تفسير رسالة كورنثوس الثانية ١٣ للقديس يوحنا ذهبي الفم

تفسير كورنثوس الثانية – الإصحاح الثالث عشر

 

 «هذِهِ الْمَرَّةُ الثَّالِثَةُ آتِي إِلَيْكُمْ. «عَلَى فَمِ شَاهِدَيْنِ وَثَلاَثَةٍ تَقُومُ كُلُّ كَلِمَةٍ».» (ع1).

يمكننا في مواضع أخرى وأقوال أخرى أن نرى حكمة بولس الرسول لا سيما قوله هذا ونعرف جاذبيته الزائدة كونه في الوصية صارماً ، وأما في القصاص فهو متأن ومتباطئ ، لأنه لا يقاصص المخطئين للحال بل يوصى مرة بعد أخرى ، وإذا خالفـوا هكذا لا يقـاصـصـهـم بل يوصى أيضاً قائلاً « هذه المرة الثالثة آتى إليكم » انظر كيف أن بولس الرسول قوَّم ما يصدر من ذلك إذ يتوعد دائماً فيقول إذا شئت في هذه المرة فلا أشفق ، وأيضاً إذا أتيت أحزن كثيرين وهذه يفعلها ويقولها مقتدياً بسيد الكل لأن الله قد يتوعد مراراً كثيرة يوصى ولا يقاصص ولا يعاقب كثيراً، هذا الأمر فعله بولس الرسول أيضاً ، ولذلك قال فيما تقدم « ولكنى أستشهد الله على نفسى إنى إشفاقاً عليكـم لم آت إلى كورنثوس » ( ۲ کو ۱ : ۲۳).

وقوله « إنى إشـفـاقـاً عليكـم » لئلا أجدكم مخطئين وباقين بغـيـر تـقـويـم فـآتی بالقصاص والعقاب. 

أما قوله « على فم شاهدين وثلاثة تقوم كل كلمة » أي ليثبت كل قول.

 «قَدْ سَبَقْتُ فَقُلْتُ، وَأَسْبِقُ فَأَقُولُ كَمَا وَأَنَا حَاضِرٌ الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ، وَأَنَا غَائِبٌ الآنَ، أَكْتُبُ لِلَّذِينَ أَخْطَأُوا مِنْ قَبْلُ، وَلِجَمِيعِ الْبَاقِينَ: أَنِّي إِذَا جِئْتُ أَيْضًا لاَ أُشْفِقُ.» (ع2).

لم يقـل إذا جئـت ن أعاقـب وأقاصـص وأطالب بالنقمة لكنه بألفاظ أبوية قال « إذا جئت أيضاً لا أشفق » لأنه لإشفاقه عليهم كان دائماً يتأخر في المجئ إليهم.

 «إِذْ أَنْتُمْ تَطْلُبُونَ بُرْهَانَ الْمَسِيحِ الْمُتَكَلِّمِ فِيَّ، الَّذِي لَيْسَ ضَعِيفًا لَكُمْ بَلْ قَوِيٌّ فِيكُمْ.» (ع3).

انظر كيف وجه بولس الرسول كلامه بطريقة صعبة لأنه لم يقل من حيث إنكم تطلبون أن تجربوني وإنما قال « أنتم تطلبـون برهان المسيح المتكلم فيَّ» موضحاً أنهم إنما أخطأوا إلى السيد المسيح.

ولم يقل المسيح الساكن فيَّ بل قال « المسيح المتكلم فيَّ» مثبتاً أن أقـواله روحانية.

وقوله « بل قوى فيكم » فلماذا قال « فيكم » وهو في كل مكان قوى ؟ لأن اللفظة قد تخجلهم كثيراً بسبب الأمور التي أخذوها من قبل أو أنه أوضح بما أن فيكم القوة فثبتوا الذين يجب عليهم أن يتقوموا.

 «لأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ صُلِبَ مِنْ ضَعْفٍ، لكِنَّهُ حَيٌّ بِقُوَّةِ اللهِ. فَنَحْنُ أَيْضًا ضُعَفَاءُ فِيهِ، لكِنَّنَا سَنَحْيَا مَعَهُ بِقُوَّةِ اللهِ مِنْ جِهَتِكُمْ.» (ع4).

قول بولس الرسول عن السيد المسيح « صلب من ضعف » إن هذا الضعف نفسه بالحرى يوضح قدرة السيد المسيح ، لأنه احتمل مثل هذا الأمر ولم ينكسر شئ مما يختص بقوته.

فلا تتشكك إذا من كلمة « ضعف » لأنه في موضع آخر يقول بولس الرسول « لأن جهالة الله أحكم من الناس وضعف الله أقوى من الناس » ( ۱ کو ١ : ٢٥ ) أن الله ليس فيه جهل ولا ضعف البتة وإنما سمى الصليب هكذا مفسراً عند غير المؤمنين ، واسمع بولس الرسول يوضح ذلك فيقول « فإن كلمة الصليب عند الـهـالكين جـهـالة وأما عندنا نحن المخلصين فهى قـوة الله » ( ۱ کو ۱ : ۱۸ ) وقال أيضاً « لأن اليـهـود يسألون آية واليونانيين يطلبون حكمة ، ولكننا نحن نكرز بالمسيح مصلوباً لليـهـود عثرة ولليونانيين جهالة ، وأما للمدعوين يـهـوداً ويونانيين فبالمسيح قوة الله وحكمة الله » ( ۱ کو ۱ : ۲۲ – ٢٤ ) وقال أيضاً « ولكـن الإنسان الطبيعـى لا يقبـل ما لـروح اللـه لأنه عنـده جهالـة » ( ۱ کو ٢ : ١٤).

انظر كيف أن بولس الرسول في كل موضع يلخص أوهام غير المؤمنين الذين كانوا يحتسبـون الصليب جـهـالة وضعفاً ، فهكذا إذا هنا لم يقل عن الضعف الحقيقي بل المتوهم به عند غير المؤمنين.

وقوله « من ضعف » وإن كان السيد المسيح رُبط وصُلب واحتمل آلاماً كثيرة ولم يقاوم، لكنه احتمل صابراً على الأشياء التي يُظن بها أحوال ضعف ، وبهذا أوضح قوته.

ومعنى قول بولس الرسول « لكنه حى بقـوة الله » لاحظ أنه قال « بقـوة الله » وليس من قوة الله ، واسمع قول السيد المسيح عن قوته إذ قال « انقـضـوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه » ( يو ٢ : ۱۹).

وقول بولس الرسول « فنحن أيضاً ضعفاء فيه لكننا سنحيا معه بقوة الله » أى إن كنا نحتمل المحزنات والأمور الصعبة من أجل الله فسوف نأخذ أيضاً المبهجات بدون شك.

 «جَرِّبُوا أَنْفُسَكُمْ، هَلْ أَنْتُمْ فِي الإِيمَانِ؟ امْتَحِنُوا أَنْفُسَكُمْ. أَمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَ أَنْفُسَكُمْ، أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ فِيكُمْ، إِنْ لَمْ تَكُونُوا مَرْفُوضِينَ؟ لكِنَّنِي أَرْجُو أَنَّكُمْ سَتَعْرِفُونَ أَنَّنَا نَحْنُ لَسْنَا مَرْفُوضِينَ.» (ع5، 6).

فإن شئتم أن تبحثوا مفتشين ترون أن السيد المسيح فيكم أنتم الذين في رتبة التلاميذ ، فإن كان فيكم بالحرى فالأولى كثيراً أن يكون في المعلم ، فيجب أن تعرفوا أمورنا إننا نحوى السيد المسيح فينا متكلماً وفاعلاً. 

 «وَأُصَلِّي إِلَى اللهِ أَنَّكُمْ لاَ تَعْمَلُونَ شَيْئًا رَدِيًّا، لَيْسَ لِكَيْ نَظْهَرَ نَحْنُ مُزَكَّيْنَ، بَلْ لِكَيْ تَصْنَعُوا أَنْتُمْ حَسَنًا، وَنَكُونَ نَحْنُ كَأَنَّنَا مَرْفُوضُونَ. لأَنَّنَا لاَ نَسْتَطِيعُ شَيْئًا ضِدَّ الْحَقِّ، بَلْ لأَجْلِ الْحَقِّ. لأَنَّنَا نَفْرَحُ حِينَمَا نَكُونُ نَحْنُ ضُعَفَاءَ وَأَنْتُمْ تَكُونُونَ أَقْوِيَاءَ. وَهذَا أَيْضًا نَطْلُبُهُ كَمَالَكُمْ.» (ع7-9).

أي شيء يمكنه أن يكـون مـعـادلاً لنفس بولس الرسول هذه إذ كـان يُحـتـقـر ويزدرى به ويسخر منه ويستهزئ به كحقير وذي صلف ومتكبر بالأقوال ، وأما بالمواقف فلا يمكنه أن يوضح قوته ، ومع ذلك فهو يصلى ويبتهل إلى الله ألا يجد أحداً غير متقدم وغير تائب بل يريد ألا يكون هناك مخطئ أساساً ، بل أن يعملوا الخير ليكونوا في الفضيلة دائماً متقدمين ويمتلكون الدالة عند الله.

ومعنى قول بولس الرسول « لأننا نفرح حينما نكون نحن ضعفاء » أي عندما يعـتـقـد بنا أننا ضـعـفـاء ، أي ليس عندما نكون ضـعـفـاء بل عندما يتـوهـم بنا أننا ضعفاء.

والمقصود من قوله « وأنتم تكونون أقوياء » أعنى مختبرين فضلاء فلا نبتغى هذا فقط بل ونصلى طالبين ذلك أن تكونوا غير معابين وكاملين.

 «لِذلِكَ أَكْتُبُ بِهذَا وَأَنَا غَائِبٌ، لِكَيْ لاَ أَسْتَعْمِلَ جَزْمًا وَأَنَا حَاضِرٌ، حَسَبَ السُّلْطَانِ الَّذِي أَعْطَانِي إِيَّاهُ الرَّبُّ لِلْبُنْيَانِ لاَ لِلْهَدْمِ.» (ع10).

أوضح بولس الرسـول هنا أنه ليس هو المزمـع أن يقـاصص بل الله ، لأنه قال « حـسب السلطان الذي أعطاني إياه الرب » وأوضح أيضـاً أنه لا يشـتـاق إلى استعمال السلطان في قصاصهم لأنه أضاف قائلاً « للبنيان لا للهدم».

 «أَخِيرًا أَيُّهَا الإِخْوَةُ افْرَحُوا. اِكْمَلُوا. تَعَزَّوْا. اِهْتَمُّوا اهْتِمَامًا وَاحِدًا. عِيشُوا بِالسَّلاَمِ، وَإِلهُ الْمَحَبَّةِ وَالسَّلاَمِ سَيَكُونُ مَعَكُمْ.» (ع11).

ما هو قولك يا بولس « افرحوا » ؟ ! لقد أحزنتهم وخوفتهم وألقيتهم في الجهاد وجعلتهم مرتعدين وخائفين فكيف تأمرهم أن يفرحوا؟! ولهذا الأمر نفسه أمرهم أن يفـرحـوا لأنه ليس هناك شيء يمنع الفرح ، لأن الأشياء التي من قبله فعلها فأعطاهم الرأى والمشـورة ، خوف ، توعد ، تمهل ولـم يقـطعـهم لكي بكل وجه يقـودهم إلى ثمرة التوبة فوجب بعد ذلك أن يتم ما هو من قبلهم ، وهكذا يكون فرحهم غير متناه.

وقوله « اكملوا » أى توطدوا وكونوا كاملين ، كملوا ما ينقصكم .

وقوله « تعـزوا » لأنه من حيث إن المحزنات كانت كثيرة والشدائد عظيمة قال « تعزوا » أحدكم بالآخر وبانتقالكم إلى الأفضل . 

وقـوله « عـيـشـوا بالسلام » وهذا ما قاله في بداية الرسالة الأولى والثـانيـة إلى كورنثوس، لأنه قد يكون قوم متفقين في العقيدة ولكن الاختلاف والتفريق قائم ، أي لا يكون سلام عندهم ، أما بولس الرسول فيطلب بقوله إن « إله المحبة بينهم والسلام سيكون معكم » لأن الله هو إله المحبة والسلام وبهذا يسر وبهذا يفرح ومن هنا يكون لنا السلام.

 «سَلِّمُوا بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِقُبْلَةٍ مُقَدَّسَةٍ.» (ع12).

المقصود من قول بولس الرسول « بقبلة مقدسة » أى بلا مكر أو غش كما قبل يهوذا السيد المسيح.

ولذلك كانت القبلة لتظهر حرارة المحبة لكي تلهب الميل ولكى يقبل بعضنا بعضاً كما يقبل الإخوة إخوتهم والأولاد والديهم والآباء أولادهم ، لأن تلك القبلة هي فعل الطبيعة ، أما التي يتكلم عنها بولس الرسول هنا فهي فعل النعمة . 

فليسمع الذين ينطقون الأقوال السمجة الذين يبرزون المسبات ، وليرتدعوا الذين يخجلون أفواههم ، وليسمع الذين يقبلون القبلات القبيحة ، اسمع أى استعمال منح الله لفمك واحفظه خالياً من الدنس.

 «يُسَلِّمُ عَلَيْكُمْ جَمِيعُ الْقِدِّيسِينَ.» (ع13).

وبذلك أعطاهم آمالاً صالحة ، فسلامه هذا سبق وكتبه عوض القُبلة جامعاً بينهم بالسلام لأنه أبرز الألفاظ من فـمـه ، رأيت كيف أن بولس الرسول يضم الكل : المتفرقين بالأجساد من بعيد بالمراسلات ، والقريبين يسلم عليهم بالقبلة ؟

 «نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَمَحَبَّةُ اللهِ، وَشَرِكَةُ الرُّوحِ الْقُدُسِ مَعَ جَمِيعِكُمْ. آمِينَ.» (ع14).

عندما ضمهم الله باحتراس وثيق بالسلامات والقبلات أنهى كلامه بالدعاء أيضاً ضاماً إياهم مع الله باحتراس وثيق.

فاصل

فاصل

تفسير 2 كورنثوس 12 تفسير رسالة كورنثوس الثانية تفسير العهد الجديد
فهرس
 القديس يوحنا ذهبي الفم
تفاسير رسالة كورنثوس الثانية تفاسير العهد الجديد

 

زر الذهاب إلى الأعلى