تفسير رسالة رومية اصحاح 4 للقديس يوحنا ذهبي الفم
تفسير رسالة رومية – الاصحاح الرابع
العظة التاسعة : رو4: 1-22
1. ” فماذا نقول إن أبانا إبراهيم قد وجد حسب الجسد ” (رو١:٤).
بعدما قال إن العالم صار تحت دينونة الله، وأن الجميع أخطأوا وأنه لا يمكن أن نخلص إلا عن طريق الإيمان، حاول بعد ذلك أن يبرهن على أن الخلاص ليس سببا يدعو للخجل، بل على العكس هو سبب لمجد عظيم، هذا المجد هو أعظم من المجد الذي يأتى بسبب الأعمال. ولأن الخلاص الذي يصاحبه خجل يعكس جبن وخوف، فإن الرسول بولس يبطل هذه الريبة فيما بعد. على الرغم من أنه ألمح إلى ذلك، متكلما ليس فقط عن الخلاص، بل عن البرقائلا “لأن فيه معلن بر الله” ‘. فذاك الذي يخلص هكذا ، يخلص لأنه بار (بالإيمان) وبشكل علني. ولم يكتف بالإشارة إلى تعبير البر فقط، لكنه ذكر أن هذا البر معلن. والله أعلنه للممجدين وللمتبررين وللعظماء. لكنه قد برهن على أن هذا البر هو للأحباء أيضا، مكملاً حديثه بالتساؤلات، الأمر الذي تعود أن يفعله، وهذا يظهر في وضوح وجرأة كلامه. هذا ما فعله سابقا بقوله: “إذا ما هو فضل اليهودي؟”، وأيضا ” فماذا إذا أنحن أفضل؟ “، وقوله “أين الافتخار قد انتفى؛ “. وهنا يقول “فماذا نقول إن أبانا إبراهيم..”؟ والحقيقة أن اليهود كانوا يصوبوا تفكيرهم في إتجاه خاص، وهو إبراهيم، أب الآباء وخليل الله، قد اختتن أولاً، ولذلك فقد أراد الرسول بولس أن يبرهن لهم أن إبراهيم قد تبرر بالإيمان وليس بالأعمال، وهذا يعد انتصارا عظيما. وليس هذا فقط بل ويفتخر بهذا، لأنه أمرا غير طبيعي بالنسبة لليهودي أن يتبرر بالإيمان، وهذا ما يستحق الإعجاب، الأمر الذي يظهر بشكل خاص قوة الإيمان. ولهذا فقد تكلم عن بر الإيمان، متجنبا الحديث في أي أمور أخرى. ودعى إبراهيم أبا حسب الجسد، لكي يحرم اليهود من القرابة الحقيقية له، ولكي يمهد للأمم طريق القرابة له . ثم بعد ذلك يقول:
” لأنه إن كان إبراهيم قد تبرر بالأعمال فله فخر ولكن ليس لدى الله” (رو٢:٤).
إذن بعدما قال إن الله يبرر اليهودي والأممي بالإيمان، وبعد أن برهن – بالإشارة إلى ما سبق ـ على هذه الأمور بشكل مقنع، فإنه يظهر نفس الأمر مع إبراهيم، ولكن بدرجة أكبر مما وعد به، وقد جاهد إبراهيم بالإيمان مقابل الأعمال، وناضل من أجل البر. ولهذا فقد امتدحه الرسول بولس جدا داعيا إياه ” أبانا “، ويدعو هؤلاء اليهود إلى الإقتداء به في كل شيء . ولذلك لا تحدثني عن اليهودي، ولا تذكر لي فلانًا أو غيره لأننى سأتجاوز كل شيء وأعود إلى حيث بدأ الختان. “لأنه إن كان إبراهيم قد تبرر بالأعمال فله فخر ولكن ليس لدى الله”. هذا الكلام غير واضح، وبناء عليه، فهناك إحتياج لأن أشرحه أكثر، لأن هناك افتخاران واحد بالأعمال والآخر بالإيمان. مادام قد قال: “إن كان قد تبرر بالأعمال فله فخر. لكن ليس لدى الله”، وهكذا فإنه يوضح أن هناك افتخار يأتي من الإيمان، وأن هذا الافتخار أفضل بكثير من الافتخار بالأعمال.
لقد ظهرت قدرة الرسول بولس العظيمة في هذا الأمر على وجه الخصوص، إذ حول الأمر كله في اتجاه يخالف المألوف. وإن كان للخلاص عن طريق الأعمال من افتخار وجرأة، فقد أوضح كيف أن هذا يتعلق بالأكثر بالإيمان. لأن ذاك الذي يفتخر بالأعمال يمكن أن يشير إلى أتعابه، وأما ذاك الذي يفتخر بإيمانه بالله، فيكون لديه دافعا قويا للافتخار، لأنه ينسب المجد لله . فتلك الأمور (الخاصة ببر الإيمان) والتي لم تظهرها له طبيعة الأشياء المرئية، هذه الأمور طالما قد قبلها من خلال إيمانه بقدرة الله، فإنه يكون قد أظهر محبة حقيقية لله، وأعلن عن قوته بصورة مضيئة.
هذا الإيمان هو سمة لنفس تتصف بالشجاعة، ونية تتسم بالحكمة، وفكر ناضج. لأن الامتناع عن السرقة أو القتل يمكن أن يحققه الناس العاديون، أما الإيمان بأن الله قادر على كل شيء، فإن هذا يحتاج إلى نفس تقية وإلى تكريس هذه النفس بالكامل لله. لأن هذا يعد دليلاً على المحبة الحقيقية. والمؤكد أن الله يكرم ذاك الذي يحفظ وصاياه، بيد أنه يكرم بالأكثر ذاك الذي بالإيمان يسلك بحكمة ووقار. لأن الأول يخضع لله، أما الآخر فهو الذي يكتسب الرؤية الصحيحة التي ينبغي أن تكون عن الله، وينسب المجد لله من أجل أعماله العظيمة. إذن فالافتخار بالأعمال يخص ذاك الذي ينجز عملاً، أما الافتخار بالإيمان فيعني تمجيد الله، وأن ينسب إليه كل شيء . لأننا نفتخر بكل ما من شأنه أن يعلن عن عظمة الله ومجده.
ولهذا فإن الذي يفتخر بالإيمان يكون لديه سببا للافتخار أمام الله، وليس هذا فقط، بل هناك سببا آخر يجعله يفتخر، فالمؤمن يفتخر أيضا ليس فقط لأنه أحب الله بالحقيقة، بل لأنه نال منه كرامة ومحبة كبيرة . فكما أنه أحب الله وفكر من جهته في أمور عظيمة (وهذا دليل محبة)، هكذا فإن الله قد أحبه، على الرغم من مسئوليته عن تلك الخطايا العديدة التي ارتكبها، والله لم يخلصه من العقاب فقط، بل برره أيضا. إذا فلديه سبب لأن يفتخر، لأنه صار مستحقا لمحبة الله الغنية.
” لأنه ماذا يقول الكتاب؟ فأمن إبراهيم بالله فحسب له برا. وأما الذي يعمل فلا تحسب له الأجرة على سبيل نعمة بل على سبيل دين ” (رو3:4-4).
إذن هل الذي يعمل يعد أعظم؟ لا على الإطلاق، لأن البر يحسب للإنسان من حيث إنه آمن بالله. إلا أن هذا الإيمان لا يحسب له برا إذا لم يقدم شيئا. ٢ ـ إن الله يكرم ذلك الإنسان أيضا، ولكن لا من أجل أمور تافهة، بل لأجل أمور عظيمة وهامة، ولأنه أعلن عن رؤية مستنيرة، وفكر روحي متميز، فإنه لم يتحدث فقط عن ذاك الذي يؤمن، بل قال:
” وأما الذي لا يعمل ولكن يؤمن بالذي يبرر الفاجر فإيمانه يحسب له برا ” (رو5:4).
تأمل كم هو عظيم أن يؤمن المرء بأن الله قادر ليس فقط على أن يخلص من العقاب ذاك الذي يعيش في الفجور ـ وبصورة مفاجئة ـ لكنه قادر أيضا أن يبرره وأن يحكم بأنه مستحق لكرامة الحياة الأبدية. لا تظن ـ كما – يبدو لك ـ أن الأجرة تأتى على سبيل العمل وليست على سبيل النعمة، وأن ذاك الذي يحيا في الخطية ويؤمن بالذي يبرر الفاجر، هو أقل من الذي يعمل. ولأجل هذا تحديدا فإن الإيمان هو الذي يجعل المؤمن مشرقا، وأن تمتعه بهذا القدر الكبير من النعمة يرجع إلى أنه أظهر مثل هذا الإيمان . وانتبه، فإن مكافأة هذا الإيمان ستكون أعظم، لأن الذي يعمل ستُعطى له مكافأة، أما الذي يؤمن سينال البر. لكن يجب أن نعلم أن البر هو أعظم بكثير من المكافأة، لأن البرهو التعويض الذي يشمل مكافآت كثيرة.
إذن بعدما أظهر حقيقة البر الذي بالإيمان، بداية من إبراهيم، أشار بعد ذلك إلى داود الذي تذوق كل ما سبق الإشارة إليه. ماذا قال داود، ومن هو الإنسان الذي يطوبه؟ هل هو الإنسان الذي يفتخر بالأعمال، أم ذاك الذي تمتع بالنعمة، ونال الغفران والعطية؟ وعندما أتكلم عن الطوبي أو السعادة ، فإنني أقصد تاج كل الخيرات. لأنه كما أن البر هو أعظم من الأجر، هكذا فإن الغبطة أعظم من البر. وبعدما أظهر عظمة البر، ليس فقط من حيث إن إبراهيم قد ناله، بل لأن البر أعظم من الأفكار (أي تلك التي تعتمد على العمل الذاتي). لأنه كما يقول الرسول بولس إن العمل قد يدعو للفخر ” ولكن ليس لدى الله “، أيضا يقدم البر على أنه أكثر أهمية، لكن بطرق أخرى، مشيرا إلى داود الذي تذوقه قائلا:
” كما يقول داود أيضا في تطويب الإنسان الذي يحسب له الله برا بدون أعمال طوبي للذين غفرت آثامهم وسترت خطاياهم طوبی للرجل الذي لا يحسب له الرب خطية “” (رو6:4-8).
من الواضح أنه لم يشر إلى شهادة مقبولة، لأنه لم يقل طوبى لمن حسب له إيمانه برا. وهو يفعل هذا لا عن جهل، ولكن لكي يظهر عظمة الامتياز. فإن كانت الطوبي تنسب للإنسان الذي نال غفرانا بالنعمة، فبالأولى جدا ، ستكون الطوبي لذاك الذي تبرر، وذاك الذي أظهر إيمانا. وحيثما يوجد تطويب يختفي كل خجل وتظهر عظمة المجد الإلهي . لأن الطوبي أسمى من الأجر ومن المجد، فما يعد ميزة لذاك الذي يعمل، يذكره دون إشارة إلى الكتاب قائلاً: “أما الذي يعمل فلا تُحسب له الأجرة على سبيل نعمة…” أما من جهة تميز المؤمن، فإنه يظهرها (أي الطوبى) مستشهدا بالكتاب قائلاً على فم داود : ” طوبى للذي غفر ائمه وسترت خطيته “. ولهذا يتساءل لماذا تظن أنك أخذت الغفران على سبيل دين وليس على سبيل نعمة؟ إذن فالذي يؤمن، هو ذاك الذي يطوب، ولم يكن الرسول ليطوب داود ، لو لم يرى كيف أنه يتمتع بمجد عظيم، ولم يقل إن هذا الغفران يتعلق باليهودي. فلنري ماذا قال:
“أفهذا التطويب هو على الختان فقط أم على الغرلة أيضا “؟ (رو9:4).
ها هو يفحص لمن يكون هذا التطويب، أهو لليهودي أم للأممي .
انتبه إلى هذا الامتياز. لأنه يظهر أن هذه الطوبى لا تتجاوز الأممي، بل إنها تأتي إليه قبل اليهودي. لأن ذاك الذي يطوبه داود، كان أيضا مختتنا، وكان يتحدث إلى مختونين. لاحظ كيف حاول الرسول بولس أن يوجه حديثه إلى الأممي، فبعدما ربط البر بالطوبي في وحدة واحدة معا، وبعدما أظهر كيف أن الاثنين كانا واحد، يشرح كيف تبرر إبراهيم، لأنه إذا كان التطويب يتعلق بالبار، وقد تبرّر إبراهيم، إذ يقول ” لأننا نقول إنه حسب لإبراهيم الإيمان برا”، فلنرى كيف تبرر…
يقول: ” فكيف حسب أو هو في الختان أم في الغرلة ” (رو10:4).
يقول: إنه قد تبرر بالإيمان لكن “ليس في الختان بل في الغرلة” ولهذا سبق فقال عنه “ولأننا نقول إنه حسب لإبراهيم الإيمان برا ” . هذا ما سبق وذكره الكتاب عنه حينما قال ” فآمن إبراهيم بالله فحسب له برا “، ولأن الرسول بولس يميز هنا بين المختون والأغرل، فقد بين كيف أن البرقد صار للأغرل. ثم بعد ذلك يقدم حلاً للتباين الذي نتج عن كل ما سبق عرضه. ويتساءل إن كان إبراهيم قد تبرر عندما كان أغرل، فلماذا أشار إلى الختان؟ قائلاً:
” وأخذ علامة الختان ختما لبر الإيمان الذي كان في الغرلة ” (رو11:4).
أرأيت كيف أظهر الرسول بولس هؤلاء اليهود، مثل الطفيليين؟ وكيف أن غير المختتنين قد وصلوا إلى نفس مكانة اليهود؟ لأنه إذا كان إبراهيم قد تبرر وتوج عندما كان أغرل، ثم بعد ذلك اختتن، وبعد ذلك قبل اليهود الختان، فيكون إبراهيم أولا أبا للذين كانوا في الغرلة، وهؤلاء هم أقرب له بسبب الإيمان، ثم صار بعد ذلك أبا للختان، إذن فهو أب مزدوج . أرأيت كيف أنه يعطي أهمية عظيمة للإيمان؟ لأن إبراهيم لم يتبرر قبل أن يؤمن . أرأيت كيف أن الغرلة لا تعوق التبرير مطلقاً؟ لأنه كان أغرل ولم يعوقه هذا عن نوال البر. وبناء عليه فالإيمان يسبق الختان .
3 . ولماذا تشك في حقيقة أن الختان يأتي بعد الإيمان، طالما أنه يأتي بعد الغرلة؟ وهو ليس فقط بعد الإيمان، بل أنه أدنى بكثير من الإيمان، بمقدار ما يكون الرمز أقل من العلامة الأصلية التي أخذ منها، على سبيل المثال هو أدنى، بقدر ما يكون الختم الذي يحمل صورة جندى أدنى من الجندي نفسه. ولكن لماذا احتاج إبراهيم إلى ختم؟ إنه لم يكن في احتياج لختم (الختان). فلأي سبب قبله؟ لقد قبله ” ليكون أبا لجميع الذين يؤمنون”، ليس فقط للذين ليسوا من الختان، ليكون أبا للختان أيضا. ولهذا أضاف: ” لجميع الذين يؤمنون وهم في الغرلة كي يحسب لهم أيضا البر “. إذا فلو كان أبا للذين هم في الغرلة ـ ليس لكونه أغرل ـ على الرغم من أنه تبرر عندما كان في الغرلة، بل لأنهم سلكوا في خطوات إيمان إبراهيم، وبالأولى جدا لا يعتبر أبا للذين هم في الختان – بسبب الختان ـ بل بسبب الإيمان فقط . وقد أخذ الختان، حتى يكون أبا لكلاهما (للختان وللغرلة)، وأيضا حتى لا يحتقر الذين هم في الغرلة أولئك الذين هم في الختان.
أرأيت كيف كان أولا أبا لأولئك الذين هم في الغرلة؟ وطالما أن الختان هو أمر هام ـ لأنه يخبر عن البر فإن الغرلة لها قيمة عظيمة، إذ أنها تعلن عن البر الذي يسبق الختان. عندئذ يمكنك أن تقول بأن إبراهيم هو أب لك، عندما تقتفى خطوات إيمانه، ودون أن تتشاجر أو تثور عندما تتكلم عن الناموس. أخبرني أى إيمان هذا الذي يجب أن تتبعه؟ الإيمان ” الذي كان وهو في الغرلة”
” وأبا للختان للذين ليسوا من الختان فقط بل أيضا يسلكون في خطوات إيمان أبينا إبراهيم الذي كان وهو في الغرلة ” (رو١٢:٤).
ومرة أخرى يضبط ويحجم افتخار اليهود، مذكرا إياهم بزمن البر . وحسنا قال: ” يسلكون في خطوات “، وذلك لكي تؤمن بقيامة الأموات على شبه إيمان (الذي آمن بالمواعيد وحياها من بعيد). لأن إبراهيم من جهة هذا الأمر، أظهر إيمانا. وبناء على ذلك فإن كنت ترفض الغرلة فلتعلم جيدا ، أنك لن تحصد أي مكسب، ولا حتى من الختان. إذا فإن لم تتبع خطوات الإيمان، فلن تكون ابنا لإبراهيم، وحتى لو أختتنت آلاف المرات، إذ أنه أخذ الختان ختما لبر الإيمان، لكي لا يرفضك الأغرل. إذا لا تطلب من الأغرل أن يختتن، لأن هذا الأمر (أي الختان) قد صار لك عونا، وليس للأغرل.
بيد أن الرسول بولس يقول إن الختان هو علامة للبر. وهذا قد صار من أجلك، إلا أنه (أي الختان) قد انتفى الآن ولم يعد له وجود. لأنه في ذلك الزمان كنت تحتاج لعلامة جسدية، لكن الآن لا يوجد أي احتياج لذلك. فهل كان ممكنا من جهة الإيمان أن نتعرف على فضيلة ما في نفسه؟ من المؤكد أن هذا كان ممكنا، لكنك كنت بحاجة لمثل هذه الإضافة (أي الإيمان). ولأنك لم تتذوق الفضيلة، ولم تستطع أن تحياها، فقد أعطي لك الختان الجسدى، حتى عندما تمارس هذا الختان الجسدي، ثقاد خطوة خطوة نحو الحكمة، وطالما أنك تستطيع أن تقتنيها بمحاولات كثيرة – كأمر له أهمية كبيرة ـ فلتتعلم أن تسير في خطوات إبراهيم. وهذا لم يفعله الله بالنسبة للختان، بل بالنسبة لكل الأمور الأخرى، مثل الذبائح، والسبوت، والاحتفالات . إذا فقد أخذ إبراهيم الختان لأجلك، واسمع ماذا يقول؟ لأنه بعدما قال، أخذ علامة، وختما، أضاف السبب وراء ذلك قائلاً: ” لكي يصير أبا للختان ” أبا لأولئك الذين يقبلون الختان الروحي، لأنه لو أخذت الختان الجسدي فقط، فلن تنتفع بأي شيء آخر أكثر من هذا.
لذلك فإن الختان كان آنذاك بمثابة علامة، وذلك في الوقت الذي كانت هذه العلامة تتمم فيه كرمز لأمر واضح بالنسبة لك، وهو الإيمان . وهكذا فإن لم يكن لديك إيمان فإن هذه العلامة ستفقد قيمتها ومعناها، لأنه لأي شيء سترمز تلك العلامة، وهذا الختم، إن لم يوجد الإيمان الذي يختم لأجله؟ كما لو كنت قد أريتنا حافظة عليها ختم، ولكنها لا تحتوى على أي شيء داخلها. ولذلك فالختان سيكون مدعاة للسخرية، عندما لا يلازمه الإيمان. لأنه لو كان الختان علامة للبر، فلن يكون لديك برا ولا علامة ولهذا السبب تحديدا قد وضعت علامة (الختان)، لكي تطلب بإلحاح، الأمر الذي لأجله وضعت هذه العلامة، (وهو الإيمان). لأنه لو أن الأمر يتعلق بطلب الإيمان، دون العلامة، فلن تحتاج للعلامة، لكن الختان لا يعلم عن البر فقط، بل يعلم أيضا بأنه ليس هناك حاجة للختان وللناموس:
” فإنه ليس بالناموس كان الوعد لإبراهيم أو لنسله أن يكون وارثا للعالم بل ببر الإيمان لأنه إن كان الذين من الناموس هم ورثة فقد تعطل الإيمان وبطل الوعد ” (رو13:4-14).
لقد أظهر أن الإيمان هو ضرورة، وأنه سابق على الختان، وأنه أقوى من الناموس، وهو يثبت الناموس. إذا فطالما أن الجميع أخطأوا، فالإيمان هو ضرورة، ومادام إبراهيم قد تبرر وهو في الغرلة، فالإيمان أسبق، وطالما أنه قد بات واضحا من خلال الناموس أن الإيمان هو الأقوى، وطالما أن الناموس يؤكده، وهو يثبت الناموس، فلا يوجد تعارض، بل تآلف وتعاون. وقد بين الرسول بولس في موضع آخر، أنه من غير الممكن أن نصير ورثة بالناموس، وأيضا يقارن بين الإيمان والناموس، قائلاً: “لأنه إن كان الذين من الناموس هم ورثة فقد تعطل الإيمان “. ولكي لا يقول أحد أنه من الممكن أن يكون لديه إيمانا، وأن يحفظ الناموس في الوقت نفسه، فقد أكد على استحالة تحقيق هذا الأمر. ولهذا قال: ” فقد تعطل الإيمان ” بمعنى أنه إذا حدث ذلك فإنه لا حاجة للخلاص كنعمة، ولا يمكن أن تستعلن قوة الإيمان، وحينئذ يبطل الوعد. ربما يستطيع اليهودي أن يقول ما حاجتي للإيمان؟ باعتبار أنه يحفظ الناموس، إلا أنه إذا تعطل الإيمان فحتما سيبطل الوعد.
4 . لاحظ أن الرسول بولس يقاومهم، وهو يرجع إلى البداية أي إلى زمن إبراهيم. وإذ أظهر أن البر مرتبط بالإيمان منذ ذلك الحين، فهو بهذا يوضح أن الوعد مرتبط (بالإيمان) بنفس الطريقة، لكي لا يقول اليهودي: وماذا يعنيني إن كان إبراهيم قد تبرر بالإيمان؟ يقول الرسول بولس لكن الوعد بالميراث ـ وهو الأمر الذي يهمك ـ لا يمكن أن يتحقق بدون الإيمان، وهذا الأمر يسبب قلقا وخوفا كبيرًا لليهود. لكن عن أي وعد يتكلم؟ الوعد بأن ذاك وارثا للعالم، وأن بواسطته سيتبارك الجميع . وكيف بطل هذا يصير الوعد؟ يقول الرسول بولس:
” لأن الناموس ينشئ غضبا إذ حيث ليس ناموس ليس أيضا تعد” (رو15:4).
فإذا كان الناموس ينشئ غضبا، ويجعل الناس مسئولين عن المخالفات التي يرتكبونها ، فمن الواضح جدا أنه جاء للعنة. لذلك فإن أولئك المخالفون الذين استحقوا اللعنة والعقاب، ليسوا مستحقين أن يصيروا ورثة، بل أن يدانوا وأن يستبعدوا من الميراث. ماذا حدث إذا؟ الذي حدث هو أن الإيمان أتى بالنعمة، لكي يتحقق الوعد. لأنه حيث توجد النعمة يوجد غفران، وحيث يوجد غفران، لا توجد أي إدانة. وعندما تبطل الإدانة ثم يأتي بعد ذلك البر الذي بالإيمان، عندئذ لا يوجد أي شيء يمكن أن يعيقنا عن أن نصير ورثة للوعد الذي يأتي بواسطة الإيمان. لذلك يقول الرسول بولس:
” لهذا هو من الإيمان كي يكون على سبيل النعمة ليكون الوعد وطيداً لجميع النسل ليس لمن هو من الناموس فقط بل أيضا لمن هو من إيمان إبراهيم الذي هو أب لجميعنا ” (رو16:4).
أرأيت كيف أن الإيمان لا يدعم الناموس. وليس هذا فقط، بل ولا يكذب وعود الله، بل على العكس الناموس يبطل الإيمان، وذلك عندما يحفظ في وقت غير مناسب فيبطل الوعد؟ إن هذا كله يظهر كيف أن الإيمان هو أمر هام وضروري جدا، حتى أنه لا يمكن أن نخلص بدونه. فمن المؤكد أن الناموس ينشيء غضبا، طالما أن الجميع خالفوه، بينما الإيمان لا يترك مجالاً ليسود فيه الغضب، لأن الرسول بولس يقول: “إذ حيث ليس ناموس ليس أيضا تعد “.
أرأيت كيف أنه لم يتحدث عن محو أو إزالة الخطية (عن طريق الناموس)، وليس هذا فقط، بل ولم يترك مجالاً للحديث عن أن الوعد يمكن أن يكون نتيجة العمل بالناموس؟ ولهذا قال “على سبيل النعمة”، لكن لماذا قال على سبيل النعمة؟ قال هذا لا لكي نخجل، بل ” ليكون الوعد وطيدا لجميع النسل”. وهنا يشير الرسول بولس إلى الخيرات، حيث إن الوعد بالخيرات هو أمر مؤكد، وأن هذه الخيرات ستُعطى لجميع النسل، وتشمل أولئك الذين يأتون من الأمم، ويدلل على أن اليهود سيكونوا خارج هذه الوعود إذا قاوموا الإيمان، لأن هذا الوعد هو أكثر ضمانا من الناموس. فلا تحتج أو تعارض من جهة أهمية الإيمان لتحقيق الوعد ، لأن الإيمان لا يسبب لك ضررا، بل على العكس عندما تتعرض لخطر من الناموس، فإن الإيمان ينقذك ويحفظك من هذا الخطر. لأنه قال بعد ذلك: “لجميع النسل “، وهو يحدد إلى أي نسل: ” لمن هو من إيمان إبراهيم “، مشيرا إلى القرابة التي صارت للأمم، ومبينا أنه لا أحد يستطيع أن يفتخر بإيمان إبراهيم إلا الذين يسلكون في خطوات إيمان إبراهيم. وها هو أمر ثالث قد صنعه الإيمان، أي جعل القرابة إلى إبراهيم البار أكثر تأكيدا ، وجعله أبا لنسل كثير. ولهذا لم يقل فقط ” إبراهيم ” ولكن ” أبو المؤمنين، أي أنه أبا لجميعنا “. ثم بعد ذلك يؤكد على ما سبق وقاله، من خلال شهادة كتابية قائلاً:
” كما هو مكتوب إني قد جعلتك أبا لأمم كثيرة ” (رو17:4).
أرأيت كيف تم إعداد كل هذا منذ البداية بواسطة العناية الإلهية؟ ماذا لو أن كل ذلك قد قاله للإسماعيليين أو لعماليق أو للهاجريين؟ هذا الإيمان ظل يظهره بكل وضوح، بمعنى أن الإيمان لم يقدم لهؤلاء، لكنه تعجل أولاً أن ينتقل لأمر آخر أظهر به نفس الشيء من خلاله هذه القرابة، وقد أظهر ذلك برؤية ثاقبة. ماذا قال إذا؟ قال: “أمام الله الذي آمن به”. وما يقوله يعني الآتي:
تماما كما أن الله ليس هو إله للبعض فقط، لكنه أب للجميع، فهكذا إبراهيم أيضا. وكما أن الله ليس هو أبا، وفقا للقرابة الطبيعية (البشرية)، لكنه أب وفقا للقرابة التي بالإيمان، هكذا إبراهيم أيضا، لأن خضوعه لله (بالإيمان)، جعله أبا لجميعنا.
ولأن اليهود اعتبروا أن قرابة الإيمان ليست لها أهمية، طالما أن لهم صلة القرابة الطبيعية (بإبراهيم)، فقد أظهر الرسول بولس أن القرابة بالإيمان هي أكثر أهمية، حيث إنه يتكلم عن عطية الله، بالإضافة إلى ذلك فقد أوضح أن إبراهيم قد نال المكافأة بسبب الإيمان . وبناء على ذلك فإن لم يكن هناك إيمان، فحتى لو كان إبراهيم أبا لجميع البشر في كل الأرض، فإن عبارة “أمام الله” ليس لها أهمية، بل وتكون عطية الله قد انقطعت، لأن كلمة “أمام” تعني أن الجميع متساوون أمامه، إذ أنه (لا يحابي أحدا). أخبرني العجيب في أن يكون إبراهيم أبا لكل من ينحدر منه؟ لأن هذا ما يتعلق بكل البشر، فكل إنسان له أصل ينحدر منه. إذا فالعجيب هو أن كل من لم ينحدر منه بحسب القرابة الطبيعية، قد صار قريبا له بواسطة ما هو نعمة الله
5 . ولذلك، فلو أردت أن تعرف كيف كرم إبراهيم، فاعلم أن هذا قد حدث بسبب إيمانه، لأنه آمن بأنه سيكون أبا للجميع. وعندما ذكر عبارة: ” أمام الله الذي آمن به ” لم يتوقف عند هذا الحد، بل أضاف: “الذي يحيى الموتى ويدعو الأشياء غير الموجودة كأنها موجودة”، مشيرا إلى القيامة العتيدة أن تحدث. وفي هذه الحالة كان الأمر مفيدا له. لأنه طالما أن في إمكان الله أن يعطي حياة للموتى، ويدعو الأشياء غير الموجودة كأنها موجودة، بهذا يصير من الممكن أيضا أن يجعل لإبراهيم أولادا لم يولدوا من صلبه. ولهذا لم يقل الذي أحضر للوجود الأشياء غير الموجودة، ولكن ” الذي يدعو ” فيوضح مدى السهولة التي يخلق بها الله الأشياء. فكما أنه من السهل بالنسبة لنا أن تشكل الأشياء الموجودة، هكذا فإنه من السهل بالنسبة لله، بل وأكثر سهولة، أن يعطى كيانا للأشياء غير الموجودة. لكن بعدما قال أن عطية الله عظيمة ولا يعبر عنها، وبعدما تحدث عن قوة الله، بين كيف أن إيمان إبراهيم جعله مستحقا للعطية، لكي لا تتصور أن إبراهيم قد كرم بدون سبب . وبعدما حث المستمع ألا يثير قلقا، ولكي لا يشك اليهودي ويقول كيف يكون أن الذين ليسوا هم أولاده، يصيروا أولاده، ينتقل بحديثه مرة أخرى إلى إبراهيم، ويقول:
” فهو على خلاف الرجاء آمن على الرجاء لكي يصير أبا لأمم كثيرة كما قيل هكذا يكون نسلك ” (رو18:4).
كيف وهو على خلاف الرجاء قد آمن على الرجاء؟ هذا يعني: أنه آمن على خلاف الرجاء الإنساني، إذ أنه وضع رجائه في الله. هنا يبين عظمة هذا الأمر ولا يترك مجالاً للشك في هذا الكلام، فالأمر يحمل تناقضا (بمعنى أن الذين ليسوا أولادا قد صاروا أولادا) إلا أنه قد وحدهم معا بالإيمان . لكنه لو تكلم عن نسل إسرائيل، لكان هذا الحديث أمرا زائدا. لأن هؤلاء اليهود كانوا أولادا لا بالإيمان بل بالطبيعة.
ثم يشير إلى اسحق وكيف كان إبراهيم متشككا في إمكانية إنجابه من امرأة عاقر، وليس من جهة أنه سيصير أبا لأمم كثيرة. إذا هي مكافأة أن يصير أبا لأمم كثيرة، وواضح كيف صار أبا لأمم كثيرة، إذ آمن لأجلهم، وهذا ما يوضحه الكلام الآتي:
” وإذ لم يكن ضعيفا في الإيمان لم يعتبر جسده وهو قد صار مماتا إذ كان ابن نحو مئة سنة ولا مماتية مستودع سارة ” (رو19:4).
أرأيت كيف يذكر العوائق ورغبة البار (أي إبراهيم) الشديدة في أن يتغلب على كل شيء؟ فهو قد نال الوعد على خلاف الرجاء، وكان هذا أول عائق. لأن إبراهيم لم يستطع أن يرى مثالاً آخر أي شخص قد أنجب ولدا بهذه الطريقة. فالذين أتوا بعد إبراهيم قد رأوا تحقيق هذا الأمر في شخص إبراهيم، بينما هو نفسه لم يرى هذا في أي شخص آخر، بيد أنه رأى إمكانية تحقيقه بالثقة، بالإيمان فقط، ولذلك قال ” على خلاف الرجاء “. ثم بعد ذلك كان العائق الثاني وهو أن جسده كان مماثا، وأيضا مماتية مستودع سارة، وهذا يمثل عائق ثالث ورابع أيضا.
” ولا بعدم إيمان ارتاب في وعد الله بل تقوى بالإيمان معطيا مجدا الله ” (رو٢٠:٤).
لأن الله لم يعط برهائا ولا صنع معجزة، وما قدمه هو فقط كلاما بسيطا، لكنه كان يحمل وعودا لم تستطع الطبيعة أن تعد بها. لأجل هذا يقول الرسول بولس إنه: ” لم يرتاب ” ولم يقل لم يؤمن، لكنه قال ” ولا بعدم إيمان ارتاب ” أي أنه لم يتردد ولا تشكك، على الرغم من أن العوائق كانت كثيرة.
إن ذلك كله يعلمنا أن الله حتى وإن أعطى وعودا لا حصر لها وتبدو مستحيلة ولم يقبلها الذي يسمعها، فإن الضعف لا يرتبط بطبيعة الوعود ، بل بحماقة الذي لم يقبلها. ثم يقول الرسول بولس عن إبراهيم:
” بل تقوى بالإيمان”. أرأيت حكمة القديس بولس، فلأن الكلام كان موجها إلى أولئك الذين يعملون (بالناموس) والذين يؤمنون، فإنه يبين أن ذاك الذي يؤمن يجاهد ويحتاج لقدرات أكبر وقوة أكثر من الذي يعمل. لأنهم بالحقيقة قد احتقروا الإيمان وقالوا إن ليس فيه ألم. إذا لأجل هذا الهدف يوضح أنه ليس فقط ذاك الذي يجاهد من أجل العفة أو أي شيء آخر مشابه يحتاج لقوة، بل ذاك الذي يظهر إيمانا أيضا في حاجة للقوة ، لأنه كما أن ذاك الذي يقاوم أفكار الفسق أو الفجور هو في حاجة إلى قوة، هكذا من يؤمن يحتاج أيضا إلى نفس صلبة، لكي يستطيع أن يقاوم أفكار هي ضد الإيمان .
إذن كيف صار إبراهيم قويا؟ يقول الرسول بولس: بالإيمان، وبدون أن يترك إبراهيم هذا الأمر للأفكار، لئلا يفقد شجاعته. وكيف حقق هذا الإيمان؟ حققه ” معطيا مجدا لله “، ويتابع القديس بولس كلامه عنه بقوله:
” وتيقن أن ما وعد به هو قادر أن يفعله أيضا لذلك أيضا حسب له برا” (رو21:4۔22)
وبناء عليه ينبغي ألا نفحص وعد الله، كثيرا ، لأن قبول الوعد هو تمجيد لله، لكن ما يعد بالحقيقة خطية، هو الفحص في وعود الله كثيرا. فإذا كنا لا نتمجد عندما نفحص كلامه بفضول، وعندما نسعى لطلب الأمور الأرضية، فبالأولى كثيرا ينبغي ألا ننشغل بكيفية ميلاد الرب، لأننا ستعاني كثيرا إذا اتبعنا هذا السلوك غير المستقيم. وإن كان لا ينبغي أن نفحص الشكل أو النموذج الذي ستكون عليه القيامة، فبالأولى كثيرا لا ينبغي أن نفحص تلك الأمور الفائقة التي لا يعبر عنها. ولم يقل الرسول بولس إن إبراهيم كان واثقا، لكنه قال “تيقن” لأن هذا هو الإيمان، فهو أكثر وضوحا من برهان الأفكار وله قوة إقناع، فليس هناك فكرا يستطيع أن يتوغل ويؤثر على هذا اليقين. لأن ذاك الذي يقتنع برأي عند سماعه لكلام مجرد، يمكن أن يغير رأيه، بينما ذاك الذي يقتنع بصورة مطلقة من خلال الإيمان، فإنه يقيم سدا أو سياجا حول سمعه لصد أي كلام يمكن أن يؤثر في الإيمان. إذا بعدما قال إن إبراهيم تبرر بالإيمان، أوضح أنه تقوى بالإيمان معطيا مجدا لله، الأمر الذي يعد ملمحا خاصا ومميزا لطريقة الحياة الصحيحة. يقول: ” فليضئ نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السموات”. ومن الواضح أن هذا السلوك له علاقة وثيقة بالإيمان. وهكذا فكما أن الأعمال تحتاج إلى قوة، فإن الإيمان أيضا يحتاج إلى قوة. فبالنسبة للأعمال، نجد أن الجسد كثيرا ما يشترك في الجهاد، أما فيما يتعلق بالإيمان فالأمر يختص بالنفس فقط وعليه فإن الألم أو التعب يكون أكبر عندما لا يكون لدى المؤمن ما يعضد به النفس في جهادها.
6 . أرأيت كيف أظهر الرسول بولس أن كل تلك الأمور، التي هي نتائج للأعمال، قد أُضيفت ببركة وفيرة للإيمان، وأن الشخص يمكنه أن يبتهج بهذا أمام الله، عندما يكون محتاجا إلى قوة ومثابرة، وأنه يمجد الله أيضا؟ وهذا واضح مما قاله: ” إن ما وعد به هو قادر أن يفعله أيضا” يبدو لي أنه ينبئ بالأمور المستقبلية. لأن الله لم يعد فقط بالأمور الحا بالأمور المستقبلية، إذ أن الأمور الحاضرة هي مثال لأمور الدهر الآتى. وبناء على ذلك فإن عدم الإيمان هو ملمح للنفس المريضة والضئيلة والبائسة. حتى عندما يديننا البعض بسبب الإيمان، يحق لنا أن ندينهم لعدم إيمانهم، كأناس بائسين، وحمقى، ومرضى، وصغار النفوس، ولا يسلكون بطريقة أفضل من البهائم غير العاقلة، لأنه بالضبط كما أن الإيمان هو سمة النفس التقية والعظيمة، هكذا فإن عدم الإيمان هو ملمح للنفس التي تتسم بالغباء الشديد ، النفس التافهة التي انحدرت إلى مستوى الحيوانات غير العاقلة. ولذلك عندما نهجر هؤلاء (أي عديمي الإيمان)، يجب أن نسلك في خطى إبراهيم، ولنمجد الله تماما كما مجده هو. لكن ما معنى مجد الله؟ معناه أنه أدرك بره وقوته غير المحدودة، وطالما أنه أدرك ذلك كما ينبغي، عندئذ نال الوعود. إذا فلتمجد الله نحن أيضا ـ بالإيمان وبالأعمال ـ لكي ننال المكافأة، بأن تكرم من الله، لأنه يقول ” فإنى أكرم الذين يكرموننى” وحتى لو لم يكن هناك أي مكافأة، فمجرد أن نكون مستحقين لأن تمجد الله، فهذا تحديدا هو الإكرام. لأن الناس عندما يمدحون الملوك فإن هذا بحد ذاته يجعلهم يفتخرون، حتى لو لم يوجد أي شيء آخر يربحونه، تأمل في مقدار المجد الذي نناله عندما يمجد الله : بواسطتنا. إنه بكل تأكيد ، يريد هذا المجد لنا، لأن الله ليس في احتياج لهذا المجد.
إذن هل لك أن تتصور مدى الفروق التي بين الله وبين البشر؟ هل هي بمقدار الفروق بين البشر والحشرات الدقيقة؟ إلى الآن لم أقل شيء لأوضح هذه الفروق، ولو أنني مدرك مقدارها الضخم، لأنه من المستحيل أن يحدد المرء مقدار هذه الفروق. فهل يا تُرى سترغب في أن تقتني لك مجدا مشرقا وعظيما من خلال الحشرات الدقيقة؟ لا على الإطلاق. إذا فلو أنك، يا من تشتهي المجد بكل هذا الاشتياق، لن ترغب في أن تطلب مجدا من الحشرات، فكيف يكون ذاك الذي هو متحرر من هذه الشهوة (شهوة المجد) والذي هو أعلى وأسمى من كل شيء، في إحتياج لأن تمجده ؟ لكنه وإن لم يكن في حاجة للمجد، إلا أنه يريده لك. فلو أنه قبل أن يصير عبدا من أجلك، فلماذا تندهش لو أنه احتمل الأمور الأخرى لنفس السبب ؟ لأنه لا يستطيع من هو غير مستحق في ذاته، أن يقودنا إلى خلاص نفوسنا. وإذ نعرف كل هذا، فلنتجنب كل خطية تؤدى إلى إهانة الله. ” اهرب من الخطية هريك من الحية فإنها إن دنوت منها لدغتك”. فإن الخطية لا تأتي إلينا، بل نحن نسعى إليها.
إذن فقد صنع الله هذا وأتى إلينا، حتى لا ينتصر الشيطان ويسود، لأن بدون معونة الله لا يستطيع أحد أن يقاوم قوته. لهذا فقد أبعده الله كلص وكمستبد. فهو بخداعه واحتياله، لن يتجرأ على مهاجمة أحد، إلا إذا كان وحيدا. وإذ يرانا ونحن نسير في الجدب، فهو يتشجع على الاقتراب منا. لأن الجدب أو القفر هو أيضا مكان الشيطان، وهذا الجدب ليس سوى الخطية. نحن في احتياج لدرع الخلاص، وسيف الروح، ليس فقط لكي لا تصاب بأذى، لكن أيضا لكي نقطع رأس الشيطان، وإذا ما أراد أن يهاجمنا ينبغي أن تصلى دوما لكي يسحق تحت أقدامنا. لأنه يتصف بعدم الحياء والخسة ، فهو يهاجم منطلقا من أمور الدنيا التي لا سمو فيها، وهكذا ينتصر. والسبب في هذا النصر هو أننا لا تحاول أن نكون في وضع أعلى من أن تطولنا ضرباته، لأنه ليس في وضع يسمح له بالوقوف كثيرا، لكنه ينسحب إلى أسفل. فهو لا يملك أرجل يقف عليها، لأنه مثل الحية، إذ هي المثال الذي يرمز للشيطان. فلو أن الله ـ منذ البداية . قد حدد له هذا الوضع، فبالأولى الآن، فإذا كنت لا تعرف ماذا يعني أن يحارب الشيطان منطلقاً من الأمور الدنيا فسأحاول أن أشرح لك أسلوب أو طريقة حربه. إنه يوجه الضربات مزينا للإنسان مدى روعة وجمال الأمور الأرضية، أي اللذة والغنى، وكل الأمور الحياتية الأخرى. ولهذا لو أنه رأى شخصا ينطلق نحو السماء (أي يسمو على الأمور الأرضية)، فهو لن يستطيع أن يقفز نحوه، هذا أولاً. أما الأمر الثاني فإنه حتى ولو حاول ونجح فإنه سيسقط سريعا، لأنه لا يملك أرجل، لذلك لا تخاف منه إذ لا أجنحة له، ولا ترتعب أمامه لأنه يزحف فوق الأرض، ومرتبط بالأمور الأرضية. إذن ينبغي أن تسمو فوق كل الأمور الأرضية المادية، وإذا حدث ذلك فلن تتعرض لأي أذى. لأنه لا يعرف أن يحارب مواجهة، لكنه مثل الحية يختفى بين الأشواك ويتربص باستمرار مختفيا في خداع الغنى أو الثروة. ولو أنك أزلت الأشواك سيرحل سريعا، لأنه جبان، ولو أنك تعرف أن تستخدم القوة الإلهية، وهي اسم ربنا يسوع المسيح، وقوة الصليب . فسيخرج على الفور لأنه يوجد لدينا قوة روحية، هذه القوة، ليست فقط قادرة على أن تُخرج الحية من وكرها، وتلقيها في النار، بل وتشفي الجروح الناتجة عن لدغها أيضا.
7- لكن لو قال كثيرون إنهم لم يشفون، فهذا يرجع إلى ضعف إيمانهم. لأن كثيرين دفعوا المسيح بقوة (بسبب تزاحمهم عليه) ولمسوه من كل جانب ، ولم يربحوا شيئا، لكن المرأة نازفة الدم، قد شفيت بعد أن عانت طويلاً من مرضها، رغم أنها لم تلمس جسده، بل لمست فقط هدب ثوبه. إن اسم ربنا يسوع المسيح هو مخيف للشياطين ويحرر من الشهوات ويبرئ من الأمراض. فلنفتخر بهذا الاسم إذا ونحصن أنفسنا به”. وهكذا صار بولس عظيما على الرغم من أنه يحمل نفس طبيعتنا، إلا أن إيمانه جعله متميزا عنا تماما ، وكم كانت عظيمة تلك القوة التي كان يتصف بها”. إذا كيف يكون لدينا القدرة لندافع عن أنفسنا، عندما لا تقدر صلواتنا أن توقف ولا حتى الشهوات، بينما كانت ظلال وملابس (بطرس وبولس) تقيم الموتى؟ إذا ما هو السبب؟ السبب يرجع إلى تلك الفروق الكبيرة جدا في الرغبة الداخلية ، فالعطايا الطبيعية الخاصة بالإنسان هي واحدة ومشتركة بين الجميع، طالما أنه (أي الرسول بولس) ولد مثلنا، ونمى وعاش على نفس الأرض، وتنفس من نفس الهواء، إلا أنه كان أعظم وأفضل منا في الأمور الأخرى، أي في النية الحسنة وفي الإيمان والمحبة. فلنسلك إذا كما سلك الرسول بولس، ولنسمح للمسيح أن يتكلم معنا، إن المسيح يشتهي أن نسلك بالروح، بل وأكثر جدا مما نشتهيه نحن لأنفسنا، ولهذا خلق لنا هذه الأداة (أي العقل)، فهو لا يريد له أن يبقى بلا فائدة أو في تواني، إنما يريدنا أن نستخدمه على الدوام. فكما أن الآلة الموسيقية عندما تكون أوتارها غير معدة أو مرتخية، تصير بلا نفع ولا يستطيع العازف أن يستخدمها، هكذا أيضا ينبغي علينا أن تشدد أعضاء النفس ونحفظها بالملح الروحي، لأنه لو رآها الله منسجمة هكذا فيما بينها، فلابد أن يسمع صوت المسيح من داخل نفوسنا. وعندما يحدث هذا، سترى الملائكة ورؤساء الملائكة والشاروبيم وهي تطير فرحا. إذن لنصير مستحقين لرفع أيادي بلا عيب، ولنترجاه أن ينبض بقوته داخل قلوبنا، ومن الأفضل القول بأنه لا يحتاج إلى أن نترجاه، لكي يفعل هذا ، لأنه يحتاج فقط أن ثهيئ له القلب كما ينبغي وحينئذ سيركض نحوك ويلمس قلبك.
فإن كان يركض من أجل ضمان الأمور المستقبلية (لأنه سبق وأعد لبولس المديح اللائق به، قبل أن يصير رسولاً للأمم)، فإنه يبذل كل شيء عندما يرى شخصا كاملاً، أما عندما نسمع لصوت المسيح، فإن الروح القدس سيحلق حولنا حتما، وسنصير أفضل من السمائيين، ولن يرى النور فقط داخلنا، بل أن خالق النور والملائكة هو الذي يسكن ويتجول في داخلنا . أقول هذا، لا لكي تقيم أمواتا، ولا لكي تطهر برصا، ولكن لكي تظهر المعجزة الأعظم من كل هذه الأمور وهي المحبة. لأنه حيث توجد المحبة، سيوجد على الفور الابن مع الآب وستحل نعمة الروح القدس من السماء، لأنه يقول: ” حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمى فهناك أكون في وسطهم” . هذا دليل رغبة مؤكدة، وسمة يتميز بها أولئك الذين يحبون بكل قدرتهم، بمعنى أنهم سيلتقون بكل من يحبون، سيلتقون بالله الذي يحبونه، ويلتقون أيضا بآخرين يكنون لهم كل محبة.
ومن هو ذلك البائس الذي لا يريد حلول المسيح في الوسط؟ لأنه إن لم يحل المسيح في الوسط، فكيف ستحل المشاكل بيننا، ومن سيكون السبب في هذا؟ ربما سيتهكم علي أحد قائلاً: ماذا تقول؟ هل نحن الذين نجتمع تحت سقف كنيسة واحدة ونتمتع بوفاق وسلام، هل لا توجد حروبا بيننا، رغم أننا نتحدث ونتفاهم معا ونحن تحت رعاية راعى واحد ، ونسمع التعليم معا ، ونرفع الصلوات معا إلى فوق، هل نسيت ما حدث من مشاحنات وثورات؟ لم أنسى، ولست مخبولاً ولا فقدت عقلي. لأنني من المؤكد أرى تلك الأمور وأعرف كيف أننا نوجد تحت سقف نفس الكنيسة، وتحت رعاية نفس الراعي، ولهذا السبب تحديدا أشعر بالحزن لأننا نتشاجر على الرغم من أن هناك أمورا كثيرة يمكن أن توحدنا . وقد يسألني البعض وأى نزاعا ترى هنا؟ أقول، هنا لا يوجد نزاعا، ولكن عندما نتفكك، وعندما يدين أحد غيره، وهذا يدين ذاك، ويهين آخر علنا، وعندما يصير آخر حسودا وطماعا وخاطفا، وآخر يستخدم العنف منهجا له، وآخر يعلن عن عطفه بطريقة سيئة، وآخر يحيك مكائد ودسائس لا حصر لها. هنا يستعلن النزاع والشجار والمشاحنة، فإذا تمكنتم من اكتشاف حقيقة أنفسكم، عندئذ ستستطيعون أن ترون كل هذا بدقة وستدركون أنني لست مخبولا.
٨ ـ ألا ترون كيف أن الجنود في حالة السلم يتركون الأسلحة ويعبرون إلى المعسكرات مجردين من الأسلحة، بينما يختلف المشهد في حالة الحرب عندما يكونوا مسلحين وحراسا، فتكون هناك مقدمة للجيش، وتبدأ الخدمات الليلية، وتوقد النار بصفة دائمة، الأمر الذي لا يعلن عن حالة سلام، بل عن حالة حرب. ومن الممكن أن يرى المرء نفس هذا النهج يحدث بيننا. حيث يحترس الواحد من الآخر، ويسود الخوف، ويتكلم كل واحد مع قريبه بالهمس، وعندما نرى أحدا يقترب نصمت ونوقف الكلام دون أن يكتمل، الأمر الذي لا يعتبر سمة لأناس شجعان، بل أناس يتوجسون من الآخر. ولهذا أحزن، لأننا بينما نحيا بين اخوة، فإننا نلجأ إلى الحرص الزائد ، مشعلين نارا كثيرة، واضعين حراسا، وكأننا في معسكر حرب مع أعداء، والسبب في ذلك هو الكذب الكثير، والخداع الكثير وغياب المحبة الواضح، والسلوك العدواني. ولهذا تحديدا فمن الممكن أن يجد المرء الكثيرين من عبدة الأوثان لديهم شجاعة أكثر من المسيحيين. كم من المهانة تستحق مثل هذه الأمور؟ وكم تستحق الكثير من البكاء عليها والرثاء لها؟ وقد يقول أحدكم وماذا أفعل ألا ترى أن ذلك الإنسان هو سيء السلوك وخبيث؟ أقول له: وأين هو احتمالك؟ ألا تقض القوانين الرسولية بأن يحتمل الواحد أثقال الآخر؟ لأنه إن لم تعرف كيف تسلك بصورة صحيحة تجاه أخيك، فمتى سيمكنك أن تسلك بمحبة تجاه الغريب؟ وإذا كنت لا تعرف أن تتعامل مع العضو الذي يسبب لك متاعب، فمتى ستتمكن أن تجذب ذاك الذي هو خارج الكنيسة، وأن تجعله واحداً مع نفسك؟ وأمام كل ما يحدث فإني أتساءل عما يمكنني فعله؟ وأجد صعوبة كبيرة جدا في أن إسكب الدموع، لأننى سأسكب ينابيع دموع غزيرة من عيني. إن إرميا النبي عندما رأى الأعداء وهم يبدأون هجوما ، قال: “أحشائي توجعني”” وأنا أرى في تلك الساحة (التي تجمع المؤمنين معا أي الكنيسة) حروبا كثيرة، وهي أكثر رعبا من هذه الحروب التي أشار إليها إرميا. وبينما أنتم تحت قيادة قائد جيش واحد (أي المسيح)، إلا أنكم تثورون، الواحد ضد الآخر، ويأكل بل ويفترس الواحد أعضاء الآخر، البعض من أجل المال، والبعض من أجل المجد، كما يسخر آخرون منكم بدون سبب ويهزءون، فأنتم تُحدثون إصابات كثيرة فيما بينكم، وينتج عن ذلك أن يسقط قتلى نتيجة هذه الإصابات المفزعة، بل إن عدد القتلى يفوق ما يسقط في الحروب، وكلمة “أخوة” تصير مجرد كلمة عادية، لذلك لا أستطيع أن أفكر في عمق الأنين الذي يعبر عن هذه المأساة.
إذن ينبغي عليكم أن تحترموا هذه المائدة (أي مائدة الافخارستيا) التي تشتركون فيها جميعا، وأن تقدروا عمل المسيح الذي ذبح لأجلنا، ولتوقروا هذه الذبيحة الموجودة فوق هذه المائدة . إن اللصوص الذين يأكلون خبرا وملحا مع آخرين، ليسوا بعد لصوصا بالنسبة لأولئك الذين يأكلون معهم، فالمائدة تغير من صفاتهم، وكذلك أيضا الذين كانوا أكثر وحشية من الوحوش أنفسهم، تجعلهم المائدة (مائدة الافخارستيا) أكثر وداعة من الحملان، بينما نحن ـ على الرغم من أننا نشارك في مثل هذه المائدة ونأكل نفس الطعام – نتسلح الواحد ضد الآخر، بينما كان ينبغي علينا أن نتسلح ضد الشيطان الذي يحاربنا جميعا. ولهذا السبب عينه فنحن نصير أكثر ضعفا يوما فيوم، بينما هذا (الشيطان)، يصير قويا. لأننا لا نساند بعضنا البعض في مواجهته، لكننا نقف صفا واحدا معه، الواحد ضد الآخر ويصير هو قائدنا في مثل هذه الأحداث في الوقت الذي فيه كان من المفترض، بل من الواجب علينا أن نحاربه. إلا أننا نترك مقاومته ونوجه سهامنا الآن ضد اخوتنا. وأي سهاما نطلقها؟ إنها السهام التي تنطلق من اللسان والفم. لأنه ليس الرماح والسهام الحقيقية هي فقط التي تسبب إصابات، لكن الكلام الردئ أيضا يترك جراحات أكثر مرارة من السهام.
وكيف سنتمكن من إنهاء هذه الحرب؟ يحدث هذا عندما تدرك أنك تتكلم بالسوء على أخيك، وتُخرج كلاما بذيئا من فمك، وأيضا لو أدركت أنك تشي بعضو من أعضاء جسد المسيح، وأنك تنهش أيضا في جسدك، ولتعلم أن السهم لا يقتل ذاك الذي يصاب به، بل يقتلك أنت الذي تطلقه. ولكن هل ظلمك أحد وصنع بك شرا؟ إذا حدث ذلك لا تتكلم بالسوء، بل ابكي لا من أجل أنك ظلمت، لكن لأجل هلاكه، كما صنع سيدك وبكى على يهوذا ، لا لأنه سلمه للصلب، لكن لأن ذاك قد خانه. هل أهانك أحد وسخر منك؟ فلتترجى الله سريعا أن يغدق على هذا الإنسان من رحمته. إنه أخوك وولد معك من نفس الرحم (أي المعمودية). إنه عضو من أعضائك ومدعو لنفس المائدة. لكنك تقول إنه يهينني كثيرا. فإن احتملته سيكون أجرك أكبر وأكثر، ولهذا فإنه من العدل أن تترك عنك الغضب، وتدرك أن الشيطان قد أصابه بضربة مميتة (لأنه نجح أن يدفعه لإهانتك).
9 ـ إذن لا تضيف إليه ضربة أخرى، ولا تنطلق من نفس المستوى الذي يتحرك منه، لأنه على قدر ما تكون قائما مرتفعا، يمكنك أن تنقذه، بينما إذا دمرته ورددت له الإهانة، فمن سيرفعك فيما بعد؟ فهو الذي جرح، إن ذاك لن يستطيع أن يعينك، طالما أنه مطروح أسفل, وهل تستطيع أنت يا من سقطت معه أن تقدم أي مساعدة؟ وكيف ستتمكن أن تساعد الآخر، طالما أنك لا تستطيع أن ثعين نفسك؟ إذا قف بشجاعة وضع أمامك الدرع واجذب أخيك من المعركة، إذ هو ميت (روحيا)، وكن طويل الأناة. ألم يصيبه الغضب؟ فلا تجرحه أنت أيضا، بل عليك أن تخرج منه السهم الذي أصابه.لأنه لو سادت بيننا المحبة سنصير أصحاء سريعا . وعندما نستخدم الأسلحة الواحد ضد الآخر، فلن تكون هناك حاجة لتدخل الشيطان، حتى نهلك. لأن الحرب بصفة عامة هي شيء مخيف، وبشكل خاص الحروب الأهلية. لكن هذه الحرب (بين الاخوة) هي أكثر فزعا من الحروب الأهلية، على قدر ما تكون الحقوق المطالب بها كبيرة، كما يظهر من سلوكنا أو كما يظهر من أي شيء له علاقة بهذا السلوك . هذا ما حدث حين قتل قايين أخاه هابيل، وسفك دم من كان تربطه به قرابة جسدية، هذا الأمر يعتبر أكثر جرما من قتل الغريب، وبقدر ما تكون القرابة الروحية قوية، على قدر ما يكون الموت مخيفا. لأن قايين قد أصاب الجسد، ولكنك أنت قد أعددت السيف لتُصيب به نفس أخيك. ألم يصبك الأذى أنت أولاً حين تفعل الشر؟ إن الأذى الحقيقي الذي يصب المرء، هو في فعل الشر، وليس في المعاناة من عمل الشر الذي يناله ، ولكن انتبه، لقد ذبح قايين، وذبح هابيل، فمن الذي مات؟ هل هو ذاك الذي صرخ بعد الموت (أي هابيل)، لأن الكتاب يقول: ” صوت دم أخيك صارخ إلى من الأرض”. أم هو قايين الذي ارتعب وخاف أثناء حياته؟ فهو الذي صار بالحقيقة أكثر بؤسا من كل مائت.
أرأيت أنه من الأفضل أن يقبل المرء الظلم، حتى لو وصل إلى مرحلة الموت؟ يجب أن تعلم كيف أنه عندما يظلم المرء، فإن هذا يعد أمرا سيئا. إن قايين قد ضرب وقتل أخاه، لكن واحدا ثوج، والآخر أدين. لقد قتل هابيل، وذبح بدون وجه حق، ولكنه بموته قد أدان وسبى، بينما الآخر على الرغم من أنه عاش، إلا أنه صمت وشعر بالخجل وسبي، وأعد لنفسه عكس ما تمنى. لأنه قتل أخاه، إذ رآه محبوبا ، آملاً أن يبعده عن المحبة، لكنه بهذا الفعل جعل المحبة تزداد أكثر، وعندما مات، طلبه الله أكثر قائلاً: ” أين هابيل أخوك”، لأن حسده لم يستطع أن يطفئ شوق هابيل إلى الله، لكنه قد أشعله بصورة كبيرة، لم يقلل من كرامة أخيه بالذبح، بل عظمه أكثر، لأن الله كان قد أخضعه قبل ذلك له، ولكن لأنه قتله، فسيدينه الله، على الرغم من أنه مات (روحيا). إذا من هو الذي أدين؟ من الذي عاقب ومن الذي عوقب؟ ومن نال بكرامة عظيمة من الله، ومن سلم لعقاب جديد ومخيف؟ أنت لم تُخيفه عندما كان حيا، فهل ستخفيه الآن بعدما مات، لم ترتعب عندما اعتزمت أن تستخدم السيف، والآن سيسود عليك رعب دائم، بعد سفك الدم. وعندما كان حيا كان خاضعا لك ولم تحتمل مثل هذا الأمر، لذلك الآن حتى بعد موته، قد صار سيدا مخيفا لك.
فلنفكر في كل هذا، ولنترك الحسد، ولنطفئ الشر ولنحيا بالمحبة بعضنا نحو بعض، حتى نربح الخيرات في هذا الدهر وفي الدهر الآتى بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي يليق به مع الآب والروح القدس، المجد والقوة والكرامة إلى دهر الدهور آمين.
العظة العاشرة: رو4: 23-
” ” ولكن لم يكتب من أجله وحده أنه حسب له برا بل من أجلنا نحن أيضا الذين سيحسب لنا الذين نؤمن بمن أقام يسوع ربنا من بين الأموات” (رو٢٣:٤-٢٤).
بعد أن قال أمورا كثيرة وعظيمة عن إبراهيم، من جهة إيمانه وبره، والكرامة التي نالها من الله، فإنه يعود بالحديث ليتكلم عنًا، حتى لا يقول من يسمعه: ما علاقة كل هذا بنا، إذ أن ابراهيم هو الذي تبرر بالإيمان؟ كم هي عظيمة قوة الكلمات الروحية. لأن الذي أتى من الأمم، ودخل إلى الإيمان منذ وقت قليل، والذي لم يفعل أي شيء، لديه إيمائا لا يقل فقط عن إيمان اليهودي، بل ولا يقل عن إيمان إبراهيم، وإن أردنا أن نقول شيئا مثيرًا للإعجاب، نقول إنه يملك إيمانا أكثر جدا مما كان لليهودي، حتى أن إيمانه يعد نموذج لإيماننا . وهو لم يقل طالما أن إيمان ابراهيم قد حسب له برا، فمن الطبيعي سيحسب لنا، حتى لا يجعل هذا أمرا منطقيا، لكنه تكلم عن النواميس الإلهية التي ليست هي محل شك، وقدم هذا كله على أنه حكم الكتاب المقدس (أي أن الأمر لا يتعلق بالمنطق). إذا لماذا يقول إن هذا لم يكتب إلا لكي نعلم أننا نحن أيضا نتبرر هكذا؟ لأننا آمنا بنفس الإله ومن أجل نفس الأمور، وإن كان الأشخاص ليسوا هم نفس الأشخاص. وبعدما تكلم عن إيماننا ، ذكر محبة الله التي لا يعبر عنها تجاه البشر، والتي يشير إليها دائما، إذ قد أشار إلى الصليب، الأمر الذي يذكره الآن قائلا:
” الذي أسلم من أجل خطايانا وأقيم لأجل تبريرنا ” (رو٢٥:٤).
انظر كيف أنه بعدما أورد سبب الموت، يفعل نفس الشيء، ويقدم برهان القيامة. لأنه إن كان هو خاطئا فكيف قام؟ وإن كان قد قام فمن الواضح جدا أنه لم يكن خاطئا . ولكن لو لم يكن خاطئا فكيف صلب؟ وتقول إنه صلب من أجل الآخرين، فإذا كان قد صلب من أجل الآخرين، فمن المؤكد أنه قام . إذا لكي لا تقول وكيف يمكن أن نتبرر، بينما نحن مسئولون عن خطايانا الكثيرة؟ أشار إلى ذاك الذي محي كل الخطايا ، ولكي يؤكد كلامه يشير إلى إيمان إبراهيم، الإيمان الذي به تبرر، ثم يشير إلى الإيمان بالآلام المخلصة، تلك التي بها تخلصنا من كل الخطايا. وبعدما أشار إلى موت المسيح، أشار إلى قيامته، لأنه لم يمت، لكي يقف أمامه أناس يستوجبون العقاب ومحكوم عليهم، بل لكي يقدم لهم العون. لہذا مات وقام لأجل تبريرنا.
تفسير رومية 3 | تفسير رسالة رومية | تفسير العهد الجديد | تفسير رومية 5 |
القديس يوحنا ذهبي الفم | |||
تفاسير رسالة رومية | تفاسير العهد الجديد |