تفسير رسالة كورنثوس الأولى 6 للقمص تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح السادس
لوم علي محاكمات الأخوة
مقدمة
في الأصحاح السابق أوضح القديس بولس أنه ليس من حق الكنيسة أن تدين الذين في الخارج بل من هم في الداخل. الآن يُعالج الرسول موضوع “المحاكم الزمنية“. هل يمكن للأخ أن يشتكي أخاه في المحكمة؟
في هذا الأصحاح يوبخهم الرسول بولس لأنهم يقودون بعضهم البعض إلي المحاكم من أجل أمورٍ تافهةٍ، كان يمكن للكنيسة أن تحكم فيها. إذ لا يليق كسر المحبة الأخوية بالدخول في قضايا ومحاكم من أجل أمور زمنية. وكما يقول سليمان الحكيم أن كسب الأخ أفضل من كسب مدينة بأكملها: “الأخ أمنع من مدينة حصينة، والمخاصمات كعارضة قلعة” (أم 18 : 19). من يتحصن بالحب الأخوي أفضل ممن يتحصن في مدينة حصينة، ومن يدخل في مخاصمات يكون كمن دخل وراء قضبان قلعة لا يقدر أن يخرج منها.
1. التجاء المسيحيين إلي المحاكم الوثنية 1-6
“أيتجاسر منكم أحد له دعوى على آخر أن يحاكم عند الظالمين
وليس عند القديسين؟” [1].
بينما يدعو القضاة الوثنيين “ظالمين” يدعو رجال الكنيسة قديسين، فإنه يليق بالمسيحيين أن يحملوا روح القدوس فيسلكوا في القداسة.
التجاء الإخوة للمحاكم الزمنية فيه مضيعة للوقت والمال، وفيه تحطيم للحب الأخوي، يدفع الطرفين إلي الثورة والغضب، وربما إلي الألفاظ القاسية غير اللائقة، تفقدهما سلامهما الداخلي وفرحهما، وتدفعهما إلى تجاهل رسالتهما كسفيرين للسيد المسيح، كما تهين الكنيسة بيت القديسين.
لم يرد بولس أن يُدانوا من الذين في الخارج، لأنه لم يرد أن يكون التقصير الذي يحدث من أولئك الذين تعلموا السلوك الحسن والبرّ أن يسبب عثرة للذين هم خارج الكنيسة[354].
ثيؤدور أسقف المصيصة
لماذا دعي القضاة الوثنين ظالمين مع أن بعضهم اتسم بنوع من العدالة؟
اللَّه هو مصدر العدل الحقيقي، في عدله حب، وفي حبه عدالة، يشتاق أن الكل يخلصون وإلي معرفة الحق يقبلون. لذا فإن الوثنيين وقد عزلوا أنفسهم عن الحق صاروا لا يبالون بخلاصهم ولا بخلاص من يحكمون بينهم. فإنهم وإن مارسوا العدالة الزمنية لكنهم يتجاهلون خلاص الناس فيُحسبون ظالمين.
“ألستم تعلمون أن القديسين سيدينون العالم؟
فإن كان العالم يُدان بكم
أفأنتم غير مستأهلين للمحاكم الصغرى؟” [2].
سيدين الاثنا عشر رسولًا الاثني عشر سبطًا لإسرائيل إن لم يؤمنوا بل يرفضوا المسيح. سيدين بقية القديسين الأمم الذين لم يتركوا عبادة الأوثان ويؤمنوا باللَّه الحقيقي[355].
سفيريان أسقف جبالة
سيدين القديسون هذا العالم لأن عدم إيمان العالم سيُدان بمثال إيمانهم[356].
أمبروسياستر
“ألستم تعلمون أننا سندين ملائكة؟
فبالأولى أمور هذه الحياة” [3].
يوضح لهم الرسول استفحال خطأهم، فإن كان المؤمنون يدينون العالم بحياتهم المقدسة والملائكة الأشرار في يوم الرب العظيم أليس بالأولى يحكموا في الأمور الزمنية التافهة؟ كأن الالتجاء إلي المحاكم بالنسبة للاخوة فيه إهانة للقديسين.
أخبرنا السيد عن تلاميذه الاثني عشر أنهم يجلسون علي كراسيهم ليدينوا أسباط إسرائيل الاثني عشر (مت 19:28). وفي موضع آخر نسمع عن ربوات القديسين الذين يدينون في يوم الرب العظيم (يه 14-15)، فإنه سيأتي مع قديسيه للدينونة (1 تس 3:13).لا يعني هذا أنهم يشاركون السيد المسيح في إدانة الناس، إنما يجلسون علي كراسي الكرامة لينظروا دينونة العالم الشرير.
إذ يتمجد المؤمنون في يوم الرب العظيم ويجلسوا عن يمين الديان كملكة تجلس عن يمين الملك، يدين الملك الملائكة الأشرار في حضور الملكة كمن تشاركه عمله. يرى البعض أن المؤمنين ينالون كرامة أفضل من الملائكة، إذ يتمتعون بعمل اللَّه الخلاصي ويشاركونه مجده، فيكرمهم الملائكة القديسون.
قيل عن القديسين أنهم سيظهرون أمام الديان ويدينهم، عندئذ يملكون معه، لكنهم لا يشاركونه الدينونة. فالدينونة هنا تشير إلي تمتعهم بالمجد كشهادة قوية ودينونة ضد غير المؤمنين والملائكة الأشرار.
ولعل إدانة الملائكة الأشرار قد بدأت بالصليب حيث جرد الرئاسات والسلاطين أشهرهم جهارًا ظافرًا بهم فيه (كو 2 :15). أعطي للكنيسة سلطانًا أن تحطم مملكة إبليس وتطرده من كثيرين. هكذا يحطم المؤمنون الحقيقيون سلطان إبليس وجنوده ويدينونة.
في الأصحاح السابق يتحدث الرسول عن نفسه ومعه الرسل أنهم صاروا منظرًا للملائكة، حيث يجد الشياطين بهجتهم في اضطهاد المؤمنين ومضايقتهم، ولم يدركوا أن هؤلاء المؤمنين سيكونون شهادة عليهم في يوم دينونتهم.
لا يتحدث بولس هنا عن ملائكة حقيقيين بل عن الكهنة ومعلمي الشعب الذين سيُدانون بواسطة القديسين بسبب بطلان تعليمهم الخاص بالمسيح[357].
سيفريان أسقف جبالة
* يقول البعض أنه يشير هنا إلى الكهنة، لكن الأمر بعيد تمامًا عن هذا. حديثه هنا عن الشياطين. فلو أنه كان يتحدث عن الكهنة الفاسدين لكان يعني ذلك في العبارة: “إن القديسين سيدينون العالم” [2]. (لأن الكتاب المقدس اعتاد أن يدعو الأشرار أيضًا “العالم”)، ولما كرّر الأمر مرّتين[358].
يقصد بولس هنا بالملائكة الشياطين الذين كانوا قبلًا ملائكة[359].
وإن كان بولس قد تعب أكثر من جميعهم (1كو10:15) إلا إنه ليس له كرسي للحكم. لكنه بحق يحسب نفسه ضمن القضاة عندما يقول: “ألستم تعلمون أننا سندين ملائكة؟” [3][360].
“فإن كان لكم محاكم في أمور هذه الحياة
فاجلسوا المحتقرين في الكنيسة قضاة” [4].
ربما يقصد بالمحتقرين المؤمنين غير المسئولين بعملٍ قيادي. فقد كان المجتمع اليهودي يضم خمس درجات من مجالس القضاء:
- مجلس السنهدرين الأعظمSanhedrin يضم 72 شيخًا، يجتمعون في أورشليم، لهم أعلى سلطة قضائية دينية.
- مجلس السنهدرين الأصغريضم 25 شخصًا في المدن الكبرى خارج أورشليم.
- كرسي القضاء الثلاثيBench of three في كل مجلس.
- الكرسي المعتمدAuthorized or Authentic bench.
- الكرسي غير المعتمد، يُدعي هكذا لأنه لا يستمد سلطانه من السنهدرين،إنما يُختار أعضاؤه من الأطراف المتنازعة للفصل في منازعاتهم دون الدخول إلى مجالس رسمية.
“المحتقرون” والترجمة الحرفية هي “الذين بلا كرامة“. لعله يقصد بالمحتقرين الذين لا يُوثق فيهم، هؤلاء سيكونون أفضل من الوثنيين المقاومين للحق الإنجيلي. وكأن الرسول يقول لهم إن لم تجدوا إنسانًا يصلح من بين القيادات الكنسية فاختاروا أنتم ممن يظنهم البعض محتقرين لكي يحكموا في قضاياكم الداخلية.
* يريد الرسول أن يقوم الأشخاص الحكماء المؤمنون الذين تأسسوا حسنًا في مواضع مختلفة بالحكم في مثل هذه الأمور، وليس الأشخاص المشغولون بالكرازة والذين يتنقلون هنا وهناك… إن لم يوجد قضاة حكماء فإنه يود أن يقيموا أشخاصًا أقل ومحتقرين حتى لا تُقدم أمور المسيحيين إلى أعين العامة[361].
* إذ أراد أن يعلمنا كما بقوة قدر المستطاع أنه ينبغي أن لا نسلم أنفسنا (في القضاء) للذين في الخارج، مهما كان الأمر، أثار بمايبدو كأنه اعتراض وأجاب عليه… فما يقوله هو هكذا: ربما يقول أحد: “ليس بينكم أحد حكيمًا ولا من هو قادر على إصدار حكم؛ الكل محتقرون”. الآن ماذا يلي هذا؟ يقول: “حتى وإن لم يوجد بينهم حكيم فأنا أمر أن توضع الأمور بين يديّ المحتقرين”[362].
“لتخجيلكم أقول:
أهكذا ليس بينكم حكيم ولا واحد يقدر أن يقضي بين اخوته؟” [5]
كان الكورنثوسيون يفتخرون بأنهم أصحاب فلسفات وحكمة ويظنون أنهم أفضل من بعضهم البعض بينما لا يجدون إنسانًا حكيمًا واحدًا يقدر أن يفصل في قضايا الإخوة دون أن تبلغ المحاكم الوثنية. ولعله بسبب الانشقاقات التي عانت منها الكنيسة في كورنثوس لم يستطع المسيحيون أن يستقروا علي حكيمٍ واحد قادر أن يفصل في الخصومات بين الاخوة، مما جعل الأفراد يلجأون إلى قضاة وثنيين. لهذا يوبخهم قائلًا: “أهكذا ليس بينكم حكيم ولا واحد يقدر أن يقضي بين اخوته؟”
* يهاجم بولس الكورنثوسيين لأنهم وإن كانوا بالحق في وسط اليونان (مركز الفلسفة والحكمة) لم يوجد بينهم أناس حكماء مع أن كثيرين جاءوا إليهم يبشرون بالحكمة[363].
“لكن الأخ يحاكم الأخ،
وذلك عند غير المؤمنين” [6].
لدينا رؤساء الكنيسة الذين يجب أن نلجأ إليهم في منازعاتنا حتى لا نُستدعى أمام المحاكم الشرعية لغير المؤمنين[364].
هذا لا يتعارض بأية كيفية مع ما جاء في رسالته إلى أهل رومية (ص13) حيث يخبرهم بولس أن يكرموا المسئولين.
إنه لا يطلب منا مقاومة السلطات العلمانية إنما بالأحرى ألا نلجأ إليهم[365].
الاتهام مزدوج وهو الذهاب إلى القضاء والوقوف أمام غير المؤمنين. فإن كان الدخول مع الأخ في محاكمة خطأ فإن تحقيق ذلك أمام غرباء كيف يُغفر له؟[366]
2. لنحتمل الظلم ولا نمارسه 7-8
“فالآن فيكم عيب مطلقًا،
لأن عندكم محاكمات بعضكم مع بعض،
لماذا لا تُظلمون بالحري؟
لماذا لا تُسلبون بالحري؟” [7].
كأنه يقول لهم إن لم يوجد بينهم حكيم واحد يفصل بين الإخوة فإن ما سيحل بأحدهم من ظلم خلال التدخل الكنسي أهون من استخدام حق القضاء ضد الإخوة في محاكم وثنية. فسلام القلب مع احتمال شيء من الظلم أفضل من الدخول في مخاصمات ومنازعات أمام القضاء، خاصة إن كان القاضي وثنيًا يكره الإيمان ويقاومه، فيسئ استخدام الموقف.
أي عيب مطلق فيهم؟ التجاؤهم إلي المحاكم الوثنية فيه فقدان للسلام والحب الأخوي والثقة المتبادلة بين المؤمنين ومخافة الرب. لهذا يقول: “لكن أنتم تظلمون وتسلبون وذلك للاخوة” [8].ربمايشير هنا إلى الإنسان الذي يزني مع زوجة أبيه.
يليق بالمسيحي ألا ينشغل برفع قضايا نهائيًا، ولكن إن كان الأمر خطير للغاية لا يمكن تجاهله فليعرض قضيته على الكنيسة[367].
ينتهر بولس الذين يسلكون بالخطأ فيبدأون بالمشاحنات. فإن هؤلاء معرضون ليس فقط للعقوبة بسبب الخطأ الذي ارتكبوه، وإنما أيضًا يساهمون في خطأ الذين يلتزمون بسبب ما أصابهم من ضرر وغش أن يذهبوا إلى غير المؤمنين ليحكموا في أمرهم[368].
أمبروسياستر
* بهذه الطريقة نحن ننقذ خصمنا أيضًا من النتائج الشريرة ولو بغير إرادته. ونحن أنفسنا لا نستهين بوصية اللَّه، فكخدام له لا ندخل في مشاحنات ولا في طمع، بل نهدف باستقامة لإعلان الحق ولن نتعدى حدود الغيرة[369].
مرة أخرى فإن الجريمة مضاعفة وربما مثلثة بل وأربعة أضعاف.
أولًا: أنك لا تعرف كيف تحتمل، فهذا خطأ.
ثانيًا: أنك تمارس الخطأ.
ثالثًا: أنك تعرض الأمر حتى على الظالمين.
رابعًا: أنك تفعل هذا ضد الأخ. فإن أخطاء الناس لا يُحكم عليها بقانون واحد بعينه، فما يرتكب ضد شخص عفوًا غير ما يرتكب ضد عضو (في نفس العائلة أو الكنيسة)[370].
3. لن يرث الأشرار ملكوت اللَّه 9-10
“أم لستم تعلمون أن الظالمين لا يرثون ملكوت اللَّه؟
لا تضلوا،
لا زناة ولا عبدة أوثان ولا فاسقون ولا مأبونون ولا مضاجعو ذكور
ولا سارقون ولا طماعون ولا سكيرون ولا شتامون ولا خاطفون يرثون ملكوت اللَّه” [9-10].
“لا تضلوا” أو “لا تنخدعوا”، فالرسول بولس يخشى أن يصيروا في خطر “الانخداع”. والأخطر أن الذي يخدعهم ليس بإنسان من الخارج بل تخدعهم قلوبهم وأفكارهم الخاطئة، أو لعل الذين يخدعهم القادة الذين كان يجب أن يقودوهم في الطريق الملوكي الحق.
يقدم الرسول هنا عشرة طبقات تحرم نفسها من التمتع بحقوق أبناء اللَّه فلا يرثوا اللَّه، ولا يرثوا مع المسيح (رو 8 : 17). قدم الحق واضحًا وصريحًا، وهو أن مثل هؤلاء الخطاة المصممين علي عدم التوبة لن يرثوا ملكوت اللَّه. فالذين يمارسون عمل إبليس لن يتمتعوا بالمكافأة الإلهية، بل أجرة الخطية هو موت (رو 6 :23). يليق بهم ألا يخدعوا أنفسهم فإنه يستحيل أن يزرع إنسان ما للجسد ويحصد ما هو للروح.
يحذرهم الرسول من ثلاثة مخاطر:
أ. أن يفقدوا ملكوت اللَّه.
ب. أن تسقط نفوسهم في شباك الخداع.
ج. أن يذهبوا إلي جهنم.
* انظروا ما يقوله بولس… ألا ترون كيف أن كل أنواع الشر قد غلبت؟ إنها حالة ظلمة ملبّدة وفساد لكل ما هو حق[371].
* أولًا فإن السُكر أمر لا يُستهان به ولا الشتيمة، متطلّعين إلى أن المسيح نفسه سلم من يقول لأخيه يا أحمق لجهنم[372].
* علينا ألا نُخدع لمجرد تسميتهم باسم المسيح دون أن يكون لهم الأعمال، بل ولا الأعمال ولا المعجزات أيضًا تخدعنا، لأن الرب الذي صنع المعجزات لغير المؤمنين حذرنا من أن نُخدع بالمعجزات ظانين أنه حيثما وجدت المعجزة المنظورة توجد الحكمة غير المنظورة. لذلك أضاف قائلًا: “كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم: يا رب يا رب أَليس باسمك تنبَّأْنا؟ وباسمك أخرجنا شياطين؟ وباسمك صنعنا قوّاتٍ كثيرة؟ فحينئذٍ أصرّح لهم إني لم أعرفكم قط. اذهبوا عني يا فاعلي الإثم” (مت7 : 22)، فهو لا يعرف غير صانعي البرّ. لهذا منع الرب تلاميذه من أن يفرحوا بصنع المعجزات مثل خضوع الشياطين لهم قائلًا: “بل افرحوا بالأحرى أن أسماءَكم كُتِبَت في السموات” (لو20:10)، أي في مدينة أورشليم التي لا يملكها سوى الأبرار والقديسون كما يقول الرسول: “ألستم تعلمون أن الظالمين لا يرثون ملكوت اللَّه؟”(1كو9:6) [373].
* لا تنخدعوا يا إخوتي، فإن مفسدي البيوت لن يرثوا ملكوت اللَّه[374].
* ملكوت اللَّه ينبغي أن يتطهر من كل خطية وزنا حتى يملك اللَّه فيه[375].
* إن قال أحد أنه لا يريد ملكوت اللَّه، وإنما يطلب الراحة الأبدية يلزمه ألا يخدع نفسه، فإنه لا يوجد سوى موضعان لا ثالث لهما. إن لم يستحق الإنسان أن يملك مع المسيح فبالتأكيد سيهلك مع الشيطان[376].
قيصريوس أسقف آرل
* يلزمنا أن نصارع ضد هذه الرذائل التي أشرنا إليها حتى نبلغ إلى استقرار الحياة. يلزمنا في رحلتنا أن نمارس التقوى والرحمة والتواضع وبرَّ الحياة الكامل، والطهارة والتعقل والسلام والإيمان والمحبة. فإنكم لن تبلغوا إلى الميراث الموعود به ما لم تنتزعوا في حياتكم الرذائل التي تثقل الجسم[377].
الأب فاليريان
4. ربنا يبررنا من خطايانا 11
“وهكذا كان أناس منكم.
لكن اغتسلتم، بل تقدستم، بل تبررتم،
باسم الرب يسوع، وبروح إلهنا” [11].
هم بالطبيعة بائسون وخطاة، لكنهم يغتسلون بمياه المعمودية ويتمجدون علي الدوام بالروح القدس، ويتبررون بدم المسيح وحده. بهذا يتأهلون للتمتع باللَّه القدوس في مجده والسكني الأبدية في السماء.
اغتسل بعضهم بمياه المعمودية (تي 3 :5، عب 10: 22)، فتعهدوا أن يسلكوا كما يليق بأبناء القدوس. وتقدسوا، أي عزلوا أنفسهم عن الأوثان ليكرسوا القلب للَّه القدوس. وتبرروا، أي صاروا موضع سرور اللَّه في المسيح البار. هذا ما تمتعوا به باسم الرب يسوع ونالوه بقوة روحه القدوس.
يبدأ بالغسل في مياه المعمودية حيث ننال الميلاد الجديد، ثم التقديس حيث يعمل روح اللَّه علي تقديسنا اليومي، وأخيرًا إذ نحمل برّ المسيح نتبرر أمام الآب.
نال الكورنثوسيون كل منافع النقاوة في عمادهم، التي هي أساس حق الإنجيل. في العماد يغتسل المؤمن ويتطهر من كل خطاياه، ويصير بارًا باسم الرب، وبروح اللَّه يصير ابنًا للَّه بالتبني. بهذه الكلمات يذكرهم بولس بمدى عظمة النعمة التي نالوها في التقليد الحق. لكنهم بعد ذلك إذ صاروا يفكرون ضد قانون الإيمان الخاص بالمعمودية حرموا أنفسهم من كل هذه المنافع. لهذا فهو يحاول أن يردهم إلى طريق تفكيرهم الأصلي حتى يستردوا ما قد سبق فنالوه[378].
أمبروسياستر
خلاص إسرائيل من فرعون كان خلال البحر، وخلاص العالم من الخطيئة يتم بغسل الماء بكلمة الله (أف 26:5)[379].
لكي نفهم معنى الأردن الذي يطفئ الظمأ ويروي النعم من المفيد لنا أن نشير أيضًا إلى نعمان السرياني الذي برأ من البرص…
ليس نهر آخر ينزع البرص من الإنسان إلا ذاك النهر الواحد (الأردن) أن دخله الإنسان بإيمان وغسل نفسه في يسوع …!
السبب في ذلك أن الذين يغسلون فيه يخلصون من عار مصر (محبة العالم) [إذ عبر فيه يشوع بعد ترك مصر والبرية]،ويصيرون قادرين على الصعود إلى السماء [عبر في إيليا قبل ارتفاعه] ويتطهرون من البرص المرعب للغاية [نعمان السرياني]، بهذا يصيرون متأهلين لقبول الروح القدس(1) .
لم يتطهر أحد إلا نعمان السرياني الذي ليس من إسرائيل.
انظر، إن الذين يغتسلون بواسطة إليشع الروحي الذي هو ربنا ومخلصنا يتطهرون في سرّ المعمودية ويغتسلون من وصمة الحرف (الذي للناموس).
لقد قيل لك: “قم، اذهب إلى الأردن واغتسل فيتجدد جسدك”.
لقد قام نعمان وذهب واغتسل رمزا للمعمودية، فصار جسمه كجسم صبي صغير. من هو هذا الصبي؟ إنه ذاك الذي يولد في جرن التجديد.
العلامة أوريجينوس[380]
لكي يخجلهم بالأكثر أضاف هذا، وكأنه يقول لهم:
“تأملوا من أية شرور خلّصكم اللَّه منها، وأية خبرات وبراهين على رأفاته العظيمة قدمها لكم!
لم يحدّ خلاصه بإنقاذكم، بل امتد بدرجة عظيمة لنوال منافع، إذ غسلكم. هل هذا هو كل ما قدمه؟ لا، بل أيضًا قدّسكم. ولا هذا هو كل ما قدّمه، فإنه أيضًا برّركم. فإن كان الخلاص من خطايانا هو عطية عظيمة إلا أنه قد ملأكم ببركات لا تُحصى. هذا ما فعله باسم ربنا يسوع المسيح، وليس بهذا الاسم أو ذاك، نعم وبروح إلهنا[381].
* بعد قراءتهم هذه العبارات أطلب منهم أن يتأملوا كيف يمكن للمؤمنين أن يسمعوا هذه الكلمات: “لكن اغتسلتم” إن كانوا لا يزالوا يقاومون هذا في قلوبهم، أي في هيكل اللَّه الداخلي فيهم، ويسمحون برجاسات مثل هذه الشهوات التي يُغلق أمامها ملكوت السموات[382].
5. ليس كل ما يحل لنا يوافقنا 12
“كل الأشياء تحل لي، لكن ليس كل الأشياء توافق،
“كل الأشياء تحل لي، لكن لا يتسلط علي شيء” [12].
قد يعترض أحد قائلًا: “أليس من حقي الدفاع عن حقوقي ضد أخي إن كان ظالمًا حتى وإن كان الأمر يستلزم الوقوف أمام محاكم وثنية؟” الإجابة هي إن كل الأشياء تحل لي، ولكن ليس كل الأشياء توافق.
ينطبق نفس المبدأ على الأكل من اللحوم التي قدمت ذبائح للأوثان وتُباع في الملحمة. كل الأطعمة محللة، لكن لا يليق بالمؤمن أن يكون نهمًا أو سكيرًا، فيفقد سلطانه علي بطنه أو فكره أو إرادته أو اتزانه.
يحدثنا هنا عن ناموس الإنسان المسيحي وهو:
ناموس الحرية، كل الأشياء تحل لي [12؛ 23:10].
ناموس الغلبة، فلا يتسلط عليّ شيء [12].
ناموس الابن، السلوك بما يليق بي [12].
ناموس النمو الدائم، فأسلك بما يبنيني [23:10، 24].
كل الأشياء شرعية، لكن من الواضح يجب أن تكون على أساس ضبط النفس[383].
* بقوله: “كل الأشياء” يفترض بولس الأشياء التي يحتويها الناموس الطبيعي، والتي هي شرعية بالنسبة لزملائه الرسل. إنها لا تشير إلى ناموس موسى، لأن موسى منع أمورًا كثيرة بسبب قساوة قلب الشعب غير المؤمن الغليظ الرقبة[384].
أمبروسياستر
إذ نحن لسنا تحت الناموس لنا حرية الاختيار، ولكن يلزم إدراك أن بعض الخيارات صحيحة والبعض خاطئة[385].
* إنه يتطلع إلى النهمين. فإنه إذ قصد مقاومة الزناة مرة أخرى، ولما كان الزنا يثيره الترف وعدم الاعتدال لهذا بكل قوة يعاقب هذا الهوى… لاحظ كيف أن كل واحدٍ منهم يقول: “من حقي أن أعيش في ترفٍ”. يجيب: “إذ تفعلون هذا لا تعملون بعد كمن له سلطان على شيء، بل بالأحرى كمن أنتم أنفسكم تخضعون لمثل هذا السلطان. لأنه ليس لكم سلطان حتى على بطونكم ما دمتم تتسيّبون في سلوككم، بل هي التي لها سلطان عليكم. نقول نفس الشيء بالنسبة للغنى والأمور الأخرى[386].
6. قدسية الجسد 13
“الأطعمة للجوف والجوف للأطعمة،
واللَّه سيبيد هذا وتلك،
ولكن الجسد ليس للزنا، بل للرب،
والرب للجسد” [13].
الجسم ليس للزنا، فإن اللَّه لم يخلقه لهذا الهدف، وإنما لخدمة اللَّه ومجده، كأداة للبرّ في القداسة (رو 6: 19)، فلا يليق استخدامه في النجاسة. الجسم للرب حيث يمجد الرب بخدمته، والرب للجسد، إذ بذل ذاته من أجل تقديس الجسد، لأجل قيامته وتمجيده مع النفس.
حتمًا يأتي وقت فيه لا يحتاج الجسم إلى طعام حين يحمل طبيعة جديدة، ويصير له حق التمتع بالسماويات.
يقدم لنا الرسول نظرة مسيحية للجسد بكونه:
عضوًا في جسد المسيح (13،15؛ 27:12).
خيمة الروح الإنسانية (2 كو 1:5، 6).
إناء فيه كنز (2 كو 7:4).
ذبيحة حيَّة للَّه (رو 1:12).
يلزمنا أن نضبط البطن ونحفظها تحتتوجيه السماء. فإن اللَّه في النهاية سيحطم كل ما هو للبطن كما يقول الرسول[387].
إذ يُكرس الجسد للَّه ينال مكافأة روحية من أجل استحقاق من يحكمها، أي النفس العاقلة[388].
أمبروسياستر
“الأطعمة للجوف” [13]. لا يقصد بالجوف هنا المعدة، بل نهم المعدة. وذلك كما يقول: “إلههم بطنهم” (في 19:3)، فلا يقصد جزءً من الجسم بل النهم… يقول: “الأطعمة” بمعنى النهم، ومع النهم فهي لا تستطيع أن تقودنا إلى المسيح بل تسحبنا إليها. فإن النهم هو هوى قوي بهيمي يجعلنا عبيدُا…
لا يقول هذا عن الطعام والجسم بل عن هوى النهم والمبالغة في الأكل، الأمر الذي يوبّخه، هذا ما يظهره حديثه بعد ذلك. “واللَّه سيبيد هذا وتلك”. إنه لا يتحدث عن المعدة، وإنما عن الشهوة المبالغ فيها، ليس عن الطعام بل عن الأكل المستمر. فإنه لا يغضب على الطعام، إنما يضع له قواعد للالتزام بها، قائلًا: “فإن كان لنا قوت وكسوة فنكتفِ بهما” (1 تي 8:6). على أي الأحوال فإنه يجد أن هذا الأمر ككلٍ معيب، أما إصلاحه (بعد تقديم النصح لهم) فيُترك للصلاة[389].
* حسنًا يليق بالذين يخشون أن يطلبوا أي شيء يبيد يومًا ما كأمر رئيسي يشتهونه، متطلّعين إلى أن كل شخصٍ يشترك بنصيبٍ مما يتعبد به، وقد حذر الرسول من ذلك عندما قال “إلههم بطنهم” (في19:3). وفي موضع آخر يقول: “الأطعمة للجوف والجوف للأطعمة، واللَّه سيبيد هذا وتلك” [13][390].
7. قيامة المسيح مصدر قيامتنا 14
“واللَّه قد أقام الرب،
وسيقيمنا نحن أيضًا بقوته” [14].
أوضح كيف أن الرب للجسد، بقيامته وهب الجسد قوة القيامة. وهبه عدم الفساد عوض الفساد، والخلود عوض الموت، والطبيعة الروحية عوض الطبيعة الترابية، فكما لبسنا صورة آدم الأول الترابي سنلبس صورة آدم الثاني السماوي.
الرجاء في القيامة التي صارت حقًا لنا في المسيح القائم من الأموات يحفظنا من تسليم الجسد لعبودية الفساد والشهوات.
إذ صار السيد المسيح ممثلًا لنا أقامه الأب كعربون لقيامتنا التي تتحقق خلال قوة قيامة المسيح، فنشاركه مجده.
* هل تدركون مرة أخرى حكمته الرسولية؟ فإنه على الدوام يؤسس الإيمان بالقيامة بالمسيح خاصة الآن. فإن كان جسمنا هو عضو المسيح، والمسيح قائم، بالتأكيد يلزم للجسم أن يتبع الرأس[391].
* إن كان ينسب قيامة المسيح للآب لا تضطربوا قط. فإنه ليس كما لو كان المسيح بلا سلطان عندما قال هذا، إذ هو نفسه يقول: “انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أُقيمه” (يو 19 :2)، وأيضًا: “لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضًا” (يو 18 :10). ويقول لوقا في سفر الأعمال: “الذين أراهم أيضًا نفسه حيًّا” (أع 3 :1). فلماذا يقول بولس ذلك؟ لأن كلا من أعمال الابن لحساب الآب، وأعمال الآب لحساب الابن. لذلك يقول: “لأنه مهما عمل ذاك فهذا يعمله الابن كذلك” (يو19: 5)[392].
* لبس الفادي ثياب الموت…
تشبه بأهل المكان،
أشرق نوره على السكان،
فانطلقت التسابيح تشكر الديَّان.
وعندما سمع آدم صوت الابن الحنان،
ابتهج وقدم آيات الولاء والشكران.
كما فعل يوحنا في بطن أمه،
عندما زارتها العذراء،
فعل آدم في أرض الفناء،
لقد انتهي العقاب وفتحت الأبواب،
وزالت سلطة زبانية (شوكة) الهاوية.
لأن الرب أراد أن يرفع يدهم عن مخلوقاته برأفته المتناهية.
نزل إلى مدينة الأموات،
ليفك قيود أسرى الخطيئة والخطاة.
حطم الأغلال وفك القيود.
جاء المخلص وانتهت المأساة،
وفتحت أبواب الحنان للمؤمنين الصالحين،
بفضل رب الجنة والتكوين.
وأخذ داود قيثارة ينشد مزاميره وأشعاره،
يقول: جاء الحي إلى الأموات ليعيد لهم الحياة،
سبحوا الرب يا سكان الأرض.
سبحوا الرب على المعجزة، فالحرّ يحل بين الأموات[393].
مار يعقوب السروجي
* لقد مسحني السرّ الإلهي … وإنني اتحد بالسرّ، الذي يحضرني إلى هذا اليوم العظيم المشرق، واهبًا عونًا لضعفي، فيعطني ذاك الذي قام من الأموات في مثل هذا اليوم – حياة لنفسي أيضًا، ويلبسني الإنسان الجديد (أف 23:4، 24)، ويجعلني من الخليقة الجديدة هؤلاء الذين ولدوا من اللَّه… فأكون مستعدًا أن أموت معه وأقوم أيضًا معه…
بالأمس (أول أمس)[394] ذبح الحمل، ورشت القوائم بدمه… وعبر الملاك المهلك بسيفه المهلك مرتعبًا وخائفًا… لأننا محفوظون بالدم الثمين…
بالأمس قد صلبت مع المسيح، واليوم أنا ممجد معه!
بالأمس مت معه، واليوم وهبت حياة معه!
بالأمس دفنت معه، واليوم أقوم معه!
8. عضويتنا في جسد المسيح 15-17
“ألستم تعلمون أن أجسادكم هي أعضاء المسيح؟
أفاخذ أعضاء المسيح وأجعلها أعضاء زانية؟ حاشا” [15].
يتطلع المؤمن إلي كل أعضاء جسمه بكل وقارٍ بكونها أعضاء المسيح، وهيكلًا لروحه القدوس.
إذ يستخدم الجسم كأعضاء للمسيح يلزم ألا يكون أعضاء لزانية.
إذ تتحد النفس مع المسيح بالإيمان يصير كل كيان الإنسان عضوًا في جسد المسيح السري. يتحد الجسد كما النفس مع السيد المسيح. يا لكرامة المسيحي! فقد صار جسمه عضوًا في جسد المسيح.
جميعكم أعضاء المسيح، إذ اتحدتم معه بميلادكم الثاني بالروح. لكم الرجاء أنكم ستقومون كما قام هو[395].
الأب ثيؤدور أسقف المصيصة
ليس شيء يرعب مثل هذا التعبير، إنه لم يقل: “آخذ أعضاء المسيح وأجعلها مرتبطة بزانية”، بل ماذا قال: “وأجعلها أعضاء لزانية“، الأمر الذي يثيره بحذاقة![396]
* حقًا إن الخوف من العقوبة كفيل أن يحفظهم في العفة، لكنه إذ لم يرد بالخوف وحده أن يضع هذه الأمور في نصابها، استخدم مع التهديد البراهين العقلية[397].
إنه يتحدث معهم كأبناء من أصل شريف[398].
* كل الأشياء تنتمي للرب: الجسد والنفس والروح… لاحظوا كيف قدّم الكل للتأمل في المسيح، كيف رفعنا إلى السماء. إذ يقول: “أنتم أعضاء المسيح”، “أنتم هيكل الروح”. فلا تصيروا بعد أعضاء لزانية لأنه هذا ليس جسدكم بالمرة بل خاص بالمسيح[399].
“أم لستم تعلمون أن من التصق بزانية هو جسد واحد؟
لأنه يقول يكون الاثنان جسدًا واحدًا” [16].
يقول اللَّه لآدم “لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته، ويكونان جسدًا واحدًا” (تك 2: 24، مت 19:5).
الفساد الجنسي يجعل الاثنين واحدًا في الطبيعة كما في الخطية[400].
أمبروسياستر
الإنسان الذي يرتكب الزنا وعدم الطهارة الصادرة عنه يهين زواجه وزوجته. إنه يخطئ ضد جسمه، وبالتالي ضد زوجته لأن الاثنين جسد واحد[401].
أوكيمينوس
“وأما من التصق بالرب فهو روح واحد” [17].
ليست من خطية مرعبة مثل الزنا، فإنها تجعل الإنسان متغربًا عن السيد المسيح باتحاده مع زانية، فيصير معها جسدًا واحدًا. لن يمكن أن يتم اتحاد بين المسيح والزناة؛ خطية الزنا تسيء إلي رأس المؤمن وسيده السيد المسيح.
من يتحد بزانية يصير معها جسدًا واحدًا وليس روحًا واحدًا، إذ لا يتمتعا بعمل الروح القدس، أما من يلتصق بالرب، فيقبل روح الرب فيه فيصير معه واحدًا (يو 15 :1-7؛ 17 :21؛ يو 3: 6).
يقيم روح اللَّه شركة بين اللَّه والكائنات البشرية عندما نتحد مع الرب[402].
أمبروسياستر
إذ يغسلنا من كل خطية ويطهرنا يدخل القديس يوحنا إلى علاقة حسنة مع برِّه وبرّ أبيه، فحسنًا يقول الرسول: “من التصق بالرب فهو روح واحد” [17][403].
* الكلمة صار جسدًا، وجسد الإنسان يرتفع إلى مجد اللَّه[404].
الأب بطرس خريسولوجوس
* الالتصاق يجعل الاثنين واحدًا ولا يبقيا بعد اثنين[405].
9. خطورة الزنا 18
“اهربوا من الزنى.
كل خطية يفعلها الإنسان هي خارجة عن الجسد،
لكن الذي يزني يخطئ إلى جسده” [18].
ليست خطية في بشاعة الزنا إذ تربط جسم الإنسان بجسد زانية ويصيرا جسدًا واحدًا. لنهرب منها كما هرب يوسف الشاب من شهوات سيدته المصرية.
بالهروب السريع وحده يمكننا أن نتحفظ من عنف سيدة قاسية كهذه، ونهرب من عبودية شريرة كهذه[406].
لاحظ أن بولس لم يقل أنه يلزم أن نكره الزنا، بل أن نتحفظ منه كأناس يحذرون ضرر الشر[407].
* لم يقل: “امتنعوا عن الزنا” بل قال: “اهربوا من الزنا”، أي بكل غيرة لكي تخلصوا من هذا الشر… يقول: “ماذا إذن، أليس المُحرّم يدنّس يداه؟ وماذا عن الشخص الطمّاع والعنيف؟ أظن أنه واضح أن هذا لكل أحد. ولكن إذ لا يمكن الإشارة إلى شيء أردأ من الزنا، فقد أوضح ضخامة الخطية بطريقة أخرى بحديثه عن الزاني، أنه يجعل الجسد كله دنسًا. يفسد الجسد ككله كمن سقط في إناء من الرجاسة وغطس في النجاسة[408].
* يثير شيطان الزنا الشهوة الجسدية، ويشن هجومه على النساك، ويجاهد لكي يتخلوا عن نسكهم، زارعًا في نفوسهم بأن نسكهم هذا بلا نفع. فإذا ما استطاع أن يدنس النفس، يبتدئ يهيئها لقول وسماع بعض الأحاديث (الشريرة) حتى يبدو كما لو أن العمل (الشرير) ذاته ماثل أمام أعينهم[409]..
الأب أوغريس الراهب
10. الجسد هيكل للروح القدس 19-20
“أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس
الذي فيكم، الذي لكم من اللَّه، وأنكم لستم لأنفسكم؟” [19]
بالخضوع للسيد المسيح بروحه القدوس تصير أجسامنا هيكل الروح القدس، فمن يزني يهين هيكل الرب نفسه. هكذا يليق بالمؤمنأن يحفظ قدسية هذا الهيكل ولا يسيء إلى الساكن فيه.
بقوله “جسدكم” وليس “أجسادكم” واضح أنه يتحدث عن كل جماعة المؤمنين كجسدٍ واحدٍ، إنهم هيكل الروح القدس. وكأن الكنيسةصارت هي الشكينة التي كان اللَّه يتحدث من خلالها لموسى وللشعب (خر 25: 22).
* كما لو أن الشخص يصير روحًا مع أن الجسد يحوط به. فإنه عندما لا يكون حوله ما هو مادي أو كثيف أو أرضي، فإن الجسد مجرد يحوط به لكن إدارة حياته كلها هي بالنفس والروح. بهذا يتمجد اللَّه[410].
* في نظر أفلاطون الجسم سجن، أما في نظر بولس فهو هيكل اللَّه لأنه في المسيح[411].
“لأنكم قد اشتريتم بثمن،
فمجدوا اللَّه في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي للَّه” [20].
اللَّه الذي خلق الجسم كما الروح يتمجد في كيان المؤمن كله، فيستخدم الجسم كما الروح لحساب ملكوته. كما يُشتري العبد بثمنٍ فيصير في ملكية سيده، هكذا اُشترينا بدم السيد المسيح، فلم نعد ملك أنفسنا بل نحن ملك فادينا، نكرس الجسم مع الروح بكل الطاقات لحسابه.
* “فمجّدوا اللَّه في أجسادكم وفي أرواحكم” [20]. يقول هذه الأمور لا لكي نهرب من الزنا في الجسد فحسب، بل وفي الروح وفي الذهن، فنمتنع عن كل فكرٍ شرير، ومن انتزاع النعمة عنا[412].
* لا تستسلموا للشهوات العالمية، “قد اشتُريتم بثمن” [20]. فمن أجلكم صار الكلمة جسدًا، ومن أجلكم صار ابن اللَّه ابن الإنسان، حتى تصيروا أنتم أبناء البشر أبناء اللَّه[413].
* الذي أُشتري ليس له سلطان أن يأخذ قرارات، بل يقوم الشخص الذي اشتراه بذلك. ونحن إذ اُشترينا بثمنٍ غالٍ جدًا يليق بنا أن نخدم سيدنا بالأكثر، لئلا بإهانة ذاك الذي حررنا نعود فنسقط في الموت[414].
أمبروسياستر
* إذن لنمجد اللَّه، ونحمله في أجسادنا وأرواحنا. ربما يقول أحد: كيف يمجده الإنسان في الجسد؟ وكيف يمجده في الروح؟ هنا يدعو النفس روحًا ليُميّزها عن الجسد. ولكن كيف نمجده في الجسد والروح؟ يمجده في الجسد ذاك الذي لا يرتكب زنا والذي يتجنب النهم والسُكر، ولا يبالي بالاستعراضات الخارجية، ومن لا يطلب مئونة أكثر مما يلزم لصحته، وهكذا بالنسبة للمرأة فإنها لا تهتم بالروائح والمكياج بل تكتفي بما خلقها اللَّه عليه ولا تضيف شيئًا من عندها[415].
* ليتنا لا نهتم بالمظهر الجميل الباطل وبلا نفع. ليتنا ألا نعلم أزواجنا أن يعجبوا بالشكل الخارجي المجرد. لأنه إن كانت زينتكِ هي هذه فإنه يعتاد على رؤية وجهك هكذا فيمكن لزانية أن تُأسره بسهولة من هذا الجانب. لكن أن تعلم أن يحب أخلاقك الصالحة وتواضعك، فإنه لا يكون معدًا للضياع، إذ لا يجد في الزانية ما يجذبه إليها، هذه التي لا تحمل هذه السمات بل نقيضها. لا تعلّميه أن يُؤسر بالضحك ولا بالملابس الخليعة لئلا تهيّئين له السم[416].
لنمجد اللَّه ونحمله في جسمٍ طاهرٍ بلا غضن، وفي حفظٍ كاملٍ. ليت هؤلاء الذين يخلصون بدم المسيح يخضعون لقانون مخلصهم في طاعةٍ كاملةٍ كخدام. لنهتم ألا نقدم شيئًا نجسًا أو دنسًا في هيكل اللَّه، لئلا إذ يُهان يترك المسكن الذي يقطن فيه[417].
من وحي 1كو 6
بروحك أسلك بما يليق
فأنا ابن لك!
* وهبتني بروحك القدوس البنوة للَّه أبيك.
نزلت معك إلى نهر الأردن،
ليحل روحك ويشكّلني أيقونة لك.
نعم، هب لي روحك الناري أن يجدد على الدوام طبيعتي،
فأسلك لما يليق كابنٍ وعضوٍ في جسدك.
* أنت الحاكم والديّان قبلتَ أن تُحاكم،
هب لي ألا أُحاكم أحدًا،
ولا أدين أحدًا،
بل بفرحٍ أحب وأربح حتى الذي يظلمني.
حبي لأخي أعظم من نوال أي حق بشري!
لأحتمل ظُلمه، فإني لا احتمل هلاكه الأبدي!
* أنت القدوس سلكت معي على أرضي،
شاركتني الحياة هنا،
هب لي قداستك عاملة فيّ،
فبدون القداسة لا أقدر أن أعاينك،
ولا أستطيع العبور إلى ملكوتك.
ليس من أثرٍ للخطية يقدر أن يعبر معي إلى سماءك!
فإن سماءك هي مقدس إلهي!
* أنت البار، وحدك بلا خطية.
لأقتنيك، فبك وحدك أتبرر.
وبدونك أبقى أسيرًا للخطية والفساد!
* أنت الإله، من يقدر أن يقاومك؟
لك الحق أن تفعل ما تشاء.
بحبك لي صرت عبدًا ولم تطلب حقًا لك.
اسمح لي أن اقتفي آثارك.
اسمح لي أن أحمل روحك.
اسمح لي ألا أُمارس إلا ما يوافقك!
* أنت الكلمة الأزلي، صرت جسدًا من أجلي!
يا لفرحي! يا لكرامتي! سيدي يحمل جسدًا مثلي!
فكيف احتقر الجسد بعد؟
كيف أستخف به؟
متى أراه يُشارك جسدك مجد القيامة؟
متى يعبر مع النفس ليتمتع بالأمجاد الأبدية؟
جسدي عطية إلهية،
سأعرف حقًا قيمتها عندما يصير جسدًا مجيدًا!
* أنت القيامة وواهبها!
لتدخل إلى قبري وتحملني إلى الحياة الجديدة.
من يقدر أن ينزع موتي ويهبني الحياة غيرك؟
من يحطم فسادي ويهبني عدم الفساد؟
من ينزع ضعف الجسد وهوانه ويهبه القوة والكرامة؟
لك المجد يا أيها الغني في عطائه.
* أنت الرأس مدبر كل أعضاء الجسم ومقدسها.
قدسني بروحك،
فلن يقدر الزنا أن يلتصق بي،
ولا تقدر النجاسة أن تقترب إلى حياتي.
أقم مني هيكلًا لروحك القدوس.
فيه تحل مع أبيك وروحك القدوس.
فيه تقيم سماءً جديدة.
فيه يحل الفرح الذي لا ينقطع!
أقرأ أيضاً
تفسير رسالة كورنثوس الأولى للقمص أنطونيوس فكري – الأصحاح 6
رسالة كورنثوس الأولى: 1 – 2 – 3 – 4 – 5 – 6 – 7– 8 – 9 – 10 – 11 – 12 – 13 – 14 – 15 – 16
تفسير رسالة كورنثوس الأولى: مقدمة – 1 – 2 – 3 – 4 – 5 – 6 – 7– 8 – 9 – 10 – 11 – 12 – 13 – 14 – 15 – 16
تفسير كورنثوس الأولى 5 | تفسير رسالة كورنثوس الأولى القمص تادرس يعقوب ملطي |
تفسير كورنثوس الأولى 7 |
تفسير العهد الجديد |