا تكونوا حكمـاء عنـد أنفسكم “. أي لا تعتقدوا بأنكم مكتفـون بـذواتكم. لأن الكتاب يقـول في موضع آخر “ويل للحكماء في أعين أنفسهم والفهمـاء عنـد ذواتهـم. وهـو بهـذا يقـوض التباهي، ويقضي على الانتفاخ، ويبطل لهيبهما، لأنه لا يوجد شيئا يمكن أن يتسبب في إنقطاع المرء عن الشركة، سوى أن يعتقد أنه مكتفي بذاته. ولهذا فإن الله خلقنا ولدينا احتياج، الواحد نحو الآخر. فإن كنت بعد حكيما، سيكون لديك احتياج لآخر، لكن إن كنت تعتقد أنك غير محتاج، فقـد صـرت أكثر غباء، وأكثـر ضـعفـا مـن الجميع. لأن مثـل هـذا الإنسـان سـيحرم ذاتـه مـن العون، وفي الأمور التي سيرتكب فيها الخطية، لن يتمتع بتقويم، ولا بأي مسامحة، بل أنه سيثير غضب الله، بسبب كبرياءه، وسيرتكب خطايا كثيرة. لأنه من الممكن في مرات كثيرة لا يعرف الحكيم مـا هـو الصواب ، والعديم المعرفة قد يسلك باستقامة، الأمر الذي حدث مع موسى وحماه، وفي حالة الملك شاول و خادمه، ومع اسحق ورفقة. إذا لا تتصور أنك قليـل الشـأن، عندما تشعر بإحتياج لآخر. فالاحتياج للآخر، يرفعـك بـالأكثر، ويجعلـك أكثر قوة، وأكثر إشراقا، وأكثر ثباتا.
” لا تجازوا أحدا عن شر بشر ” (رو17:12).
لأنك إذا أدنت شخصا آخـرا يـتـأمـر عليـك، فمـن الـذي جعلـك تدينـه؟ إن كان ذاك قد فعل الشر، فلماذا لا تتجنب التشبه به؟ ولاحظ كيـف أنـه هنـا لا يصنع تمييزا ، بـل حـدد قانونا مشتركا أو عاما. لأنه لم يقـل لا تُجـازوا المؤمن بشر، بل قال: “لا تُجازوا أحدا “، سواء كان أمميا، أو نجسا، أو أي شيء آخر.
“معتنين بأمور حسنة قدام جميع الناس. إن كان ممكناً فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس ” (رو18:12).
هـذا يعـني ” فليضـيء نـوركم هكـذا قـدام النـاس ” ، لكي لا نحيـا للمجد الباطل، وحتى لا نعطي فرصة لأولئك الذين يبحثون لنـا عـن سبب ، لكـي يهاجموننـا. لهـذا قـال في موضـع آخـر: ” كونـوا بـلا عـثـرة لليهـود ولليونانيين ولكنيسـة الله “. وبالصـواب قـال: “إن كـان ممكنًـا “. لأنـه توجد حالات ليست ممكنة، مثلما أن يكون الحديث عن التقوى، وعندما يكون الجهاد من أجل الذين يتعرضون للظلم. ولماذا تشك، كما لو أن هـذا غيرممكن، في اللحظة التي طبق فيها الرسول بولس هذا الأمر على غير المؤمنين، إذ وجد حلاً بشأن الإلتزام بين الرجل والمرأة، قائلاً: “ولكن إن فارق غير المؤمن فليفارق”. مـا يقـولـه يعني الآتي: أن تبذل كـل قـدراتك، ولكن يجب أن لا تعطي للأممي أو اليهودي مبررا للمخاصمات والمشاحنات ، وإن رأيت مرة أن التقوى تتعرض لأمر ضار، فلا تفضل الوفاق على الحق، بل عليك أن تثبت بنبـل حـتـى المـوت، وعليـك حتـى في هذه الحالة ألا تُحـارب بنفسك، ولا أن تُعلق على تغير الرأي، بل أن تحارب بالأعمال فقط، لأن هـذا هو معنى “فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس “. وإن كان الآخر لا يدعو للسلام، فلا يجب عليك أن تتألم كثيرا ، بل كن محبـا مـن جهـة قصـدك الداخلي، الأمر الذي سبق وأشرت إليه، دون أن تنكث عهدك أبدا مـن جهـة الحق.
۳ – ” لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء بل اعطوا مكانا للغضب. لأنه مكتوب لي النقمة أن أجازي يقول الرب ” (رو19:12).
عن أي غضب يتحدث؟ إنه يتحدث عن غضب الله. إذا ما يريده المظلوم هـو أن يرى الله , بنفسه ينتقم من الظالم. لأن ما يقوله الرسول بولس، هو إن كان مـن وقـع عليـه الظلم لم ينتقم لنفسه، فإن الله سيصـبـح هـو الـذي يعاقب . فلتسمح لله أن يعاقب، وطالما أن الرسول بولس، قد أقنع المظلوم بقبول ذلك، فإنه يطلب منه ما هو أكثر، أي الإيمان، قائلا:
11 ” فإن جاع عدوك فأطعمه. وإن عطش فأسقه. لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه. لا يغلبنك الشر بل اغلب الشر بالخير” (رو20:12-21).
هـو هـنـا يقـول آلا ينبغي أن تكون علاقاتي سـلامية؟ خاصـة وهـو يعطـي وصية بالإحسان. لأنه يقول إطعمه وإسقه. ثم بعد ذلك، لأنه أمر بشيء مجهد وكبير، بشكل يتجاوز الحد، أضاف: “لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار علـى رأسـه “. قـال هـذه الأمور، بهدف أن يردع الـعـدو بالخوف، وأن يجعل المحسين يعطي بدافع الرغبة في العطاء على رجاء نيل المجازاة. إن المظلوم لا تسره الخيرات التي ينالها عندما يشعر بالضعف (أمـام مـن ظلمـه)، ويشعر بالارتياح عندما يعاقب الظالم ويتألم، فلا يسره شيء أكثر مـن رؤيتـه لمـن أحزنـه وهـو يعاقب. ولذلك فقـد قـدم الـرسـول بـولـس هـذا أولاً وبحكمة، ثم أخذ ينصح بمـا هـو أسمى، قائلاً: “لا يغلبنـك الشـر “. لأنـه كـان يعـرف أن العدو وإن كـان بعـد وحشا كاسرا، إلا أنه لا يبقى عـدوا عنـدما تطعمه. وحتى وإن كان المظلوم صغير النفس آلاف المرات، فهو حين يطعم عدوه ، ويسقيه، فإنـه لـن يشـتهي عقابـه بعـد أن يطعمه. ولهذا، فنظرا لأن القديس بولس لديه ثقة في نتيجة ذلك الأمر، فإنه لم يهدد فقط، بل أيضا يعبر عن العقوبة في شدتها. لأنه لم يقل ستُعاقب عدوك، بل قال “تجمع جمر نار على رأسه “. ثم يناشد المنتصر قائلاً: “لا يغلبنك الشر. بل اغلب الشر بالخير “. وبأسلوب هـادئ يقصـد أنه لا ينبغي أن ننساق لرغبة الشر، لأن عدم نسيان الإساءة هو بمثابة إنتصار للشر.
لكنه لم يشر إلى هذا في البداية، بل بعد أن أنتزع الغضـب مـن المظلوم، أضاف عندئذ : “اغلب الشر بالخير”، لأن هذا أيضـا هـو الانتصار. كذلك فإن الملاكم ينتصر، لا عندما ينحني إلى أسفل فيتلقى الضربات، بل حين يقف منتصبا إلى أعلى ويتفادي الضربات، ويجعل خصمه يفرغ قوته في الهواء. وبذلك لا يتلقى أي ضربات، وتصير قوة الخصـم بـلا نفع، هذا بالضبط ما يحدث بالنسبة للإهانات . إذا فعندما ترد الإهانة فإنك تهزم لا من إنسان، بل من عبوديتك المرة للغضب وهو الأمر المخجل للغاية. أما إن صمت، فستكون قد انتصرت أيضا ، وتقيم نُصب الانتصار دون تعب، وسيكون لديك أعدادا لا تحصى من الذين يتوجونك، ويدينوا أكذوبة الإهانة. لأن ذاك الذي يعارض من الواضح أنه يعارض لأنه يجرح أو يهان، أمـا مـن يهـان ولا يبالي بالإهانة ، فإنه يعطـي فرصة للتفكير، حتى يتـدبـر مـا ينبغي أن يقوله، حسـنا فـإذا إحتقرت الإهانة، فستُبطل الحكم ضدك. وإن أردت أن تأخذ دليلاً واضحاً علـى كـل مـا قيـل، اسأل العدو نفسه: مـن يتضايق أكثر؟ هـل أنـت عنـدما تغضب وترد الإهانة، أم الأخر عندما يهين وتحتقر أنت هذه الإهانة. وهـذا مـا ستسمعه. فهو لا يفرح حين لا ترد الإهانة، بقدر ما يتضايق لأنه لا يستطيع أن يهينك بالأكثر.
ألا تـرى أولئك الذين يغضبون، كيـف أنهـم يهاجمون باندفاع كبير، ساعين بإصرار، وبصورة أسوأ من الخنازير المتوحشة نحو إحداث إصابات في القريب، ليحققـوا مـا يـريـدوا دون أن يتوخـوا الـحـذر مـن إمكانية تعرضهم للإصابات؟ إذا حين تحرمـه مـن فـعـل مـا يشتهيه، فإنـك تحـرمـه كـل شـيء ، طالما أنك حقرته، وأظهرته وضيعا، وطفلاً أكثر منه رجلاً، وهكذا تصير أنت حكيما، بينما ذاك فقد أحاطت به سمعة وحـش شـرير. فلنصنع نحـن هذا الأمر إزاء الضربات، كيف؟ بأن لا نرد الضربات، بل إن أردت أن توجه له الضربة القاضية، حول له الخد الآخر، وستُصيبه بإصابات لا تُحصى. لأن أولئك الذين يصفقون لك ويعجبون بك، هـم بالنسبة له، أكثر خطورة مـن القتلة المجرمين. وقبل هؤلاء، فإن ضميره سيدينه، وسيحكم عليه بعقوبات كبيرة، كمـا لـو كـان قـد أصيب بأسوأ أنواع الشرور، وهكذا فعندما يخجل لابد إنه سيرحل . لكن إن كنت تطلب المجـد مـن الكثيرين، فإنك ستتمتع بهذا المجد أيضا إلى حد كبير، لأنه على أية حال فنحن نحمل رأفة تجاه الذين يتألمون، ولكن حين نراهم لا يردوا الضربات، وليس هذا فقط، بل ويسلمون أنفسهم أيضا، عندئذ فإننا لا نتراءف بهم فقط، بل وتعجب بهم.
٤ـ مـن أجـل ذلـك، أشعر بأنني أريد البكاء بصـوت مرتفع، لأننـا نحـن نستطيع أن نحصل على خيرات العالم الحاضر، وننـال خيرات الدهر الآتي كذلك، إذا أطعنا نواميس المسيح كما ينبغي، إلا إننا نفقد الاثنين، لأننا لا نخضع لكل ما قيل، وتفلسف كل شيء بشكل زائد عن الحـد. . . خاصة وأن المسيح وضع قانوئا لكل شيء، وفقا لمنفعتنا، وعرفنا بما ينبغي فعله حتى يجعلنا ممجدين، وبما يجب أن نتجنبه حتى لا نكون أدنياء . وما كان له أن يأمر بهـذا (أي أن تقابـل الإساءة بالإحسـان)، إن كـان يهـدف إلى أن يضـع تلاميذه موضع سخرية. ولكنه أمر بهذا السلوك لأنهم أصبحوا أكثر مجدا عندما طبقوه، فهم لا يتطاولون بكلام سيئ، وعندما يتهمون، وعندما يساء معاملتهم، لا يردوا الإساءة بالإهانة . لكن إن كـان هـذا يجعلهم ممجـدين أكثر من أي سلوك آخر، فبالأكثر جدا فإن الكلام الحسن الذي يقولونه حين يتهمون، سيجعلهم ممجدين، وحين يباركون عندما يشتمون، وحين يحسنون عندما يعانون الألم، ولذلك فقد قنّن كل هذه الأمور. كذلك فهـو يهتم كثيرا بتلاميذه، لأنه يعرف جيدا، ما الذي يجعل الإنسان وضيعا، وما الذي يجعلـه عظيما. إذا إن كـان الله يهتم بك، ويعـرف كـل شـيء فلمـاذا تتشاجر مع عدوك، وتريد أن تسير في طريق آخر؟ إن الإنتصار الذي يأتي عن طريق المعاملة السيئة هو لحساب الشيطان.
إلا أن هذا القانون الخاص بالمكافآت لا يطبق في مجال الحياة بحسب المسيح، بل ما يحدث هو على العكس تماما ، فقانون المسيح أن يتوج المهزوم وليس الفائز. لأن هـذه هـي طبيعة ساحة الجهاد في المسيح : يتم تقييم كل شيء فيهـا بشكل عكسـي، حتى أن المعجـزة تصير أعظـم، ليس فقـط بالانتصار، بل بطريقة الانتصار. فعندما تكون العوامل التي تؤدي إلى الهزيمة في مكان ما ، يعرضها كسبب للانتصار، فهنا تتجلى قـوة الله، هذه هـي ساحة السماء، هذا هو مسرح الملائكة. أعرف أنكم صرتم أكثر حرارة الآن، وقد صرتم أكثر ليونة من الشمع، فلتطرحوا عنكم كل شيء عندما ترحلون مـن هـنـا. ولهذا فإنني أحزن وأشعر بالضيق، لأن أعمالنا لا تعكس أقوالنا ولا تعبر عنها، خاصة حين ننـوي أن نربح هنا في هذه الحيـاة مـا هـو أكثر عظمة. فإن أظهرنا رأفة، لن تهزم من أحد، ولن يكون هناك إنسانا سواء كان صغيرا أم كبيرا، يستطيع أن يصيبنا بضرر. إذا إن تكلم أحد بكلام سيئ عنك، فإنه لن يضرك مطلقا ، بل يؤذي نفسـه بشدة، وإن ظلم أحد فإن الضرر سيحيط بمن اقترف الظلم. ألا تـرى مـا يحدث في المحاكم؟ فالمظلومين هم أكثر إشراقا ، ويقفوا للتحدث بكل جرأة، وبفـم خـر، بينما الذين ظلموا يتكلمون منحنين الرأس، بخجل وخوف .
ولماذا أتحـدث عـن الكلام السيئ والظلم؟ حتى وإن كان يشهر سيفه ضدك، وإن كان يغرز يده اليمنى في رقبتك، فإنه لن يضرك على الإطلاق، بينما في الحقيقة هو قد ذبح نفسه. وسيؤكد هذا الكلام أول من قتل باليد الأخوية. لأن الواحد (أي هابيل) ذهب إلى الميناء الهادئ، بعدما ربح مجـداً أبديا، بينما الآخر (أي قايين) عاش حياة أكثر تعاسـة مـن كـل مـوت، إذ كـان يئن ويرتجف، ويلصق بنفسـه تهمة القتل[تك4: 8]. إذا يجب ألا نسعى نحـو الظلم والكلام السيئ، بل نحـو الإحسان . لأن الذي يعاني الألم، لا يحتل الشر بيته أبدا، وبالطبع لن يولد من داخله، بل بعدما يقبلـه مـن آخر، يجعله بصبره شيئا حسنا، بينما الذي أساء، يكون في بيته مصدر الشر. ألم يكن يوسـف في السجن، بينما الساقطة، التي صنعت بـه الشـر كانت في قصـر فخم ومشهور؟ إذا من منهما تريد أن تكون؟ ولا نشير بعد إلى التعويض بل إفحص هذه الأحداث في ذاتها. هكذا ستفضـل السجن مع يوسف، آلاف المرات، على أن تكون في البيت مع الساقطة . لأنه بالحقيقة إذا نظرت إلى كليهما سترى أن نفس يوسف قائمة في راحة وفي جرأة كبيرة، بينما نفس تلك المرأة، كانت قائمة في ضيق وخجل، وفي عبوس وإضطراب، وحـزن شديد. وقد يبدو أن هذه المرأة قد انتصرت، لكن ما حدث ليس انتصارا. وإذ نعـرف هـذه الأمور، فلتُيـد أنفسنا لتحمل الإساءة، حتى نتحـرر مـن المعاملة السيئة، وننال خيرات الـدهر الآتي، والتي ليتنا جميعا نتمتع بها ، بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي يليق بـه مـع الآب والـروح القدس المجد والقوة والكرامة إلى أبد الدهور آمين.
تفسير رومية 11 | تفسير رسالة رومية | تفسير العهد الجديد | تفسير رومية 13 |
القديس يوحنا ذهبي الفم | |||
تفاسير رسالة رومية | تفاسير العهد الجديد |