تفسير رسالة رومية اصحاح 11 للقديس يوحنا ذهبي الفم
تفسير رسالة رومية – الإصحاح الحادي عشر
وكما فعل القديس بولس في المسائل السابقة، وحتى لا تكون كلمته قاسية، وهو يشير إلى مفارقات بالنسبة للناموس وبالنسبة للشعب الذي كان يواجه إدانة أكبر من الإدانة الطبيعية، والذي تجاوز إلى أقصى الحدود العهد الذي نقضه ـ إذ تنازل عن أمور كثيرة ـ وهكذا فعل هنا أيضا إذ يقول:
” فأقول العل الله رفض شعبه؟ حاشا ” (رو1:11).
يتحدث كإنسان لديه شك أو حيرة، جاعلاً الكلام الذي قاله من قبل حافزا له، وبعدما أشار إلى هذا الأمر المخيف متسائلاً “العل الله رفض شعبه”، إستطاع أن يجعله مقبولاً، بعد أن نقض هذا الشعب عهده، وهذا ما حاول أن يظهره من خلال كل الكلام السابق، والذي يبيته هنا أيضا. وما هو الأمر الذي أظهره؟ إنه يتعلق بالذين خلصوا. فبرغم أنهم قليلون إلا أن الوعد قد تحقق. ولهذا لم يقل فقط ” الشعب” ولكنه أضاف ” الذي سبق فعرفه “.
ثم بعد ذلك أضاف الدليل على أن الله لم يرفض شعبه، ولم يبعدهم بعيدا عنه، إذ يقول: “لأني أنا أيضا إسرائيلي من نسل إبراهيم من سبط بنيامين “. أنا المعلم والكارز، لأنه قد أوضح أن هذا مناقض لما قيل من قبل، بالنسبة للذين قالوا ” من صدق خبرنا “؟ و” طول النهار بسطت يدي إلى شعب معاند ومقاوم ” و” أنا أغيركم بما ليس أمة “، ولم يكتف بنفي ذلك، ولا بقوله “حاشا”، ولكنه يدلل عليه مكررا هذا أيضا، بقوله:
” لم يرفض الله شعبه ” (رو2:11).
هكذا يوضح الرسول إن هذا ليس برهانا، بل إجابة. لاحظ إذا الدليل السابق والدليل الذي أتى بعد ذلك، لأنه أثبت بهذين الدليلين أنه ينحدر من أصل يهودي، ولكن هذا لم يكن ليحدث، لو أن الله كان قد رفضهم وأبعدهم بعيدا عنه، وما كان له أن يختاره من هذا النسل وهذا السبط ، لقد استأمنه على البشارة وعلى أمور المسكونة، وأيضا على كل الأسرار، وكل التدبير ، هذا إذا هو الدليل الأول، بينما الدليل الثاني هو قوله ” شعبه الذي سبق فعرفه “، أي شعبه الذي عرفه جيدا أنه كفؤ، وأنه سيقبل الإيمان. لأن من هذا الشعب آمن ثلاثة آلاف، وخمسة آلاف، وآلاف لا تُحصى.
إذن لكي لا يقول أحد هل أنت شعبه؟ وهل لأنك دعيت، دعي الأمم؟ أضاف: “لم يرفض الله شعبه الذي سبق فعرفه “. كما لو أنه قال، يوجد معي ثلاثة آلاف، معي خمسة آلاف، معي عشرة آلاف. ماذا إذا؟ هل هذا هو الشعب؟ وهل انحصر نسل هؤلاء اليهود في ثلاثة آلاف، وخمسة آلاف، وعشرة آلاف، وهم مثل نجوم السماء ومثل رمل البحر في العدد؟ هل إلى هذا الحد تُضللنا وتخدعنا، جاعلاً من نفسك ومن القليلين الذين معك شعباً كاملاً؟ لقد ملأتنا برجاء فارغ، قائلاً إن الوعد قد إكتمل، بينما الجميع هلكوا، والخلاص انحصر في قليلين؟ فهل هذه الأمور هي محل افتخار وتباهي كبيرين؟ لا يمكننا أن نحتمل مثل هذه السفسطات. إذا لكي لا يقولوا هذا الكلام، انتبه كيف أنه يقدم الحل في الكلمات اللاحقة، دون أن يشير إلى التباين، بل يبرهن على الحل قبل التباين، من خلال قصة قديمة.
5 ـ إذا ما هو الحل؟ ” ألا تعرفون ” إنه يقول أيضا ” ماذا يقول الكتاب في إيليا”؟ كيف يتوسل إلى الله ضد إسرائيل قائلاً
” أيها الرب إله الجنود، لقد قتلوا أنبياءك ونقضوا مذابحك فبقيت أنا وحدى وهم يطلبون نفسي ليأخذوها. لكن ماذا يقول له الوحي؟ أبقيت لنفسي سبعة آلاف رجل لم يحنوا ركبة لبعل فكذلك في الزمان الحاضر أيضا قد حصلت بقيه حسب اختيار النعمة ” (رو11: 3-5).
ما يقوله يعني الآتي: إن الله لم يرفض شعبه. فلو كان قد رفضه، لما كان قد قبل أحدا، وطالما أنه قد قبل البعض، فهذا معناه أنه لم يرفض شعبه. وإن كان لم يرفض شعبه، فهل يعني هذا أنه سيقبلهم جميعا؟ بالطبع لا، لأن الخلاص في عصر إيليا إنحصر في سبعة آلاف رجل، أما اليوم فيعد أمرا طبيعيا أن يكون الذين آمنوا كثيرين. أما إن كنتم تجهلون هذا الأمر، فهذا لا يعد غريبا ، فإيليا النبي، ذلك الرجل العظيم والبارز، لم يكن يعرف هذا الأمر. بل إن الله دبر هذا، على الرغم من أن النبي كان يجهله.
ولكن لاحظ حكمة الرسول بولس، في محاولته أن يثبت ما يقول. فإنه يكثر بشكل غير معلن من إدانتهم . ولهذا فقد أورد شهادة إيليا كاملة ، لكي يسخر من جحودهم، ويبرهن على أنهم كانوا منذ القديم جاحدين. لأنه لو كان يريد أن يبرهن على شيء واحد فقط، وهو أن عدد الشعب كان قليلاً، لكان قد قال إنه في عصر إيليا بقي سبعة آلاف، بينما الآن يقرأ كل الشهادة النبوية التي هي منذ القديم. لأنه إعتاد في كل مرة يتحدث فيها عن هذه الأمور، أن يبين أنها ليست المرة الأولى التي يتحدث فيها عن المسيح وعن الرسل، فقد سبق وسمعوا هذا الكلام كثيرا. ولكي لا يقول اليهود إننا قتلنا المسيح لأنه كان رجلا مضلاً، وإضطهدنا الرسل لأنهم كانوا خائنين، قدم الشهادة التي تقول “قتلوا أنبياءك ونقضوا مذابحك “. وبعد ذلك، وحتى لا يجعل كلامه ثقيلا، يشير – بالإضافة إلى هذه الشهادة ـ إلى سبب آخر. فهو لم يذكر هذه الشهادة، بقصد أن يتهمهم مسبقا ، بل لأنه يريد أن يبرهن على أمور أخرى. وبهذا يكونوا قد حرموا أنفسهم من كل مصالحة، لها علاقة بسلوكهم السابق .
لاحظ إذا كيف أن الإدانة تتجاوز الشخص الذي يدين. لأن ممثل الإتهام ليس هو بولس، ولا بطرس، ولا يعقوب، ولا يوحنا، بل هو ذاك الذي هو موضع إعجاب أكثر من الجميع، إنه هامة الأنبياء”، ذاك الذي جاهد هكذا لأجل خلاصهم، حتى أنه أسلم ذاته للجوع، ذاك الذي لم يمت بعد حتى اليوم. إذا ماذا قال “قتلوا أنبياءك ونقضوا مذابحك فبقيت أنا وحدي وهم يطلبون نفسي ليأخذوها “. ماذا يمكن أن يوجد أكثر سوءا من هذه الوحشية؟ لأنه بينما كان يجب أن يتوسلوا إلى الله من أجل خطاياهم التي ارتكبوها بالفعل، أرادوا أن يقتلوا هذا النبي أيضا. كل هذا قد حرمهم من كل مصالحة. لأن هؤلاء تجرأوا على فعل هذه الأمور، ليس عندما سادت المجاعة، بل عندما حل الرخاء، وانتفى الخجل، واستحت الشياطين، واستعلنت قوة الله، وخضع الملك، وهكذا تقدموا من قتل إلى قتل، فقتلوا معلميهم الذين كانوا يصححون لهم رؤيتهم. إذا ماذا يمكن أن يقولوا؟ هل هؤلاء أيضا كانوا خائنين؟ ربما لم يعرفوا من أين انحدر أولئك أيضا؟ هل سببوا لكم ضيقا؟ والمذابح، لماذا تنقضوها؟ هل هذه أيضا سببت لكم ضيقا؟
أرأيت كثرة المشاجرات الفظيعة، ومقدار الإهانات الكبيرة التي يظهرونها بصفة دائمة؟ ولهذا يقول الرسول بولس في موضع آخر عندما كتب إلى أهل تسالونيكي: “لأنكم تألمتم أنتم أيضا من أهل عشيرتكم تلك الآلام عينها كما هم أيضا من اليهود. الذين قتلوا الرب يسوع وأنبياءهم واضطهدونا نحن. وهم غير مرضين الله وأضداد لجميع الناس “. وهذا ما يقوله هنا بالتحديد، إنهم نقضوا المذابح وقتلوا الأنبياء. لكن ماذا كان رد الله عليهم؟ ” قد أبقيت في إسرائيل سبعة آلاف كل الركب التي لم تجتُ للبعل “. أي علاقة لهذه الأمور بالأمور الحادثة الآن؟ بالطبع لها علاقة بالأمور الحادثة الآن، بل وبشكل كبير جدا. لأنه من هنا يتبرهن على أن الله قد أظهر هذا الأمر منذ القديم من خلال كل ما قاله ” إن كان عدد بني إسرائيل كرمل البحر فالبقية ستخلص لأنه متمم أمر وقاض بالبر. لأن الرب يصنع أمرا مقضيا به على الأرض .. ولولا أن رب الجنود أبقى لنا نسلاً لصرنا مثل سدوم”. ويؤكد أيضا على إظهار هذا الأمر، ولهذا أضاف قائلاً “فكذلك في الزمان الحاضر أيضا قد حصلت بقيه حسب اختيار النعمة”.
انتبه لكل كلمة كما هي برونقها، إذ أن الكلمات تظهر نعمة الله، وتظهر كذلك امتنان الذين خلصوا. لأنه حين يقول فقط “اختيار” فهو يعني اختيارهم، لكن حين يضيف كلمة “النعمة” فإنه يظهر بذلك عطية الله.
” فإن كان بالنعمة فليس بعد بالأعمال. وإلا فليست النعمة بعد نعمة. وإن كان بالأعمال فليس بعد نعمة وإلا فالعمل لا يكون بعد عملاً” (رو11: 6).
مرة أخرى يعود إلى منازعات اليهود، موضحا أيضا حرمان هؤلاء من المسامحة أو العفو (فيقول لهم): لأنكم لم تستطيعوا أن تقولوا إن الأنبياء قد قاموا بدعوتنا، وإن الله توسل إلينا، أو كأنكم أردتم أن تقولوا : كان كافيا لكي يجذبنا، فقط أن يحثنا على الغيرة، بينما إضافة الوصايا كانت ثقيلة، ولهذا لم نستطع أن نأتي إلى الله، فالأنبياء طلبوا منا عملاً، وإنجازات مجهدة. وحتى هذا أيضا لم تستطيعوا أن تقولوه. لأنه كيف يطلب الرب منكم هذه الأمور، في اللحظة التي فيها سيكون هذا الأمر مناقضاً لنعمته؟ تكلم هذه الأمور، لأنه رغب في أن يظهر أنه أراد لهؤلاء ـ من كل قلبه ـ أن يخلصوا. لأن الخلاص المقدم لهم لم يكن سهلا، بل إن مجد الله العظيم قد أستعلن في محبته للبشر. إذا لماذا خشيت أن تأتي، طالما أنه لم يطلب منك أعمالاً؟ ولماذا تثور وتجادل، بينما النعمة موجودة، ولماذا تفضل الناموس عبئا وبدون سبب؟ لأنك لن تخلص بالناموس، بل وستُسيء إلى هذه النعمة. فإن كنت تصر على أن خلاصك يتحقق بالناموس، فإنك تمنع عنك نعمة الله، ولكي لا يعتقدوا أن هذا أمر غريب، قال مقدما، إن هناك سبعة آلاف قد خلصوا بالنعمة. وعندما يقول: ” فكذلك في الزمان الحاضر أيضا قد خلصت بقية حسب اختيار النعمة “، يظهر أن أولئك قد خلصوا بحسب النعمة. وليس هذا القول فقط، بل قال أيضا “أبقيت لنفسي”. لأن هذا هو ما يظهره، أي أن الله قد قدم الكثير.
وإن كان هذا الخلاص قد تحقق بالنعمة، فلماذا لم نخلص جميعا؟ الجواب: لأنكم لا تريدون، لأن النعمة بالرغم من كونها نعمة، إلا أنها تخلص الذين يقبلونها، وهي لا تخلص الذين لا يريدون أن يخلصوا ، بل ويتحولون عنها ويحاربونها دوما ويقاومونها. أرأيت كيف أنه يدلل على ما يقوله من خلال كل هذا، “لكن ألا يعني هذا إثبات عدم صدق كلمة الله “؟ بالطبع لا، بل أنه أراد أن يبين أن وعد الله هو للمستحقين، وأن هؤلاء وإن كانوا قليلين، إلا أنهم يمكن أن يكونوا شعب الله، وقد أشار في بداية الرسالة إلى ذلك بتشديد أكثر، قائلاً “فماذا إن كان قوم لا يكونوا أمناء. أفلعل عدم أمانتهم يبطل أمانة الله. حاشا. بل ليكن الله صادقا وكل إنسان كاذبا “. والآن أيضا هو يدلل على ذلك بشكل آخر، مبينا قوة النعمة، وأنه دائما يوجد من يخلصون، ومن يهلكون.
6 . لنشكر الله إذا، لأننا نحن ضمن هؤلاء الذين خلصوا، ولأننا لم نستطع أن نخلص بالأعمال، فقد خلصنا بعطية الله. لكن عندما نشكر، فينبغي ألا نشكر بالكلام فقط، بل بالأعمال والأفعال. لأن الشكر يكون صحيحا، عندما نفعل الأمور التي بها يتمجد الله، وعندما نتجنب الأمور العتيقة التي سبق أن تحررنا منها. وبالرغم من أننا قد احتقرنا الملك، إلا أنه قد كرمنا بدلا من أن يعاقبنا، لكن لو أننا احتقرناه مرة أخرى، فإننا سنعاقب عن حق بأسوأ أنواع العقاب، وأكثر بكثير من السابق. لأن إساءتنا السابقة لم تظهر لنا أننا جاحدين، بقدر الإساءة التي نوجهها بعد الكرامة التي نلناها ، والرعاية الكبيرة التي حصلنا عليها، لنتجنب إذا تلك الأمور التي تحررنا منها، ولا ينبغي أن نشكر فقط بالفم حتى لا يقال لنا ” وهذا الشعب قد اقترب إلي بفمه وأكرمني بشفتيه وأما قلبه فأبعده عني”. كيف إذا لا يكون غريبا عندما تسبح السموات بمجد الله، تلك السموات التي خلقت لأجل هذا الغرض، وأنت تصنع مثل هذه الشرور، حتى أنه يجدف على الله الذي خلقك، بسببك؟
ولهذا فإنه ليس فقط من يجدف هو الذي سيعاقب، بل وأنت أيضا. لأن السموات لا تسبح الله بالصوت، لكنها تُعد الآخرين لهذا التسبيح عندما ينظرون إليها، إلا أنه يقال إن السموات تتحدث بمجد الله. هكذا كل من يحيا حياة الفضيلة بطريقة نقية، حتى وإن صمتوا ، فإنهم يمجدون الله، لأن بسببهم يمجده آخرون أيضا، لأن السموات لا تمجد الله، بنفس القدر الكبير، الذي يتمجد به عن طريق الحياة النقية. فعندما نتناقش مع اليونانيين، لا تقدم لهم السماء، بل أولئك البشر، الذين سلكوا بصورة أسوأ من الوحوش، إلا أنهم تحولوا وصاروا في مرتبة متساوية مع الملائكة. وعندما نتكلم عن هذا التحول، فإننا نغلق أفواههم. لأن الإنسان هو أفضل بكثير من السماء، ويمكن أن يصبح أكثر بهاء من جمال السماء، لأنهم كانوا قد نظروا إلى السماء سنوات عديدة، ومع ذلك لم ثقنعهم كثيرا، بينما الرسول بولس برغم أنه كرز لسنوات قليلة، إلا أنه جذب كل المسكونة.
بالحقيقة هو يحمل نفسا ليست أقل من السماء، وقد استطاعت أن تجذب الجميع. أما نفوسنا نحن فليست مساوية في القيمة لأي شيء ولا حتى للأرض، بينما قيمة نفسه، مساوية للسماء، لأن السماء مازالت تحتفظ بحدودها وقانونها، بينما سمو نفس الرسول بولس فاق كل السموات، ودخلت نفسه في حالة ألفه مع المسيح. وكان جمالها قد بلغ حدا كبيرا ، حتى أن الله قد اختصه بالاختيار، لأن الملائكة قد اندهشت لجمال النجوم عندما خلقت، بينما الرسول بولس قد سر به الله، قائلاً: ” هذا لي إناء مختار ‘. وهذه السماء تحجبها السحب مرات عديدة، ولكن نفس الرسول بولس لم تحجبها أي تجربة، بل في الشتاء كانت تبدو أكثر بهاءً من شروق الشمس وهي في متنصف النهار . لأن الشمس التي تنير نفس القديس بولس، لم تحتجب أشعتها نتيجة تراكم التجارب، لكنها أشرقت أكثر. لهذا قال “تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تكمل “.
إذن فلنتشبه بالقديس بولس، لأنه ليس هناك شيء يساوي قيمة النفس، لا هذه السماء ولا الشمس، ولا العالم كله، لأن هذه الأشياء صارت من أجلنا، وليس نحن الذين صرنا من أجلها، لو أردنا أن تصير نفوسنا مثل نفس الرسول بولس. فلنبرهن على أننا مستحقون، لأن هذه الأشياء قد صارت من أجلنا. قلو أننا ظهرنا غير مستحقين لهذه الأمور، فكيف نصير مستحقين للملكوت؟ كذلك فإن أولئك الذين يعيشون للتجديف على الله، هم غير مستحقين لرؤية الشمس، ولا التمتع بالمخلوقات التي تمجد الله، لأن الابن أيضا الذي يحتقر والده، يكون غير مستحق أن يتمتع بخدمة الخدام الذين يكرمونه. ولهذا فإن هؤلاء سيتمتعون بمجد كبير، أما نحن فسنعاني عذاب الجحيم، وسنكون مستحقين للعقاب. فيا لها من تعاسة، أن الكون الذي خلق لأجل حرية مجد أولاد الله، يتغير شكله، بينما نحن الذين خلقنا أولادا لله، ننقاد إلى الهلاك بسبب لامبالاتنا الكبيرة، رغم أن الكون سيتمتع بهذا المجد الكبير بسببنا؟
ولكي لا يحدث هذا ، فبقدر ما لنا من نفس نقية فلنحفظها هكذا، أو من الأفضل أن نزيدها بهاء، بينما لا يجب أن يصيبنا اليأس بسبب عدم نقاء نفوسنا. ” هلم نتحاجج يقول الرب إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج. إن كانت حمراء كالدودي تصير كالصوف”. لكن الله عندما يعد، فيجب ألا تتشكك بل أن تفعل تلك الأمور التي تستطيع بها أن تحصل على هذه الوعود. هل فعلت شرورا لا تحصى وهل أخطأت؟ وما أهمية هذا؟ لماذا لم تذهب بعد إلى الجحيم، الموضع الذي فيه لا يستطيع أحد أن يقر أو يعترف بخطاياه، لم ينته جهادك بعد، بل انهض بعزيمة داخل الحلبة، ويمكنك أن تنتصر على كل الهزائم في الجولة الأخيرة . أنت لم توجد بعد في مكان الرجل الغنى، لكي تسمع “بيننا وبينكم هوة عظيمة “. لم يأت العريس بعد، ولن يخف أحد ويمنع عنك الزيت، مازال في إمكانك أن تشتريه وتدخره، ولن يوجد من يقول “لا يكفي لنا ولكن ، فأولئك الذين يبيعونه هم كثيرون: العراة، والجوعى، والمرضى، والمسجونين. أعطى طعاما للجوعى، وأكسى العراة، وداوم على زيارة المرضى، وسيأتي الزيت بوفرة من منابعه.
لم يأت بعد يوم الدينونة. استفد من الوقت كما ينبغي، وسدد الديون، قل لمن هو مدين بمئة بث زيت، ” خذ صكا .. واكتب خمسين “. افعل نفس الشيء بالنسبة للمال، والكلام، وفي كل شيء، متبعا مثال ذلك الوكيل. وهذه الأمور إنصح بها نفسك، وأقرباءك. لأنك لاتزال سيد الموقف، ويمكنك أن تقول ذلك، فأنت لست في احتياج أن تترجى آخرا لأجل هذه الأمور، بل يمكنك أن تنصح بها نفسك وآخرين أيضا. أما عندما تنتقل إلى الحياة الأخرى، فلن تستطيع أن تفعل أيا من هذه الأمور كما ينبغي، أنت يا من لأنك أخذت كل هذه المهلة الكبيرة، ولم تكن مفيدا ، لا لنفسك ولا للآخرين، فكيف سيمكنك أن تنال هذه النعمة حين تقف بين يدي الديان العادل؟
7 ـ إذن لنستجمع كل هذه الأمور، ولنسع نحو خلاصنا بشدة، ولا نترك فرصة الحياة الحاضرة. لأنه من الممكن أن نصير مقبولين أمام الله في اللحظات الأخيرة من حياتنا. من الممكن أن تُكرم أو تستر من خلال تعهدنا أمام الله. لكن كيف وبأية طريقة؟ يحدث هذا إن تركت وصية لذاك المحتاج مع ورثتك، وتركت له نصيبا من كل ثروتك. هل قدمت له طعاما عندما كنت في هذه الحياة؟ فعلى الأقل طالما أنك ستموت ولن تكون بعد سيدا، فعليك أن تعطى للمحتاج مما لك. الرب هو محب البشر، ولا يطلب منك أن تتوخي الدقة في كل شيء، فقط أن تُغذي المحتاج، وتجزل له العطاء وأنت لازلت في هذه الحياة الحاضرة، فهذا يعد نموذجا للرغبة القوية في المكافأة العظيمة، فإن كنت لم تفعل هذا، فعلى الأقل تقدم نحو الأمر الثاني، أي أترك له نصيبا في ثروتك، اجعله شريكا لورثتك، مع أولادك. أما إذا ترددت في فعل هذا ، ففكر في أن أباه السمائي قد جعلك وارثا له (أي للآب)، وضع حدا لجشعك. فأى دفاع ستُقدم، عندما لا تجعل ذلك المحتاج” شريكا لأولادك، إنه ذاك الذي جعلك شريكا في ملكوت السموات، وذبح لأجلك؟ وإن كان من المؤكد أن كل ما فعله، لم يكن بهدف أن ترد له الدين، بل كل ما فعله هو على سبيل النعمة، إلا أنك بعد كل هذه الإحسانات، صرت مديوناً.
لكن بالرغم من أن هذه الأمور هي هكذا ، وحيث إنك تأخذ النعمة، لا أن ترد له الدين، إلا أنه يتوجك، بينما هو يأخذ مما له. إذا فلتعط لذاك المحتاج (المسيح) مالاً لم يعد له نفع لك، خاصة وأنك لست بعد سيدا (على هذا المال)، وسيعطيك الملكوت الذي سيكون مفيدا ونافعا على الدوام، وبالإضافة للملكوت، سيهبك أمور العالم الحاضر. لأنه إن صار شريكا في ميراث أبنائك، فإنه سيخفف عنهم اليتم، وسيبطل الدسائس، ويصد عنهم السهام، ويغلق أفواه الواشين. وإن كان هؤلاء لن يستطيعوا الحفاظ على العهود بعد، فإن المسيح سيحفظها، ولن يتركها تنقض. لكن إن سمح أن يحدث هذا، فإنه سيدفع أو يسدد المكتوب في العهود والمواثيق كلها بسخاء عظيم، وذلك مما له، لأن كرامة العهد هي في عدم العدول عنه . إذا اترك ذاك (المحتاج) أن يصير وريثا لك، والمسيح، سيعوضك بالعدل عن كل ما فعلته هنا.
بيد أن بعض من البائسين التعساء، الذين وإن كانوا لم ينجبوا أبناء، إلا أنهم لا يحتملون أن يصنعوا هذا (أي أن يجعلوا المسيح وريثا لهم)، بل يفضلون أن يوزعوا ما يمتلكون على المتطفلين، والمنافقين، وعلى هذا وذاك، بدلاً من أن يعطوا للمسيح الذي أسعدهم كل هذه السعادة الكبيرة. فهل هناك ما هو أكثر غرابة مما يفعله هؤلاء؟ لأن مثل هؤلاء الناس لا يقارنهم أحد بأي من مخلوقات الله، إذ لا يستطيع أن يقول شيئا ذي قيمة عن غبائهم وعدم إحساسهم، ولا يمكن أن يجد أي صورة تعبر عن جنونهم وإنحلالهم . إذا أي غفران سيناله هؤلاء، إذ أنهم لم يطعموا المسيح عندما كانوا على قيد الحياة، وحين كانوا مهيئين أن ينتقلوا إليه، لم يقدموا من أموالهم، ولو جزء يسيرا، رغم أنه لم يعد لهم سلطان بعد عليها، لكنهم سلكوا ببغضة وعداوة، بل إنهم لم يعطوا الفقراء حتى من تلك الأشياء التي صارت بلا نفع بالنسبة لهم؟ ألم تر كم من هؤلاء الناس لم يكونوا مستحقين لهذه النهاية، وقد ماتوا فجأة؟ بينما أنت فقد أعطاك الله الإمكانية أن تترك وصية فيما يتعلق بثروتك كل ما هو موجود في بيتك.
إذن أي مبررا ستقدم، حين تكون قد أخذت هذه النعمة من المسيح، ثم تخون هذا الاحسان، وتقف خارج الدائرة، ضد إيمان آبائك؟ لأن أولئك عندما كانوا على قيد الحياة، باعوا كل شيء ووضعوه عند أقدام الرسل”، أما أنت ولا حتى عندما تقترب من الموت، تُعطي أيضا حصة معينة من ثروتك لأولئك الذين هم في احتياج. والأفضل بالطبع ـ وهو الأمر الذي يمثل سخاء كبيرا ـ أن تُخفف من حالات الفقر، وأنت في هذه الحياة الحاضرة. وإن لم ترد فعل هذا، فعلى الأقل عند موتك اصنع شيئا نبيلاً. هذا لا يعد نموذجا لمحبة قوية للمسيح، إلا أنه يعد نموذجا لمحبة قليلة. لأنه وإن كنت بعد لم تكتسب المكانة الأولى بين الخراف، إلا أنه ليس بالأمر الهين أن توجد على الأقل وسط الخراف، وليس بين الجداء، ولا على اليسار. لكن إن لم تفعل ولا حتى هذا الأمر، فأي مبررا سيخلصك، حين لا يجعلك ولا حتى الخوف من الموت، محبا للناس، ولا الأموال أيضا ستفيدك لأنها ستصير بلا نفع فيما بعد، ولا يمكنك التذرع بأنك تريد أن تترك تأمينا لأبناءك؟
ولهذا فإني أرجوكم، أن تتركوا الجزء الأكبر من ثروتكم، لمن هم في احتياج وأنتم لاتزالون في هذه الحياة، لكن إن كان البعض مصابا بصغر النفس إلى هذا الحد، حتى أنهم لا يحتملون أن يفعلوا هذا، فعلى الأقل فليكونوا محبين للناس المحتاجين. لأنه عندما كنت في هذه الحياة، كنت تتعامل مع الأشياء، كانك غير مائت، أما الآن فنظرا لأنك علمت أنك فان، فعلى الأقل الآن تخلى عن إيمانك بأنك خالد، وكإنسان فان فكر فيما يخصك، أو من الأفضل القول فكر كشخص سيتمتع على الدوام بالحياة الأبدية.
لأنه وإن كان ما سيقال يعتبر أمرا يبعث على الضيق ومملوءا فزعا، إلا أنه ينبغي أن يقال، لقد أحصي السيد الرب مع عبيدك، فهل تُحرر العبيد؟ حرر المسيح إذا من الجوع، من الاحتياج، من السجن، ومن العري. أترتعب عند سماع هذه الأمور؟ إذا سيكون الأمر أكثر فزعا عندما لا تصنعها وأنت في هذه الحياة، بالطبع هذا الكلام يجعلك تقشعر، لكن عندما تنتقل إلى هناك (أي للحياة الأبدية)، ستسمع أمورا أكثر رعبا من هذه، وسترى العذابات التي لا تحتمل، فماذا ستقول؟ إلى من ستلجأ؟ ومن ستدعو ليكون ناصرا ومعينا؟ هل ابراهيم؟ لكنه لن يسمع، هل أولئك العذارى الحكيمات؟ ولا هؤلاء سيعطونك زيئا. هل الأب؟ هل جدك؟ ولا واحد من هؤلاء لديه القوة أن ينقض ذلك الحكم، حتى لو كان قديس عظيم.
إذن فلتفكر في كل هذه الأمور، في ذاك الذي له وحده القدرة على أن يمزق الصك الذي عليك، وأن يطفئ ذلك اللهيب . ليتك تترجاه وتتضرع إليه، واجعله من الآن مترفقا بك ومعينا لك، قدم له المأكل والملبس على الدوام، لكي ترحل من هنا، برجاء صالح، وعندما تصل إلى هناك إلى الحياة الأبدية، تتمتع بالخيرات الأبدية. والتي ليتنا جميعا ننالها بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح، الذي يليق به مع الآب والروح القدس المجد والقوة والكرامة إلى أبد الآبدين آمين.
العظة العشرون: رو11: 7-
1 ـ ” فماذا. ما يطلبه إسرائيل ذلك لم ينله؟ ولكن المختارون نالوه. واما الباقون فتقسوا ” (رو7:11).
لقد أكد الرسول بولس إن الله لم يبعد شعبه بعيدا عنه، ولكي يظهر كيف أنه لم يرفضه، لجأ مرة أخرى إلى الأنبياء، وبعدما أعلن مع هؤلاء، أن الجزء الأكبر من اليهود قد هلكوا، ولكي لا يظهر أيضا أنه يعبر عن الإدانة بشكل شخصي، وأنه يتعمد أن يجعل كلامه قاسيا، ويتوجه نحوهم كعدو، فإنه يلجأ إلى داود وإشعياء، قائلاً:
” كما هو مكتوب وأعطاهم الله روح سبات ” (رو8:11).
لكن من الأفضل أن نبدأ الحديث من الأمور القديمة. لأنه بعدما تكلم عن الأمور التي تتعلق بإيليا، وبعدما أظهر ماهية النعمة، أضاف ” فماذا ما يطلبه إسرائيل ذلك لم ينله”؟ إلا أن هذا لا يقوله إنسان يسأل، بل إنسان يدين. لأنه يتحدث لنفسه، إن اليهودي يصارع من أجل طلب البر، الذي لا يريد أن يأخذه. ثم بعد ذلك يحرمهم أيضا من الصفح. مظهرا جحودهم بالمقارنة بهؤلاء الذين نالوا البر، قائلا: “ولكن المختارون نالوه”. وهؤلاء المختارون قد أدانوا أولئك الجاحدين. هذا ما قاله المسيح له المجد بالضبط ” فإن كنت أنا ببعلزبول أخرج الشياطين فأبناءكم بمن يخرجون لذلك هم يكونون قضاتكم.
إذن لكي لا يتهم أحدا طبيعة الشيء، بل يدين رغبتهم، فهو يشير أيضا إلى أولئك الذين نالوه (أي البر). ولهذا يستخدم الكلمة بتشديد كبير جدا ، ولكي يظهر نعمة الله، ويظهر محاولتهم أيضا . وبالطبع فهو لا يريد أن يبطل حرية الإرادة، لذلك قال ” نالوه”، بل لكي يعلن أيضا عن مقدار الخيرات أو النعم، وأن الجزء الأكبر مرتبط بالنعمة، وليس الكل، خاصةً وأننا اعتدنا أن نقول، إن هذا نال، وذاك حقق شيئا، عندما يكون الأمر متعلقاً بربح كبير جدا. إن الجزء الأكبر لم يتحقق بجهد إنساني، لكن بالعطية الإلهية. ” أم الباقون فتقسوا “. انتبه متى تجرأ على الحديث عن رفض الباقين. لأنه تكلم عن الرفض من قبل، حين عرض للأنبياء كديانيين. بل هو نفسه هنا، يعبر عن رأيه، ولكنه لا يكتفي يعرض وجهة نظره، بل يقدم إشعياء النبي لأنه بعدما قال “تقسوا” أضاف “كما هو مكتوب أعطاهم الله روح سبات “.
ومن أين أتت هذه القسوة؟ لقد أورد الأسباب لاحقا، وحول كل شيء ضدهم، مبينا أنهم دخلوا في هذا السبات بسبب منازعات باطلة، لكنه يشير إليها الآن. لأنه عندما يقول: ” وعيونا حتى لا يبصروا وآذانا حتى لا يسمعوا إلى هذا اليوم “، فإنه لا يدين شيئا ، سوى رغبتهم في النزاع، لأنهم بالرغم من أن لهم عيونا لكي يروا المعجزات، وآذائا ليسمعوا كل التعاليم المدهشة ، فإنهم لم يستخدموا أيا من هذه الأمور كما ينبغي. وكلمة “أعطى” هنا لا تعني العمل، بل الرضا أو القبول. وكلمة “سبات” هنا، تعني أيضا أسوأ ما في النفس، والذي هو عدم القابلية للشفاء، والجمود. كذلك فإن داود النبي يقول في موضع آخر “لكي تترنم لك روحي ولا تسكت “٢٨. أي لن أنتقل أو أتحول. لأنه تماما كما أن ذاك الذي تعمق في التقوى، لا يستطيع ان ينتقل عنها بسهولة، هكذا من تعمق في الشر، لن يتحول عنه بسهولة. إذا ما هو العمق إلا أن يثبت المرء في مكان ما، وأن يبقى راسخا فيه . ولكي يعلن كيف أن رغبتهم غير قابلة للشفاء، وكم يصعب تغييرها ، قال “روح سبات”.
٢ ـ بعد ذلك، ولكي يظهر أنهم سيعاقبون بأشد العقاب، بسبب عدم الإيمان، فإنه يعرض مرة أخرى للنبي الذي يهدد بكل هذه الأمور التي تحققت واكتملت ،
” لتصر مائدتهم فخاً وقنصاً وعثرة ومجازاة لهم لتظلم أعينهم لكي لا يبصروا ولتحن ظهورهم كل حين ” (رو9:11۔10).
هذا يعني أن كل المتع والخيرات ستتحول وستزول، وسيهزموا بسهولة من الجميع. ولكي يعلن أنهم سيدانون بسبب خطاياهم، أضاف ” ومجازاة لهم”.
ثم يقول “لتظلم أعينهم كي لا يبصروا ولتحن ظهورهم في كل حين “. إذا هل تحتاج هذه الأمور لتفسير معين، أليست واضحة لدى أكثر الناس غباءا؟ وقبل كلامنا عن هذا الشأن، فإن عاقبة الأمور تثبت وتؤكد ما قيل. إذا متى صارت هزيمتهم سهلة، بهذا القدر؟ متى صاروا خانعين؟ متى انحنت ظهورهم إلى هذا الحد؟ متى عانوا مثل هذه العبودية؟ والأكثر من هذا، أنه لن يوجد خلاص من هذه المآسي، الأمر الذي أشار إليه النبي. لأنه لم يقل فقط ” لتحن ظهورهم ” بل قال أيضا ” كل حين “.
لكن إن كنت أيها اليهودي تُنازع حول النهاية، فلتعرف الأمور الحاضرة ، من خلال الأمور السابقة. لقد نزلت إلى مصر، وبقيت هناك مدة مائتي عام، والله خلصك من تلك العبودية سريعا، وكل هذا حدث، على الرغم من عدم تقواك، وممارستك لأسوأ أنواع الزنا . تحررت من عبودية المصريين، وسجدت للعجل الذهبي، وضحيت بأبنائك للبعل (فاغور)، دنست الهيكل، ومارست كل أنواع الشرور، لم تعرف الطبيعة، والحدود، والوديان، والجبال، والمنابع، والأنهار. ملأت الحدائق بذبائح ملوثة ، ذبحت أنبياء، هدمت مذابح، وأظهرت كل زنا وكل جحود بشكل مبالغ فيه. وعندما سلمك إلى البابليين سنة، أعادك مرة أخرى إلى الحرية السابقة، اعادك إلى الهيكل والوطن، وإلى الشكل القديم من نظام الحكم، ومرة أخرى يعود الأنبياء وتعود نعمة الروح، وحتى في زمن السبي، لم يتركك، بل كان هناك دانيال، وحزقيال، وفي مصر كان إرميا، وفي البرية كان معك موسى . وبعد كل هذا رجعت إلى الشرور السابقة، صرت مهووسا، وانتقلت إلى طريقة الحياة الوثنية في عصر أنطيوخوس الجاحد. لكن بعد ثلاثة سنوات أو أكثر بقليل، من استسلامكم لأنطيوخوس، أقمتم النصب مع المكابيين مرة لمدة سبعين أخرى.
أما الآن فلا يوجد شيئا مثل هذا ، لكن على العكس تماما فقد حدث ما يدهش له المرء للغاية، إذ الشر قد انقضى، بينما العقوبة تزايدت، ولا يوجد رجاء للتغيير. لأنه لم ينقضي سبعون عاما، أو مائة، أو مائتان فقط، بل ثلثمائة عام وأكثر بكثير، وليس في مقدور أحد أن يجد ظلال مثل هذا الرجاء. وقد حدث كل هذا دون أن تكونوا وثنيين، ولا فعلتم الأمور الأخرى التي تجرأتم على فعلها من قبل . إذا ما هو السبب في ذلك؟ السبب هو أن الحقيقة حلت محل الرمز، والنعمة أبعدت الناموس بعيدا ، هذه الأمور هي التي سبق وتنبأ بها النبي منذ البداية، قائلاً: “لتحن ظهورهم كل حين “. أرأيت مدى دقة النبؤة، كيف سبق وأنبأ بعدم الإيمان، وكشف عن النزاع وعن العقاب الذي سيتبع هذا، وأوضح مدى هول الجحيم الأبدي؟ لأن كثيرين من الحمقى يتشككون فيما يختص بأمور بالدهر الآتي، ويريدون أن يروا هنا في هذه الحياة الحاضرة، الأمور المستقبلية، والله قد أعطى ـ من جهة الحاضر والمستقبل – الدليل على قدرته. فقد سما بأولئك الذين آمنوا من الأمم، أعلى من السماء، وهبط بأولئك الذين لم يؤمنوا من اليهود إلى عمق الهاوية، وسلمهم إلى قيود الشر.
3 ـ بعدما بكتهم بشدة، لعدم إيمانهم بتلك الأمور، وأيضا بعدما تحدث عن معاناتهم، وعن ما سيعانونه، فإنه يعزيهم مرة أخرى بشان الأمور السابقة، قائلاً:
” ألعلهم عثروا لكي يسقطوا. حاشا ” (رو11:11).
عندما أظهر كيف أنهم مسئولون عن شرور كثيرة، فإنه قدم التعزية. ولاحظ حكمة الرسول بولس، فهو يشير للإدانة من قبل الأنبياء، بينما التعزية يقدمها هو نفسه. لا يوجد من يعترض على أنهم ارتكبوا خطايا كبيرة، لكن لنر إن كان سقوطهم هو هكذا، حتى وإن كان سقوطاً فظيعا وغير قابل للإصلاح، إلا إنه ليس كذلك. أرأيت كيف أنه يؤنبهم مرة أخرى، وكيف أنه برجاء التعزية، يجعلهم مسئولين عن خطاياهم التي أقروا بإرتكابها؟ لكن لنر أية تعزية يقدم لهم. فما هي هذه التعزية؟ هي أنه عندما يدخل ملؤ الأمم. هكذا سيخلص جميع إسرائيل ” أي زمن المجيء الثاني ونهاية العالم.
وهو لم يقل هذا مباشرة، إذ أنه إتهمهم بشدة، وأضاف إتهامات إلى الإتهامات، ويقدم أنبياء بعد أنبياء يصرخون ضدهم، إشعياء وإيليا وداود ، وموسى وهوشع، يصرخون مرة ومرتين ومرات عديدة، ولكي لا يسحقهم هكذا، ويقودهم إلى اليأس، فهو يحضهم على الرجوع إلى الإيمان. وأيضا لكي لا يقود أولئك الذين آمنوا من الأمم إلى الافتخار، إذ أنهم يؤذون أنفسهم عندما يفتخرون في موضوع الإيمان. لذلك يعزيهم مرة أخرى، قائلاً: ” بل بزلتهم صار الخلاص للأمم “. لكن ينبغي علينا ألا نسمع هذا الكلام بغير اكتراث، بل يجب أن نعرف رغبة وهدف قائله، وماذا أراد أن يحقق؟ إنه الأمر الذي أترجى محبتكم أن تعرفوه . لأنه لو قبلنا الأمور السابقة بهذا الفكر، فلن نجد أية صعوبة في أي منها. إن محاولته آنذاك، كانت تهدف إلى أن يبعد الزهو أو الافتخار، الذي كان من الممكن أن ينشأ لدى المؤمنين القادمين من الأمم. لأن هؤلاء كان ينبغي أن يبقوا في إيمان راسخ بأكثر ثبات، بعدما تعلموا أن يكونوا متواضعين. أما أولئك القادمين من اليهود ، فبعدما يتخلصون من اليأس، يأتون برغبة أكثر إلى النعمة.
فلننتبه إذا إلى هذا الهدف، ولنستمع إلى كل ما يقال في هذا الجزء. حسنا ماذا يقول؟ ومن أين يتضح أنهم لم يسقطوا بصورة لا تقبل الاصلاح، وأنهم لم يرفضوا في النهاية؟ يتضح هذا، مما حدث للأمم، لأنه يقول ” بل بزلتهم صار الخلاص للأمم لإغارتهم “. وهذا الكلام لم يناد به الرسول بولس فقط، بل إن الأمثال التي ذكرت في الأناجيل تقول نفس الشيء. لأن ذاك الذي صنع عرسا لابنه، وحدث أن رفض المدعوون الدعوة، دعا الذين هم في مفترق الطرق”. وذاك الذي غرس كرما، وحدث أن ذبح الكرامون الوارث، سلم الكرم لآخرين. وبدون مثل قال عن الأمم ” لم أرسل إلا لخراف بيت إسرائيل الضالة “، ولإمرأة صرفة صيدا قال شيئا أكثر من ذلك، قال: “ليس حسنا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب.
هكذا تكلم الرسول بولس أيضا قائلا لليهود الذين قاوموه: ” كان يجب أن تكلموا أنتم أولا بكلمة الله ولكن إذ دفعتموها عنكم وحكمتم أنكم غير مستحقين للحياة الأبدية هوذا نتوجه إلى الأمم ” . ويتضح من كل هذا أن ترتيب كل هذه الأمور كان مرتبط بعودة هؤلاء اليهود إلى الإيمان أولاً، ثم بعد ذلك يأتي الذين من الأمم، ولكن لأن اليهود لم يؤمنوا ، فقد تغير هذا الترتيب، وتسبب عدم إيمانهم وخطيتهم في مجيء الأمم أولاً للخلاص . ولهذا يقول: ” بزلتهم صار الخلاص للأمم لإغارتهم “. لكن إن كان يشير إلى الحدث الذي سيحدث، كما لو كان قد حدث بالفعل، فلا تشك، لأنه يريد أن يعزي نفوسهم المجروحة. وما يقوله يعني الآتي: إن يسوع أتى لليهود ، ولم يقبلوه – على الرغم من أنه صنع معجزات لا حصر لها ـ بل وأقدموا على صلبه، بعد ذلك جذب الأمم حتى تسبب الكرامة التي أعطيت للأمم، في تحريك مشاعرهم المتجمدة وتقنعهم بأن يأتوا إلى الإيمان، على الأقل بتأثير الغيرة من الآخرين. لأنه كان ينبغي على اليهود أن يقبلوا المسيح أولا، ثم نأتي نحن الأمم بعدهم، ولهذا قال القديس بولس “لست أستحي بإنجيل المسيح لأنه قوة الله للخلاص لكل من يؤمن لليهودي أولا ثم لليوناني”، لكن لأن هؤلاء اليهود ابتعدوا ، دخل الأمم إلى الإيمان أولا. أرأيت مقدار الكرامة التي ينسبها لهؤلاء (أي للأمم) في هذه الحياة الحاضرة أيضا؟ أولاً أننا دعينا، عندما رفض هؤلاء اليهود الدعوة. ثانيا من أجل هذا (أي من أجل أنهم رفضوا) دعينا نحن، لا لكي نخلص نحن فقط، بل لكي يصير هؤلاء أفضل، عندما يغارون من خلاصنا. إذا ماذا يقول؟ لو لم يكن اليهود هم السبب، هل ما كنا قد دعينا، وما كان لنا خلاص؟ بالطبع كان سيدعونا، لكن ليس قبل هؤلاء، بحسب الترتيب الذي يجب أن يكون. لذلك عندما تكلم المسيح مع تلاميذه، لم يقل فقط، اذهبوا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة، بل قال ” اذهبوا بالحري إلى خراف بيت إسرائيل الضالة”87″، أي يجب أن يذهبوا إلى خراف بني إسرائيل أولاً ثم بعد ذلك إلى خراف الأمم. والقديس بولس أيضا لم يقل إنه كان يجب أن تُكلموا بكلمة الله، بل قال ” كان يجب أن تكلموا أولا بكلمة الله ” لكي يبين أنه بعد ، الكلام بكلمة الله لليهود أولاً، كان يجب أن يكرز بالكلمة لنا نحن الأمم، وهذه الأمور قد حدثت وقيلت، لكي لا يكون لديهم حجة سمجة أو تافهة بأنه قد تجاهلهم لعدم إيمانهم . إذا فلأجل ذلك، وبرغم أن المسيح كان يعرف كل هذا مسبقاً، إلا أنه جاء أولاً لليهود.
4 ـ ” فإن كانت زلتهم غنى للعالم ونقصانهم غنى للأمم فكم بالحرى ملؤهم” (رو12:11).
إنه يتكلم هنا برفق عن هؤلاء. لأنهم وإن أخطأوا آلاف المرات، فلن يخلص الأمم إن لم يظهروا إيمانا، كما أنه من المؤكد أيضا أن اليهود ما كانوا قد ضلوا لو لم يرفضوا الإيمان، ولو لم يتنازعوا فيما بينهم . لكن كما سبق وأشرت، أنه يعزيهم، بينما هم محبطين، ويعدهم لمستوى أسمى، بألا يخافوا على خلاصهم، إن غيروا رؤيتهم وآمنوا بالمسيح. إذا إن كانوا عندما رفضوا، قد دعيوا إلى هذا المستوى، فكر ما الذي سوف سيحدث حين يعودون. لكنه لم يقل هذا، أي أنه لم يقل عندما يعودوا. لأنه لم يقل كم بالحرى عودتهم، ولا تحولهم، ولا تمكنهم من تحقيق شيء، لكنه قال ” كم بالحرى ملؤهم “، أي عندما سيحدث أن يأتوا جميعا. هذا قاله، لكي يظهر أن الأكثرية سترتبط عندئذ بنعمة الله، وبعطية الله، بل بالحري كأنه يقول إنهم سيرتبطون بهذه النعمة.
” فإني أقول لكم أيها الأمم بما إني أنا رسول للأمم أمجد خدمتي لعلي أغير أنسبائي وأخلص أناسا منهم” (رو13:11-14).
مرة أخرى يحاول أن ينفي عن نفسه أي شبهة سيئة. ومن الواضح أنه يوبخ المسيحيين الذين أتوا من الأمم، معلما إياهم أن يتضعوا في سلوكهم وتصرفاتهم، بينما يثير اليهود رويدا رويدا، ويحاول أن يحد وأن يقلل من هلاكهم بهذا القدر الكبير، إلا أنه لم يجدهم جديرين بشيء بسبب طبيعة أوضاعهم. إذ كانوا يستحقون إدانة أكبر من التي ذكرها، لأن الأمور التي كانت معده لهم، قد أخذها آخرون وإن كانوا في مرتبة أدنى منهم. ولذلك انتقل من الحديث عن اليهود، وذهب إلى المسيحيين الذين أتوا من الأمم، وبدأ يحصر حديثه فيهم، لأنه أراد أن يبرهن لهم، أنه يقول كل هذه الأمور، لكي يعلمهم أن يكونوا متضعين. لأنه يقول، إني أمتدحكم لأمرين، الأول لأنني تعهدت بخدمتكم، والثاني، لكي أخلص آخرين بواسطتكم، ولم يقل اخوتي وأقاربي، لكن ” أنسبائي (حسب الجسد) “.
بعد ذلك، ولكي يظهر مشاحناتهم، لم يقل ربما أقنع، لكنه قال: ” لعلي أغير .. وأخلص ” ولم يتكلم هنا عن الجميع، بل عن “أناسا منهم”. كم كانوا قساة، لكنه بهذا التوبيخ يظهر أيضا الأمور المشرقة المختصة بالأمم، الذين قد صاروا سببا لخلاص هؤلاء (اليهود). أي بينما صار اليهود دافعا لخيرات كثيرة للأمم بسبب عدم إيمانهم، إلا أن الذين آمنوا من الأمم، قد صاروا سببا لخلاص اليهود ، بسبب إيمانهم، وبناء على ذلك فمن الواضح أن الأمم لهم نفس الاستحقاق، بل وأسمى. إذا ماذا يمكن أن تقول أيها اليهودي، حسنا ما الذي سوف تقوله، لو أننا نحن اليهود لم نرفض، لما دعيتم أيها الأمم؟ نفس الأمر يقوله المسيحي القادم من الأمم، لو لم أخلص أنا، لما كانت لك غيرة نحو الخلاص؟ لكن إن كنت تريد أن تعرف الأمر الذي لأجله نحن أسمى، أقول لك إن إيماني، منحتك فرصة للخلاص، في حين أنك حاربت الإيمان، فتنازلت لنا، لنعبر إلى الإيمان قبلك.
5 ـ ثم بعد ذلك أيضا، ولأنه (أي القديس بولس) أدرك أنه أهانهم، كرر ما سبق قوله:
“لأنه إن كان رفضهم هو مصالحة العالم فماذا يكون اقتبالهم إلا حياة من الأموات ” (رو11: 15).
لكن هذا الكلام قد أدان اليهود أيضا، طالما أن آخرين ربحوا بسبب خطاياهم، بينما هم لم يستفيدوا مما حققه غيرهم. يصيغ الرسول بولس كلامه بهذه الطريقة ـ وهو الأمر الذي قلته مرات عديدة حتى يحفظ الأمم في الإيمان ـ ويحث أولئك اليهود على قبول الإيمان . لأنه كما سبق وأشرت، لو أن اليهود كانوا قد رفضوا مرات عديدة، ولو أن الأمم لم يقبلوا الإيمان، ما كان لليهود أن يخلصوا أبدا. لكن الرسول بولس، يظهر عون ومساعدة للجزء الضعيف، ويساعد ذاك الذي يتألم ، لكن لاحظ كيف أنه يمنحهم عونا، معزيا هؤلاء بالكلام فقط: ” إن كان رفضهم هو مصالحة للعالم “. وأي علاقة لهذا باليهود؟ ” فماذا يكون اقتبالهم إلا حياة من الأموات؟ ” لكن هذا أيضا لم ينفعهم في شيء، إن لم يصيروا مقبولين لدى الله بالإيمان.
ما يقوله يعني الآتي: إن كان الله عندما غضب على هؤلاء اليهود، منح آخرین عطايا كثيرة جدا، حين تصالح معهم، فهل هناك شيء لم يقدمه؟ لكن كما أن قيامة الأموات لن تحدث بسبب انضمام هؤلاء اليهود، هكذا فإنه حتى خلاصنا الآن لن يتم بسببهم، هؤلاء اليهود رفضوا بسبب حماقتهم ، بينما نحن خلصنا بسبب إيماننا، وبسبب نعمة الله، لكن لا شيء من كل هذا، يمكن أن يفيد هؤلاء اليهود، إن لم يظهروا الإيمان اللائق ـ وبالإضافة إلى هذا الأسلوب الخاص به ـ فهو يوجه كلمته لمديح آخر، والذي ليس هو بالمديح، لكنه يبدوكذلك، ويحاكي الأطباء المتميزين، الذين يطمئنون المرضى كثيرا ، بقدر ما تسمح به طبيعة المرض. إذا ماذا يقول؟:
” وإن كانت الباكورة مقدسة فكذلك العجين. وإن كان الأصل مقدسا فكذلك الأغصان ” (رو11 :16).
هو هنا يقول إن إبراهيم، واسحق ويعقوب والأنبياء، والبطاركة، وكل هؤلاء الذين ابتهجوا في العهد القديم، هم الباكورة والأصل، بينما الأغصان هم أحفادهم الذين آمنوا.
ولأنه كان ضد فكرة أن كثيرين لم يؤمنوا ، لاحظ كيف أنه يحدد أو يحصر هذا الأمر أيضا بقوله:
” فإن كان قد قطع بعض الأغصان” (رو17:11).
لقد قال قبلاً إن كثيرين هلكوا، وقليلين خلصوا ، إذا كيف تُشير هنا لهؤلاء الذين هلكوا بأنهم “بعض”، الأمر الذي يشير إلى عدد قليل؟ الرسول هنا لا يناقض نفسه بنفسه، لكن ما يفعله هو أنه يحاول أن يعالج وأن يقوي الضعفاء. أرأيت كيف أنه في كل هذا الجزء، كما هو واضح يسعى نحو تحقيق هذا الهدف، أي أنه يريد أن يعزي هؤلاء اليهود؟ وإن رفضت هذا المنطق، فسيتبع هذا تناقضات كثيرة. لكن أرجو أن تنتبه إلى حكمته، كيف يبدو أنه يمتدحهم ويقصد تعزيتهم، إلا أنه يؤنبهم بطريقة غير مدركة، ويبين أنه ليس لديهم ما يدافعوا به عن أنفسهم، إنطلاقا من الأصل ومن الباكورة. أي فكر أو تأمل في خبث الأغصان، حين تحاول أن تتخذ شكل الأصل المقدس، وكذلك العجين الشرير حين لا يتغير، رغم كون الباكورة مقدسة.
يقول ” فإن كان قد قطع بعض الأغصان ” ولكن الجزء الأكبر قد قطع، هو هنا أراد أن يعزيهم، وهو ما سبق وأشار إليه. ولهذا لم يقدم الكلام باعتبار أنه صادر منه، بل من هؤلاء (أي من الأنبياء)، حتى يتمكن بذلك أن يقترب من اليهود بطريقة خفية، ولكي يظهر أنهم قد فقدوا قرابتهم لإبراهيم، لأن هذا هو ما أراد أن يقوله، إنه ليس لهم أي شيء مشترك مع هؤلاء الأنبياء . لأنه إن كان الأصل مقدس، إلا أن هؤلاء اليهود ليسوا قديسين، إذا فهم بعيدون عن الأصل. وبعد ذلك، وبينما يبدو أنه يعزي اليهودي، إلا أنه يوجه مرة أخرى نقدا للقادمين من الأمم. لأنه بعدما قال: ” فإن كان قد قطع بعض الأغصان” أضاف “وأنت زيتونة برية طعمت فيها ” لأنه بقدر ما يكون ذاك الذي يأتي من الأمم هو صغير القيمة، بقدر ما يحزن اليهودي بالأكثر، إذ ينظر أن الأممي يتمتع بكل ما كان لليهودي. أما بالنسبة للأممي فهو لا يخجل من تفاهته بهذا القدر الكبير، إذا ما قورن بالكرامة التي نالها بالإيمان. ولاحظ حكمة الرسول بولس، لم يقل زرعت أو غرست لكنه قال “طعمت”. فيجرح اليهودي مرة أخرى بهذا الأمر، ويظهر أن القادم من الأمم هو فوق شجرة اليهودي، بينما ذلك اليهودي هو على الأرض. لهذا تحديدا لم يتوقف عند هذا الحد، ولا بعدما قال “طعمت” توقف، برغم من أنه قد عبر عن كل شيء بهذا التعبير، لكنه يصر على هذه الغبطة التي نالها الأممي، ويزيد من ارتقائه قائلاً: ” فصرت شريكا في أصل الزيتونة ودسمها “. ومن الواضح أنه وضعه، كإضافة، لكنه يظهر أن الأممي لم يصبه ضرر على الإطلاق، بل قد نال كل شيء، بنفس القدر الذي يناله الغصن الذي نبت من الأصل.
ولكي لا تعتقد، وأنت تستمع إلى عبارة “وأنت .. طعمت”، أن ذلك إقلال من قدر الأممي، مقارنا إياه بالغصن المزروع، لاحظ كيف يساويه بالأصل، قائلاً: : ” فصرت شريكا في أصل الزيتونة ودسمها ” أي أنه وصل إلى نفس الأصل النبيل، ونفس الطبيعة. ثم يبكته فيما بعد قائلاً:
” فلا تفتخر على الأغصان ” (رو18:11).
الواضح أنه يعزي اليهودي، لكنه في نفس الوقت يظهر قيمة الأممي الزهيدة، وخزيه الكبير. ولهذا لم يقل “لا تتباهى”، بل قال “لا تفتخر”، لا تفتخر في مواجهة اليهود، لكي لا يرفضوك، خاصة وأنت موجود فوق شجرتهم، وتتمتع بما لديهم. أرأيت كيف يبدو أنه يبكت اليهود، لكنه يوبخ هؤلاء الأمم؟ ” إن افتخرت فأنت لست تحمل الأصل بل الأصل إياك يحمل “. إذا ما هي العلاقة بين هذا، وبين الأغصان التي قطعت؟ لا توجد أي علاقة. لأنه كما سبق وأشرت، من الواضح أنه يشير إلى شجرة تين ضعيفة وذلك لأجل التعزية، ويتوجه إلى القادم من الأمم، ويوجه له لطمة شديدة. لأنه بعدما قال “فلا تفتخر” وأنه “إن افتخرت فأنت لست تحمل الأصل”، فقد أظهر لليهودي أن كل ما حدث (أي إيمان الأمم) يدعو إلى الافتخار، وإن كان لا يجب أن يفتخروا (أي الأمم)، وفي نفس الوقت يدفع اليهودي ويحثه على الإيمان، واضعا إياه في وضع المدافع، ويبين له الضرر الذي أصابه، وأن ما لديه يمتلكه آخرون.
6. ” فستقول قطعت الأغصان لأطعم أنا ” (رو19:11).
مرة أخرى يبين عكس ما سبق، في شكل تباين، لكي يظهر أن كل ما قيل في الجزء السابق مباشرة، لم يذكره بدون سبب، بل لكي يجذبهم إلى جانبه. إذا ليس بزلة اليهود، قد أتى الخلاص إلى الأمم، ولا بزلتهم صار الغني للعالم، ولا لهذا قد خلصنا، أي لا لأنهم سقطوا، بل العكس هو ما حدث. ويبين أن عناية الله بالأمم قد استُعلنت من قبل، وإن كان من الواضح أنه يعرض لهذه الأقوال بمعنى مختلف، وكل هذا الجزء يكتبه في شكل مفارقات، محررا نفسه من شبهة العداء أو البغضة لليهود، ويجعل كلامه سهل القبول. ثم بعد ذلك يخيف قائلاً:
” حسنا من أجل عدم الإيمان قطعت وأنت بالإيمان ثبت ” (رو۲۰:۱۱).
ها هو مرة أخرى، يقدم مدحا آخر، وإدانة لآخرين. لكنه أيضا يضبط افتخارهم، فيضيف قائلاً: “لا تستكبر بل خف “. لأن الأمر لا يعتبر نتيجة طبيعية، بل يرتبط بالإيمان او عدم الإيمان. ويتضح بالطبع أنه يغلق فم القادم من الأمم، بل ويعلم اليهودي أنه لا ينبغي أن يهتم بالقرابة الطبيعية. ولهذا أضاف ” لا تستكبر ” ولم يقل اظهر تواضعا، بل قال ” خف “، لأن الاستكبار يثير احتقارا ولامبالاة.
بعد ذلك أراد أن يحكي لهم مآساتهم حتى يجعل كلامه أقل إزعاجا ، فيتوجه إلى الأممي في شكل تأنيب قائلاً: “لأنه إن كان الله لم يشفق على الأغصان الطبيعية “، ولم يقل ولا عليك سيشفق، لكنه قال:
” لأنه إن كان الله لم يشفق على الأغصان الطبيعية فلعله لا يشفق عليك أيضا ” (روا:٢١).
وهو بهذه الطريقة يخفف من ثقل الكلام، ويضع المؤمن في حيرة، وأيضا من الواضح أنه يريد أن يجذب هؤلاء اليهود ويضبطهم.
فهوذا لطف الله وصرامته. أما الصرامة فعلى الذين سقطوا. وأما اللطف فلك إن ثبت في اللطف وإلا فأنت أيضا ستقطع ” (رو۲۲:۱۱).
لم يقل انظر إذا إلى ما أنجزته، انظر إذا إلى أتعابك، لكنه قال “لطف الله”، مظهرا أن كل شيء مدين لنعمة الله، ويهيئه لكي يسلك بمخافة هذا بالضبط هو سبب الافتخار، أن يجعلك تخاف، لأن الرب أظهر لطفاً نحوك، ولهذا يجب أن تخاف. لأن النعم لا تبق ثابتة فيك، إن كنت لا تهتم بها، وبالمثل فإن الشرور لا تظل ثابتة لدى هؤلاء اليهود إذا غيروا من رغبتهم. وأنت أيضا إن لم تبق في الإيمان، فستُقطع.
” وهم إن لم يثبتوا في عدم الإيمان سيطعمون ” (رو۲۳:۱۱).
لأن الله لم يقطع هؤلاء اليهود، لكنهم هم قد قطعوا أنفسهم وسقطوا. وبالصواب قال “قطعوا”، لأنه لم يحدث أبدا أن قطعهم الله، وإن كانوا مرات عديدة قد ارتكبوا خطايا كثيرة . أرأيت مقدار قوة الاختيار؟ أرأيت مدى سيادة الرغبة؟ لأنه لا يوجد شيء ثابت من كل هذا، لا صلاحك أنت، ولا شروره. أنظر كيف أقام ذلك البائس، وضبط من يمتلك الجرأة. إذا فأنت أيضا لا يجب أن تيأس عندما تسمع عن الصرامة، ولا تغتر بشجاعتك حين تسمع عن اللطف. ولهذا قد قطعك فجأة، حتي تتمنى أن تعود مرة أخرى، وكذلك أظهر لطفا نحوك، لكي تبقى ثابتًا. ولم يقل في الإيمان، لكنه قال “في اللطف” أي إن عملت أعمال تستحق لطف الله، لأن الأمر لا يحتاج إيمانا فقط.
أنظر كيف أنه لم يترك هؤلاء اليهود في وضع متأزم، ولا ترك أولئك الأمم أن يفتخروا ، بل وبخ غيرة اليهود والأمم معا، معطيا لليهودي إمكانية أن يقف مكان الأممي، تماما مثلما يأخذ الأممي وضع اليهودي. ويخيف القادم من الأمم، عن طريق كل ما قد حدث لليهود، لكي لا يفتخر في مواجهتهم، بينما بالنسبة لليهودي، فيعده لكي يتشجع بكل ما أعطى للأممي . لأنه بالحقيقة ـ كما يقول القديس بولس ـ وأنت أيضا ستُقطع، إن كنت لا تبالي، كما قطع اليهودي، وذاك اليهودي سيطعم، لو أنه آمن، كما طعمت أنت . لقد حول الرسول بولس كلمته بحكمة كبيرة نحو القادم من الأمم، الأمر الذي اعتاد دوما أن يفعله، مشددا الضعفاء، من خلال تأنيب الأقوياء. وهذا قد فعله في نهاية الرسالة، متكلما عن التمييز بين الأطعمة.
7 . ثم يبرهن على ذلك من خلال الأمور السابقة ، وليس فقط من خلال الأمور المستقبلية، الأمر الذي أقنع المستمع إليه أكثر . وأراد ان يطرح سلسلة أفكار غير متعارضة، فيشير أولاً إلى الدليل على ما يقوله من خلال قوة الله، ويوصي بعدم اليأس، حتى وإن كان اليهود قد قطعوا ورفضوا ، وآخرون أخذوا ما لهم. “لأن الله قادر أن يطعمهم أيضا “، ذاك إذا يصنع ما يعلو على كل رجاء. لكن إن كنت تطلب ترتيب الأمور، وتتابع الأفكار، فلك أن تُحقق ذلك بغني من خلال طبيعة المثل الذي يذكره.
” لأنه إن كنت أنت قد قطعت من الزيتونة البرية حسب الطبيعة وطعمت بخلاف الطبيعة في زيتونة جيدة فكم بالحرى يطعم هؤلاء الذين حسب الطبيعة في زيتونتهم الخاصة ” (رو11: 24).
لأنه إن كان الإيمان قد انتصر على ما هو بخلاف الطبيعة، فبالأكثر سينتصر على ما هو موافق للطبيعة. إذا لو أن ذاك الأممي، بعدما قطع من آبائه بحسب الجسد، وأتى بخلاف طبيعته إلى الإيمان الذي كان لإبراهيم، فبالأكثر جدا ستستطيع أنت أن تأخذ ما هو لك مرة أخرى . لأن شر الأممي كان طبيعيا، لأنه بطبيعته كان زيتونة برية، بينما الصلاح كان بخلاف طبيعته، إذ على خلاف طبيعته طعم في إبراهيم، أما صلاحك فهو على العكس من ذلك، فهو بحسب طبيعتك، لأنك لن تطعم في أصل غريب، مثل الأممي، بل في أصلك أنت (أي إبراهيم)، إن كنت تريد أن ترجع مرة أخرى . إذا لماذا تصبح مستحقا أن تطعم، في حين أن الأممي يستطيع أن يحقق ما هو على خلاف طبيعته، بينما أنت لا تستطيع أن تحقق ما هو وفقا لطبيعتك، بل تخونه؟
ولكي لا تعتقد أن اليهودي يمتلك شيئا أكثر نظرا لأنه قال “بخلاف الطبيعة” و”طعمت”، فهو يصحح هذا الأمر مرة أخرى، ويقول إن اليهودي يطعم أيضا: “فكم بالحرى يطعم هؤلاء الذين هم حسب الطبيعة في زيتونتهم الخاصة “. وأيضا “الله قادر أن يطعمهم “. إلا أنه قال قبل ذلك، إن لم يبقوا في عدم إيمان، فإنهم سيطعمون. وعندما تسمع الرسول بولس يتحدث دائما عن تعبير “بخلاف الطبيعة”، و”بحسب الطبيعة”، لا تتصور أنه يقصد تلك الطبيعة الثابتة، لكنه من خلال أفعال وأوصاف، يعلن عن الطبيعي، كما يعلن عن غير الطبيعي أيضا “لأن الأمور الصالحة، والأمور الشريرة، ليس شيئا طبيعيا ، بل هي تعتمد على الإرادة والاختيار فقط “. لكن انتبه إلى رقة وحنو الرسول بولس، لأنه بعدما قال وأنت أيضا ستُقطع، إن لم تبق في الإيمان، وأولئك اليهود سيطعمون، إن لم يبقوا في عدم الإيمان، فهو يتجاوز الأمر الأكثر حزئا، ويقدم الأمر الأكثر صلاحا أو نفعا، وينهي به حديثه، معطيا رجاء كبيرًا لليهود، إن أرادوا ذلك.
ولهذا يضيف ويقول:
” فإني لست أريد أيها الاخوة أن تجهلوا هذا السر لئلا تكونوا عند أنفسكم حكماء ” (رو٢٥:١١).
يقصد بالسر هنا، السر غير المعروف والمكتوم الذي يثير الدهشة والتعجب تماما مثلما يقول في موضع آخر: ” هوذا سر أقوله لكم. لا نرقد كلنا ولكننا كلنا نتغير” “. إذا ما هو هذا السر؟ “أن القساوة قد حصلت جزئيا لإسرائيل إلى أن يدخل ملؤ الأمم “. هنا أيضا يوجه ضربة لليهودي، معطيا إنطباع أنه يضبط القادم من الأمم.
إن ما يقوله يعني تحديدا ما سبق وقاله، أن عدم الإيمان لم يسر على الجميع، بل على جزء واحد فقط، كما قال: “ولكن إن أحد قد أحزن فإنه لم يحزني بل أحزن جميعكم بعض الحزن . هكذا هنا أيضا، يقول الشيء، الذي قاله في الجزء السابق ” لم يرفض الله شعبه الذي سبق فعرفه”، وأيضا: “العلهم عثروا لكي يسقطوا ” ويكون سقوطهم تام؟ حاشا. هذا ما يقوله هنا، أي أنه لم يرفض كل الأمة، بل وكثيرون قد آمنوا بالفعل، وأن كثيرين سيؤمنوا.
8 . ولأنه وعد بشيء عظيم، فهو يستشهد بعد ذلك بالنبي الذي يقول الآتي: فمن حيث إن القساوة قد حصلت جزئيا، فهو لا يقدم شهادة على ذلك، لأن هذا الأمر كان واضحا للجميع، أما من جهة أنهم سيؤمنون، وسيخلصون كما يقول ” وهكذا سيخلص جميع إسرائيل”، فإنه يستشهد مرة أخرى بإشعياء الذي يصرخ ويقول:
” سيخرج من صهيون المنقذ ويرد الفجور عن يعقوب ” (رو٢٦:١١).
وبعدما أشار إلى الرمز المميز للخلاص، ولكي لا يذكره أحد ويربطه بالأزمنة السابقة، يقول:
” وهذا هو العهد من قبلي لهم متى نزعت خطاياهم ” (رو۲۷:۱۱).
هذا هو العهد الذي صار لهم، لا عندما اختتنوا، ولا عندما قدموا ذبائحهم، ولا عندما تمموا وصايا الناموس الأخرى، بل عندما نالوا غفرانا لخطاياهم. إذا إن كان قد وعد بذلك، ولم يتحقق فيهم الوعد حتى الآن، ولم يتمتعوا بالغفران الذي أعطى بالمعمودية، إلا أنه سيتحقق على أية حال.
ولهذا فقد أضاف:
” من جهة الإنجيل هم أعداء من أجلكم. وأما من جهة الاختيار فهم أحباء من أجل الآباء ” (رو۲۸:۱۱).
إذا لكي لا يفتخر القادم من الأمم، قائلا، إنني مدعم ومسنود، لا تقل لي ما الذي سوف يصير، لكن ماذا صار. ومن هنا يضبط ذاك الأممي بقوله: “من جهة الإنجيل هم أعداء من أجلكم “. إذا لأنكم دعيتم أنتم، فقد صار هؤلاء اليهود بالأكثر أعداء. لكن ولا هكذا توقفت دعوة الله لكم، لكنه ينتظر أن يأتي كل أولئك الذين سيؤمنون من الأمم، وحينئذ سيأتي أيضا هؤلاء اليهود. ثم بعد ذلك يقدم لهم خدمة أخرى قائلا: ” وأما من جهة الاختيار فهم أحباء من أجل الآباء”. ما معنى هذا؟ أي أنه من حيث إنهم أعداء، توجد عقوبة لهم، لكن من حيث إنهم أحباء، فإن فضيلة آبائهم ليست لها أي علاقة بهم، إن لم يؤمنوا. لكن وكما سبق وأن أشرت، لم يتوقف الرسول بولس عن أن يعزيهم بالكلام، لكي يجذبهم إلى الإيمان.
” لأن هبات الله ودعوته هي بلا ندامة ” (رو۲۹:۱۱).
ولم يعزيهم فقط بهذا، لكن بذلك الذي حدث بالفعل، وهذا الذي حدث كشيء لاحق، يذكره كأمر أولي، قائلاً:
” فإنه كما كنتم أنتم مرة لا تطيعون الله ولكن الآن رحمتم بعصيان هؤلاء. هكذا هؤلاء أيضا الآن لم يطيعوا لكي يرحموا هم أيضا برحمتكم” (رو۳۱.۳۰:۱۱).
هنا يبين أن الأمم دعيوا أولا، ثم بعد ذلك بسبب عدم قبولهم الدعوة، فقد اختار الله اليهود ، ونفس الأمر حدث بعد ذلك. أي نظرا لأن اليهود لم يريدوا أن يؤمنوا ، قاد الله الأمم أيضا للإيمان. لكنه لم يتوقف عند هذا الحد، ولا برفضهم ينتهي كل شيء، بل إن هؤلاء أيضا سيرحمون. لاحظ مقدار ما يقدمه للأمم، كما قدم في السابق لليهود. لأنه يقول، أنتم أيها الأمم لم تطيعوا مرة، فأتي اليهود للإيمان، ولأن اليهود أيضا لم يطيعوا ، أتيتم أنتم للإيمان. لكن من المؤكد أنهم لن يهلكوا في النهاية.
” لأن الله أغلق على الجميع معا في العصيان لكي يرحم الجميع ” (رو۳۲:۱۱).
أي أنه بكتهم، وأظهر أنهم قد عصوا، لا لكي يبقوا في العصيان، بل لكي يخلص الآخرين بعصيانهم، يخلص هؤلاء بأولئك، وأولئك بهؤلاء. ولاحظ قوله، عصيتم أنتم الأمم وخلص هؤلاء، وأيضا هؤلاء اليهود عصوا ، وأنتم الأمم خلصتم. لكن لم تخلصوا هكذا، حتى تبتعدوا مرة أخرى، تماما مثل اليهود، لكن لكي تجذبوا هؤلاء اليهود، وأنتم ثابتين في غيرتكم الإيمانية.
۹ ـ ” يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه. ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء ” (رو۳۳:۱۱).
هنا وبعدما فكر في الأزمنة السابقة، وأدرك خطة التدبير الإلهي منذ البدء، منذ خلق العالم حتى اليوم، وبعدما تأمل كيف أن الله دبر كل شيء بطرق متنوعة، تملكته الدهشة، وصرخ بقوة، مؤكدا لسامعيه، أن ما قاله سوف يحدث على كل الأحوال . لأنه ما كان له أن يصرخ، أو يشعر بالدهشة، ما لم يكن كل هذا سوف يحدث. ومن حيث إنه يوجد عمق لغني الله، فهو يعرف ذلك، ولكن ما مقدار هذا العمق، فهذا لم يكن يعرفه . لأن هذا التعبير، هو تعبير إنسان مندهش، برغم أنه لا يعرف كل شيء . وبعدما اندهش وتعجب لأجل صلاح الله، نادي على قدر إستطاعته، بكلمتين مملؤن بالتركيز، وهما الغنى، والعمق. وتملكته الدهشة، لأن الله أراد، واستطاع تحقيق كل هذا، وحقق المفارقات بالمفارقات. “ما أبعد أحكامه عن الفحص”. لأنه ليس فقط أن هذه الأحكام يستحيل إدراكها ، بل ولا يمكن فحصها. ” وطرقه عن الاستقصاء ” أي تدابيره، كما وأن هذه الطرق ليست فقط لا يمكن أن تصير معروفة، بل ولا أن تستقصى. لأنه هكذا يقول (ق. بولس) ولا أنا أعرفها كلها، بل أعرف جزءا يسيرا، وليس كل شيء. لأن الله وحده، هو الذي يعرف ما له بوضوح. ولهذا أضاف:
“لأن من عرف فكر الرب أو صار له مشيرا أو من سبق فأعطاه فيكافأ” (رو34:11-35).
ما يقوله يعني الآتي: أن الله يتسم بالحكمة الفائقة، وهو ليس حكيم من قبل آخر، بل هو نبع الصالحات، وأنه برغم أنه صنع الكثير ومنحه لنا ، فهو لم يعطه مستدينا من آخر، بل أن كل شيء تدفق أو نبع من ذاته، دون أن يكون مديون بإعطاء مكافأة لشخص، نظير إحسان قدمه له هذا الشخص، فالله هو دوما منبع كل الخيرات. لأن هذا هو على كل حال، ملمح الغني، أن يوزع غناه بوفرة، وأن لا يكون هناك احتياج أن يأخذ من آخر. ولهذا أضاف:
” لأن منه وبه وله كل الأشياء ” (رو36:11).
إن الله يملك كل الأشياء، هو خالق كل الأشياء، وهو الذي يضبطها. كما أنه غني، وليس لديه احتياج أن يأخذ من آخر، وهو حكيم وليس بحاجة لمشير.
لماذا أتكلم عن مشير؟ بل ولا يستطيع أحد أن يعرف ما لديه، إلا سواه، فهو الغني والحكيم. عندما يجعل القادمين من الأمم أغنياء، فهذا برهان كبير على الغنى، وأن يجعل الأدنياء من اليهود معلمين لليهود، فهذه دلالة على حكمة فائقة. ثم بعد ذلك، يقدم الشكر لأنه اندهش وتعجب كثيرا جدا لغني الله وحكمته قائلاً: ” له المجد إلى الأبد آمين “. لأنه حين يقول شيئاً عظيماً مثل هذا ولا يمكن شرحه، فإنه ينتهي إلى الشكر بدهشة كبيرة، نفس الأمر يفعله في حالة الابن. كما حدث في الاصحاح التاسع، فبعدما تملكته الدهشة، أضاف ما قاله هنا بالتحديد ” ومنهم المسيح حسب الجسد الكائن على الكل إلها مباركا إلى الأبد آمين ”
10 . فلنتمثل نحن أيضا بالقديس بولس، ولنقدم الشكر لله في كل مكان ولنعتني بالطريقة التي نسلك بها في هذه الحياة، وألا نعتمد على فضائل آبائنا، واضعين نصب أعيننا المثال الخاص باليهود. لأن هذه القرابة البشرية لا تسري على المسيحيين، لكن ما يسري عليهم هو فقط القرابة الروحية. هكذا فإن السكيثي، صار ابنا لإبراهيم، كما أن ابن إبراهيم أيضا صار غريبا أكثر من السكيثي. إذا ينبغي ألا نعتمد على إنجازات آبائنا ، بل حتى وإن كان لك بعد أبا يستحق الإعجاب، لا يجب أن تتصور أن هذا كاف لخلاصك أو لكرامتك ولمجدك، إن لم تصر قريبا له من جهة سلوكك في الحياة. وبالتالي أيضا لو أن لك أبا شريرا، لا تتصور أن يكون سبب إدانة وخجل، طالما أنك تسلك بطريقة صحيحة. فهل هناك من هم أكثر خزيا من الوثنيين؟ لكنهم بالإيمان، صاروا سريعا أقرباء للقديسين. أيضا هل وجد من هم أكثر ألفة ومودة من اليهود؟ لكنهم بسبب عدم إيمانهم صاروا غرباء. لأن تلك القرابة هي طبيعية وإلزامية، والتي بحسبها نحن جميعا أقرباء، طالما أننا جميعا ولدنا أو ننحدر من آدم، ولا يمكن للواحد أن يكون أكثر قرابة من الآخر، ويرجع السبب في ذلك إلى آدم، ونوح، والأرض التي تعد أما لجميعنا. بينما القرابة التي تستحق المكافأة، تلك التي تميزنا عن الأشرار (أي القرابة الروحية).هي فقط
لأنه من غير الممكن أن يكون الجميع هنا أقرباء، بل الأقرباء هم هي فقط أولئك الذين لهم طريقة الحياة ذاتها. ولا الذين يولدون معنا من نفس الرحم ندعوهم إخوة، بل الإخوة هم أولئك الذين يظهرون نفس الغيرة في الإيمان. بهذا المعنى يتحدث المسيح عن أولاد الله. أيضا يكون الحديث عن أولاد إبليس من وجهة نظر عكسية، وبهذا المعنى يكون الحديث عن أبناء الطاعة، وأبناء الجحيم، وأبناء الهلاك . هكذا فإن تيموثاوس بسبب فضيلته، دعي ابنا لبولس”، بينما نحن لا نعرف اسم ابن اخته، وإن كان من المؤكد أن أحدهما هو قريبه بالطبيعة، لكن هذا لا يفيد بشيء، بينما الآخر، هو بعيد عنه بحسب الطبيعة وبحسب المكان خاصة وأنه كان يقيم ي لسترا، لكنه كان قريبا له أكثر من الجميع. إذا فلنصير نحن أيضا أبناء للقديسين، أو من الأفضل أن نقول لنصير أبناء لله. ومن حيث إنه من الممكن أن نصير أبناء لله، اسمع المسيح له المجد ، ماذا يقول: “فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل “. ولهذا فإننا ندعو الله في صلواتنا أبا لنا، مذكرين أنفسنا ليس فقط بالنعمة، بل أيضا بالفضيلة، لكي لا نفعل شيئا غير لائق بمثل هذه القرابة.
وكيف يكون ممكنًا أن أصير ابنًا لله؟ هذا ممكن لو تحررت من كل الشهوات، لو تصرفت برأفة تجاه أولئك الذين يشتمونك ويظلمونك، لأن أباك هكذا سلك تجاه أولئك الذين يجدفون. ولهذا ، برغم أنه قال الكثير لم يقل في أي موضع ” لكي تصيروا مثل أبيكم “، بل عندما قال: ” صلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم”، أضاف عندئذ هذه المكافأة لأنه لا يوجد شيئا يقودنا إلى الله بهذا االقدر الكبير، ويجعلنا مثل الآب، إلا تحقيق هذا الأمر (أي الصلاة من أجل الذين يسيئون إلينا). ولهذا فإن الرسول بولس عندما قال: ” فكونوا متمثلين بالله “. هكذا يقول أن تصيروا متمثلين به (في هذا الأمر). من المؤكد أننا في احتياج لكل الإمكانات، خاصة المحبة والوداعة، لأننا نحن أنفسنا نحتاج لمراحم كثيرة. لأننا نرتكب خطايا عديدة كل يوم، ولهذا نحتاج لرأفة كبيرة. لكن الكثير، والقليل، لا يحكم عليه بمعيار أولئك الذين يأخذون، بل بمقدار ثروة الذين يعطون. إذا فلا الغني يفتخر، ولا الفقير يشعر بنقص، عندما يعطي قليلاً، لأنه في مرات كثيرة ، يكون قد أعطى أكثر من الغني.
ولا ينبغي أن نتضايق بسبب الفقر، لأنه يجعل عمل الرحمة بالنسبة لنا أكثر سهولة. لأن ذاك الذي يمتلك الكثير يسود عليه الزهو، وتتمكن منه رغبة الحصول على المزيد، بينما من يملك القليل فهو متحرر من هاتين الصفتين المذلتين، ولهذا يجد دوافع أكثر لكي يقدم إحسانا. لأن هذا الفقير سيذهب إلى السجن بسهولة ليفتقد المساجين، وسيزور المرضى، وسيقدم ماء باردا ، أما الغني فلن يقبل أن يفعل أي شيء من كل هذا، لأنه منشغل بالغنى. إذا ينبغي ألا تتضايق بسبب الفقر، وأن التجارة في الأمور السمائية، ستجعل عمل الرحمة بالنسبة لك أكثر سهولة، وإن كنت لا تملك أي شيء، لكن تملك نفسا تشارك في أحزان الآخرين، فسيهبك الله مكافاة لهذا. ولذلك فقد أوصانا الرسول بولس أن نبكي مع الباكين، ومع المحبوسين، كأننا محبوسين معهم . لأنه يجب على الإنسان ليس فقط أن يحمل تعزية لكل من يبكي، إذ يوجد كثيرون ممن يشاركون في الأحزان، بل عليه أيضا أن يقدم تعزية لكل من يوجد في حالات أخرى صعبة. لأنه في بعض الحالات، يمكن للكلمة أن تشدد الحزين، بصورة ليست أقل من تأثير المال.
لذلك فقد أوصانا الله أن تعطي أموالاً لأولئك الذين هم في احتياج، لا لكي نصحح فقط من أوضاعهم الفقيرة، بل ولكي يعلمنا أن نشارك القريب أحزانه. ولهذا فإن البخيل مكروه، لا لأنه يبغض الفقراء فقط، بل لأنه يحرض على القسوة والوحشية بشدة. أما الذي يحتقر المال ويوزعه على الفقراء، فهذا يصبح محبوبا، لأنه يصير رحيما، ومحبا للناس ، بل والمسيح حين يطوب الرحماء، يطوب ويمتدح ليس فقط كل من يرحم بالمال، بل وكل الذين يفعلون هذا برغبتهم أو اختيارهم. ليتنا نقدم هذه الرغبة إذا بشكل لائق لعمل الرحمة، وعندئذ ستتبع ذلك كل الخيرات. من يحمل الحب للآخرين، ولديه رغبة في أن يشاركهم أحزانهم إن كان يمتلك أموالاً، سيعطي بوفرة، وإن رأى أحدا في كارثة، سيبكي ويحزن، وإن تقابل مع شخص مظلوم سيحميه أو سيدافع عنه، وإن رأى شخصا يساء إليه بقسوة سيمد له يد العون. لأنه يملك كنز الصالحات، أي نفس محبة للبشر ومشاركة في أحزانهم، وسيتدفق من هذه النفس، أي من هذا النبع، كل ما لخدمة اخوته، وسيتمتع بكل المكافأت التي هي عند الله.
لكي نحقق نحن أيضا هذا، لنجعل أنفسنا قبل كل شيء مشاركة في الأحزان. فإن فعلنا هذا سننال خيرات لا تُحصى هنا في هذه الحياة الحاضرة، وفي حياة الدهر الآتي أيضا، ليتنا ننالها جميعا بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي يليق به مع الآب والروح القدس المجد والقوة والكرامة إلى دهر الدهور آمين.
تفسير رومية 10 | تفسير رسالة رومية | تفسير العهد الجديد | تفسير رومية 12 |
القديس يوحنا ذهبي الفم | |||
تفاسير رسالة رومية | تفاسير العهد الجديد |