تفسير رسالة رومية أصحاح 4 للقمص تادرس يعقوب ملطي
اليهودي وبر الله
ص 4-10
1. الاتّكال على أبوة إبراهيم 4-6.
2. الاتّكال على استلام الناموس 7-8.
3. الاتّكال على أنهم شعب الله المختار 9-10.
الأصحاحات 4-11
التبرير بالإيمان العامل بالمحبّة
سبق فأعلن الرسول أن الأمم بلا عذر لأن الله وهبهم الناموس الطبيعي، فإذا بهم يكسرونه لا عن ضعف فحسب وإنما عن عمد وفي جسارة. فصاروا مقاومين للحق، عاملين ما هو ضد الطبيعة، مفسدين حتى أجسادهم، فرحين ومتهلّلين بالنفوس الساقطة معهم. الآن يبدأ يفنّد أيضًا حجج اليهود ليؤكّد أن البشريّة كلها خاطئة وتستحق عقاب الموت، فصار الكل متساويًا في حاجته إلى من يبرّره. إن كان اليهودي والأممي قد سقط كلاهما تحت الموت، فهل يفتخر أحدهما على الآخر أو يتمايز الواحد عن الثاني لأن الأول لم يتبرّر بناموس موسى والثاني لم يتبرّر بالناموس الطبيعي؟
تركّزت حجج اليهود في ثلاثة أمور هي:
1. اتكالهم على بنوّتهم لإبراهيم أب الآباء.
2. اتكالهم على تسلمهم الشريعة أو الناموس الموسوي.
3. اتكالهم على أنهم شعب الله المختار دون سواهم.
وقد فنّد الرسول هذه الحجج ليُعلن أن هذه الأمور جميعها لا تقدر أن تبرّر أحدًا، وإنما في المسيح يسوع يصير جميع المؤمنين، يهودًا ويونانيين، أبناء لإبراهيم لا حسب الجسد، وإنما خلال التمتّع بإيمانه العملي، وينعم الكل لا بالناموس الموسوي في حرفيته، وإنما في التمتع بغايته أي الالتقاء مع المسيّا مركز الناموس وغايته، وأخيرًا يدرك الكل أنهم مختارون في الرب أبناء الآب.
هكذا يخرج الرسول من حواره مع الفكر اليهودي إلى نتيجة هامة، أن البشريّة كلها موضع اهتمام الله وحبّه، حتى وإن اختلفت الوسائل التي قدّمها لهم، وإنها قد سقطت بكاملها عن “البرّ” لكي يجده الكل في المسيح، يجده اليهودي المتنصر كما الأممي بلا تمييز أو محاباة.
الأصحاح الرابع
إبراهيم دعي في الغُرْلة
في الأصحاحات الثلاثة السابقة أظهر الرسول بولس فساد كل البشريّة، يستوي في ذلك اليهود كما الأمم، وصار الكل في حاجة إلى من يخلص ويبرر، والآن يقدّم الرسول مثلين لرجلين بارّين من رجال العهد القديم، أحدهما إبراهيم بكونه أب الآباء وقد تبرّر خلال إيمانه وهو بعد في الغُرْلة قبل ممارسة أعمال الناموس خاصة الخِتان. والثاني هو داود الذي نال الوعد أن من صُلبه يأتي المسيّا الملك، وهو من أهل الخِتان لكنه يقدّم التطويب لمن يتبرّر لا بأعمال الناموس بل بالإيمان.
ركّز الرسول بالأكثر على شخصية “إبراهيم” لأن اليهود كانوا يشعرون أنهم أحرار لمجرد انتسابهم له بالجسد. هذه العقيدة دفعتهم إلى العجرفة والكبرياء عِوض أن تدفعهم للحياة بفكر إبراهيم وإيمانه والامتثال به في سلوكه، فجاء الرسول يفنّد هذه العقيدة، مظهرًا أن سرّ قوّة إبراهيم تكمن في إيمانه الحيّ الذي عاشه وهو في الغُرْلة، كما عاش وهو في الخِتان، لذا فهو أب لأهل الغُرْلة كما لأهل الخِتان.
1. إبراهيم والإيمان 1-8.
إذ كان الرسول يُعلن عجز أعمال الناموس عن تقديم برّ الله، ليفتح الباب للبشرية كلها فتنعم بهذا البرّ خلال الإيمان، انتقل إلى الحديث عن إبراهيم بكونه أول من نال عهد الخِتان ليوضّح أن إبراهيم أيضًا لم يتبرّر بالخِتان (أعمال الناموس) وإنما بالإيمان، إذ يقول: “فماذا نقول أن أبّانا إبراهيم قد وُجد حسب الجسد، لأنه إن كان إبراهيم قد تبرّر بالأعمال فله فخر، ولكن ليس لدي الله” [1-2].
ويلاحظ في حديث الرسول عن إبراهيم وارتباطه بالإيمان الآتي:
أولاً: “فماذا نقول: أن أبّانا إبراهيم قد وُجد حسب الجسد؟” [1]. كأن الرسول بولس يحدد العلاقة التي تربطهم بإبراهيم كأب إنما هي “حسب الجسد”، الأمر الذي يُضعف صلتهم به ماداموا لا ينعمون بأبوته خلال إيمانه، وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم:[أنه بهذا يفسح المجال أمام الأمميّين ليدخلوا هم أيضًا في قرابة مع إبراهيم خلال الامتثال بإيمانه.]
ثانيًا: لماذا اختار الرسول بولس إبراهيم مع أنه قد سبقه هابيل الذي قيل عنه “أنه بار”(عب 11: 4)، ونوح الذي قيل أنه كان “رجلاً بارًا كاملاً في أجياله” (تك 6: 9)؟
يردّ على ذلك أن الرسول اختار إبراهيم لعدة أسباب رئيسية منها:
أ. أن اليهود كانوا يفخرون بنسبهم لإبراهيم كأب للمؤمنين، فحينما حدّثهم السيد المسيح عن الحرّية، “أجابوه: أننا ذُرّية إبراهيم ولم نُستعبد لأحد قط، كيف تقول أنت أنكم تصيرون أحرارًا؟” (يو 8: 33). فقد أراد الرسول أن يفنّد هذه الحُجّة.
ب. لم يُدعَ هابيل ولا نوح أبًا للمؤمنين، أمّا إبراهيم فقد جاء عنه: “لأني أجعلك أبًا لجمهور من الأمم“ (تك 17: 4).
ج. لأن إبراهيم يعتبر حلقة الوصل بين أهل الغُرْلة وأهل الخِتان، عاش متبررًا بالإيمان وهو في الغُرْلة، وإذ نال الوعد الإلهي وتمتع بالخِتان كعلاقة للعهد عاش أيضًا متبررًا بالإيمان وهو في الخِتان. بهذا ضمّ المؤمنين من أهل الغُرْلة وأهل الخِتان في شخصه، خلال الإيمان.
ثالثًا: لا ينكر الرسول بولس أن لإبراهيم أن يفتخر من جهة الأعمال، لكن ليس لدي الله، لأن ما مارسه من أعمال الناموس كالخِتان لا فضل له فيه إنما هو عطيّة الله له خلال العهد الذي أقامه الله معه، وله أيضًا أن يفتخر من جهة الإيمان، بهذا له أن يفتخر لا متعاليًا على الله، وإنما يفتخر أنه ارتمى في حضن الله، ليغتصب بالإيمان مواعيد الله وعهوده، ويحسب بارًا في عينيه. يقول الرسول: “لأنه أن كان إبراهيم قد تبرّر بالأعمال فله فخر، ولكن ليس لدى الله، لأنه ماذا يقول الكتاب: فآمن إبراهيم بالله فحُسب له برًا” [2-3].
إن قورن إبراهيم بمعاصريه من البشر فله فخر بأعماله أمام البشر، سواء بكونه أول من اُختتن كعلامة عهد بينه وبين الله أو أعظم معاصريه في الأعمال الصالحة. أمّا أمام الله ففخره الحقيقي أنه اغتصب برّ الله بإيمانه الحيّ العملي، المُعلن خلال طاعته له سواء بالعبادة له وسط جوّ وثني أو بالخروج من أرضه وعشيرته وبيت أبيه (تك 12)، أو عدم محبته للنصيب الأكبر في معاملته مع لوط ابن أخيه (تك 13)، أو حُبّه لإضافة الغرباء (تك 18)، أو شفاعته عن إخوته في البشريّة (تك 18)، أو تقديم ابنه ذبيحة (تك 28) الخ. هذه التصرفات جميعها وغيرها إنما كانت نابعة عن إيمانه بالله وملتحمة به، فجاءت تمجد الله.
بمعنى آخر لم يكن لإبراهيم أن يفتخر بأعمال الناموس في ذاتها، إنما بإيمانه الحيّ العملي الذي به حُسب بارًا في عيني الله فاحص القلوب.
بهذا نوفِّق بين ما يقوله الرسول بولس هنا وبين ما ورد في رسالة معلمنا يعقوب الرسول: “ألم يتبرّر إبراهيم أبونا بالأعمال، إذ قدّم اسحق ابنه على المذبح؟ فترى أن الإيمان عمل من أعماله، وبالأعمال أكمل الإيمان، وتمّ الكتاب القائل: “آمن إبراهيم بالله فحسب له برًا، ودعي خليل الله” (يع 2: 21-23).
يُعلن الرسول بولس أن إبراهيم لم يتبرّر أمام الله خلال أعمال الناموس، كالخِتان والتطهيرات والغسالات، إنما تبرّر خلال الإيمان الحيُ، ومعلمنا يعقوب يُعلن أن إبراهيم لم يتبرّر خلال إيمان شفهي نظري جامد إنما خلال الإيمان المترجِّم عمليًا كذبيحة اسحق، وكأن الأعمال التي يذكرها القدّيس يعقوب إنما هي أعمال الإيمان وليست خارج الإيمان! يحذّر الرسول بولس من الاتّكال على حرفيّة أعمال الناموس ويحذّر الرسول يعقوب من الاتّكال على الإيمان الخالي من الأعمال، أو الإيمان النظري غير الحيُ، هذه الأعمال التي يسألنا الرسول بولس أن نمارسها بالمسيح يسوع ربنا، إذ يقول: “لأننا نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع لأعمالٍ صالحةٍ قد سبق الله فأعدها لكي نسلك فيها“ (أف 2: 10).
رابعًا: آمن أبونا إبراهيم وأيضًا مارس أعمال الناموس، إذ قبِل الخِتان في جسده كما خَتن ذكور بيته، لكن شتّان بين الإيمان وأعمال الناموس، إذ يقول الرسول: “أما الذي يعمل فلا تُحسب له أجرة على سبيل نعمة بل على سبيل دين” [4].
أيهما أعظم: الأجرة التي ينالها الإنسان مقابل أعمال الناموس، أم النعمة التي ينالها مقابل الإيمان؟ بلا شك البرّ أعظم من الأجرة، لأن البرّ يعني عفو الله عن آثامنًا، ليهبنا برّه عاملاً فينا فننال مجدًا أبديًا. وقد اقتبس الرسول من المرتّل داود العبارة: “طوبى لمن غفرت آثامهم”[7]. وكما يقول القدّيس ذهبي الفم: [لا يقدّم بولس هذه العبارة اعتباطًا، لكنه يودّ القول بأن من غُفرت آثامه بالنعمة نال التطويب، فمن آمن وتبرّر يتأهل بالأكثر للبركة، التي خلالها يُنزع الخزي ليحل المجد.]
القول النبوي “طوبى لمن غُفرت آثامهم” يكشف عن بهجة قلب المرتّل بنوال برّ مجّاني لا أجرة عن عمل ناموسي، هذا البرّ هي عطيّة إلهية يهبها الله لمؤمنيه. يقول القدّيس إكليمنضس السكندري:[هذه الطوباوية تحلّ على الذين اختارهم الله خلال يسوع المسيح ربنا، لأن “المحبّة تستر كثرة من الخطايا” (1 بط 4: 8). هؤلاء قد اغتسلوا بواسطة ذاك الذي يريد توبة الخاطي لا موته (حز 33: 11).]
خامسًا: ما هو هذا الإيمان الذي يبرّرنا؟
v ماذا يعني نؤمن به؟ الإيمان به يعني حبنا له، وتقديرنا لسموه، والذهاب إليه، والإتحاد بأعضائه.
v الإيمان بالمسيح هو أن نؤمن به أنه يُبرّر الخاطي؛ نؤمن بالشفيع الذي بدون وساطته لا يمكن أن نتصالح مع الله؛ نؤمن بالمخلص الذي جاء يطلب ويخلِّص ما قد هلك (لو 19: 10)؛ نؤمن بذاك القائل: “بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا” (يو 15: 5).
v إيماننا نفسه بالمسيح هو عمل المسيح، إذ هو يعمل فينا، بالتأكيد ليس بدوننا. اسمع الآن وافهم: “من يؤمن بي فالأعمال التي أعملها أنا يعملها هو“. يقول: الأعمال التي أفعلها أنا أولاً، ثم يفعلها هو بعد ذلك، فأنا أفعلها لكي يفعلونها هم أيضًا. ما هي هذه الأعمال إلا إقامة الإنسان البارّ من الشرّير؟
v تتبرّر النفس بارتفاعها نحو الله، والتصاقها بذاك الذي يبرّرها… فإنها إذ تتركه تصير شريرة، وإذ تعود إليه تتبرّر. ألا يظهر لك أنه متي وُجد شيء ما بارد واقترب من النار يصير دافئًا؟ وعندما يُنزع من النار يبرد! لو أن شيئًا ما كان مظلمًا واقترب من النور، أمّا يصير بهيًا؟ وإن نُزع عن النور يصير مظلمًا؟ هكذا هي النفس، أمّا الله فليس هكذا!
القدّيس أغسطينوس
سادسًا: ماذا يعني الرسول بقوله: “وأما الذي لا يعمل، ولكن يؤمن بالذي يُبرّر الفاجر، فإيمانه يُحسب له برًا” [5]؟ هل يحثِّنا الرسول على تجاهل الأعمال لنتبرّر بالإيمان وحده؟
نجيب على ذلك بأن الرسول كان يُحدّث اليهود الذين تشامخوا على الأمم بأعمال الناموس بطريقة حرفيّة قاتلة، فإن هذه لا تبرّر الإنسان، إنما لو حُفظت بطريقة روحية، تدفعهم لإدراك الخلاص والتبرير بالمسيّا، الذي كانوا يتظرونه. هذا من جانب ومن جانب آخر، فإننا كمسيحيّين لا نتبرّر بأعمالنا الصالحة كأعمال من عندياتنا، وإلا حسبت “برًا ذاتيًا” تعطل خلاصنا، إنما نمارسها بكونها ثمرة عمل الله فينا، وكما يقول الرسول بولس: “لأن الله هو العامل فيكم” (في 2: 13)، “نحن عاملان مع الله“ (1 كو 3 : 9). لهذا يؤكّد الرسول يعقوب “لأنه كما أن الجسد بدون روح ميت هكذا الإيمان أيضًا بدون أعمال ميت“ (يع 2: 26).
2. إبراهيم أب جميع المؤمنين 9-16.
إذ قارن الرسول بين أعمال الناموس والإيمان في حياة أبينا إبراهيم ليُعلن سموّ الإيمان، الذي به يتبرّر، دون تجاهل لأعمال الناموس التي مارسها إبراهيم وإن كانت عاجزة عن التبرير، الآن يؤكّد الربط بين الإيمان وأعمال الناموس في حياة هذا الأب دون تعارض، قائلاً: “أخذ علامة الخِتان ختمًا لبر الإيمان الذي كان في الغُرْلة” [8]. فالخِتان هو علامة جسديّة جاءت لا معارضة للإيمان، بل خاتمة على إيمانه ومؤكدة له، حتى كل من يحملها إنما يلزم أن يلتزم أيضًا بالإيمان. هذا من جانب ومن جانب آخر فإن العلامة جاءت لاحقة للإيمان، إذ آمن إبراهيم حين كان أولاً في الغُرْلة، وبقيَ مؤمنًا أيضًا وهو في الخِتان، بهذا أعلن أبوته لأهل الغُرْلة أن يقبلوا الامتثال به في إيمانه، وأيضًا لأهل الخِتان أن يفعلوا ذات الأمر.
يُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على هذه العبارة الرسولية مظهرًا أن اليهود لم يأتوا إلا كضيوف لاحقين لأهل الغُرْلة، وأنهم أضيفوا إليهم، أي جاءوا إلى بيت الإيمان مُضافين إلى إبراهيم الذي قبِل الإيمان وهو في الغُرْلة قبل الخِتان، قائلاً: [لأنه إن كان إبراهيم قد تبرّر وكلِّل وهو بعد في الغُرْلة، فقد جاء اليهود بعد ذلك. إذًا إبراهيم هو أب الأمميّين أولاً الذين ينتسبون إليه بالإيمان، كما أنه أب اليهود ثانيًا، أي أب الجنسين… لهذا يستكمل بولس حديثه، قائلاً: “ليكون أبًا لجميع الذين يؤمنون وهم في الغُرْلة كي يحسب لهم البرّ أيضًا وأبًا للختان” [11-12]. هذا وينتسب الأمميّون لإبراهيم لا بسبب غرلتهم، وإنما لإقتدائهم بإيمانه، كذلك اليهود لا ينتفعون ببنوّتهم له لا لكونهم مختونين، وإنما لأنهم لم يؤمنوا… إذن لك الحق في أبوة إبراهيم إن سرْت في خطوات ذلك الإيمان، دون تنازع ولا مشايعة لمناصرتك للناموس.]
هذا ويري الذهبي الفم أن الخِتان مجرّد علامة حملها إبراهيم من أجل ضعف اليهود، إذ يقول الرسول “ليكون أبًا للختان”، لا بمعنى أن يحملوا العلامة جسديًا فيصيرون أبناء له، وإنما يحملون ما وراء العلامة ألا وهو إيمانه. لأن هذه العلامة ليست إلاّ ختمًا للإيمان. فإن لم يسعَ اليهود إلى الإيمان مكتفين بالعلامة التي للجسد، تصير هذه نفاية لا ضرورة لها. هكذا أيضًا لا يليق بهم إذ نالوا الخِتان أن يحتقروا أهل الغُرْلة، بل أن يكونوا سندًا لهم، ليكون الكل معًا في ذات الإيمان الواحد.
لقد ظنّ اليهود أنهم ورثة إبراهيم في نواله المواعيد الإلهية لمجرد تمتعهم بهذه العلامة، أي ممارستهم لأعمال الناموس، متجاهلين التزامهم بالاقتفاء بأبيهم في إيمانه، لهذا يقول الرسول: “لأنه إن كان الذين من الناموس هم ورثة، فقد تعطّل الإيمان وبطل الوعد” [14]. بمعنى آخر إن تمسك اليهود بأعمال الناموس كعلامة لميراثهم ما لإبراهيم، مكتفين بهذه الأعمال عند حرفيتها يسلبون الإيمان عمله، ويفقدون نوالهم الوعد الإلهي الذي أُعطيَ لإبراهيم، أن بنسله تتبارك الأمم. على العكس إن كان أهل الغُرْلة لم يمارسوا أعمال الناموس في حرفيتها، لكنهم بالإيمان صاروا ورثة إبراهيم وحُسبوا أصحاب الوعد كأبناء له.
الاتّكال على أعمال الناموس ليس فقط يفقد الإنسان عمل الإيمان الذي لإبراهيم، ويحرمه التمتّع بالوعد الإلهي، وإنما يدخل به إلى غضب الله، لأنه وهو يمارس الأعمال الظاهرة كالخِتان والغسالات يكسر شرائعه السلوكية، كالوصايا العشر، ولو وصية واحدة فيُحسب متعديًا. لذلك يقول الرسول: “لأن الناموس ينشيء غضبًا، إذ حيث ليس ناموس ليس تعدٍ” [15]. فبدون الناموس يخطئ الإنسان، لكن الغضب ينشأ بالأكثر حيث يوجد الناموس، كاشفًا للخطايا التي يرتكبها الإنسان متعديًا الوصيّة، وكما قيل: “ملعون كل من لا يثبت في جميع ما هو مكتوب في كتاب الناموس ليعمل به“ (غل 3: 10).
يقدّم لنا القدّيس أغسطينوس تفسيرا لهذه العبارة، قائلاً: [قبل الناموس كان يمكن أن يدعى الإنسان خاطئًا ولم يكن ممكنًا أن يُدعي متعديًا. أمّا وقد أخطأ بعد استلامه الناموس فلم يعد خاطئا فحسب وإنما متعديًا أيضًا. وهكذا أضيف “التعدي” إلى “الخطيّة” فكثرت الخطيّة جدًا.]
إن كان اليهود بفهمهم الحرفي لأعمال الناموس فقدوا تمتعهم بالوعد ودخلوا إلى الغضب، لا كخطاة فحسب وإنما كمتعدين، فإنه من الجانب الآخر الإيمان يفتح لهم كما لأهل الغُرْلة التمتّع بالبنوة لإبراهيم المؤمن.
“لهذا هو من الإيمان كي يكون على سبيل النعمة،
ليكون الوعد وطيدًا لجميع النسل،
ليس هو من الناموس فقط،
بل أيضًا لمن هو من إيمان إبراهيم الذي هو أب لجميعنا” [16].
وكما يقول الذهبي الفم أنه بدون الإيمان لا يخلص أحد، لأن الناموس بالنسبة لأهل الخِتان لا يبرّرهم بل ينشئ غضبًا، إذ سقط الكل تحت التعدي، لذا جاء الإيمان يرفعهم من الخطر وليس كالناموس. كما يرفع أيضًا أهل الغُرْلة، فيحسب الكل أبناءً لإبراهيم. “كما هو مكتوب إني قد جعلتك أبًا لأمم كثيرة” [17]. فكما أن الله هو إله الجميع وليس خاصًا بأمّة معيّنة، هكذا بالإيمان حُسب إبراهيم أبًا للجميع حسب الوعد المُعطي له (تك 17: 5).
3. إيمان إبراهيم وإيماننا 17-25.
إن كان الإيمان قد فتح الباب على مصراعيه ليدخل كل الأمم إلى النسب لإبراهيم كأبناء له، فما هي مادة هذا الإيمان؟
“كما هو مكتوب إني قد جعلتك أبًا لأمم كثيرة،
أمام الله الذي آمن به،
الذي يحي الموتى،
ويدعو الأشياء الغير موجودة كأنها موجودة“ [17].
اقتبس الرسول هذا الوعد: “قد جعلتك أبًا لأمم كثيرة” (تك 17: 5 الترجمة السبعينية)؛ هذا لا يتحقّق حسب الطبيعة، إذ هو ليس أبًا للأمم حسب الجسد، إنما حسب الإيمان.
مادة إيمانه هي أن الله “يحيي الموتى، ويدعوا الأشياء الغير موجودة كأنها موجودة”. من هم الموتى الذين يُحييهم؟ أو ما هي الأشياء الغير موجودة التي يدعوها كأنها موجودة؟
أولاً: مستودع سارة أو أحشاؤها أشبه بالميّت الذي لا يحمل حياة، وقد وهبه الله اسحق حيًا خلال هذه الأحشاء الميّتة، وكما يقول الرسول نفسه: “وإذ لم يكن ضعيفًا في الإيمان لم يعتبره جسده، وهو قد صار مماتًا، إذ كان ابن نحو مائة سنة ولا مماتيّة مستودع سارة” [19]. ما ناله إبراهيم من وعد كان “على خلاف الرجاء”، إذ لم ينظر قط إنسانًا قبله نال ابنًا بهذه الطريقة، وإنما صار هو مثلاً لمن جاء بعده. هو ترجّى الله الذي يُقيم من الموت ويهب حياة، فآمن بالله أنه يعطيه نسلاً كما من العدم، فاتحًا باب الرجاء لمن جاء بعده ممن أنجبوا في شيخوختهم خلال زوجات عاقرات.
ثانيًا: آمن إبراهيم بتمتعه بالأبوة، ليس فقط لإسحق الذي وهبه الله إيّاه في فترة شيخوخته، وخلال مستودع سارة الذي كان في حكم الموت، وإنما أيضًا لأمم كثيرة، هي بحسب الطبيعة ميّتة لا تحمل بنوّة لإبراهيم حسب الجسد، لكن الله يُقيمها من هذا الموت ويقدّمها لإبراهيم أبناء له.
هذا ما أوضحه الرسول بقوله: “فهو على خلاف الرجاء آمن على الرجاء، لكي يصير أبًا لأمم كثيرة، كما قيل هكذا يكون نسلك” [18]. وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم أنه كان على خلاف رجاء البشر في رجاء من جهة الله آمن بالوعد ونال. فكان الإيمان هو سنده، لم يعطِه الله برهانًا، ولا علامة، إنما مجرّد كلمات وعد ومع هذا لم يتردّد، ولا شك مرتابًا مع أن العائق كان عظيما: “ولا بعدم إيمان ارتاب في وعد الله، بل تقوّى بالإيمان معطيًا مجدًا للَّه“ [20].
بمعنى آخر ليتنا نتعلم أن الله يتمّم مواعيده معنا مهما كانت العوائق أو المعطّلات، إذ “تيقّن أن ما وعد به هو قادر أن يفعله أيضًا، لذلك أيضًا حُسب له برًا“ [21-22].
نال إبراهيم الوعد، كما قلت، لا بميلاد اسحق كما من العدم، وإنما بأبوّته لأمم كثيرة، لا خلال الجسد وإنما خلال الإيمان. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن هذه الأمم أيضًا تُحسب تحت حكم الموت وعدم الوجود بسبب وثنيّتها، إذ تقبل الإيمان تنال قيامة من الأموات، يصيّرونها شعب الله الحيّ وكنيسة العهد الجديد المقدّسة، لذلك قيل: “أرحم لورحامة (ليست مرحومة) وأقول للوعمى ليست شعبي أنت شعبي” (هو 2: 23).
ثالثًا: إن كانت الخطيّة قد أفقدت الإنسان حياته وجعلته كمن هو غير موجود، فبالإيمان ينعم الإنسان ببرّ المسيح كمن قد أقيم من الموت، أو صار موجودًا بعد فقدانه، كقول الأب عن ابنه الراجع إليه: “لأن أخاك هذا كان ميتًا فعاش، وكان ضالا فوُجد” (لو 15: 32). لذلك يقدّم لنا القدّيس يوحنا الذهبي الفم في تعليقه على هذا الأصحاح سلاحًا روحيًا نلتزم باستخدامه، هو الإيمان باسم ربنا يسوع المسيح وقوة الصليب، قائلاً:
[هذا السلاح لا يُخرج الحيّة من جحرها فحسب، وإنما أيضًا يلقيها في النار (أع 28: 5) وتُشفي الجراحات.
إن نطق أحد بهذا الاسم ولم يُشف، فبسبب عدم إيمانه وليس عن ضعف في القول ذاته. لأن البعض التفوا حول يسوع وكانوا يضغطون عليه (لو 8: 44-45) ولم ينتفعوا منه، أمّا المرأة نازفة الدم فحتى بدون لمس جسده، وإنما بمجرد لمس هُدب ثوبه أوقفت ينبوع دمها الذي طال أمده.
هذا الاسم مخيف للشياطين وللسموم والأمراض. ليتنا نجد فيه سرورًا فنتقوّى به…
أي عذر لنا أن نقدّمه، إن كان ظل (الرسل) وثيابهم أقاموا موتى (أع 5: 15)، بينما صلواتنا لا تنزع عنّا الشهوات؟ ما هو علّة هذا؟… فإن طبيعة بولس هي كطبيعتنا، وُلد ونشأ مثلنا، سكن على الأرض واستنشق هواءها مثلنا، لكنه من جانب آخر كان أعظم وأفضل منّا من جهة الغيرة والإيمان والحب. إذن لنقتد به، ولنسمح للمسيح أن يتكلّم خلالنا، فإنه يرغب في هذا أكثر منّا. لقد أعدّ هذا التعليم ويريد ألا يكون ذلك بلا نفع أو معطلاً إنما يودّ أن يستخدمنا…
إن تحدّث المسيح فينا وأشرق الروح القدس بنوره فينا نكون أفضل من السماء، إذ لا تظهر الشمس والقمر في جسدنا بل يظهر رب الشمس والقمر والملائكة ساكنًا فينا وعاملاً.
لست أنطق بهذا لكي نقيم الموتى ونطهر البرص، إنما لنحقق معجزة أعظم من هذا كله هو إعلان المحبّة. لأنه حيث توجد هذه الممجدة يسكن الابن مع الآب والروح القدس… فقد قيل: “إن اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي أكون أنا في وسطهم” (مت 18: 20). يتحقّق هذا من أجل الحنو الشديد ورباط الصداقات القوية، أي من أجل من لهم حب بعضهم لبعض….]
إذن ليكن لنا كإبراهيم أبينا الإيمان بالوعد الإلهي، فننال لا القدرة على عمل المعجزات، إنما ما هو أعظم ننال “الحب” الحقيقي في الرب، فننعم بسكنى الثالوث القدوس فينا كسُر حياتنا وفرحنا ومجدنا أبديًا. هذه هي القيامة الأولى التي لنفوسنا!
ويُعلّق القدّيس أغسطينوس على العبارة “يدعو الأشياء الغير موجودة كأنها موجودة”، قائلاً: [لقد كنتَ غير موجود فخلقكَ الله ووهبك الوجود، أفلا يهتم بك الآن وقد صرت أنت هكذا، هذا الذي يدعو الأشياء غير موجودة كأنها موجودة؟]
أخيرًا، أكد الرسول بولس أن ما كُتب عن إبراهيم من جهة إيمانه بالقيامة من الأموات، إذ آمن بالله الذي يهبه إسحق من مستودع سارة المُمات، وآمن أن يقيمه أبًا على شعوب ليست من نسله حسب الجسد، كما آمن أن الله يهب البرّ كحياة لمن مات بالخطيّة. فإن هذا كله قد كُتب من أجلنا من جهة إيماننا بالمسيح الذي يقيمنا من الموت، ويهبنا برّه كحياة جديدة مقامة نمارسها عمليًا، إذ يقول: “ولكن لم يُكتب من أجله وحده أنه حُسب له، بل من أجلنا نحن أيضًا الذين سيحسب لنا، الذين نؤمن بمن أقام يسوع ربنا من الأموات، الذي أُسلم من أجل خطايانا وأُقيم لأجل تبريرنا” [24-25].
هنا يبرز النقاط التالية:
أ. غاية الحديث الإلهي عن إيمان إبراهيم هو إعلان طريق البرّ الحقيقي خلال الإيمان. فقد تبرّر إبراهيم بالإيمان لكي نتبرّر نحن أيضًا معه كأبناء له نحمل ذات إيمانه. وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم، لئلاّ يقول المستمع، ما لنا نحن بهذا؟ لذلك ربطنا نحن بأبينا إبراهيم، فنتبرّر مثله، لأننا نؤمن بنفس الإله الذي آمن به إبراهيم، ونثق في ذات الأمور التي وثق فيها، فما حدث لإبراهيم ليس خاصًا به وحده، وإنما يُحدّث مع الكل.
ب. إن كان إبراهيم قد نال وعدًا بخصوص نسله، يتحقّق هذا الوعد فينا بصلب السيد المسيح وقيامته الذي هو من نسل إبراهيم حسب الجسد. إبراهيم آمن بنيل بركة مستقبلة خلال نسله، إذ يقول السيد: “أبوكم إبراهيم تهلّل بأن يرى يومي فرأى وفرح” (يو 8: 56)، أمّا نحن فقد تمتّعنا بهذا الوعد بصلب السيد المسيح وقيامته.
يقول العلامة ترتليان: [ها أنتم ترون حكمة الله كيف ذبحَت ذبحها (أم 9: 2)، البكر الابن الوحيد يحيا ويردّ الآخرين للحياة. أقول أن حكمة الله هو المسيح الذي بذل ذاته لأجل خطايانا.]
ج. إذ يحدّثنا الرسول بولس عن إيمان إبراهيم، يقدّم لنا ملخصًا لإيماننا، غالبًا ما كان نصًا كنسيًا تسلّمه الرسل وسلّموه، ألا وهو: “أُسلم من أجل خطايانا، وأُقيم لأجل تبريرنا” [25].
لقد أسلم للصليب بإرادة الآب (رو 8: 32؛ غل 1: 3) كما بإرادته هو (غل 2: 20؛ أف 5: 2؛ تي 2: 14) ليكفِّر عن خطايانا (3: 25؛ إش 53: 5-6؛ عب 9: 28؛ 1 بط 2: 21-24)؛ وأُقيم ليهبنا برّه عاملاً فينا، إذ نحمل الحياة الجديدة المُقامة.
تفسير رومية 3 | تفسير رسالة رومية | تفسير العهد الجديد | تفسير رومية 5 |
القمص تادرس يعقوب ملطي | |||
تفاسير رسالة رومية | تفاسير العهد الجديد |