تفسير رسالة رومية اصحاح 5 للقمص متى المسكين

الأصحاح الخامس

هكذا ببلاغة وعمق تفكير وبإلهام النعمة، انتقل بنا ق. بولس من بر إبراهيم إلى بر المسيح ، شارحاً العلاقة الوطيدة بين إبراهيم والمسيح، فهي علاقة وعد إلهي أعطي لإبراهيم ونفذ بالمسيح . وهـذا الـوعـد كـانت قاعدته التي انطلق منها إيمان إبراهيم، الفائق القدر في جيله وكل الأجيال، والذي نال به بر الله مع وعـد بـنسل يأتي من إبراهيم يحمل بركة الله لإبراهيم وفيه تتبارك كل الأمم. وفعلاً جاء المسيح من نسل إبراهيم حاملاً بر الله ، ليس مجرد عطية للتبرير كما لإبراهيم ، بل بره الشخصي الذاتي في ابنه الوحيد. وانتهينا في الأصحاح الرابع بخلاصة غاية في الاختصار ولـكـن غاية في الإحكام والشمول، أن هذا الابن الحامل لبر الله الذاتي مات من أجل خطايانا ليرفع العائق الدهري الذي حرمنا من بر الله ، وهو الخطية التي حجبت وجه الله عنا والتي أوقعتنا تحت حكم الموت بمقتضى عدل الله. ولكن المسيح حملها في جسده ومات مكملاً عقوبتها فينا لأننا متنا معه بجسد بشريتنا الذي حمله ليمثل كل إنسان في الوجود أمام عدل الله، وهكذا نلنا الغفران بذبيحته الكفارية. وقام المسيح من بين الأموات وأقامنا معه لحياة جديدة خلصنا فيها من خطايانا ونلنا بها بر الله في المسيح . لأن المسيح صار برنا وصرنا فيه مبررين : «بالمسيح يسوع الذي صار لنا حكمة من الله وبرا وقداسة وفداء . » (1کو1: 30)

[ 11-1:5 ] إذ قد تبررنا في المسيح لنا سلام مع الله

1:5 « فإذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح » .

واضح هنا أن ق. بولس يتكلم عن الإيمان بالله، الله الذي أقام يسوع المسيح من الأموات ، الله المحيي. وهو نفس الإيمان الذي نؤمن به أن المسيح أقامنا معه في حياة جديدة وقد تحررنا من الخطية والموت، فصرنا في المسيح في دائرة بر الله ، مبررين بدم المسيح ، حيث تبرير الله هو العكس تماماً لغضب الله. فالخاطيء واقع تحت غضب الله كما رأينا في الأصحاح الأول، وهنا قد رفع المسيح عنا حكم الموت أي حكم الغضب فدخلنا في تبرير الله وقد انتهى الغضب بأسبابه ، وهذا هو سلام الله الذي نعيش فيه أمام الله بربنا يسوع المسيح .

وهكذا أنشأ لنا الإيمان بالمسيح حالة سلام مع الله من واقع التبرير الذي نلناه بالإيمان والشركة في موت المسيح وقيامته. فالسلام مع الله هو أول حصيلة التبرير بالإيمان بالمسيح ، وهو أظهر علامة في المسيحية. على أن السلام المسيحي ليس هو حالة فكرية أو قلبية نابعة من الإنسان، بل هي حالة اتصال وعلاقة بالله . فالسلام يأتي وينسكب من الله، فهو سلام الله الذي يفوق كل عقل ( في7:4). وهـو سـلام يحيط بالإنسان ويرتفع به فوق كل تهديدات العالم وسطوة الشر ومخاوف الأعـداء . فسلام الله هو بحد ذاته نصرة فوق العالم، هذا من جهة النظر نحو العالم، ولكن السلام الأعـظـم والأقوى هو تجاه النظرة نحو الله ، فبالمسيح ينتهي كل نزاع ومخالفة مع الله لأن مع المسيح تدخل تحت أبوة الله .

« لنا سلام مع الله » :

إنها حقيقة لا تحتاج إلى تتميم ، لأن المسيح رفع الدينونة عنا : « إذا لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح ، لأن ناموس روح الحياة ( القيامة) في المسيح يسوع قد أعتقني من ناموس الخطية والموت . » ( رو8: 1و2)

هكذا وإذ قد صرنا في حالة تبريىء أولاً ، أي خرجنا من تحت قضاء غضب الله بالموت واللعنة، وبالتالي دخلنا في بر الله أي قضاء الرحمة والتزكية، فنحن الآن مصالحون وأكثر من مصالحين، نحن لنا سلام مع الله . هذه ليست حالة خبرة إيمانية ولا هي سعي من طرف الإنسان، بل إن هذا هـو عـمـل الله في المسيح . إنها مبادرة كاملة من جهة الله من نحونا والعالم مدبرة تـدبـيـراً أزلياً بإحكام: «أي إن الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه ، غير حاسب لهم خطاياهم وواضعاً فينا كلمة المصالحة . » ( 2کو5: 19)

ولكن لمزيد الأسف قل من أحس بعمل الله هذا . قليلون هم الذين يتمتعون بسلام الله المجاني هذا، فالكل يحسب أنه يلزم عليه أن يعمل أشياء كثيرة ليدخل في مصالحة مع الله وسلام، كأن دم المسيح غير كاف، مع أن الله أكمل صلحه وسلامه مع كل نفس آمنت بالمسيح . « فالقلب يؤمن به للـبـر» والبر يصنع سلاماً في الحال : « فإذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله » . هل نؤمن ؟ هل نقبل سلام الله الذي يطرحه أمامنا هكذا في ملء بر المسيح ودمه ؟ « ورب السلام نفسه يعطيكم السلام دائماً من كل وجه . » (2تس3: 16)

2:5 «الذي به أيضاً قد صار لنا الدخول بالإيمان إلى هذه النعمة التي نحن فيها مقيمون ونفتخر على رجاء مجد الله » .

تكملة لحالة السلام التي دخلنا إليها إذ قد تبررنا بالإيمان بالمسيح ، أي نلنا بر الله بذبيحة المسيح الكفارية، يزيد ق. بولس ويوضح أن حالة السلام هذه هي النعمة التي دعينا إليها لنبقى ونـدوم فيها، ولكن يشدد ق. بولس أنه ليس بذواتنا ندخل إلى السلام أو إلى النعمة كحالة ن ة نقيم فيها وكأننا في حضرة الله، بل إن الدخول إليها هو بالمسيح يسوع . فقد قال المسيح ، وهو يعلم تلاميذه قبل الانطلاق والدخول إلى الأقداس العليا وتكميل الفداء لنا، إنه هو الباب والطريق و بدونه لا يـسـتـطـيـع أحد الدخول إلى الآب . والآن يتضح من بولس الرسول أن المسيح ليس هو الباب والطريق وحسب بل هو أيضاً الذي يدخل بنا إلى الله وإلى سلامه ونعمته ، بقوله : « قد صار لنا ” به “ الدخول إلى هذه النعمة» وهذا يشدده قوله لأهل أفسس : «لأن به لنا كلينا ( يـهـود وأمـم ) قـدوماً = دخولاً في روح واحد إلى الآب» (أف2: 18)، كذلك : « الذي به لنا جراءة وقدوم = دخول بايمانه عن ثقة . » (أف12:3)

هذه هي حالة البر الذي نلناه بذبيحة المسيح التي جعلت له هذه الدالة العظمى ليس فقط أن يدخل هو وحسب ، بل ويدخلنا معه إلى الآب كل حين لنجد سلاماً ونعمة وإقامة .

« ونفتخر على رجاء مجد الله » :

يترجم بعض الشراح الثقاة هذه الآية هكذا : « ونفرح في الرجاء بالشركة في مجد الله » .

قد سبق ق. بولس وذم الذين يفتخرون بأعمالهم وبالله وهم يهينون اسمه بتعدياتهم ، فكان افـتـخـارهم وبالاً عليهم إذ حسب أنهم يتعظمون ويتمجدون على حساب الله ، فضاع إيمانهم شدى وانـتـهـت أعمالهم إلى دينونة : « هوذا أنت تسمى يهودياً وتتكل على الناموس وتفتخر بالله … الذي تفتخر بالناموس أبتعدي الناموس تهين الله ؟» (رو2: 17و23) ولكن الآن: «من افتخر فليفتخر بالرب » (1کو1: 31). لقد لاق بنا أن نفتخر (نفرح ) ونحن مقيمون في سلام الله ونعمته، وخلفنا ذبيحة مقدمة باسمنا للفداء ومغفرة الخطايا، وأمامنا المسيح يدخلنا باستحقاقه إلى الله كل حين . لقد صار افتخارنا (فرحنا ) بالله تمجيداً له. فإن كان ماضينا ممسوحاً بالدم، وحاضرنا سلاماً ونعمة مقيمة، فكيف لا نرجو مستقبلاً فيه نمجد الله بافتخار (بفرح ) وتهليل كما رقص داود أمام تابوت الله ؟ إن هذه الآية بجملتها صدرت من قلب ق. بولس وهو في حالة نشوة حقيقية وفرح أبدي وعلى رأسه إكـلـيـل الابتهاج . انتبه إلى ما يقول : «النعمة التي نحن فيها مقيمون ونفتخر ( ونفرح ) على رجاء مجد الله». هذا الوصف قاله إشعياء من وراء الدهور وهو يصف حالة إنسان حاز الفداء :

« ومـفـديـو الـرب يـرجـعـون، ويأتون إلى صـهـيـون بترنم ، وفرح أبدي على رؤوسهم . ابتهاج وفرح يدركانهم ويهرب الحزن والتنهد . » ( إش10:35)

الذي نال بر الله في المسيح هو في حالة سلام. لا يعود العالم يكون له مصدر قلق أو حزن أو كآبة أو تـنـهـد، بل هو في النعمة يقيم . لا يشغل باله شيء قط إلا تمجيد الله وانتظار المجد العتيد، حتى ولو في الضيق والآلام :

+ « فإني أحسب أن آلام الـزمـان الحاضر لا تقاس بالمـجـد الـعـتـيـد أن يستعلن فينا.»  (رو18:8)
+ « والـذيـن سـبـق فعينهم فهؤلاء دعاهم أيضاً، والذين دعاهم فهؤلاء بررهم أيضاً، والذين بررهم فهؤلاء مجدهم أيضاً.» (رو30:8)

وهـكـذا يـنـتـهـي التبرير إلى التمجيد، فالبر حتمأ يشهد للمجد. فعوض أن «الجميع أخطأوا وأعـوزهـم محـد الله» (رو23:3)؛ صاروا بالإيمان بالمسيح في سلام ونعمة يفرحون ويفتخرون ويترجون مجد الله ! لأن « المسيح فيكم رجاء المجد . » (کو1: 27)

ولا يـفـوتـنـا هـنا أن نؤكد أنه حينما يسكن المسيح في القلب بإيمان صادق فأولى علامات بلوغ الـفـداء فعلاً، هو «الفرح» الناشيء من النصرة. والفرح هو بنسبة بزوغ الفجر للمجد العتيد أن يكون .

3:5و4 « وليس ذلك فقط بل نفتخر أيضاً في الضيقات ، عالمين أن الضيق ينشىء صبراً، والصبر تزكية، والتزكية رجاء».

هنـا اسـتـطـراد للـمـزيـد مـن تـقييم حالة البر والسلام والنعمة، فإن كانت هذه تؤدي بنا إلى الافـتـخـار بـرجاء الشركة في مجد الله العتيد أن يكون لنا، فنحن لسنا واهمين أو عائشين على الخيال كأن افـتـخـار الـرجـاء الذي أصبح فينا من جراء التبرير بالإيمان هو مجرد تصورات ، بل إن هذا الافـتـخـار بـالـرجـاء عينه الذي ننتظر به المجد الآتي، نحن نعيشه هو هو الآن في الحاضر: أي هذا الافتخار بالرجاء، ونحن تحت الضيق كأقسى اختبار يمكن أن يختبر به رجاؤنا وإيماننا وبرنا الذي من الله ، فإننا نفتخر أيضاً في الضيقات ، حيث الافتخار هنا يترجمه روحياً ق. بولس في موضع آخر « بالفرح » : «فرحين في الرجاء . » (رو12:12)

«الضيق ينشىء صبراً» :

ينشىء صبراً ليس عن تمرين ولا عن النظر إلى ما بعد الضيق، ولا بانتظار العوض من الله، ولا بالاحتمال الأخلاقي بضبط النفس أو الشكر الظاهري . ولكن باستعلان أسباب الضيقات الله. ومعناها في الله . فإذا انفتحت بصيرة الإنسان ـ بالصلاة ـ ولو ثلاث مرات ليعرف سبب الـضـيـق، فإنه يستعلنه كعمل داخل في تدبير الله ويعرف أسبابه في الله، وهكذا يرتاح إلى الضيق ويقبله، ويحتمله ويشكر عليه بل ويفتخر به في السر والعلن : « من جهة نفسي لا أفتخر إلا بضـعـفـاتي … ولئلا أرتفع بفرط الإعلانات أعطيت (من الله ) شوكة في الجسد، ملاك الشيطان ، لـيـلـطمني لئلا أرتفع . من جهة هذا تضرعت إلى الرب ثلاث مرات أن يفارقني، فقال لي : تكفيك نعمتي لأن قـوتـي في الضعف تكمل. فبكل سرور أفتخر بالحري في ضعفاتي لكي تحل علي قوة لذلك أسـر بالضعفات والشتائم والضرورات والاضطهادات والضيقات لأجل المسيح ، لأني حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوي . » (2کو12: 5  و7-10)

في هذه الآيات التي يعترف بها ق. بولس لنا من جهة اختباره لمحنة جسدية رافقته عمره وأضـعـفـت جـهـده وأساءت إلى نفسيته وكرازته ، يوضح لنا كيف عرف أسبابها من الرب وكيف تعلم من الرب أيضاً كيف يقبلها ويصبر عليها ويشكر، فإن كانت هي هكذا أعطيت له من الله فلزم لا الصبر بل الافتخار.

إن أي ضيق أو ألم أو خسارة تصيب الإنسان المسيحي، ما هي إلا ظل الصليب وقع عليه من قرب ، حيث يتطلب الأمر سرعة الانتباه بالاستعداد الحسن لحمله . رضى لأنها شركة حقيقية في آلام الرب .

« والصبر تزكية » :

فالضيقات للإنسان المسيحي دعوة تمحيص لحساب التزكية يصفها بطرس الرسول جيداً بقوله : «مع أنكم الآن إن كان يجب تحزنون يسيراً بتجارب متنوعة ، لكي تكون تزكية إيمانكم وهي أثمن من الذهب الـفـانـي ـ مع أنه يمتحن بالنار ـ توجد للمدح والكرامة والمجد عند استعلان يسوع المسيح . » (1بط1: 6 و7) 

الإنسان المسيحي لا يستعفي من صليبه ، ولا يشفق على نفسه، ولا يتململ بالضيق كأنه غير مستحق لصليب المسيح. إن كل آلام وضيقات هي مقبولة بل وموضع سرور «لأجل المسيح » : «أسر بـالـضـعـفـات والـشـتـائـم والـضـرورات والاضـطـهـادات والـضـيـقـات لأجل المسيح ..»

(2کو10:12). فإذا استقبلها المسيحي لأجل المسيح تحل عليه قوة المسيح : « فبكل سرور أفتخر بالحري في ضعفاتي لكي تحل علي قوة المسيح . » (2کو9:12)

كل ضيقة وألـم تحمل في داخلها ثمرة شهية يشتهيها كل حكيم اسمها «الصبر»، ليس بالمـفـهـوم الـدنيوي السلبي، بل بالمفهوم الأخروي العالي القيمة . فالصبر عملة سماوية : «وأجاب واحـد مـن الشيوخ قائلاً لي : هؤلاء المتسر بلون بالثياب البيض من هم ومن أين أتوا ؟ فقلت له : يا سـيـد أنت تعلم . فقال لي : هؤلاء هم الذين أتوا من الضيقة العظيمة وقد غسلوا ثيابهم و بيضوا ثيابهم في دم الخروف . مـن أجـل ذلـك هـم أمـام عـرش الله ويخدمونه نهاراً وليلاً …» (رؤ7: 13-15).

واضح من آيـة سـفـر الـرؤيا هنا أن أصحاب الثياب البيضاء هؤلاء تمحصوا بالضيقة العظمى وتزكوا وغـسـلـوا ثيابهم أي تنقت سيرتهم بدموع توبتهم وغسل يدي النعمة حتى ابيضت : «إن كـانـت خـطـايـاكـم كـالـقـرمـز تـبيض كالثلج، إن كانت حمراء كالدودي تصير كالصوف » ( إش1: 18)، حيث الـقـرمز هو الأحمر القاني كثياب الملوك ، أما الدودي فهـو الأحمر الفاقع scarlet . هذا ما عمله الضيق في نفوس هؤلاء القديسين بيضها كالثلج ! فاستحقوا ما استحقوا من التراثي أمام وجه الله وفي خدمته مقيمين الليل والنهار حيث لا ليل ولا نهار.

« والتزكية رجاء»:

لقد بدأ ق. بولس بالرجاء بقوله : «نفتخر على رجاء مجد الله » . وظل يتعقب مسيرة الرجاء حتى مسك بأولها فوجدها في الضيق ، وتتبع الضيق عند المسيحي الحاصل على بر المسيح فوجده أثمر صبراً، وعرض الصبر على المثمنين فثمنوه بالتزكية، والتركية في تفسير الروح هي الرجاء. 

« والرجاء لا يخزي » :

ونطقها «لا يخزي» أي أن الرجـاء الذي لنا في الله والمسيح لا يخزينا ، أي لا يتخلى عنا فنظهر وكأننا ترجينا أوهاماً :

+ « إليك صرخوا فنجوا، عليك اتكلوا فلم يخروا . » (مز22: 5)
+ «يا إلهي عليك توكلت ، فلا تدعني أخزى . » (مز25: 2)
+ «لا أخزى لأني عليك توكلت . » (مز25: 20)

والسؤال : وما الذي يؤكد لي ذلك وكيف أعرف أني لا أخزى ؟

5:5 « والرجاء لا يخزي لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا» .

إن برهان الرجاء الحي قائم في قلوبنا ، ولسنا بحاجة أن نسأل كيف نحصل عليه أو كيف نـطـمـئـن إلى عمله فينا مستقبلاً ، لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا مع الروح القدس و به حينما أعطي لنا. إن شهادة الروح القدس في داخلنا أننا أولاد الله وأننا محبوبون، نعيشها ونحشها ونـخـتـبـرها . محبة الله ليست عطية قائمة بمفردها يعطيها لنا الله من بعيد لبعيد، محبة الله من طبيعته مـثـل بـره، يعطيها من ذاته. فمحبة الله توثق ما بيننا وبين الله لتجعل صلتنا معه بالفكر والقلب والروح على مـسـتـوى الشركة الحية والارتباط في الحياة والحركة والوجود : «لأن الآب نفسه يحبكم لأنكم قد أحببتموني وآمنتم أني من عند الله خرجت » (يو16: 27)، لذلك فرجاؤنا في الله حقيقة قائمة نحسها الآن وننتظرها في استعلانها الأخير، في يقين الصلة التي تربطنا بالله في محبته القائمة في قلوبنا والفعالة بالروح القدس .

محبة الله حينما انسكبت في قلوبنا ، استولت على قلوبنا ، لأن المسيح اشترانا بدمه لحساب أبيه، فنحن بالروح القدس وفعل المحبة الأبوية الذي غزا قلوبنا ، انتقلت ملكيتنا الله بكل ما لنا ، بما فيه رجاؤنا، فصرنا نرجو الله لأن الله صار مالك حياتنا ولا نستطيع ولا نقدر أن نرجو سواه. والروح القدس لما سكبه الله في قلوبنا أفهمنا أنه «عربون» قائم في قلبنا يشهد أننا لسنا ملكاً لأنفسنا بل للذي اشترانا، لنحيا من الآن له على أساس حياتنا هناك، فرجاؤنا الآن حي بالروح القدس كصورة طبق الأصل من ملء تحقيق عمله معنا هناك.

محبة الله يصفها ق. بولس أنها انسكبت ، والذي ينسكب نعرف أنه الروح القدس ، فالمحبة تظهر هنا كقوة مندفقة دخلت كنهر داخل قلوبنا لتملأها، لتملأ كل ركن فيها وتفيض [ قلبي يفيض سلاماً ] «فاض قلبي» (مز1:45). المحبة محمولة على الروح القدس تفيد أنها من طبيعة الله دخلت طبيعتنا لتتعادل مع بغضة العالم وتحيد قوة ضغطته على عقولنا وقلوبنا وضـمـائـرنـا، تمسح الدمعة وترفع من أعيننا الكآبة وتبطل التنهد وتشرق في قلوبنا نور الله . فالمحبة الإلهـيـة خـالـقـة شافية معزية ملاطفة، ليست كمحبة أهل العالم وأهل الجسد، بل محبة لها أجنحة تأخذ النفس وتطير بها في أجواء السلام والراحة العليا لنذوق بها الحياة العديمة الموت مع الله

وعجبي على العلماء الـذيـن تـنازعوا في أمر هذه المحبة، هل هي محبة الله لنا أم محبتنا لله ، انـقـسـمـوا وتـشـايـعوا وتفرقوا. مع أنه يستحيل أن يكون لنا محبة الله إن لم تنسكب محبة الله أولاً في قلوبنا: «لأنه هو أحبنا أولاً» ( 1يو4: 19). وهل محبتنا الله تنسكب في قلوبنا بالروح القدس ؟ نحن مندهشون لانحياز أعاظم اللاهوتيين هكذا إلى الحرف واللغة حتى نسوا اعتبار الروح .

وق. بولس سبق ووضع العنوان الأساسي الذي من تحته يتكلم ويعلم قائلاً: «فإذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله …» فهو بصدد وجودنا في حالة التبرير، ومن أساس عمل التبرير أن يرفع من قلوبنا كل تبرير لذواتنا، فالبر كله بر الله ، والبر انسكب علينا ومعه حب معطيه. هذا هو واقعنا الذي نعيشه وهو نفسه الذي نترجاه هناك في المجد. 

لذلك سوف يـشـرح ق. بولس حالاً أنه إن كان التبرير أو ما يشمله من سلام ونعمة وحب منسكب ، فهذا كله لحساب الخاطيء بصورة قاطعة : «لأن المسيح إذ كنا بعد ضعفاء (خطاة) مات في الوقت المعين لأجل الفجار» (رو5: 6). إذاً، فهو حب الله المنسكب وليس حبنا الله ، لأن حبنا الله إنما يأتي كرد فعل فقط .

6:5 «لأن المسيح إذ كنا بعد ضعفاء مات (المسيح) في الوقت المعين لأجل الفجار» .

هنا تركيب الآية باليونانية يعطينا معنى يتوه منا في الترجمة العربية مؤداه الحرف «لأن» في البداية وحرف «بعد»  الذي جاء قبل «ضعفاء». فالمعنى يجيء : « وبالأكثر ونحن بعد ضعفاء مات المسيح …». وهنا يجيء تركيب الآية لتلتحم بسابقتها هكذا : « وليس فقط محبة الله انسكبت في قلوبنا بالروح القدس بل وبالأكثر ونحن بعد ضعفاء مات المسيح …» . وهكذا حرف «لأن» جاءت ترجمته غير صحيحة في بداية هذه الآية. والأوجب أن تكون « وبالأكثر».

«في الوقت المعيّن » :

تفيد هنا و بحسب موضوع الرسالة ولاهوت ق. بولس : في الوقت الذي أكمل فيه الناموس مهمته وبلغ الجنس اليهودي أوج إدراكه للحق والخطية ثم تغاضى عن الحق وتمسك بالخطية. هنا فإن كل يوم زيادة سيكون استنزافاً للحق وضياعاً لفرصة استعلان بر الله . فلزم وتحتم بحسب تدبير الله أن يظهر بر الله ويستعلن الحق للإنسان في هذا الوقت تماماً .

«لأجل الفجار»:

تعبير واضح صريح بلغ أقصى قوته في مفهوم عمل بر الله الذي أظهر في المسيح ، وقيمة الفداء الـشـمـولي للإنسان، وبلوغ أذن الله إلى مستوى سماع أنين أصغر نفس بشرية طغى عليها الفساد . وهذا التعبير العظيم المتضع الحاني من جهة الله يقابله تعبير المسيح : «لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى . » (مت9: 12)

5: 7 و8 «فإنه بالجهد يموت أحد لأجـل بـار. ربما لأجل الصالح يجسر أحد أيضاً أن يموت . ولكن الله بين محبته لنا لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا » .

هنا ق. بولس ينتقل من ما أسبغه الله علينا من نعم بره : سلاماً وفرحاً ونعيماً مقيماً، إلى صاحب البر نفسه الذي به تبررنا ، إلى شخص يسوع المسيح العجيب . فهو هنا يتأمل كيف وبأية خلفية مات مـن أجـل أناس فجار أئمة، وهو يتعجب من أنه بالنسبة للناس عموماً، فإنه صعب للغاية أن يضحي إنسان بحياته من أجل رجل بار، والبار هنا هو الإنسان التقي المنعزل الذي تنحصر حـيـاتـه في العبادة والتقوى ولا تلتفت إلى ما يحتاجه الناس، فالبار مشغول باسترضاء الله . ويـعـود ويـقـول ق. بولس إنه ربما يوجد إنسان يمكن أن يضحي بحياته في سبيل إنسان صالح ؛ لأن الصالح إنسان محب ودود صاحب أفضال وخدمات، ويهمه فرح الناس والتفريج عن ضيقاتهم ، هو محسن وخير، لهذا قد يوجد من يضحي بنفسه في سبيل إنقاذ حياة هذا البار. ولكن لا نحن كنا صالحين ولا أبراراً حينما مات المسيح من أجلنا بل فجاراً وخطاة. فهذا هو عجب المسيح ، لأنه بهذا أوضح أنه أعلى من قامة البشرية بما لا يقاس .

 ق. بولس يـشـرح هذا لمسيحيين وليس هو يرغب آخرين في الإيمان، فهو يحاول أن يقيم عمل الفداء الذي أكمله المسيح لكي نصير قادرين أن نحس ونفهم محبة المسيح هذه الفائقة على قدرات معرفة العقل .

هل يُعقل أن يموت أحد من أجل أناس أردياء أشرار خطاة فجار؟ إلا إذا كان يملك من الحب ، بل ومن عظم الحب ، ما يتوازن مع التضحية بحياته، ولكن أي . حب هذا ؟ إلا إذا كان حباً قادراً أن يرفع عن كاهل الخطاة خطيتهم وعن الفجار فجرهم ؟ وهل يوجد للحب قدرة مثل هذه إلا إذا كان هو حب المسيح ؟ ولماذا كل هذا ؟ لكي يصالح الخطاة بأبيه ويقدمهم إليه بلا لوم في حبه الذي كلفه دمه !

وهكذا ينكشف المصدر الذي يستمد منه الابن عمله، فالفداء الذي عمله المسيح، هو لحساب استرضاء حب الآب من نحو العالم والإنسان الخاطيء. فالغرض أساساً أن الآب يريد أن يصالح الإنسان الخاطيء لنفسه !!! «في هذا هي المحبة ليس أننا نحن أحببنا الله بل أنه هو أحبنا وأرسل ابنه كفارة لخطايانا . » ( 1يو4: 10)

هذا هو سر إمـكـانـيـة مـوت الـبـار من أجل الخاطىء، حب الآب الذي يتسامى فوق ضعف الإنسان حينما يبلغ الضعف بالإنسان إلى حالة اللاعودة، وحينما يبلغ الإدراك إمكانية قبول عمل المحبة الفائق الإدراك. وهكذا صار حب الآب هو سر الفداء وسر الفداء هو سر الحب الإلهي. وهل الابن ممكن أن يقوم بهذا العمل إلا إذا كان مرسوماً له من الآب. 

5: 9 « فبالأولى كثيراً ونحن متبررون الآن بدمه نخلص به من الغضب » .

وق. بولس لا يقنع بسرد ما حققه بر الله لنا بالفداء بيسوع المسيح في حاضرنا سواء في النعمة الـتـي نـحـن فيها مقيمون ، أو في سلام الله الفائق ، أو في الفرج بالرجاء المعد، بل يريدنا أن نفرح ونـتـهـلل بخلاصنا العتيد يكمله لنا المسيح في يوم الدينونة العظيم ، يوم قضاء الغضب على أبناء الغضب، إذ سـنـوجـد في ذلـك الـيـوم مـخـتـومين بالدم. هنا ق. بولس يريدنا أن نثق أنه كما بدأ الخلاص بهذه القوة الفائقة من محبة الله التي استعلنت في عملية الفداء غير المعقولة والفائقة على كل تصور، هكذا سينتهي بما هو جدير بهذه المحبة وما يكمل الفداء على المستوى السماوي ، لأن الذي حفظ الألفا فيتا (أ-ب)، فهو حتما واصل إلى الأوميجا وهي الياء. فالألف وهو المسيح سلامنا إن تعلمناه جيداً وعرفناه في القلب ، حينئذ سيستعلن لنا بالنهاية كالأوميجا، كملء السلام والنعمة والفرح والافتخار في المجد. فالخلاص أو عمل التبرير الذي نستمتع به الآن في سلام ونعمة مقيمة سوف يتألق بتهاليل المجد حينما توجد في الدينونة معفيي الديون، وفي الغضب ينادي اسمنـا لـنـقـف عـن الـيـمين، يمين القاضي ، لا كمجرمين بعد بل كمن سيدينون العالم وملائكة (1كو6: 3). « وتـنـتـظـروا ابنه من السماء الذي أقامه من الأموات يسوع الذي ينقذنا من يوم الغضب الآتي.» (1تس1: 10)

هكذا يوضح لنا ق. بولس معنى التبرير على مستواه العملي سواء الآن أو مستقبلاً، فإن كنا قد بدأنـا الـتـبـريـر بالسلام مع الله فحتماً سينتهي بالخلاص يوم الدينونة . هكذا يغطي تبرير الله حياة الإنسان وزمـانـه ومـا بـعد مماته . فالذي أحيا المسيح من الأموات سيحيينا من بعد الموت لنجده في السماء يمـسـك بـيـدنا لينقلنا من الشمال إلى اليمين، من المشكو في حقهم إلى براءة ثم تبرير، إذ سيكون الذي بذل حياته ، ودمه عليه ـ عن خطايانا ـ هو قاضينا والمحامي عنا :

«من سيشتكي على مختاري الله ؟ الله هو الذي يبرر، من هو الذي يدين ؟ المسيح هو الذي مات بل بالحري قام أيضاً الذي هو أيضاً عن يمين الله الذي أيضاً يشفع فينا . » (رو8: 33 و34)

«متبررون الآن بدمه » :

ق. بولس اعتنى فيما سبق أن يجعل الإيمان أساس نوال بر الله ، حيث البر هو بر الله والإيمان إيمان بالله الذي أقام يسوع المسيح من الأموات . والآن يعتني أن يوضح لنا التبرير إياه ولكن في الـواسـطـة الـتـي بهـا أظهر بر الله. فبر الله الذي كان متعطلاً عن العمل في محيط الإنسان بسبب الخطية، استطاعت ذبيحة المسيح الكفارية المعبر عنها بالدم أن ترفع عائق عمل التبرير، لذلك بدأ الأصحاح : «فإذ قـد تـبـرنـا بـالإيمان»، وبقية مفهوم كيف تبررنا واضح أنه بعمل الفداء بذبيحة الكفارة، بسكب دم المسيح الذي هو بروح أزلي قادر أن يطهر ويغسل ويقدس ويبرر! وهنا في هذه الآية يقولها واضحة مختصرة : «متبررون الآن بدمه » ، حيث هذا الاصطلاح المختصر جداً يحوي تاريخ التبرير كله .

كما لا يفوتنا هنا أن «بر الله» الذي انفتح علينا «بدم المسيح »، استعلن عاملاً أولاً في المسيح نفسه إذ أطاع كل مستلزمات تبرير الله للإنسان من طاعة واتضاع واحتمال بصبر حتى الموت ، فهنا واضح بر المسيح نفسه . فبر الله منح لنا بدم المسيح الذي هو المعيار الأعظم لاستحقاق حـلـول بـر الله في الإنسان يسوع المسيح الذي منه أخذ طريقه إلينا بسهولة . قدم المسيح يحمل بر الله وبر المسيح بآن واحـد ولحـسـابـنـا بالدرجة الأولى. قدم المسيح هو الحامل لبر الله والفاعل به في طبيعتنا، والذي أول مفاعيله الغسل والتطهير والتقديس للتبرير، ثم تقديمنا إلى الله للدخول في حضرته :

+ «فإذ لنا أيها الإخـوة ثقة بالدخول إلى الأقداس بدم يسوع … لنتقدم بقلب صادق في يقين الإيمان مرشوشة قلوبنا (بدم المسيح ) من ضمير شرير ومغتسلة أجسادنا ( روحياً) بماء نقي ( المعمودية). » ( عب10: 19و22)

فالآن يصبح دم المسيح هو المبرر الشرعي الوحيد، وهو بذاته سبب «بر الله » وأساسه قانونياً، ونحن نقول قانونياً على أساس أحكام الدينونة العتيدة أن تكون في يوم الغضب فيما يخص هذا الدم :

+ «من خـالـف نـامـوس موسى فعلى شاهدين أو ثلاثة شهود يموت بدون رأفة ، فكم عقاباً أشر تـظـنـون أنـه يحسب مستحقاً من داس ابن الله وحسيب دم العهد الذي قدس به دنسأ . » ( عب10: 28و29)

أي أن الدم الذي يبرر الآن هو بذاته الذي سيدين .

«نخلص به من الغضب » : ( فعل مستقبل )

يلاحظ في لاهوت ق. بولس أن الخلاص يأتي عنده في الماضي وفي المضارع وفي المستقبل :

+ في الماضي
«لأننا بالرجاء خلصنا … » ( رو24:8)

+ في المضارع الدائم :

« ونحن أموات بالخطايا أحيانا مع المسيح . بالنعمة أنتم مخلصون . » (أف2: 5)
«لأنكم بالنعمة مخلصون بالإيمان وذلك ليس منكم هو عطية الله . » (أف2: 8)

+ في المستقبل :
«نخلص (في المستقبل) به من … نخلص (في المستقبل) بحياته . » (رو5: 9 و10)
«لأن كل من يدعو باسم الرب يخلص (في المستقبل). » (رو13:10)
« إن احترق عمل أحد فسيخسر وأما هو فسيخلص ولكن كما بنار. » (1كو3: 15)

فالخلاص حالة «حياة»، حياة ذات مواصفات أخلاقية خاصة تبدأ يوم يبدأ فعل الإيمان في الحياة وتستمر وتمتد ولا نعرف لها نهاية، لأن المفديين والمخلصين في السماء يزدادون في كل شيء، فلكل وقت وزمان «خلاص» . فمنذ أن ولد المسيح ولد الخلاص وهو مستمر ودائم في السماء : « وسمعت صوتاً عظيماً قائلاً في السماء الآن صار خلاص إلهنا وقدرته وملكه وسلطان مسيحه لأنه قد طرح المشتكي على إخوتنا الذي كان يشتكي عليهم أمام إلهنا نهاراً وليلاً . » ( رؤ12: 10)

إن الخلاص الذي صنعه الله مع الإنسان فعل حركي فعال بدأ يوم الصليب ولن ينتهي أبدأ .

10:5 «لأنه إن كنا ونحـن أعـداء قد صولحنا مع الله بموت ابنه، فبالأولى كثيراً ونحن مصالحون نخلص بحياته » .

« صولحنا مع الله » : 

مهم جداً أن نعرف بل وأن نثق أن الله لا يعادي أحداً، كما أن الله لا يغضب على أحد، فالله محبة، ولكن الإنسان هو الذي يقع من الله موقع العداوة ويضع نفسه موضع الغضب ( أنظر شرح الآية 18:1 صفحة 160-162 عن الغضب). لذلك حينما يأتي موضوع المصالحة، فالله لا يتصالح معنا بل نحن نتصالح مع الله ، نحن الذين ننهي حياة العداوة الله. لذلك تحتم وجود الوسيط المصالح بين الناس والله، وقد جاء المسيح وصنع الصلح من جهتنا مع الله بأن أرضى وجه الله بطاعته وبذله لنفسه حتى الموت ليفك عداوتنا التي صنعتها خطايانا وتعدياتنا على وصايا الله (إش2:59):

« ولكن الكل من الله الذي صالحنا لنفسه بيسوع المسيح . » (2کو5: 18)

«أي إن الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه، غير حاسب لهم خطاياهم، وواضعاً فينا كلمة المصالحة . » (2کو5: 19)

« وأنـتـم الـذيـن كـنـتـم قـبلاً أجنبيين وأعداء في الفكر، في الأعمال الشريرة، قد صالحكم الآن . » ( کو1: 21) 

ولو أن الله هنا هو صاحب المبادرة للمصالحة، ولكنه أرسل ابنه في جسد إنسان ليتكلم باسم الإنسان ولـيـسـتـرضي وجه الله ببره وهو حامل جسد الإنسان، بل ويقدم ذبيحته الكفارية بجسده الذي هو جسدنا و باسمنا وكأنه رئيس كهنتنا .

على أن عداوتنا لله لم تكن عداوة شكلية أو أدبية بل عداوة فكر وعمل : « وأنتم الذين كنتم قبلاً أجنبيين وأعداء في الفكر في الأعمال الشريرة قد صالحكم الآن في جسم بشريته بالموت لـيـحـضركم قديسين و بلا لوم ولا شكوى أمامه» (كو1: 21, 22). فالعداوة هنا قائمة على ثلاث ركائز:

الركيزة الأولى: أننا كنا أجـنـبـيين عن الله لسنا من شعبه ولا من خاصته، وهو بالتالي متغرب عنا بقدر تغربنا عنه .

الركيزة الثانية : الفكر، أي كل تصورات قلب الإنسان، كانت شريرة (تك6: 5) وتمثل الجزء الفطري من العداوة .

الركيزة الثالثة: الأعمال الشريرة. هنا العداوة أصبحت تحدياً مباشراً لشخص الله ووصاياه بأعمال تسيء إلى الله والناس .

وق. بولس هـنـا يـصـورنـا ونـحـن في حالة العداوة هذه، حيث تقدم الله بمبادرته بإرسال ابنه وإظهـار بـره بموته من أجلنا ليرفع منا سبب ، الغربة والعداوة بالفكر والعمل ويقر بنا إليه ويصالحنا بأبيه .

«فبالأولى كثيراً ونحن مصالحون نخلص بحياته » :

الـتـركـيـز هـنا يجيء على عمل حياة المسيح. وهذا الأمر يمثل كشفاً خطيراً لجزء هام من عمل الخلاص يغيب عن كثيرين وهو «حياة المسيح » الآن!!

فالقديس بولس في تسلسله السابق للآيات قدم :

1 – المسيح مات لأجل الفجار.
2– ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا .
3 ـ ونحن متبررون الآن بدمه نخلص به من
4 ـ ونحن أعداء صولحنا مع الله بموت ابنه .

 

يلاحظ هنا أن هذه العناصر الخاصة بعمل بر الله في المسيح تركزت في موته وفي دمه . والسؤال الآن : وأين حياته أو ما هو عمل حياته ؟ وهل انتهى إظهار بر الله في المسيح بموته وسفك دمه فقط ؟

هنا يستعلن لنا ق. بولس الجزء المنسي من عمل بر الله وعمل القادي بعد أن أكمل فداءه وهو عـمـل حـيـاتـه الآن !! فالقديس بولس لكي ينبه ذهننا إلى علو شأن حياة المسيح من جهة تكميل عمل بر الله فينا أو عمل الخلاص عموماً يقول : إن كان موت ابنه صنع · صلحاً مع الله (أبيه) فماذا تـكـون حـيـاتـه ؟ حيث التركيز هنا ولأول مرة على اقتران الموت بالابن لكي يُظهر أن علاقة الابن بالآب هي قوة موته.

ق. بولس يرد : « فبالأولى كثيراً ونحن مصالحون نخلص بحياته » . هنا بالتالي يكون التركيز على حياة الابن أمام أبيه كقوة خلاص .

فـقـول ق. بولس: «نخلص بحياته »، يحمل في خلفيته القيامة من الأموات ، ولكن يتجه مباشرة إلى حياة الابن الآن مع أبيه وفي المجد. الأمر هنا يدخل في البلاغة المنطقية أننا بموت المسيح نخلص فنصير في صلح مع الله ! فكم بالحري ـ بحياة المسيح الآن ـ ونحن مخلصون ومصالحون ؟ إلا مزيداً من الخلاص ومزيداً من الصلح والقربي بديمومة أبدية ؟ والآن عودة أخرى للمقارنة، فإن كنا ونحن أعداء وأموات بالذنوب والخطايا أظهر الله محبته لنا وأحيانا مع المسيح وصالحنا به، فماذا الآن من جهة محبة الله وفعلها من أجلنا والابن المحبوب حي يتراءى أمام وجه أبيه الآن في مجده ونحن أيضاً مصالحون ؟

ق. بولس يقول إننا نخلص بحياته، وهذا يشمل حتما الامتداد بالخلاص الذي تم لنا بموته ، أي أنه بحياته يمتد خلاصنا إلى تمام التمام :

+ « وأما هذا ( المسيح) فمن أجل أنه يبقى إلى الأبد له كهنوت (شفاعة) لا يزول فمن ثم يقدر أن يخلص أيضاً إلى التمام الذين يتقدمون به إلى الله إذ هو حي في كل حين ليشفع فيهم . » (عب7: 24 و25)

ولا ينسى القارىء هنا أن خبرة ق. بولس الحية وإيمانه الحار المتدفق بالمسيح بدأت بالمسيح الحي من السماء الرب المحيي. رآه في أعظم قوته ومجده وانتصاره في السماء، حيث تدفقت في ق. بولس تـيـارات جارفة من حياة المسيح المقام والممجد وفي الوجه الأكثر لمعاناً ، الشمس. القديس بولس عرف الخلاص في حياة الرب المقام، وامتلأ بنعمة حياته حتى صرح : « لي الحياة هي المسيح » (في1: 21)، «المسيح يحيا في.» (غل2: 20)

وبكل صـراحـة واتـضـاع نـقول إنها خبرة إيمان تعوزنا ، ونحن في أشد الحاجة إلى التعرف على المسيح الحي أو حياة المسيح التي لها قوة تكميل الخلاص حتى التمام ، لأن حياة المسيح أصبحت هي قوة الحياة في الخلاص لنا :

+ «فنحن أيضاً ضعفاء فيه لكننا سنحيا معه بقوة الله من جهتكم . » (2کو13: 4)
+ « فوضع يده اليمنى علي قائلاً لي : لا تخف أنا هو الأول والآخر، والحي وكنت ميتاً، وها أنا حي إلى أبد الآبدين آمين، ولي مفاتيح الهاوية والموت.» ( رؤ1: 17و18)

وفي عرف الـقـديـس بـولـس أن مـوت المسيح إن كان هو الذي أنشأ فينا قوة موته للخلاص ، فشركتنا في آلامه وموته تنشىء فينا قوة حياته : + «لأننا نحن الأحياء تُسلم دائماً للموت من أجل يسوع ، لكي تظهر حياة يسوع أيضاً في جسدنا المائت . » ( 2کو4: 11)

11:5 « وليس ذلك فقط بل نفتخر أيضاً بالله بربنا يسوع المسيح الذي نلنا به الآن المصالحة» .

« وليس ذلك فقط » :

تعود على كل ما سبق، أي محبة الله التي ترجمت إلى فداء وخلاص وصلح وحياة في المسيح ، هذا كله يضاف إليه أننا صرنا في موضع الافتخار بمحبة الله التي صارت لنا في المسيح يسوع إن بموته أو بحياته ، هذا الذي نلنا بواسطته الصلح الدائم مع الله .

«الآن»:

 تفيد حالتنا الحاضرة التي بلغنا فيها ملء المصالحة مع الله . وهي تتصل مباشرة بالآية : «الذي به أيضاً قـد صـار لـنـا الدخول بالإيمان إلى هذه النعمة “التي نحن فيها مقيمون، ونفتخر على رجاء مجد الله » (روه : ٢)، «لأنه يقول في وقت مقبول سمعتك ، وفي يوم خلاص أعنتك . هوذا الآن وقت مقبول، هوذا الآن يوم خلاص .» (2کو6: 2)

وهكذا و برؤية شاملة نرى معنى التبرير الذي أظهره الله لنا في شخص ابنه يسوع المسيح ميتاً وقائماً من الموت :

+ « وأما الآن فقد ظهر بر الله بدون الناموس مشهوداً له من الناموس والأنبياء، بر الله بالإيمان بيسوع المسيح إلى كل وعلى كل الذين يؤمنون لأنه لا فرق . » (رو3: 21و22)
+ « فإذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله.» (رو5: 1)
+ «صار لـنـا الـدخـول بـالإيمان ـ بـبـر الله ـ إلى هذه النعمة التي نحن فيها مقيمون..» (رو5: 2)
+ نفتخر في الضيق إذ أصبح الضيق ونحن في نعمة الله هذه ينشىء فينا رجاء لا يخزى .
+ « محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا . » (رو5: 5)
+ « أظهرت محبة الله لأننا ونحن أموات بعد بالخطايا مات المسيح لأجلنا . » ( أنظر رو5: 8)
+ وإذ قد تم لنا التبرير بدم المسيح نثق أننا قد خلصنا من الغضب يوم الغضب
+ ونـحـن مصالحون الآن مع الله يتحتم أن يكمل خلاصنا بحياة المسيح الحي القائم يشفع فينا أمام الآب. 
+ نفتخر بالله وبالمسيح الذي نلنا به المصالحة .

[ 5: 12- 21 ] من العبودية تحت خطية آدم إلى الحرية ببر المسيح

+ «كأنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم وبالخطية الموت … حتى كما ملكت الخطية في الموت هكذا تملك النعمة بالبر للحياة الأبدية بيسوع المسيح ربنا . » (رو5 : 12 و21)

دخلت الخطية إلى العالم وبالخطية الموت ، وعلى نفس الدرب والطريق دخل المسيح إلى العالم فأنشأ النعمة والحياة عوض الخطية والموت . و يلد جداً للقديس بولس أن يرى أنه كما بإنسان واحد ـ آدم ــ دخلت الخطية ودخل الموت إلى العالم، كذلك بإنسان واحد يسوع المسيح الذي دخل العالم رفع الموت فرفعت الخطية .

كان العالم كنسل لآدم يسير منحدراً في طريق الهاوية لنهاية مرعبة مثقلاً بخطايا تزداد شناعة بمرور الزمن، فكان الزمن ضد الإنسان وهو يسرع به نحو الهلاك . وإذ بالمسيح يولد على هذا الطريق المنـحـدر وفي لحظة من زمان الإنسان عينه وتحت ثقل الخطايا عينها ، ولكن كونه ابن الله الحامل للحياة الأبدية والمحمل بأثقال مجد الله وبره الفائق المنزه عن كل خطية، نزل تحت ثقل كل خطايا العالم و بقوته الفائقة حملها على كتفيه ، وجر الإنسان وراءه صاعداً في ذات طريق الرعب والهاوية التي انحدر إليها الإنسان هذه الآلاف من السنين، ليعبرها كلها ويلقيها وراء ظهره ويتعادل مع الـزمـن ثـم يلغيه ليكتب للإنسان زمنه الجديد ، زمن الصعود والعودة إلى الله ، زمن الحب عوض اللعنة، زمن الخلاص والتهليل عوض العبودية والنحيب ، زمن الحياة الأبدية عوض الموت .

صحيح أنها خطية واحد ـ آدم الإنسان الأول ـ ولكن الخطية ارتبطت بالطبيعة، وسلّم آدم لذريته الطبيعة التي زلت وأخطأت وفقدت نعمة وجودها في حضرة الله وفارقتها النعمة الحافظة والمدبرة، فصارت مستهدفة للموت ولمن له سلطان الموت . آدم لم يسلم خطايا بأي نوع كانت ، ، ولـكـن سـلم طبيعة مستهدفة للخطية لأنها فاقدة النعمة وفاقدة الحفظ والتدبير الإلهيين ، قابلة لكل خطية وقابلة للحوت لأنها فاقدة للحفظ والنعمة معاً. وكان الموت الجسدي هو الصورة المنظورة للـمـوت الروحي، فـانـطـراح الجثة على الأرض منتنة هي صورة حزينة جداً وكثيبة للغاية، ولكنها طـبـق الأصـل مـن انـطـراح الـنـفـس والـروح مـن حـضرة الله ومن سماء نعمته فاقدة لرائحة نعمته الذكية .

وهذه الأجيال التي توالدت آلافاً ثم ملايين ثم ملايين الملايين، لم تزد في عين الله عن كونها صورة آدم وطبيعة الإنسان التي سقطت من أمام وجهه، فالكثرة الكثيرة لم تكن إلا تفتتاً أصاب الـصـورة الـواحـدة. وهذه الكثرة المتفتتة هي مجموعة، في رؤية الله ، إلى صورة واحدة لم تزد عن كونها تشوهت ، ولكنها لا تزال حاملة لطبيعتها الواحدة لشخص آدم، ولكن تحت تعدد أسماء وأشكال وألوان. الـكـل يحمل الخطيئة والموت ، ولكن لكل واحد خطاياه ذات الأشكال والألوان المتعددة والخطية واحدة والموت واحد !

خطية آدم أنه مد يده إلى ما لا يحل له تحت إغواء ومكر الشيطان وتزييف الحقائق والاستهانة بتحذيرات الله، وخطية كل ابن لآدم ولد له على الأرض هي هي بعينها : يمد يده إلى ما لا يحل له تحت غـوايـة الحـيـة الـقـديمة والجديدة ، فتسري فيه اللعنة والموت كما سرت اللعنة والموت في أبيه الأول. فالطبيعة هي بعينها الطبيعة الساقطة ، ومع اللعنة والموت الفساد والفناء، أجيال وراء أجـيـال. فالإنسان مهما تكاثر وتعددت فروعه فهو أصل واحد، وعلى الأصل وقع التشويه فحملت الفروع صورة الأصل، هذا هو قانون الطبيعة ؛ لا لأن الخطية صارت جزءاً من طبيعة الإنسان، فهذا محال، ومحال لأن طبيعة الإنسان خلقت أصلاً على صورة الله ، وصورة الله منزهة عن أن يكون في أصلها الخطية والفساد. فالله خلق الإنسان أصلاً على الخلود ، ولكن الطبيعة البشرية تقبلت الخطية كعنصر فساد دخل خلسة في تكوينها فأورثها الموت والفساد، والموت والفساد ليسا هما على مستوى الجينات أي مكونات الخليقة في التوريث ، ولكنهما عنصران يتحكمان في الطبيعة البشرية ككل، وهذه هي اللعنة تماماً. هذا كان بمقتضى حكم دخل تحته الإنسان بحرية إرادته و بالرغم من تحذير الله . وبـصـدور الحكم بالموت والفساد، انقطع ما كان للإنسان من صلات وثيقة بالله من طرف واحـد وهـو الإنسان. وكان هو الغضب منتهى الغضب الذي دخل الإنسان تحته وكان هو العقوبة والتأديب معاً.

وهـكـذا دخلت الخطية إلى العالم تحمل في بطنها الموت ، وكل من ولد منها كان مآله إلى القبر.

ولا تقل هذا ظلم ، فالله ليس بظالم قط ولكنه حكم التأديب والتهذيب الذي كان يتحتم تدخله الطبيعة البشرية لتتهذب ، لتصلح في حالة تأدبها للقداسة، فترتفع فوق مستواها لتصبح طبيعة الإنسان بالنهاية أقرب إلى طبيعة الله وتتحصن من السقوط والموت إلى الأبد .

ولـكـن لـيس أبناء آدم معفيين من اللوم حينما يقعون تحت الموت وهو عقوبة كانت في الأصل على الأصل أي على آدم، لأن الكل أخطأ وأخطأ بإرادته بل وبحرية إرادته. هذا ما يستشعره كل إنسان صادق مع نفسه . فكل إنسان يعرف الخير والشر ويعمل الشر بإرادته، وكأنه مجبر وهو ليس مجبراً قط ، وهذا مما يزيد الإنسان سخطاً على الخطية وعلى الطبيعة التي تشتهي الخطية، وذلك كله حتى يرفع الإنسان وجهه نحو الله ليطلب الخلاص والحرية ويطلب الرحمة والقرب من الله . وليس هذا نداء غريباً عن طبيعة الإنسان، فطبيعة الإنسان تحن إلى أصلها وترنو إلى المصدر الذي انحدرت منه وتتوق إلى الالتصاق به.

والله لما وضع الـنـامـوس لموسى، قصد قصداً أن يكشف كل هذه الانفعالات داخل الطبيعة البشرية، ليدرك الإنسان أنه يعرف الخير والشر وأنه يفعل الشر بإرادته بل ولا يستطيع إلا أن يفعل الشر مهما أراد الخير ومـهـمـا تـاقت نفسه إلى الصلاح، ليدرك الإنسان الخطية وماهية الخطية وما جلبته الخطية عليه وعلى آبائه من قبله، لكي يطلب الخلاص من الله مجاناً ورحمة من عند الله وقُرباً.

لقد طرح الله الناموس ليستنفذ كل طاقة الإنسان في المحاولات لبلوغ رضى الله ، ليرى نفسه في النهاية أنه بهذا الناموس عينه ازداد توغلا في الخطية، وفي الطريق حاول أن يسترضي نفسه لا الله ، بل واستطاع أن يخطف كرامة الله بادعائه البر وهو سارق لبر الله ، وانتهى إلى نفس خطية أبيه آدم إذ وجد أنه يريد التأله اختطافاً وبمعونة الخطية والشيطان تحت غطاء أعمال الناموس والبر والتقوى .

وهكذا تساوى الخطاة الغارقون في خطيتهم والمتسفلون بفجورهم مع الأتقياء الأدعياء الأوصياء على الـنـامـوس والـقـائـمين الـقـوامين على تعليم بر الله سواء بسواء، ليثبت الله للإنسان أن الطبيعة الـبـشـريـة تتساوى في جميع أبناء آدم من جهة معرفة الخير والشر والنزوع إلى الشر والتوغل فيه مهما أعـطـيـت الأدوات لمحاولة ردع الإنسان عن الانجذاب للخطية والتعبد لها ؛ ليصرخ الإنسان صرخته الأخـيـرة بـفـم ق. بولس : « ويحي أنا الإنسان الشقي من ينقذني من جسد هذا الموت . » !!(رو7: 24).

و بالنهاية وبعد أن تهذب هكذا الإنسان بالناموس، وتأدب وعرف من هو وما هي الخطية، لا يستطيع أحد بعد سواء بالناموس أو خارج الناموس أن يقول إني أعاقب على خطية غيري أي آدم، بـل قـانـون الله يبقى عالياً شامخاً أن مـن أخـطـأ يموت : «النفس التي تخطىء هي تموت » (حز18: 4)، «لأن أجرة الخطية هي موت» (رو6: 23). صحيح أن الناموس عرف الموت بـرجـم الجـسـد ولكن وراء رمز الناموس يقف القانون الأخطر وهو الموت الروحي بالتغرب عن الله : «إني لا أبـرر المذنب» (خر7:23)، «من أخطأ إلي أمحوه من كتابي» (خر33:32). وقد  وجد أن: «الجميع زاغوا وفسدوا معاً» (رو12:3)، و «ليس من يعمل صلاحاً ليس ولا واحد » (رو12:3)، و «أغلق على الجميع معاً في العصيان . » (رو11: 32)

نـحـن لـم نرث الخطية من آدم، بل ورثنا طبيعة لها خبرة الخطية وجانحة نحو الخطية ، عليها حكم الموت لأنها فقدت نعمة الوجود مع الله ففقدت رعاية الله وحفظه وعنايته وتدبيره، فالتهمها الموت وورثها الفساد !!

و بولس الرسول لا يمر على هذه الحقائق إلا وصولاً للمسيح ، فهو لم يستغرق في شرحها بل أسرع ليبلغ بها إلى المسيح .

وبينما تقف البشرية وقفة واحدة محكومة بالموت تحت سلطان الخطية ، حائرة بلا أي بصيص مـن رجـاء حتى بعد الناموس ، يظهر بر الله فجأة من السماء وعلى الأرض بآن واحد؛ إذ بالطبيعة البشرية تظهر في واحد آخر غير آدم تماماً، مع أنه من نسله، يحمل طبيعته تماماً مع أنه يحمل طبيعة الله فيها وملئها ، بلا خطية أصلاً وفرعاً. وبعكس ما أتاه آدم مع الله قديما قدم المسيح له الطاعة في منتهاها والخضوع لكل وصاياه، ومع أنه أعلى شأناً من آدم بسبب لاهوته الذي يملأ جسده البشري إلا أنه أخـذ عـمـل العبد وأطاع الله حتى الموت موت الصليب . وبذلك فإنه بقدر ما أخطأ آدم في حق الله ، قدم المسيح المجد كل المجد : « أنا مجدتك على الأرض » (يو17: 4)، وكل ما دمره آدم في خلقته وعلاقته بالله استعاده المسيح وصححه وصالحه.

ولـكـن الله لـم يـرسـل المسيح ليصلح ما أفسده آدم بل ليحمل طبيعة الإنسان، ليرتقي بها إلى فوق الإنسان فغرس فيها النعمة عوض الخطية، ووهبها روح الحياة الأبدية والقداسة لتقوى على سلطان الموت وتدوسه. وهكذا صار الربح الذي نالته طبيعة الإنسان بالمسيح أعظم بما لا يقاس من الخسارة التي خسرتها في آدم .

وتاريخ الإنسان الذي كان ينحدر بسرعة نحو الفناء، انقلب صعوداً ليؤرخ للخلاص والحياة الأبدية : « فإن سيرتنا نحن هي في السموات . » (في20:3)

5: 12 «من أجل ذلك كأنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم وبالخطية الموت ، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع » .

هذه الآيـة مـتـرتـبـة على ما فات. فالقديس بولس يريد أن يقول : على وزن المحمول والمحمول عليه :

كما أن بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم وبالخطية الموت ، إلخ … كذلك بإنسان واحد دخل البر وبالبر الحياة ! إلخ ..
 
وقد قالها نصاً بعد ذلك في الرسالة الأولى إلى كورنثوس هكذا :
+ «فإنه إذ الموت بإنسان ؛ بإنسان أيضاً قيامة الأموات .» (1کو15: 21)
+ «لأنه كما في آدم يموت الجميع ؛ هكذا في المسيح سيحيا الجميع . » (1کو15: 22)
 
ولـكـن ق. بولس انشغل بالمحمول عليه (آدم) وترك المحمول (المسيح) إلى النهاية بسبب الاستطراد في وصف أعمال آدم .
 
ولـكـن هنا أيضاً وفي هذا الأصحاح، إذ بعد أن استطرد فيما حدث لآدم، عاد في الآية (18) ليوضح الأساس الذي أراد أن يبني عليه المقارنة :
+ «فإذا كما بخطية واحدة صار الحكم إلى جميع الناس للدينونة ؛ هكذا ببر واحد صارت الهبة إلى جميع الناس لتبرير الحياة . » (رو5: 18) 
 
وق. بولس يـريـدنا أن ندرك كيف أتانا بر الله ، ففي النصف الأول لهذا الأصحاح أوضح ما هي حياة التبرير عمليا وهنا في النصف الآخر يوضح تاريخ دخول الخطية إلى العالم أو في الحقيقة إلى الطبيعة البشرية، وكيف وبأية قوة اقتلعها المسيح من طبيعة الإنسان مع تقديم مقارنة بين دخول الخطية والموت ودخول النعمة والحياة .
 
«إذ أخطأ الجميع » : [2]
هنا الأمر الهام والخطير في الآية الذي انقسم فيه الشراح إلى من يقول أن الناس تعدوا في حياتهم الخاصة الفردية، وإلى من يقول أن الكل تعدوا لما أخطأ آدم أو في خطية آدم .
 
والحقيقة أن القول الأول ناقص والقول الثاني ناقص أيضاً، والفكر الصحيح هو كما قاله ق. بولس: «إذ أخطأ الجميع»، أي فعلوا بأنفسهم الخطية . فالخطية دخلت العالم ليس كعنصر طبيعي موروث في الطبيعة بل كعنصر «طباع » يمكن التحكم فيه إلى حد ما . كذلك الموت دخل العالم وساد بسيادة الخطية ولكن سيادة الموت ليست حتمية (جسدياً أو روحياً)، بدليل من أخذوا إلى السماء بدون أن يجوزوا الموت (الجسدي) كأخنوخ وإيليا ، وبدليل من بزرهم الله كإبراهيم وإسحق ويعقوب فلم يعتبروا أمواتاً روحياً، لأن المسيح يقول إن الله ليس إله أموات بل إله أحياء في قوله عن إله إبراهيم وإسحق ويعقوب . فالجميع أخطأوا لأنهم لم يستطيعوا أن لا يخطئوا وليس لأنهم حتما كانوا لابد أن يخطئوا، وإلا كيف يدانون عن خطايا وضع عليهم حتمية صنعها ؟ هنا عدل الله لا يجد له مقراً، ويلام قضاء الله وحاشا . لأنه يستحيل أن يدين الله إنساناً أخطأ بدون إرادته. فالكل أخطأ بإرادته ، ولهذا يحق لله أن يدين .
 
 

كذلك، كما سبق وقلنا، فإن الخطية ليست عنصراً موروثاً في الطبيعة البشرية التي سلمها آدم لأولاده، ولـكـنـه سـلم طبيعة انفتحت على الشيطان وأصبحت مستهدفة لكل حيله ومؤثراته بالفكر أولاً ثم الحواس جميعاً. فهنا احتمال الخطية وارد ولكن ليس حتمياً .

كذلك آدم لم يسلم الخطية لأولاده كفعل من الأفعال يمارسونه هو بعينه عن حتمية واضطرار ولـكـنـه سـلـم طـبـيـعـة عـارفـة بالخير والشر، ومعرفتها للشر هي التي تجرها لعمله وليس لديها القوة لمقاومته ، لأن قوة مقاومة الخطية هي قوة نعمة الله التي فقدها آدم حينما طرد من أمام وجه الله . فآدم ورث طبيعة فاقدة للنعمة مستهدفة لإغراء الخطية. كذلك استعبد أولاده للخطية والشر، ولا عذر للإنسان، لأنه بإرادته ومعرفته يخطىء، ولا لوم على الله ، لأن النعمة ليست حقاً من حقوق طبيعة الإنسان. والإنسان ـ آدم ـ فقدها بإرادته !!! من هنا فالأطفال لهم طبيعة ليست شريرة ولكنها فاقدة للنعمة، لذلك فهي طبيعة قابلة للموت .

وفرق بين حالتين: حالة إنسان يخطىء أي يتعدى ـ بالأعمال ـ ويموت فيحسب له الموت الجسدي عقوبة، لأن الموت الجسدي هو عقوبة جسدية لأعمال الخطية، أي التعدي بالجسد ؛ والموت الجسدي هو الصورة المنظورة للعقوبة الروحية غير المنظورة وهي الموت الروحي، أي الانفصال عن الله، فالذين يعاقبون ظاهرياً بالموت الجسدي ثمناً لخطاياهم التي عملوها يتبعه موت روحي غير منظور وهو العقوبة الحقيقية. 

أما الحالة الأخرى، أي الذين يموتون وليست لهم أعمال خطية ـ تعد ـ كالأطفال ، فالموت الجسدي لا يحسب عقوبة، وبالتالي لا يكون لهم موت روحي: : « أنظروا لا تحتقروا أحد هؤلاء الصغار لأني أقول لكم إن ملائكتهم في السموات كل حين ينظرون وجه أبي الذي في السموات » ( مت18: 10). ونفس الأمر مطبق كما يقول ق. بولس بعد ذلك على الذين ماتوا من آدم إلى موسى (رو25:3)، لأنهـم مـاتـوا دون أن يـكـون عـليهم ناموس ولا معرفة للتعدي فلماذا مـاتـوا ، والجواب ماتوا لأن الطبيعة البشرية أخذت حكماً عاماً بذلك. ولكن الموت يكون عقوبة فقط على التعدي، وهؤلاء لم يخطئوا بالتعدي ، فالموت لهم لم يكن عقوبة بل انتهاء فترة اختبار وحـيـاتـهـم محفوظة لهم في السموات ، لأنه «ليس الله إله أموات بل إله أحياء» (مت22: 32) في قوله عن إله إبراهيم وإسحق ويعقوب . وق. بولس يتكلم عنها كالآتي :

أولاً: المثل وقد جاء في (رو5: 13): «على أن الخطية لا تحسب إن لم يكن ناموس ، لكن قد ملك الموت من آدم إلى موسى وذلك على الذين لم يخطئوا على شبه تعدي آدم الذي هو مثال الآتي . » (رو5: 13 و14)

ثانياً: الحكم بمـقـتـضـاهـم : «الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه لإظهار بره من أجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال الله» (رو٢٥:٣). لشرح هذه الآية في هذا الموضع أنظر صفحة 223و 224 ( الأصحاح الثالث ).

وهنا لا يحسب لهم الله الموت عقوبة بل انتقالاً على أساس أن خطاياهم دخلت تحت الصفح ، لا بمقتضى ناموس بل بمقتضى إمهال الله، إلى حين استعلان بره لهم .

« بإنسان واحد » :

يقصد آدم (آية 14). ويلاحظ أن ق. بولس لا يذكر حواء ، لأن آدم هو الذي استلم الوصية وكـان هـو أصـل ورأس المرأة، وقد كسر الـوصـيـة. فإن كان قد امتنع آنئذ عن أن يأكل ويكسر الوصية ، ما كان نسله قبلوا الخطية .

كما يلاحظ أن ق. بولس لم يذكر الشيطان هنا لأن ق. بولس يتتبع أثر الخطية وتدرجها ولا يبحث في أسبابها .

«الخطية»: 

+ وهنا يلاحظ أن الخطية شيء والتعدي شيء آخر  ، وهنا يوردها ق. بولس معرفة بالألف واللام كعنصر مشخص مرعب امتدت سيادته على العالم. وإليك تعبيرات ق. بولس عن الخطية كشخص له وجود وفعل :
+ «ملكت الخطية في الموت» (رو5: 21) = تملك كملك .
+ «الخطية لن تسودكم (تتسيد عليكم)» (رو6: 14) = تصير سيداً على الإنسان . 
+ «الخطـيـة وهـي مـتـخـذة فرصة بالوصية خدعتني بها وقتلتني » ( رو11:7) = فهي تخدع وتذبح !!
+ «لكي تظهر خطية منشئة لي بالصالح موتاً » ( رو13:7 ) = الخطية تذبح ليس بسكين؛ بل أيضاً بتزييف كلمة الله !!

وهكذا يفتح ق. بولس ذهننا على صورة الخطية كجبار مرعب 

« دخلت الخطية إلى العالم »:

ق. بولس يـقـصـد عالم الإنسان، وق. بولس بحسب فكره الواضح من كتاباته يبين أن الشر كان موجوداً خارج عالم الإنسان قبل أن يخطىء الإنسان :

+ «يا الله الـعـظـيـم الأبدي الذي خلق الإنسان على غير فساد. والموت الذي دخل إلى العالم بحسد إبليس، هدمته بالظهور المحيي الذي لابنك الوحيد» .

(صلاة الصلح للقداس الباسيلي ، مأخوذة من سفر الحكمة 2: 23و24).

ولـكـن الشر كـان محـصـوراً في عالم الملائكة، بدليل أن الشيطان، وهو المحسوب أحد الملائكة الساقطين، هو الذي سرب الخطية للإنسان ومنه إلى العالم . ولكن ق. بولس مرتبط بالتكلم عن عمل الخطية في عالم الإنسان .

«الموت»: 

قوة سلبية تسلب الحياة، مرافقة للخطية، وهي ترافقها وجوداً سلبياً، فأينما وجدت الخطية وجد الموت . وكلاهما قوة غريبة أصلاً عن طبيعة الإنسان. وقد وجدا كلاهما معاً في الكتاب المقدس منذ الـتـكـويـن (17:2). ويعتقد البعض أن الكلام هنا عن الموت الجسدي، ولكن في المقابلات بين الموت والحياة في الآيات القادمة (17 و18 و21)، يوضح أن الحياة حياة مع الله وهي حياة أبدية ، وهـذا المـقـابـل يحتم أن يكون مقابله الموت الروحي، لأن الموت الجسدي هو عقوبة الجسد. ولكن الخطية تأثيرها الأخطر والأعظم هو على الروح، وهي أصلاً موجهة ضد الله ، الذي نستمد منه حياة الروح. لذلك يـكـون الموت المذكور هنا هو موت الجسد والروح، وهو الموت الأبدي المرعب ، وهو للجسد والنفس كليهما ، والمعبر عنه بالموت الثاني :

+ «من له أذن فـلـيـسـمـع مـا يـقـولـه الـروح للكنائس، من يغلب فلا يؤذيه الموت الثاني . » ( رؤ2: 11)
+ «مبارك ومـقـدس مـن لـه نـصـيـب في القيامة الأولى. هؤلاء ليس للموت الثاني سلطان عليهم . » ( رؤ20: 6)

القيامة الأولى هي الآن ، وهي الإيمان با الرب من الأموات ويتبعها توبة وقبول روح الحياة في المسيح يسوع ، بتجديد الطبيعة ونوال ترياق عدم الموت أي جسد الرب ودمه .

« وطرح الموت والهاوية في بحيرة النار، هذا هو الموت الثاني . وكل من لم يوجد مكتوباً في سفر الحياة طرح في بحيرة النار» ( رؤ14:20 و15). هذا بعد تمام وكمال دينونة الأحياء والأموات ثم دينونة الشيطان . وهكذا ينتهي الموت من تعبيرات الأحياء عند الله ، وينتهي وجود الهاوية أي مكان الأرواح المنتظرة يوم الدينونة .

ويلاحظ قول الله لآدم : «يوم تأكل منها موتاً تموت» (تك2: 17)، وبالرغم من ذلك لم يمت مـبـاشـرة بـعـد أكله وكسره للوصية، وهذا برهان واضح أن الموت كعقوبة عملية ممتدة تحمل كل هذه الرواية التي نحكي عنها .

«إذ أخطأ الجميع » : 

لشرحها أنظر ص 272 هامش (2 ).

ولـكـن يـلـزمـنا هنا أن نضيف الاستطرادات التي أدخلها ق. بولس على موضوع «إذ أخطأ الجميع » في قوله :

+ «إن كان بخطية واحد مات الكثيرون . » (رو5 : 15):

فهنا ليست خطية آدم وحدها هي التي أماتت الكثيرين، بل لأن خطية آدم هي التي أخـذ عـلـيـهـا آدم الحكم، والحكم صدر ضد طبيعة الإنسان التي دخلت تحت حكم الموت الزمني. ولكن الموت لم يدخل العالم بخطية آدم وحده بل «إذ أخطأ الجميع »، فخطية الجميع هي التي ملكت الموت عليهم . حسب القانون الإلهي: «كل من يخطيء يموت » ، وليس كل من يولد من آدم يموت ، فأخنوخ ولد من آدم ولم يذق الموت ، وإيليا ولد من آدم ولم يذق الموت أيضاً. وهذان كان واحد منهما قبل الناموس والآخر بعد الناموس !

+ «فإذا كما بخطية واحدة صار الحكم إلى جميع الناس للدينونة» (رو5: 18):

هنا الخطية الواحدة لآدم هي التي صدر بسببها الحكم على الطبيعة البشرية، وبالتالي إلى كل ذي جسد لابن آدم الحامل لطبيعة آدم. الدينونة هنا هي المحاكمة أو القضاء بالإدانة، ولكن ليست خطية آدم هي التي ندخل بها الدينونة بل طبيعة آدم؛ وذلك سواء أن اشـتـركـنـا في خطية آدم أي التعدي ، حيث الدينونة تؤدي إلى عقوبة ، أو لم نشترك في خطية آدم كالأطفال البسطاء الأطهار، فلأنهم حاملون طبيعة آدم فهم يموتون بالحكم الصادر على الطبيعة. ولكن آدم أخذ الحكم على تعديه ، أما هؤلاء الأطفال فيسري عليهم الحكم دون تعد. لذلك سبق وقلنا إن الحكم هنا بالموت على الأطفال ليس كعقوبة، لأنها محاكمة لا تستوفي شروط الإدانة حيث لا معرفة ولا إرادة، ولا عمل بالتالي .

+ «لأنه كما بمعصية الإنسان الواحد جعل الكثيرون خطاة» (رو5: 19): هنا المعصية نفسها التعدي . فمعصية آدم أو تعديه على وصية الله أدخلت على هي طبيعته خبرة العصيان والتمرد على الله، وهكذا سلم أولاده طبيعة مفتوحة على نفس الخبرة، خـبـرة العصيان على أوامر الله ، وهكذا تسببت معصية آدم في انفتاح الكثيرين على الخطية، ولكن ليس تحت إلزام، فالطبيعة مفتوحة أي مستهدفة للخطية، والإنسان يخطىء بعد ذلك بإرادته و بالفعل وعن دراية فيكون مسئولاً عن خطاياه . فآدم سلم أدوات أو آلات الخطية في الطبيعة، ولكن لم يسلم فعل الخطية. وأدوات الخطية هي العين المفتوحة على الشر، والأذن واللسان والـقـلـب ، بل والفكر والضمير الذي يرضى بمشورة الشر ويتوافق مع الخطية، ولكن للإنسان سلطان عليها : « ولا تقدموا أعضاء كم آلات إثم للخطية … كما قدمتم أعضاءكم عبيداً للنجاسة والإثم .» (رو6: 13و19)

ملاحظة هامة :

 لـيـلـتـفـت الـقـارىء هنا إلى أن ق. بولس لا يقصد في هذه المقارنة بين آدم والمسيح في هذا الأصحاح أن يركز باللوم على آدم أو أن يعفي الخطاة من تحمل مسئولية خطيتهم . لأن الشراح أخذوا بالحرف واعـتـبـروا أن ق. بولس بأقواله المذكورة عاليه يهدف إلى أن الخطية الأصلية ، أي خطية آدم، هي وحدها المسئولة عن خطايا الناس ودينونتهم ، وهذا بعيد كل البعد عن الحقيقة الـتـي شـرحـنـاهـا عاليه ، ويعتمدون في ذلك على قول ق. بولس: «لأنه كما في آدم يموت الجميع هكذا في المسيح سيحيا الجميع» (1کو15: 22). ويخرجون من هذا القول بأنه يتحتم أن تكون هذا الآية بالتالي : [ لأنه في آدم يخطىء الجميع ]. هذا ما يقول به جميع العلماء، ويتساوى في ذلك كـل مـن بـاریـت و بـروس وكـايـسـمـان وريديل و بولتمان والبقية، ويذكره جون موري بالحرف الـواحـد ـ وإن كان الـعـالـم جـون نـوكـس لا يـأخـذ به ـ وفي الحقيقة إن التخريج خاطىء وغير منسجم مع كل تعاليم بولس الرسول ، لأن شرح : «في آدم يموت الجميع» لا يكون بـاعـتـبـار خـطـية آدم بل « طبيعة آدم».( فنحن لا نموت بخطية آدم بل نموت بطبيعة آدم و بسبب خـطـايـانا !! كذلك فشرح ما يستخرجونه من الآية الأولى بقولهم: «لأن في آدم يخطىء الجميع » لا يكون معناه بأي حال أننا نخطىء في خطية آدم بل نخطىء بطبيعة آدم ولكن بإرادتنا نحن . 

ولذلك فإن كل محاولات العلماء وإصرارهم في التمسك بأن الآية (12) من الأصحاح الخامس : « وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع »، تعني أنهم لم يخطئوا بإرادتهم أو بأعمالهم بل بخطية آدم، وبالتالي تكون عقوبة الموت هي منحدرة من آدم ليس إلا، ولا علاقة لها بخطايانا ، كل هذه المحاولات هي محاولة وإصرار غير واقعي ولا يتمشى مع مسئولية الإنسان عن خطاياه ويجعل الموت والدينونة التي وقع فيها الناس أمرأ تعسفياً من الله، وحاشا .

والـوحـيـد من العلماء الذي ألمح إلى أنه بخطايانا وليس بخطية آدم نحن نموت ، وإنما في صيغة مـدغـمـة، هو العالم لايتفوت إذ يقول : إن عقوبة آدم الذي سقط إنما تشمل من يتبعون آدم في خطيته أو مثل خطيته .

وقول ق. بولس يـعـارض ذلك الـتـفسير بوضوح في هذا الأصحاح بالذات أن الدينونة جاءت بـخـطـيـة واحـد ولـكـن هبة المسيح للتبرير جاءت بسبب خطايا كثيرة : «لأن الحكم من واحد للـديـنـونـة وأما الهبة فمن جرى خطايا كثيرة للتبرير» (رو5: 16)؛ هذا . أن تبرير الله لم يات بسبب خـطـيـة آدم ولا أننا صرنا خطاة بخطية آدم، ولكن جاء ليرفع خطايا كثيرة نحن مسئولون عنها في طبيعتنا التي أخذناها من آدم، وهذا واضح من قول ق. بولس : « ونحن أموات بالخـطـايـا أحـيـانـا مع المسيح » ( أف ٢ : ٥ ). فذنوبنا وخطايانا هي التي أوقعتنا في الموت الروحي ولـيـس ذنـب آدم وخـطـيـتـه . والـقـديـس بـولـس لـم يقل “ونحن أموات في خطية آدم أحيانا مع المسيح

13:5و14 «فإنه حتى الناموس كانت الخطية في العالم. على أن الخطية لا تحسب إن لم يكـن نـامـوس. لكن قد ملك الموت من آدم إلى موسى وذلك على الذين لم يخطئوا على شبه تعدي آدم الذي هو مثال الآتي».

الـقـصـد الأساسي للـقـديـس بولس من هاتين الآيتين هو لكي يثبت أن «الجميع أخطأوا » . فالخـطـيـة دخلت العالم في الطبيعة البشرية المنفتحة على الخطية ، ولكن الخطية لم تحسب أنها تعد على مستوى تعدي آدم على وصية الله إلا بعد مجيء الناموس. فكل الذين عاشوا من آدم إلى موسى أخطأوا ولكن دون أن يحسبوا كمتعدين على وصايا إذ لم يوجد ناموس لهم . لذلك قيل : «لإظهار بـره مـن أجـل الصفح عن الخطايا السالفة» (رو3: 25). أي للذين أخطأوا قبل الناموس مثل إبـراهـيـم حـيـث يعمل فيهم بر الله بالمسيح بأثر رجعي، أي على الذين أخطأوا بدون ناموس، فلا يـحـسـبـون متعدين مع أنهم أخطأوا. ولكن لكي يتضح أنهم أخطأوا نعلم أنهم ماتوا، ولكن موتهم هذا لم يحسب لهـم عقوبة حيث لا تعد حيث لم يكن ناموس ، فهؤلاء شملهم بر الله بالمسيح . ( أنظر شرح الآية 3: 25و26صفحة 218-223).

أما كيف ماتوا، فليس هذا ـ كعقوبة ـ بسبب خطية آدم، بل لكونهم حاملين طبيعة قابلة للموت أنهت مهمتها على الأرض لتبدأ عملها في السماء: «إذ لنا سحابة من الشهود مقدار هذه محيطة بنا . » ( عب12: 1)

بداية توضيح بولس الرسول للدور الذي قام به المسيح في مقابل آدم بالنسبة للبشرية [رو5: 12-21]

« … آدم الذي هو مثال الآتي» :

هنا يضع ق. بولس آدم مثالاً للآتي أي المسيح . والمثال هنا في اليونانية تفيد «الطبعة» أو « الـصـورة» التي تنشأ من ضربة الختم على ورقة . فالصورة أو الطبعة أو المثال إذا ارتفعنا بها إلى مستوى الشخص، يكون آدم هو العينة أو الصورة أو الرسم أو النسخة الحاملة الشبه المرسوم للأصل الأعلى. هنا يعبر ق. بولس عن المسيح كالأصل الذي تصور منه آدم باعتباره الآتي تاريخياً بعده : « هكذا مكتوب أيضاً صار آدم الإنسان الأول نفساً حية، وآدم الأخير روحاً محيياً . » (1کو15: 45)

هكذا يظهر في لاهوت ق. بولس أن الوحيد الذي قيل عنه أنه مثال المسيح هو آدم، باعتبار أن المسيح (ابن الله ) هو أصل الصورة، أصل الطبعة archetype للإنسان الأول الذي وحده يحل محل آدم الإنسان الأول كممثل للبشرية الجديدة وكرأس لها، إذ اعتبرت أنها إنسان واحد في المسيح : « وهو رأس الجسد الكنيسة » (كو1: 18) والجسد هو البشرية الجديدة وهي الكنيسة .

وقـد أرجأنا إلى هنا الحديث عن المقارنة التي انشغل بها ق. بولس بين آدم والمسيح منذ الآية (12)، لأن ق. بولس انشغل في الآيات ( 12 و13 و14) بأوصاف آدم وحده وما بدر منه وما نتج عنه دون أن يذكر المقابل أي المسيح . وأخيراً هنا في الآية (15) بدأ يدخل في هذه المقارنة .

وق. بولس يقدم آدم ومعه البشرية التي انحدرت منه في مقابل المسيح والبشرية الجديدة التي خرجت منه بنوع من المقابلة التي تبدو وكأنها متضادة، ولكن يتخللها عنصر التضامن federality ، وكأن آدم كان متضامناً من طرف واحد مع نسله أي العالم دون أن يراه حينما أخطأ، فورثه نتائج أعماله. كذلك المسيح إنما بصورة سرية أعلى وأعظم ، تحقق لنا بالاستعلان أنه كان متضامناً مع الـذيـن سيؤمنون به تضامناً ألصق وأكثر قرباً وشركة في موته وآلامه الخلاصية وموته الفدائي وقيامته المبررة، بحيث اشـتـرك المؤمنون به في كل ما أتاه من أعمال الخلاص والفداء والتبرير. وكان  تـضـامـن المسيح مع الذين سيؤمنون به من طرف واحد أيضاً، أي طرفه هو دون أن يدري الطرف الآخر ـ أي نحن ـ ما الذي يعمل له ومن أجله وفيه (جسد بشريته ) .

وإذا تجاوزنا الهوة الكبيرة التي تفرق بين الشخصيتين وبين النتيجتين ـ المتحصلتين منهما ـ التي تجعل التوازي بينهما شبه مستحيل بالنسبة لعمل كل منهما وأثره، إذا تجاوزنا ذلك يمكن أن ندخل في هذه المقارنة. فمن حصيلة المقارنة التي يقدمها ق. بولس هنا بين آدم والمسيح يبدو لأول وهلة أن ما أفسده الأول أصلحه الثاني. ولكن الحقيقة أن الإنحصار في المقارنة في هذا الحيز الضيق ـ أي ما أفسده الأول أصلحه الثاني ـ لا يفي بالمساحة الهائلة التي غطاها المسيح . فالذي أفسده آدم هو في الطبيعة البشرية، وما أصلحه المسيح في الطبيعة البشرية لا يمثل حقيقة عمله، فالمسيح لم يصلح الطبيعة البشرية وحسب بل إنه خلقها من جديد خلقة جديدة. فأية موازنة أو تقابل يمكن أن تغطي هذا المجال من طرف آدم ؟؟ آدم ورث أولاده طبيعة فيها وعي الخطية وعليها حكم الموت ، والمسيح لم يرفع الخطية وحسب !! ولم يلغ الموت وحسب !! بل عوض الخطية أعطى بر الله تمجد وتـبـارك وتعالى !! وعـوض الموت أعطى الحياة الأبدية مع الروح القدس !! آدم أعطى أولاده الذين ولدوا منه إنسانيته العاجزة المطرودة من وجه الله والمرفوع عنها النعمة ؛ والمسيح أعطى مجده ولاهوته وقوته وسلطانه للذين آمنوا به ، فولدوا له من الله !! ليصيروا أولاد الله !

لذلك أستميح القارىء عذراً أني سأختصر في شرح هذه المقارنة التي جاءت في أصحاح (5 : 12-21) في الحدود التي رسمها بولس الرسول ، وكما لم يشأ هو أن يخوض فيها ليتتبع أصولها ، وذلك اخـتـصـاراً ، منه ليضم دفتيها معاً في ذهن القارىء بأسلوبه البسيط الحي، كمقارنة عامة ، وسوف نأخذ نحن أيضاً أسلوبه في هذا الأمر .

ترتيب المقارنة

آدم المسيح

15:5 «لكن ليس كالخطية» (صحتها تعدي)

«لأنه إن كان بخطية (صحتها تعدي)   واحـد مـات الكثيرون »

« هكذا أيضاً الهبة » ،

«فبالأولى كثيراً نعمة الله والعطية بالنعمة التي بالإنسان الواحد يسوع المسيح قد ازدادت للكثيرين» .

16:5 « وليس كما بواحد قد أخطأ » «لأن الحكم من واحد للدينونة »

« هكذا العطية »

«أما الهبـة فـمـن جـراء خـطـايـا (صحتها تعديات ) كثيرة للتبرير» .

17:5 «لأنه إن كان بخطية (صحتها تعدي) الواحـد قـد مـلك الموت بالواحد »

«فبالأولى كثيراً الذين ينالون فيض النعمة وعـطـيـة البر سيملكون في الحياة بالواحد يسوع المسيح » .

18:5 «فإذاً كـمـا بـخـطية (صحتها تعدي)  واحـدة صـار الحكم إلى جميع الناس للدينونة »

« هكذا ببر واحد صارت الهبة إلى جميع الناس لتبرير الحياة» .

، 19:5 «لأنه كما بمعصية الإنسان الواحد جعل الكثيرون خطاة » ، 

« هكذا أيضاً بإطاعة الواحد سيجعل الكثيرون أبراراً » .

15:5 « ولكن ليس كالخطية هكذا أيضاً الهبة. لأنه إن كان بخطية واحد مات الكثيرون فبالأولى كثيراً نعمة الله والعطية بالنعمة التي بالإنسان الواحد يسوع المسيح قد ازدادت للكثيرين» .

 

« ولـكـن ليس كالخطية (صحتها التعدي) هكذا أيضاً الهبة » مشروحة في بقية الآية لأن «الهبة» وهي نعمة الله التي بالمسيح يسوع بالفداء لا يمكن أن تقارن بخطية آدم . والتعبير المستخدم هو «فبالأولى كثيراً» ليس من جهة الكم العددي للنعمة بالنسبة للتأثير العددي للخطية ، لأنه معروف أن الكم العددي الذي تحدثه الخطية في الإنسان أكثر من جهة عدد الخطاة ، ولـكـن المقارنة بقوله : «فبالأولى كثيراً» تفيد اليقين والفيض والتأثير الممتد والأبدي . فعمل الله لا يقارن بعمل الإنسان .

وقوله : «بتعدي واحد مات الكثيرون»، «الكثيرون » هنا واقعة في المقارنة من الواحد ، أي آدم وحـده، الذي لما تعدى، مات بسبب هذا الواحد الكثيرون. وفي الجانب الآخر : النعمة والمسيح، جاء « الكثيرون» أيضاً. ولكن في الحقيقة نعلم أن عمل المسيح ليس جزئياً من جهة خلاص الـبـشـريـة بـل كلياً، فكلمة « الكثيرون» ليست بمفهوم الكثرة العددية بل بمفهوم الكلية والـشـمـولية بالنسبة لعمل النعمة. وينتهي ق. بولس في المعنى إلى أن آدم أخطأ فمات الكثيرون ، والمسيح فدى فازدادت النعمة فخلص الجميع ! كل من يؤمن .

ويلاحظ أن هذه الآية بجملتها محمولة على الآية (12) على الجزء : « إذ أخطأ الجميع»، وتأتي هكذا : « وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع ، ولكن ليس كالخطية هكذا أيضاً الهبة لأنه إن كان بـخـطـيـة واحـد مات الكثيرون فبالأولى كثيراً نعمة الله والعطية بالنعمة التي بالإنسان الواحد يسوع المسيح قد ازدادت للكثيرين » .

 وكأن ق. بولس يريد أن يقول : آدم هو «مثال» الآتي أي المسيح يسوع ، وكان المفروض فيه بسبب هذا التشابه بين الـ inos والـ apytronos أن يورث أولاده نعمة الله التي كان يقيم فيها مع الله ، ولكن للأسف تعدى على الله فمات الجميع بسببه . ولكن شكراً الله بيسوع المسيح لأن نعمة الله التي في المسيح يسوع ليست في مستوى ولا اعتبار خطية آدم بل بالأولى كثيراً جداً ه أزيد، لأنه إن كـانـت خـطـيـة آدم وهو واحد تسببت في موت كثيرين، فقد جاء الإنسان الواحد يسوع المسيح ومنح نعمة الله بعطية البر المجانية بصورة أزيد وأقوى وأكثر دواماً وفعالية .

ويلاحظ القارىء أن السالبية التي ينعت بها بولس آدم في الآيات (15-17) لا تدخل في المقارنة، ولـكـن بـولـس يستخدمها كسبب لازدياد النعمة وهي المحصلة التي سينتهي إليها آخر الأصحاح : «حيث كثرت الخطية ازدادت النعمة جداً» (رو5: 20). فهي ليست مسألة مقارنة بين شخص آدم وشخص المسيح ، لأن المقارنة غير موجودة ومستحيلة . فآدم كمثال شوه صـورتـه الـتـي أخـذهـا من الأصل ، فلا مجال للمقارنة . ولكن ق. بولس يحاول أن يثبت أن ما أفسده آدم لم يصلحه المسيح فقط بل إنه تعدى مسألة الإصلاح بكثير. فالخطية التي أحـدرها آدم إلى الطبيعة لم يرفعها المسيح وحسب ، بل وغرس مكانها النعمة. أما الموت الذي حل كعقوبة فلم يرفعه المسيح فحسب ، بل وغرس عوضه في طبيعة الإنسان الحياة الأبدية ، حياة الله . والـديـنـونـة التي وقع فيها الناس بسبب الخطية لم يعف المسيح الإنسان منها وحسب أي لم يمنح البراءة فقط بل ومنح بر الله أي التبرير، إذ يحسب الإنسان أنه ليس بريثا فقط بل وبار أيضاً أمام الله !! هذا توضحه محاولات ق. بولس المستميتة في استخدام الاصطلاحات التي تشير إلى الفارق الهائل بين ما أفسده آدم وما عمله المسيح :

+ «ليس كالخطية هكذا أيضاً الهبة »،
+ « فبالأولى كثيراً»، 
+ «قد ازدادت للكثيرين » ،
+ «إن كان بـخـطـيـة الـواحـد ملك الموت بالواحد، فبالأولى كثيراً الذين ينالون فيض النعمة وعطية البر سيملكون في الحياة»،

+ بمعصية الإنسان الـواحـد لجعل الـكـثـيـرون خطاة، هكذا أيـضـاً بـإطاعة الواحد سيجعل الكثيرون أبراراً» .

هنا يقول ق. بولس بوضوح :

إن الخطية بسلبياتها وآثارها المدمرة لا تقارن بأي حال من الأحوال مع عظمة النعمة.

كذلك الدينونة بكل مرعباتها لا يمكن أن تقارن في سلبيتها وخسارتها بما يعمله التبرير للحياة.

كذلك لا يمكن أن يقارن الموت كعقوبة الذي ملك على الجميع بكل خساراته وخوفه ورعبه بتملك الحياة الأبدية في المسيح .

16:5 «ولـيـس كـمـا بـواحد قد أخطأ هكذا العطية. لأن الحكم من واحد للدينونة، وأما الهبة فمن جرى خطايا (صحتها تعديات) كثيرة للتبرير» .

لاحظ هنا أن فعلاً واحداً سلبياً أو خطية واحد امتدت إلى كثيرين، في مقابل أفعال سلبية كثيرة أي تعديات ، انتهت بقوة واحد أي بر المسيح .

يضيف ق. بولس هنا هذه المقارنة غير المعقولة ولا المتوازنة أبدأ ليظهر أن عمل المسيح أعلى وأقـوى وأعظم في إيجابياته من السلبيات التي ترتبت على تعدي آدم، فيقول إنه بسبب تعدي واحد لإنسان واحـد وهـو آدم دخلت الدينونة . ثم يقيس ذلك على عمل التبرير، فيجد أن التبرير جاء لـيـس لـيـوازن ويلغي خطية واحدة أو الدينونة، بل ليوازن تعديات كثيرة يلغيها ويضع مكانها تبرير الله ليصبح الإنسان محبوب الله . فهنا الدينونة تقاس بخطية واحد، ولكن التبرير تقاس قوته بأثره في الغاء تعديات كثيرة، وليس ذلك فقط بل و بعد ذلك تقريب الإنسان إلى الله كمحبوب.

وكأن الـقـديس بولس يريد أن يقول إن ما عمله آدم ولو أنه محزن جدا وأثره سيء للغاية على البشرية ولكن الذي عمله المسيح في المقابل أعظم وأعظم بما لا يقاس . هنا الهبة أي النعمة المجانية لا حدود لعملها ولا حدود لقوتها ، في مقابل محدودية الخطية ومحدودية الدينونة .

كذلك يلاحظ القارىء هنا وضوحاً ما بعده وضوح لشرح «إذ أخطأ الجميع» (رو5: 12)، فهنا يضع المقارنة صارخة بين «خطية آدم» وبين «خطايا كثيرة». إذا فـ «الجميع أخطأوا » لا تحمل معنى أنهـم خـطـاة بخطية واحدة لآدم الواحد، بل معنى أنهم مارسوا خطايا كثيرة كانوا سيدانون عليها لولا لحقهم تبرير نعمة الله بالإيمان بيسوع المسيح (أنظر شرح «إذ أخطأ الجميع» في موضعها ) .

5: 17 «لأنه إن كان بـخـطـيـة ( صحتها بتعدي ) الواحد قد ملك الموت بـالـواحـد؛ فبالأولى كثيراً الذين ينالون فيض النعمة وعطية البر سيملكون في الحياة بالواحد يسوع المسيح » .

«لأنه إن كان»: 

تأتي في بداية الجملة لتثبيت القول السابق وتعليله ، مع امتداد قليل في الفكر. حيث التكرار هنا للآية السابقة يزيد من أهمية النتيجة المباشرة التي سيصل إليها في النهاية.

«فبالأولى كثيراً »:

« فبالأولى كثيراً الذين ينالون فيض النعمة»، في مقابل الآية (15) حيث تأتي « فبالأولى كثيراً نعمة الله». في الآية (15) التشديد واقع على النعمة وتفوقها مقابل الخطية ، أما هنا في الآية (17) فـالـتـشديد واقع على الذين ينالون فيض النعمة ويملكون في الحياة الأبدية في مقابل الذين يخـطـئـون ويملك عليهم الموت . من هنا يتضح أمامنا فكر ق. بولس وهو يشدد في أطراف المعادلة : فالخطية لا تقاس بالنعمة، والذين ملك عليهم الموت لا يقاسون بالذين نالوا فيض النعمة وعطية البر.

يلاحظ القارىء رئة النصرة والتفوق دائماً في عرض ق. بولس للذين ينالون النعمة والبر ويملكون في الحياة مع المسيح في مقابل رئة الخسارة والانهزام والأسى عند الذين غلبتهم الخطية وملك عليهم الموت .

كما لا ينبغي أن تفوت علينا هذه المقارنة البديعة الفائقة الوصف بين الذين يملك عليهم الموت والذين يملكون في الحياة الأبدية في المسيح يسوع !! من هنا نفهم قول سفر الرؤيا : « الذي أحبنا وقد من خطايانا بدمه وجعلنا ملوكاً وكهنة الله أبيه » ( رؤ1: 5 و6). إنها تعني أننا نملك «في المسيح» في الحياة الأبدية. فيوض أن كان يملك علينا الموت؛ صرنا نملك نحن في الحياة. أما قول سفر الرؤيا أنه جعلنا كهنة الله، فيعني القدرة والنعمة للدخول إلى الله في الأقداس وخدمة النفوس المقدسة .

5: 18 «فإذا كما بخطية ( صحتها بتعد) واحدة صار الحكم إلى جميع الناس للدينونة، هكذا ببر واحد صارت الهبة إلى جميع الناس لتبرير الحياة» .

«إذا »: 

بمعنى «بناء على كل ما فات » .

ق. بولس يختم المقارنة ويبلورها في جملة قصيرة :
تعد واحد في مقابل بر واحد ! ،
صار الحكم إلى جميع الناس، صارت الهبة إلى جميع الناس ،
للدينونة، في مقابل لتبرير الحياة !!

ولكن الذي يشغلنا هنا هي العمومية، فالحكم بالدينونة صار فعلاً إلى جميع الناس، فهل صارت هبة البر إلى جميع الناس ؟ هنا البر له صفة العمومية بكل تأكيد لأنه «بر الله » بيسوع المسيح الذي صلب من أجل العالم كله . فهي عمومية دون التعميم، فالعمل، أي التبرير، عام وشامل يشمل كل إنسان في الوجود وجد أو سيوجد ولكن دون تعميم ، بمعنى أن البشرية لا تدخل جملة في التبرير كفعل من جانب الله بل دخولها إلى التبرير هو فعل بشري مفتوح للجميع، ولكنه يعتمد على الإيمان بالله وبر الله بالمسيح يسوع. فكل إنسان إن أراد تبرر، إن آمن واعتمد تبرر.

« لتبرير الحياة » :

هي مترادفة مع قول ق. بولس السابق : « سيملكون في الحياة بالواحد يسوع المسيح».

فـتـبـريـر الحيـاة هو بواسطة المسيح حيث ننال منه هبة بر الله بالإيمان بموته وقيامته فننال حياة جديدة لا تتبع حياة الخطية والموت والدينونة ؛ بل هي حياة مبررة في المسيح .

19:5 «لأنه كما بمعصية الإنسان الواحد جعل الكثيرون خطاة. هكذا أيضاً بإطاعة الواحد سيجعل الكثيرون أبراراً» .

ق. بولس يـدخل هنا في المقارنة السببية، كيف أخطأ آدم وكيف تبرر المسيح ، فربط الخطية بعدم الطاعة وربط التبرير بالطاعة . وانتقل هذا الوضع من عصيان آدم إلى كل من عصى الله من نسله، كذلك في المسيح انتقلت طاعة المسيح الله إلى كل من آمن بالمسيح ليتبرر بهذه الطاعة .

«جعل الكثيرون خطاة … سيجعل الكثيرون أبراراً»:

« جُعل» هنا سواء في حالة آدم أو حالة المسيح ، تعني : هذا ليصير خاطئاً وذلك ليصير بارا ، وهي لا تفيد العمل الإلزامي ، لذلك لجأ ق. بولس لكلمة « الكثيرون» مع أن المعنى هنا ولا شك يفيد « الكل» . لأن حرية الإرادة لدى الخاطىء هي التي تجعله خاطئاً، وحرية الإرادة لدى طالب الـبـر هـي الـتـي سـتـبرره؛ أما طاعة المسيح الله فقد فاقت طاعة إبراهيم بمراحل، لأن إبراهيم أطاع لـيـقـدم ابنه ذبيحة إرضاء لأمر الله ، ولكن المسيح قدم نفسه ذبيحة للموت وأطاع حتى الصليب . فإن كان إيمان إبـراهـيـم بـزره أمام الله أو حسب له برا، فإن الذي يؤمن بالذي عمله الله في ابنه يسوع المسيح بالأولى جدأ والأكثر أصبح إيمانه يبرره أو يحسب له برا. هنا التبرير أو حساب البر هو قوة الله في المسيح التي وهبها المسيح لنا للتبرير، والتي استعاد بها طاعة العالم ومصالحة الله .

+ «وإذ وجد في الهيئة كإنسان، وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب ، لذلك رفعه الله أيضـاً وأعطاه اسما فوق كل اسم لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض ويـعـتـرف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب.» ( في2: 8-11).

هنا «كل ركبة، ممن في السماء ومن على الأرض»، هذه الشمولية تجمع في طياتها وضع العالم الإسخاتولوجي أي الأخروي عند استعلان حق المسيح الكلي . لأن المقارنة التي يعملها ق . بولس بين آدم والمسيح تشمل ضمن ما تشمل المضادة الزمنية بين الماضي بخطيته والمستقبل الزاهر ببره الذي لا يمكن الحصول على صورة كاملة له الآن إلا بالرجاء من خلال الإيمان والرؤيا الصافية الروحية .

فعدم طاعة آدم التي يحققها أولاده الآن ومنذ خرج آدم من لدن الله هي في المحيط الجسدي الـزمـنـي ؛ أما طاعة المسيح الله في سر الفداء بالصليب فهي فعل روحي عالي جداً؛ فبالرغم من أنه حدث في الجسد إلا أنه يضرب جذوره في اللازمن واللاجسد، ويمتد لكي يستعلن في الآخرة على مـسـتـوى الـروح . ولـكـنـنا نحن نحيا الآن في فجر الأبدية، وأشعتها الصادرة من المسيح تنير أمامنا معنى الـبـر وقـوتـه ونـحـن على طريق الحياة والخلود . لذلك يقول ق. بولس : « سيجعل الكثيرون أبراراً»، وقد وضعها في الصيغة المستقبلية : « فإننا بالروح من الإيمان نتوقع رجاء بر» (غل5: 5). هكذا يُحتسب البر هبة تكميل الدهور، مع أنه تاج الزمن ودرة الحياة الحاضرة.

وهكذا استطاعت طاعة المسيح أن تلغي عدم طاعة آدم وكل ما تأتى منها !! وأن تفتتح أزمنة الخلاص ورضاء الله وعالم الروح .

 20:5 « وأما الناموس فدخل لكي تكثر الخطية (صحتها التعدي). ولكن حيث كثرت الخطية ازدادت النعمة جداً».

ذكـر الـنـامـوس هنا إضافي كعمل وسيط بين موسى والمسيح ، ولكن ق. بولس يعلم جيداً أن الناموس ليس عنده رد على ما هي الحياة الأبدية، فكل هم الناموس هو في الخطية والتعدي .

القصد الوحيد من هذه الآية هو كلمة «يكثر التعدي»، لأن ق. بولس سبق وكرر قوله عن الـتـعـدي لآدم الـواحـد وهي خطية « العصيان» وأنها كانت في آدم مخفية ، ولما تسلمها نسله ظلت مخفية تعمل دون أن يلحظها أحد ودون أن يحصرها الفكر والضمير. ولكن الله يقصد أن يطهر ضمير الإنسان من كل الأعمال الشريرة ، فكان لابد من ناموس يوضح أنواع الخطايا ويكشفها للضمير ويعطي عنها عقوبات رادعة لإيقاظ الضمير وإخافته، والتي تصل إلى . الموت إن هي بلغت حد العصيان الإرادي.

وهـنـا يـتـحـتـم أن يعلم القارىء أن كل التطهيرات والذبائح والقرابين الناموسية كانت تقدم عن خطايا السهو فقط ، أما الذي يخطىء عن عمد فليس له ذبيحة بل «موتاً يموت»: «من أخطأ إليّ أمحوه من كتابي» (خر32: 33). وهكذا دخل الناموس ـ على الهامش[1] ـ ليكشف أنواع الخطايا العاملة في قلب الإنسان وفكره دون أن يعالجها تمهيداً لتقديمها إلى الطبيب الشافي لإلغائها جميعاً بذبيحة المسيح الكفارية، ببرا الله الخاص الذي تدخل في الوقت المعين ليهب رحمة شاملة لجنس الإنسان الذي تعذب تحت عبودية الخطية والخوف من الموت كل أيام حياته ، فعمل الناموس هنا يختص بتأكيد خطورة الخطية وحسب .

إذا فـالـقـديس بولس واضح في قوله : « ولكن حيث كثرت الخطية ازدادت النعمة جداً» بمعنى أن بر الله الذي كان يـعـيـشـه آدم قبل أن يخطىء، أو حتى بر الله الذي كان لازماً ليرفع خطية واحدة كـخـطـيـة آدم بعد أن أخطأ، ليس كبر الله ونعمته التي أصبحت لازمة لرفع جميع خطايا البشرية بكثرتها الهائلة . فصح قول ق. بولس أنه كلما كثرت الخطية ازدادت قوة النعمة جدا ، ليس لكي تقوى على كثرة الخطايا فتلغيها ، ولكن الزيادة هنا هي في عملها المتسع الذي يورث الإنسان هذه النعمة بطولها وعرضها ، فسالبية الخطايا الكثيرة لا يوازيها ويلغيها إلا مزيد من إيجابية النعمة الفائضة : «قد غفرت خطاياها الكثيرة لأنها أحبت كثيراً . » ( لو7: 47)

ملاحظة أخيرة على هذه الآية وعلى الأصحاح كله :

في الترجمة العربية حدث قصور في ترجمة بالخطية ، وهذا أضر بالحس اللاهوتي الـدقـيـق. فالخطية هي hduapria أما البارابتوما napantoua فهي التعدي . فالترجمة الصحيحة للآية: « وأمـا الـنـامـوس فدخل لكي يكثر التعدي وحيث كثرت الخطية ازدادت النعمة جداً » . لأن الناموس يحول الخطية غير المنظورة إلى تعد ظاهر. والناس يخفون خطاياهم بحذق ومهارة ولكن لا يستطيعون أن يخفوا تعديهم لأنه يكون علنياً وضد نواميس موضوعة . لذلك يقول ق. بولس : « إذ حيث ليس ناموس ليس أيضاً تعد» (رو15:4) مع أنه توجد خطية مائة بالمائة ولكن غير منظورة لأنها لم تتحول إلى تعد. فالخطية يمكن أن توجد حينما لا يوجد ناموس. ولكن إذا دخل الناموس فضح التعدي وكشف الخطية المستترة .

فالناموس دخل لكي يثبت على الإنسان تعديه ويكشف كل أنواع تعدياته أمام نفسه والضمير. لذلك فالتعدي هو نقض أو كسر وصية خاصة محددة ومعينة ، أما الخطية فهي كسر مبدأ أبدي خالد أعظم من أعظم قانون وضعي له قواعد وبنود .

وللعلم فإن المـتـرجـم العربي لم يلتفت أبدأ لهذا الفارق الكبير بين الخطية والتعدي في هذا الأصحاح الأخير مما زعزع المفهوم اللاهوتي ويلزم تصحيحه كله .

5: 21 «حتى كما ملكت الخطية في الموت؛ هكذا تملك النعمة بالبر للحياة الأبدية بيسوع المسيح ربنا » .

لقد سبق ق. بولس في الآية (17) وقال ما يشابه هذا : «قد ملك الموت » ، ولكن هنا : «كما ملكت “الخطية في الموت». وما الفرق ؟ الفرق أن بخطية واحدة ملك الموت كحكم ، حيث أصبح الموت هو الملك والسيد على الطبيعة البشرية، ولكن في الآية (21) ملكت «الخطية في الموت، فالذي ملك وساد هوا الخطية متسلحة بالموت وذلك بعد صارت الخطية الواحدة تعديات بلا حصر بعد أن كثرت وتعددت بدخول الناموس. فالناموس رفع من قدر الخطية وسلطانها وجعلها تستخدم الموت للإرهاب والسيادة. ولكن شكرا لبر الله في المسيح يسوع الذي أسقط هذه السيادة المتملكة للخطية والمتحصنة بالموت ، إذ ألغى الموت ، فانكسرت شوكة الخطية وفقدت سلطانها الذي تحصنت فيه. لذلك فبقدر ما تعظمت وتكاثرت التعديات وأصبحت قابضة على الموت لحسابها، هكذا أيضاً، لما جاءت النعمة وأسقطت هذه السلطة المتملكة والشديدة للخطية، حلت محلها بنفس القدرة والسيادة، فملك البر للحياة الأبدية. ولكن الخطية ملكت على الجسد وأرعبته بسلطان الموت ، أما النعمة فبجوار أنها فكت أشر الجسد من عبودية الخطية ورعبة الموت ، فإنها أورثت الروح ملك الحياة الأبدية ببر الله .

«فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضاً كذلك فيهما، لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت، أي إبليس، ويعتق أولئك الذين خوفاً من الموت كانوا جميعاً كل حياتهم تحت العبودية . » ( عب2: 14و15)

ويلاحظ القارىء أن تملك النعمة بالبر على حياة الإنسان الروحية عوض تملك الخطية بالموت هو أعلى وأقوى وأبقى بلا حدود . فالذي امتلك الحياة الأبدية من ذا الذي يستطيع أن يزعزعه ؟ خاصة أن الذي يملك بالنعمة في الحياة الأبدية يملك في المسيح من واقع بر الله الممنوح لنا بواسطته . ففي الحقيقة نحن نملك في الحياة الأبدية «ببر الله » الممنوح لنا في المسيح الممجد، فمن ذا الذي يختطف منا بر الله هذا ؟ وعطايا بلا ندامة .

وهكذا ينتهي ق. بولس من هذه المقابلة بين آدم والمسيح بحقيقة ثابتة : أنه كما ملكت الخطية على الإنسان بالموت ، هكذا بعد أن فك المسيح يدها عن رقبة الإنسان جعل الإنسان يملك في الحياة الأبدية ببر الله في شخصه .

ولـكـن ينبغي أن يرتفع عالياً في أفق الضمير أنه بعد أن يملك بر الله على حياة الإنسان فلن تستطيع الخطية أن توقف عمله ، كما أن التألم والمعاناة التي يعانيها أولاد الله : بسبب ظلم العالم وضعف الجسد لا يتعارض مع بر الله أو يوقف مجانيته.

  1.   يلاحظ هنا بوضوح تفاهة أثر الناموس في مغفرة الخطايا أو التعديات ، لأنه مقصور فقط على خطايا وتعديات السهو فقط . أما خطايا العمد، أي التي  بكامل الإرادة والوعي فلا صلة للناموس بها بكل ذبائحه ، لأن خطية العمد أو الإرادة جزاؤها الموت حتماً بلا أي نقاش أو علاج. فقاضي الناموس يحكم على المتعدي بالموت وبلا رحمة لأن ليس له سلطان الرحمة أو التبرييء. وهكذا وقف الناموس أمام خطايا العمد بلا حراك وبلا أهلية وبلا اختصاص ، تاركاً معالجتها للمسيح . من هنا نفهم بصورة قوية قول المسيح : «ما جئت لأنقض بل “لأكمل “» (مت5: 17). وإذا أردنا أن نشبه ـ إلى حد ما ـ سلطة الناموس القضائية بسلطان المسيح القضائي الفائق، فهو كنسبة قاضي الجنح في المحكمة الابتدائية بقاضي النقص في محكمة القضاء العالي Supreme court الذي له أن يبرىء القاتل ولا أحد من بعده يدين، وإن دان فلا أحد يبرىء .
  2.  هذا الأمر شغل بال الأجيال وانقسم الكل في فهمه وشرحه ، وقد انحرفت الأفكار عن الفهم الصحيح فتولدت ثلاث هرطقات خرجت بمضامين ضارة بالإيمان والعقيدة، ومفسدة في المجال الأخلاقي والسلوكي واللاهوتي أيضاً. وقد قام العالم البحاثة فيليب شاف بعمل بحث كبير في هذا الموضوع لم نشأ أن نربك فكر القارىء بالأفكار الخاطئة الواردة به ، لأن نظريتنا دائما هي تقديم الإيجابيات للقارىء لينتفع بها في حياته وليس مبدأنا تقديم علوم ومعارف نحشوبها عقول الناس ، قد يرسخ الخاطىء منها خلسة في فكر القارىء فيضر أكثر ألف مرة مما ينفع .
    الهرطقة الأولى نـقـوم على حتمية الخطية باعتبارها خصلة طبيعية في الطبيعة، أي صفة جوهرية في طبيعة الإنسان و يقول بها جماعة المؤمنين بتأليه الكون، أي وحدة الله والكون وهذا خطأ . وبيل.
    والهرطقة الثانية و يقول بها جماعة بلاجيوس ويحللون خطية آدم إلى أن يبلغوا بها إلى التهوين منها ، ويجعلونها حدثا تافها لا تخرج عن كونها عدم طاعة صبيانية كانت في جملتها لا تزيد عن نموذج سيىء ليس إلا، وهذا شر مستطير.
    والهرطقة الثالثة وهي التي يقول بها أفلاطون وأوريجانوس الإسكندري وتقوم على أساس سبق وجود النفس البشرية على خلقة
    الجسد، وقد قاومها الآباء وشجبوها .
    أما المحاولة الرابعة فقدمها القديس أغسطينوس ويسمونها النظرية الواقعية ويقول بالصلة الكائنة بين آدم ونسله وقت الخطية وأن بخـطيته الفردية أفسد الطبيعة البشرية وسلمها لنسله فاسدة وأثمة فصار بواسطتها شركة لاشعورية ولاشخصية بين آدم وكل نسله في نفس الخطية، أي خطية آدم. لذلك فإن خطأ أغسطينوس غير متعمد في شرح ما جاء في الآية (12) في قول ق. بولس : « وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس ” إذ ” أخطأ الجميع» فجعلها : «فيه أخطأ الجميع» ، ولكن قول ق. بولس واضح أن الجميع أخطأوا ونتيجة خطأهم دخل الموت . والعذر لأغسطينوس في هذا الانحراف بالمعنى واضح لأن «إذ» جاءت باللاتينية = in quo وهي قد تفيد « وفيه » (1 Barrett, p. III n )، حيث كان يرجع إلى الترجمة اللاتينية ( الفولجانا ) في كتاباته .
     
    وأخيراً النظرية الفدرالية (التضامنية الاتحادية ) ( الفدرال Federality وتعني تضامن أو معاهدة)، والتي قال بها أول من قال هـم الهـولـديـون وأخـذ بها مجمع وستمنستر في إنجلترا ؛ وفيها يعتبر آدم بمثابة كاهن البشرية أو ممثل البشرية على المستوى الـكـهـنـونـي، وأساس التضامن هو من طرف واحد، وهو آدم . وبنود التضامن تقوم أساسا على العمل في مقابل تضامن النعمة عند المسيح ، وهكذا فالمفروض في آدم أن يمارس مهنته ككاهن للبشرية عن كل البشرية التي ستتبعه أو تتسلسل منه، حتى إن أي عمل يعمله ـ سواء طاعة الله أو عصيان الله ، مع كل ما يترتب على هذا العمل ـ يحتسب أنه لهم جميعاً ؛ كما حدث في المسيح إذ أن بر آدم الثاني احتسب أنه لشعبه ، أي أتباعه ، أي المؤمنين به. وهنا نتوقف لأن لنا اعتراضاً شديداً على هذه النظرية، لأن التواري بين عمل آدم في الشر لا يمكن أن يقوم أمام الذي عمله المسيح في إظهار بر الله بأي حال من الأحوال ، لأن المسيح لم يأت ليصلح ما أفسده آدم؛ بل جاء ليغير الطبيعة البشرية بجملتها ، كما قال المسيح ليولد الإنسان من جديد. فلا تواز على الإطلاق بين ما أفسده آدم وما عمله المسيح . كذلك يستحيل التوازي بين ما ورثناه نحن من آدم في الخطية وما ورثناه من المسيح في بر الله ، لأن الأول أخذناه في طبيعتنا والثاني أخذناء فوق الطبيعة من طبيعة الله .

تفسير رومية 4 تفسير رسالة رومية تفسير العهد الجديد تفسير رومية 6
 القمص متى المسكين
تفاسير رسالة رومية تفاسير العهد الجديد

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى